(قال الفقيه) رحمه الله: اختلف الناس في تفضيل الفقير على الغني، فقال بعضهم الفقير أفضل وقال بعضهم الغني أفضل. وحاصل الاختلاف راجع إلى أن الغني الصالح أفضل أم الفقير الصالح؟ قال بعضهم الغني الصالح أفضل، وقال بعضهم الفقير الصالح أفضل وبه نأخذ، فأما من قال الغني الصالح أفضل فلقوله تعالى {ووجدك عائلا فأغنى} فمن الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بالغنى فلو لم يكن الغنى أفضل لما من عليه بذلك، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ما أحسن الغنى مع التقى)) وروي عن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((نعم المال الصالح للرجل الصالح)) وروي عن هشام عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: كرمكم تقواكم، وشرفكم غناكم، وأحسابكم أخلاقكم. وقال بعض المتقدمين: المال في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة، ومن جعل الفقر لحافا فهو غريب أينما كان. وقال محمد بن كعب القرظي: إن الغني إذا كان تقيا يضاعف الله له الأجر مرتين ثم قرأ هذه الآية {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون} وعن سعيد بن المسيب قال: لا خير فيمن لا يجمع المال من حله ليصل به رحمه، ويخرج منه حقه، ويصون به عرضه. وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قسم ميراث الزبير بن العوام أربعين ألف ألف درهم. وروي عن عبد الرحمن بن عوف أنه كان له ثلاث نسوة فطلق إحدى نسائه في مرضه فصالحوها بعد موته عن ميراثها عن ثلث الثمن على ثلاثة وثمانين ألفا، وروي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: كانت غلة طلحة بين عبيد الله كل يوم ألفا وافيا.
وأما حجة من قال: إن الفقر أفضل فقول الله تعالى {إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى} فأخبر الله تعالى أن الغنى يحمله على الطغيان، وقال في موضع آخر {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} فأخبره الله تعالى أن الفقراء هم الذين كانوا يتبعون الأنبياء. وروى أبان عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لكل أحد حرفة وحرفتي اثنتان: الفقر، والجهاد، فمن أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني)) وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((اللهم من أحبني فارزقه العفاف والكفاف، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده)) وروى مجاهد عن ابن عمر أنه قال: ما أصاب عبد من الدنيا إلا نقص من درجاته عند الله تعالى وإن كان كريما على الله، وروي عن عيسى ابن مريم عليه السلام أنه قال: الفقر مشقة في الدنيا مسرة في الآخرة، والغنى مسرة في الدنيا مشقة في الآخرة. وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين، قيل ولم ذلك يا رسول الله؟ قال لأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين خريفا، ولأن الغني يتمنى عند موته أن لو كان فقيرا ولا يتمنى الفقير أن لو كان غنيا)) ولو لم يكن للفقير فضيلة سوى أن حسابه في الآخرة أقل وأخف لكانت حجة كافية، ويقال: أعظم منة الله على عبيده يوم القيامة أن يقول: ألم أجمل ذكرك. وقال القائل:
دليلك أن الفقر خير من الغنى ... وأن قليل المال خير من المثري
لقاؤك مخلوقا عصى الله بالغنى ... ولم تر مخلوقا عصى الله بالفقر
وقال آخر:
يا عائب الفقر ألم تنزجر ... عيب الغنى أكبر لو تعتبر
Page 358