وكنا قد علمنا من لغتهم وقصدهم أنهم لا يريدون نفي واحد غير معين في قولهم: ما جاءني من رجل، فما بقي إلاّ أن يكون مفيدًا نفي القبيل كما هو مستغرق الأسماء، وأنت إذا قلت: ما جاءني رجل، من دون مِنْ فالأولى أن تريد به نفي واحد غير معين، وكذلك قولك: عشرون رجلًا، نبّه قولك: عشرون على أن يراد به الجنس كلهم، إذ كان لا يجوز أن يكون يفيد واحدًا غير معين مع اقتران العشرين به لما يدخل المعنى من الفساد، ولأنه من الظاهر أن المراد ب عشرين رجلًا عشرون من الرجال، ومن القبيل الذين هو الرجال.
وكذلك إذا قلت: كل رجل، ف كل تبين أن رجلًا بعد عامّ للجنس. وكذلك قولك: هل عندك من أحد، أحد في معنى الجمع بدلالة أنه لا يجوز أن يقع في واحد، إذا كان القصد الذي يصح به في غير الواحد لا يصح في الواحد، إلاّ أن يكون موضع يحصل فيه قريب من الفائدة التي ذكرناها فيما ليست بواحد، كقول القائل: جاءني اليوم كل أحد، لأن هذا وإن أفاد الكثرة لا يفيد الاستغراق، فهو كما ذكرناه في كم إذا انتقل عن باب الاستفهام إلى باب الخبر.
فإن قيل: فلم لا تقول: جاءني عشرون واحدًا، لأن الذي بعد العشرين لا يكون إلاّ في معنى الجمع بزعمك، قيل له من قبل: إن العشرين وما أشبهه، عدد مخصوص يحتاج إلى بيان المعدود الذي وقع عليه العدة، وذلك ما تفيده أسماء الأجناس وأحد ليس منها.
وقد بينَّا أن هذه الأسماء متى تعدّت الموضع الذي يفيد الوحدة فيه والانفراد، انصرف إلى الجنس، ولا بد من اقتران ما يفيد به.
فإن قيل قولك: كل رجل، وكل إنسان، هل يجوز أن يقع موقع المنكور هاهنا اسم الجنس المعرف بالألف واللام، لأن كلا منهما يفيد فائدة صاحبه بزعمك، ويكون مثل قولك: مائة درهم، ومائة الدرهم، إذا أردت التعريف، قيل: لا، ولكن إذا أريد التعريف في قولك: كل رجل، قلت: كل الرجال، وفي كل إنسان، كل الناس، ولا يجوز: كل إنسان، وكل الرجال، وذلك أن: كل رجل، في معنى: كل أحد، وتلخيصه: كل الرجال، إذا كانوا رجلًا رجلًا، على حد قولك: كل اثنين أي: كل الناس، إذا كانوا اثنين اثنين، وكقولك: هما خير اثنين في الناس، أي: هما خير الناس، إذا كانوا اثنين اثنين.
فإذا أردت التعريف خرج من هذا، لأن مثل هذا التقدير لا يتأتى فيه إلى قولك: كل الرجال، كل الناس، ولا يكون غيره، ومائة رجل، لا يقع موقعه أحد لما بيناه في قولنا: عشرين ونحوهما، فلما أضفت المائة إلى رجل، وكنت قد فرغت من العدد فاحتجت إلى الصنف، عرفت على ما كان نكرة، فقلت: مائة الدرهم. وفي هذا فصل ظاهر بين: مائة درهم، وقبيله، وبين كل أحد، وقبيله، فافهمه.
وإن قيل: لم امتنعت من كل الرجل، والله ﷿ يقول:) كلُّ الطعامِ كان حلاَّ لبني إسرائيل (، قلت: إن هذا السؤال غلط أو مغالطة، لأن الطعام في شموله لأنواع كالناس في شموله لأنواع، وقد جوزنا أن يقال: كل الناس، وإنما امتنعنا من أن يقال: كل رجل، وكل الرجال، وقد دللنا عليه بما فيه كفاية، فاعلمه.
وأما قولهم: أهلك الناس الدينار والدرهم، فليس هذا مما الاعتماد في إفادته الكثرة على شيء قبله، كما ذكرناه في النكرات، ولكن متى ما تعرَّى مما يخصصه فيجب أن يكون متناولًا للجنس، مستغرقًا له، ودالًا على أن الألف واللام من شأنهما التعريف والتخصيص.
والمعرَّف المخصص كما يكون محسوسًا مدركًا معهودًا، يكون معلومًا معقولًا. فالألف واللام يشار به إلى تخصيص ذلك المعرف على ما يصح تخصيصه به، فإن كان معهودًا مدركًا محسوسًا، فالإشارة بالألف واللام إلى تعريفه على ذلك الوجه.
وإن كان معلومًا معقولًا، فالإشارة به إلى تعريفه على ذلك الوجه. وقولنا: رجل لا يخلو من أن يكون المراد به واحدًا من الجنس غير معين، والجنس كما هو، فكذلك إذا دخله الألف واللام ولم يقترن به ما يخصصه بمعين معهود، فيجب أن يفيد الموضع الثاني الذي له من الموضعين وهو الجنس كما هو، ويستدل على أن قولك: أهلك الناس الدينار والدرهم، وكثر الشاة والبعير. المراد به العموم والكثرة، مما تقدم من جواز استثناء الجماعة من هذا الاسم المفرد في اللفظ، وكذلك الدلالة الثانية من الحاجة إلى تعليق المقصود باسم الجنس مفيدًا للعموم.
1 / 38