واعلم أن قولهم: الفاسق والزاني موضوع موضع: الذي فسق وزنى والألف واللام فيه بمعنى الذي، وهذا لأن الفعل لما لم يكن موضوعًا للتخصيص، بل كان موضوعًا لأن يكون خبرًا مفيدًا لا غير، امتنع مما يكون وروده للتخصيص كالإضافة والألف واللام، لكنهم كما جعلوه، أعني الفعل، من تمام الذي أحبوا أن يتناوله التخصيص أيضًا فنقلوه إلى اسم الفاعل، ونووا بالألف واللام فيه، وإن كان مجيئه في أصل الكلام التخصيص فقط، عنى الذي كان يحتمله الفعل في صلة الذي ليتم الألف واللام باسم الفاعل كما تم ذلك الفعل.
فكما أن الذي إذا لم يقترن به ما يخصصه بواحد بعينه، انصرف إلى الجنس، فيدل على استغراقه وشموله ما يدل في اسم الجنس لا فصل بينهما، ويقرب أمره تضمنه لمعنى الجزاء، حتَّى صار يجاب بما يجاب به الجزاء من الفاء. فكما أن الجزاء بالإبهام الذي صار حكم الاسم المستعمل فيه ما بيناه ودللنا عليه، وهو: من، وما، كذلك حكم اسم الفاعل والمفعول، بدلالة أن قوله تعالى:) السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما (، بمثابة قوله لو قال: من سرق فاقطعوا يده.
وقد حكى أبو العباس المازني، أن اسم الفاعل يدخله الألف واللام مفيدًا للتعريف فقط، يكون دخوله عليه كدخوله على اسم الجنس، إذا قلت: الرجل، وهذا وإن كان خلافًا من أصحابنا، فلا مدخل له فيما نحن فيه. فإن قيل: أراك تدير كلامك في الألف واللام على أن له موضعين: أحدهما تعريف العهد، والثاني تعريف الجنس، وأنت قد تقول: هذا الرجل فعل كذا أو كذا من غير أن يكون بينك وبين المخاطب عهد فيه.
فإذا كنت بقوله ولا عهد، ومن الظاهر أن قولك: هذا الرجل ليس يراد به الجنس، فهلا قلت: إن له موضعًا ثالثًا، وهو قولك: هذا الرجل، وتلك المرأة، وأنت تشير إلى حاضرين أحدهما بالبعد، والآخر بالقرب. قلت: إن الرجل والمرأة نقلهما ما صحبهما من اسم الإشارة إلى الحاضر، وهما في الأصل للجنس، ولا يمتنع ما يكون للجنس أن يقترن به ما يجعله لواحد من الجنس، لأن اسم الجنس ينتظم الواحد إلى ما لا نهاية، فاعلمه.
ومن هذا القبيل قولهم: نعم الرجل زيدٌ، وحبَّذا زيد لأن ذا كالرجل، والرجل اسم جنس، والمعنى: زيد محمود في قبيله، إلاّ أنه ليس بمستغرق، بدلالة أنه ثني وجمع، فقيل: نعم الرجلان الزيدان، نعم الرجال الزيدون، ولو كان مستغرقًا لما صح تثنيته، وليس قول القائل: زيد محمود في الرجال، وإذا صاروا رجلًا رجلًا بصواب. ولا قول: إنه لواحد بعينه بصواب، لأن وقوع رجل موقع أحد حتَّى يكون متناولًا لآحاد الجنس على طريق البدل، إنما يكون في النكرة، فأما إذا تعرف فإنه لا يفيد الاتحاد، ولهذا لم نقل: كل الرجل، ولا: كل الإنسان، وقد مضت الدلالة على ذلك.
ولا يجوز أن تكون لواحد بعينه، لأنه لو كان كذلك لما امتنع ما يفيد الاختصاص من الأعلام وغيرها من وقوعه موقعه، لتساويها كلها في إفادتها واحدًا بعينه. وفي امتناع ذلك دلالة على أنه للجنس لا للواحد بعينه.
فإن قيل: فالرجل من قولك: نعم الرجل على أي وجه توجهه إذا لم تجعله مستغرقًا، قلت إن المادح كأنه عرف زيدًا وأضرابه أو عرفه وقبيله الذي هو منه فأراد أن يتناوله المدح وهو مفضل عليهم، فاستعار لفظ الجنس لبعضهم، وصار تثنيته وجمعه له يدل على مراده، لأنه لما ذهب بالرجل إلى أن يكون مقصورًا على أضرابه أو قبيله الذي هو منه، صار مخصوصًا أو واقفًا على عدد، فصار يحتمل التثنية والجمع. فكأنّا إذا قلنا: نعم الرجلان الزيدان، قلنا: الزيدان محمودان في قبيلهما، وكل قبيل من القبيلين مخالف للآخر، ولو كان في وجه واحد، لأن تماثل شيئين كل واحد منهما للآخر من كل وجه، فاسد غير جائز.
وقد عرف من أصول اللغة وقول أصحابنا النحويين: أن أسماء الأجناس تثنى وتجمع إذا اختلفت، وقد حمل قوله تعالى:) بل يداهُ مبسوطتان (على أنه تثنية الجنس، كأنه جنسان من النعمة، نعمة الدنيا والآخرة، أو نعمة الدين والدنيا. ومن هذا القبيل قولهم: قلَّ رجل يقول ذاك، وأقل رجل يقول ذاك.
1 / 41