من ذكريات لبنان
العبرة بالخواتيم
الكلب
بوبي
نزهة وسليمة باشا
فيفي
كيف كنت غيري
القاتلة
لو عرف الشباب
ميمي
Page inconnue
الخاتم
ليلة حافلة
رواية ورواية
كيف حفرت بئرا ... لنفسي؟
من ذكريات لبنان
العبرة بالخواتيم
الكلب
بوبي
نزهة وسليمة باشا
فيفي
Page inconnue
كيف كنت غيري
القاتلة
لو عرف الشباب
ميمي
الخاتم
ليلة حافلة
رواية ورواية
كيف حفرت بئرا ... لنفسي؟
ع الماشي
ع الماشي
Page inconnue
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
من ذكريات لبنان
سألتني مرة من بنات لبنان، صديقة صابحة الوجه أديبة: «ألم تلهمك هذه المناظر شيئا؟»
ومالت بخصرها اللين وراء ذراعها البضة وهي تشير إلى الجبال والشجر والماء المنحدر وراء الصخور. فقلت: «كلا.»
قالت مستغربة: «كيف؟»
قلت: «ينقصني مقدار من فيض الحياة لا سبيل إلى الشعر إلا به، ولا سبيل إليه إلا بالحب الذي يفجر ينابيع النفس، ولهذا ترينني يا فتاتي جافا ذاويا.»
قالت - وقد آثرت المجاملة: «كلا، إنك ما زلت شابا.»
قلت: «خسارة.»
قالت: «ماذا؟»
Page inconnue
قلت: «عيناك.»
قالت - وقد أطلقت دهشة المفاجأة لسانها بالعامية: «شو؟»
قلت: «نعم جميلتان ... ساحرتان ... ولكنهما لا تبصران.»
فصاحت بي: «العمى.»
فضحكت، ولم يسؤني أنها انفجرت بما يشبه اللعن، وقلت لنفسي هذا كلام العادة، لا السخط والنقمة. ثم رأيتها تضحك مثلي، فتذكرت قولي - أيام كان لي بالشعر ولوع:
لا يحسن التعبيس أبلج واضح
ضحك الجمال بوجهه وأضاءا
ولما قرت الضجة عادت تسأل: «ألم تعشق قط؟»
فقلت وأنا أعابثها وأجد في آن معا: «يا حسرة! من لا يكون له من بنات لبنان حبيب؟ ولو كنت أستطيع أن أعشق لعشقت هنا، ولو كان في نفسي دماء لعدت إلى قومي شاعرا، ولكن قلبي يا فتاتي غليظ، وعيني دائرة لا تتلبث، ونفسي حائرة لا تسكن، وعقلي طائر لا يقر، وما يدريني يا صاحبتي، لعلي دفنت قلبي قدما يوم نفضت اليدين من بعض التراب، وكم قلت آه من الحرمان، وغيري يقولها من الوجدان، وليست الحسرة أني لا أجد، ولكنما الحسرة أني لا أصبو. ورحم الله صنوي الجامد المتنبي، فقد عرف هذا وبلا مرارته، فدهش ونظر في أنحاء نفسه وصرخ «أصخرة أنا؟» ولولا عادة الكبت لأطلقت أقوى من صرخته. فما أعرفني رف قلبي سرورا، أو عصره الألم، أو ألعجه الحنين، أو أطاره فزع أو جزع، أو أضناه قلق. نعم تضحك السن وتلمع العين، أو يتقلص الوجه وترتسم على معارفه الكآبة، ويبهت اللون ويمتقع ويجول اللحظ باحثا مترقبا، ولكن الذي في ضمير الفؤاد هواء.»
ونظرت إليها فرأيت الدمع متحيرا في جفنيها، فلعنت نفسي واستدركت فقلت - وراحتي على كتفها: «لا تصدقي مقالتي يا فتاتي.»
Page inconnue
فابتسمت وقالت: «لقد كدت تبكيني، وقد كان قلبي يحدثني أنك تكذب، ولكن كلامك مع ذلك خدعني. إنك تحسن التمثيل ...»
قلت: «إلا في الحب. فما أعرفه يجدي معه التمثيل والتكلف، لأنه يطل من العينين وتارة تسمع زغردة ناره، ويرى لهبها حتى من تحت الثياب.»
فصفقت فرحة - لا أدري لماذا - وقالت: «إذن عشقت؟»
قلت: «كثير ... عدد شعر رأسي ... ولكني أفيق وأصحو في كل مرة بعد أربع وعشرين ساعة ليس إلا.»
فزوت ما بين عينيها وهزت رأسها مستفسرة. فقلت: «نعم، أربع وعشرون ساعة فقط لكل معشوقة، وأسقطي من هذه الساعات الأربع والعشرين ما يذهب في النوم وفي كتابة المقالات الغراوات، أعني السعي وراء الرزق، وفي الكلام الفارغ وفي غير ذلك من مشاغل الحياة، فتكون النتيجة أن مدة عشقي لكل امرأة ممن عشقت لا تزيد على ساعة أو نصفها.»
فصاحت ضاحكة: «بس؟»
قلت: «يا بنت حواء، حسبك هذا فلا تكوني طماعة.»
قالت: «كيف؟»
قلت: «هي مسألة حسابية ...»
فاستغربت خلط الحساب بالشعر والحب، وقالت: «حسابية؟»
Page inconnue
قلت: «نعم. وأجيبيني من غير أن تقاطعيني، وإلا جعلت نصف الساعة نصف دقيقة: كم عدد الجميلات الجديرات بالحب في هذه الدنيا الطويلة العريضة أو حتى في لبنان بمجرده؟»
فابتسمت وهزت كتفيها. فقلت لأستفزها: «أحسبك تريدين أن تقولي واحدة؟»
فأسرعت تقول: «لا لا لا ... كثير ...»
فقلت: «هذا حسن. فكم ينبغي أن أهب كل واحدة من عمري؟ واذكري أن عددهن غير محدود، وأن عمري محدود، وأن طرفي الطفولة والشيخوخة لا يحسبان، وأن كل ساعة تشهد مولد جميلة، وأن ...»
فقاطعتني محتجة: «ولكن هذا غير معقول ...»
فقطبت وسألتها: «غير معقول؟ ... ماذا؟»
قالت: «كيف تريد أن تحب النساء كلهن؟»
قلت: «وما المانع؟ أحب المرأة على العموم، وإن لم أعشق واحدة على الخصوص.»
قالت: «لست فاهمة.»
قلت: «دعي هذا ... ألست تعترفين بأن الجديرات بالحب لا آخر لعددهن؟ فكيف تريدين مني أن أخص واحدة منهن بحبي وأن أحرم الباقيات كأنهن غير أهل للحب؟ ألا يكون هذا غبنا لهن وتقصيرا مني؟»
Page inconnue
قالت: «إنك تمزح.»
قلت: «بل أنا جاد جدا.»
قالت: «لا أصدق.»
قلت: «شأنك، فما أستطيع إرغامك.»
قالت: «إني أصدق الآن ما سمعته.»
قلت: «الحمد لله ...»
قالت: «إنما أعني ما سمعته عنك ...»
فسألتها: «وبماذا سعى بي عندك الحساد والوشاة؟»
فألقت إلي نظرة وقالت: «قالوا إن الإنسان لا يعرف لك جدا من هزل.»
فسألتها: «وصدقتهم؟»
Page inconnue
فرفعت إلي عينها وسألتني: «هل كذبوا؟»
قلت: «ليتني أستطيع أن أرميهم بذاك.»
قالت: «إذن لماذا تقول هذا الكلام الفارغ؟»
قلت: «سامحك الله يا فتاتي وغفر لك ...»
قالت: «أربع وعشرون ساعة ...؟ هل تضحك علي؟»
قلت: «لا تغلطي يا فتاتي ... هو نصف ساعة فقط ... ولا مطمع لبنت حواء معي في أطول منه.»
فقرصت ذراعي فصرخت وقلت: «ثم أنساها ولو أدمى القرص جلدي.»
فضحكت وقالت: «إنك عنيد.»
وقد أعياني أن أخرجها من خصوصها على العموم، وأن أفهمها أن عجزي عن الحب ليس معناه أنها هي في عيني غير أهل له، أو أني أرى في جمالها نقصا يصرفني عنه ويزهدني فيه، وعبثا حاولت أن أصحح لها هذا الخطأ وأن أبين أن كون امرأة معينة جميلة ليس من مقتضياته أن أكون أنا مكلفا أن أحبها إذا رأيتها أو جالستها، وأن الحب كالزكام يصاب به المرء من حيث لا يحتسب، وأنه لو خير لاختار النجاة، وأن الذنب ليس لي إذا لم أعشق، كما أن السليم لا يلام إذا لم يزكم.
وتعبت من الكلام، فقلت: «ألا نجلس ونشرب من هذا الماء البارد ونطفئ به وقدة هذا الحوار!»
Page inconnue
فملنا إلى النبع وتناولنا منه براحتينا، وأحسست وأنا أشرب أن هذه الكرعة الروية أجدى وأرد للنفس من كل هذا الجدل العقيم، وكان وجهها إلى جانب وجهي - وهي حانية ويدها ممدودة إلى الماء - فنازعتني نفسي أن أقبلها، واشتهيت أن أضع شفتي على خدها الأسيل، ولكني أحجمت وكبحت نفسي على عادتي، وقلت وأنا أعتدل واقفا: «لقد كنت أستحقها.»
فلم تفهم - ولها العذر - وسألت: «ماذا؟»
قلت: «قبلة فطمت نفسي عنها وأضعت فرصتها.»
فلم تفهم هذا أيضا - أو لعلها فهمت وتبالهت - وسألت: «قبلة؟ ممن ...؟»
قلت بحدة: «منك أنت ... فقد حركت نفسي وأتعبتني.»
فضحكت وقالت: «أوه ... أوه ...»
فقلت وأنا مغيظ: «أوه ... أوه ... أهذا كل ما عندك؟»
فقالت معتذرة: «ولكن ما ذنبي أنا؟»
قلت: «صدقت ... أنا الذي أضاع الفرصة ثم عاد يتحسر عليها.»
قالت: «أتتكلم جادا؟»
Page inconnue
قلت: «نعم، ولكني لا أشتهي الآن شيئا، زالت الرغبة بزوال اللحظة وما انطوت عليه من قوة الإغراء.»
قالت: «ولكني لا أستحق أن تقبلني ... لست بجميلة ...»
قلت: «يا بنت حواء من تخدعين؟ إنك جميلة وتعرفين ذلك، ولكنه يسرك أن تسمعي الثناء على حسنك من أفواه الرجال، ولو كنت تكرهينهم، بل إنك لا تكرهين منهم كضنهم عليك بالثناء، ولكني لا أنوي أن أجاريك فأقصري يرحمك الله واحذري أن تهيجي هذا البركان النائم.»
قالت: «مسكين ... إني آسفة.»
قلت: «لا أسف ... هبيني قبلتك، فماذا إذن ... ماذا كنت أفيد ... ما عمر قبلة ... أنت هكذا أحلى في خيالي.»
قالت: «أويعيش الناس بالخيال؟»
قلت: «أتراني أخطأت إذ لم أقبلك؟»
فرشتني بالماء، فطوقتها وأهويت بفمي على شفتيها وخديها وعينيها وشعرها ... وقلت وأنا أفك أسارها: «هذا عقابك.»
فعادت إلى الماء ترشني به لأني قبلتها، وكانت ترشني لأني لم أفعل، فما أشد حيرة الرجل مع المرأة وأعظم جهله بها!
العبرة بالخواتيم
Page inconnue
يرجع تاريخ هذه القصة - إذا جاز أن نسميها قصة - إلى ذلك العهد الذي كان فيه القلب شابا، والعقل غلاما، وكنت يومئذ ساكنا، وادعا كالسمكة في الثلاجة. كذلك كانت تقول عني زكية، بنت ابن خال ابن عم أبي ... قريبتي والسلام، وإن كانت حواء - فيما يبدو لي الآن - أقرب إلي، وأشبه بي، وأرحم أيضا، وكانت يتيمة؛ فهي تقيم مع خال لها، ولكن اليتم لم يفل لها عزما، ولم يصدها عن الجرأة، ولم يضعف ثقتها بنفسها ... ثقتها بنفسها؟ إنه ليخيل إلي أن موسوليني وهتلر لا بد أن يكونا قد تلقيا عليها دروسا في الثقة بالنفس، والاعتداد بالذات - بالمراسلة - ولم يكن أبغض إلي من خالها هذا، وأحسب - بل أنا واثق - أن الكراهية كانت متبادلة، وكان السبب من ناحيته أنه يعتقد أني مجرم بالفطرة، أو بعبارة أدق «خفيف اليد».
أما الداعي إلى كرهي له فذاك أنه كان قاضيا، فاتفق يوما أن أقامت الجمعية الخيرية الإسلامية حفلتها السنوية في حديقة الأزبكية، وكانت تزين سور الحديقة بمصابيح توقد فيها الشموع، وكنا لفيفا من الطلبة، فلما قضينا كل حاجة داخل الحديقة، دار في نفوسنا جميعا خاطر واحد، هو أن نخرج، وندور بالسور، فنطفئ الشموع، وندس منها في جيوبنا ما تتسع له ... شقاوة تلاميذ، لا أكثر ولا أقل، ولكن سوء الحظ أبى إلا أن يرانا الشرطي ... ولا أطيل. كان من سوء الحظ بعد ذلك أن يكون القاضي خال زكية! فهل تدري بماذا حكم علي هذا الرجل ذو الوجه السلحفائي، لولا شارباه المفتولان؟ غرمني مائة قرش! تصور مائة قرش يغرمها تلميذ في سنة 1905؟ لقد كانت ثروة! وكان يكفي في زجرنا عن مثل هذه الشقاوة أن يمط بوزه، ويزوي ما بين عينيه، ويقول: «عيب يا ولد أنت وهو ... امشوا اخرجوا، ولا تعودوا إلى هذا مرة أخرى!» بل كان ينبغي أن يؤنب الشرطي الذي جرنا إلى «القسم» وأن يفهمه أن هذا لعب أطفال، ولكنه كان فظا غليظ الكبد، ولعله كان يتوهم أن هذه الغرامة ستكون من نصيبه! وقد بقيت «محجوزا» حتى جمع المال! فهل من يلومني إذا قلت: إن كرهي له كان ينمو في قلبي كالسرحة أو كشعر رأسي، في ذلك الزمن؟
ولا أحتاج أن أقول إني كنت أتقيه، وأني كنت، إذا اضطررت أن أذهب إلى بيته، أحس كأني مسوق إلى المشنقة، ولكن زكية لم يكن يزجرها عن زيارتنا ما كان يزجرني عن بيت خالها، وكنت أحس - وهي عندنا - أن في البيت إعصارا، وكانت لا تتركني حتى تورطني في أفاعيل يسأل من مثلها السلامة، وقد أغرتني مرة بأن أقص لقريب لنا، ضيف علينا، أحد شاربيه، وهو نائم ... ومن السهل عليك أن تتصور ما حدث بعد ذلك ... أي بعد أن خرج الرجل لشأن له ولاحظ أن كل عابر سبيل يضحك منه، وأن الجالسين أمام الأبواب أو الدكاكين وفي المقاهي يتغامزون عليه ويشيرون إلى وجهه ...!
ولا أدري كيف كان يحدث هذا كله، ولكن الذي أدريه أني كنت حين أراها أتجهم لها، وأصمم على رفض كل ما تتوجه إلي به من رجاء، وأقول لنفسي: «كن حجرا صلدا. لا تعرها أذنا، ولا تعبأ بها، ولا حتى بدموعها»، ثم تتقشع السحب، وتصفو السماء، وإذا بها قد حملتني على مكروهي! فالحق أن شمشون كان معذورا فيما وقع فيه بفضل دليلة!
وقالت زكية يوما: «اسمع. أريد منك أن تذهب إلى دكان ... فإن فيه «فنيارا» ظريفا تحدثني نفسي أن أشتريه، ولكني أريد رأيك فيه قبل أن أفعل، فإنه غال. تأمله ... جسه ... افحصه جيدا ... ثم عد إلي برأيك ...»
ولم أر في هذا بأسا فذهبت إلى الدكان. ولكن من تظن أني رأيت فيه؟ خالها من فضلك! وقد تحب أن أزيدك بيانا، فاعلم إذن أنه كان يفحص «الفنيار» الذي وصفته! وقد أصرت على أن هذه مصادفة ليس إلا، ولكني لا أصدق، وكنت قد دخلت الدكان كالقنبلة، فلما وقعت عيني على الخال الفاضل وقفت كأنما صدني حائط، ودار رأسي، وتخلخلت ركبتاي، وخفت أن أهوي إلى الأرض، فمددت يدي لأتكئ على شيء، ووجدت شيئا - لا أدري ماذا، فقد كانت عيني على الخال وعقلي معه - فاستندت، وجاهدت أن أتشدد، وفكرت في التقهقر والهرب، وإذا بالخال يدور فيراني، فيقطب، ثم يقول: «ماذا تصنع هنا؟»
فأقول متلعثما: «إ... لا شيء.»
فيقول: «هل كففت عن السرقة؟»
فأتشجع وأقول: «لم تكن هذه سرقة، ثم إن ...»
فيقاطعني ويقول: «لقد كان حقك السجن ... ولكني رحمتك.»
Page inconnue
فأهم بكلام، ولكن الذهول الذي استولى علي لما سمعته يقول إن تغريمي مائة قرش كان عملا رحيما، عقل لساني.
فيقول: «وماذا تعمل الآن؟»
فيقول رجل معه لم أفطن إلى وجوده: «يسرق العصي على ما يظهر، فإني أرى يده على عصاك.»
فأرفع يدي كأنما شكني مسمار محمي، وأنظر إلى العصا وهي تقع على الأرض، وأرى، كأني أحلم، الخال ينحني ويتناولها، ثم يحدجني بالنظر الشزر، وأفتح فمي محاولا أن أشرح له كيف اتفق أن أضع يدي - عفوا وبلا قصد - على عصاه، فأتردد وأحجم، وأطبق فمي، وماذا يمكن أن أقول له؟ ليس من السهل أن تقول لقاض حكم عليك بغرامة فادحة: إنه ثقيل بغيض وإنك تمقته أشد المقت، وإن رؤيته تسود في عينيك نور الضحى.
ويرى هو اضطرابي، وتلعثمي، فيكون هذا عنده بمثابة الاعتراف، ويقتنع بأني مفطور على السرقة، وأن اللصوصية شيء في دمي ... ولست أشك في أنه كان في تلك اللحظة يتمنى لو كان في المحكمة، وأنا أمامه ليبعث بي إلى السجن.
ولأمر ما، ترك ما كان فيه، وجر صاحبه وخرج. فخلصت أنفاسي، وطهر الجو فيما أحس، واستعدت رباطة جأشي، ووسعني أن أكلم صاحب الدكان، وأن أتناول «الفنيار» وأتأمله، كما أوصتني تلك اللعينة، وأن أقول له - ياللجرأة! إنه صدئ، وأنه لا يساوي شيئا!
فيتعجب ويقول: «صدئ؟ أين هذا الصدأ؟ اخرج به في النور وانظر.»
فأتناول «الفنيار» وأخرج، ولكني أتعثر - في مدخل الباب - ويطير «الفنيار» من يدي، وأنكب أنا ... على صدر الخال الفاضل!
وأفيق، وأعرف على من وقعت، وبمن اصطدمت، فأضع ذيلي في أسناني وأهرب! •••
وتصور أن تجيء زكية، بعد سنتين، وتقول لي: «لي عندك رجاء يا روحي.»
Page inconnue
فسرت في بدني رعدة، فما تقول لي: «يا روحي»، إلا وهي تنوي أن تورطني في أمر خطير لا بد أن يزهق روحي، ولم يخطئ حدسي، فقد ذكرتني بأن لها قريبا تحبه ويحبها، ولكن وظيفته صغيرة، فخالها لا شك سيرفض أن يوافق على تزويجها له، وصحيح أن لها هي ميراثها، ولكن هذا لن يكون له تأثير في رأي خالها .
فسألتها، وأنا أحدث نفسي بأن وقوع البلاء أهون من توقعه: «لماذا تقصين علي كل هذا الذي أعرفه؟»
فقالت: «لأننا اتفقنا - أنا وأحمد - على أنك خير من يستطيع أن يساعدنا.»
فصحت بها: «كيف؟»
قالت: «لا تصح هكذا ... نعم أنت ... في وسعك أن تحمل خالي على الرضى.»
فكاد عقلي يطير ... ولي العذر ... والغريب أني ضحكت، بل قهقهت، ولكن هذا ليس غريبا، ألم يقولوا إن شر البلية ما يضحك؟
ولما استطعت أن أتكلم قلت: «آسف ... آسف جدا ... اذهبي إلى دكان آخر.»
قالت: «ولكنك تخيب أملي ... أملي وأمل أحمد.»
قلت: «إنك أنت التي خيبت أملي ... لم يبق في رأسك عقل. كيف تتصورين أن يكون في وسعي أن أذهب إلى هذا الوباء - معذرة - وأقنعه أنا ... أنا ... أقنعه بأن أحمد كفء لك، وأحمله على الرضى به؟ هل جننت؟ إن خالك لا يطيق أن يرى وجهي ... يعتقد أني لص ... مجرم بطبيعتي.»
فأدهشني أن أسمعها تقول: «هذا هو الذي يجعلك أقدر الناس على مساعدتنا.»
Page inconnue
ففتحت فمي، وحملقت ... كالأبله ... ما كنت أظنه حجة لي تقلبه هي حجة لها علي. فالحق أن المرأة مخلوق آخر ...
وقالت: «ألا تفهم؟ كل ما عليك هو أن تذهب إليه وتقول له يا عمي، أو يا خالي ... ماذا تسميه في العادة؟»
قلت: «البلاء الأزرق ... وقل له ذاك.»
قالت: «قل له ما تشاء ... ولكن قل إنك تحبني، وإني أحبك، وإنك تريد أن تتزوجني، فأنت ...»
فنفد صبري، وأنا صبور جدا، وحليم، ولكن لكل شيء حدا، وقد كلفتني حماقاتها أكثر مما أحب أن أتذكر، ولكن هذا شطط لا سبيل إلى احتماله، وقد بينت لها رأيي فيها بأصرح ما أستطيع، ولعنتها ولعنت صاحبها أو قريبها بأحر لفظ!
ولكنها لم تغضب، بل قالت لي: «يظهر أنك غير فاهم. هذا اقتراح أحمد، وهو كما تعرف ذكي جدا ... شعلة ذكاء، وهو يقول إن خالي يكرهك كره العمى، فإذا سمع أنك تحبني وتخطبني، وأني أحبك، وراضية بك، طار عقله وقال: «كله إلا هذا»، وهو يعرف حق المعرفة أنه لا سلطان له علي لأني بلغت رشدي، فإذا جئت أنا وقلت له: إني لا أحبك ولا أريدك زوجا لي، لم يسعه إلا أن يرضى بأحمد ... أي إنسان خير عنده منك ... هل فهمت الآن؟ ... المسألة كلها لن تستغرق أكثر من نصف ساعة وتخرج أنت مسرورا بنجاحك، وأسعد أنا وأحمد بقية العمر بفضلك!»
وبدا لي، وأنا أدير هذا الاقتراح في رأسي، أنه لا يخلو من سداد، وإن كانت أشياء بقيت تحك في صدري، وهي مخاطرة على كل حال!
وسألتها: «هل أنت واثقة أن هذا الحمى يقبل كل شيء إلا أن يزوجني منك؟ إني لا أريد أن أقع أنا في الشرك!»
قالت: «لا تخف، وهل تتصور أنه يخطر لي أن أرضى بك زوجا؟»
قلت: «أشكرك، ولكني أحب أن أكون على يقين.» •••
Page inconnue
وقد كان. دخلت على الخال، فألفيته لم يفق من تعجبه لاستئذاني عليه، فقلت أحاوره قليلا حتى أسري عنه، وأرد إليه روحه، ثم ألقي القنبلة، وسيسرني أن أراها تطير بأشلائه، وتمنيت أن يحدث له ما سيسمع مني سكتة قلبية، أو على الأقل فالجا، وقد كاد فعلا يفلج حين سمع مني أني أخطب لنفسي زكية، وأني أحبها وتحبني، وأنها ترضاني بعلا لها ... هراء بالطبع ولكنه لا يعرف أنه هراء، وقد انتفض واقفا، وضرب المكتب بجمع يده، فكان من دواعي اغتباطي أن يده وقعت على سن غطاء الدواة، فصرخ كأنما أصابته طعنة خنجر، ثم صاح بي: «اخرج من هنا ... حالا.»
فقلت: «ألا تسألها أولا؟ إن في وسعها أن تتكلم، وستتكلم، فما هي بقاصر.»
ولا أدري من أين رزقت كل هذه الشجاعة، وأحسب أن الذي شجعني يقيني أني أكويه وأشويه بكلامي، وأني أنتقم لنفسي، وأثأر منه، وأعوض ما فجعني فيه حين غرمني مائة قرش من أجل عمل صبياني.
وعاد إليه عقله لما نبهته إلى أن زكية ليست بقاصر، فدعا بها إليه، وقص عليها الخبر، وهو يظهر الاشمئزاز والتقزز كأنما يمسك فأرا ميتا.
فقالت له: «ولكن يا خالي هذا مستحيل ... إن أحمد هو الذي يريد أن يتزوجني، وهو الذي أرضى به.»
وكانت جرأتها في هذا أعظم من جرأتي أنا عليه، فثار وراح يقطع الغرفة كالنمر الجوعان، ويصيح: «وهل عندنا بنات يفعلن هذا؟ ما شاء الله! عال. لم يكن باقيا إلا هذا!»
فقالت بهدوء: «إذا كنت لا ترضى بأحمد، فالمسألة بسيطة. سأرضى بخليل، ولم لا؟ مستقبله حسن ... ومركزه الحالي لا بأس به ...»
فقاطعها وصرخ: «لا لا لا لا ...»
قالت: «إذن ترضى؟» وانحط على كرسي، وانحطت عليه زكية، تقبل خديه.
ولم يسعني أنا إلا أن أتسلل وأخرج ...
Page inconnue
فيا لها من فتاة!
ولقد غفرت لها كل ما جرته علي، لأنها مكنتني من شفاء غيظي وغلي! ... مائة قرش! يا حفيظ يا رب!
الكلب
كنا في قهوة «الحاج إلياس» على طريق «ضهور الشوير»، أو على الأصح في بستان فاكهة وزهر على هذا الطريق، وكان معي أسرتي زادها الله عددا، وأبقاني لها ذخرا ومددا، فما أعرف لي عملا في الحياة إلا أن أزود هذا الجيش المبارك بالزاد والعتاد، وكنا قد أكلنا هنيئا، وشربت أنا مريئا، وبقي البطيخ والفاكهة ولا محل لها، فقلنا نرجئها ساعة أو بعض ساعة، وخفت أن تسبق معداتهم معدتي في الهضم، فأغبن، فقلت أتمشى، ومضيت إلى واحد من رجال القوة وقلت: «يا حاج إلياس.»
ولم يكن هو الحاج - كما عرفت فيما بعد - ولكنه وثب إلى قدميه أو عليهما أو لا أدري كيف وقال: «نعم سيدي!»
قلت: «سأتمشى قليلا.»
قال: «تكرم سيدي.»
قلت: «هل هنا طريق؟»
قال: «نعم سيدي.»
قلت: «وصيتك العيال!»
Page inconnue
فضحك وقال: «تكرم سيدي.»
قلت: «هل أعدهم لك، وآخذ إيصالا بهم؟ أو الدار أمان؟»
فقال وهو يضحك: «الدار أمان سيدي.»
قلت: «إنهم أكثر مما تظن.»
قال: «شو بتقول سيدي؟»
قلت: «إنهم أربعة والخادمة، يساوون خمسة والخادمة.»
قال: «كيف سيدي؟ شو هادا؟»
قلت: «أعني أنهم أربعة والخادمة فيما يبدون لك، ولكنهم في الحقيقة خمسة والخادمة. أفهمت الآن؟»
فأقسم أنه لم يفهم، فقلت على سبيل الشرح: «إن الخامس لا تراه لأنه مختبئ منذ شهور.»
قال: «مختبئ؟»
Page inconnue
قلت: «نعم، متحفز.»
فهز رأسه، فصحت به: «العمى! في بطن أمه!» •••
وذهبت أتمشى، ورأسي عار، ويداي في جيبي البنطلون، وكنت أغني - آمنا - «ما بدها عيطة، ولا بدها زيطة، وقع المقدر، ولبسنا البرنيطة»
1
للزعني أو لعلها ليحيى اللبابيدي، فقد نسيت، وكان الذي أغراني بهذه الأغنية وجرأني على رفع الصوت بها في الجبل الخالي أن لحنها ساذج لا يحتاج إلى جمال في الصوت، وأن الذي سمعته يغنيها ويطرب الناس بها - في الفونوغراف - ليس أرخم مني صوتا، ثم إني كنت أشعر بأني مفتقر في تلك الساعة إلى «البرنيطة» لشدة وقدة الشمس، فأخرجت منديلا وغطيت به رأسي وعقدت أطرافه عليه، ورضيت عن نفسي وعن الدنيا، وأمنت شر هذه الشمس واتقيت غدرها، فانطلقت أغني: «ما بدها عيطة.»
وكنت أمشي على غير هدى، فأبعدت وإذا بكلب يجري ورائي وينبحني، فوقفت وقلت لنفسي: «سبحان الله العظيم!» ودرت على عقبي فواجهته وقلت له: «نعم سيدي؟»
قال: «هاو ... هاو ...»
قلت: «أشكرك ... ولكني أستطيع أن أعرف الطريق وحدي.»
قال: «هاو ... هاو ... هاو ...»
قلت: «الحق معك، وإني لمعترف بخطئي، وأعدك أن لا أغني مرة أخرى، إلا في سري، انتهينا؟»
Page inconnue
قال: «هاو هاو ... ها هاو ...»
قلت: «يا أخي، إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.»
قال: «هاو هاو هاو!»
قلت: «أتسمح بأن أقدم لك سيجارة؟ إنها سجاير مصرية لذيذة، تركها لي عمال الجمرك في بيروت، أو على الأصح لم يتركوها، وإنما غابت عن عيونهم في مطاوي الثياب، أو بعبارة أدق، لم يفتحوا الحقائب.»
فأبى أن يتقبل مني السيجارة، فقلت: «آه مفهوم! الدخان عندكم مكروه ... بالطبع! معذرة يا أخي، وإذا كنت تكره أن تراني أدخن أمامك، فإني مستعد أن أرمي السيجارة وأدوسها بقدمي، أطحنها بكعب حذائي، أخلطها بتراب هذا الجبل الجميل، أما العلبة، فسأعود إلى البركة وألقيها فيها، إذا سمحت، فهل تسمح؟»
قال: «هاو هاو ... هاو هاو ...»
قلت: «هممم! يظهر أن المفاوضات بيننا ستطول، فهل تسمح لي أن أفكر في طريقة لاختصارها قليلا!»
فأذن، بالصمت، فشكرته بعيني، ووقفت أفكر في أمري معه وفي ضيق صدره بي ونقمته علي بلا مسوغ، فما جئت إلى لبنان غازيا، ولا خوف مني على الكلاب لو عقلت، وأخرجت يدي ورفعتها إلى جبيني لأفركه وأستعين بذلك على التفكير، فزجرني الكلب وصاح بي: «هاو هاو!»
قلت: «رجعنا؟» ورددت يدي إلى مكانها واستغنيت عن معونتها، فخطر لي أن أتئره النظر وأطيل التحديق فيه - في عينيه - عسى أن ينام، نوما مغناطيسيا، فأتسلل على أطراف أصابعي وأخرج من هذه الورطة الثقيلة، ولكنه على ما يظهر كان لبيبا فطنا، فأدرك أني أدبر له أمرا، وراح ينبحني نباحا عاليا فقلت له لأتألفه: «حلمك سيدي! حلمك! لا تغضب!»
ولكنه أصر على الغضب، لأنه أحمق وليس بلبيب فطن كما توهمت، وأبى إلا أن يواصل النباح، وأحسبه كان يطمع أن يؤلب علي كلاب الجبل جميعا، لولا أن الجبل لا كلاب فيه غيره، وإذا بشجرة وراء الكلب تقول بصوت ناعم: «بيجو! بيجو! تعال!»
Page inconnue