ومن يؤمن بالحب فهو بالله مؤمن، ومن يكفر به فقد كفر بنعمة الحياة التي جعلته شركة سواء بين الحيوان والإنسان.
أوان الحب
الحب ...!
لقد قضيت الحياة كلها أحلم به وأتلهف عليه وأتوق إلى مطالعه، ولو أنه جاءني بادرا لما وجدني خافة للقائه، ولقد كنت على طول الحنين إليه لا أرى من زماني فسحة للبحث عنه، ولكنه لم يجئ باكرا، وإنما طال عليه الغياب، ثم أقبل يدلف ويمشي وئيدا على أدبار الشباب ...
ولكنك لن تجد في قصة هذا الحب شيئا يروقك أو يوقد بعض ناره في جوانحك؛ لأنه حب بدأ على ثنية الكهولة، ولم يبد على بواكر الشباب وسطع الحداثة، إذ تروح النفس مترعة بأحلامه، ولا يزال الخاطر مصقول الأديم متهيئا لاستقباله .
إي والله لم أجد من زماني فسحة للحب، ولكن الذي صرفني عنه وعدل بي عن واديه، لم يكن غير واجب الرعاية لأختي الصغيرة «ج ...»، فقد قضت أمنا يوم كانت أختي في العاشرة وأنا في السادسة عشرة، فكانت رعايتي لتلك الصغيرة ومساعدتي لأمي المسكينة، التي لم تستطع نهوضا من الصدمة التي عاجلتها بوفاة أبي، قد تركتاني أكبر قبل الأوان.
وكان أبي أبدا يناديني: «يا عوني الصغير»، فكنت أزهى بهذه الكنية، وآتيه فخارا بهذا الاسم، وأجد فيه الفرح والخيلاء.
وكنت أقرب شبها بأبي مني بأمي، فقد ورثت عنه عينيه السوداوتين الهادئتين، اللتين توحيان من الأعماق قوة الإرادة وحب الريف والميل إلى القرية.
وكان أبي رئيسا للحطابين الذين يعملون في أرباض قريتنا، وكانت أمي مخلوقة ناعمة ... صنع الله لها، تلك الأم الغريرة الضعيفة الحول، الواهية الإرادة، لا تسأل شيئا ولا تسأل عن شيء، وكانت الصغيرة «ج ...» أقرب شبها بها. وكانت أمي من أهل الحضر، ولدت ودرجت وقضت مطالع شبابها في المدينة، فلم تكن تروقها عيشة القرى، ولم يفتنها مشهد الحقول، ولم تستروح نفسها لأفق الريف.
وفي ذلك العهد لقيت أبي، فكأنما التقت قوة السروة الباسقة الصلبة المتينة بطراوة أنفاس الربيع اللين العليل، وكان أبي يناديها «بأنفاس السماء» لنعومة بدنها، ونصاعة محياها، ومسة من لون الذهب الأصفر الناضر تزين جدائلها المرسلة، وذلك العبق الخفيف الخفي المذهل الساحر الذي يدع الناس ينادون زهرة الربيع بأنفاس السماء وشذاها.
Page inconnue