فإن قيل: ما ينكر أن يكون العقل عند الوضع متسلطًا عليه كما يتسلط العرف واللفظ من بعد، قيل له: إن العقل إذا تسلط في الموضع الذي أشرت إليه، منع من وضع الاسم له رأسًا، ومتى قصد القاصد إلى الوضع مع منع العقل منه، كان كمن يتعاطى محالًا، أو العبث بما يضعه، وإذا كان الأمر على هذا وكان العقل لا يمنع ولا يحظر، وضع له اسم مستغرق، بل كيف يحظر والحاجة تمس إليه كما بيناه، فيجب أن يكون التواضع قد حصل به، وأن يكون العقل تسلط من بعد الوضع فتخصص كما يتسلط العرف من بعده، وكما يتسلط اللفظ من بعده، وفي هذا لمن أنعم النظر كفاية.
ومنها أن الألفاظ إنما كانت توضع بحسب الحاجة إليها، فقد علمنا أن الواحد منا كما يقصد إلى الإخبار عن الأعيان المحسوسة، كذلك يقصد إلى الإخبار عن الأجناس المعلومة، ويعلق المقصود بها كما يعلقها بالمفردات.
وإذا كان الأمر على هذا، فلا بد من أن يكون في كلامهم ما يفيد الجنس مشتملًا عليه، مستغرقًا له، وإلا كان يظهر قصور لغة العرب عن المعاني الهاجسة في النفس.
وإن كان لا بد من أن تكون حاجتهم إلى ما يعبرون عنه كحاجتنا، ودواعيهم كدواعينا، وإذا كان الأمر على هذا، ويصح القصد منا إلى الإخبار عن الجنس بلفظ شامل لهم كلهم، فكذلك يجب أن يكون أمرهم كأمرنا، وإذا كان أمرهم كأمرنا، فلا بد من أن يكون في لغتهم ما يفيد ذلك حقيقة لا مجازًا، وهذه في الأسماء التي ذكرناها.
وبهذا الذي ذكرناه يسقط قول من يزعم أنه لا يمتنع من أن تكون الألفاظ مستصلحة للشمول من غير أن تكون مفيدة له على الحقيقة، مقصورة عليه، ويؤيده أنّا وجدنا هذه الأسماء تفيد هذه الأجناس في المواضع التي أشرنا إليها على سبيل اطِّراد فيها، ومن علامة ما يكون حقيقة في الشيء اطِّراده فيه واستمراره، وإذا كانت هذه الألفاظ مستمرة في إفادة هذه الأجناس على الوجوه التي ذكرناها، فيجب أن تكون حقيقة لها.
وهذه الأدلة التي ذكرناها فيها ما يدل على إفادة الشمول والعموم في من وما إذا انتقلا عن موضع الإبهام إلى باب الإيضاح والتبيين، وهو باب الخبر أيضًا، وذلك جواز الاستثناء منا على الوجه الذي بيناه، وجواز تعلق القصد منا بما يفيد الشمول والعموم إذا أردنا الإخبار عن جنس، وإن سبيلهم كسبيلنا، وإنه لا بد من أن يكون في كلامهم ما يفيد ذلك حقيقة، وإلا كانت اللغة قاصرة عما كانت تهجس في نفوسهم حينئذ، وفي نفوسنا الساعة، فهذا حال من وما وهما للاستغراق.
وأما أيُّ فهي لبعض من كل، وهو وإن كان لا يختص ببعض دون بعض، ولكن يصح كل منها على طريق البدل وعلى ما يقدر بعضًا من الجملة، فإنه لا يفيد الاستغراق. ولشدة إبهامه لزمته الإضافة، ومعنى الإبهام فيه أنه لا يختص بجنس دون جنس، كما اختص كل واحد من مَنْ ألا ترى أنك لا تقصد جنسًا.
وأيُّ تستعمل في العام فهي أشمل من منْ وما في هذا الوجه، ودونهما فيما يفيد أنه من الاستغراق.
فأما ما الأولى به أن يفيد الوحدة والانفراد، ثم إذا اقترن به لفظ أو حال أفاد الشمول والعموم كقولهم: عشرون درهمًا، وما جاءني من رجل، وهل جاءك من خبر، ولا رجل في الدار. وكقولك: كل إنسان، وأول فرس، وما أشبه هذا. فإن هذه النكرات تفيد الاستغراق بما اقترنت به من الألفاظ التي قبلها إذا كانت هي وأشباهها قد جعلها العرف والاستعمال بأن تفيد بمجردها الوحدة أولى، وإن كانت وضعت للآحاد فما فوقها، وهنا في هذه الأسماء كالعلامة والتغيير في أسماء الأحداث، ويدل على ذلك أن من في قولك: ما جاءني من رجل، وهل عندك من شيء، لا يجوز أن يدخل على مخصوص مفرد، لا تقول: ما جاءني من عند الله، فلولا أنه يفيد في رجل إذا اقترن به في قولك: ما جاءني من رجل، وهل جاءك من خبر، وهل عندك من شيء، للكثرة والشمول، كان لا يمتنع من دخوله على المفرد المخصوص أيضًا، وإذا قد امتنع منه، وكان قولك رجل لا يخلو من أن يفيد واحدًا من قبيلة غير معين، أو القبيل كما هو.
1 / 37