والذي يدل على أن من وما، وهو القبيل الثاني مما يفيد الشمول، يفيدان الشمول في الموضع الذي ذكرناه، وهو الإبهام في بابي الجزاء والاستفهام، أدلة مما استدللنا به في النوع الأول، أن المسؤول ملجأ في الجنس الذي سئل عنه إلى الجواب، حتَّى لا منزل له لتعلقه بأن لفظ السائل تناول كذا وكذا، دون كذا وكذا، وهنا الموضع يتبين بتأمل الدواعي التي دعت إلى وضع هذه الألفاظ، وهو أنهم نظروا فيما يسألون عنه من الأحوال والأوقات والمواضع والأعداد والأجناس والناطقين، فوجدوا أنفسهم مع المسؤولين على حالة أوجبت عليهم صياغة ألفاظ شاملة مستغرقة، وإلا كان للمسؤول أن يعدل عن الجواب عما يسأل عنه، وإن تكلف السائل أمورًا كثيرة، وبسط من القول ما أتعبه وشق عليه.
ألا ترى أن السائل عن عدد معدود ما يتوهمه مع الغير من جنس لو قال له: أكذا عندك من هذا الجنس أم كذا أم كذا، حتَّى يكثر من أسماء الأعداد، وأفنى في ذلك أوقاتًا كان لا يأمن أن يكون ما معه منقوصًا عن الأعداد التي ذكرناها، أو زائدًا عليها.
وكذلك هنا في الأحوال، أو عدّد أحوالًا كثيرة في مسؤول عنه بعينه، كان لا يأمن من أن يكون على غيرها. وكذلك في الأوقات، لو ذكرنا أوقاتًا كثيرة من الماضي والمستقبل، كان لا يأمن مع امتداد الأوقات أن يكون المسؤول عنه في غيرها، فلا يخرج جوابه على مراده. وكذلك في الناطقين لو ذكر أكثر من يعرفه، لكان لا يأمن أن يكون غيرهم.
هذا وقد سئل الإنسان عما لا يعرفه، كما يسأل عمن يعرفه، وذكر من يعرفه متعذر على الوجه الذي ذكرناه. فأما من لا يعرفه فمحال أن يذكره. فلما كان الأمر على هذا عمدوا إلى صياغة ألفاظ كافية من التطويل، شاملة للأجناس، ملجئة للمسؤولين حتَّى إن أرادوا الجواب لا الانتهاء إلى المراد، وفي ذلك من الدلالة على الموضع الذي يريد الدلالة عليه من شمول هذه الألفاظ لما وضعت له، واستغراقها ما لا خفاء به.
ومنها أن المسؤول متى سمع هذه الألفاظ، فإنه متى راعى، لم يجد في الأجناس التي يسأل بها عنها سببًا إلاّ ويصلح أن يكون جوابًا للسائل، إذا قصده وجعله جوابًا.
ولولا شمول هذه الألفاظ للأجناس التي صيغت لها استغراقها، لما صلح في كل وبعض منها أن تكون جوابًا، فإن اعترض على هذه الدلالة بأن من قال: من دخل داري أكرمته، في الجزاء أن اللص لا يجوز أن يكون مرادًا، ولو قال: من دخل داري أهنته، لا يجوز أن يكون الملك مرادًا.
وكذلك ما يجري هذا المجرى، فالجواب عنه، أن اللفظ منتظم للكل في أصل الوضع، وما خرج منه بالعقل أو العرف أو الشرع، فهو كما أخرج منه بالاستثناء.
ألا ترى أنه لو قال: من دخل داري فهو محاسب، أو: من دخل داري فهو مثاب أو معاقب، وقال: خلق الله من في السموات والأرض، أو ما في السموات والأرض، لدخل تحت هذا كل متعبد وموجود من الجن والملك وغيرهم، إن كان المتكلم به ممن يعلم أن العبادة تشمل هذه الأجناس، كذلك الثواب والعقاب والخلق، فلولا أن اللفظ شامل، لكان يتغير أحكام الإخبار والعدَّات والمضمون لها، والإخبار في هذه الألفاظ التي تستعمل في هذه المواضع، وعلمت أن أصل الوضع فيها ما ذكرنا لا غير.
ومنها جواز استثناء المستثنى منها ما أراد، بالغًا ما بلغ في القلة والكثرة، فلولا شمول هذه الألفاظ واستغراقها، لما جاز الاستثناء منها على الحد الذي ذكرناه، ولا يقدح في هذا قول القائل: إنه مع الاستثناء كأنه صيغ لذلك الذي يدل عليه. ولا قوله: إنها ما أفادت الشمول على وجه، لأنها عندك لا تعرى من الاستثناء، أو ما يجري مجرى الاستثناء من العرف والعقل. لأن من راعى أن اللفظ في انفراده ماذا يفيد، وعند الاستثناء منه ماذا يفيد الاستثناء فيه، ولولا الاستثناء كان حال اللفظ: كيف يكون بأن له، إن هذا السؤال ساقط. وكذلك من راعى أن اللفظ ووضعه شيء، وتسلط العرف والعقل والشرع عليه شيء آخر، يجري عليه بعد التواضع به، كما أن الاستثناء منه باللفظ بعد التواضع به. اعلم أن قوله: إنه لم يفد الشمول قط، فاسد، لأن اللفظ لا بد أن يكون سابقًا لما وضع له للعرف والعقل جميعًا، لأن هذين يتسلطان عليه كتسلط اللفظ المخصص له من بعد.
1 / 36