اعلم أن الذي يدل على أن كم صيغ للعموم والشمول، أنه يسأل به عن الأعداد، والمخاطب ملجأ إذا سئل به عن معدود إلى أن يجيب عن قليل ذلك المسؤول وكثيرة، حتَّى إذا قصَّر لم يكن له عذر، فيقول إن عدد ما سألت عنه كذا وكذا، ولم يتناول سؤالك، فلولا أن كم منتظم لكل عدد لما كان المخاطب حاله إذا أراد الجواب أن يكون مُلجأ إلى ذكر عدد المسؤول البتَّة، وكذلك حال كيف في الأحوال، لأنه يسأل به عنها، فلا حاجة للمسؤول عنه إلاّ وينتظمه كيف حتَّى ليس للمخاطب متعلق بشيء إذا أنزل الجواب. فإن قيل: كيف تدَّعي ذلك في كيف، وقد علمنا أن قائلًا لو قال لغيره: كيف أنت؟ فأخذ يقول: مغسول الثياب، نقي البدن، وما يجري مجراه من أحواله لكان له أن يقول: ما سألتك عن شيء من هذا، وإذا كان الأمر على هذا فكيف يكون لفظ كيف منتظمًا للسؤال عن الأحوال كلها؟ وإن كان منتظمًا فكيف له أن يقول: ما سألتك عن شيء مما ذكرته، قيل له: إن الذي ذكرته لا يدل على أن كيف ليس بمنتظم للأحوال كلها، وذلك أن معهود المتخاطبين إذا سأل أحدهما الآخر عنه بلفظة كيف فهو يحتاج أن ينظر إلى ماذا من أحواله قصد السائل، فيخبره عن كيفية ذلك المسؤول عنه دون غيره، لأنه مضطر إلى أنه لم يسأله عن أحواله كلها، فإن كان لفظه كيف استغرقها بالوضع، فصار ما لم يسأله عنه كالمستثنى من جملتها، والشيء يصير مستثنى باللفظ ويصير مستثنى بالعرف والعقل والشرع.
وإذا كان الأمر على هذا، وكان لا حال من أحوالك ذلك المعهود بينهما إلاّ وصح أن يكون مسؤولًا عنه بلفظ كيف، ويجوز أن يريده، ولا يكون مستثنى بالعرف والعقل، فقد ثبت انتظامه لها كلها بهذه الدلالة، وسقط ما سأل عنه السائل بما ذكرناه وبيناه من أنه كالمستثنى، فاعلمه.
فإن قيل: ما تنكر من أن يكون كيف متناولًا للذي زعمته أنه مراد السائل والمسؤول، يحتاج أن تقصد إلى الجواب عنه بعد أن تتأمل وتقف عليه لا غيره.
وإن قولك: إنه متناول لكل بالوضع في الأصل، والمتزود كالمستثنى فاسد، قيل: إن الذي ذكرته ليس يقدح في الدلالة، ونحن نكتشف ما ذكرناه بما يؤيد الدلالة ونسقط السؤال، وهو أنا وجدنا الإيجاب بما هو نكرة، كصالح وكمعافى، وما يجري هذا المجرى، ولو كان السؤال عن شيء بعينه لكان جوابه يخرج على طريقة المعارف، وفي أن لا يجيء جوابه إلاّ نكرة دلالة على أنه لم يقصد به عند الوضع ما ذكرته.
والذي يكشف ما ذكرناه هو أنه إنما امتنع المعرفة من أن تكون في جواب كيف، فيقال: الصالح والمعافى، يخرج الكلام إلى أن يكون جوابًا عن السؤال عن الذوات لا عن أحوالها. فلو كان السائل عن الأحوال ب كيف قاصدًا إلى السؤال عن شيء بعينه منها، لكان حكم ذلك الشيء في الاختصاص، حكم الذات، فكان يجيء جوابه معرفة، وهو لا يجيء جوابه إلاّ نكرة.
وإذا كان الأمر على ما ذكرناه، فكما لا يجوز أن يكون جوابه المعرفة لخروجه في السؤال إلى أن يكون متناولًا للذات، فكذلك في الحال لا يجوز أن يكون متناولًا لشيء بعينه منهما، لأن ذلك يقتضي أن يكون جوابه المعرفة.
وبمثل هذه الطريقة نبين حال أين في المواضع، ومتى في الأوقات، هذا في باب الاستفهام.
فأما كم وكيف فلا مدخل لهما في الجزاء، وأين ومتى حالهما في الجزاء كحالهما في الاستفهام، وأما كم في الخبر، فهو باقٍ على إبهامه، لما ذكرناه من أن باب الاستفهام أولى به، بدلالة أنه لم يوصل فيه، وإن كان باب إيضاح وتبين، كما فعل ذلك بأخوته فيه. فإذا قال القائل: كم رجل أكرمته، فمعناه كثير من الرجال، والكثرة التي يشير إليها لا تبلغ حد الشمول للجنس كله، وإن كان غير واقف في مبلغ بعينه، ولهذا جاز أن يضاف إلى الواحد والجمع، فيقال: كم رجل، وكم رجال.
وفي الاستفهام لا يميز إلاّ باسم الجنس موحدًا، وهذا التكثير الذي وصفناه، استصحبه إلى الخبر، لأن ذاك مؤثر فيه لا محالة. ألا ترى أن مستنكرًا في العقل أن يكون المتكلم ب كم رجل أكرمته أكرم الجنس كله، ولو كان الباب باب النفي أو الاستفهام أو الجزاء، لم يكن ذلك منكرًا، وهذا ينكشف بأدنى تأمل، فاعلمه.
1 / 35