على أن هذا الفهم بعيد كل البعد عن الصواب، فضلا عن أنه فهم يكذبه الواقع نفسه ؛ ذلك لأن كل عصر يتميز بتباين فكري شديد، سواء على مستوى المثقفين الكبار أم على مستوى الأشخاص العاديين أنفسهم؛ وعلى ذلك فنحن حينما نتحدث عن الإطار لعصر من العصور، أو عن نوع الثقافة الذي يتلاءم مع نظام من النظم، نعني في الواقع أعم السمات الفكرية المشتركة، التي تلفت أنظارنا أكثر من غيرها حينما ندرس ذلك العصر. ولكن لا يتعين أن تكون هذه السمات موجودة بحذافيرها عند كل مفكر على حدة. وليس من الضروري أن تكون عقول الناس كلها - في ظل ذلك النظام - مصبوبة في قالب فكري واحد. (2)
والمشكلة الثانية هي أن الربط بين النظم الاقتصادية وبين الجوانب الفكرية لحياة الناس في ظل هذه النظم، قد يوحي بأن هناك تأثيرا مباشرا للنظم الاقتصادية في الحياة الفكرية. ولما كان الاقتصاد يهتم بالأسس المادية لحياة الناس، فقد يفسر هذا الربط بأنه يعني الأخذ بالتفسير المادي المباشر والآلي للفكر الإنساني؛ بحيث يعد هذا الفكر نتيجة مباشرة للعلاقات الاقتصادية السائدة في مرحلة معينة، وتؤدي هذه العلاقات الاقتصادية إلى إنتاج أفكار الناس ومثلهم العليا وقيمهم، مثلما تؤدي الآلات إلى إنتاج السلع.
هذه المشكلة تثير موضوعا معقدا غاية التعقيد، هو العلاقة بين الجانبين المادي والمعنوي في حياة الإنسان، ودون محاولة للدخول في الجوانب المعقدة لهذه المشكلة، يكفينا أن نقول: إن هناك ما يشبه الإجماع على أنه إذا كان للجوانب المادية - ومن أهمها الاقتصاد - تأثيرها في أفكار الناس وقيمهم ومثلهم العليا؛ أي في الجوانب المعنوية للحياة البشرية، فإن هذا التأثير لا يمكن أن يكون مباشرا. وبعبارة أخرى: فإن أي نظام اقتصادي لا «يفرز» فكرا من نوع معين يكون هو وحده الملائم له والناتج عنه. بل إن للفكر قدرا معينا من الاستقلال، بل لديه قدرة خاصة على أن يؤثر في الجوانب المادية لحياة الإنسان بقدر ما يتأثر بها.
وعلى ذلك فمن الضروري أن نتنبه، حين نتحدث عن تأثير النظم الاقتصادية في أفكار الناس، إلى أن هذا التأثير ليس آليا مباشرا، بل هو يسير في عملية معقدة غاية التعقيد ، ولا يعمل في اتجاه واحد، من الاقتصاد إلى الفكر، بل يمكن أن يعمل في الاتجاه المضاد، من الفكر إلى الاقتصاد، أو من العقل إلى المادة.
ومع أخذ هاتين النقطتين بعين الاعتبار، يمكننا أن نبدأ في دراسة الاتجاهات الفكرية العامة المرتبطة بالنظم الاقتصادية، واضعين نصب أعيننا أن هذه النظم لا تستطيع أن تصب عقول الناس كلها في قوالب واحدة، وأنها لا تملك أن تؤثر في هذه العقول تأثيرا آليا مباشرا. ومع ذلك فسوف يتبين لنا أن من الممكن الاهتداء إلى ارتباطات مفيدة وعميقة بين الإطار الذهني لحياة الناس في عصر من العصور، وبين النظم الاقتصادية السارية على هذا العصر، وأننا نستطيع من خلال هذه الارتباطات أن نعمق فهمنا للاقتصاد والفكر معا؛ إذ نكتشف في النظم الاقتصادية جوانب وأبعادا أعمق مما توحي جوانبها المادية وحدها، ونهتدي إلى أسس للبناءات العقلية والمعنوية تكمن جذورها في الحياة الواقعية للمجتمع الذي ظهرت فيه.
مجتمعات ما قبل الإقطاع
(1) المرحلة البدائية
لم يعرف الإنسان الملكية الفردية بمعناها الصحيح في المراحل البسيطة الأولى من حياته، بل كان يسود هذه الحياة نوع من التضامن والمشاعية، ناشئ عن صعوبة الظروف التي لم يكن الفرد قادرا على مواجهتها وحده، وعن ضآلة الإنتاج وبساطته، وعدم وجود أي فائض إنتاجي يسمح باستغلال عمل الآخرين؛ لأن العمل كان كله موجها نحو تلبية الحاجات الضرورية المباشرة.
في هذه المرحلة كان الفكر الإنساني يتسم بنفس البساطة والبدائية اللتين كان يتسم بهما الإنتاج؛ فكل حوادث الطبيعة كانت تفسر تفسيرا أسطوريا، يتمشى مع العجز عن فهم الظواهر الكونية وعدم القدرة على كشف أي قانون من قوانينها. وكان العالم يحتشد بالقوى التي تنسب إليها صفات إلهية؛ فهناك آلهة للرعد والمطر والزرع والبحر والخصب والموت ... إلخ، بحيث كان الحد الفاصل بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان يكاد يكون منعدما؛ فالطبيعة تشعر بنفس الأحاسيس الإنسانية، وتتحكم فيها نفس العوامل التي تتحكم في أفراد البشر. وربما كان من الممكن تشبيه فكرة التقارب بين الإنسان والطبيعة وإزالة الحواجز بينهما، بمبدأ الملكية المشاعية السائدة في الاقتصاد البدائي لهذه الفترة. وكان السحر هو التعبير الواضح عن مجتمع يعجز فيه الإنسان عن السيطرة على الطبيعة من خلال فهم قوانينها، فيلجأ إلى القوى الخفية والغيبية التي يتصور أنه يستطيع عن طريقها التحكم في مجرى الأشياء. ومن الملاحظ أن السحر بدوره يفترض نوعا من العلاقة المشاعية المشتركة بين الإنسان والطبيعة؛ إذ إن الطبيعة تخضع لكلمات الإنسان وأوامره وتعاويذه، ويزول كل حد فاصل بين المجال البشري والمجال المادي الخارجي. (1-1) مرحلة الرق
لم يحدث الانتقال من المرحلة البدائية إلى مرحلة نظام الرق مباشرة. بل إن التطور بينهما كان متدرجا وبطيئا إلى أقصى حد. وكانت نقطة التحول هي تقدم القوى الإنتاجية إلى الحد الذي لا يعود الإنسان ينتج فيه من أجل تلبية حاجاته المباشرة، أو الوفاء بضرورات الحياة، بل أصبح إنتاجه عما يحتاج إليه لاستخدامه الخاص. وكان هذا التوسع مؤديا إلى نتيجة ضرورية: هي بداية التقسيم الطبقي للبشر. فبعد أن كان التجانس والمساواة في الفقر هو الطابع المميز للمرحلة البدائية؛ أصبح هناك اختلاف وتميز بين مستويات الناس، نتيجة لبداية ظهور فوائض في الإنتاج تزيد عما يلزم للاستخدام المباشر في المعيشة اليومية، وظهر الفرق بين الغني والفقير أو القوي والضعيف. وكان هذا التميز هو ذاته بداية استغلال الإنسان للإنسان؛ إذ إن تراكم الثروة - ولو على نطاق ضيق - يتيح للغني أن يستعين بالفقراء في استثمار ممتلكاته، ويستغل ضعف مركزهم من أجل فرض شروطه عليهم.
Page inconnue