وكذلك كانت في عين أبي وعيني، ولكنها لم تكن زهرة من زهرات البر، فلم تأخذ في النمو حيث مضى بها أبي إلى الريف الفقير الساكن، بل عاجلها الذبول فنكست - فعل الزهرة الذاوية - رأسها، وعادت أشبه الأشياء بشجرة اللبلاب تتعلق بالسروة الناهضة في صميم الفضاء.
ففي ذات يوم والشمس تتزاور بادية من خلف السروات الناحلات المديدات. إذ ارتفع في السماء فبدد الصمت الرهيب صوت عظيم تهلع له النفوس، وتنهد القلوب هدا، صوت قصف توالى ينذر بوقوع حادث في أكناف الغاب، وأخذ الناس يهرعون على الصوت من كل مكان، ويلتمسون الطبيب، ويطلبون للمصاب الغياث ...
ولكن ترى من يكون هو، لقد مضت كل ذات بعل وذات ولد تسأل وهي شاحبة اللون واجفة الفؤاد: من هو؟ وما الخطب الذي دهمه؟ ووقفن لاهفات جازعات ينتظرن النبأ، ويرتقبن قصة المصاب.
وجاء فتى من الحطابين يعدو، فقال: إن الرفقة قادمون بأبي ... وا حزناه ... لقد رأيت أمي ... أمي المسكينة، الحلوة، الضعيفة، الواهية، تتواثب من فرط الألم، وتتساند من فداحة الكارثة، وأما أختي فأخذت تتصايح وتبكي بدافع الغريزة، وهي لا تدري علام البكاء وما مبلغ المأساة وجلال الخطب، وإنما تبكي لبكاء أمها، وتجاوب بالدمع دمعها، وأنا، الله لي ... لقد استقرت على وجهي عيناه السوداوتان، وشفتاه الملتهبتان وهما تبتردان رويدا وتصفران على مهل، وهو يحاول أن يبعث من صدره أنفاسه المتحشرجة الخافتة الراجفة، نعم، أنا عونه الصغير، وسناده الأكبر. وفي رفق يمازحه إصرار، راحت جارة لنا تفك يدي أمي المشتبكتين حول صدره، وتمشي بها وطفلتها منصرفة بهما من الحجرة، وجثوت أنا بجانب أبي، ومضيت أقول بصوت مختنق: إنك لن تتركنا يا أبي ... وحاول هو أن يرفع يده ليلاعب جدائل شعري ملاعبة ألفتها منه ولطالما فرحت بها ولذني لطفها ورفقها، فتراخت يده ولم تستقم؛ إذ سقطت كتلة عظيمة من الخشب فوق صدره فحطمت أضالعه، وتركت يديه مرتخيتين واهيتين متساقطتين إلى جنبيه.
وانحنيت وذهبت أنصت إلى الكلمات التي راحت تخرج من بين شفتيه المختلجتين متقطعة لاهثة لا تكاد تبين.
قال لقد رقيت مركزا أسمى من مركزي أيتها الصاحبة الصغيرة والولية الحسناء ... نعم، أنا تاركك لنفسك، ومعتزل في هذه الحياة عملي. يا عوني الصغير، أنت الآن عوني الأكبر ... لديك أمك الصغيرة، «أنفاس السماء»، ولديك أختك الغريرة الحسناء، ألست ناهضة في العيش بجانبها، آخذة بيديهما، يا حبيبة أبيك وخليفته في عشيرته ...!؟
فأطرقت إطراقة الإيجاب؛ إذ عصاني منطقي فلم أجد لساني على الجواب مسعفا، ورأيت بياضا يغشى فمه شيئا فشيئا ثم يتصاعد إلى خديه، ويكاد يبلغ عينيه، فانحنيت أداني وجهه وأمس بخدي فمه، فإذا بذلك الفم قد سكن وانقطع اختلاج الشفتين واسترد ملك الموت من الأرض وديعة السماء.
طار لبي، وغام السحاب على خاطري وعيني، ورفعت رأسي ونظرت إلى عينيه الجامدتين، فأفلتت من بين شفتي أنة مجنونة موحشة، وإذا بيدين رقيقتين - لكن قويتين - قد رفعتاني من مجثمي وسمعت صوت الطبيب يناديني قائلا: شجاعة أيتها المرأة الصغيرة وتجلدا لأجل أمك؛ فإنها أحوج ما تكون اليوم إلى عونك.
وعند ذلك ارتفعت ورائي صيحة كظيمة متهيبة تقطع نياط القلوب، فدرت بعيني فرأيت شبح أمي الناحل المترنح حيالي، وعيناها الأليمتان ترسلان نظرات لهيفة متوسلة، كأنما هي تحاول أن تدرك مبلغ المصاب وتتساءل ما معنى الخطب وما أمره، وشفتاها تهتزان في حركة تهد الفؤاد، ويداها الصغيرتان البضتان تصعدان وتهبطان وقد جاءت فترامت على صدري وتعلقت بثوبي ونحري، ومن فوق بدنها الواهي الناحل ألقيت العين على أبي ... أبي وابتسامته الباسلة الحائرة التي لا تزال على وجهه، وفي لهجة رهيبة ومنطق جليل رزين غمغمت أقول معطية عهدي، مقدمة أمام جثمانه الهامد موثقي: «سأتولى مكانك يا أبت ... سأتولى مكانك، فنم بسلام».
ولما قضينا للميت الراحل حقوقه، خففت أنا وأمي وأختي من القرية إلى المدينة العامرة المخيفة بضجيجها وزحامها، ولكن فتنة الحضر لم تستطع أن تمنع شجرة اللبلاب المتعلقة بجزع السروة الصلبة المتينة من التشبث بسنادها، فما انقضى عام حتى وافت أمي الصغيرة أبي إلى مرقد الآخرة، وضجعت بجانبه تحت أطباق الثرى.
Page inconnue