فإن قيل: إذا كان النكرة تفيد ذلك كما زعمت من قبل، فما فائدة هذا التعريف؟ قيل له: القصد فيه الإشارة إلى ما ثبت في النفس وعقل من معرفة الأنواع، وليس الدرهم في هذا أو نحوه كواحد عهدته وعلمته محسوسًا، ثم أشرت إليه، لأن معرفة الأنواع من هذه الجهة ممتنعة، وغير مجوّز أن يعلم منا أحد هذه الأنواع محسوسًا، كما يعلم بعض الأشخاص كذلك.
وإذا كان الأمر على هذا، وكان لا يمتنع في لغتهم أن تكون اللفظة المنكورة يستفاد منها ما يستفاد من المعرفة، ويستفاد من المعرفة مثل ما يستفاد من النكرة، فكذلك لا يمتنع في أسماء الأجناس ما ذكرناه من أن تكون نكرتها تفيد مثل ما تفيد معرفتها باقتران القرائن.
فإذا كان معرفة، فلفظه وفق مستفاده، وإذا كان نكرة فإنما تبين ما تبين منه ومن قرائنه التي بلَّغته ذلك الحد.
فأما قول من يقول: إن الألف واللام يفيدان الجنس، وتقديره أنه وضع في اللغة لذلك، فجعل باللغة والصناعة، لأن الألف واللام ليس فائدتهما إلاّ التعريف. وقولنا: الألف واللام مسامحة منا ومجرى على عادة النحويين، لأن اللام هي التي وضعت للتعريف فقط. والألف معها ألف الوصل، فاعلمه.
فإن قيل: كيف زعمت أن الألف واللام في نحو هذا التعريف، يدخل فيما يفيد التكثير دون الإفراد، وأنت قد تقول: خرجت فرأيت الأسد، وتعريفه ذلك التعريف، وأنت لا تريد تكثيرًا ولا استغراقًا، وإنما المراد: خرجت فرأيت الواحد من هذا الجنس، من غير تعيين ولا تخصيص.
قلت: إنما جاز هذا في هذا النحو من المفردات لمشابهته النوع في أنه ليس بمعهود حسًّا، كما أن النوع ليس كذلك، وكأنك قد وضعت الجنس موضع المفرد لوقوع الاسم عليه كوقوعه على الجنس، ولأن العامّ يستعمل في موضع الخاص، كقولهم: أسيرَ عليه الأبدَ، وإنما يراد به: أسيرَ به، كثيرًا.
وإذا كان الأمر على هذا، فهو كالشيء يستعار من بابه لغير بابه. ومثله ما يستعمل من لفظ الجمع في موضع المفرد. ألا ترى أنه يحسن أن تقول لمن ملك عبد، أو وهب دينارًا: صرت تملك العبيد وتهب الدنانير، وإن لم يكن ما ملكه أو وهبه إلاّ واحدًا.
فكما تجوِّز بالجمع، كذلك تجوّز باسم الجنس، معرفًا في الواحد غير معين، وإن كان ذلك من فائدة النكرات.
ألا ترى أنه لا فصل بين قوله: خرجت فرأيت الأسد، وبين قوله: خرجت فرأيت أسدًا، إلاّ ما تراه من التعريف. بلى، ممكن أن يقال: لو قيل: خرجت فرأيت أسدًا، لكان السامع يجوز أن يتبع قوله أسدًا صفة من الصفات، فإذا سكت المتكلم ولم يتبعه الصفة، بان له من بعد، أن قصده إلى واحد من الجنس غير معين ولا موصوف.
ولو قيل: خرجت فرأيت الأسد، كان السامع يعلم أن القصد إلى الواحد من الجنس ولا ينتظر الصفة التي تجوز مجيئها مع النكرة، فهذا يجوز أن يكون من فائدة ما فيه الألف واللام.
وعلى كل وجه، لم يزد التعريف اختصاصًا لم يكن في التنكير، والنكرة التي تفيد فائدة المعارف يشير به إلى النكرات المحدودة بالصفات وبالأحوال، حتَّى لا يجري مجرى الإشارة إلى المعنى كقولك: فينا رجل عليه درَّاعة شأنه كذا، وليس في القوم من عليه درّاعة غيره. والمعرفة التي تفيد النكرة غير قولك: مثلك شبهك، حسن الوجه، لأن هذا من حيث اللفظ، لا لما عرض من اللبس في الموضع.
فإن تقل بدل قولك: فينا رجل عليه درّاعة، فينا زيد أو أبو فلان أو غلامك، وفي الجماعة اسم كل واحد منهم أو صفته أو كنيته، مثل ذلك الاسم أو الصفة أو الكنية، كان فائدة المعرفة إذا كان الأمر على هذا فائدة النكرة.
1 / 39