فإن قيل له: زعمت أنه إذا دخل الألف واللام اسم الجنس، وتعرّى مما يخصصه، كان مستغرقًا شاملًا. وما تنكر أن يكون المراد به القبيل والجنس غير معين، كذلك يصح أن يقصد إلى الجنس من غير أن تريد الاستغراق، وإذا كان كذلك فانصرافه إلى الاستغراق يحتاج إلى دليل يقترن به يفيد فيه ذلك. وإلا كان لخلوه مما يفيد التخصيص فيه لا يخرج إلاّ إلى إفادته الجنس فحسب، قلت: إن من تأمل أسماء الأجناس كيف صيغت، ولماذا وضعت، استغنى بذلك عن هذا السؤال. وذاك أنهم إنما قصدوا إلى تمييز الأجناس بعضها عن بعض في وضع الأسماء لها، كما قصدوا إلى تمييز الآحاد وضعوا بشريطة أن يتناول الواحد إلى حيث انتهى وبلغ، واكتفوا له بذلك الاسم في تمييزه عما يخالفه. ولذلك لم يجمعوه ولم يثنوه، لأنهم صاغوه بشرط أن يفيد ما وضع هو له بالغًا ما بلغ، وكيف تزايد وتناقص.
والشيء إنما يصح التثنية والجمع عليه، إذا انحصر بدلالة أن التثنية ضم الشيء إلى مثله، والجمع ضم الشيء إلى مثليه أو أمثاله. وإذا كان هذا الضم الذي أشرنا إليه لا يصح إلاّ فيما قد وقف، فإذا لا يصح هذا المعنى في اسم الجنس.
وإذا كان حال اسم الجنس هذه الحالة، فمتى لم يقترن به ما يخصصه ببعض ما وضع له، فلا بد من أن يكون شاملًا له كله، مستغرقًا لأن موضوعه على ذلك، وكيف يفيد الجنس كما هو، ولا يكون مستغرقًا له.
وإذا كان ذلك على ما ذكرناه، فلا معنى لقول القائل: يفيد الجنس دون الاستغراق، لأن ذلك يتصور في الموضع الذي يقول فيه هذا. إن تعلق المعنى المقصود ببعض الجنس، ولغير ذلك البعض اسم الجنس. وذلك لا يعلم إلاّ بدلالة، كما يعلم الانفراد والتخصيص إلاّ بدلالة.
فإن قيل: ألست تجوز أن يقال: ضع هذا المال في هذا الجنس، ويشار به إلى الرجال، ولا يراد به الكل والاستغراق. وإذا كان في لفظه الجنس ذلك يجوز، فما ينكر أن يكون في اسم الجنس أيضًا يجوز.
قلت: إن قوله: ضع هذا المال في هذا الجنس مخصص بالعرف، ولهذا كان مأمورًا بأن يصرفه إلى بعض الجنس لا كله. لأنه ليس في العرف أن يكون الواحد يعمّ الجنس، كما هو بصلة أو أمر.
وإذا كان كذلك، فلولا التخصص العرفي الذي ذكرناه، فكان قولهم: الجنس يشملهم كلهم.
وإذا كان حال لفظ الجنس هذه الحالة، فكذلك حال اسم الجنس هذه الحال، متى تجرد عما يخصصه من العرف أو الشرع أو العقل أو اللفظ، فلا يكون إلاّ شاملًا، فاعلمه.
ومن هذا القبيل قولهم: أول فارس، لأنه بدخول أول خرج فارس من أن يكون يفيد ما هو أولى به من الوحدة والانفراد، وصار يفيد الشمول والعموم. وعلى ذلك قوله ﷿:) ولا تكونوا أوَّل كافرٍ له (. ولهذا فسره الأخفش على أن معناه: أول من كفر به.
وقال غيره: إن معناه: أول فريق كافر به، والفصل بين الطريقين، أنه جعله الأخفش مستغرقًا، فوضع مكانه من كان المراد: ولا تكونوا أول الكافرين به إذا صار كافرًا كافرًا.
وجعله غيره على غير الوجه، فصرفه إلى فريق من القبيل غير معلوم، كأنه قال: أول الكافرين به إذا صاروا فريقًا فريقًا.
وأكثر أصحابنا البصريين على طريقة أبي الحسن الأخفش، وهو لا يصح، كما دللنا عليه وبيناه، لأن ادعاء حذف فريق وإقامة كافر الذي هو صفته مقامه، يحتاج إلى دلالة.
ومن هذا القبيل قولهم: رب رجل، وكم رجل لأن رجل بدخول كم ورب عليه صار مفيدًا للكثرة ومستغرقًا، يدلك على ذلك أن كم يفيد التكثير مما يدخله بلا نهاية، ورب تفيد التقليل منه غير محصور.
ولكن على ما يراه المخبر من استقلال الشيء واستكثاره، فلولا أن رجل بعدهما للاستغراق، لم يكن يصلح دخول واحد منهما عليه.
وكيف يخرج الكثير الذي لا نهاية له معلومة، إلاّ من اللفظ الذي يفيد الاستغراق، وكذلك القليل الذي هو على الحد الذي ذكرناه. ومن هذا القبيل أسماء الفاعلين والمفعولين كقولهم: الكافر، السارق، الزاني، المسلم، المؤمن.
1 / 40