مقدمة
الباب الأول: الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية
مجتمعات ما قبل الإقطاع
الباب الثاني: أضواء على الفلسفة الحديثة
الأورجانون الجديد وفلسفة بيكن
شجرة الفلسفة عند ديكارت
مذهب الذرات الروحية «المونادولوجيا» عند ليبنتس
العالم إرادة وتمثلا لشوبنهور «تاريخ المادية» لألبرت لانجه
أركان العلم لكارل بيرسن
الباب الثالث: الجذور الفلسفية للبنائية
مقدمة
ما هي البنائية؟
الباب الرابع: العلم والقيم
العلم والحرية الشخصية
العلم والحريات العملية
الحقيقة الفنية
الخلق الفني بين العلم والتجربة الشخصية
مقدمة
الباب الأول: الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية
مجتمعات ما قبل الإقطاع
الباب الثاني: أضواء على الفلسفة الحديثة
الأورجانون الجديد وفلسفة بيكن
شجرة الفلسفة عند ديكارت
مذهب الذرات الروحية «المونادولوجيا» عند ليبنتس
العالم إرادة وتمثلا لشوبنهور «تاريخ المادية» لألبرت لانجه
أركان العلم لكارل بيرسن
الباب الثالث: الجذور الفلسفية للبنائية
مقدمة
ما هي البنائية؟
الباب الرابع: العلم والقيم
العلم والحرية الشخصية
العلم والحريات العملية
الحقيقة الفنية
الخلق الفني بين العلم والتجربة الشخصية
آفاق الفلسفة
آفاق الفلسفة
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
في هذا الكتاب مجموعة من الدراسات التي نشر كل منها على حدة ثم اختفى أثرها ولم يعد معظمها متاحا للقارئ، وتعالج هذه الدراسات موضوعات فلسفية وثقافية شغلت بها منذ أواخر الستينيات، وتمتد في مجموعها عبر آفاق فلسفية واسعة، يلقى فيها الضوء على العلاقة بين فكر الإنسان ونظمه الاجتماعية، وتدرس فيها مجموعة من أمهات الكتب الفلسفية دراسة متعمقة، وتعالج بعض التيارات المعاصرة في الفلسفة والفن معالجة تستهدف كشف علاقات وروابط جديدة، لا تعالجها الكتابات الشائعة عادة.
وقد نشر البحث الذي يتضمن الباب الأول، وعنوانه «الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية» في مطبعة جامعة عين شمس بالقاهرة عام 1971م، ولم ينشر بعد ذلك. أما البحوث التي يتضمنها الباب الثاني فقد نشرتها مجلة «تراث الإنسانية» التي كانت من أهم المجلات الثقافية المصرية في الستينيات وأوائل السبعينيات، ثم أغلقت بقرار تعسفي. وفي هذا الباب بحث واحد لم ينشر في تلك المجلة، هو «شجرة الفلسفة عند ديكارت»، الذي أصدرته مجلة كلية الآداب بجامعة الكويت .
ويضم الباب الثالث بحثا واحدا هو «الجذور الفلسفية للبنائية» الذي نشر في العدد الأول من حوليات كلية الآداب بجامعة الكويت. وأخيرا تأتي بحوث الباب الرابع، الذي نشر أولها، وهو «العلم والحرية الشخصية» في مجلة عالم الفكر بالكويت، ونشر الثاني، وهو «الحقيقة الفنية»، في مجلة «الحكمة» التي تصدرها كلية الآداب بجامعة بنغازي. أما الثالث، وهو «الخلق الفني بين العلم والتجربة الشخصية»، فقد نشر في مجلة المعرفة السورية.
وفي اعتقادي أن جمع هذه الدراسات - التي لم تعد متاحة للقارئ العربي في مجلد واحد - سوف يلقي أضواء مفيدة على جوانب هامة في تاريخ الفكر ومشكلاته. هذا فضلا عن الأفق الواسع للموضوعات التي تضم الفلسفة المتخصصة كما تضم بحوثا في النظم الاجتماعية والعلم والقيم، ولا سيما القيم الفنية، وكل ما آمله هو أن يحفز هذا الكتاب أذهان القراء إلى مزيد من الاطلاع والتفكير في الموضوعات الخصبة التي يعالجها.
فؤاد زكريا
الباب الأول
الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية
مقدمة
إلى أي حد تؤثر النظم الاقتصادية المختلفة في تكوين عقلية الإنسان؟ وما نوع التفكير السائد الذي يتولد عن كل نظام من هذه النظم؟ وما طبيعة الإطار الفكري والثقافي الأكثر ملاءمة لنظام الرق وللنظام الإقطاعي والرأسمالي والاشتراكي؟
هذه هي الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في هذا الفصل؛ على أن طرح هذه الأسئلة يثير - منذ البداية - مشكلات معقدة، ويقتضي منا أن نتنبه إلى مجموعة من الحقائق التي ربما غابت عنا لو بدأنا في خوض الموضوع مباشرة، ولو لم نقم بتحليل للمشكلات الرئيسية الكامنة من وراء هذا الموضوع: (1)
أولى هذه المشكلات هي أن القول بوجود تفكير سائد يتلاءم مع كل نظام من النظم الاقتصادية، ربما فهم على أنه يعني صبغ التفكير في كل مرحلة من مراحل التطور الاقتصادي بصبغة نمطية موحدة؛ أي إنه يعني أن المفكرين، في العصر الإقطاعي مثلا، يتميزون بسمات عقلية واحدة يمكن الاهتداء إليها عند كل منهم على حدة.
على أن هذا الفهم بعيد كل البعد عن الصواب، فضلا عن أنه فهم يكذبه الواقع نفسه ؛ ذلك لأن كل عصر يتميز بتباين فكري شديد، سواء على مستوى المثقفين الكبار أم على مستوى الأشخاص العاديين أنفسهم؛ وعلى ذلك فنحن حينما نتحدث عن الإطار لعصر من العصور، أو عن نوع الثقافة الذي يتلاءم مع نظام من النظم، نعني في الواقع أعم السمات الفكرية المشتركة، التي تلفت أنظارنا أكثر من غيرها حينما ندرس ذلك العصر. ولكن لا يتعين أن تكون هذه السمات موجودة بحذافيرها عند كل مفكر على حدة. وليس من الضروري أن تكون عقول الناس كلها - في ظل ذلك النظام - مصبوبة في قالب فكري واحد. (2)
والمشكلة الثانية هي أن الربط بين النظم الاقتصادية وبين الجوانب الفكرية لحياة الناس في ظل هذه النظم، قد يوحي بأن هناك تأثيرا مباشرا للنظم الاقتصادية في الحياة الفكرية. ولما كان الاقتصاد يهتم بالأسس المادية لحياة الناس، فقد يفسر هذا الربط بأنه يعني الأخذ بالتفسير المادي المباشر والآلي للفكر الإنساني؛ بحيث يعد هذا الفكر نتيجة مباشرة للعلاقات الاقتصادية السائدة في مرحلة معينة، وتؤدي هذه العلاقات الاقتصادية إلى إنتاج أفكار الناس ومثلهم العليا وقيمهم، مثلما تؤدي الآلات إلى إنتاج السلع.
هذه المشكلة تثير موضوعا معقدا غاية التعقيد، هو العلاقة بين الجانبين المادي والمعنوي في حياة الإنسان، ودون محاولة للدخول في الجوانب المعقدة لهذه المشكلة، يكفينا أن نقول: إن هناك ما يشبه الإجماع على أنه إذا كان للجوانب المادية - ومن أهمها الاقتصاد - تأثيرها في أفكار الناس وقيمهم ومثلهم العليا؛ أي في الجوانب المعنوية للحياة البشرية، فإن هذا التأثير لا يمكن أن يكون مباشرا. وبعبارة أخرى: فإن أي نظام اقتصادي لا «يفرز» فكرا من نوع معين يكون هو وحده الملائم له والناتج عنه. بل إن للفكر قدرا معينا من الاستقلال، بل لديه قدرة خاصة على أن يؤثر في الجوانب المادية لحياة الإنسان بقدر ما يتأثر بها.
وعلى ذلك فمن الضروري أن نتنبه، حين نتحدث عن تأثير النظم الاقتصادية في أفكار الناس، إلى أن هذا التأثير ليس آليا مباشرا، بل هو يسير في عملية معقدة غاية التعقيد ، ولا يعمل في اتجاه واحد، من الاقتصاد إلى الفكر، بل يمكن أن يعمل في الاتجاه المضاد، من الفكر إلى الاقتصاد، أو من العقل إلى المادة.
ومع أخذ هاتين النقطتين بعين الاعتبار، يمكننا أن نبدأ في دراسة الاتجاهات الفكرية العامة المرتبطة بالنظم الاقتصادية، واضعين نصب أعيننا أن هذه النظم لا تستطيع أن تصب عقول الناس كلها في قوالب واحدة، وأنها لا تملك أن تؤثر في هذه العقول تأثيرا آليا مباشرا. ومع ذلك فسوف يتبين لنا أن من الممكن الاهتداء إلى ارتباطات مفيدة وعميقة بين الإطار الذهني لحياة الناس في عصر من العصور، وبين النظم الاقتصادية السارية على هذا العصر، وأننا نستطيع من خلال هذه الارتباطات أن نعمق فهمنا للاقتصاد والفكر معا؛ إذ نكتشف في النظم الاقتصادية جوانب وأبعادا أعمق مما توحي جوانبها المادية وحدها، ونهتدي إلى أسس للبناءات العقلية والمعنوية تكمن جذورها في الحياة الواقعية للمجتمع الذي ظهرت فيه.
مجتمعات ما قبل الإقطاع
(1) المرحلة البدائية
لم يعرف الإنسان الملكية الفردية بمعناها الصحيح في المراحل البسيطة الأولى من حياته، بل كان يسود هذه الحياة نوع من التضامن والمشاعية، ناشئ عن صعوبة الظروف التي لم يكن الفرد قادرا على مواجهتها وحده، وعن ضآلة الإنتاج وبساطته، وعدم وجود أي فائض إنتاجي يسمح باستغلال عمل الآخرين؛ لأن العمل كان كله موجها نحو تلبية الحاجات الضرورية المباشرة.
في هذه المرحلة كان الفكر الإنساني يتسم بنفس البساطة والبدائية اللتين كان يتسم بهما الإنتاج؛ فكل حوادث الطبيعة كانت تفسر تفسيرا أسطوريا، يتمشى مع العجز عن فهم الظواهر الكونية وعدم القدرة على كشف أي قانون من قوانينها. وكان العالم يحتشد بالقوى التي تنسب إليها صفات إلهية؛ فهناك آلهة للرعد والمطر والزرع والبحر والخصب والموت ... إلخ، بحيث كان الحد الفاصل بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان يكاد يكون منعدما؛ فالطبيعة تشعر بنفس الأحاسيس الإنسانية، وتتحكم فيها نفس العوامل التي تتحكم في أفراد البشر. وربما كان من الممكن تشبيه فكرة التقارب بين الإنسان والطبيعة وإزالة الحواجز بينهما، بمبدأ الملكية المشاعية السائدة في الاقتصاد البدائي لهذه الفترة. وكان السحر هو التعبير الواضح عن مجتمع يعجز فيه الإنسان عن السيطرة على الطبيعة من خلال فهم قوانينها، فيلجأ إلى القوى الخفية والغيبية التي يتصور أنه يستطيع عن طريقها التحكم في مجرى الأشياء. ومن الملاحظ أن السحر بدوره يفترض نوعا من العلاقة المشاعية المشتركة بين الإنسان والطبيعة؛ إذ إن الطبيعة تخضع لكلمات الإنسان وأوامره وتعاويذه، ويزول كل حد فاصل بين المجال البشري والمجال المادي الخارجي. (1-1) مرحلة الرق
لم يحدث الانتقال من المرحلة البدائية إلى مرحلة نظام الرق مباشرة. بل إن التطور بينهما كان متدرجا وبطيئا إلى أقصى حد. وكانت نقطة التحول هي تقدم القوى الإنتاجية إلى الحد الذي لا يعود الإنسان ينتج فيه من أجل تلبية حاجاته المباشرة، أو الوفاء بضرورات الحياة، بل أصبح إنتاجه عما يحتاج إليه لاستخدامه الخاص. وكان هذا التوسع مؤديا إلى نتيجة ضرورية: هي بداية التقسيم الطبقي للبشر. فبعد أن كان التجانس والمساواة في الفقر هو الطابع المميز للمرحلة البدائية؛ أصبح هناك اختلاف وتميز بين مستويات الناس، نتيجة لبداية ظهور فوائض في الإنتاج تزيد عما يلزم للاستخدام المباشر في المعيشة اليومية، وظهر الفرق بين الغني والفقير أو القوي والضعيف. وكان هذا التميز هو ذاته بداية استغلال الإنسان للإنسان؛ إذ إن تراكم الثروة - ولو على نطاق ضيق - يتيح للغني أن يستعين بالفقراء في استثمار ممتلكاته، ويستغل ضعف مركزهم من أجل فرض شروطه عليهم.
ولم يتخذ هذا الاستغلال شكل الرق في كل الأحوال. بل إن العالم القديم عرف نظما اقتصادية متقدمة بنيت على أساس سلطة استبدادية مطلقة، تتميز فيها طبقة الحكام والكهنة عن عامة الشعب بميزات هائلة. ولكنها لا تتخذ من عامة الشعب عبيدا بالمعنى الصحيح. وفي ظل هذه النظم ازدهرت حضارات هائلة، كانت دعامتها الأولى هي الاقتصاد الزراعي المتقدم، كما هي الحال في الحضارة المصرية القديمة.
أما نظام الرق فكان النموذج الواضح له هو المجتمع اليوناني القديم؛ فعندما اتسع نطاق الحروب التي يخوضها اليونانيون؛ أصبح الأسرى في هذه الحروب يجلبون إلى البلاد لكي يستعان بهم في الأعمال المنزلية في بداية الأمر، واكتسبوا بالتدريج صفة الرقيق الذي يتحكم سيده، لا في عمله فحسب، بل في شخصه أيضا، وأصبح لهذه الصفة أساس قانوني ينظم العلاقة بين السيد والعبد لصالح الأول على طول الخط، وباستمرار التطور أصبح الأرقاء يستخدمون في الإنتاج الاقتصادي، لا في الأعمال المنزلية وحدها، وصاروا يمثلون قوة عمل رئيسية تتولى القيام بالأعمال اليدوية المرهقة، وتوفر على السادة عناء الاحتكاك بالعالم المادي، وتكفل لهم فرص العيش الرغد على حساب «الآلات البشرية» التي تنتج لهم كل ما يحتاجون إليه في معيشتهم، وتضيف إليه فائضا يحقق لهم ما يشاءون من أرباح.
في ظل هذا النظام الاجتماعي بدوره ظهرت حضارات قديمة مجيدة، أعظمها - بلا نزاع - هي الحضارات اليونانية، التي امتدت فترتها المزدهرة من حوالي القرن الثامن قبل الميلاد إلى ما يقرب من ألف عام بعد هذا التاريخ؛ أي إلى القرن الثاني الميلادي، وإن كان العصر الذهبي فيها يمتد - باعتراف المؤرخين جميعا - من القرن السادس إلى القرن الثالث قبل الميلاد.
وعلى الرغم من أن الرق - من حيث هو نظام اقتصادي - ينطوي على استغلال فئة من الناس لفئة أخرى استغلالا تاما يصل إلى حد التحكم في أشخاصهم معنويا وماديا، فإنه كان على الأقل يضمن قدرا كبيرا من الحرية (المعنوية والمادية أيضا) للمواطنين الأحرار. وكان لذلك أثره الكبير في ازدهار الفكر في ذلك العصر. (1-2) مقارنة بين النظم الاستبدادية القديمة ونظام الرق
ولو أجرينا مقارنة بين النظم الاستبدادية - كما عرف في بلاد الشرق القديم - وبين نظام الرق، من حيث مدى تشجيع كل منهما للنهضة الفكرية والعلمية؛ لكانت المقارنة في صالح النظام الثاني؛ ذلك لأن مبدأ الحكم الاستبدادي المطلق كان يطبق على الميدان العقلي والروحي بدوره؛ فالعلم كله تحتكره طبقة من الكهنة، هي وحدها التي تتداول أسراره وتتوارثها، وتحرص على كتمانها عن بقية الناس. ومن المستحيل أن تحدث نهضة فكرية وعلمية شاملة في جو التكتم هذا. وكل ما كان يحتاج إليه الناس هو مجموعة من المعارف العلمية التي تساعدهم على تحقيق أغراضهم المباشرة في الزراعة والعمارة والملاحة ... إلخ؛ ولذلك أحرزت المعارف العملية تقدما كبيرا في بلاد الشرق القديم، تعد الآثار المصرية الباقية نموذجا رائعا له. والأرجح أنه هناك من وراء هذا التقدم العملي فكر نظري لا يستهان به. ولكن هذا الفكر لم ينتشر ولم يتداول؛ نظرا إلى حرص الكهنة عليه كما لو كان أسرارا مقدسة. وهكذا كانت السلطة المطلقة في ميدان المعرفة (وهي انعكاس للسلطة المطلقة في ميدان الحكم) عاملا من عوامل تضييق نطاق التقدم الفكري والعلمي، واستحالة الانتفاع من ثماره على مستوى واسع.
وهنا يظهر الفرق واضحا بين النظام المطلق وبين نظام الرق كما كان مطبقا عند اليونانيين القدماء؛ فهؤلاء الأخيرون كانوا يقسمون المجتمع إلى أحرار وعبيد. ولكنهم لم يقسموه إلى كهنة وأناس عاديين. صحيح أن التقسيم كان حادا وقاطعا في الحالتين. ولكنه كان في الحالة الأولى يتيح فرص المعرفة لعدد من الناس أوسع بكثير، هم المواطنون الأحرار، أن يصلوا إليه، لم يكن معرفة محاطة بهالة من القداسة، بل كان معرفة متاحة للجميع يستطيع أي شخص أن يساهم في تقدمها وينتفع من ثمارها، إذا ما توافرت له القدرة على ذلك.
بل إن طبقة العبيد المستغلة ذاتها كانت تقوم بدور غير مباشر. ولكنه عظيم الأهمية، في التقدم الفكري لليونانيين في ظل نظام الرق؛ ذلك لأن هذه الطبقة كانت تتولى القيام بالأعمال اليدوية المرهقة، التي تتطلب جهدا جسميا كبيرا؛ ومن ثم كانت تعفي الأحرار من القيام بهذا النوع من الأعمال. وهكذا كان ميدان العمل المادي مقفلا أمام المواطنين الأحرار، على حين أن ميدان العمل العقلي كان مفتوحا أمامهم على مصراعيه، بل كان هو الميدان الوحيد الذي يمكنهم أن يمارسوا فيه نشاطهم. (1-3) الطابع الفكري لمرحلة الرق
ويعزو بعض مؤرخي الفكر تقدم التفكير العلمي والفلسفي، وتقدم الآداب والفنون - عند اليونانيين القدماء - إلى هذا العامل بالذات؛ أي إلى عدم اضطرار قطاع كبير من الشعب إلى القيام بأعمال جسمية مرهقة، وتفرغهم للجوانب الروحية والعقلية في الحياة. وربما كان هذا تعليلا مقتصرا على جانب واحد، ولا يشمل كل نواحي الظاهرة التي نتحدث عنها. ولكنه على أية حال تعليل طريف لا يصح تجاهله؛ لأنه يلقي بعض الضوء على ذلك التقدم الهائل الذي أحرزه اليونانيون القدماء في ميادين الفكر والأدب والفن خلال العصر الذي ساد حياتهم فيه نظام الرق.
والأهم من ذلك أن هذا التعليل يفسر لنا «الطابع الخاص» الذي اتخذه الفكر والعلم اليوناني؛ ففي اليونان ولدت الفلسفة. وظهر لأول مرة ذلك النشاط الفكري النظري الخالص الذي لا يبحث عن الحقيقة كما تتمثل في جانب بعينه من جوانب الوجود، بل يبحث عن الحقيقة لذاتها، وبأعم معانيها. وفي اليونان أحرز العلوم النظرية - ولا سيما الرياضيات - تقدما كبيرا. وكلنا يعرف أن هندسة إقليدس - بنظرياتها التي لا تزال تدرس حتى اليوم - هي إنتاج يوناني صرف. ومن جهة أخرى فإن اليونانيين لم يبرعوا في ميدان العلوم التجريبية. بل إنهم نظروا إليها على أنها في مرتبة أقل بكثير من العلوم النظرية؛ لأن هذه الأخيرة علوم يستخدم فيها الإنسان عقله فقط، أما الأولى فيستخدم فيها يده بقدر ما يستخدم عقله؛ وبذلك يكون احتقار العمل اليدوي والمادي قد انعكس على نظرة اليونانيين إلى العلوم، ويكون التقسيم الطبقي للمجتمع اليوناني إلى أحرار وأرقاء قد ولد نوعا آخر من تقسيم العلوم حسب مراتبها؛ بحيث تكون منها علوم تليق بالأحرار، وأخرى لا تليق بهم. ويكفي لكي ندرك أهمية تأثير هذا العامل على التفكير اليوناني أن نقارن نظرتهم هذه إلى العلم بنظرتنا الحالية؛ فنحن اليوم لا نعترف بأي نوع من «الطبقية» بين العلوم، بل نسوي بينها جميعا، ولو نظرنا إلى علم الطبيعة، الذي يقوم اليوم بدور عظيم الأهمية في حياتنا؛ لوجدنا أنه كان في نظر اليونانيين علما غير رفيع؛ لأنه يتطلب اتصالا بالعالم المادي. ومن جهة أخرى فإن العلوم التي تتصل بأحط الموضوعات تحتل في نظرنا مكانة لا تقل عن مكانة تلك التي تتصل بأرفع الموضوعات؛ فعالم الحشرات يمكن أن يؤدي إلى الإنسانية خدمة كبرى لو استطاع أن يقضي على آفة مثل دودة القطن أو قواقع البلهارسيا، وعالم التربة (الطين) يمكن أن يحدث انقلابا في الاقتصاد القومي لو تمكن من تهيئة ظروف تؤدي إلى مضاعفة إنتاج محاصيل معينة. وكل هذه أمثلة تدل على أن عصرنا - الذي تسوده مثل عليا ديمقراطية - لم يعد يعترف بتقسيم العلوم إلى مراتب؛ ومن ثم فإن الاحتمال كبير في أن يكون ازدراء العمل اليدوي وإعلاء قيمة العمل العقلي النظري (وهو ذاته نتيجة مترتبة على التقسيم الطبقي للمجتمع إلى أحرار وعبيد) هو الأصل في تقسيم اليونانيين للعلوم إلى علوم رفيعة وأخرى ليست لها إلا مرتبة دنيا.
ولا شك أن هناك عوامل أخرى، إلى جانب نظام الرق، تضافرت على تحقيق النتائج التي أشرنا إليها؛ فالازدهار الاقتصادي والتبادل المستمر للسلع والاختلاط الدائم بالشعوب الأخرى ونمو النشاط الصناعي والحرفي؛ كل هذه العوامل تساعد على تهيئة الجو للبحث الحر عن الحقيقة في الميدان الفكري والعلمي، وإذا كان نظام الرق هو أسهل الطرق التي توافرت في العالم القديم لتحقيق هدف تحرير فئة من الناس إلى القدر الذي يكفي لجعلها قادرة على ممارسة النشاط العقلي والروحي الخلاق، دون سعي إلى تحقيق منفعة عملية مباشرة، أو إلى خدمة أغراض السحر، أو مساعدة الكهنة على نشر عقائدهم، فإن مجرد تكدس الثروات وتحقيق فائض اقتصادي معقول، يمكن أن يكون بدوره وسيلة لتحقيق هذا الهدف نفسه، ومعنى ذلك أن النهضة العقلية والروحية في اليونان القديمة كانت مرتبطة بالنهوض الاقتصادي الشامل. ولكن الطابع الخاص الذي اتخذته هذه النهضة يصعب تعليله إلا إذا ربطنا بينه وبين انتشار نظام الرق في المجتمع اليوناني. (2) المرحلة الإقطاعية (2-1) السمات العامة للمرحلة الإقطاعية
ليس من السهل أن يأتي المرء بمجموعة من الصفات المميزة للمرحلة الإقطاعية في التطور الاقتصادي؛ إذ إن معظم هذه الصفات تصدق على مجتمعات معينة ولا تصدق على مجتمعات أخرى.
ففي بعض الأحيان يعرف الإقطاع تعريفا زمنيا، فيقال: إنه هو النظام الاقتصادي السائد في العصور الوسطى. ولكن هذا التعريف لا يسري إلا على نظام الإقطاع في أوروبا. أما في كثير من أماكن العالم الأخرى - وضمنها الشرق - فلا زال للإقطاع وجود - بشكل أو بآخر - حتى اليوم. وفي أحيان أخرى يعرف الإقطاع تعريفا سياسيا أو اجتماعيا، فيقال: إنه النظام الذي يستبد فيه المالك الإقطاعي بأقدار كل من يعملون عنده، وتكون له عليهم سلطة مطلقة تعلو على سلطة الدولة ذاتها. ومع ذلك فإن هذا التعريف يتجاهل حقيقة عرفتها أوروبا في بداية عصر التصنيع؛ وهي أن الإقطاع كان في بعض الأحيان أرحم من العصر الرأسمالي في الفترة الأولى من تاريخه؛ لأنه كان يمنح الناس قدرا من الأمن والحماية على الأقل.
كذلك يعرف الإقطاع أحيانا على أساس مركز السلطة فيه، فيقال: إنه ذلك النظام الذي تتفكك فيه السلطة المركزية للحكومة أو تختفي نهائيا؛ لتحل محلها سلطات متعددة ينفرد بكل منها إقطاعي يكون له الأمر والنهي على كل من يعملون في أرضه. ولو صح هذا التعريف لما أمكن القول بوجود مرحلة إقطاعية في البلاد التي ظلت السلطة فيها - طوال تاريخها - في يد حكومة مركزية واحدة، ومن بينها مصر.
وربما كان الأصح أن نربط بين الإقطاع وبين النمط الزراعي في الاقتصاد، فنقول: إنه ذلك النظام الذي يقوم في البيئات الزراعية على أساس علاقات معينة بين المالك الكبير والفلاحين المشتغلين في أرضه، تتسم أساسا بأنها علاقات تسلطية. والواقع أن البيئة الزراعية ضرورية لفهم الإقطاع؛ إذ إن عناصر النظام الإقطاعي لا تكتمل بصورتها المطلقة في الحالات التي يكون فيها مالك الأرض الكبير مشتغلا بمهمة أخرى لا صلة لها بالحياة الريفية، كالعمل في ميدان المال أو التجارة أو الصناعة. كذلك فإن هذه البيئة هي التي تضفي على الإقطاع طابعا خاصا، وتنشر في المجتمع الذي يسوده الإقطاع قيما معينة تظل متأصلة في النفوس حتى بعد أن يتم التخلص - اقتصاديا - من العلاقات غير المتكافئة التي يستتبعها نظام الإقطاع.
ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي تقتضي منا اهتماما خاصا بالمرحلة الإقطاعية؛ ذلك لأن أوروبا بدأت تتخلص من السيادة المطلقة لنظام الإقطاع منذ عصر النهضة الأوروبية؛ أي في حوالي القرن السادس عشر، وسددت الضربة القاضية إلى هذا النظام في عهد الثورة الفرنسية (على المستوى السياسي) وفي عهد الثورة الصناعية (على المستوى الاقتصادي والاجتماعي)؛ بحيث يمكن القول إنها قد تخلصت من آخر آثاره في القرن التاسع عشر. أما بالنسبة إلينا فإن الإقطاع ما زال نظاما يعيش بيننا ويؤثر في عقليتنا وفي قيمنا ونظرتنا إلى العالم. صحيح أننا استطعنا تصفيته منذ اللحظة التي قضى فيها على نظام الملكيات الزراعية الكبيرة بفضل قوانين الإصلاح الزراعي. ولكن من الواجب أن نتذكر أن الإقطاع - بأشكاله المختلفة - ظل هو النظام السائد في بلادنا مئات بل ألوفا من السنين، وأن التصفية المادية للنظام لا تعني التخلص من آثاره المعنوية التي ستظل تلازمنا فترة غير قصيرة من الزمن ما لم نبذل جهدنا من أجل التخلص منها بالعمل الواعي والسعي الدائب.
وطبيعي أن يكون من الصعب الحديث عن الخصائص الفكرية لمرحلة مرت بها البشرية زمنا طويلا كهذا، وانتشرت في بيئات شديدة التباين؛ فمن العسير أن نتحدث عن «إقطاع» واحد في العالم بأسره؛ لأن الإقطاع كان يتخذ أشكالا تختلف باختلاف الظروف المحلية التي ينتشر فيها. وربما كان الأيسر أن نعالج الإقطاع - من الناحية الفكرية - على أنه نوعان: إقطاع غربي وإقطاع شرقي؛ على أن يكون مفهوما أن المقصود بالشرق تلك المنطقة التي نعيش فيها من العالم، لا البلاد الشرقية على إطلاقها. (2-2) الإقطاع في الغرب
من العوامل الأساسية لظهور نظام الإقطاع في أوروبا تلك الحروب الكثيرة التي كان يخوضها الملوك، إما ضد بعضهم، وإما ضد أعداء من الخارج، فلقد أدت هذه الحروب إلى ازدياد أهمية فئة العسكريين المحترفين، وزيادة عدد أفرادها، ونظرا إلى أن الملوك لم يكن لديهم دائما المال الذي يكفي لمكافأة هؤلاء المحاربين - ولا سيما القادة منهم - على خدماتهم، فقد كانوا يمنحونهم قطعا من الأرض جزاء لهم على حسن بلائهم في الحروب، ولم تكن هذه المنح في البداية على شكل ملكية دائمة، بل كانت تعطي المحارب حق الانتفاع من الأرض، ثم تحول هذا الحق فيما بعد إلى ملكية دائمة. ومما ساعد على هذا التحول أن صغار الفلاحين كانوا يجتمعون بالمالك الكبير ضد أخطار الضرائب وعدم الاستقرار، ورغبة منهم في الشعور بمزيد من الأمن. وهكذا كان الفرسان المحاربون من أهم العناصر التي تكونت منها طبقة الإقطاعيين في العصور الوسطى. وكان لهذه الحقيقة أثرها البالغ في صبغ القيم الفكرية في عصر الإقطاع الأوروبي بطابعها الخاص.
ومن ناحية أخرى كان كبار رجال الكنيسة والأديرة يسيطرون على مساحات شاسعة من الأرض، قدمت إليهم بوصفها هبات أو منحا أو هدايا، فضلا عن أن الإعفاءات الضريبية والتسهيلات الكثيرة التي كانوا يتمتعون بها قد ساعدتهم على استثمار ثرواتهم ومضاعفتها، حتى أصبحت أملاك الكنيسة تكون نسبة كبيرة من الأراضي الخاضعة للإقطاع، كما أصبح رجال الدين من أهم عناصر الطبقة الإقطاعية في العصور الوسطى.
ولقد كان هذا الأصل المزدوج لنظام الإقطاع في الغرب؛ أعني انتماء الإقطاعيين إلى فئة الفرسان المحاربين من جهة، وإلى فئة كبار رجال الدين من جهة أخرى؛ كان هذا الأصل المزدوج هو الذي يعلل مجموعة القيم والعادات العقلية التي سادت المجتمع الإقطاعي الغربي في العصور الوسطى. (1)
فقد كانت أهم القيم الأخلاقية في العالم الغربي في العصر الوسيط هي قيم الشجاعة والأرستقراطية والترفع. وتلك هي قيم الفرسان النبلاء من ملاك الأرض، الذين ظلوا يحتفظون بالفضائل العسكرية حتى بعد أن تحولوا إلى الحياة المدنية المستقرة. وفي استطاعة المرء أن يلمس مدى أهمية هذه القيم إذا رجع إلى أي عمل أدبي تدور حوادثه في عالم فرسان العصور الوسطى. وفي كثير من الأحيان كان هذا الترفع الأرستقراطي يتسم بنوع من النظرة الأبوية إلى عامة الشعب. وليس معنى النظرة الأبوية في هذه الحالة وجود نوع من العطف أو المحبة بالضرورة، بل إن المقصود منها هو نظرة المالك الإقطاعي إلى عامة الناس على أنهم من رعاياه، وعلى أنه مسئول عنهم بمعنى ما؛ أي إنه يتخذ القرارات الحاسمة بشأن مستقبلهم. وربما شارك في حل مشكلاتهم إذا كانت طبيعته تسمح له بالاهتمام بهذه المشكلات.
ومما ساعد على اكتمال سيطرة مالك الأرض على الفلاحين، ضعف السلطة المركزية في العصور الوسطى، وعدم وجود حكومة مسيطرة وإدارة حكومية قوية لها سلطة تنفيذية كاملة. وهكذا كان الإقطاع يقوم بمهمة حماية أرواح الفلاحين وممتلكاتهم (إن كانت لهم ممتلكات)، وهو أمر كانت له أهميته البالغة في عصر لم يكن فيه من مصدر للثروة سوى الأرض. وكان دور التجارة والصناعة في الإنتاج محدودا إلى أبعد حد. ولكنه كان يتقاضى ثمن هذه الحماية باهظا؛ إذ كان الفلاحون المشتغلون بأرضه رقيقا لهذه الأرض. وكانت حقوقهم ضئيلة جدا، وواجباتهم باهظة فادحة، ولم تكن أمامهم أية سلطة يحتكمون إليها إذا زاد طغيان المالك الإقطاعي عن الحد؛ إذ كان هذا الإقطاعي هو الخصم والحكم في آن واحد.
ولذلك فإنه إذا كانت قيم الشجاعة والترفع والأرستقراطية هي السائدة في جانب الإقطاعيين، فإن قيم الخضوع والولاء كانت هي السائدة في جانب عامة الناس. وكان النموذج المرغوب فيه لإنسان العصر الوسيط هو نموذج الإنسان الخاضع، الذي لا يتجاوز حدوده ولا يتطلع إلى ما هو أعلى منه، والذي تنحصر أغلى أمانيه في رضاء سيده الإقطاعي عنه. (2)
وقد أسهم رجال الدين بدورهم في إكمال صورة العصر الإقطاعي الغربي، فنشروا بين عامة الناس قيم الزهد، وصوروا حياة الإنسان على هذه الأرض بأنها مرحلة عابرة، لا ينبغي أن يوليها اهتماما كبيرا؛ ومن ثم كانت أفكارهم منصرفة عن هذا العالم زاهدة فيه، ولم تكن لأوجه النشاط المتعلقة بهذه الحياة من قيمة سوى أنها تهيئ الإنسان للحياة الأخرى الباقية؛ على أن هذه القيم كانت - في واقع الأمر - موجهة نحو عامة الشعب؛ أعني نحو أولئك الذين يريد رجال الدين في ذلك العصر أن يظلوا في حالة من القناعة والاكتفاء بأقل القليل. أما رجال الدين أنفسهم فكان الكثيرون منهم يعيشون حياة لا صلة لها على الإطلاق بما يدعون الناس إليه؛ إذ إنهم كانوا يستمتعون بكل مباهج الحياة، ولم يكن إصرارهم على تأكيد قيم الزهد إلا تغطية لنمط حياتهم الذي كان أبعد ما يكون عن الزهد. والمهم في الأمر أن انتشار أفكار الخضوع والولاء والرضا بالقليل كان يرجع إلى تأثير رجال الدين بقدر ما كان يرجع إلى تأثير النبلاء الإقطاعيين. (2-3) دور الإقطاع في حياة الشرق
لا يمثل الإقطاع في الشرق - إذا فهم بمعنى واسع لا بالمعنى الذي كان سائدا في الغرب فحسب - نظاما تاريخيا كان له دوره خلال مرحلة من مراحل التطور ثم انقضى عهده، وإنما هو نظام ما زالت له - في المنطقة التي نعيش فيها من العالم - آثار عميقة، بل لا يزال له وجود فعلي ملموس في كثير من أرجاء هذه المنطقة.
ولسنا نود أن نتحدث عن العوامل المختلفة التي أدت إلى ظهور نظام الإقطاع وتوطده في هذه المنطقة من العالم؛ إذ إن هذا الحديث كفيل بأن يبعد بنا عن غرضنا الأصلي، وهو البحث في الاتجاهات الفكرية والمعنوية التي ترتبت على انتشار نظام الإقطاع. وحسبنا أن نشير إلى أن الامتداد الزمني الهائل لنظام الإقطاع لا يسمح لنا بأن نتحدث عنه كما لو كان نظاما واحدا متجانسا في كل الأحوال، بل كان من الضروري أن يتغير طابعه من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى آخر، وأن يتداخل أحيانا مع نظم أخرى سابقة على الإقطاع كنظام الرق، وأحيانا أخرى مع نظم لاحقة له كالنظام الرأسمالي.
ولذلك كان يكفينا؛ لكي نحقق أغراض بحثنا الحالي، أن نشير إلى نظام الإقطاع بوصفه ذلك النظام الذي يرتبط أساسا بالحياة الزراعية، والذي يتسم بعلاقات اقتصادية واجتماعية بعيدة كل البعد عن التكافؤ بين ملاك كبار من ناحية، وبين فلاحين مستعبدين بدرجات متفاوتة، وينبغي أن نتنبه في هذا الصدد إلى أن آثار هذا النظام تظل تطبع الحياة الريفية بطابعها الخاص، حتى بعد أن يطرأ تحول أساسي على نمط الملكية الزراعية، ولا يعود الملاك الإقطاعيون مسيطرين على أقدار الفلاحين؛ ذلك لأن التغير في النظم التشريعية أيسر وأسرع بكثير من تغير العقليات الاجتماعية؛ ومن هنا كانت العادات القديمة تظل مستحكمة في النفوس بعد فترة طويلة من زوال النظم التي أدت إلى ظهورها.
ولنقل - بعبارة أصرح: إننا في الوقت الذي قضينا فيه على الإقطاع من حيث هو نظام اقتصادي تتسم العلاقات الاجتماعية فيه بطابع معين، لم نستطع بعد أن نقضي على العادات الفكرية والاتجاهات المعنوية التي يولدها نظام الإقطاع. بل إننا حتى في حياتنا الحضرية قد انتقلنا إلى المدن حاملين تراثا كاملا من الأفكار والاتجاهات الريفية المرتبطة بعصور إقطاعية عميقة الجذور، فكانت النتيجة أننا أصبحنا في كثير من الأحيان نحيا حياة مزدوجة بالمعنى الصحيح؛ فنمارس في المدن أعمالا ترتبط في صميمها بالعصر الحديث كإدارة دفة الأداة الحكومية أو الاشتغال في مصنع أو شركة تجارية. ولكنا نمارس هذه الأعمال بعقليات وقيم موروثة من بيئة هي في صميمها ريفية، بل هي في صميمها إقطاعية.
ولا شك أن لهذا الازدواج أخطاره وأضراره؛ إذ إنه يحدث انفصاما معنويا في المجتمع، بين طبيعة الواقع الذي يعيش الناس فيه ونوع العقلية أو النفسية التي يواجهون بها هذا الواقع ويحاولون حل مشاكله؛ ولذلك فإننا حين ندرس العادات والاتجاهات العقلية التي ترتبط بالنظام الإقطاعي أو تتولد عنه، لا ندرس مرحلة غابرة من التاريخ، بل ندرس واقعا لا يزال يحيا بيننا حتى اليوم، وما زال يمارس تأثيره في سلوكنا على الرغم من اختفاء النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي أدى إلى ظهوره، فلنحاول أن ندرس - بشيء من التفصيل - نوع العادات والقيم التي يولدها النظام الإقطاعي في المجتمع؛ لكي تتضح لنا عن طريقها كثير من مظاهر عدم التوازن في حياتنا الراهنة، وتستبين من خلالها وسائل التخلص من هذا الاختلال. (2-4) السمات المعنوية للحياة في ظل الإقطاع
ومن الواجب أن تكون نقطة بدايتنا في دراسة السمات العقلية المتولدة عن نظام الإقطاع هي تلك الحقيقة التي أشرنا إليها من قبل؛ وأعني بها أن نظام الإقطاع مرتبط أساسا بالحياة الريفية الزراعية. ولا شك أن طول المدة التي ظل فيها الإقطاع سائدا في الريف قد أدى إلى تداخل وثيق بين العلاقات الاجتماعية الإقطاعية وبين نمط الحياة الريفية بوجه عام؛ بحيث يمكن القول إن قدرا غير قليل من معالم الحياة في الريف - كما نعرفها حتى يومنا هذا - قد تحدد عن طريق نظام الإقطاع، كما يمكن القول من ناحية أخرى إن السمات الرئيسية المميزة للعقلية التي تعيش في ظل الإقطاع قد تشكلت نتيجة لظروف البيئة الزراعية التي لا يسود هذا النظام إلا فيها. (1)
أولى السمات التي تلفت الأنظار في البيئة الريفية التي يسودها الإقطاع - والتي تؤثر تأثيرا قويا على العقليات في هذه البيئة - هي بساطة نمط الحياة وبطء إيقاعها. وصحيح أن هذه سمة مشتركة بين كل المجتمعات الزراعية. ولكن نزوع المجتمع إلى الثبات ومحاربته للتجديد من الصفات التي تزداد وضوحا في المجتمع الإقطاعي على وجه التخصيص؛ ذلك لأن الإقطاع بطبيعته نظام راكد، يحرص أصحاب السلطة فيه على الاحتفاظ بنفوذهم وسيطرتهم، ويؤمنون - عن حق - بأن شيوع الاتجاه إلى التجديد في أي ميدان من ميادين الحياة الاجتماعية يمكن أن تنتقل عدواه إلى سائر الميادين؛ ومن ثم فإنه يهدد سلطتهم ذاتها بالخطر.
في مثل هذا المجتمع تتخذ أساليب الإنتاج ذاتها طابعا ثابتا، ولا توجد أية حوافز للتجديد، وينعكس ذلك مباشرة على العقول، فتكون النتيجة أن تتسم طرق التفكير بالثبات، وتتسم العادات الاجتماعية والقيم الأخلاقية بالجمود والتحجر. وإلى هذا العامل يرجع قدر كبير من النفور من التجديد في مجتمعاتنا الريفية، والاعتقاد بأن الأحوال السائدة في المجتمع المحلي هي أوضاع أزلية، كانت ولا تزال موجودة في كل مكان وزمان. ولا جدال في أن ضيق نظام التجارب في المجتمع الريفي يقوم بدور هام في هذا الصدد؛ إذ إن الانفتاح على العالم الخارجي، وتبادل الخبرات مع الشعوب والمجتمعات الأخرى، ظل حتى عهد قريب أمرا عسيرا بالنسبة إلى معظم المجتمعات الريفية في العالم، وزاد تحجر نظام الإقطاع من إحكام هذه العزلة، فكانت النتيجة هي ما نلمسه في المجتمعات الريفية من ارتياب وتشكك في أي نمط من أنماط السلوك أو الاعتقاد يخالف النمط الشائع في المجتمع المحلي، والنظر إلى كل تجديد على أنه بدعة لا تشكل انحرافا فرديا فحسب، بل تمثل خروجا على تقاليد المجتمع ذاته وتحديا وإهانة له. (2)
ويرتبط بالسمة السابقة مباشرة تقديس الماضي على حساب الحاضر والمستقبل؛ ففي المجتمع الذي يسوده النزوع إلى الثبات، والنفور من التغير والتجديد. تعد عبادة الماضي ظاهرة لا مفر منها. وهذه بدورها ظاهرة نلمسها في كافة المجتمعات الريفية عامة، حيث لم تتغير أساليب الإنتاج إلا في عشرات السنين الأخيرة، بينما ظلت عشرات القرون تكاد تكون ثابتة. ولكن المجتمع الإقطاعي يضيف إلى هذا التعليل العام سببا آخر؛ ذلك لأن زمام السيطرة في هذا المجتمع يقع في قبضة أناس يتجهون، بحكم وضعهم الاجتماعي، إلى تكريم الأسلاف والإشادة بماضيهم؛ فالمالك الإقطاعي الكبير يدين بثروته ونفوذه - في معظم الأحيان - للوراثة، وكثيرا ما تكون ممتلكاته موروثة من أسلاف بعيدين. بل إن لقبه ذاته قد يكون موروثا من أجداد سبقوه بمئات من السنين. وهكذا فإن أمجاده كلها مرتبطة بالماضي، وكل قيمة للحاضر إنما تستمد في نظره من علاقته بهذا الماضي، ولما كان الأعيان الإقطاعيون هم المسيطرون في مثل هذا المجتمع، فإن طرق تفكيرهم وقيمهم الأخلاقية هي التي تنتشر وتطبع صورتها على المجتمع ككل؛ ومن هنا تتعلق الأذهان في مثل هذا المجتمع بالماضي، وتنظر إلى المستقبل - الذي يحمل في طياته دائما احتمالات التغيير - بعين الارتياب. بل إنها لا ترضى عن الحاضر ذاته إلا بقدر ما يكون انعكاسا للماضي، وترى أن القديم أفضل دائما من الجديد، وأن ما انقضى عهده لا يمكن أن يعوض. وحين تصبح هذه الطريقة في التفكير ظاهرة عامة، يؤمن بها الإقطاعيون والفلاحون على حد سواء، يكون معنى ذلك أن أصحاب المصلحة في التغيير يعملون - عن غير وعي منهم - على محاربة التغيير، وعلى تأكيد حقوق الغاصبين الذين يعد التعلق بالماضي عاملا أساسيا من عوامل تثبيت سلطتهم وإحكام قبضتهم على المجتمع.
ويمكن القول: إن كل إفراط في التعلق بالتراث الماضي، في مجتمع معين، إنما هو - في جانب من جوانبه - أثر من آثار هذه العقلية الإقطاعية التي تدين بمبدأ عبادة الأسلاف. صحيح أن من حق كل شعب - بل من واجبه - أن يتذكر أمجاده الماضية ويستمد منها قوة تعينه على النهوض بحاضره. ولكن حين يصل تقديس التراث الماضي إلى حد الإلحاح المريض على هذه الأمجاد مع نسيان الحاضر نسيانا تاما، وإلى حد الاعتقاد بأن تذكير الناس بماضيهم يكفي وحده لتعويض كل نقائص حاضرهم؛ فعندئذ لا تعود عبادة الماضي عاملا من عوامل نهضة الأمة، بل تصبح عائقا في وجه تقدمها.
وحسبنا أن نشير إلى أن هذا التعلق المفرط بالماضي ينطوي ضمنا على إنكار لمبدأ التقدم، بل على إيمان بإمكان هذا التقدم، فمثل هذا المجتمع يرى أن كل علامات التقدم المحيطة به إنما هي مظاهر خادعة، ويعتقد أن مضي الزمن لا يؤدي إلى زيادة تدهور البشرية، أو على أحسن الفروض: يتركها على ما هي عليه، دون أن يخطو بها إلى الأمام خطوة واحدة. ولا جدال في أن هذه النظرة التشاؤمية مرتبطة أوثق الارتباط بالنزعة الرجعية السائدة في عصور الإقطاع؛ إذ إن بقاء الأوضاع على ما هي عليه، أو على ما كانت عليه في الماضي، هو خير ضمان للمحافظة على مكاسب الإقطاعيين واستمرار سيطرتهم على المجتمع.
هذه الظاهرة تتمثل في بعض المجتمعات التي ظلت خاضعة أمدا طويلا لسيطرة الإقطاع (فضلا عن أنها تنتشر أيضا في المجتمعات التي كان للنظام القبلي فيها دور هام في تحديد طبيعة العلاقات الاجتماعية). وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على عجز عن التكيف مع الواقع، أو على رغبة لا شعورية في الهروب منه. وحين تتخذ عبادة الماضي طابعا متطرفا فإنها تصبح عاملا من عوامل تخدير المجتمع وصرف أنظاره عن مشاغله الحاضرة وعن واجباته في المستقبل؛ ولذلك كان لزاما على كل مجتمع يتطلع إلى إحداث تغيير ثوري في حياته أن يجعل لتأثير ماضيه حدودا لا يتعداها. وأفضل ما يمكن عمله في هذا الصدد هو أن يتخذ من ماضيه قوة تعينه على السير قدما نحو مستقبل أفضل. وهذا أمر لا يصعب إنجازه؛ إذ إن قدرة الأمة على اكتشاف نفسها والاهتداء إلى هويتها الأصلية تعد من أهم العوامل التي تساعدها على النهوض في مستقبلها. بل إن البعض يرى أن تعمق الأمة في معرفة ماضيها وفهم أبعاد شخصيتها يعينها حتى في عمليات التنمية ذاتها، سواء أكانت تلك تنمية اقتصادية أم اجتماعية. في هذا الإطار يعد التعلق بالماضي والسعي إلى استكشاف أبعاده أمرا مشروعا. أما الوقوف عند حدود هذا الماضي دون النظر إلى متطلبات الحاضر وأهداف المستقبل فمظهر من مظاهر عقلية معتلة ربما كان من أهم أسباب تكوينها انتشار عادات التفكير التي ترجع إلى العصور الإقطاعية. (3)
ومن الطبيعي أن يؤدي هذا النمط الاجتماعي السكوني المتحجر - الذي يسود عصور الإقطاع، والذي يربط العقول بعجلة الماضي أكثر مما يوجهها نحو المستقبل - إلى شيوع التزمت وضيق الأفق في مجال الفكر؛ ففي مثل هذا المجتمع لا يوجد للشك مجال؛ ذلك لأن كل الأسئلة تجد إجابات معدة سلفا، متفقا عليها بما يشبه العرف، والمفروض أن تكون هذه الإجابات كافية، وألا يثار من الأسئلة إلا ما يوجد عنه مثل هذه الإجابات. أما حالة الشك العقلي أو التردد أو عدم الجزم (وهي المعروفة فلسفيا باسم «اللاأدرية») فغير مقبولة في مجتمع كهذا؛ ذلك لأن الشك هو أول خطوات السعي إلى التغيير، الذي هو أكبر المحرمات في المجتمع الإقطاعي. وفي مثل هذا المجتمع لا يسمح لأحد بأن يظل معلقا بين الشك واليقين؛ لأن كل الحقائق التي يسمح بمعرفتها ينبغي أن تكون يقينية وأن تقبل بلا مناقشة.
أما الآراء المعارضة فإن التسامح معها يؤدي إلى انهيار أسس المجتمع الإقطاعي؛ ومن هنا كان مبدأ التسامح ذاته من المبادئ التي لا يعترف بها مجتمع كهذا، ويصدق ذلك على مجال العلم والفكر، مثلما يصدق على مجال السياسة. فكما أن الحريات الفردية لا يسمح بها في المجال السياسي، فكذلك لا تبدي السلطات المسيطرة على المجتمع تسامحا فكريا مع الرأي الذي يخالف العرف المتفق عليه، وتعمل على كبت روح النقد والتحليل العقلي.
على أننا لسنا بحاجة إلى جهد كبير لكي ندرك أن عددا هائلا من أعظم الكشوف التي توصلت إليها البشرية لم يظهر إلا لأن هناك عقولا سيطرت عليها - في البداية على الأقل - روح الشك في المعرفة القائمة، ولم تقتنع بالإجابات السهلة التي يرد بها على تساؤلات العقول، بل لم تكتف أصلا بالنسبة التي يشيع طرحها، وإنما طرحت أسئلة جديدة، وحاولت أن تهتدي بنفسها إلى الإجابة الصحيحة عنها. وهذا يعني أن التزمت الفكري الذي يسود هذه المجتمعات سيساعد - بدوره - على بقائها في حالة الجمود والتحجر التي أشرنا إليها من قبل بحيث يكون عدم التسامح وضيق الأفق سببا ونتيجة لهذا الجمود في آن واحد. ولعل في هذا ما يكفي لتفسير ظاهرة انعقد عليها إجماع المؤرخين؛ وهي أن أي عصر من عصور الإقطاع لم يشهد تقدما علميا أو فكريا بالمعنى الصحيح، بل حدث هذا التقدم، جزئيا، في بعض العصور السابقة على الإقطاع، ثم تحقق معظمه في العصور اللاحقة له. وكان العامل الأساسي الممهد لهذا التقدم هو التخلص من تزمت العقلية الإقطاعية، والاعتراف بمبدأ التسامح الفكري. فمنذ اللحظة التي أدرك فيها المجتمع أن الشك في المعرفة والآراء السائدة ليس جريمة، وإنما هو دليل على حيوية الفكر. وقد يكون هو الخطوة الأولى نحو الوصول إلى كشف جديد؛ منذ هذه اللحظة أصبح التقدم مسألة وقت فحسب. ولكن لا بد للاعتراف بحق الغير في إبداء آراء مخالفة، ولإدراك قيمة المعارضة الفكرية في النهوض بالمعرفة البشرية في كافة مجالاتها؛ لا بد لذلك من التخلص من بقايا العقلية الإقطاعية بما تفترضه من مجتمع نمطي موحد التفكير. (4)
وإذا كان إنكار مبدأ الشك وعدم التسامح هو الوجه السلبي للعقلية السائدة في عصور الإقطاع، فإن الوجه الإيجابي لهذه الظاهرة نفسها هو الإيمان المفرط بالسلطة؛ ففي جميع مجالات الحياة توجد سلطة نهائية يرجع إليها، وتكون لها الكلمة الأخيرة في كل أمر يختلف عليه الناس.
ولا شك أن فكرة السلطة هذه مستمدة أصلا من وضع المالك الإقطاعي في المجتمع، الذي تكون لديه بالفعل سلطة مادية على ساكني إقطاعيته، كما تكون لديه سلطة معنوية عليهم، تتمثل في إطاعتهم لأوامره وسعيهم إلى محاكاته والرجوع إليه من أجل حل مشكلاتهم. هذا النمط من السلطة يمتد بحيث يسري على سائر المجالات؛ ففي الأمور العقلية بدورها يكون هناك مصدر معين للسلطة يحتكم إليه المشتغلون بالعلم في كل مسألة يريدون استجلاء غوامضها. وقد يكون هذا المصدر شخصا حيا. ولكنه في معظم الأحيان حكيم من الحكماء السابقين الذين تطمئن العصور الإقطاعية إلى آرائهم ، بعد أن تصبغها بصبغة متحجرة، كما هي الحال بالنسبة إلى أرسطو في العصور الوسطى.
على أن نوع الشخص - ماديا كان أم معنويا - الذي يتخذ منه المجتمع سلطة، لا يهمنا بقدر ما يهمنا مبدأ السلطة ذاته؛ فنتيجة لانتشار هذا المبدأ، يصبح منهج التفكير المعترف به هو إرجاع الجديد إلى القديم، ويضيع عنصر الابتكار الفردي في التفكير. بل إن الإبداع الفردي أمر لا يعترف به أصلا في المجتمع الإقطاعي؛ فكل ما يتم إنجازه في مثل هذا المجتمع يتحقق عن طريق جماعات، لا عن طريق أفراد. أو لنقل بعبارة أدق: إن الفرد لا ينجز في هذا المجتمع شيئا بصفته الفردية، بل بوصفه عضوا في جماعة كبيرة تمحى فيها شخصيته الفريدة المميزة؛ فالفرد لا يتميز إلا من حيث هو عضو في طائفة دينية معينة، أو مشتغل في إقطاعية معينة، أو ينتمي إلى جماعة حرفية معينة. وحتى الإبداع الفني الذي تعد الفردية - في نظر الإنسان الحديث - شرطا أساسيا لتحققه، حتى هذا الإبداع كانت تمحى فيه شخصية الفنان، الذي لم يكن يقوم بعمله الفني إفصاحا عن مشاعره الخاصة، أو رغبة منه في التعبير عن نفسه، وإنما كان يقوم به خدمة لأغراض الطائفة الدينية التي ينتمي إليها، أو تخليدا لاسم الحاكم الذين يدين له بالولاء، أو غير ذلك من الأغراض التي لم تعد لها مكانة هامة - أو لم تعد لها مكانة على الإطلاق - عند الفنان ذي النزعة الفردية في عصرنا الحديث.
ومجمل القول: إن العصور الإقطاعية لم تعترف بالفرد من حيث هو كيان مستقل. بل إنها كانت دائما تدمج الفرد في كيان أوسع تذوب فيه شخصيته الخاصة. وكان على الفرد أن ينظر إلى المبادئ التي تحكم عمل هذا الكيان الأوسع - سواء أكان إقطاعية أم طائفة دينية أم جماعة حرفية - على أنها سلطة لا تناقش، وأن يرجع إليها كلما تشعبت أمامه المسالك والتبست الأمور؛ ليجد لديها الكلمة الأخيرة في كل ما يريد أن يعرفه أو يبت فيه.
وفي مثل هذا الجو العقلي يستحيل أن تتقدم عملية البحث عن الحقائق؛ إذ إن كل شيء يرد إلى أصول معترف بها من قبل، وتتوقف قيمة النتائج التي يتوصل إليها المرء، لا على قدرتها على إقناع العقل، بل على قوة السلطة التي ترتكز عليها. وهكذا تظل الملكات العقلية للإنسان في حالة خمول وتعطل، ويشيع الاعتراف بمنهج القياس؛ أعني منهج إرجاع كل واقعة جديدة إلى واقعة أخرى أعم تكون معروفة سلفا، وتنحصر قيمة كل إنسان في مدى قدرته على الاستشهاد بآراء الغير، وبالعبارات المحفوظة عن الأجداد والأسلاف، أو المنقولة حرفيا عن أقوال أولي الأمر، لا في قدرته على استخدام عقله من أجل توسيع معارفه والارتقاء بحصيلة المجتمع الإنساني من العلم، ومن فهم العالم الطبيعي والاجتماعي المحيط به. (5)
ولقد كانت النتيجة المباشرة لسيادة أسلوب التفكير القائم على فكرة السلطة، هي شعور الفرد بالاستسلام والعجز عن تغيير أي وضع من الأوضاع التي يجدها سائدة في المجتمع، بل لقد كان الفرد يحس بأن هذه الأوضاع لا تقبل التغيير أصلا؛ فهي أوضاع أزلية لا يملك المرء إلا أن يقبلها على ما هي عليه.
ولقد كان البعض يعمد أحيانا إلى تفسير المبادئ الدينية تفسيرا باطلا يساعد على تقوية هذا الشعور بالعجز عن تغيير الواقع، وذلك عن طريق الدعوة إلى فهم معين لأفكار مثل القضاء والقدر، يزيد من إحساس المرء بأن ما يحيط به في العالم مقدر له منذ الأزل أن يكون على ما هو عليه، وأن جهود الإنسان في هذه الحياة لن تجدي فتيلا؛ لأن كل شيء يسير في طريق مرسوم محتوم لا يملك الإنسان إزاءه شيئا. بل إن بعض المفكرين يرون أن هذا التفسير المتطرف للقدرية إنما هو التعبير المباشر - في المجال الديني - عن الرغبة في الإبقاء على الأوضاع السائدة في العصر الإقطاعي على ما هي عليه، وصبغها بصبغة أزلية لا تتغير ولا تتبدل؛ فحين يصبح كل حادث أمرا يستحيل على الإرادة الإنسانية أن تتدخل فيه أو تعمل على تغييره، يكون معنى ذلك أن النظم الاستبدادية الظالمة في المجتمع هي بدورها شيء مقدر منذ الأزل، وأن الإنسان لا يملك إلا أن يتركها على ما هي عليه. وبعبارة أخرى: فإن التفاوت الهائل بين الطبقات، والاستغلال البشع الذي تمارسه الطبقة المالكة على الطبقات الدنيا في المجتمع، ينظر إليه في هذه الحالة على أنه تعبير عن المشيئة الإلهية، التي ينبغي أن يقبلها الإنسان دون أدنى اعتراض. وليس هناك ما هو أبعد من هذا التفسير عن الفهم السليم لجوهر العقائد الدينية، التي كانت كلها تستهدف إقرار العدالة ومحاربة كافة أشكال الظلم. وليس هناك أيضا ما هو أحب إلى الطبقات العليا المسيطرة، وأقرب إلى تحقيق أهدافها ومصالحها، من هذه الدعوة التي تؤكد استحالة تجاوز الفوارق بين طبقات المجتمع، وتشيع بين الناس الاعتقاد بأن النظام الاجتماعي ينتمي إلى مجال الأمور الأزلية المقدرة سلفا، وأنه جزء من النظام العام للكون، وأن الإنسان - مثلما يعجز عن أن يجعل الشمس تشرق من الغرب - لا يمكنه أن يتدخل في تغيير الفوارق الاجتماعية التي نظمت بها حياة الناس منذ الأزل.
فهل من المستغرب بعد ذلك أن نجد أصحاب السيطرة في المجتمعات الإقطاعية يشجعون أمثال هذه التفسيرات الباطلة للعقائد الدينية؟ لا جدال في أن الارتباط واضح بين مصالحهم الشخصية وبين انتشار الدعوة القائلة بأن الشكل الجائر للنظام الاجتماعي هو جزء من نظام الكون؛ ومن هنا فقد أصبحوا، على مر التاريخ، حماة لأصحاب هذه الآراء الباطلة، وكونوا معهم تحالفا وثيقا، بل لقد تداخلت الفئتان تداخلا وثيقا، كما حدث في أوروبا عندما أصبح رجال الدين في العصور الوسطى هم في الوقت ذاته من كبار الإقطاعيين، وصار دفاعهم عن فكرة ثبات النظم الاجتماعية القائمة وأزليتها دفاعا عن مصالحهم الخاصة، لا عن مصالح حلفائهم فحسب. (6)
وأخيرا، فإن تأثير هذه المصالح قد انعكس على التصور الديني لكثير من المجتمعات الإقطاعية في صورة أخرى، أسهمت بدورها في تشكيل عقول أفراد هذه المجتمعات بصورة مميزة؛ تلك هي إدخال نوع من التفاوت أو التسلسل في المراتب في المجال الروحي ذاته، فهناك مجتمعات تتصور الألوهية عالية مترفعة عن عالم البشر، وتقيم نوعا من تدرج المراتب بين هذه الألوهية وبين عامة الناس؛ فبعد الله يأتي الأنبياء والقديسون، ثم كبار الكهنة أو رجال الدين، ويتدرج الترتيب بعد ذلك حتى يصل آخر الأمر إلى الإنسان العادي.
ولا بد للارتقاء إلى كل مرحلة من هذه المراحل من المرور بالمراحل السابقة؛ أي إن الإنسان العادي لا يستطيع مثلا أن يتقرب إلى الله، أو يحظى بشفاعة أحد القديسين، إلا عن طريق الكاهن الذي يتوسط بينه وبينهم.
والدليل على أن هذه النظرة إلى الدين انعكاس لنظام اجتماعي يتسم أيضا بالتدرج وتفاوت المراتب، هو أن هناك نظرات أخرى إلى الدين تختفي فيها هذه الحواجز، ويشيع فيها التقارب بين الله والإنسان؛ إذ يعد الله قريبا من البشر، مستجيبا ومعينا لهم. بل إن بعض المذاهب الدينية تؤكد حلول الله في العالم، وإمكان اتحاد الإنسان به إذا ارتقى إلى مستوى معين من الروحانية. هذه الفكرة الأخيرة ترتبط بنظرة أكثر ديمقراطية إلى المجتمع البشري؛ لأنها لا ترتكز على تأكيد الفوارق في المرتبة بين الموجودات، ولأنها تعطي الإنسان العادي أملا في بلوغ أهداف العقيدة الدينية دون حاجة إلى واسطة. وبالفعل سادت هذه النظرة في العصور التي كانت أقرب إلى الروح الديمقراطية، على حين أن فكرة تسلسل المراتب من الأعلى إلى الأدنى كانت مقترنة بالتفاوت والفوارق التي هي أول خصائص المجتمع الإقطاعي. (3) المرحلة الرأسمالية
مقدمة
لم يكن الانتقال من نظام الرق إلى المرحلة الإقطاعية انتقالا مفاجئا، ولم يكن يمثل ثورة إنتاجية وعقلية بالمعنى الصحيح؛ ذلك لأن القوى المنتجة في نظام الإقطاع - وهي رقيق الأرض - لم تكن تختلف كثيرا عن العبيد في نظام الرق القديم. كذلك فإن شكل الإنتاج لم يطرأ عليه تغير أساسي؛ إذ إنه ظل في أساسه زراعيا، فضلا عن أن حجم الإنتاج كان محدودا. وكانت أساليبه لا تختلف كثيرا في بساطتها عن نظيرتها في نظام الرق.
أما الانتقال من المرحلة الإقطاعية إلى المرحلة الرأسمالية فكان انتقالا حاسما بحق؛ فقد طرأ على شكل الإنتاج تحول أساسي؛ بحيث لم تعد الزراعة هي المصدر الأساسي لثروة المجتمع، بل حلت محلها الصناعة، التي لم يكن لها في المراحل السابقة إلا دور محدود، يناظر الأساليب الساذجة التي كانت تستخدم في ممارسة الحرف اليدوية. كذلك فإن القوى الإنتاجية قد طرأ عليها تغير أساسي، يتمثل في الانتقال من رقيق الأرض إلى العامل الأجير. ولعل أهم مظاهر هذا التغير هو أن الاستبداد الذي كان يحل على رقيق الأرض أو حتى على العبد كان منصبا عليه مباشرة من حيث هو «شخص». أما العامل الأجير فقد أصبح يخضع لنوع غير مباشر من الاستبداد، لا ينصب على شخصه، بل عليه من حيث هو ينتمي إلى «طبقة»؛ فصاحب العمل لا يستغل هذا العامل أو ذاك على وجه التحديد، بل هو يستغل العمال من حيث هم أجيرون؛ أي من حيث إن لهم وضعا طبقيا خاصا.
ولقد كان من الطبيعي أن ينعكس تأثير هذه التغيرات الحاسمة على العادات العقلية والنزعات الفكرية للإنسان في العصر الرأسمالي. ومع ذلك فإن هذه التغيرات لم تحدث دفعة واحدة، بل حدثت متدرجة على مراحل متعددة، يختلف تعدادها باختلاف وجهة النظر المتبعة في بحثها؛ على أننا نستطيع - بالنسبة إلى أغراض بحثنا - أن نلمح فارقا أساسيا بين مرحلتين للرأسمالية، كانت لكل منهما خصائصها المميزة (مع وجود سمات هامة مشتركة بينهما بطبيعة الحال)، هما مرحلة الرأسمالية المبكرة، ومرحلة الرأسمالية المكتملة، وسوف ندرس كلا من هاتين المرحلتين من الزاوية التي ينصب عليها موضوع هذا الفصل؛ وأعني بها التأثير الفكري والمعنوي الذي يترتب على كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي. (3-1) الرأسمالية المبكرة
كانت أهم المعالم التي تنبئ بانهيار المرحلة الإقطاعية وبداية ظهور مرحلة جديدة في التطور الاجتماعي هي: (1)
ظهور فئة منتجة مستقلة هي فئة «الصناع»، التي يمكن أن يعد ظهورها مرحلة وسطا بين الاقتصاد الإقطاعي الذي كان زراعيا، ولم يكن يعرف إنتاجا حرفيا منظما، وبين المرحلة الصناعية المكتملة في العصر الحديث. هذه الفئة لم تكن قد انفصلت تماما عن الواقع الذي تنتج فيه ومن أجله، بل كانت لا تزال لها صلات قوية بإنتاجها وبالأغراض التي تنتج من أجلها. (2)
ظهور نمط اقتصادي لا يستهدف الاستهلاك في نفس الوحدة المنتجة؛ أي ظهور البوادر الأولى «للسوق»، التي ينفصل فيها المنتج عن المستهلك. ومع ذلك فإن المعالم الكاملة للسوق، من حيث هي كيان لا شخصي مجهول لا يعرف العامل المنتج عنه شيئا سوى أنه قوة تتحكم فيه دون أن يدري عنها شيئا؛ هذه المعالم لم تكن قد تحددت بعد بوضوح في هذه الفترة. (3)
ولعل أهم مظاهر التحول إلى المرحلة الجديدة هو ظهور التاجر من حيث هو قوة رئيسية في الاقتصاد، تتحمل مخاطرة الشراء من المنتج لكي تبيع لمستهلك لا صلة له بهذا المنتج. ومن المعترف به أن التجارة قد عرفت منذ أبعد العصور. ولكن دورها في هذا العصر كان متميزا: فقد أصبح التاجر يعتمد على نوع جديد من الثروة لم يكن يعرفه العصر الإقطاعي الذي كانت ملكية الأرض فيه هي الشكل الوحيد المعروف للثروة. هذا النوع الجديد هو رأس المال التجاري الذي أصبحت له أهمية فعالة في شراء المواد والأدوات اللازمة للإنتاج ولتخزين المنتجات، فضلا عن أهميته في الائتمان والمعاملات المصرفية.
والواقع أن الدور الأكبر الذي قام به التاجر في تطوير الاقتصاد نحو المرحلة الرأسمالية، كان يتمثل في تأكيده لأهمية المال كقوة جديدة لها وزنها الفعال في المجال الاقتصادي. فبعد أن كانت الأرض وقوة العمل التي يبذلها فيها الفلاحون هي المصدر الأساسي لإنتاج الثروة في المجتمع، أصبح هناك مصدر جديد لا صلة له بأي شكل مباشر من أشكال الإنتاج (لأن المال النقدي لا يستطيع - بذاته - أن ينتج شيئا). ولقد كان هذا المصدر الجديد هو الذي أعطى المرحلة الرأسمالية شكلها المميز، وهو نقطة البداية في تحديد المعالم الرئيسية لهذه المرحلة الجديدة. (أ) تأثير التعامل النقدي
لكي ندرك قوة التأثير المادي والمعنوي الذي أحدثه التعامل النقدي في العصر الرأسمالي المبكر، ينبغي علينا أن نبدأ بكلمة موجزة نعرض فيها لطبيعة النقود من حيث هي قوة اقتصادية؛ فالنقود وسيط يتم عن طريقه التبادل، وهي وسيلة لتخزين الثروة ومقياس للقيمة، وإن كانت مقياسا متقلبا لا يتسم بالثبات. وقد كانت النقود تتخذ في البداية شكل قطع من المعدن (كالذهب أو الفضة أو النحاس) توزن عند إجراء كل تعامل أو صفقة، ثم صنعت قطع من المعدن لها وزن ثابت وسمك معلوم، وأصبحت الحكومات ضامنة لها، وبهذه الوسيلة أصبح تبادل السلع أيسر بكثير مما كان عليه في نظام المقايضة؛ إذ إن هذا النظام الأخير يحتم على الشخص الذي يريد استبدال سلع أن يجد شخصا آخر لديه ما يريد من السلع، ويريد ما لديه منها، وهو شرط لا يمكن تحقيقه في كل الأحوال؛ ولذلك كانت النقود عاملا حاسما في ازدهار التجارة، وفي تعميق تقسيم العمل وتوسيع نطاقه. وقد يسرت النقود تكديس الفوائض في الثروة، وبالتالي تكوين رأس المال؛ وذلك لسهولة تخزينها وإمكان جمعها في حيز محدود؛ ولأنها لا تفسد كالحاصلات الزراعية مثلا، فضلا عن سهولة نقلها من مصادر متعددة؛ بحيث يصبح من السهل جمع مدخرات أناس كثيرين في مكان واحد واستغلالها في مشروع أوسع نطاقا.
ولا يمكن القول: إن هذا التعامل النقدي قد بدأ لأول مرة في الفترة التي نتناولها هنا بالعرض؛ إذ إن بوادره الأولى قد بدأت منذ الحضارات القديمة: كالحضارة السومرية، التي ظهرت فيها أول بدايات نظام الائتمان ودفع الفوائد لقاء القروض، كذلك تضمن قانون حمورابي الذي يرجع تاريخه إلى حوالي 1750 قبل الميلاد نصوصا خاصة بالعقود وبالتعهدات والالتزامات في مجال الأعمال الاقتصادية. ولكن أهمية التعامل النقدي - بوصفه عاملا حاسما في الحياة الاقتصادية والاجتماعية - لم تظهر بوضوح إلا في العهد المبكر للرأسمالية.
ذلك لأن مرونة المال النقدي وسهولة تبادله وتشكيله بأشكال مختلفة، أدت إلى تحرر الأفراد الذين يملكونه من الارتباط بالمكان الثابت الذي كان من قبل هو المصدر الوحيد للثروة؛ وأعني به الأرض الزراعية، وزيادة قدرتهم على التنقل من مكان إلى آخر، بل من وطن إلى وطن. وكان هذا من العوامل الأساسية التي أدت إلى أن تصبح المدن مركز الثقل في الحياة الاقتصادية في العصر الرأسمالي، بعد أن كانت هذه الحياة تتركز من قبل في الريف؛ فالحضارة الرأسمالية حضارة مدن قبل كل شيء. بل إن بقايا الطبقة الإقطاعية حين شعرت بالضعف - نظرا إلى ثبات دخلها وافتقارها إلى المرونة - أخذت في بيع أراضيها وتحولت إلى المدينة مستهدفة تحقيق مطالبها فيها؛ وبذلك ازدادت أهمية الريف ضآلة، وساهم الإقطاع في هدم نفسه بنفسه، وكلما توطدت دعائم حياة الحضر؛ ازداد المجتمع تعلقا بها؛ إذ يجد في المدن خير مجال لتبادل السلع وكذلك لتبادل الأفكار؛ ذلك لأن التبادل التجاري كان على الدوام أيسر الطرق لتبادل الخبرات والتجارب بين مختلف الجماعات.
وكما أدى التبادل النقدي إلى زيادة المرونة في التنقل المكاني، فإنه أدى أيضا إلى زيادة المرونة الاجتماعية؛ ذلك لأن مكانة الفرد لم تعد متوقفة على ما يملكه من الأرض الزراعية، أو على لقبه الوراثي، بل أصبحت تتوقف على مقدار ما يستطيع تكديسه من المال، والمال قيمة اقتصادية تجريدية، لا شأن لها بالأشخاص، تعطي من يملكها - أيا كانت صفاته الأخرى - قوة ونفوذا في المجتمع. وحين لا يعود للعوامل الشخصية دور في تحديد طابع الملكية، أي حين تصبح الملكية ذات صبغة لا شخصية محايدة، فإن الفوارق الجامدة بين الطبقات تبدأ في الزوال، ويصبح الانتقال من طبقة اجتماعية إلى طبقة أخرى أمرا ممكنا إذا توافر المال اللازم. وهكذا فبينما كانت الوراثة والأصل العائلي تحول دون انتقال أي شخص من الطبقات الدنيا إلى الطبقة العليا إلا في أحوال نادرة، فإن مثل هذا الانفصال أصبح الآن أمرا ممكنا. بل إن الطبقة العليا القديمة أصبحت عاجزة عن الاحتفاظ بمكانتها، وأصبحت فرص من لا ينتمون إلى هذه الطبقة في الارتقاء أكبر من فرص كبار الملاك الوراثيين؛ لأن أسلوب التعامل النقدي والتجاري لم يكن غريبا بالنسبة إلى الأولين.
وحتى في الحالات التي لم يكن فيها الارتقاء إلى الطبقة العليا ممكنا، كان العامل الذي يظل في الطبقة الدنيا أكثر تحررا من الفلاح المرتبط بأرض الإقطاعي في نواح متعددة؛ ذلك لأن العامل يتلقى أجره نقدا، على حين أن الثاني يتلقاه - في الأغلب - عينا. وحين يتخذ الأجر صبغة النقد القابل للتداول الحر في أشكال لا حصر لها، يستطيع العامل أن ينفقه كيفما شاء وأينما شاء، ويصبح له بالتالي مزيد من الحريات من الوجهة النظرية على الأقل.
وهكذا يتضح لنا أن شكل التبادل النقدي لم يقتصر تأثيره على المجال الاقتصادي البحت فحسب، بل لقد امتد هذا التأثير حتى أضفى على الحياة بأسرها طابعا جديدا، وسوف تزداد هذه الحقيقة وضوحا عندما ندرس السمات المميزة للعصر الرأسمالي المبكر. (ب) السمات الفكرية للمرحلة الرأسمالية المبكرة (1)
بينما كان العصر الإقطاعي عصر ثبات وجمود في الأفكار والعادات والقيم، أصبح التغيير هو شعار العصر الرأسمالي في مراحله الأولى، فلم يكن الإنسان في ذلك العصر يؤمن بوجود أي نظام راسخ لا يتغير، سواء في الطبيعة أو في المجتمع، بل كان يعتقد اعتقادا جازما بأن قدرته على التغيير تسري على كل شيء، وبأنه لا توجد عوائق تمنعه من استطلاع كل المجالات وإثبات فاعليته فيها. (2)
كان ذلك عصرا اكتشف فيه الإنسان نفسه والعالم المحيط به من جديد. فبعد أن كان اللاهوتيون يوهمونه بأن العالم الآخر هو وحده الذي ينبغي أن تتعلق به آمال الإنسان وتتجه نحوه جهوده، أصبح يتجه بكل قواه نحو استطلاع آفاق العالم الطبيعي بكل تفاصيله، وتمثل ذلك في حركة الكشوف الجغرافية التي تضاعفت بسببها أبعاد العالم المعروف للإنسان، وكشفت فيها قارات جديدة مليئة بالثروات وإمكانات الاستغلال، كما تمثل في عكوف العلماء على كشف أسرار الطبيعة بمناهج واقعية وتجريبية دقيقة، وحرصهم على ملاحظة تفاصيلها ملاحظة تشريحية دقيقة وكأنهم يكتشفون العالم المحيط بهم لأول مرة. (3)
ولم يكن من الممكن أن يتم هذا التحول لو لم يكن الإنسان في ذلك العصر قد أصبح متفائلا معتدا بنفسه وبقواه، مؤمنا بأهمية العمل، وبأن كل جهد يبذله لا بد أن يعود عليه بمزيد من النفع والرخاء. ولقد كانت تلك بالفعل سمة بارزة من سمات المرحلة الرأسمالية المبكرة، ميزتها بوضوح عن المرحلة الإقطاعية التي كان يسودها الإحساس بالتشاؤم وبالانصراف عن العالم وبعدم جدوى أي جهد يبذله الإنسان في هذه الحياة. وكان للعقيدة البروتستانتية - التي أخذت عندئذ في الانتشار في أجزاء هامة من أوروبا بعد أن ظلت الكاثوليكية هي المذهب الرسمي للمسيحية طوال ما يقرب من ألف وخمسمائة عام - دور هام في وضع أسس هذه النظرة الجديدة إلى العالم. بل إن بعض الكتاب - مثل ماكس فيبر
Max weber
وتاوني
Tawney - يرون أن للبروتستانتية تأثيرا مباشرا في ظهور الرأسمالية؛ ذلك لأن الروح البروتستانتية قد أزالت العوائق التقليدية التي كانت تقف حائلا في وجه الرغبة في التملك، ولم تكتف بتأكيد أن دافع الربح مشروع، بل قد نظرت إلى السعي إلى الربح على أنه أمر تتجه إليه الإرادة الإلهية مباشرة، وكل ما ينهى عنه الله هو الترف المفرط والتبديد. أما الاستخدام الرشيد للثروة من أجل تحقيق مصالح الفرد والمجتمع فأمر تدعو إليه العقيدة الجديدة بحماسة، كذلك كانت هذه العقيدة تعلي من قدر العمل الدائب المستمر الشاق، سواء أكان عملا يدويا أم عقليا. وفي ذلك كانت تختلف اختلافا واضحا عما تدعو إليه الفلسفة اليونانية - ممثلة في قطبيها الكبيرين: أفلاطون وأرسطو - من احتقار للعمل اليدوي، واعتقاد بأنه يحط من قدر من يشتغل به وينزع عنه إنسانيته. وهكذا كانت البروتستانتية تحمل بشدة على حياة التكاسل والاسترخاء، حتى بالنسبة إلى من تسمح لهم ثروتهم بمثل هذه الحياة، وقد بلغ الأمر بالعقيدة الجديدة إلى حد أنها دعت إلى ممارسة العمل لذاته، بوصفه شيئا يأمر به الله، لا من أجل ما يجلبه من جزاء. وكان ذلك في رأي البعض مظهرا من مظاهر حاجة الرأسمالية في بداية نشأتها إلى عمال يمكن استغلالهم اقتصاديا على أساس من العقيدة، وهو نوع من التبرير لم يعد ضروريا بعد أن اكتملت السيطرة للرأسمالية في مرحلة لاحقة من تاريخها. (4)
على أن هذا العصر، في تفضيله للنزعات المتعلقة بالدنيا على الروح الزاهدة، لم يكن على الإطلاق عصرا لا دينيا، وكل ما في الأمر أنه كان مضادا لسلطة الكهنوت والكنيسة الرسمية بقدر ما كانت تضع قيودا على نشاط الإنسان في استغلال العالم المحيط به، وترتب على ذلك أن الدين أصبح ينظم العالم الداخلي الباطن للإنسان. أما العالم الخارجي فإنه يترك للإنسان حرية التصرف فيه، ولا يتدخل في أفعاله الظاهرة. وكان ذلك عاملا ساعد على إطلاق طاقات الإنسان الأوروبي بعد أن كانت أحكام الدين تتدخل حتى في أبسط ما يقوم به من أفعال، وتنظم كافة مظاهر سلوكه وفقا لمبدأ الزهد والانصراف عن شئون الحياة. (5)
على أننا نستطيع أن نقول: إن أبرز السمات التي تميزت بها المرحلة الرأسمالية المبكرة عن المرحلة الإقطاعية السابقة عليها تميزا قاطعا، كانت الاعتراف بالسيادة المطلقة للعقل، والتخلي عن كل النزعات اللاعقلية التي كانت تسود العصر السابق. ولا شك في أن عنصر التعامل النقدي - الذي أشرنا إلى أهميته من قبل - كان مرتبطا بهذا الإعلاء من شأن العقل؛ إذ إن التعامل النقدي يتسم - كما بينا - بأنه تجريدي لا شأن له بالعوامل الشخصية، وتلك بدورها سمة هامة من سمات التفكير العقلي الذي يترك المحسوسات جانبا ليتعامل مع المجردات، فضلا عن أنه لا يعمل حسابا للانفعالات والمشاعر الشخصية، وكلما تمكن من التخلي عن العوامل الذاتية كان أقدر على أداء وظيفته الحقة. وفضلا عن ذلك فإن التعامل النقدي وما يرتبط به من حسابات مالية ومصرفية معقدة، يحتاج إلى تقدم في التفكير الرياضي العقلي؛ ومن هنا لم يكن من المستغرب أن تحرز الرياضيات في ذلك العصر تقدما كبيرا بالقياس إلى فترة الركود التي مرت بها منذ انقضاء العصر اليوناني القديم.
ولقد كان من الضروري للتاجر - ثم لصاحب المصنع فيما بعد - أن ينظر إلى كل الظواهر على أنها قابلة للتنبؤ وللحساب الدقيق؛ بحيث يرى العالم كله كما لو كان مصنعا آليا ضخما يمكن حساب كل ما يجري فيه من عمليات. وكانت تلك القدرة العقلية على حساب التفاصيل والتنبؤ - على أساس مدروس - بتطورات الأحداث جزءا لا يتجزأ من تكوين رجل الأعمال الناجح في ذلك العصر، بل لقد كانت الواقعية الصارمة صفة لا بد منها لمثل هذا الرجل، ولم تكن الروح المكيافيلية إلا تعبيرا صادقا عن أخلاق العصر الرأسمالي الأول، وعن القيم العقلية السائدة فيه. كما أن قصة مثل «دون كيخوته» لم تكن بدورها إلا تأكيدا - لا يخلو من مرارة - لانقضاء عهد الفرسان النبلاء المؤمنين بقيم الشهامة والبطولة الفردية، وظهور عالم واقعي صارم يحسب كل شيء فيه بحساب العقل الموضوعي الدقيق.
ولم يكن من الممكن أن يصمد في المنافسة الحادة التي أصبحت تميز ميدان الأعمال الاقتصادية، إلا من توافرت له صفات الذكاء الفردي والمهارة والصرامة والقدرة على التوقع واستباق الحوادث. أما الصفات المكتسبة من الحسب والنسب والمزايا الوراثية فلم تعد تجدي نفعا، وهكذا فإن وزن الأمور كلها بميزان العقل الدقيق - بغض النظر عن أي اعتبار شخصي - أصبح هو السمة التي ينبغي أن تتوافر في الإنسان كيما يتحقق له النجاح.
بل إن الحروب ذاتها قد اصطبغت بهذه الصبغة العقلانية اللاشخصية، فقد كان حلول المدفع محل السيف تعبيرا رمزيا عن الانتقال من عصر شخصي إلى عصر عقلاني صارم؛ لأن القتال بالسيف قتال بين شخص وآخر، أو بين إنسان وإنسان، على حين أن المدفع يصيب دون التحام مباشر بين أشخاص، ولا يميز في الإصابة بين إنسان وآخر، بل لا يعرف من الذي يصيبه، ولو أمعنا الفكر قليلا لتبين لنا وجود نوع من التوازن بين الانتقال من التعامل العيني بالسلع إلى التعامل النقدي المجرد، أو من إنتاج الثروة في مزرعة يملكها سيد إقطاعي إلى مصنع يعمل فيه عمال لا تربطهم بصاحب العمل أية صلة شخصية، وبين التحول الذي أشرنا إليه في أساليب الحرب من السيف والدرع إلى المدفع والبارود. (6)
ولقد كان العلم بدوره يقوم بدور حاسم في تأكيد هذه النظرة الموضوعية إلى الأمور؛ بحيث يمكن القول: إن الكشوف العلمية الحديثة قد أرست الأساس العقلي الذي تستطيع الرأسمالية الناشئة أن ترتكز عليه، في نفس العصر الذي نتحدث عنه حدث تحول في العلم لا يمكن تجاهل سماته التي توازي سمات التحول الاقتصادي، فقد بدأت الرياضيات تقوم بدور هام، لا في المجال العلمي فحسب، بل في مجال الحياة اليومية أيضا، وإذا كنا اليوم قد اعتدنا أن نعبر عن عدد لا حصر له من مظاهر حياتنا بالأرقام - كما في الإحصائيات التي تحدد مستوى التقدم الاقتصادي. وفي الحسابات التي تقوم بها في حياتنا الخاصة - فإن الأوروبيين في العصر الإقطاعي لم يكونوا يبدون اهتماما بالأرقام، بل لم يكونوا يهتمون حتى بتحديد أعمارهم بدقة، ونستطيع أن نلمس الفارق بين العصرين وبين العقليتين - بوضوح - إذا ما قارنا بعض العادات التي لا تزال شائعة في الريف المصري بعادات أهل المدن؛ ففي الريف لا زلنا نجد بعضا من كبار السن يصعب عليهم تحديد يوم ميلادهم، كذلك لا يقوم الزمن بدور أساسي في الحياة اليومية، وإنما تحدد المواعيد حسب «مغرب الشمس» أو «في العشية»، على حين أن ساكن المدينة يعمل حسابا للدقائق قبل الساعات، ولا يستغني عن الدقة الكاملة في جميع معاملاته.
وهكذا كان اكتساب عادات الدقة والانضباط من الصفات الضرورية في المرحلة الرأسمالية الجديدة. بل إن من المفكرين من يذهبون إلى أن العصر الرأسمالي قد بدأ منذ اللحظة التي اخترعت فيها «الساعة»: وذلك أولا لأن الساعة نموذج كامل للآلة الدقيقة التي تنظم حركاتها بنفسها؛ ومن ثم فهي النموذج الأول لحركة التصنيع الآلي في العصر الرأسمالي، وثانيا - والأهم - لأن الساعة أدت إلى تأكيد عادات الدقة والضبط والانتظام، وخلقت عالما ينظمه العقل، ويحسب كل شيء فيه حسابا دقيقا، لا عالما يخضع لإيقاع الطبيعة الخارجية أو الطبيعة الإنسانية الداخلية في تحديد المواعيد وتنظيم الأعمال.
ولقد كانت عادات الدقة هذه هي أول العوامل التي أدت إلى قيام الثورة العلمية الحديثة في أواخر القرن السادس عشر، وإلى التوصل إلى أساليب جديدة في البحث العلمي لم يكن للعصور السابقة عهد بها، فبفضل هذه العادات استطاع علماء الفلك - مثلا - أن يقوموا بحسابات دقيقة أدت إلى إحداث انقلاب كامل في نظرة الإنسان إلى العالم، ومثل هذا يقال عن علم الطبيعة (الفيزياء)، ثم الكيمياء فيما بعد، وغيرها من العلوم الحديثة.
ولو تأملنا مثلا واحدا، وهو النظرية الجديدة في علاقة الشمس بالأرض كما توصل إليها كبرنيكوس في القرن السادس عشر؛ لاستطعنا أن ندرك مدى التأثير المتبادل بين التحول في نمط التفكير العلمي والتحول في نمط الإنتاج الاقتصادي؛ ذلك لأن كبرنيكوس حين أكد أن الأرض هي التي تدور حول الشمس لا العكس، لم يكن يتحدى بذلك تراثا علميا يرجع إلى قرون كثيرة فحسب، بل كان يتحدى أيضا اعتقادا راسخا لدى الإنسان العادي، تؤيده حواسه وتجربته اليومية الملموسة؛ إذ لا يبدو أن هناك ما هو أكثر يقينا، بالنسبة إلى هذه التجربة، من أن الأرض ثابتة، وأن الشمس والكواكب الأخرى هي التي تدور حولها؛ ومن هنا لم تكن الثورة التي أحدثها كبرنيكوس ثورة في مجال علمي محدد فحسب، بل كانت أيضا ثورة في طريقة الإنسان الحديث في النظر إلى الأمور؛ أعني أنها كانت دعوة إلى عدم التقيد بالعوامل الشخصية والأحكام التي توحي بها إلينا التجربة اليومية، وتفضيلا للعقل الموضوعي الصارم على الآراء الذاتية، وإعلانا لانهيار النظرة الشخصية إلى الأمور وحلول النظرة العلمية - المبنية على الحساب الدقيق - محلها، وتلك كلها في واقع الأمر أمور تحققت، بطريقة تكاد تكون موازية تماما لهذه، في مجال الاقتصاد؛ إذ إن نمط الاقتصاد التجاري والرأسمالي الجديد كان يتصف، بالقياس إلى النمط الإقطاعي الزراعي بنفس النوع من الموضوعية ومن تجاهل الاعتبارات الذاتية والشخصية، والاعتماد على التنبؤ والحساب الدقيق بصرف النظر عن كل رأي شخصي أو شعور ذاتي.
على أن تقدم العلم لم يقتصر على الجانب النظري وحده. بل إن العلم أحرز تقدما كبيرا في الجانب التطبيقي أيضا. وكان التقدم التطبيقي دليلا على أن العلم أخذ يمارس وظيفته الاجتماعية على نحو أكمل. وقد تمثلت هذه النظرة إلى العلم بوصفه نشاطا يؤثر في المجتمع ويتأثر به، تمثلت بوضوح كامل في فكر الفيلسوف الإنجليزي «فرانسس بيكن»؛ ففي رأيه أن العلم يجب أن يزيد من سعادة الحياة الإنسانية، وألا يكون معرفة من أجل المعرفة فحسب. وكان يرى أن المخترعين والعلماء التطبيقيين هم الذين يحتلون قمة السلم الاجتماعي، لا الحكماء النظريون أو رجال اللاهوت. والواقع أن بيكن قد استبق عصر التكنولوجيا الحديثة عندما أكد أن المخترعات المرتكزة على العلم قادرة على تغيير حياة البشر، وعلى أن تضفي على العالم بأسره شكلا جديدا. وهكذا كانت لديه قدرة تنبؤية على الاستبصار بالعالم الذي سيأتي من بعده عالم التقدم التكنولوجي المتلاحق.
وإذن، فعلى المستوى النظري كان تقدم العلوم الرياضية، وزيادة دقة التعبير الكمي عن قوانين الطبيعة، مرتبطا أوثق الارتباط بالعصر الجديد، تقوم فيه الحسابات الرياضية بدور هام في معاملات السوق، وعلى المستوى التطبيقي انتفع العصر الصناعي الجديد من الرياضيات التطبيقية كثيرا في صنع الآلات، فضلا عن انتفاعه من العلوم الطبيعية والكيماوية في تسخير طاقات جديدة لخدمة الإنسان، وسرعان ما اقتنع رجال الصناعة بأن السبيل إلى زيادة إنتاجهم وتحسينه والإقلال من مصروفاتهم هو اتباع الأساليب العلمية؛ أي ما يعرف بأساليب الترشيد، فضلا عن إدخال الآلية على نحو متزايد، وبالاختصار فإن نفس الروح التي كانت تدفع الرأسمالي إلى مزيد من الاستثمار والنشاط الاقتصادي، كانت تدفع المكتشف إلى ارتياد آفاق جديدة، والعالم إلى كشف قوانين جديدة، والمخترع إلى ابتداع تطبيقات جديدة؛ إذ إن الجميع كانوا يسعون إلى زيادة قوة الإنسان وإحكام سيطرته على الطبيعة. (7)
وأخيرا، فلا بد لنا أن نشير إلى سمة أخرى هامة من سمات هذا العصر، ترتبت على التحول الأساسي الذي طرأ على حياته الاقتصادية، هي نمو النزعة الفردية في مجالات الأخلاق والأدب والفن. وليس من الصعب أن نجد تعليلا لهذه الظاهرة في ضوء ظروف العصر؛ ذلك لأن الشخص الناجح في العصر الجديد لم يكن يدين بنجاحه لأسرته أو لقبه الوراثي، ولم يعد الانتماء إلى جماعة معينة هو أساس التفوق. بل إن كل شيء أصبح يتوقف على الجهود الخاصة التي يبذلها كل فرد. وكان ذلك العصر حافلا بأمثلة الأشخاص العصاميين الذين تمكنوا بجهودهم الخاصة من أن يصلوا إلى مكان الصدارة في المجتمع وخاصة في المجال الاقتصادي، ومن شأن هذا الاتجاه أن يزيد من شعور الفرد بقدراته الخاصة، ويجعله أقدر على تحدي السلطة بكافة أنواعها بحيث لا يعود معتمدا على عامل «الانتماء» بقدر ما يعتمد على عامل الكفاح الفردي، وإلى هذه الظاهرة ترجع مختلف مظاهر التحرر من السلطة في ذلك العصر؛ أعني سلطة الفلاسفة القدماء (مثل أرسطو)، وسلطة رجال الدين، وسلطة الإقطاع الوراثي، وسلطة العادات والتقاليد الاجتماعية المرتبطة به، وقد انعكس ذلك في مجال الفكر على شكل كثرة من الاتجاهات الفكرية المستقلة التي تتسم بقدر كبير من الخصوبة والاستقلال، على عكس اتجاهات العصور الوسطى التي كانت متقاربة متجانسة إلى حد بعيد، كما انعكس في ميدان الأدب والفن على شكل أعمال تسعى إلى استكشاف العمق الباطن للفرد، والاهتمام بمشكلاته وأحاسيسه الخاصة، على خلاف الاتجاهات السابقة التي كان الفن يقتصر فيها على خدمة قضية دينية أو سياسية معينة دون أدنى اهتمام بالعنصر الفردي. وهكذا فإن الفنان أو الأديب «الفرد»، الذي يعبر عن نفسه من حيث هو فرد، ويطلب إلينا أن نهتم به على أساس أنه إنسان متميز عن كل من عداه، قد ظهر لأول مرة في ذلك العهد. وربما قال البعض: إن ظهوره كان رد فعل على النزعة العقلانية اللاشخصية المتطرفة التي كان يتسم بها العصر الجديد. ولكن الأرجح أنه كان متمشيا مع مقتضيات عصر فتحت فيه أمام الفرد آفاق لا نهائية، وازداد فيه الإنسان ثقة بنفسه وشعورا بكيانه، وأزيلت فيه الحواجز التي كانت تحول دون تحقيقه لأمانيه في النجاح والارتقاء إلى أعلى درجات السلم الاجتماعي. (3-2) الرأسمالية المكتملة
كانت المرحلة المبكرة من العهد الرأسمالي مرحلة كفاح ضد قوى الإقطاع المادية وقيمه المعنوية، وإذا كنا قد أكدنا من قبل مزايا هذه المرحلة وسماتها الإيجابية، فذلك لأنها تمثل بالفعل تقدما ملموسا بالقياس إلى المرحلة السابقة عليها؛ فهي قد دفعت بالبشرية خطوات واسعة إلى الأمام، حين أكدت سيادة العقل على كل النزعات اللاعقلية المضطربة الغامضة التي كانت تسود في العصور الوسطى. وحين أطلقت طاقات الإنسان ليستكشف الطبيعة جغرافيا ويفهمها علميا ويستغلها اقتصاديا.
على أن هذا النمط الجديد من أنماط العلاقات الاجتماعية - أعني النمط الرأسمالي - كان ينطوي على عناصر سلبية أساسية لم تظهر بوضوح في مرحلته المبكرة؛ وذلك أولا لأن جميع سماته لم تكن قد ظهرت مكتملة بعد، وثانيا لأنه كان في معركة مع علاقات اجتماعية أكثر منه تخلفا بكثير، وعندما تم له الانتصار في هذه المعركة، واكتملت خصائصه بحلول العصر الصناعي وسيادة الإنتاج الآلي، أخذت العناصر السلبية في نمط الإنتاج الرأسمالي تبرز إلى السطح بوضوح كامل، وظهرت العيوب المعنوية والفكرية للنظام الرأسمالي على نحو لا يدع مجالا لأي شك. (أ) خصائص الرأسمالية المكتملة
ولكي ندرك هذه العناصر السلبية يتعين علينا أن نبدأ بتحديد الطابع الذي تميزت به المرحلة الرأسمالية في عهد اكتمالها: (1)
فالرأسمالية المكتملة قد تحددت معالمها عندما بدأت تظهر طبقة عمالية متميزة، ترك أفرادها الطوائف الحرفية القديمة التي كانت راعية لهم، أو هاجروا من الريف بلا حماية، وأصبحوا واقعين وقوعا تاما تحت رحمة صاحب العمل، دون أن تكون لهم أية فرصة للارتقاء في سلم المجتمع، على عكس الصانع الحرفي التقليدي الذي كانت لديه على الأقل فرصة الارتقاء إلى مرتبة «متعهد الأعمال» (المقاول) أو «الصانع الماهر» (المعلم)، وحتى في الحالات التي لم يكن يتحقق فيها هذا الارتقاء، كانت هناك علاقات شخصية متينة تربط الصانع بزملائه وبصاحب «الورشة» التي يشتغل بها. أما في ظل الرأسمالية المكتملة فقد تحول العمل من خدمة شخصية إلى سلعة لا شخصية، لا يرتبط فيها العامل بصاحب العمل إلا من حيث إن الأول يقدم قوة عمل معينة، والثاني يدفع أجرا معينا. وفيما عدا ذلك لا تقوم بين الاثنين أية علاقة؛ فالعامل في هذه الحالة شخص مجهول، أو هو على الأصح «قوة» لها طاقة معينة، ولا يهتم صاحب العمل على الإطلاق بالشخص أو الإنسان الذي يبذل هذه القوة. بل إن العلاقة بينهما تصبح تجريدية تماما، ولا تصطبغ بأية صبغة إنسانية. وهكذا فإن التوسع في استخدام الآلات في العصر الصناعي قد تولدت عنه نزعة آلية عامة أثرت في تقدير الإنسان ذاته، فأصبح العامل مجرد ترس في آلة الإنتاج الضخمة المعقدة قابل للاستبدال شأنه شأن أي جزء أصم في أية آلة. (2)
وفي مقابل ذلك تراكم رأس المال وازدادت الثروات ضخامة في أيدي أصحاب الأعمال، الذين أصبحوا يلجئون إلى التخطيط الدقيق ويعملون على ترشيد الإنتاج بحثا عن أفضل الوسائل التي تكفل تحقيق أقصى قدر من الربح وأعظم قدر من الإنتاج. (ب) السمات المعنوية للرأسمالي
والواقع أن الطريقة التي أصبح أصحاب الأعمال ينظرون بها إلى عالم الاقتصاد كانت طريقة متميزة عن كل ما عداها، ولا يمكن فهمها إلا في ضوء العصر الجديد؛ ذلك لأن المحور الذي كان يدور حوله النشاط الاقتصادي من قبل كان على الدوام هو الإنسان، بلحمه ودمه وبحاجاته ومطالبه. أما في عصر الرأسمالية المكتملة فقد حلت محل الإنسان تجريدات لا شأن لها به كالعمل والسوق والربح، وعلى حين أن الإنسان ظل - بمعنى ما - مقياس كل شيء حتى في العصر الرأسمالي المبكر، فإن البحث عن الربح والسعي إلى التوسع في الأعمال الاقتصادية أصبح الآن هو الغاية القصوى. بل إن الأعمال - كما لاحظ بعض الكتاب - قد أصبح لها وجود مستقل حتى عن أصحابها أنفسهم: فمن الممكن أن يكون أصحاب شركة معينة أشخاصا غير موثوق بهم، أو ذوي سمعة سيئة، ومع ذلك يظل اسم شركتهم أو الناتج الذي ينتجونه يحوز ثقة العملاء وإعجابهم؛ أي إنه يصبح شيئا مستقلا عن أصحابه، ويصبح للأعمال الاقتصادية وجود موضوعي لا صلة له بالإنسان الموجود من ورائها، وتتحول إلى كيان قائم بذاته، وكل ما يهتم به صاحب العمل هو أن يزيد هذا الكيان المستقل صحة ونموا وازدهارا.
إن من الشائع أن يوصف الرأسمالي بأنه شخص لا هم له سوى أن يحصل على مزيد من الربح، ومن المؤكد أن هذا الوصف صحيح إلى حد بعيد. ولكن ينبغي أن نكون على شيء من الحذر حين نتحدث عن سعي الرأسمالي إلى الربح؛ فالهدف الأكبر للرأسمالي هو أن تتوسع أعماله وتزداد نموا. وليس الربح إلا وسيلة لتحقيق هذه الغاية، وهنا قد يكون من المفيد أن نفرق بين لفظين يستخدمان في الأغلب بمعنيين مترادفين، هما الكسب والربح؛ فالكسب هو البحث عن مزيد من الأموال لكي ينتفع بها الشخص ذاته، أو من يحيطون به في حياته. أما الربح فهو البحث عن مال أكثر يخصص أساسا للعمل نفسه، ولتوسيع نطاق الصناعة أو التجارة، بهذا المعنى يكون الكسب شخصيا عينيا، والربح لا شخصيا مجردا، وقد لا يكون من الخطأ أن نقول في ضوء هذه التفرقة: إن كبار الرأسماليين يبحثون عن الربح قبل الكسب، بدليل أن الكثيرين منهم لا يعيشون - حتى وهم في قمة النجاح - حياة شديدة الترف. بل إن بعضهم قد يصل به الاستغراق في أعماله إلى حد إهمال حياته الشخصية وممارسة نوع خاص من الزهد (وإن كان الترف الشديد - بطبيعة الحال - موجودا بدوره لدى كثير من الرأسماليين)؛ ذلك لأن الموضوع الرئيسي لاهتمام أمثال هؤلاء الرأسماليين هو نجاح الأعمال ذاتها.
ولا يمكن القول: إن هناك نقطة يتوقف عندها هذا النجاح؛ فكل توسع يجلب رغبة في مزيد من التوسع؛ بحيث كان «فيرنر زومبارت
Werner Sombart » على حق حين قال: إن نشاط صاحب العمل الرأسمالي يتطلع نحو غاية لا نهائية؛ ففي الماضي، عندما كانت حاجات الجماعة هي التي تتحكم في النشاط الاقتصادي - كانت هناك حدود طبيعية لا يمكن أن يتعداها هذا النشاط. أما عندما تصبح الغاية هي أن تزدهر الأعمال لا أن تلبى حاجات الجماعة، فلا يمكن أن تكون مثل هذه الحدود موجودة، ويستحيل أن يصل صاحب العمل الرأسمالي إلى نقطة يمكن أن يتوقف عندها ويقول: كفى! وحتى لو وقفت أية عوائق في وجه نشاطه، فإنه يبدأ في تجربة جوانب أخرى من النشاط تكون فرص التوسع أمامها أعظم؛ وبذلك يمتد توسعه طولا وعرضا أو انتشارا وعمقا، ويستحيل تصور هذا النشاط متوقفا؛ لأن التوقف معناه الاختناق والتدهور والانحدار.
وحين بحث «زومبارت» عن قيم للحياة كامنة وراء هذا السعي الجنوني إلى التوسع، رأى أن هذه القيم أشبه ما تكون بقيم الطفولة، فرجل الأعمال في نظره طفل كبير، وذلك في سعيه إلى الضخامة، مثلما يريد الطفل أن يكون كبير الجسم؛ بحيث يكون الحجم المجرد هدفا في ذاته، ويخلط بين الضخامة وبين ارتفاع المكانة أو العظمة. كذلك فإن رجل الأعمال طفل في سعيه إلى السرعة، واختصار الزمن في كل شيء. وفي بحثه عن التجديد المستمر، مثلما يرغب الطفل في تجديد لعبه وملابسه تجديدا دائما. وفي رغبته في الشعور بمزيد من القوة عن طريق توسيع أعماله واستخدام ألوف الناس الذين يتوقف مصيرهم على كلمة منه.
على أننا سوف نتبين بعد قليل أن هذا الوصف إذا كان ينطبق على وجه من أوجه نشاط الرأسمالي، فإنه لا ينطبق أبدا على بقية أوجه النشاط التي يتبدى فيها الرأسمالي أبعد ما يكون عن الطفل الكبير، ويتخذ صورا لا صلة لها على الإطلاق ببراءة الطفولة وسذاجتها.
والذي يهمنا الآن هو أن نلاحظ التحول الأساسي الذي طرأ على الرأسمالية وعلى شخصية الرأسمالي منذ مرحلتها المبكرة حتى مرحلتها المكتملة، فقد بدأت الرأسمالية - في عهدها الأول - تشق طريقها بفضل روح المغامرة والبحث عن الجديد والكشف عن المجهول. وكانت الأعمال الاقتصادية الناشئة في ذلك العهد تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من إشباع الحاجات الاستهلاكية للإنسان. أما عندما اكتملت خصائص الرأسمالية فقد انعدمت روح المغامرة، وأصبح رأس المال «جبانا»، على حد التعبير الشائع، وتحولت المنافسة التي كانت من أبرز سماتها في البداية إلى احتكار يعمل على تخفيف حدة التنافس أو تنظيمه أو إزالته لصالح أصحاب الأعمال وضد مصالح المستهلكين، وبدلا من أن تعمل الرأسمالية على إشباع الحاجات الحقيقية للإنسان، فإنها أخذت تخلق لديه عادات زائفة لا هدف لها سوى أنها تؤدي إلى فتح باب جديد للربح. ولكن على حساب الاستخدام الرشيد لموارد المجتمع.
وعلى حين أن الرأسماليين كانوا في أول عهدهم أشخاصا يتسمون بصفات النشاط والمثابرة وتقديس العمل - أيا كانت عيوبهم الأخرى - أو يبتدعون الأفكار الجديدة التي تكفل نجاح أعمالهم، فإن الكثيرين منهم أصبحوا في المرحلة اللاحقة أشخاصا تأصلت فيهم عادات الترف المفرط، والتفنن في التبذير الماجن. وكانت هذه الصفات الأخيرة أوضح ظهورا لدى الرأسماليين الذين انفصلوا عن عملية الإنتاج، ولم يعودوا يرتبطون بمصانعهم أو يعرفون شيئا عما يتم فيها، بل يعهدون بها إلى مديرين أكفاء، ويكتفون هم بما ينالونه من أرباح.
وبالمثل فإن الطبقة الرأسمالية أو البورجوازية - التي كانت في أول عهدها تحارب امتيازات الأشراف والإقطاعيين، أخذت تكرس جهودها للمحافظة على نفوذها عندما تحققت لها السيطرة، بل إن الطبقة الجديدة كانت في بعض الأحيان تتداخل مع طبقة النبلاء الزراعيين القديمة بالمصاهرة، وتحاول محاكاة العادات الأرستقراطية العتيقة. وبعبارة أخرى، فإن الرأسماليين عندما أصبحوا هم أصحاب المصالح الحقيقية القائمة، أخذوا يتجهون إلى المحافظة على مصالحهم، وبعد أن كانوا في البداية يستخدمون «العقل» قوة ثورية، أخذوا يستعينون به في تبرير الأوضاع القائمة بطريقة يغلب عليها الطابع المحافظ. والواقع أن هذا التحول كان أمرا تقتضيه نفس روح المرونة والحركية التي كان يتسم بها المجتمع الرأسمالي، فهذه المرونة ذاتها كانت تحتم أن تتحول العناصر التقدمية في الطبقة البورجوازية - بمضي الوقت - إلى أسلوب محافظ في التفكير والحياة، ثم تظهر طبقة جديدة أكثر نشاطا وابتكارا؛ لتحتل مكانة الطبقة التي أصبحت محافظة، ثم تتحول هذه الجديدة بدورها إلى الطابع المحافظ وهكذا. ولكن هذا الطابع المحافظ أصبح هو الطابع المميز للرأسمالية منذ اللحظة التي ظهرت فيها طبقة عاملة واعية تهدد مصالح الرأسماليين، أي منذ القرن التاسع عشر. (ج) الأوجه السلبية في المرحلة الرأسمالية
ليس من الصعب أن ندرك أن التحول الذي طرأ على الرأسمالية وعلى الطبقة البورجوازية من قوة تقدمية تعمل على محارية امتيازات الإقطاعيين الوراثية، وتؤكد انتصار العقل المنظم الواضح على الأفكار اللاعقلية الصوفية الغامضة التي سادت العصر الوسيط، إلى قوة رجعية لا تستهدف سوى المحافظة على مصالحها التي تزداد على الدوام توسعا وانتشارا. هذا التحول يمثل في ذاته وجها سلبيا إلى أبعد حد في النظام الرأسمالي؛ ذلك لأنه يدل على أن النظام لم يكن تقدميا إلا في مرحلته المبكرة، وعلى أن من شأن هذا النظام أن يتحول إلى الرجعية بمجرد أن تتحدد معالمه وتكتمل خصائصه.
على أن هذا ليس الوجه السلبي الوحيد للرأسمالية. بل إن عناصر الضعف والهدم تتغلغل في صميم بناء هذا النظام، وتجعل تجاوزه أمرا محتوما، وسوف نقتصر هنا على ذكر بعض الجوانب السلبية المرتبطة بالموضوع الذي نعالجه في هذا الفصل، وهو الوجه الفكري والمعنوي لمختلف النظم الاقتصادية: (1)
أول هذه الجوانب هو اللاأخلاقية. وربما بدا للبعض أن صفة اللاأخلاقية لا تصدق صدقا تاما على المجتمع الرأسمالي؛ لأن لهذا المجتمع نمطه الأخلاقي، وبالفعل يبدو هذا الحكم الأخير صائبا للوهلة الأولى؛ ذلك لأن الرأسمالية قد ولدت مذاهبها الأخلاقية الخاصة، مثل مذهب المنفعة
Utilitarianism
في إنجلترا، والبرجماتية
في الولايات المتحدة. ولكن الواقع أن كلا من هذين المذهبين الأخلاقيين إنما كان تعبيرا عن الطابع العملي لعصر التصنيع، وعن نوع من الأخلاق يقوم بحساب كل فعل تبعا لمقدار المنفعة المترتبة عليه، أو لمدى نجاحه العملي، بغض النظر عن أية قيمة كامنة في هذا الفعل؛ ومن هنا كانت هذه الاتجاهات في الأخلاق تعبيرا صادقا عن أشد نزعات المجتمع الرأسمالي تطرفا، وحقيقة الأمر في موقف هذا المجتمع من الأخلاق هو أنه لا يأخذ منهم إلا بالقدر الذي يكفي لمساعدة النظام القائم على المضي في طريقه بنجاح؛ فنحن نجد بالفعل - لدى كثير من الرأسماليين - قدرا معينا من الفضائل كالأمانة والانضباط والدقة ومراعاة المواعيد. ولكن هذه الفضائل لا تكتسب قيمتها إلا لأنها تفيد الرأسمالي وتحقق مصالحه، فقد تبين له بطول التجربة أن من مصلحته أن يكون في معاملاته أمينا دقيقا، وأن يسدد ديونه في مواعيدها، وأن يكون نظام حياته منضبطا، ومعنى ذلك أن كل هذه الفضائل ليست مقصودة لذاتها. بل إنه يراعيها لما فيها من منفعة، وأبلغ دليل على ذلك أنه إذا كان الممكن تحقيق نفس المنفعة عن طريق مجرد التظاهر بالأمانة، فإن الرأسمالي لا يتردد في سلوك هذا السبيل.
ويتضح تجاهل الرأسمالية للأخلاق في أساليب الدعاية والإعلان التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من هذا النظام؛ فالمبدأ السائد في ميدان الإعلان هو زيادة البيع أيا كانت الوسائل المؤدية إلى تحقيق هذه الغاية. وهكذا يلجأ المعلن إلى الصراخ والتهويل أمام عملائه، ويجذب أنظارهم بلافتات صارخة، ويعمد إلى الشهادات الكاذبة والمنطق المغلوط، ويلجأ إلى أحدث أساليب علم النفس ليبث في نفوس الناس إيحاء واقتناعا لا أساس له، ولا يتورع في سبيل ذلك عن أن يفسد أذواق الناس ويسلبهم القدرة على الحكم الموضوعي السليم؛ فالإعلان لا يتجاهل أصول الأخلاق واحترام الآخرين فحسب. بل إنه يتنافى في كثير من الأحيان مع أبسط مقتضيات الروح الجمالية.
وأخيرا، فإن طبيعة المنافسة الرأسمالية تشكل في حد ذاتها دليلا بالغا على مدى اللاأخلاقية الكامنة في هذا النظام؛ فهي تعامل الرأسماليين بعضهم مع بعض لا يتورع أحدهم عن اتباع كل الأساليب من أجل سحق الآخر، ولا يقف أي وازع في وجه رغبته في التوسع، ومن أشهر الأمثلة في هذا الصدد: جون روكفلر، مؤسس أسرة الرأسماليين الأمريكيين المشهورة، الذي قال: إنه على استعداد لدفع مليون دولار كمرتب لأي موظف تتوافر فيه صفات معينة، أهمها ألا يكون لديه أي نوع من تأنيب الضمير، وأن يكون على استعداد لسحق ألوف الضحايا دون أن تطرف له عين. (2)
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الحضارة الرأسمالية قد أحرزت انتصارات ومكاسب لم تتوصل إليها أية حضارة سابقة، فقد عرفت كيف تسيطر على العالم المادي كما وكيفا، وتسخر الطبيعة لخدمة الإنسان، ووفرت للناس سلعا وخدمات على نطاق لم يعرف له من قبل نظير، وكافحت الأمراض والكوارث الطبيعية بكفاءة نادرة، وأبدعت عددا هائلا من روائع الفن والأدب، وتمكنت من إحراز تقدم هائل في الميدان العلمي، بفضل تطبيق مبدأ تقسيم العمل الذي أحرز نجاحا كبيرا في الميدان الاقتصادي، على النشاط الذي نبذله من أجل معرفة العالم الطبيعي والمجتمع بطريقة عقلية.
ولكن على الرغم من هذا النجاح في شتى الميادين، فقد كانت هناك نقطة ضعف كبرى للنظام الرأسمالي، هي ارتباطه الوثيق بالحرب، فليس يكفي أن يقال: إن النظام عاجز عن منع الحرب، أو إن الحرب مرض يصيب جسم الرأسمالية بسبب انتقال العدوى إليه من مصدر خارجي. بل إن الحرب تنتمي إلى صميم بنائها وتركيبها الباطن. والواقع أن الرأسمالية بما تثيره من حروب لا تنقطع، تهدد بالقضاء على ما أنجزته هي ذاتها، وما أنجزته كل الحضارات السابقة من تقدم. وهكذا فإن القوة الكبرى التي اكتسبها العالم خلال المرحلة الرأسمالية هي التي تهدد بالقضاء على ما أنجزته هي ذاتها. وفي هذا النزوع إلى تحطيم الذات يكمن الضعف الأكبر للرأسمالية، وتناقضها القاتل، وقد أصبحت مظاهر تقدم الرأسمالية في الآونة الأخيرة، هي ذاتها مظاهر فنائها؛ إذ إن هذا التقدم بلغ قمته في أسلحة الدمار الشامل التي تهدد العالم في كل لحظة بالهلاك.
ولسنا نود أن نخوض في تفاصيل العلاقة بين النظام الرأسمالي وبين الحرب؛ إذ إن هذا البحث خارج عن نطاق مهمتنا في هذا الفصل، إنما الذي نود أن نشير إليه هو الآثار المعنوية المخربة التي تحدثها حالة الحرب أو حالة التهديد المستمر بقيام الحرب. وحسبنا أن نشير إلى تلك الأنانية المفرطة وبلادة الحس الزائدة التي تثيرها الحروب المستمرة في نفوس أفراد الشعوب التي تمارس هذه الحروب. ومن المعروف أن الاستعمار مرتبط ارتباطا وثيقا بالرأسمالية، وأنه - في صورته المباشرة وغير المباشرة أو التقليدية والجديدة - هو السبب الأول لظاهرة الحرب في العالم المعاصر، ولسنا في حاجة إلى الوقوف طويلا عند تأثير الاستعمار في الشعوب التي تعاني من ويلاته؛ لأننا في هذه المنطقة من العالم نعرف الكثير - من تجربتنا المباشرة - عن هذا الموضوع. ولكن للمشكلة وجها آخر، هو أن الاستعمار يولد في الشعوب التي تمارسه نوعا من الأنانية يجعلها لا تعبأ بالفقر والظلم والاضطهاد والقتل الجماعي الذي يلحق بالشعوب الواقعة تحت قبضتها، بل وتسعى في كثير من الأحيان إلى تبرير السلوك الاستعماري الشائن والدفاع عنه كما لو كان أمرا مشروعا. وهذا لا يمنع - بطبيعة الحال - من ظهور جبهات داخلية تعارض الاستعمار داخل الدول الاستعمارية ذاتها، وهي ظاهرة مشرقة تمثلت بوضوح في فرنسا خلال حرب التحرير الجزائرية، وتتكرر حاليا في الولايات المتحدة على صورة معارضة شعبية واسعة النطاق ضد حرب فيتنام.
ومن خلال ظاهرة الحرب نستطيع أن نعلل كثيرا من مظاهر الانحلال الفكري والمعنوي التي انتابت العالم الرأسمالي منذ القرن التاسع عشر، التي ظهرت واضحة - بوجه خاص - خلال القرن العشرين، فقد انتشرت في ذلك العالم فلسفات اليأس والتشاؤم، والاتجاهات التي تؤكد أن المصير المحتوم للحضارة الغربية هو التدهور والانحلال، وبينما كانت الرأسمالية في بداية عهدها متفائلة مؤمنة بقدرة الإنسان على التقدم المستمر، نراها في مرحلة اكتمالها تعود مرة أخرى إلى روح التشاؤم المظلم التي حاربتها في البداية، وتشيع فيها الأفكار التي تضع الإنسان في طريق مسدود لا مخرج منه.
وقد شاعت في القرن العشرين - وبعد الحرب العالمية الثانية بوجه خاص - اتجاهات في الفكر والفن والأدب تجمعها كلها صفة هي تلك التي اصطلح على تسميتها «باللامعقول». وليس من الصعب أن ندرك الروابط التي تجمع بين هذه الاتجاهات، بما فيها من زعم بأن كل ما في الحياة عبث غير مفهوم، وبأن العالم التطور والتاريخ لا يسير نحو أية غاية معقولة، بل كل شيء فيه يفتقر إلى العقل ويستحيل فهم سببه أو الغاية منه، وبين حالة اليأس التي تنتاب الإنسان في المجتمع الرأسمالي، وشعوره بأن كل جهد يبذله عبث لا طائل وراءه، والأهم من ذلك كله إحساسه بالخطر يهدد كيانه في كل لحظة من جراء حربين عالميتين راحت ضحيتهما ملايين الناس، فضلا عن عشرات الحروب «الصغيرة» التي أزهقت أرواحا كثيرة وسببت دمارا هائلا، في مثل هذا المجتمع الذي تحل عليه الحرب - كما لو كانت لعنة لا يملك منها خلاصا - يكون من الطبيعي أن تصبح الاتجاهات الفكرية والفنية السائدة هي اتجاهات تؤكد عجز العقل وسيادة التشاؤم حتمية التدهور والانحلال.
ولقد ترتب على ذلك تزييف لطبيعة الحياة في المجتمع الحديث، وقع فيه عدد غير قليل من كبار مفكري المجتمعات الرأسمالية، فأدانوا التقدم التكنولوجي ذاته، ونظروا إليه كما لو كان هو أصل الشرور التي تعانيه البشرية، وتحسروا على «عهد ما قبل التصنيع» الذي كانت فيه البشرية بريئة من آثام الصناعة وأطماعها، الخطأ الأكبر الذي وقع فيه هؤلاء المفكرون هو أنهم ظنوا أن الشرور الناجمة عن تنظيم معين للمجتمع الصناعي، هو التنظيم الرأسمالي، تسري على كل شكل من أشكال هذا المجتمع، أو هي جزء لا يتجزأ من طبيعة عصر التقدم التكنولوجي ذاته؛ ومن هنا كانت حملتهم على التصنيع، واعتقادهم بأن الحروب والأزمات وانعدام الأمان كامنة في طبيعة المجتمع الصناعي ذاته، مع أن هذه الشرور لا ترجع في الواقع إلا إلى أسلوب الحياة الرأسمالية في هذا المجتمع. (3)
وإذا كانت الحروب انحرافا شاملا في السلوك على المستوى الدولي، فإن المرحلة الرأسمالية قد شهدت أنواعا أخرى من الانحرافات على المستويات المحلية، أهمها بالطبع هو الإجرام الذي أصبح مشكلة قومية بالنسبة إلى بلد كالولايات المتحدة، حيث تزداد معدلات الجريمة ارتفاعا عاما بعد عام، ولا يمكن بالطبع أن يزعم أحد أن ظاهرة الإجرام وليدة النظام الرأسمالي؛ إذ إن الظاهرة ذاتها قديمة قدم المجتمع الإنساني. ولكن الكثيرين يؤمن بأن الاتساع الهائل في نطاق الجريمة قد تولد عن المجتمع الرأسمالي عندما بلغ أقصى درجات نموه، ويدللون على ذلك بأن أكثر الدول الرأسمالية تقدما - وهي الولايات المتحدة - هي التي تنتشر فيها الجريمة بأعلى النسب، وبأشد أنواع التنظيم والتدبير إتقانا.
وليس من الصعب أن يجد المرء رابطة بين الارتفاع الشديد في معدل الجرائم، وبين تقدم الدول في سلم التنظيم الرأسمالي؛ ذلك لأن أسلوب العمل الرأسمالي حين يصل إلى أشد حالاته تطرفا، يثير في النفوس أطماعا لا حدود لها. وحين يجد المنحرفون أن طريق الثراء مسدود أمامهم، فإنهم يعملون على تحقيق غاياتهم بأيسر الطرق وأسهلها وهي الجريمة؛ ومن هنا رأى البعض أن ظاهرة الجريمة يمكن أن تعد، في مثل هذا المجتمع، وسيلة خاصة منحرفة، ومن وسائل إعادة توزيع ثروة المجتمع.
ولا جدال في أن المجتمع الرأسمالي المتقدم - في الولايات المتحدة - يعرف أنواعا أخرى من الجرائم غير المرتبطة بالمسائل الاقتصادية كجرائم القتل والتعذيب والاغتصاب إلخ. ولكن هذه الجرائم بدورها ترتبط «بمعنويات» النظام الرأسمالي؛ إذ إن تمجيد هذا النظام للعنف والتجاءه الدائم إلى الحروب واستخفافه بالجوانب الإنسانية للحياة، لا بد أن يخلق مناخا نفسيا عاما تزدهر فيه أعمال العنف التي لا يكاد المرء يجد لها سببا أو مبررا معقولا.
وأخيرا، فقد انتشر في المجتمعات الرأسمالية في الآونة الأخيرة مظهر آخر من مظاهر الانحراف، هو إدمان المخدرات، وأصبحت هذه الظاهرة تهدد كيان عدد كبير من شباب هذه المجتمعات، وأقرب تفسيرات ظاهرة الإدمان هذه إلى المنطق السليم، هو أنها ظاهرة هروبية، فالمدمن شخص هارب من واقع لا يطيقه. وهذا الواقع هو - بطبيعة الحال - واقع العنف والحرب والمنافسة المريرة التي لا ترحم، وبطبيعة الحال فإن هناك أنواعا أخرى من الهروب قد تكون أقل ضررا من إدمان المخدرات. ولكن الوطأة الشديدة لنظام الحياة السائد هي التي تدفع الكثيرين إلى السير في هذا الطريق الانتحاري. وهكذا فإن نفس النظام الذي بدأ بتمجيد العقل وإعلاء شأنه قد انتهى به الأمر إلى الهروب من العقل، أو إلى العجز عن مواجهة ذاته بصدق وصراحة. (4) المرحلة الاشتراكية
ظهرت الفكرة الاشتراكية، في صورتها المحددة المعالم، من قلب الرأسمالية، بوصفها رد فعل على ذلك النظام الذي ظن الناس في وقت ما أنه سيجلب لهم مزيدا من الرخاء، فإذا به يصيب الأغلبية الساحقة منهم بالفقر والشقاء، ويصيب الإنسان بأنواع من العبودية ربما كانت أشد مما كان يعانيه في كثير من مراحل التطور الاجتماعي السابقة، ولما كانت الاشتراكية قد ظهرت بهدف نقل المجتمع الإنساني إلى مرحلة جديدة يتخلص فيها من نقائص المرحلة الرأسمالية، فإن قدرا كبيرا من الجوانب الإيجابية في المرحلة الاشتراكية يمكن التوصل إليه - استنتاجا - مما قلناه من قبل عن المرحلة الرأسمالية.
والواقع أننا أطلنا الكلام عن المرحلة الرأسمالية لسببين: أولهما أن هذه المرحلة - التي لا يزال يمر بها جزء لا يستهان به من العالم - تمثل تحديا أمام المجتمعات التي قررت أن تسير في الطريق الاشتراكي، ولا بد من معرفة نقاط القوة والضعف فيها معرفة كاملة حتى تبدأ هذه المجتمعات مسيرتها وهي على علم تام بكل ما لدى الخصم الذي تحاربه من إيجابيات وسلبيات، أما السبب الثاني فهو أن الرأسمالية مرحلة اكتملت بالفعل، ومرت بأطوار متعددة حتى وصلت إلى شكلها الحالي الذي لا ينتظر أن تطرأ عليه تغييرات كبيرة في المستقبل. صحيح أن الرأسمالية تحاول في المجتمعات المتقدمة صناعيا أن تقاوم التيار الاشتراكي عن طريق اقتباس عناصر كثيرة منه. ولكنها تحارب في الوقت الراهن معاركها الأخيرة، ولا ينتظر منها أن تمر بتطورات مفاجئة غير متوقعة في المستقبل. أما الاشتراكية فما زالت - بالرغم من نجاحها السريع - تمر بمرحلة التجارب، والدليل على ذلك كثرة المذاهب والاتجاهات وتعدد التطبيقات فيما بين البلاد الاشتراكية المختلفة؛ ولذلك فإن الحكم على المرحلة الرأسمالية أيسر؛ لأن عيوبها ظهرت واضحة للجميع. أما تحديد الإيجابية للاشتراكية فيبدو أمرا أكثر صعوبة؛ لأن هذه المعالم بسبيل التحدد والتشكل في المرحلة الراهنة من تاريخ العالم.
ولقد كانت نقطة البدء في التفكير الاشتراكي هي محاولة استرداد القيم الإنسانية التي أهدرها النظام الرأسمالي. وكان لهذا الإهدار مظاهر متعددة تحدثنا من قبل عن الكثير منها، ولكن هناك مظهرا لم نتحدث عنه بعد، وتعمدنا أن نستبقيه حتى المرحلة الراهنة؛ نظرا لارتباطه الوثيق بظهور الاشتراكية، وأعني به ما يسمى في الفكر الاجتماعي والفلسفي «بالاغتراب». (4-1) فكرة الاغتراب
كان «الاغتراب» - ولا يزال - ملازما للرأسمالية منذ بداية عهدها؛ فحين اكتسبت النقود - في أول العصر الرأسمالي - كيانا قائما بذاته، مستقلا عن السلع التي كانت في الأصل مساوية لها. وحين أصبحت قادرة على النمو بذاتها وعلى التوالد والتزايد، بغض النظر عن العمل الإنساني الذي كان في الأصل منتج كل قيمة، عندئذ أصبحت النقود تجسيدا لحقيقة الاغتراب؛ ذلك لأن قدرة النقود على التزايد بذاتها، وقدرة رأس المال على التوالد، تعني الانفصال بين القيمة - التي تمثلها النقود - وبين الجهد الإنساني الذي يبذل من أجل اكتسابها، وتعني أن الاقتصاد قد أحدث انشقاقا بين الإنسان من حيث هو منتج للقيمة، وبين نتاج عمله؛ بحيث أصبح هذا النتاج يتخذ طابعا تجريديا منقطع الصلة بالمصدر الذي نبع منه، وهذا الانشقاق والانفصال هو الحقيقة المعنوية الكبرى المميزة للمرحلة الرأسمالية. (1)
فحين بلغت هذه المرحلة أوج اكتمالها، كانت أولى الخصائص التي تنبه إليها نقاد النظام الرأسمالي هي خاصية الاغتراب هذه، التي اتخذت في عصر التصنيع طابع الانفصال بين العامل من جهة، وبين وسائل إنتاجه وحصيلة هذا الإنتاج من جهة أخرى؛ فالعامل يشتغل في مصنع لا يملك منه شيئا، وهو لا يستطيع أن يحصل على قوت يومه إلا بأن يشتغل أجيرا لدى من يملك تلك الآلات والأدوات التي بها وحدها يستطيع أن يكون منتجا؛ أي إن العامل مغترب عن الوسائل التي بدونها لا يكون عاملا، ومن جهة أخرى فإن حصيلة إنتاج العامل تسير في مسالك لا يعلم عنها شيئا، فالسلع التي ينتجها العامل تذهب إلى «السوق»، تلك الحقيقة الكبرى في العالم الرأسمالي، التي هي مع ذلك حقيقة غامضة مجهولة لا يعرف أحد كيف يتحكم فيها؛ فالسوق قوة تجريدية تتحكم في كل ما ينتجه العامل دون أن تكون له أية صلة بما يدور فيه، وهنا أيضا نجد العامل مغتربا عما ينتجه، ونجد العمل الذي يفني عمره فيه يضيع بين أيد لا يعرفها، ويتبدد وسط قوى مجهولة لا يدري عنها شيئا. (2)
إن الاغتراب هو فقدان العنصر الإنساني في المعاملات الرأسمالية، وهو اقتلاع الإنسان من جذوره في المجتمع الذي لا تحكمه غاية سوى تحصيل المزيد من الربح. وهذا الاغتراب لا يقتصر على العامل وحده. بل إن المنافسة الحامية التي تسود الاقتصاد الرأسمالي تباعد ما بين البشر، وتنشر بينهم العداوة، وتجعل العلاقات بينهم مفتقرة إلى الروح الإنسانية، وحتى لو أراد الرأسمالي أن يكون إنسانيا في معاملاته، فإنه لا يملك ذلك؛ لأن قوانين المنافسة هي التي تملي عليه طريقة معاملته للعمال، ومقدار الأجر الذي يدفعه لهم وساعات عملهم، وهي التي تحدد طبيعة علاقاته مع غيره من الرأسماليين الذين ينافسونه في ميدان إنتاجه الخاص، فهو ليس حرا في معاملاته. بل إن هناك ما يشبه القدر الذي لا يرحم والضرورة المحتومة التي تتحكم في تصرفاته؛ ذلك لأن رأس المال - كما قلنا من قبل - يختنق إذا لم يتوسع، التوسع يقتضي عمل حساب قوانين المنافسة.
والواقع أن الرأسمالي ذاته يغترب عن نفسه بمعنى ما؛ ذلك لأن عمله - كما قلنا من قبل - يتخذ صبغة مستقلة عنه؛ بحيث يصبح هدفه الوحيد في الحياة هو أن تزداد أعماله توسعا وازدهارا، دون أن تعود نتيجة هذا التوسع عليه هو ذاته بفائدة ملموسة، فكثيرا ما تتدهور صحته وتسوء علاقاته بالناس وتتحطم أعصابه وتتخذ حياته طابع التوتر الدائم نتيجة لطموحه الزائد عن الحد. وهكذا يصبح التوسع في الأعمال أشبه ما يكون بقوة خارجة عنه، تملي عليه شروطها وتفرض عليه قانونها الخاص. (3)
وأخيرا، فإن المستهلك بدوره مغترب عن نفسه في المجتمع الرأسمالي؛ ذلك لأن النظام لا يعمل على إشباع حاجات الإنسان الحقيقية، وإنما يخلق حاجات زائفة، الهدف الوحيد منها هو أن تكون مجالا لمزيد من الربح والتوسع. ولكن على حساب تكامل الشخصية الإنسانية وتوازنها، وعلى حساب الاستخدام الرشيد لموارد المجتمع؛ فالمفروض أن يكون الإنتاج تلبية لحاجات موجودة بالفعل. ولكن كثيرا ما يحدث في المجتمع الرأسمالي أن يكون الإنتاج هو الأصل، وأن تظهر الحاجات فيما بعد، لا لشيء إلا لتصريف هذا الإنتاج فحسب. وهكذا يعم الإعلان على إقناع الناس بأمور تافهة تتحول لديهم بالتدريج إلى ضرورات، مع أنها في الأصل لا تلبي أية حاجة حقيقة لديهم؛ ففي البلاد الرأسمالية الكبرى تصرف الملايين على أنواع متعددة متنافسة من «أكل الكلاب»، أو على السيارات الفاخرة التي يحتاج الإنسان فعلا إلى ربع الطاقة التي تسير بها، والتي يتغير طرازها عاما بعد عام، ويستعين الإعلان بأحدث أساليب البحث النفسي ليبث في نفوس الناس اقتناعا زائفا بأن قيمتهم في المجتمع يحددها طراز السيارة التي يركبونها، وبأن ضخامة السيارة واتساعها وزيادة طاقة محركها علامة من علامات علو المكانة. وهكذا تفسد طباع الناس، وتخلق فيهم عادات سلوكية سطحية تافهة، ويعتادون بالتدريج التعلق بالمظهر السطحي بدلا من الجوهر الحقيقي، وتفرض عليهم حاجات مزيفة تنطوي على تبديد للموارد المادية، فضلا عن تحطيم المبادئ المعنوية، لا لشيء إلا لغرض الربح. وحين تسود على هذا النحو عقلية الاستهلاكية لأجل الاستهلاك، لا من أجل تلبية حاجات حقيقة، أو تحقيق ماهية الإنسان؛ فعندئذ يكون المستهلك بدوره قد اغترب عن ذاته؛ لأنه لم يعد يعرف ما هو في حاجة إليه من أجل استكمال إنسانيته، ولأن المطالب العرضية الزائفة أصبحت لها الغلبة على مطالبه الجوهرية، كل ذلك لكي يستطيع رأس المال أن يواصل توسعه، ولكي تستمر أرباحه في التدفق.
وهكذا يبدو الاغتراب منتميا إلى صميم الكيان الرأسمالي ذاته، ويصبح هو الوضع المميز للعامل إزاء وسائل إنتاجه وحصيلة عمله، وللرأسمالية إزاء عماله ومنافسيه بل وإزاء ذاته، وللمستهلك إزاء حاجاته ومطالبه الإنسانية ، إنه هو التعبير الصادق عن الوضع الإنساني في ذلك المجتمع. ومن المستحيل مواجهة هذا الموضوع مواجهة حاسمة إلا بالخروج على النظام الرأسمالي نفسه. (4-2) الاشتراكية نزعة إنسانية
كانت تلك نقطة بداية كثير من المذاهب الاشتراكية في دعوتها إلى ضرورة القضاء على النظام الرأسمالي الذي يجعل الإنسان عبدا لنفس القوى التي خلقها بيديه؛ فالاشتراكية تدعو الإنسان إلى السيطرة مرة أخرى على القوى التي أصبحت مسيطرة عليه، خارجة على إرادته، وهي تطالب بإعادة هذه القوى مرة أخرى إلى الإنسان، بدلا من تبديدها وتشتيتها خارجا عنه؛ وعلى هذا الأساس تكون الاشتراكية في صميمها نزعة إنسانية، هدفها أن تستعيد الإنسان المتكامل، الذي يجمع كل ما فرقته الرأسمالية من شتات، ويعيد ضمها إلى ذاته.
ومن هذه الزاوية تبدو المرحلة الاشتراكية سعيا إلى تحقيق جميع الإمكانات المادية والمعنوية للإنسان، وهي حين تفعل ذلك لا تستهدف التقدم المادي وحده على حساب التقدم المعنوي؛ ذلك لأننا لو قسنا المراحل المختلفة بمقياس ما أحرزته من تقدم مادي، فإن المرحلة الرأسمالية ستحتل - دون شك - مكانة هامة في تاريخ الإنسانية؛ لأن البشرية حققت فيها مكاسب مادية لا يمكن إنكارها. ومع ذلك فإن هذه المكاسب كانت تتم في كثير من الأحيان على حساب معنويات الإنسان وأخلاقياته.
فحين نستعرض أسباب النجاح الاقتصادي للرأسمالية، يجب ألا يغيب عن أذهاننا أنها لم تقتصر على استغلال الموارد الاقتصادية لأوروبا الغربية وقارتي أمريكا، وهي مناطق حافلة بالموارد الطبيعية الغنية التي لم تكن قد استغلت بعد في حالة أمريكا بالذات. بل إنها قد استفادت أيضا - بفضل الاستعمار المباشر والاستغلال الاقتصادي - من موارد العالم بأكمله، وذلك بوسائل هي أبعد ما تكون عن التبادل النزيه؛ ففي الحالات التي لم يكن فيها الاستغلال استعماريا مباشرا يستنزف موارد شعب واقع تحت قبضة الاستعمار، كان الغش والاغتصاب هو القاعدة التي يتم على أساسها التبادل، كانت المعاملات بين الدولة الرأسمالية والدول الأضعف بعيدة كل البعد عن التكافؤ، في مثل هذه الحالات لا يكون من المستغرب أن تحرز الدولة الاستعمارية أو الاستغلالية تقدما اقتصاديا سريعا، ولا ينبغي أن يعزى هذا التقدم إلى فضيلة كامنة في نظامها الرأسمالي. بل إن سببه الأهم هو أنها لا تتورع عن الالتجاء إلى أبعد الطرق عن الشرف في سبيل التفوق على الغير. ولقد أشار أحد زعماء الزنوج في أمريكا ذات مرة إلى التقدم الاقتصادي الهائل لبلاده، فأرجعه إلى عوامل من أهمها استغلال عمل الملايين من الزنوج لمدة عشرات بل مئات من السنين بلا أجر، حين كان الزنوج عبيدا أو بأجر أسمى زهيد، بعد أن تحرروا شكليا من حالة العبودية، وتساءل في هذا الصدد: هل من المستغرب إذا وجد تاجران: أحدهما لا يدفع لعماله أجورا، والآخر يدفع لهم أجرهم بانتظام، أن يتفوق الأول على حساب الثاني؟
هذا مجرد مثل بسيط يوضح سببا من أسباب التقدم في المرحلة الرأسمالية. ولكنه في الوقت ذاته يكشف عن ضخامة المسئولية الملقاة على عاتق النظام الاشتراكي؛ ذلك لأن على هذا النظام أن يحقق - وبوسائل نزيهة يقضي فيها على استغلال الإنسان للإنسان - تقدما يفوق ما أحرزته الرأسمالية بوسائل سهلة تفتقر إلى النزاهة؛ فالتحدي الأكبر الذي يواجه النظام الاشتراكي ليس مجرد التقدم، وإنما هو بلوغ التقدم في ظل علاقات إنسانية سليمة. (4-3) القيم الإيجابية في النظام الاشتراكي (1)
إن الاشتراكية تتخلص من روح المقامرة التي تسود النظام الرأسمالي، حيث تنتشر المضاربة في الأسهم سعيا وراء ربح لا يقابله أي عمل أو مجهود. بل إن أقصى ما يمكن أن يكون قد بذل فيه من جهد هو استخدام ذكاء المقامر، وهي تسعى إلى القضاء على الانفصال بين رأس المال وبين العمل المنتج، وذلك حين تجعل الملكية وظيفة اجتماعية بحيث يشعر كل من يعمل بأن له فيها نصيبا، وتقوم الاشتراكية على إدراك صحيح لقيمة العمل؛ ومن هنا فإنها تحاول بقدر طاقتها أن تجعل لكل فرد في المجتمع مستوى يعادل مقدار الجهد الذي يبذله ذلك الفرد في خدمة المجتمع، ويترتب على ذلك أن تستغني الاشتراكية عن الطفيليات الاجتماعية التي تعيش على عمل الآخرين، وعن أولئك «العاطلين بالوراثة» الذين لا فضل لهم سوى انتمائهم إلى أسر من مستوى اجتماعي معين. (2)
وبالمثل فإن الاشتراكية - في سعيها إلى التقدم - لا تعمل على خلق حاجات زائفة لدى جمهور المستهلكين من أجل توسيع دائرة النشاط الاقتصادي في مجال ما؛ ذلك لأن ما يحدث في المجتمع الرأسمالي من إصرار على التوسع لأجل التوسع، يمكن أن يؤدي إلى اختلال هائل في توازن الحاجات الاجتماعية؛ بحيث يتوقف مقدار نجاح أي مرفق اقتصادي على قدرته على الدعاية لنفسه واجتذاب العملاء، لا على تلبيته لحاجات حقيقية في المجتمع. وهكذا تزدهر صناعة أدوات الزينة - مثلا - ازدهارا هائلا، وتتعدد أنواع هذه الأدوات بلا مبرر؛ لأن أجهزة الدعاية تنجح في خلق طلب زائف على كل نوع جديد تبتدعه هذه الصناعة منها. أما في النظام الاشتراكي فإن الحاجة إلى سلعة كهذه تقاس بالحاجة إلى سلع أخرى أكثر حيوية - كالكتاب مثلا - وتعطي كل سلعة ما تستحقه من جهد واهتمام تبعا لحاجة المجتمع الحقيقية إليها.
وهكذا يظهر مبدأ التخطيط في المجتمع الاشتراكي بوصفه وسيلة لتحقيق التوازن بين حاجات المجتمع وبين ما يستطيع أن ينفقه على هذه الحاجات من موارد؛ فالتخطيط في أساسه جهد يبذل من أجل التخلص من فوضى الإنتاج، ومن أجل تحقيق النظرة الشاملة إلى موارد المجتمع وتوزيعها، حسب الأولويات، على مطالبه وحاجاته، ومثل هذه النظرة الشاملة يستحيل أن تتحقق في المجتمع الرأسمالي، الذي تسعى فيه كل صناعة وكل شركة إلى نفعها الخاص، حتى ولو كان ذلك على حساب الآخرين. ومن الواضح أن لمبدأ التخطيط في المجتمع الاشتراكي قيمة معنوية كبرى إلى جانب قيمته المادية، فهو من جهة يساعد على ترشيد الإنتاج في المجتمع على النحو الذي يضمن له نموا متوازنا لا يطغى فيه جانب على جانب إلا بمقدار ما يلي من حاجات حقيقية للمجتمع، وهو من جهة أخرى يساعد على انتشار مبادئ معنوية لا غناء عنها لكل مجتمع يسعى إلى تقدم حقيقي: كمبدأ النظرة الكلية إلى الأمور بدلا من النظرة الجزئية، والبحث عن نفع المجتمع ككل بدلا من نفع قطاعات معينة منه، والتخلص من أنانية الأجيال عن طريق التخطيط للمستقبل القريب والبعيد. (3)
ومن هنا كانت الاشتراكية هي وحدها المرحلة التي تتحقق فيها للإنسان حريته الحقيقية، ومن الضروري أن نفرق في هذا الصدد بين الحرية الحقيقية وبين الحرية الوهمية؛ ذلك لأن أنصار الرأسمالية هم أكثر الناس حديثا عن الحرية وتشدقا بها، حتى لقد وصل بهم الأمر إلى حد تسمية العالم الذي يطبق فيه نظامهم باسم «العالم الحر»، وبالفعل كان الاقتصاد الرأسمالي منذ بداية عهده - ولا يزال حتى الآن - يسمي نفسه باسم الاقتصاد الحر. وكان ازدهار الرأسمالية مرتبطا بفهم معين للحرية، هو حرية الأعمال التي لم يكن من المشروع التدخل في مسارها؛ لأنها - كما يعتقد - تنظم نفسها وفقا لمقتضيات السوق، ووفقا لمصالح المنتج والمستهلك في نهاية الأمر.
على أن هذه الحرية التي ساعدت الرأسمالية على توطيد مركزها في بداية عهدها، سرعان ما تكشف وجهها الحقيقي، فإذا بها عبودية لمعظم طبقات المجتمع؛ ذلك لأنك تستطيع أن تقيم علاقة بين صاحب العمل القوي والعامل الضعيف على أساس من «الحرية». ولكن لمن ستكون الحرية في هذه الحالة؟ لا جدال في أن عدم التناسب في القوة بين الاثنين، واحتياج العامل إلى صاحب العمل لكي يضمن عيشه، سيجعل مثل هذه الحرية في التعامل بينهما وسيلة لاضطهاد الأول للثاني. وفي هذه الحالة لا يعد تدخل الدولة لحماية العامل حدا من الحرية. بل إنه إقرار وتأكيد لها.
مثل هذا يقال عن سائر «الحريات» المشهورة في العالم الرأسمالي، فحرية الصحافة شيء رائع دون شك. ولكن أين صحافة البلاد الرأسمالية من الحرية؟ إن اعتمادها على الإعلان - الذي تتحكم فيه المؤسسات الرأسمالية الكبرى - يجعلها ألعوبة في يد نفس القوى التي تدعي أنها حرة إزاءها. أما الصحافة التي تتسم بقدر من الحرية يتيح لها أن توجه النقد إلى الأسس التي يقوم عليها النظام القائم، فإن الأموال تقبض عنها إلى أن تفلس، أو تصدر بصورة لا تسمح بقراءتها إلا لعدد محدود جدا من القراء، ومثل هذا يقال عن حرية التعاقد بين العامل وصاحب العمل؛ إذ إن هذه حرية شكلية لا أساس لها في الواقع ، الذي يكون فيه مركز العامل من الضعف بحيث لا يستطيع على الإطلاق أن يقف ندا لصاحب العمل في عملية التعاقد، مما يضطر العمال إلى التجمع في اتحادات تقوي مركزهم على المساومة، وقد يلجئون - إذا أعيتهم الحيل - إلى إضرابات طويلة الأمد، تعود على معيشتهم اليومية بأضرار لا يستهان بها. أما حرية تكوين الأحزاب، فإنها في الدول الرأسمالية الكبرى أشبه ما تكون بلعبة مسلية تتغير فيها الوجوه دون أن يطرأ على السياسة ذاتها أي تغيير حقيقي، والمثل الواضح لذلك هو الحزبان: الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة، وهما الحزبان اللذان لا يستطيع أقطابهما ذاتهم أن يضعوا حدا فاصلا واضحا بين اتجاهاتهما السياسية، ومثل هذا يقال عن حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا. وأخيرا فإنا نسمع في العالم الرأسمالي عن حرية المنافسة بوصفها فضيلة من فضائل ذلك النظام. ولكن تجربة التاريخ أثبتت أن المنافسة تتحول في الدول الرأسمالية الكبرى إلى احتكار يؤدي إلى تنظيم العلاقات بين المنتجين على حساب جمهور المستهلكين.
مثل هذه الحرية الشكلية ليست هي الهدف الذي يسعى إليه النظام الاشتراكي، فهذا النظام يحاول أن يكفل للإنسان حرية حقيقية تنبع من الجذور، لا حرية تطفو على السطح، وهو حين لا يترك لشخص واحد أو مجموعة من الأشخاص حرية التحكم في وسائل الإنتاج الاقتصادي؛ يضمن بذلك تحرر الجماهير العريضة من طغيان رأس المال، ويرسي الأساس الحقيقي لسائر أنواع الحريات، صحيح أن هذه الحريات قد لا تكون صارخة كتلك التي يتشدق بها دعاة الحرية الليبرالية. ولكنها مع ذلك حريات حقيقية تستمتع بها الغالبية العظمى من المواطنين، فحرية الكلمة تصبح عندئذ بحثا وراء الحقيقة. وحين تصبح الحقائق في متناول أيدي الجميع فإنها تحررهم من الأوهام والأكاذيب والتضليل. ومن التشنيع السطحي الذي يقدم إلى الناس على أنه نقد اجتماعي عميق. أما الأحزاب فإنها عندما تعكس موازين القوى الحقيقية بين طبقات المجتمع، ولا تعود مجرد أداة في يد فئات من الأفراد الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، فإنها تصبح عاملا أساسيا من عوامل التعبير عن الرأي في المجتمع الاشتراكي . وأخيرا فإن حرية المنافسة مكفولة في النظام الاشتراكي بدوره، ولكنها منافسة في خدمة المجتمع. وليست منافسة في استنزاف الأرباح من أفراده؛ ففي كل هذه الحالات إذن توفر الاشتراكية للمجتمع حرية حقيقية، مبنية على التخلص من الاستغلال الاقتصادي والظلم الاجتماعي.
وهكذا يتبين لنا أن الاشتراكية في صميمها مذهب إنساني يسعى إلى أن يرد للقيم الإنسانية معناها الحقيقي الذي شوهته الرأسمالية وابتذلته، ويهدف في نهاية الأمر إلى أن ينشر بين الناس اتجاهات معنوية لم تعرفها البشرية في عهودها السابقة التي كان يشيع فيها كلها استغلال الإنسان للإنسان وامتهانه لكل ما يعتز به من قيم.
الباب الثاني
أضواء على الفلسفة الحديثة
الأورجانون الجديد وفلسفة بيكن
(1) حياة فرانسس سبيكن
مرت إنجلترا بتغيرات اجتماعية وسياسية هامة في العصر الذي ولد فيه فرانسس بيكن، فقبل مولده بقليل كانت البلاد قد نزعت عن نفسها سيطرة رجال الدين واصطبغت بالصبغة الزمنية، ولم تكتف بإحلال أناس عاديين محل رجال الدين في المناصب الرئيسية للدولة. بل إنها استولت على الأراضي الشاسعة التي كانت الهيئات الدينية تدعم بها سلطتها، ووزعتها - بعد حل الأديرة - على الملاك العاديين. وهكذا بدأ يظهر في إنجلترا نظام جديد، تتضاءل فيه سلطة الكنيسة، ويصطبغ بصبغة زمنية متزايدة القوة. ومما له دلالته الواضحة أن أبا فرانسس بيكن، وهو السير نيكولاس بيكن، كان واحدا من الوزراء المدنيين الذين حلوا محل رجال الدين في تولي المناصب الهامة، ووصل إلى منصب حامل الأختام الملكية. وكانت أسرته من الأسر التي انتفعت بحل الأديرة وتوزيع أراضيها. أما أمه - وهي ابنة السير أنتوني كوك - فكانت سيدة واسعة الثقافة، ولا سيما في الآداب واللغات القديمة. وكانت كالفينية متعصبة. وهكذا كانت البيئة العامة في إنجلترا، وكذلك بيئة أسرة بيكن الخاصة، ملائمة أشد الملاءمة لظهور مفكر متحرر يؤمن بالعلوم الزمنية ويهاجم كل أنواع السلطة في ميدان العلم.
وقد ولد فرانسس بيكن في 22 يناير سنة 1561م، وعين أبوه في منصبه الكبير بعد مولده بسنوات قلائل: وكثيرا ما كان أبوه يصطحبه إلى البلاط الملكي، حيث كانت الملكة إليزابيث تعجب بحضور بداهة الطفل وحكمته السابقة لأوانها، وتلقبه «بحامل الأختام الصغير». وهكذا ظهر منذ البداية عنصر آخر كان له تأثيره الواضح في شخصية بيكن: وهو أن نشأته وطبيعة علاقاته العائلية كانت تؤهله على نحو تلقائي لمستقبل سياسي، ولخدمة القصر الملكي في بلاده.
وكان بيكن في الثانية عشرة من عمره عندما التحق بكلية «ترينيتي» بجامعة كيمبردج. وهكذا أتم دراسته فيها وهو لم يكمل الخامسة عشرة من عمره، وهناك ظهر عنصر ثالث كان له دوره الحاسم في تحديد اتجاهه العقلي في المستقبل؛ ذلك لأنه سرعان ما سئم المناهج الدراسية العتيقة التي كانت سائدة في الجامعة، والتي كانت كلها مركزة حول منطق أرسطو وميتافيزيقاه ولاهوت القديس توما الأكويني، واتضح له منذ البداية أن الفلسفة التي تلقاها إنما هي فلسفة ألفاظ عقيمة، لا تفيد من الناحية العملية شيئا، ولا تقدم أية معونة للإنسان في كفاحه الأساسي من أجل السيطرة على الطبيعة والنهوض بحياته. وهكذا تحدد في ذهنه الهدف الذي سيتجه إلى تحقيقه طوال حياته، وهو القضاء على سلطة القدماء والمدرسيين، والدعوة إلى فلسفة مثمرة من الناحية العملية.
وقد انصرف بيكن بعد هذه المرحلة الأولى من دراسته إلى الدراسات القانونية. ولكن لم يتم تعليمه القانوني إلا بعد وقت طويل: فقبل إتمام دراسته، منحت له فرصة السفر إلى الخارج، ليعمل مساعدا للسفير البريطاني في فرنسا، فاغتنم الفرصة وسافر إلى باريس، حيث قضى في عمله هذا عامين ونصف العام. وفي عام 1579م عاد إلى بلاده على عجل؛ إذ توفي أبوه فجأة دون أن يؤمن له مستقبله، فكان على بيكن أن يشق طريقه بنفسه بعد أن كان يعتمد كثيرا على مساعدات أبيه، واضطر بيكن إلى الاستدانة لإكمال دراساته القانونية، ومنذ ذلك الحين أصبحت الاستدانة عادة ملازمة له طوال حياته. وكانت من أوضح مظاهر الضعف في شخصيته.
وفي تلك الفترة بدأت صداقة بيكن للإيرل إسكس
Essex
وهو شاب مرموق تفوق في الميدان العسكري، واختارته الملكة إليزابيث صفيا لها وهو في الحادية والعشرين من عمره، في الوقت الذي كانت هي فيه تناهز الستين من عمرها، وكثيرا ما كان بيكن يقدم النصح والتوجيه إلى صديقه، بينما قدم إليه هذا الأخير خدمات كثيرة، ومنها ضيعة صغيرة تدر إيرادا معقولا، ومع ذلك فقد ساءت العلاقات بين إسكس وبين الملكة، واتهم بخيانتها وتدبير انقلاب ضدها، فحوكم وأدين وأعدم في عام 1601م. وكان بيكن نفسه من المشتركين في إدانة صديقه. وفي إثبات مسئوليته عن خيانة الملكة، ويرى الكثيرون في ذلك نقطة سوداء في حياة بيكن، ويعدونها من أوضح مظاهر انتهازيته ورغبته في تملق الملوك ولو على حساب أخلص أصدقائه، على حين أن كتابا آخرين يرون أن بيكن لم يفعل إلا ما يحتمه عليه الواجب، وأن تهمة الخيانة ثابتة على إسكس، فلم يكن مفر من الاشتراك في إدانته، وعلى أية حال فقد أكد بيكن نفسه أنه آثر مصلحة الوطن - ممثلا في شخص الملكة - على علاقته الشخصية بصديقه. وكان يرى في ذلك مبررا كافيا لسلوكه.
وبعد عامين من إعدام إسكس، توفيت الملكة إليزابيث، واعتلى جيمس الأول عرش إنجلترا، وانتعشت آمال بيكن في الحصول على منصب حكومي كبير، يدر عليه دخلا سنويا يضمن له حياة مستقرة؛ ذلك لأنه كان قد بذل محاولات متعددة للحصول على منصب كبير في عهد إليزابيث. ولكنه لم يتلق إلا وعودا، ولم يصل إلى شيء مما كان يطمع فيه. وفي سنة 1607م تولى بيكن أول منصب عام كان يصبو إليه، وهو منصب المدعي العام. وفي سنة 1613م أصبح محاميا عاما، ثم مستشارا خاصا للملك سنة 1616م. وفي العام التالي أصبح حامل الأختام الملكية. وفي سنة 1618م عين كبير للمستشارين، ومنح لقب «لورد فيرولام» ثم منح لقب «ألفيكونت» سنة 1621م.
وعندما بلغ نجاح بيكن في ميدان المناصب العامة هذه القمة، بدأ يتدهور بسرعة، فقد اتهم بالرشوة، وبأنه يتقاضى هدايا من المتهمين قبل محاكمتهم وأثناءها، وحاول الإنكار في البداية، ولكنه اضطر إلى الاعتراف بتقاضي الرشوة، وإن كان قد أكد مع اعترافه هذا أمرين: أحدهما أن هذه الهدايا لم تؤثر في الأحكام القضائية التي أصدرها، والآخر أن تقاضي الهدايا كان أمرا شائعا في بلاده في ذلك الحين ، حتى بالنسبة إلى مناصب القضاة، وقد كان بالفعل صادقا في المسألة الثانية على الأقل، ويبدو أن حاجته إلى المال، وديونه التي ظلت تتراكم طوال حياته، وتعوده حياة البذخ والمتعة، كل ذلك جعله يغض الطرف عن المصدر الذي يحصل منه على المال، أو الوسيلة التي يأتيه بها هذا المال، وعلى أية حال فقد أدانه مجلس اللوردات، وحكم عليه بغرامة مقدارها 40 ألف جنيه، والحبس في البرج طوال الوقت الذي يشاؤه الملك، وعدم تولي أي منصب في الدولة، أو الاقتراب من البرلمان أو المحاكم. ومع ذلك فقد أعفاه الملك من الغرامة ولم يدم حبسه إلا أياما قلائل، وإن يكن قد حرم بالفعل من تولي المناصب العامة بعد ذلك، ومن الواضح أن تخفيف العقوبة على هذا النحو دليل على أن جريمته لم تكن شيئا خارجا عن المألوف في ذلك الحين.
ورغم أن بيكن قد تفرغ بعد نكبته هذه لحياته الخاصة ولمشروعاته العلمية الواسعة، فإن صحته - التي لم تكن قوية في وقت من الأوقات - قد بدأت تتدهور بسرعة. وكان موته مرتبطا ارتباطا وثيقا بالهدف الرئيسي لحياته الفكرية، وهو تحويل العلم إلى ميدان التجربة العلمية؛ ففي أثناء تجربة بدا له أن يجريها في يوم مثلج شديد البرودة، لكي يختبر تأثير التبريد في منفع التعفن، أصيب ببرد قاتل، وتفاقم المرض بسرعة، فتوفي في التاسع من أبريل سنة 1626م. وكان عندئذ في الخامسة والستين من عمره.
فإذا شئنا أن نلخص أهم العوامل التي تحكمت في تحديد الاتجاه الفكري لبيكن من خلال دراستنا السابقة لحياته، لقلنا: إن أولها هو ارتباطه بأسرة لها مصلحة أساسية في التجديد الديني بإنجلترا. وفي استقلال الكنيسة الإنجليزية عن كنيسة روما المتعصبة، فقد كان هذا العامل هو الذي تحكم في دعوته إلى الفصل القاطع بين مجال الدين ومجال العلم. وفي ثورته على السلطة العقلية بجميع أنواعها.
والعامل الهام الثاني هو اندماجه الكامل في الحياة السياسية لعصره؛ ذلك أن هذا الاندماج جعله عاجزا عن التفرغ لمشروعاته العلمية ، وهو أمر كان له تأثيره في تخطيط هذه المشروعات وأسلوب كتابتها، كما سنرى فيما بعد. ومع ذلك فقد أراد بيكن أن يحول حياته السياسية إلى أداة لخدمة مشروعاته العلمية، وينتهز فرصة توليه أرفع مناصب الدولة من أجل تحقيق هذه المشروعات علميا، ويستدل بعضهم من ذلك على أن السياسة عند بيكن لم تكن سوى وسيلة، وأن الغاية الحقيقية إنما هي خدمة العلم؛ وبذلك يدفعون عنه تهمة الانتهازية والرغبة في الصعود إلى أعلى المناصب ولو على حساب القيم الأخلاقية. وهذا رأي لا يمكن الجزم بصحته. غير أن هناك شواهد متعددة على أنه كان يعد النجاح في ميدان الحياة العامة وسيلة لتحقيق أهدافه العلمية؛ وذلك لسببين: أولهما شخصي، وهو أنه بطبيعته لم يكن من ذلك النوع الذي يستطيع أن يعيش على الكفاف، بل إنه لم يكن يستطيع أن يقدم خير ما عنده إلا وسط مظاهر الترف التي توارثها واعتادها، والسبب الثاني عام، هو أنه كان يستطيع - بالوصول إلى المناصب الرفيعة - أن يكتسب من النفوذ والسلطة ما يمكنه من وضع مشروعاته موضوع التنفيذ الفعلي، ومن إقناع الحكومة والناس بها، ومن هنا فإن أهداف حياته كلها تتلخص في ذلك الخطاب الذي بعث به إلى خاله في عام 1592م يطلب منه مساعدته على الحصول على منصب هام، ويقول فيه: «لقد اتخذت من المعرفة كلها ميدانا لي». وفي هذه الرسالة أكد له أنه لا يريد المنصب الرفيع إلا ليستطيع تنفيذ ما في ذهنه من المروعات، إذ إن تطهير المعرفة من الأوهام والتشويهات «هو أمر استقر في ذهني حتى أصبح راسخا لا يتزعزع.»
ويرى «أندرسن» أن نداءات بيكن المتوالية إلى البلاط لكي يعينه على تنفيذ مشروعاته كانت دليلا على أن المعرفة عنده مفضلة على المنصب السياسي، «فمن الإنصاف لبيكن أن نقول: إنه كان على استعداد لأن يغامر في سبيل تفسيره الجديد للطبيعة. وفي الوقت الذي كان لا يزال يسعى فيه للحصول على منصب كبير في الدولة، بتقديم نداء صريح إلى رئيس الكنيسة القائمة وحاكم الدولة من أجل مشروع علمي يتضمن فلسفة مادية صريحة، ومن شأنه حتما أن يحدث انقلابا في تكوين معاهد العلم القائمة والأساليب المتبعة فيها»،
1
وهكذا ظل بيكن يلح على الأمراء وكبار رجال الدولة، وعلى الملك جيمس الأول - الذي كان يعرف عنه حب العلم؛ لكي يساعده في تحقيق مشروعاته العلمية، التي لخصها ذات مرة بأنها إنشاء مكتبة تضم كل ما جادت به قريحة الإنسان في الشرق والغرب، وحديقة بها كل أنواع النباتات في العالم، وكذلك كل أنواع الحيوانات وكأنها في بيئاتها الطبيعية، ومتحف يضم كل اختراعات الإنسان الآلية، ومعمل كامل المعدات. ومع ذلك لم يستمع إليه أحد، وظنوا أن مطالبه هذه إنما تنبعث عن طموح شخصي أو سعي إلى الشهرة والمنصب الرفيع، ولم يستطع جيمس الأول أن يقتنع بأن يزود بيكن ما زود به الإسكندر الأكبر أرسطو من المساعدات، فلم يساعده في مشروعه الذي يهدف إلى تأليف دائرة معارف للعلوم الطبيعية، وإنشاء مجمع علمي يتفرغ للبحث التجريبي، ولم يفعل شيئا لتغيير خطة الجامعات ومعاهد العلم القائمة من الدراسة العتيقة إلى الدراسة التجريبية الطبيعية الحديثة، ولم تبدأ هذه المشروعات في التحقيق إلا بعد وفاة بيكن، كما سنرى في الجزء الختامي من هذا البحث. (2) مؤلفات بيكن
كان أول مؤلفات بيكن هو كتاب «المقالات»
Essays
وقد نشره أولا في سنة 1597م. وكان عندئذ كتيبا صغيرا يحوي عشر مقالات فقط، ثم أعاد طبعه مع إضافة مقالات جديدة إليه، في سنة 1613م وسنة 1625م، ووصل في المرة الأخيرة إلى ثمانية وخمسين مقالا في موضوعات متفرقة، تتميز كلها بالأسلوب الشيق والأفكار المبتكرة، ويعد هذا الكتاب من أحب كتب بيكن إلى نفوس القراء.
وعندما تولى جيمس الحكم، أراد بيكن أن يتقرب إليه ويلفت نظره إلى مشروعاته، فنشر في عام 1605م كتاب «النهوض بالعلم
The Advancement of Learning » باللغة الإنجليزية وأهداه إلى الملك، وقد حمل بيكن في هذا الكتاب على تعاليم المدرسين، ونبه إلى الطريقة التي يراها كفيلة بالنهوض بالعلوم. وقد أعاد بيكن نشر هذا الكتاب فيما بعد، بعد ترجمته إلى اللاتينية وإدخال إضافات كثيرة عليه، بعنوان: «قيمة العلم والنهوض به
De digntitate et augmentis scientiarum
في عام 1623م»، وعمل بيكن بعد ذلك على نشر آرائه في مجموعة كبيرة من المؤلفات اللاتينية التي لم تنشر خلال حياته، والتي تضمنت أفكارا تكرر معظمها في كتبه الرئيسية، وقد بلغ عدد هذه المؤلفات اثني عشر كتابا. وفي عام 1609م نشر بيكن كتاب «حكمة الأقدمين
De sapientia verterum »، وبدأ في وضع خطة كتابه الأكبر «الإحياء العظيم
Instauratio magna ». وكان بيكن يتوقع أن يكون هذا الكتاب أعظم ما كتب؛ بحيث يعبر فيه عن نفسه بحق ويبلغ رسالته إلى العالم.
وكانت خطة كتاب «الإحياء العظيم» - كما رسمها بيكن في البداية - تقضي بأن يتألف الكتاب من ستة أجزاء، لم يستطيع أن يتم إلا واحدا منها، وحتى في هذه الحالة ظهر الكتاب ولما يكتمل بناؤه بعد، ولنتأمل عناوين هذه الأجزاء كما أراد بيكن أن تكون: (1)
أقسام العلوم
The Divisions of the sciences ، وهو تصنيف للعلوم لم يكتبه بيكن فعلا، ولكنه استعاض عنه مؤقتا بالجزء الثاني كتاب «النهوض بالعلم»، ورأى أن هذا الجزء يفي بالغرض حتى يتم هو تأليف كتاب خاص في الموضوع، وهو ما لم يفعله قط. (2)
الأرجانون الجديد
Novum organum
وعنوانه الفرعي هو: «إرشادات في تفسير الطبيعة
Directions concerning the interpretation of Nature ». وهذا هو الجزء الذي نشره بيكن فعلا، أما لفظ «الأورجانون» فيعني الأداة، أو المنطق نفسه، بوصفه أداة للتفكير العلمي، وقد أراد بيكن باستخدامه هذا اللفظ، أن يعبر عن معارضته لمنهج أرسطو ومنطقه الذي كان يعرف باسم الأورجانون. (3)
ظواهر الكون، أو تاريخ طبيعي وتجريبي تبنى على أساسه الفلسفة
The phenomena of the Universe, or a Natural and Experimental History for the foundation of Philosophy .
ويصف بيكن هذا الجزء بأنه دائرة معارف للعلوم الطبيعية وصنائع الإنسان وفنونه، يمكن عن طريقها إقامة الفلسفة على أساس سليم من دراسة الواقع، بعد أن كانت تبنى من قبل على تجريدات لا صلة لها بالعالم الفعلي، وقد ألف بيكن بضعة أبحاث قصيرة من أجل دائرة المعارف هذه. ولكنه كان يؤمن بأن هذا عمل لا يمكن أن يقوم به رجل واحد. (4)
سلم العقل
The Ladder of the intellect
ويوضح الطريقة التدريجية في تطبيق المنطق على تفسير الوقائع التي جمعت في المرحلة السابقة. (5)
التمهيدات، أو استباقات الفلسفة الجديدة
The Forerunners, or Antieipations of the new philosophy . وهذا الجزء يقدم صورة تمهيدية للمعرفة الجديدة، وللقوة التي يكتسبها الإنسان عندما يتم «الإحياء». (6)
الفلسفة الجديدة، أو العلم الإيجابي
The New philosophy, or Active Science
وقد صرح بيكن بأن قدراته لن تمكنه من كتابة هذا الجزء الأخير، الذي سيكتبه العلماء أنفسهم بأبحاثهم، المفكرون بآرائهم المبنية على دراسة سليمة للواقع. وكان يكفيه أنه بدأ السير في الطريق، وعلى البشرية أن تكمل ما بدأ.
وأول ما يلاحظ على هذه الخطة هو أن بيكن لم يتم الجزء الأكبر منها، وكل ما فعله هو أنه حدد أهدافه العامة، ثم شرع في تنفيذ أجزائها الأولى، وتوقفت جهوده عند هذا الحد، وقد عمل شراح فلسفته على إدراج كتاباته المتفرقة - ولا سيما مقالاته اللاتينية - ضمن هذه الخطة، وإن لم يكن هو ذاته قد فعل ذلك، وحتى في هذه الحالة نجد أن هناك أجزاء غير قليلة من هذه الخطة لم تكتب فيها إلا صفحات قلائل، بينما الجزء الأخير لم يكتب فيه حرف واحد.
ولعل أهم نتيجة تكشف عنها خطة بيكن هذه هي أنه لم يؤلف بالفعل كتابا اسمه «الأورجانون الجديد»، وإنما ألف جزءا من «الإحياء العظيم» يحمل هذا العنوان، وعندما نشر هذا الجزء أثناء حياة بيكن، كان الغلاف يحمل اسم «الإحياء العظيم». وهكذا فإن «الأروجانون الجديد» ليس كتابا مستقلا، وإنما هو جزء من كتاب، أو على الأصح جزء من خطة عامة لإصلاح العلم وللنهوض بحياة الإنسان. ومن الواجب دائما أن ينظر إليه داخل سياقه الطبيعي، لا أن يؤخذ على أنه بحث منفصل يكون أهم كتابات بيكن. وقد تضمن القسم الثاني من «الأورجانون الجديد» خطة فرعية لهذا الجزء، لم يستطع بيكن أن يتمها بدورها. وهكذا فإن «الأورجانون الجديد» جزء من خطة شاملة لم تكتمل. كما أن للأورجانون الجديد نفسه خطة فرعية لم يكتمل منها إلا جزء بسيط، وقد ألف الكتاب على صورة فقرات منفصلة
aphorisms
لها أرقام ثابتة، وهو مؤلف من جزأين: جزء سلبي بعنوان «تفسير الطبيعة وقدرة الإنسان»، وجزء إيجابي بعنوان «تفسير الطبيعة وسيادة الإنسان»، وأسلوب الكتاب شيق بليغ، يتضمن تشبيهات رائعة اشتهر بها بيكن في كل كتاباته حتى عده البعض أمير البيان في عصره، سواء أكتب باللاتينية أم بالإنجليزية (وقد بلغ من تحكمه في اللغة أن ذهب بعض الباحثين المحدثين إلى أنه هو المؤلف الحقيقي لدرامات شكسبير، على حين أن هذا الأخير لم يكن إلا شخصا مغمورا، ورغم ابتعاد هذا الزعم عن الصواب، فإنه ينطوي على تقدير ضمني هائل لأسلوب الكتابة عند بيكن).
ولا شك أن من الأسئلة الهامة التي ينبغي الإجابة عنها في صدد الكلام عن مؤلفات بيكن، السؤال عن السبب الذي دفعه إلى الكتابة بطريقة الفقرات المنفصلة، في هذا الكتاب الرئيسي على الأقل. والواقع أن مجموعة مؤلفاته كلها كانت بدورها أشبه بالفقرات المنفصلة التي تفتقر إلى الإحكام والترابط: فكان يبدأ مشروعا تأليفيا ثم يتركه لينتقل لغيره، وقد يعود إلى المشروع القديم بعد ذلك ولكن بعد تغيير خطته. وهكذا فعلى أي نحو نعلل هذا الطابع غير المتصل لتفكيره سواء في كتاب «الأورجانون الجديد» وفي مؤلفات منظورا إليها في مجموعها.
أول تعليل لهذه الظاهرة نستمده من طبيعة حياة بيكن: فقد كانت مهامه العامة وآماله في المناصب الكبيرة ومساعيه للوصول إليها تشغل الجزء الأكبر من وقته. وليس معنى ذلك أنه آثرها على العلم، وإنما المهم في الأمر أن أوقات فراغه كانت محدودة. وهكذا كان يكتب في فترات «الهدنة» ما بين حروبه المستمرة مع خصومه، ومشاغله التي لا تنقطع في الحياة العامة، ومن المؤكد أن هذه الحياة المضطربة الصاخبة قد انعكست على طريقة تفكيره وكتابته، وطبعتها بطابع التجزؤ والاضطراب.
على أننا نستطيع أن نهتدي في كتابات بيكن ذاتها إلى تعليل موضوعي آخر لهذه الظاهرة، مستمد من نظرته الخاصة إلى الطريقة التي ينبغي أن يعرض بها المفكر النزيه آراءه، فهو في إحدى فقرات كتاب «الأورجانون الجديد» يعلل سبب إجماع الناس على الإعجاب بكتابات الأقدمين، رغم كل ما فيها من نقص، فيقول: «إنهم يقدمونها إلينا ويعرضونها علينا بطريقة من شأنها أن تضفي عليها قناعا نتوهم معه أنها كاملة تامة، فلو تأملت منهجهم وتقسيماتهم، لبدا أنها قد انتظمت كل ما يتعلق بالموضوع واشتملت عليه، ومع أن هذا الإطار قد أسيء ملؤه، وأنه أشبه بالقربة الفارغة، فإنه يتخذ في نظر الذهن الساذج مظهر العلم الكامل وصورته. أما الباحثون الأوائل القدماء عن الحقيقة، فقد كان لديهم من الأمانة ومن التوفيق ما جعلهم ميالين إلى أن يصوغوا ويعرضوا كل معرفة أرادوا استخلاصها بالتأمل، في صورة فقرات منفصلة
aphorisms ، أو جمل قصيرة مبعثرة لا يربط بينهما أي منهج، دون أن يدعوا أو يزعموا أنها تشتمل على أي علم كامل»،
2
وواضح من هذا النص أن بيكن يؤمن بأن عرض الآراء في صورة متكاملة قد يكون نوعا من خداع الناس، إذا كانت هذه الآراء تتعلق بموضوعات لم يكتمل البحث فيها بعد، ولم يصل المرء فيها إلى حقيقة تامة، وطالما أن العلم لم يكتمل، فمن الواجب ألا يعرض على الناس في صورة مكتملة، ولما كان هو ذاته أول من يعترف بأن الموضوعات التي تعرض لها ما زالت في حاجة إلى بحوث كثيرة، فقد كان من الطبيعي ألا يحاول خداع الناس، أو تكرار ما فعله بعض القدماء، بعرض أفكار جزئية في صورة مكتملة. ومما يؤيد هذا التعليل أن بيكن يقدم إلى القارئ وصفا للجزء الإيجابي من كتاب «الأورجانون الجديد»، فيقول: «نود ألا يعتقد أحد أننا نطمح إلى إنشاء أية مدرسة أو طائفة فلسفية كما فعل اليونانيون القدامى أو بعض المحدثين، إذ ليس هذا هدفنا، ونحن لا نعتقد أن الأفكار المجردة عن الطبيعة ومبادئ الأشياء تحدث تأثيرا كبيرا في أقدار البشر، وهكذا فإن جهدنا ليس مركزا في هذه الموضوعات النظرية، والعقيمة في الوقت ذاته، وإنما استقر عزمنا على أن نحاول إيجاد أساس أمتن لقدرة الإنسان وعظمته، ومد حدودهما إلى أبعد الآفاق، وعلى الرغم من أننا قد نقول في هذا الموضوع أو ذاك وفي بعض المسائل الخاصة، بآراء تبدو لنا أصح وأوثق من الآراء التي يشيع الاعتراف بها، بل أستطيع أن أقول: إنها أنفع منها، فإننا مع ذلك لا نقدم نظرية شاملة ولا كاملة،
3
وهكذا كان بيكن يتحاشى الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه القدماء، ويحرص على أن يعرض آراءه على أنها «محاولات» بحيث تكون طريقة العرض ملائمة لموضوعات البحث وللمرحلة التي وصل إليها فيه .» (3) الخصائص العامة لفلسفة بيكن
إذا تأمل المرء فلسفة بيكن من خلال كتاب «الأورجانون الجديد» بدا له أن أهم ما تتميز به هذه الفلسفة هو تجديدها للمنطق، ونظريتها الجديدة في الاستقراء. أما إذا تأمل هذه الفلسفة من خلال الخطة العامة لكتاب «الإحياء العظيم» الذي لا يكون الأورجانون إلا جزءا واحدا منه؛ لبدت له محاولة ذات طابع أعم بكثير، لكشف القيم الجديدة التي تتضمنها الحضارة العلمية الحديثة في أول عهودها، ولاستخلاص المضمونات الفكرية لعصر الكشوف العلمية والجغرافية، والتعبير بصورة عقلية عن التغيير الذي تستلزمه النظرة الجديدة إلى الحياة. وفي هذه الحالة الأخيرة تبدو فلسفة بيكن في صورة «إحياء» لقدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة (وبالفعل كان بيكن يؤمن بأن الإنسان - كما جاء في سفر التكوين - كانت له السيادة على المخلوقات جميعا، ثم أدى فساد العلم إلى استعادة سيطرته على العالم، ولو شئنا أن نترجم عنوان كتابه الكبير ترجمة حرفية لقلنا: «الاسترداد العظيم»).
ولقد ظل مؤرخو الفلسفة طويلا ينظرون إلى بيكن على أنه فيلسوف منطقي، ويرون أن أعظم ما قدمه إلى الفلسفة هو نظريته في الاستقراء؛ على أن البحث الحديث في فلسفة بيكن قد غير هذه النظرة تغييرا أساسيا، ولا سيما بعد ظهور كتابي: «فارنجتن»
4
و«أندرسن»
5 (في سنتين متواليتين)، فأندرس يحذر من تلك العادة «الهيجلية» التي ينظر فيها إلى المفكر على أنه مجرد حلقة في سلسلة يمثلها اتجاه فلسفي عام؛ بحيث يعد بيكن ممثلا غير ناضج للمذهب التجريبي الذي بلغ قمته عند هيوم، أو مرحلة في الاتجاه الاستقرائي الذي اكتمل عند مل، أو مكملا لأرسطو أو المدرسيين؛ فكل هذه تفسيرات الذي باطلة لتفكير بيكن، الذي كانت له خصائصه ومقوماته الفريدة، ويأخذ «فارنجتن» على عاتقه مهمة إيضاح هذه الخصائص؛ ليبين بوضوح كامل مدى ارتباط بيكن بالحضارة العلمية الصناعية الحديثة، وإلى أي حد كانت فلسفته نبوءة تبشر بتطورات هائلة في نظرة الإنسان الأوروبي إلى الحياة، لا مجرد قواعد منهجية أو منطقية جديدة.
وإذا كان من المستحيل التكهن بتلك الفلسفة النهائية التي رأى بيكن أن الواجب إقامتها على أساس الدراسة العلمية للطبيعة - وهي الفلسفة التي تكون الجزء السادس من خطة «الإحياء العظيم» - فإن في وسعنا أن نستخلص الملامح العامة لفلسفة بيكن من خلال كتاباته الباقية، وهي فلسفة لا نستطيع أن نقول إنها نهائية. ولكنها هي التي أرشدته في طريقه العقلي طول حياته، ولهذه الفلسفة جانبان: أحدهما سلبي، والآخر إيجابي، وهما معا وجهان لموقف فكري واحد، وسنتناول الآن بالشرح كلا من هذين الجانبين على حدة. •••
لا يكاد يوجد كتاب في موضوع «مناهج البحث العلمي»، أو منهاج دراسي في هذا الموضوع، إلا ويبدأ بطريقة واحدة؛ فهو يجري مقارنة بين طريقة التفكير الشرقية القديمة، والتي تقوم على معارف عملية تطبيقية، وبين طريقة التفكير اليونانية التي تقوم على معارف نظرية، أو على مبدأ «المعرفة لأجل المعرفة»، ويؤكد أن العلم بمعناه الصحيح لن يبدأ إلا حين سادت النظرة اليونانية، وأصبح العلم يطلب لذاته لا لأي غرض عملي. والواقع أن اليونانيين هم المسئولون عن الحضارة الغربية منذ عصرهم، حتى أصبح هو معيار المنهج العلمي الصحيح؛ فاليونانيون هم الداعون إلى بحث «الوجود بما هو موجود»، والوصول إلى «الحقيقة لذاتها»، وإلى احتقار كل بحث يخضع للاعتبارات العملية، وتمجيد كل علم نظري بحت. وهكذا انتشر منذ العصر اليوناني الرأي القائل: إن العلم ينبغي أن يطلب لذاته، وأصبح أشبه بالعقيدة الراسخة التي لا يحاول أحد أن يناقشها.
ومن المؤكد أن لهذا الرأي أساسا من الصحة، حتى من وجهة النظر العملية ذاتها؛ ذلك لأن معرفة القاعدة النظرية أو القانون النظري توسع نطاق العلم، وتزيد بالتالي من قدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة؛ فالشخص الذي يفهم نظرية فيثاغورس في صيغتها المجردة لديه معرفة أوسع نطاقا بكثير من ذلك الذي يطبقها دون فهم نظري لها، على ميدان عملي محدد، وبذا يكون الأول أقدر حتى من الناحية العملية ذاتها، وإلى هذا الحد نستطيع أن نقول: إن مبدأ المعرفة النظرية كان عاملا هاما في تقدم العلم. وفي تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة.
ولكن الذي حدث بالفعل هو أن هذا المبدأ قد أسيء استغلاله إلى أبعد حد؛ بحيث أصبح عائقا في وجه تقدم المعرفة؛ ففي العصر اليوناني تحولت المعرفة النظرية إلى معرفة كلامية أو لفظية، وأصبحت النتائج العلمية تستخلص من أقيسة لفظية لا تقدم ولا تؤخر، وازداد ابتعاد الإنسان تدريجيا عن واقع الأشياء وعن عالم الطبيعة، متخذا لذلك ذريعة من مبدأ المعرفة النظرية، وازدادت قوة الاتجاه إلى الابتعاد عن الواقع في العصور الوسطى، ووجد له سندا في النزعة الزاهدة المضادة للطبيعة في مسيحية العصور الوسطى، فكانت نتيجة ذلك تقلصا تدريجيا في قدرة الإنسان على التحكم في الطبيعة، دون أن يجرؤ أحد على مناقشة هذا المبدأ المقدس، مبدأ المعرفة النظرية أو الاعتراض عليه؛ ذلك لأن الاعتراض على هذا المبدأ المتأصل في النفوس كان في واقع الأمر احتجاجا على أسلوب كامل في الحياة. وكان دعوة إلى التغلغل في عنصر مكروه هو الطبيعة المادية، ونستطيع أن نقول: إن بيكن كان من أول وأجرأ من ناقشوا المثل الأعلى للحكمة النظرية هذه، ووجهوا إليه اعتراضات حاسمة.
فقد أدرك بيكن بوضوح تام هذا العيب الأساسي في طريقة تفكير فلاسفة اليونان والعصور الوسطى، وهو بأن العقل النظري وحده كفيل بالوصول إلى العلم، وحمل على الفكرة القائلة «بأن مما يحط من قدر الذهن البشري أن يظل عاكفا مدة طويلة ودون انقطاع على الاتصال بالتجارب والجزئيات، التي هي موضوعات الحس، وأن يقتصر على المادة وحدها، لا سيما وأن هذه الأمور تقتضي عادة جهدا في البحث وهي ليست موضوعا رفيعا للتأمل. كما أن الحديث عنها ليس بالحديث الرفيع، ودقتها لا حد لها، وهكذا نبذت التجربة بازدراء، ولم يقتصر الأمر على تجاهلها أو إساءة تطبيقها.»
6
وعلى هذا الأساس أعاد بيكن تقويم الفلسفة اليونانية في ضوء اعتراضه الأساسي على مثال المعرفة النظرية هذا، وقلل إلى حد بعيد من قيمة كبار الفلاسفة اليونانيين الذين لم يشتهروا إلا بفضل دعوتهم إلى العلم النظري الخالص، واحتقارهم للتجربة، واستبدالهم عالم الألفاظ بالعالم الطبيعي الحقيقي، «وهكذا فإن اسم السفسطائيين الذي رفضه بازدراء أناس يظنون أنفسهم فلاسفة، وأطلقوه على البلاغيين، مثل جورجياس وبروتاجوراس وهيبياس وبولوس
؛ هذا الاسم يمكن أن ينطبق بالفعل على المجموعة كلها، مثل أفلاطون وأرسطو وزينون، والفارق الوحيد بين أولئك وهؤلاء هو أن الأولين كانوا مرتزقة جوالين، يتنقلون بين البلدان المختلفة ويستعرضون حكمتهم ويطالبون بثمن لها، على حين أن الآخرين كانوا أكثر وقارا واحتراما. وكانت لهم مقارهم الثابتة ومدارسهم المفتوحة. وكانوا يعلمون الفلسفة بلا مقابل». وهكذا يقتبس بيكن وصفا مشهورا لفلسفة أفلاطون بأنها «حديث عجائز عاطلين إلى شبان جاهلين»، ويرى أن هذا الوصف ينطبق على الجميع، وهو يستثني من هذا الحكم الفلاسفة اليونانيين الأوائل، مثل أبنادقليس وهرقليطس؛ لأنهم لم يفتحوا مدارس، وإنما واجهوا الحقيقة مباشرة، وعلى أية حال، فإن مما يعيب اليونانيين جميعا أنهم «يشتركون مع الأطفال في الميل إلى الكلام والعجز عن الإنجاب (المثمر)؛ بحيث كانت حكمتهم لفظية لا تثمر أية نتائج.»
7
ومثل هذا النقد يوجهه إلى الفلاسفة المدرسيين في العصور الوسطى؛ ففي إحدى فقرات كتابه «النهوض بالعلم» يقول: «إن هذا النوع المنحط من المعرفة قد ساد أساسا بين المدرسيين، الذين كان لديهم ذكاء قوي حاد، وأوقات فراغ طويلة، وقراءات قليلة التنوع. ولكن كان ذكاؤهم حبيسا في زنزانات كتاب قلائل أهمهم أرسطو حاكمهم المستبد، مثلما كانت أشخاصهم حبيسة في زنزانات الأديرة ودور العلم، ولما لم يكونوا يعرفون من التاريخ الطبيعي أو الزمني إلا قليلا، فإنهم قد تمكنوا، باستخدام مادة ضئيلة ولكن مع استعمال مفرط للعقل، من أن يحيكوا أنسجة العنكبوت المضنية التي نجدها في كتاباتهم؛ ذلك لأن ذكاء الإنسان وذهنه، إذا ما مورسا على مادة مثل تأمل مخلوقات الله، فإنهما يعملان تبعا لمقدار هذه المادة ويتحددان بها. أما إذا مورسا على ذاتهما، مثلما ينسج العنكبوت خيوطه؛ فعندئذ لا يكون لعملهما نهاية، يأتيان حقا بمعرفة أشبه بنسيج العنكبوت، تعجبنا فيها دقة الخيوط وحبكة النسج. ولكن ليس لها قوام ولا منها جدوى.»
وهكذا تحولت حملة بيكن على العلم النظري الخالص عند القدماء والمدرسيين إلى حملة على كل تقيد بأية سلطة في ميدان العلم، ودعوة إلى البدء في طريق جديد غير تلك الطرق العتيقة التي لا تثمر ولا تجدي. ولا شك أن حملته على السلطة في العلم قد تركزت في شخص أرسطو، الذي وجه إليه أشد انتقاداته وأعنف هجماته، وقد نرى نحن اليوم في هذا الهجوم قسوة مفرطة، وجحودا بفضل أرسطو الذي لا يستطيع أي باحث منصف أن ينكره. ومع ذلك ينبغي ألا ننسى أن بيكن لم يكن يحارب أرسطو من حيث هو أثر تاريخي، وإنما كان يحاربه من حيث هو قوة حية، تعد هي المرجع الأخير في كل علم قائم، ومن حيث هو عقبة قوية تقف في وجه أي إحياء للعلم؛ ومن هنا كان عنف نقده بالقياس إلى أي نقد حديث لأرسطو؛ ذلك لأن أرسطو لم يعد اليوم قوة حية في أي ميدان باستثناء الفلسفة (ويعتقد الكثيرون أنه لم يعد حيا في هذا الميدان بدوره)، وإنما هو أثر تاريخي، نبدي نحوه نفس الإعجاب الذي نبديه بمبنى أثري قديم: لا يصلح للسكنى. ولكنه كان في زمنه شيئا رائعا.
ونستطيع أن نقول: إن بيكن قد أحدث في مجال المعرفة انقلابا موازيا لذلك الذي أحدثه لوثر وكالفن منذ فترة وجيزة - بالنسبة إلى ذلك العصر - في مجال الدين؛ ففي حالة أصحاب الدعوة الدينية الجديدة، الثائرة على جمود الكنيسة الكاثوليكية، كان يكفي لتحقيق غاية الدين أن يكون الفرد إنسانا صالح النوايا، وهو ليس في حاجة إلى «سلطة يأخذ بتفسيراتها للدين». وفي حالة بيكن كان يكفي لتحقيق غاية العلم أن يبدأ المرء وكأنه طفل بريء، وأن يتحرر من كل سلطة مفروضة على ذهنه، وأن يستخدم عقله ويضع لنفسه منهجا صحيحا؛ وبذلك يصل إلى الحقيقة دون معونة من آراء القدماء، ونستطيع أن نمضي في هذه المقارنة أبعد من ذلك فنقول: إن المذاهب الدينية الثائرة كانت تؤمن بقدرة كل شخص على أن يتصل بموضوع الدين، وهو الله، اتصالا مباشرا دون وسائط، وبالمثل كان بيكن يؤمن بأن في وسع كل ذهن أن يتصل بموضوع العلم، وهو الطبيعة، اتصالا مباشرا دون وسائط، وكما أثبتت الثورة الدينية أن سلطة الكنيسة لا جدوى منها في الوصول إلى الخلاص، فكذلك حاول بيكن أن يثبت - في ثورته العلمية والمنهجية - أن سلطة القدماء وفلسفتهم اللفظية لا جدوى منها في الوصول إلى الحقيقة، وإنما هي عقبات تجعلنا نكتفي بمواجهة الألفاظ بدلا من أن نواجه الطبيعة والأشياء مباشرة.
أما الوجه الإيجابي فهو الإيمان المطلق بالعلم وبقدرته على تحسين أحوال البشر؛ ذلك لأن الدعوة إلى المعرفة النظرية - كما كانت سائدة في العصرين القديم والوسيط - كانت دعوة مستسلمة تفصل بين العلم وبين واقع حياة الإنسان. وكان بيكن هو الذي بعث الأمل الذي كان يبدو بعيدا عن التحقيق، وهو استخدام العلم أداة في يد الإنسان، تعينه على فهم الطبيعة، وبالتالي على السيطرة عليها.
ولقد عبر «فارنجتن» عن هذه الفكرة أوضح تعبير في كتابه عن «فرانسس بيكن»، وهو الكتاب الذي يمكن أن يعد إثباتا مطولا لرأي بيكن في ضرورة استخدام العلم في زيادة رفاهية الإنسان، وهكذا يقول في مستهل كتابه هذا: «إن قصة فرانسس بيكن إنما هي قصة حياة كرست لفكرة عظيمة. هذه الفكرة قد تملكته صبيا، ونمت مع التجارب المنوعة لحياته، وشغلته وهو على فراش الموت، والفكرة اليوم مألوفة متداولة ولكنها في عصره كانت تجديدا إبداعيا، تلك هي الفكرة القائلة: إن المعرفة ينبغي أن تثمر في أعمال، وأن العلم ينبغي أن يكون قابلا للتطبيق في الصناعة، وأن على الناس أن يرتبوا أمورهم بحيث يجعلون من تحسين ظروف الحياة وتغييرها واجبا مقدسا عليهم»
8
كما يقول قرب نهاية كتابه: «إن بيكن يدخلنا جوا ذهنيا جديدا، وعندما نحلل هذا الجو؛ نجد أن أهم عناصره ليس ما أحرزه من تقدم علمي، وإنما هو ثقته المتينة في قدرة العلم على تغيير حياة الإنسان.»
9
والواقع أن بيكن إذا كان قد أتى بجديد في تاريخ التفكير الفلسفي والعلمي، فإنما يكون هذا التجديد في المعيار الذي وضعه للعلم الصحيح: وهو قدرته على أن يثمر أعمالا؛ فالعلم العقيم ليس علما ، والعلم الذي يذهب ويختفي دون أن تتغير معه حياة الإنسان في شيء ليس علما، والعلم الذي هو مجرد تكديس للأفكار والآراء دون أن ينعكس تأثيره على أحوال الناس الفعلية ليس علما، وإنما العلم في رأيه هو ذلك الذي يمكن أن يثمر أعمالا ويؤدي إلى تغيير حقيقي في حياة الناس. وهذا يعني - بعبارة موجزة - أن العلم كما يدرس في معاهد العلم الموجودة ليس علما، وأنه لا بد من حدوث ثورة شاملة في نظرة الناس إلى العلم، إلى وظيفته وإلى طريقة تحصيله.
وهكذا اتجهت دعوة بيكن إلى القيام بأنواع جديدة من الدراسات العلمية التي ترتبط بحياة الإنسان ارتباطا وثيقا؛ بحيث يكون هذا العلم أساسا متينا تبنى عليه الفلسفة الجديدة، بدلا من ذلك الأساس الواهي القديم، وهو التجريدات اللفظية الخاوية؛ ومن هنا فقد كتب بيكن ملحقا لكتاب «الأورجانون الجديد»، بعنوان: «المدخل إلى تاريخ طبيعي وتجريبي
historiam naturalem et experimentalem ». وفيه يقول: «إن ما قلناه في مناسبات متعددة ينبغي أن يؤكد هنا مرة أخرى تأكيدا قاطعا، وأعني به أنه لو تجمعت العقول في كل الأزمان أو شرعت في التجمع من الآن فصاعدا، ولو عكف البشر جميعا أو شرعوا في العكوف على الفلسفة من الآن فصاعدا، ولم تعد الأرض كلها إلا معاهد وكليات ومدارس لأهل العلم، فمحال أن يتحقق الآن أو في المستقبل أي تقدم جدير بالبشر - في الفلسفة أو العلوم - دون تاريخ طبيعي وتجريبي كذلك الذي ندعو إليه. هذا على حين أنه لو جمع تاريخ كهذا ونظم مع إضافة ما سيكون ضروريا خلال عملية التفسير من تجارب كاشفة ومساعدة، فإن بحث الطبيعة والعلوم جميعا لن يقتضي عمل أكثر من سنوات قلائل، وإذن فلا مفر من تنفيذ هذه الخطة، أو التخلي عن الموضوع كله.»
وبغض النظر عما نجده من سذاجة في أواخر النص السابق، حين أعرب بيكن عن اعتقاده بأن مشاكل العلم يمكن أن تنتهي في سنوات قلائل لو تضافرت لحلها جهود العلماء، وهو اعتقاد ينم عن إيمان ساذج ببساطة الكون، بغض النظر عن ذلك، فإن بيكن كرس جزءا كبيرا من حياته ومن كتاباته للدعوة إلى تنظيم البحث العلمي بصورة تقترب كثيرا من صورته في العصر الذي ازدهر فيه العلم بعد وفاة بيكن. وهكذا رسم في أحد مؤلفاته المخلفة - واسمه «الأطلنطس الجديدة
New Atlantis » - خطوط مشروع لإنشاء نوع جديد من معاهد العلم، يسمى باسم «دار سليمان»، وهو مشروع اتخذه أنصار العلم الفني الصناعي الجديد أنموذجا لهم. وفي هذا المشروع عرض بيكن نوعا جديدا من التعليم، قد يرى فيه البعض انحدارا للعلم إلى مستوى الخبرة في الصناعات والحرف الفنية. ولكنه ينم في الواقع عن نزعة إنسانية هدفها ربط العلم بالحياة. وهكذا دعا بيكن إلى توزيع الأبحاث على العلماء، كل في ميدان اختصاصه، مؤكدا أهمية العمل الجماعي، أو ما يطلق عليه الآن اسم
team-work ، وحدد موضوعات تكتمل بها الموسوعة الطبيعية التجريبية التي تقوم على أساسها نهضة العلم، وتكتمل بها سيطرة الإنسان على العالم، ويبلغ عدد هذه الموضوعات التي حددها بيكن للبحث حوالي 130 موضوعا، تتميز كلها بالاهتمام المفرط برفاهية الإنسان وخيره، وتخلو تماما من المجردات التي لا تنفع ولا تجدي، وعلى العلماء أن يقسموا العمل بينهم، وأن يتداولوا نتائج أبحاثهم فيما بينهم ويتدارسوها، ويتولى فريق منهم الجمع بين هذه النتائج ... إلخ.
وقد تضمنت خطة بيكن تفصيلات متعددة تدعو إلى الدهشة، وكلها تتعلق بإجراء التجارب الفنية والقيام بملاحظات دقيقة لفصائل النبات والحيوان، وملاحظة الطبيعة في شتى مظاهرها، وبعضها يتعلق بأمور حققها التطور العلمي التالي بالفعل كالتبريد الصناعي والمطر الصناعي، تلقيح الفصائل الحيوانية والنباتية المختلفة لإنتاج أنواع جديدة، واختراع سفن تسير تحت الماء، وأخرى تحلق كالطير في الهواء ... إلخ.
ويدرك بيكن أن أنصار النظرة القديمة إلى العلم قد يرون في البحث في هذه الموضوعات الجزئية التفصيلية أمرا غير لائق بكرامتهم، ويستنكفون من إجراء التجارب والأبحاث في أبسط الموضوعات وأكثرها التصاقا بحياة الإنسان اليومية، هكذا يرد على خصومه قائلا: «سيوجه إلينا دون شك اعتراض يقول: إننا لم نستهدف من العلم غايته الصحيحة، أو أفضل غاية ممكنة له (وهو نفس الأمر الذي نعيبه على الآخرين)، فيقولون: إن تأمل الحقيقة أكرم وأرفع من أية منفعة تعود بها النتائج العلمية، أو أي توسيع لنطاق هذه النتائج، على حين أن تشبثنا طوال هذا الوقت بالتجربة والمادة، وبالأحوال المتغيرة للأمور الجزئية، يقيد الذهن بالأرض، أو على الأصح يلقي به في هوة من الفوضى والاضطراب، وينأى به عن حالة أكثر قداسة، هي حالة الحكمة المجردة، بما فيها من هدوء وسكينة، ونحن نقبل هذه الطريقة في التفكير عن طيب خاطر، ونحرص أشد الحرص على تحقيق الغاية التي يدعون إليها؛ ذلك لأننا نضع الأسس لأنموذج حقيقي للعالم في الذهن، وهو أنموذج يمثل العالم كما نجده بالفعل، لا كما شوهه عقل الإنسان. وهذا أمر لا يتحقق إلا بتشريح العالم بكل دقة. غير أننا نعلن أن من الضروري القضاء تماما على تلك المحاولات العقيمة الهزيلة، التي هي أشبه بمحاولات القرود، لمحاكاة العالم بمخيلة الناس الواهمة، على النحو الوارد في مختلف مذاهب الفلسفة، فيعلم الناس إذن الفرق الموجود بين أوهام الذهن البشري (
idols ) وبين أفكار الذهن الإلهي (
ideas )، فما الأولى إلا تجريدات اعتباطية، أما الأخرى فهي العلامات الحقة للخالق في مخلوقاته، كما انطبعت على المادة وتحددت معالمها فيها بخطوط حقيقية رائعة، هكذا فإن الحقيقة هنا والمنفعة شيء واحد، حيث تكون قيمة النتائج بوصفها ضمانات للحقيقة أعظم من قيمة ما تضفيه على الإنسان من نفع.»
10
في هذا النص يرد بيكن على خصومه بوضع تقابل بين الأوهام البشرية والأفكار الإلهية، مؤكدا أن البحث الطبيعي للأشياء المادية أكثر ألوهية من البحث في المجردات الفلسفية؛ لأن موضوعات العالم الطبيعي هي علامات الأفكار الإلهية، على حين أن المجردات من خلق البشر، وما هي إلا تصوير للعالم من خلال أوهام الإنسان. وبعبارة أخرى: فإن التغلغل في جزئيات العالم وتفاصيله إنما هو حل لرموز التفكير الإلهي، واستخلاص لمعاني الأفكار الإلهية عن طريق مواجهة موضوعاتها مباشرة، لا من خلال الصورة الخيالية التي أضفاها عليها عقل الإنسان المجرد؛ وبذلك يثبت بيكن أن بحث العالم الطبيعي أجدر بالإنسان من بحث المجردات الواهمة. (4) تحليل كتاب «الأورجانون الجديد»
قلنا، عند الكلام عن مؤلفات بيكن: إن «الأورجانون الجديد» ليس كتابا مستقلا بالمعنى الصحيح، وإنما هو جزء واحد من ستة أجزاء كان بيكن يعتزم تأليفها تحت عنوان واحد شامل هو «الإحياء العظيم»، وتأكيد هذه الحقيقة أمر على جانب كبير من الأهمية؛ إذ إن فهم المرء لبيكن يتغير كثيرا في الحالتين؛ فالتركيز على كتاب «الأورجانون الجديد» بوصفه كتابا منفصلا، بل بوصفه المؤلف الأكبر لبيكن، يؤدي إلى فهم بيكن على أنه مفكر منطقي في المحل الأول، على حين أن وضع هذا الكتاب في سياق الخطة الكاملة «للإحياء العظيم» يلقي ضوءا صحيحا على مجهودات بيكن في مجال المنطق، بوصفها جزءا من مجهودات أشمل تتعلق بعلاقة الإنسان بالطبيعة، وتهدف إلى تحقيق سيطرة الإنسان على عالمه عن طريق العلم. ومن المؤكد أن هذه النظرة الأخيرة تنطوي على المزيد من الإنصاف لبيكن؛ ذلك لأن جهوده في ميدان المنطق - وهي ليست بالقليلة - لا تؤلف كلا مكتملا؛ لأن «الأورجانون الجديد» قد ظل كتابا مبتورا لم يحقق إلا جزءا ضئيلا من برنامجه، مثلما أن هذا البرنامج بدوره جزء من كل أكبر لم يكتمل، والإضافات الجديدة التي أسهم بها بيكن في نظرية الاستقراء لا تكفي، على أهميتها، لكي تجعل منه فيلسوفا من فلاسفة الصف الأول؛ وذلك لأن موضوع الاستقراء بأسره غامض، يصعب تحديد قيمته هو ذاته بالنسبة إلى تقدم العلم، كما يصعب إدراجه ضمن النظريات الفلسفية المعروفة.
أما إدراك قيمة بيكن من حيث هو مفكر إنساني يدعو إلى تطبيق العلم من أجل زيادة مقدرة الإنسان المعنوية والمادية، فهو وحده الكفيل بضمان مكانة رفيعة له بين الفلاسفة؛ إذ يغدو عندئذ رائدا من رواد النهضة الفكرية الحديثة، بما لها من مميزات تختلف بها عن العصر القديم والعصر الوسيط اختلافا أساسيا. (4-1) خطة الكتاب
ينقسم الكتاب إلى فقرات موزعة على بابين، وبيانها كما يلي:
الباب الأول:
في الفقرات من 1 إلى 4 يبحث بيكن موضوع العلاقة بين الإنسان والطبيعة، فيبين أن الإنسان يكمل عمل الطبيعة يفسرها؛ وبذلك ينفي ضمنا علاقة النفور والكراهية التي كانت سائدة بين الإنسان والطبيعة في العصور الوسطى .
من 5 إلى 17: ينتقد بيكن العلوم الموجودة في عصره، كما ينتقد أداة هذه العلوم، وهي المنطق الأرسطي.
من 18 إلى 27: يتحدث بيكن عن التقابل بين استباق الطبيعة وتفسيرها، ويوجه نقدا مفصلا إلى نظرية الاستقراء عند أرسطو.
من 36 إلى 68: يعرض بيكن أسباب الخطأ وظاهر الضعف في ذهن الإنسان، وذلك في نظرية «الأوهام الأربعة»، وهو يبدأ بعرض عام لهذه الأوهام، ثم يتحدث عن كل منها بالتفصيل.
من 69 إلى 77: يتحدث بيكن عن المعايير أو «العلامات» التي تميزت بها العلوم والفلسفات الباطلة.
من 78 إلى 91: يوضح أسباب هذا البطلان أي أسباب تدهور أحوال العلم والفلسفة.
من 92 إلى 129: يشرح كيف يمكن تلافي هذا النقص، وإصلاح العلم وإنهاض الفلسفة.
الباب الثاني:
إذا كان الباب الأول من «الأورجانون الجديد» ناقدا هداما في معظم أجزائه، فإن الباب الثاني بناء، يعرض فيه بيكن نظريته الجديدة في الاستقراء، والقواعد الثلاث المشهورة للبحث العلمي، ويطبق هذه القواعد على عدة أفكار أو مفاهيم أساسية في العلم أهمها مفهوم «الحرارة»، ثم ينتقل بيكن إلى بحث «العوامل الأخرى المساعدة للذهن» (إلى جانب قواعده السابقة)، ويعدد من هذه العوامل تسعة. غير أن بقية الكتاب يخصص كله للعامل الأول من هذه العوامل التسعة فقط، وهو «الأمثلة المميزة»
. (4-2) أما العوامل الثمانية الأخرى التي لم يكتب عنها شيئا، فهي (1)
دعائم الاستقراء
Supports of induction . (2)
تصحيح (أو تقويم) الاستقراء
Rectification of induction . (3)
تنويع البحث تبعا لطبيعة الموضوع
Varying the Investigation according to the Nature of the Subject . (4)
الطبائع المميزة
. (5)
حدود البحث، أو إحصاء شامل لكل الطبائع في الكون
Limits of Investigation, or a Synopsis of All Natures in the Universe . (6)
التطبيق العلمي
Application of practice . (7)
استعدادات البحث
. (8)
السلم الصاعد والهابط للقوانين
The Ascending and Descending Scale of Axioms .
11
وكما قلنا من قبل، فإن بيكن لا يبحث في بقية الباب الثاني (ابتداء من القسم 21 حتى النهاية) إلا الموضوع الأول من هذه الموضوعات التسعة، وهو «الأمثلة المميزة»، والمقصود من فكرة الأمثلة المميزة؛ ذلك النوع من الظواهر، الذي يلقي ضوءا ساطعا على موضوع البحث؛ وبذلك يكون أجدر بالبحث من غيره من الظواهر؛ ذلك لأن الطبيعة تحفل بأمثلة لا حصر لها، في كل ميدان خاص من ميادينها. ومن المحال أن ندرك أسرار الطبيعة في هذه الميادين إلا إذا عرفنا كيف ننتقي الأمثلة التي تكشف فيها الطبيعة عن أسرارها هذه، والتي تتيح لنا - أكثر من غيرها - اقتحام أبواب الطبيعة المغلقة.
وقد أحصى بيكن سبعة وعشرين من هذه الأمثلة المميزة، أطلق على كل منها - جريا على عادته - اسما فريدا. ولكن الكثير من أسمائه هذه قد ثبتت في لغة العلم، وأصبحت اليوم جارية على ألسن العلماء. وليس في وسعنا هنا أن نعدد هذه الأنواع السبعة والعشرين من الأمثلة المميزة، ولكننا نكتفي بذكر أهمها:
الأمثلة المنعزلة
Solitary Instances : وهي عزل الظاهرة المراد بحثها عن غيرها من الظواهر التي تختلط عادة بها، كتحليل الألوان بواسطة العدسة، بدلا من إدراكها مختلطة بعناصر أخرى في الأشياء الطبيعية.
الأمثلة الفاصلة أو الحاسمة
Crucial : وهي تلك التي تمكننا من المفاضلة والاختيار بين نظريات مختلفة متنافسة.
الأمثلة الساطعة
Glaring : وهي تلك التي تتمثل فيها الظاهرة بأقصى شدة ممكنة.
الأمثلة الخافتة أو الخفية
Clandestine : وهي عكس السابقة؛ أي تلك التي تتمثل فيها الظاهرة أضعف وأخفى ما تكون.
الأمثلة الحديد
Limiting : وهي تلك التي تقف على الحدود بين ظاهرة وأخرى، مثلما يقف الإسفنج على الحدود بين الحي وغير الحي.
الأمثلة المنادية
Summoning : وهي تلك التي تتضمن تجارب تنادي الظاهرة أو تستدعيها أمامنا. (4-3) الأفكار الرئيسية في الكتاب
كان بيكن يؤمن بأن للبحث أهمية عظمى. وكان يرى في الوقت ذاته أن منهجه جديد كل الجدة، فهو ليس استمرارا للمناهج القديمة أو إصلاحا لها، وإنما هو محاولة جديدة لم يجربها أحد من قبل. ولا شك أن قيمة أي منهج لا تقاس إلا بنتائجه؛ ومن هنا كان بيكن يلح أشد الإلحاح على تطبيق مشروعاته العلمية حتى يتسنى تجربة مناهجه الجيدة عمليا واختبارها من خلال التطبيق العلمي لها.
وتنحصر قيمة المنهج عند بيكن في أنه الأداة التي تساعد الإنسان على توسيع أفقه العقلي، وعلى كشف المناطق المجهولة من العالم، سواء أكانت هذه المناطق مادية أم معنوية. ولقد كان بيكن يقارن عمله - في كثير من الأحيان - بعمل كولمبس في ميدان الكشف الجغرافي، ولهذه المقارنة دلالتها الواضحة؛ إذ إن نفس القوة التي دفعت كولمبس إلى الإبحار إلى أقصى الغرب، وإلى الأطراف النائية للعالم، هي التي دفعت بيكن إلى محاولة زيادة قدرة الذهن على السيطرة على العالم إلى أقصى مداها؛ فالغاية في الحالتين هي زيادة قوة الإنسان، وإحكام سيطرته على الطبيعة؛ ومن هنا قال بيكن مبررا جهوده في ميدان البحث المنهجي: «إنه لمن المخجل حقا في هذا الوقت الذي فتحت فيه آفاق العالم المادي - من أرض وبحار وسماء - أن تظل حدود العالم العقلي مقتصرة على كشوف القدماء وآرائهم.» ومما يثبت أن كلمة «العالم العقلي» هنا تشمل جميع ميادين المعرفة، ولا تقتصر على ذلك الميدان الذي طالما تحدث عنه، وهو ميدان العلم الطبيعي التجريبي، قوله في النص الآتي: «وربما تساءل البعض: هل نحن نرمي إلى إنهاض الفلسفة الطبيعة وحدها وفقا لمنهجنا، أو نرمي إلى إنهاض العلوم الأخرى بدورها كالمنطق والأخلاق والسياسة؟ إننا قطعا نعتزم إدراج هذه العلوم كلها (ضمن منهجنا)، وكما أن المنطق الشائع - الذي ينظم الأمور كلها بواسطة الأقيسة - لا يطبق على العلم الطبيعي وحده وإنما على كل علم آخر، فإن منهجنا الاستقرائي يمتد بدوره إلى كل العلوم الأخرى؛ ذلك لأننا نعتزم جمع تاريخ وقوائم للاختراع، خاصة بالغضب والخوف والخجل وما شابهها، وكذلك بأمثلة في الحياة المدينة وبعمليات الذاكرة والتركيب والتقسيم والحكم وما شاكلها، تماما كما نفعل في الحرارة والبرودة والضوء والنبات وما إليها»،
12
وبعبارة أخرى فالمنهج العلمي ينبغي، في رأيه، أن يطبق على جميع مجالات الفكر، وإن لم يكن وقته قد اتسع إلا للكلام عن تطبيقاته في مجال العلوم التجريبية فحسب. (4-4) الأوهام الأربعة
ربما كان أشهر أجزاء كتاب «الأورجانون الجديد»، بل أشهر أجزاء كتاباته كلها، وهو ذلك الجزء الذي يتحدث فيه بيكن عن مظاهر الزلل في ذهن الإنسان؛ أعني الأوهام الأربعة، وقد ظهرت هذه الفكرة في كتابات مبكرة لبيكن، فتحدث في كتاب «إنهاض العلم» عن أوهام الجنس والسوق والكهف دون أن يذكر أسماءها،
13
ولكنه عالجها على أكمل وجه في الباب الأول من «الأورجانون الجديد»، وتتعلق هذه الأوهام بالطبيعة البشرية مما هي كذلك، وبالطبيعة الفردية لكل شخص، وبالألفاظ ووسائل تداول الأفكار ، وبالمذاهب الباطلة في الفلسفة والعلم؛ وبذلك يكون مذهب الأوهام الأربعة عند بيكن خلاصة لنقده الشامل لتطور العقل البشري، وتحديدا للاتجاه الذي ينبغي أن يسير فيه إصلاح العلم، وإن يكن من أصعب الأمور، كما أدرك هو ذاته، أن يتخلص العقل من كل الأوهام المتأصلة فيه، ويبدأ صفحة جديدة ناصعة البياض من تاريخه. (1)
تتعلق أوهام الجنس
idola tribus (والأفضل تسميتها بأوهام النوع؛ لأنها ترتبط بالنوع الإنساني بوجه عام، على حين أن كلمة «الجنس» متعددة المعاني وتؤدي إلى الخلط) بالأخطاء الكامنة في الطبيعة البشرية بوجه عام؛ فالحواس البشرية - التي تتخذ مقياسا للأشياء جميعا - معرضة للخطأ وعقل الإنسان أشبه بمرآة غير مصقولة تضفي خصائصها الخاصة على الأشياء وتشوه صورتها. وهكذا يضفي العقل على الأشياء ترتيبا ونظاما يلائم طبيعة الخاصة ولكنه غير موجود في الأشياء ذاتها، ومن هذا القبيل القول: إن جميع الأجرام السماوية تدور في مسارات تتخذ شكل الدائرة الكاملة. وهكذا فإن العقل البشري عندما يضع نظرية ما يميل إلى إدخال كل الظواهر قسرا في هذه النظرية، وإلى تجاهل أو إغفال كل الشواهد المتعارضة معها مهما كان من قوتها،
14
ومن هذا الميل تنشأ الخرافات بشتى أنواعها، كما ينشأ ميل الفلاسفة إلى تفسير كل الظواهر من خلال مجموعة قليلة من المبادئ الثابتة مع إغفال كل التفاصيل الهامة التي ينطوي عليها الكون، ولدى العقل البشري ميل آخر إلى ممارسة نشاطه دون توقف، فيظل يبحث عن العلل، ولا يستطيع أن يتصور شيئا بغير علة؛ وبذلك يقع في أخطاء مثل تصور «العلة الغائية»، التي هي أكثر ارتباطا بطبيعة الإنسان منها بطبيعة الكون «والتي هي من أكبر مصادر الفساد في الفلسفة.»
15 (2)
ولقد استمد بيكن اسم «أوهام الكهف»
idola specus ، وهو يعني بها الأوهام الفردية التي يقع فيها كل شخص نتيجة لتكوينه الخاص شأنه شأن سجناء الكهف عند أفلاطون. وربما كان لنا أن نلاحظ - في صدد هذه التسمية - أن أسطورة الكهف عند أفلاطون تتعلق بالنوع البشري كله، أو هي ترمز إلى حالة الإنسان وموقفه بوجه عام؛ فالكهف عند أفلاطون هو الجهل أو النقص الأصيل الكامن في الطبيعة البشرية؛ ومن هنا فإن الاسم أحرى بأن ينطلق، في الواقع، على النوع الأول من الأوهام - أعني أوهام النوع أو الجنس - لا على الأوهام الخاصة بكل فرد على حدة.
ومن طبيعة هذه الفئة من الأوهام أنها شديدة التنوع؛ لأنها تختلف في كل فرد عنها في الآخر، فمن الناس من يميل بطبيعته إلى إدراك الفروق بين الأشياء، وهؤلاء هم المدققون الميالون إلى تأمل التفاصيل، ومنهم من يميل إلى إدراك أوجه الشبه بين الأشياء، وهؤلاء هم أصحاب المزاج التأملي، ولكل من الطرفين أخطاؤه ومواقفه المتطرفة،
16
كما أن بعض الناس ميالون إلى القديم، وبعضهم الآخر ميال إلى التجديد، مع أن الحقيقة لا زمان لها، ولا يلزم بالضرورة أن تكون في القديم وحده أو الجديد وحده. وهكذا الحال في سائر أنواع التحزب والتعصب الفردي، التي ينبغي التخلص منها لضمان نزاهة البحث والتفكير. (3)
ويرى بيكن أن أوهام السوق
idola fori
هي أخطر أنواع الأوهام، والاسم مستمد من عملية التبادل التي تتم في السوق، والتي يشبه بها بيكن عملية تبادل الأفكار وتداولها بين الناس عن طريق اللغة؛ «ذلك لأن الناس يتوهمون أن عقلهم يتحكم في الألفاظ، على حين أن الألفاظ هي التي تعود فتتحكم في العقل وتؤثر فيه»،
17
ويدرك بيكن أن الألفاظ إنما تعرف الأشياء على نحو غير دقيق؛ لأن أصلها شعبي وليس عمليا؛ فهي موضوعة أصلا لتلائم الذهن العامي. وهكذا فإن الذهن العلمي حين يريد التعبير عن أفكاره وملاحظاته المرهفة الدقيقة، لا يجد من الكلمات معينا، فتنتهي كثير من الخلافات العلمية إلى مجرد مجالات لفظية، بدلا من أن تدخل في صميم موضوعاتها،
18
ومن هنا كانت دعوة بيكن إلى مواجهة الأشياء مباشرة، بدلا من الاكتفاء بمواجهة الأشياء من خلال الألفاظ اللغوية.
وتنقسم الأوهام التي تفرضها اللغة إلى أسماء لأشياء ليس لها وجود، كالقدر والمحرك الأول وعنصر النار، وأسماء لموضوعات فعلية. ولكنها جردت من الأشياء على عجل ودون تدقيق؛ بحيث دب الخلط والاضطراب في معانيها، مثل كلمة «الرطوبة» التي تعددت معانيها إلى درجة يصعب معها الاستقرار على واحد منها، وتتدرج الأسماء في مقدار افتقارها إلى الدقة، من أسماء الأشياء المادية الفردية، التي هي الأقل تعرضا للخطأ، إلى أسماء الصفات المجردة، التي هي الأكثر تعرضا للخطأ؛ ومن هنا كان من الواجب أن نحرص على دقة التعريف في الحالة الأخيرة بوجه خاص، مع إدراكنا أن اللغة، في عمومها وفي جميع أحوالها، ميدان خصب للأوهام التي تعوق الذهن عن مواجهة الأشياء وإدراك طبيعتها الحقة. (4)
والنوع الأخير من الأوهام هو أوهام المسرح
idola theatri ، وهي أوهام النظريات والمذاهب التي تفرض نفسها على الأذهان بمنطق مزيف، أو نتيجة لاحترامنا المفرط لآراء القدماء، هذه النظريات والمذاهب تتعدد في الموضوع الواحد بغير حدود، ويقف العقل إزاءها حائرا، وكأنه مسرح يروح عليه الممثلون ويجيئون بينما يقف هو سلبيا: يتقبلها كلها دون مناقشة؛ على أن هذه النظريات كلها لا تستند على أساس من الدراسة الفعلية للواقع، إنما هي ترتكز على الاستدلالات المنطقية البارعة، والمزيفة في الوقت نفسه؛ ومن هنا كانت الحاجة إلى إيجاد أساس أمتن للفلسفة؛ بحيث لا يعود العقل مسرحا لنظيرات متعارضة في الموضوع الواحد، وإنما يتقبل به الواقع فحسب.
وينقد بيكن - ضمن هذه الفئة من الأوهام - ثلاثة أنواع من الفلاسفة: النوع النظري أو السفسطائي، ويمثله أرسطو، وهو يخلق عالما من الأفكار المجردة التي يقابلها في الواقع شيء كالمقولات والقوة والفعل، ويعالج كل الموضوعات من خلال هذه الأفكار. وحتى التجارب القليلة التي أجراها كانت نتيجتها قد تحددت مقدما عن طريق الاستدلال، والنوع الثاني هو التجريبي العشوائي
empiric ، وهو يعتمد على تجارب قليلة لا تخضع لمنهج منظم، ويحاول أن يبنى منها فلسفة كاملة، ومن هؤلاء الكيميائيون القدامى الذين يتعجلون الوصول إلى نتائج قبل أن يبنوا أبحاثهم على أساس متين، والنوع الثالث هو أصحاب الخرافات الذين يمزجون الفلسفة باللاهوت، ولا يفرقون بين التفكير المنظم وبين الأسطورة الشعرية، ومن هؤلاء فيثاغورس، وكذلك أفلاطون الذي ينتمي إلى هذه الفئة. ولكن «في صورة أدق وأخطر».
19
ولسنا نود أن نمضي مع بيكن في تفصيلات نقده للنظريات الفلسفية، وللموضوعات التي يبحثها الفلاسفة، وأساليبهم في البرهنة على أفكارهم؛ إذ إن هذا النقد المتعمق لتفكير القدماء يحتاج وحده إلى بحث مستقل، ولا يتسع له المجال ها هنا، وعلى أية حال فحسبنا أن نقول: إن بيكن، في شرحه لهذا النوع الرابع من الأوهام، قد حدد موقفه من الفلسفات وطرق التفكير القديمة، وكشف بوضوح عن رغبته في شق طريق جديد كل الجدة، لا في الفلسفة النظرية وحدها، بل في التفكير العلمي بوجه عام.
وبعد أن يعرض بيكن نظريته في الأوهام الأربعة، يدعو الذهن إلى تطهير ذاته منها، والبدء في البحث على أسس سليمة، فيقول: «لقد أتممنا الآن بحث كل نوع من الأوهام وخصائصها، وهي كلها أوهام ينبغي التخلي عنها بعزيمة صادقة، ويجب تحرير الذهن وتطهيره منها بحيث يغدو دخول مملكة الإنسان - التي تقوم على العلوم - مماثلا لدخول مملكة السماء التي لا تفتح أبوابها إلا للأطفال»،
20
وهكذا ينبغي أن يقبل الذهن على تحصيل العلوم، وهو أشبه بطفل بريء خلا ذهنه من الأفكار السابقة؛ إذ إن التراث - في ذلك الحين - كان في معظم الأحيان تراثا فاسدا يضر أكثر مما ينفع. (5) نقد المنطق القديم
كانت الأداة الرئيسية التي استعان بها الفلاسفة القدماء في الوصول إلى نظرياتهم الباطلة هي المنطق، وعلى ذلك فإن نقد المنطق القديم وكشف عيوبه هو العنصر الأساسي في حملة التطهير التي ينبغي القيام بها من أجل إرساء التفكير الفلسفي والعلمي على أسس سلمية.
ولقد كان المنطق القديم قياسا في أساسه، والقياس يتألف من قضايا، والقضايا من ألفاظ، والألفاظ تعبر عن أفكار أو معان في الذهن
notions ، فإذا ما كانت المعاني أو الأفكار الأصلية مختلفة في الذهن - كما اتضح عند الكلام عن أوهام المسرح - فعندئذ يغدو البناء كله قائما على غير أساس؛ ففي عملية التجريد الأصلية - التي تتكون بواسطتها ألفاظ تغدو حدودا في قضايا القياس - خطورة تجعلنا نشك كثيرا في عملية القياس من أساسها.
وفضلا عن ذلك؛ فالقياس بأسره - حتى لو كان صحيحا من الوجهة الصورية الخالصة - عملية عقيمة، فهو يعين على تثبيت وتوطيد دعائم أفكار موجودة من قبل، قد تكون باطلة كل البطلان، ولكنه لا يعين أبدا على البحث عن الحقيقة،
21
وما القياس إلا طريقة لإقناع الخصم وقهره عن طريق الحجج اللفظية؛ على أن هدف البحث العلمي ليس قهر الخصوم، وإنما قهر الطبيعة ذاتها. وليس السيطرة على الألفاظ، وإنما السيطرة على مجرى الحوادث؛ ومن هنا كان القياس منهجا عقيما كل العقم بالنسبة إلى أي علم يرمي إلى كشف حقائق الكون وإخضاعها لسيطرة الإنسان، وغاية ما يمكن أن ينتفع به من القياس، هو استخدامه أداة لنشر الحقائق وإقناع الأذهان بها، لا لكشف الجديد منها.
22
ولعل أكبر عيوب القياس في نظر بيكن، هو أنه يشجع الإنسان على التعميم السريع؛ إذ إن قضايا المنطق الصوري تتخذ عادة صبغة عامة تبدو معها منطقية على كل الظواهر المنتمية إلى مجال البحث، مع أن الوصول إلى أي حكم عام ينبغي أن يكون عملية شاقة متدرجة يمارسها الذهن بحذر شديد وبعد بحوث طويلة. وهكذا فإن الاتجاه إلى التعميم المتسرع في القياس هو في واقع الأمر مظهر من مظاهر اتجاه أعم في الذهن البشري، يطلق عليه بيكن اسم استباق الطبيعة
anticipation of nature ، والمقصود منه الانتقال بسرعة من معلومات جزئية إلى أعم النتائج التي تتخذ مبادئ يقينية تستمد منها حقائق متوسطة تطبق على المجالات المختلفة؛ ذلك لأن لدى الذهن ميلا طبيعيا إلى استخلاص نتائج متسرعة، وإلى التعجيل بالتعميم، حتى لو كان ذلك الذهن من النوع المدقق الفاحص، ولو ترك الذهن وحده دون منهج يضبط خطواته، فإن اقتصاره على العمل بقواه الخاصة يؤدي به إلى الوقائع في خطأ التعميم السريع حتما،
23
ولا شك أن تأكيد بيكن لهذا الميل إلى تجاوز الذهن لذاته، يذكر المرء بما سيقوله «كانت» فيما بعد عن ميل الذهن إلى تجاوز حدود التجربة والخوض في مسائل ميتافيزيقية لا ضباط لها، ولا دليل على صحتها أو بطلانها، فعمل بيكن في هذا الصدد هو نوع من نقد العقل؛ أعني أنه نقد للعقل العلمي كما كان سائدا في عصره.
24
وفي مقابل «استباق الطبيعة»، يقول بيكن بطريقة أخرى سليمة للبحث العلمي، هي «تفسير الطبيعة
interpretation of nature » وهي الطريقة التي يلخص بها جهوده في ميدان المناهج العلمية، والتي يرى أنها هي الكفيلة بكشف القوانين العلمية الجديدة، وقهر الطبيعة بدلا من قهر الخصوم. وفي هذه الطريقة يبدأ الذهن بدراسة الجزئيات وملاحظتها، ثم يصعد تدريجيا - بحذر شديد - حتى يصل إلى نتيجة عامة. ولكن التعميم في هذه الحالة لا يكون مطلقا كما كان الشأن في الطريقة القديمة. ومن المؤكد أن الأذهان لا تقبل على هذه الطريقة بسهولة، إذ إنها تقتضي مجهودا أشق، فضلا عن أنها لا ترضي الخيال؛ لأنها لا تقدم إليه مكافأة سريعة، ومع ذلك فلا أمل في تقدم العلم إن لم تستطع الأذهان ترويض ذاتها بحيث تصبر على البحث التدريجي الشاق بدلا من أن تكتفي بإرضاء ذاتها عن طريق استباق الطبيعة.
على أن المنهج القديم لم يكن قياسيا كله، بل لقد تحدث أرسطو نفسه عن الاستقراء، وعرض فيه نظرية اعتقد البعض أن من الممكن الاستعانة بها في الكشف عن القوانين العلمية. غير أن هذه النظرية لم تكن لها أهمية كبيرة. وكان بيكن على حق حين نبه إلى قصورها وعجزها عن الإنتاج، وكثيرا ما كان الاستقراء الذي تحدث عنه أرسطو يرد إلى قياس، وذلك عن طريق إحصاء صفات معينة في «الأنواع»، وإيجاد ارتباط قياسي بينها. وهذا النوع من الاستقراء يفترض القيام بإحصاء لأفراد كل نوع حتى نتحقق من وجود الصفات المطلوبة فيهم؛ أي إنه يكتفي بالأمثلة «الإيجابية» ويستخلص النتائج العامة منها. ولكن هذا إجراء باطل؛ لأن النتيجة المستخلصة من الأمثلة الإيجابية وحدها لا تكون - على أحسن الفروض - إلا تخمينا، فمن الخطأ إذن أن نستدل دون أن تكون لدينا أمثلة سلبية أو مناقضة؛ إذ إننا لن نضمن أبدا عدم وجود ما يكذب النتيجة التي انتهينا إليها في النوع الآخر من الأمثلة، ويطلق بيكن على هذا النوع من الاستقراء اسم «طريقة التعداد البسيط
simple enumetration ». أما الاستقراء الذي يكون مفيدا بحق في كشف الفنون والعلوم، فهو ذلك الذي «يضع الفواصل في الطبيعة بواسطة عمليات الرفض والاستبعاد الصحيحة، ثم ينتهي إلى النتيجة الإيجابية بعد أن يكون قد جمع عددا كافيا من السلبيات.»
25 (6) نظرية الاستقراء عند بيكن
أوضحنا في الجزء السابق أن بيكن يرفض تماما منهج القياس الأرسطي، إلا إذا كان الأمر متعلقا بنشر حقائق اكتشفت من قبل بوسيلة أخرى، أو بإقناع الخصوم عن طريق الجدل اللفظي، كما أنه يرفض ذلك النوع من الاستقراء الذي دعا إليه أرسطو، والذي ينحصر في كل الخصائص المشتركة بين الأمثلة الإيجابية، وأوردنا في النهاية نصا يدعو فيه بيكن إلى نوع آخر من الاستقراء يقوم على منهج «الرفض والاستبعاد»، لا على إدراك لأهمية الأمثلة السلبية من حيث هي ضوابط للأمثلة الإيجابية التي تفوقها أهمية في كثير من الأحيان.
ولقد أكد «بروشار» أن الفكرة الرئيسية التي جعلت لبيكن مكانة الفلاسفة هي الفكرة القائلة أنه «في الاستقراء الحقيقي، ينبغي ألا نقتصر على النظر إلى الحالات المؤاتية، أي القضايا الإيجابية، وإنما الواجب أن ننظر أيضا إلى الحالات غير المؤاتية؛ أي القضايا السلبية.» وفي هذا يكون الفرق بين الاستقراء الساذج والاستقراء العلمي؛ فالأول، هو تعداد دون نقد ودون حساب للحالات غير المؤاتية أو المضادة، إنه بالاختصار منهج إعداد قائمة حضور دون قائمة غياب. أما الاستقراء العلمي فهو حساب دقيق للوقائع، وقياس ومقارنة لها، وعمل موازنات بينهما،
26
وربما كان بروشار مبالغا في قوله: إن هذه أهم أفكار بيكن؛ لأن أفكار بيكن الأكثر أهمية تنتمي - كما رأينا من قبل - إلى ميدان غير ميدان المناهج. ومع ذلك فمن المؤكد أن بيكن قد عبر عن صفة أساسية من صفات المنهج العلمي، حين تحدث عن ضرورة استعراض الأمثلة من جميع أوجهها السلبية والإيجابية، قبل محاولة استخلاص أي قانون علمي.
ولقد طبق بيكن نظريته الخاصة في الاستقراء على بحث قام به عن ظاهرة الحرارة، فقال بضرورة تقسيم الوقائع والموارد المتعلقة بهذا البحث وبأي بحث علمي آخر، إلى ثلاث قوائم: (1)
قائمة الحضور
Table of Essence and presence ، وهي جمع كل الأمثلة الإيجابية التي تتمثل فيها الظاهرة المراد بحثها. وفي هذه القائمة جمع بيكن سبعا وعشرين حالة تتمثل فيها الحرارة بالفعل مثل حرارة الشمس وحرارة الاحتكاك وحرارة الأجسام ... إلخ. وكان يرى أنه كلما اتسع نطاق الأمثلة التي نأتي بها للظاهرة المراد بحثها، أدى ذلك إلى زيادة دقة البحث وضمان اشتماله على جميع العناصر المطلوبة. (2)
قائمة الغياب أو التخلف مع التقارب
Table of Deviation or Absence in Proxemety . وفي هذه القائمة تجمع أمثلة مشابهة لتلك التي وردت في القائمة الأولى. ولكنها تتميز عنها بغياب الظاهرة المراد بحثها، أي الحرارة؛ ففي مقابل ضوء الشمس في القائمة الأولى، نجد ضوء القمر الذي يماثله في كل شيء ما عدا افتقاره إلى الحرارة. وهكذا الحال في بقية الأمثلة؛ ومن هنا كان اسم «التخلف مع التقارب»، أي تخلف الظاهرة رغم تقارب طبيعة الأمثلة، وتزيدنا هذه القائمة اقترابا من موضوع البحث في طبيعته المنفصلة. (3)
والقائمة الثالثة هي قائمة التدرج أو المقارنات
Table of Degrees or Comparisons ، وهي جمع الحالات التي تختلف فيها درجات الظاهرة المراد بحثها بين الشدة والخفوت، أي تتفاوت فيها درجة حرارة الموضوع الواحد في أوقات مختلفة، أو تختلف من موضوع لآخر كما في تفاوت درجات حرارة أشعة الشمس في الساعات المختلفة من النهار.
وبعد جمع هذه القوائم الثلاث، تبدأ عملية الرفض والاستبعاد؛ أي استبعاد النظريات والفروض التي تتنافى مع ما تضمنته القوائم من معلومات، مثال ذلك النظرية القائلة إن الحرارة تأتي من مصدر خارج عن الأرض، وهي تستبعد لأن القوائم تدلنا على أن الحرارة تتولد في أجسام أرضية أيضا، كذلك تستبعد النظرية اليونانية القديمة، القائلة إن الحرارة تتوقف على وجود عنصر معين في الجسم الحار كعنصر النار، أو أية نظرية تربط بين الحرارة وبين العناصر الأربعة؛ لأن أشعة الشمس حارة، وهي ليست من هذه العناصر، ولأن أي جسم يمكن أن يكتسب الحرارة بالاحتكاك، ولما كانت الأجسام لا يزيد وزنها أو ينقص بالحرارة، فإن بيكن يستبعد الرأي القائل إن الحرارة هي انتقال جسم من جوهر إلى آخر. وهكذا يمضي بيكن في استبعاد النظريات الباطلة واحدة تلو الأخرى، حتى يصل إلى التحديد الإيجابي للظاهرة المراد بحثها، فيعرف الحرارة بأنها نوع من الحركة، هي «حركة للجزئيات الصغيرة في الأجسام، يحال فيها دون الميل الطبيعي لهذه الأجسام إلى التباعد بعضها عن البعض». وهذا التعريف يمثل بطبيعة الحال تقدما كبيرا بالنسبة إلى النظريات القديمة ، وهو شاهد عملي على أن منهج بيكن الجديد يؤدي إلى نتائج أفضل كثيرا مما كانت المناهج القديمة تؤدي إليه.
على أن نظرية بيكن في الاستقراء كانت قائمة على الاعتقاد بأن في الكون عددا محدودا من «الطبائع
natures »، هي تلك التي تكون الأشياء كلها بتجمعها وتفرقها. وكان بيكن يعتقد أن بإمكاننا كشف سر الكون كله إذا عرفنا حقيقة هذه الطبائع وكشفنا قوانينها؛ ومن هنا كان العالم في نظره بسيطا إلى حد بعيد. وكان يؤمن بإمكان الوصول إلى مجموعة هائلة من الكشوف والاختراعات، ضمان السيطرة «الكاملة» للإنسان على الطبيعة، إذا قمنا بعدد معلوم من الأبحاث الطبيعية. وكان هدف بيكن من «دائرة المعارف» ومن بقية الخطط والمشروعات العلمية التي رسمها في كتاباته، هو الدعوة إلى إنجاز هذه الأبحاث لكشف أسرار الكون كلها، وهو أمر كان يعتقد بإمكان حدوثه في وقت قريب إذا توافرت الإمكانيات، وتلك ولا شك سذاجة مفرطة في التفكير، ولكنها تدل في الوقت ذاته على الإيمان بأن للعلم قدرة مطلقة.
ولقد كان بيكن يعتقد بأن الجزئيات اللامتناهية هي الموضوع الحقيقي للعلم، وإنما تمثل هذه الجزئيات عددا في الأشياء الجزئية. وهكذا تتمثل طبيعة كالحرارة في موضوعات متعددة كالنار وأشعة الشمس وجسم الإنسان والحيوان، ولهذه الطبيعة «صورة» تحكمها في كل مظاهرها؛ ومن هنا فإن العلم لا شأن له بالجواهر في صورتها الطبيعية، وإنما الأصح بحث هذه الجواهر من خلال ما فيها من طبائع أساسية، وكشف «الصور» التي تندرج تحتها طبائع الأشياء جميعا.
ولقد أثار استخدام بيكن للفظ «الصور
forms » مشكلات كثيرة بين الشراح: فرأى البعض أنه عاد إلى استخدام أسلوب الميتافيزيقا الأرسطية، وأنه قد عاد رغما عنه إلى الأخذ بالاتجاهات التي كان يعيبها على الفلسفات القديمة. وكان من أهم الأسباب التي أدت إلى إثارة هذه المشكلات، غموض معنى «الصور» في كتابات بيكن. وهكذا يشير «بروشار» إلى ثلاثة معان رئيسية لكلمة «الصورة» عند بيكن، أولها أنها هي «الفصل» الحقيقي ؛ أي إنها ما يتم به التعريف؛ فالصورة هي الجنس تعريف الحرارة الذي أشرنا إليه من قبل، والشروط التي تحدد هذا الجنس وتخصصه بحيث ينطبق على الحرارة وحدها هي الفصل. كذلك فإن الصورة هي الماهية أو ما يوجد كلما وجد الشيء، وما يوجد الشيء كلما وجد، والمعنى الثالث هو القانون، أو قانون الفعل المحض للظاهرة،
27
ومن الواضح في هذه المعاني جميعا أن «الصور» ليست مفارقة ولا مجردة كما كان يراها القدماء، وإنما هي كامنة في قلب الشيء الطبيعي ذاته، ولها طبيعة يمكن تحديدها وحصرها بدقة، وما هي إلا طريقة خاصة من طرق وجود المادة، تعين على حصر العالم والتحكم فيه، ويرى «بروشار» أن فكرة القانون هي الفكرة الأساسية في هذه المعاني كلها. ولكن القانون عند بيكن ليس له نفس المعنى المعروف عند جون ستيوارت مل؛ أي التعاقب الدائم غير المشروط؛ لأن بيكن يميز بين الصورة وبين العلة الفاعلة، ويرى أن كشف الأولى أعمق وأصعب من كشف الثانية، فضلا عن أن القانون، عنده متعلق «بالفعل المحض» للمادة. وهكذا يفسر معنى القانون عند بيكن - وبالتالي معنى الصورة، بأنه هو التنظيم الميكانيكي لدقائق المادة، الذي يؤدي في كل حالة إلى ظهور إحدى الطبائع كالحار والبارد والجاف والرطب، وعن طريق كشف هذه الصيغة التي هي رياضة خالصة، وإن تكن هي «العملية الكامنة» في قلب الظواهر - يستطيع الإنسان إخضاع الطبيعة لعقله، وتحقيق السيطرة الكاملة عليها.
وإذا صح هذا التفسير فإن من الممكن استخدامه في الرد على اعتراض أساسي كان يوجه دائما إلى بيكن، وهو أنه يتجاهل قيمة الرياضيات في الكشف العلمي، على العكس من ديكارت الذي كان تفكيره أكثر تمشيا مع العلم الحديث؛ لأنه أكد الأهمية الأساسية للرياضة ومنهجها، والحق أن فلسفة بيكن العلمية تبدو لأول وهلة فلسفة لا تهتم إلا بالكيفيات؛ لأن «الطبائع» التي تحدث عنها إنما هي الكيفيات الأساسية للأشياء. كما أن اهتمام بيكن قد انصب أساسا على الدعوة إلى دراسة العلم التجريبي والتاريخ الطبيعي، وهي علوم قائمة على الملاحظة والتجارب الكيفية، بينما أبدى تحاملا على الرياضيات لأنها «مجردة»، تضفي على الأشياء صورة لا تعبر عن حقيقتها، شأنها شأن سائر التجريدات الميتافيزيقية. وهذا كله صحيح. غير أن المرء يستطيع أن يستشف من وراء اهتمام بيكن الزائد «بالصورة» الكامنة في الطبائع الكيفية نوعا من الاتجاه إلى إدراك قيمة الصيغ الرياضية في التعبير عن القوانين النهائية للعالم الطبيعي؛ أعني اتجاها إلى استبدال الكم بالكيف، والحق أننا لو أمعنا النظر في النقد الذي يوجهه بيكن إلى اللغة المعتادة في «أوهام السوق»؛ لوجدنا فيه تقديرا لقيمة الرياضيات؛ إذ إن الخلافات بين العلماء تنحل - بسبب استخدامهم لألفاظ اللغة المعتادة - إلى خلافات حول الأسماء، «ومن هنا فإن من الأفضل (محاكاة للرياضيين في حذرهم) أن نسير بمزيد من الحرص منذ البداية، وأن نضفي النظام على هذه الخلافات باستخدام التعريفات»،
28
وهكذا فإن التعريف الرياضي في رأيه وسيلة لإضفاء المزيد من الدقة على الأفكار المتعمقة، ومن هذا كله يتضح أن بيكن - مع تحمسه الشديد للعلم التجريبي - لم يكن معاديا للرياضيات كما قد يبدو لأول وهلة، وأن انتقاداته للرياضة إنما ترجع إلى حذره من الإفراط في التجريد من جهة، وترجع من جهة أخرى إلى خوفه مما جره المنهج الاستنباطي (عن طريق القياس) من أضرار على العلم، وحرصه على الابتعاد عن كل ما قد يشتم منه شبهة الاستنباط. (7) تأثير بيكن
على الرغم من أهمية نظرية الاستقراء عند بيكن فإن التأثير الأعظم له لم يكن في هذا الميدان؛ ذلك لأن البحث في مناهج العلم أمر مشكوك في قيمته دائما، ويبدو أن بيكن ذاته قد وصل إلى هذه النتيجة، وأدرك أن العالم لا يخضع لمناهج يفرضها عليه الفلاسفة، وإنما هو يضع لنفسه مناهجه خلال عملية البحث العلمي ذاتها؛ ومن هنا فقد توقف عن إكمال «الأورجانون الجديد»، واتجه بذهنه إلى مشروعات أخرى أجدى من فرض المناهج على العلماء. والواقع أننا نستطيع أن نقول: إن الفارق الحقيقي بين القياس والاستقراء هو أن الأول يزيد من تأكيد أهمية المنهج الفلسفي، على حين أن الثاني يميل إلى الإقلال من هذه الأهمية ؛ فالقياس يعني مزيدا من الاهتمام بالألفاظ، أو تحليل المعرفة عن طريق التعامل مع كلمات، على حين أن الاستقراء يعني مزيدا من الاهتمام بالأشياء ذاتها والوصول إلى العلم بغير واسطة من الإجراءات والعمليات المنطقية. وبعبارة أخرى؛ فالأول يؤكد أهمية المنطق على حساب الطبيعة، والثاني يؤكد أهمية الطبيعة على حساب المنطق. وهكذا يبدو أن بيكن - حين دعا إلى استبدال الاستقراء بالقياس - لم يكن يدعو في واقع الأمر إلى إحلال نوع جديد من المنطق محل نوع قديم، وإنما كان يدعو إلى تنظيم جديد للمعرفة البشرية، يبتعد فيه الفكر عن عبودية المنطق ويرجع إلى المصدر الأصلي للمعرفة وهو الطبيعة؛ أي إنه في «الأورجانون الجديد» إنما يدعو إلى منطق يقضي على تقديس المنطق، واستدلال يقلل من أهمية الاستدلال.
وعلى هذا الأساس ينبغي البحث عن تأثير بيكن الحقيقي في نواح أخرى من تفكيره، وبالفعل كان لبيكن تأثير عظيم في الأجيال التالية، في أوروبا بوجه عام وفي بلاده بوجه خاص، على الرغم من مظاهر الضعف الأساسية في تفكيره: كاعتقاده بأن العالم بسيط ويمكن كشف جميع أسراره في فترة معلومة وعلى يد عدد محدد من العلماء، وكمعارضته لنظرية «كبرنك» الفلكية الجديدة، وعدم إدراكه الدلالة الحقيقة لأفكار كبلر وجاليليو العلمية، وقد لخص «أندرسن»
29
تأثير بيكن الأكبر في ثلاث نقاط: (1)
تحريره للعلم من حفظ المعارف وترديدها ومن طريقة النقل والرجوع إلى التراث التي كانت سائدة في أعظم الجامعات في ذلك الحين. (2)
دعوته إلى الفصل بين العلم البشري والوحي الإلهي. (3)
مناداته بفلسفة جديدة ترتكز على أساس متين من العلم الطبيعي، لا من الميتافيزيقا التجريدية.
ونستطيع أن نقول في صدد المسألة الأولى: إن طبيعة العلم قد أخذت تتغير بسرعة بعد وفاة بيكن بوقت قصير. صحيح أن الحركة العلمية الحديثة كانت قد بدأت قبله ومستقلة عنه. ومع ذلك فقد كان لتعاليمه تأثير بعيد في دفع هذه الحركة إلى الأمام، أسفر عن إنشاء الجمعية الملكية في لندن (وهي الجمعية التي أشاد مؤسسها بذكرى بيكن في يوم افتتاحها)، وظهور موجة طاغية من الأبحاث التجريبية والكشوف الفنية التفصيلية التي استلهمت تعاليمه، والتي مهدت لظهور الثورة الصناعية في إنجلترا بعد ذلك بقرن من الزمان .
أما مسألة الفصل بين الدين والعلم، فمن المؤكد أن بيكن قد أسدى بها إلى العلم خدمة كبرى، وجنبه تدخل رجال اللاهوت الذين كانوا يرون أنفسهم «علماء»، وأصحاب الرأي المطلق في كل كشف جديد؛ لأنهم حملة الأسرار الإلهية: ولا يستطيع أحد أن يشك في إيمان بيكن بتعاليم الدين، غير أنه كان في الوقت ذاته حريصا كل الحرص على إبعاد السلطة الدينية عن مجال الحقيقة العلمية، بحيث اكتفى في الشئون الدينية بالوحي، وترك للعقل مهمة بحث مادة العالم الطبيعي وكشف قوانينها؛ وبذلك صد عن الباحثين في مجال العلم هجمات رجال الدين دون استقرار لهؤلاء الأخيرين.
وأما فلسفة بيكن المرتكزة على أساس علمي فقد ظلت هي التيار السائد في الفلسفة الإنجليزية على التخصيص حتى اليوم. ويمكن القول إن المذاهب التجريبية بمناهجها في الملاحظة التسجيلية الدقيقة لعمليات الذهن البشري، وكذلك المذاهب الوضعية في تحليلاتها الدقيقة للغة العلمية، كل هذه قد تأثرت - بطريق مباشر أو غير مباشر - بدعوة بيكن الفلسفية الجديدة في مستهل العصر الحديث. (8) نصوص من «الأورجانون الجديد»
أوردنا خلال البحث نصوصا متعددة من كتاب «الأورجانون الجديد»؛ ولذا سنكتفي في هذا الجزء بنصوص قليلة، تكمل ما اقتبسناه من قبل: (1)
في القسم 84 من الباب الأول، يناقش بيكن فكرة احترام القدماء والخضوع للسلطة في ميدان الفلسفة، ويوضح مدى ضررها بالنسبة إلى تقدم المعرفة، فيقول:
إن الرأي الذي يرفع به الناس من قيمة القديم هو رأي باطل تماما، ولا ينطبق على لفظ «القديم» مطلقا؛ ذلك لأن شيخوخة العالم وتزايد عمره هو الذي يعد، في الواقع، «قديما»، وهذه هي الصفة المميزة لزمننا هذا، لا للعمر المبكر للعالم في أيام القدماء؛ إذ إن هؤلاء الأخيرين هم بالنسبة إلينا قدماء سابقون. ولكنهم بالنسبة إلى العالم محدثون صغار، ولما كنا نتوقع من الشخص المتقدم في العمر معرفة أعظم بأمور البشر، وحكما أنضج من حكم الشاب ومعرفته؛ نظرا إلى ما اكتسبه الأول من تجارب وما مر به من حوادث منوعة متعددة، ولكثرة ما رآه وسمعه وفكر فيه، فإن لنا الحق في أن ننتظر من عصرنا (لو أنه أدرك قوته وجربها ومارسها) أمورا أعظم مما ننتظره من العصور القديمة، ما دام العالم قد ازداد اليوم قدما، وتضاعفت ذخيرته وتراكمت بفضل عدد لا نهاية له من التجارب والملاحظات. (2)
وفي القسم 129 من الباب الأول، يقارن بيكن بين تأثير المخترعات التي تبدو في ظاهرها بسيطة، بين تأثير الساسة والملوك ورجال الدين في شئون البشر؛ لكي ينتهي من ذلك إلى تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة عن طريق الاختراع، هو أسمى الغايات جميعا، فيقول: «نلاحظ أولا أن استحداث الاختراعات العظيمة يبدو عملا من أروع الأعمال البشرية، وعلى هذا النحو نظر الأقدمون إلى هذه المسألة؛ ذلك لأنهم كانوا يخلعون ألقاب الشرف الإلهية على أصحاب المخترعات. ولكنهم كانوا يكتفون بألقاب الشرف البطولية على أولئك الذين أثبتوا امتيازا في الشئون المدنية (كمؤسسي المدن والإمبراطوريات والمشرعين ومحرري بلادهم من بؤس مقيم وقاهري الطغاة وأمثالهم)، ولو قارن المرء بين الفئتين على النحو الصحيح؛ لوجد أن القدماء كانوا على حق في حكمهم؛ ذلك لأن الفوائد المكتسبة من الاختراعات يمكن أن تعم البشر عامة، على حين أن الفوائد المدنية تقتصر على مواضع خاصة بعينها. كما أن هذه الأخيرة لا تدوم إلا وقتا معلوما. أما الأولى فأثرها باق إلى أبد الدهر. كذلك فإن الإصلاح المدني قليلا ما يتم دون عنف واضطراب، على حين أن المخترعات نعمة وفائدة لا تؤذي ولا تضر أحدا.
وفضلا عن ذلك، فليتأمل المرء الفارق الهائل بين حياة الناس في أرقى البلاد الأوروبية، وبين حياتهم في أية منطقة همجية من جزر الهند الجديدة، وسيجد أن هذا الفارق قد بلغ من الضخامة حدا يجعل الإنسان أشبه ما يكون بالإله إلى الإنسان، ليس فقط بفضل تبادل المساعدة والمنافع، وإنما بفضل الحالة السائدة لدى الإنسان في كلتا الحالتين، وهي نتيجة فنون الإنسان وصنائعه لا نتيجة التربة أو المناخ.
كذلك ينبغي علينا أن نلاحظ قوة المخترعات وتأثيرها ونتائجها، وهي أمور تظهر أوضح ما تكون في تلك المخترعات الثلاثة التي لم يعرفها القدماء، وهي الطباعة والبارود والبوصلة؛ ذلك لأن هذه المخترعات الثلاثة قد غيرت وجه العالم بأسره: الأولى في ميدان العلم، والثانية في ميدان الحرب، والثالثة في الملاحة، وهي قد أحدثت تغيرات لا حصر لها؛ بحيث يمكن القول: إن أية مملكة أو مذهب ديني أو نجم فلكي
30
لم يكن له من التأثير في شئون البشر أعظم مما كان لهذه الكشوف الميكانيكية.»
وجدير بنا أن نميز بين ثلاث مراتب من الطموح: الأولى طموح أولئك الذين يسعون إلى زيادة قوة بلدهم وسيطرته على البشر، وهو طموح أرفع من السابق. ولكنه لا يقل عنه طمعا. أما إذا حاول امرؤ أن يستعد ويوسع قوة الجنس البشري في عمومه، فإن مثل هذا الطموح (إن جازت تسميته بهذا الاسم) إنما هو أشرف وأنبل من النوعين السابقين معا؛ على أن سيطرة الإنسان على الأشياء إنما تقوم على الفنون العلمية والعلوم وحدها؛ إذ إن الطبيعة لا تحكم بإطاعتها.
شجرة الفلسفة عند ديكارت
(1) هدف البحث
في مقدمة كتاب «مبادئ الفلسفة» يقدم ديكارت تشبيها مشهورا للفلسفة بشجرة لها جذور وجذوع وفروع تحمل ثمارا، وهدفنا في هذا البحث هو أن نحلل المعاني المختلفة لهذا التشبيه، ونستخلص منها التفسيرات التي يمكن استخلاصها للعلاقة بين مباحث الفلسفة عند هذا الفيلسوف الكبير؛ ذلك لأن من الممكن أن يفسر هذا التشبيه بأكثر من طريقة واحدة، على عكس الاعتقاد الشائع في الكتابات المألوفة عند ديكارت، ولكل من طرق التفسير هذه مبرراتها القوية المستمدة من فلسفة ديكارت ذاتها، ومن وجهة أخرى فإن دلالة هذا التشبيه لم تبحث بحثا كافيا، على الرغم من شيوع استخدامه في الكتب الفلسفية المتخصصة وغير المتخصصة، وإنما كان يقتبس في معظم الأحيان بوصفه نوعا من «تصنيف» العلوم الفلسفية فحسب، وسوف يتبين لنا خلال هذا البحث أن طريقة تفسير هذا التشبيه تثير مشكلات أساسية تتعلق بصميم الفلسفة الديكارتية، بل تتعلق بوضع الفلسفة كلها في مطلع العصر الحديث، وبالصراع العلني أو الخفي بين الفيلسوف وبين القوى التي كانت معادية للأفكار الجديدة في ذلك العصر. (2) نص التشبيه
يتحدث ديكارت، في المقدمة المذكورة، عن الإنسان الذي يريد أن يكون عاقلا وعارفا بحق، فيقول عنه: إنه «ينبغي عليه أن يعكف على الفلسفة الحقة، التي يتألف الجزء الأول منها من الميتافيزيقا، وهي تشمل مبادئ المعرفة، وضمن هذه المبادئ بيان الصفات الأساسية لله، ولا مادية نفوسنا، وكل الأفكار الواضحة والبسيطة التي توجد فينا، أما الجزء الثاني فهو الفيزياء، التي يبدأ المرء فيها بالاهتداء إلى المبادئ الحقيقية للأشياء المادية، ثم يبحث بوجه عام في كيفية تركيب الكون كله، وبعد ذلك يبحث بوجه خاص في طبيعة هذه الأرض وجميع الأجسام التي يشيع وجودها حولها كالهواء والماء والنار والمغناطيس والمعادن الأخرى، وبعد ذلك ينبغي إبداء اهتمام خاص بطبيعة النباتات والحيوانات، واهتمام أخص بطبيعة الإنسان، حتى يتسنى للمرء بعد ذلك الاهتداء إلى العلوم الأخرى المفيدة له. وهكذا فإن الفلسفة كلها أشبه بشجرة جذورها الميتافيزيقا، جذعها الفيزياء، والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي العلوم الأخرى التي ترتد إلى ثلاثة علوم رئيسية: هي الطب والميكانيكا والأخلاق، وأنا أعني بهذه الأخيرة أسمى أخلاق وأكملها، أي تلك التي تفترض معرفة كاملة بالعلوم الأخرى، والتي هي أقصى مراتب الحكمة.
ولما كان المرء لا يجني الثمار من جذور الأشجار ولا من جذعها، بل من أطراف أغصانها فحسب، فإن الفائدة الكبرى التي تجنى من الفلسفة تتوقف على أجزائها التي لا يتسنى للمرء تعلمها إلا في آخر المطاف.»
1 (3) الهيكل البنائي للتشبيه (1)
يشتمل التشبيه - كما هو واضح - على جذور وجذع وغصون تحمل الثمار، وهذه العناصر الثلاثة تؤلف كلها «شجرة»؛ أي إنها تؤلف وحدة واحدة. بل إن الشجرة، وغيرها من أشكال الحياة، هي في تفكيرنا العادي نموذج للوحدة «العضوية»، ولما كانت الفلسفة هي «الشجرة» ككل، فإن المعنى الواضح لذلك هو أن ديكارت نظر إلى الفلسفة بمعنى شامل، وجعلها مرادفة «للمعرفة» بوجه عام، فالعلوم النظرية كالفيزياء، والعلوم التطبيقية أو العملية كالميكانيكا، تندرج تحت ذلك الكل الشامل، الذي هو الفلسفة. وهكذا كان ديكارت من أنصار «وحدة المعرفة»؛ بحيث تؤلف فروع العلم المختلفة في نظره - وكذلك الميتافيزيقا - كيانا شاملا واحدا، ترتبط أجزاؤه في وحدة عضوية. وفي هذه المسألة كان ديكارت فيلسوفا مذهبيا بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة؛ أي بمعنى الفيلسوف الذي يدخل كل جوانب المعرفة في إطار استبصار رئيسي واحد، وإن كان قد اختلف عن أصحاب المذاهب الكبرى من اليونانيين في أنه جعل للعلم مكانا رئيسيا في هذا المذهب، كما اختلف عنهم في تأكيده أن الغاية من المعرفة - آخر الأمر - عملية تطبيقية. وليست مجرد إرضاء حب الاستطلاع النظري لدى العقل الإنساني فحسب.
وهذا التأكيد لوحدة المعرفة - من ميتافيزيقيا وعلوم نظرية وتطبيقية - في إطار «الفلسفة» مفهومة بمعنى شامل، هو أمر له دلالة بالغة في تفسير الفكر الديكارتي؛ ففي عصر ديكارت كانت مظاهر انفصال نوع خاص من المعرفة - هو العلم - عن المعرفة الفلسفية قد بدأت تتجلى بوضوح، وأخذت تتحدد معالم هذا النوع الجديد من المعرفة البادئ في التبلور، وبدأت مناهجه تتشكل بصورة مستقلة عن المناهج الفلسفية، وقد ظهر ذلك بوضوح في أعمال علماء مثل جاليليو وروبرت بويل، بل لقد عبر عنه فيلسوف مثل فرانسس بيكن تعبيرا صريحا، حين جعل «للفلسفة الطبيعية» (أي العلم التجريبي) طبيعة ومنهجا وهدفا يختلف بصورة قاطعة عن كل ما عرفته «الفلسفة التأملية» السابقة.
أما ديكارت فكان تفكيره - ولا يزال - يدور في إطار «المعرفة الموحدة» التي تكون فيها الفلسفة والعلم شيئا واحدا، يستخدم فيه منهج واحد، فهو لم يتأثر كثيرا بالتيار الجديد الذي يدعو إلى بناء معرفة علمية على أنقاض الأسلوب التقليدي في التفلسف، وإنما ينادي بفلسفة واحدة، تبدأ بمبادئ ميتافيزيقية يقينية، أي «بالمبادئ الأولى» (التي كان أرسطو بدوره يركز بحثه عليها)، ثم تنقل يقين هذه المبادئ حتى أبعد فروع البحث التطبيقي، والشيء الذي تميز به ديكارت عن الأسلوب التقليدي في التفلسف هو دعوته إلى تطبيق منهج يتسم بالوضوح واليقين على جميع مراحل عملية المعرفة؛ ذلك لأن مثل هذا المنهج الصارم كان مفقودا في أساليب التفلسف التقليدية، التي كانت تعتمد على التأمل والخيال أكثر مما تعتمد على دقة الاستنباط وإحكام الروابط بين المقدمات والنتائج. (2)
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه بقوة عندما يتأمل المرء هذا التشبيه، هو: أين موقع الرياضيات فيه؟ إن الرياضيات لا تجد مكانا في أي جزء من أجزاء شجرة المعرفة. وهذا أمر يبدو غريبا لدى فيلسوف كان يتخذ من الرياضة نموذجا لكل معرفة يقينية، ويضع لنفسه منذ بداية حياته هدفا طموحا هو أن يحقق في جميع مجالات المعرفة نفس اليقين الذي تحققه الرياضة. ولكن الحقيقة هي أن الرياضيات وإن كانت غائبة عن الشجرة، هي في واقع الأمر حاضرة فيها كل الحضور، فالرياضيات هي التي تقدم إلينا منهج البحث في جميع هذه المراحل، بدءا بالميتافيزيقا وانتهاء بالأخلاق، وهي الروح التي تسري في جميع عمليات المعرفة التي يقوم بها العقل البشري، فعن طريق الاستنباط - الذي يتبعه الرياضيون - ينقل الفكر يقين المبادئ الأولى إلى كل معرفة تالية يستخلصها منه، ويتوسع في معارفه على الدوام دون أن يفقد خلال ذلك يقين المبدأ الأول، ولو شئنا أن ندخلها ضمن هذا التشبيه لقلنا: إنها هي العصارة التي تسري في الشجرة من جذورها حتى أغصانها وثمارها، أو هي الفن الذي يتبعه البستاني الماهر حين يتعهد النبتة منذ أن كانت بذرة حتى تستوي شجرة باسقة. (3)
على أن المشكلة الكبرى في بناء هذا التشبيه هي علاقة عناصره بعضها ببعض، ولا سيما الإشكالات المتعلقة بأول هذه العناصر وهو الجذور التي تعني عند ديكارت «الميتافيزيقا»، هنا تصادفنا مشكلة التفسيرات الممكنة لطبيعة «الجذر» في علاقته بالنبات المتكامل، أو بعبارة أخرى: الميتافيزيقا في علاقتها بالعلوم. (أ)
فالجذر قد يكون هو «الأهم» والأجدر بالبحث من كل ما عداه؛ لأنه هو الأصل وهو العمق، وهو الثابت المغروس بقوة في الأرض، على حين أن سائر أجزاء الشجرة سطحية مهتزة قد تودي بها الرياح.
وبهذا المعنى نتحدث عن جذور أي شعب بوصفها، عنصر الأصالة فيه، في مقابل العناصر السطحية التي لم تتأصل فيه بعد، ونتحدث عن جذور أي موضوع بوصفها أحق الجوانب بالاهتمام فيه. (ب)
ولكننا قد نفهم الجذر بمعنى آخر، هو أنه ما يأتي في البداية لكي يظهر غيره (الجذع، والثمار بوجه خاص) بناء عليه؛ أي إنه بهذا المعنى هو «المقدمة» أو «التمهيد»، هو الذي يهيئ الطريق للنبات الكامل ثم لا يعود بعد ذلك موضوعا لاهتمامنا، إنما ينصب هذا الاهتمام على نواتجه وعلى ما تجنيه الشجرة آخر الأمر من ثمار، فمن منا يفكر حين يرى شجرة ناضجة في الجذور التي هيأت لانبثاقها؟ أليس حجم الشجرة واستواء جذعها ونوع ثمارها هو ما يجتذب كل اهتمامنا، على حين أن الجذر يتوارى عن تفكيرنا لأنه «أدى مهمته» ومهد الطريق للشيء الأساسي والهام؟ إن مما يعزز هذا الفهم للجذر أنه بطبيعته يختفي ويتوارى عن الأنظار؛ فالجذر «تحت الأرض»، والجذع والثمار هي التي تشق طريقها إلى النور، وهي «المرئية» والملموسة، وبقاء الجذر مختفيا تحت الأرض يرمز إلى وظيفته التمهيدية هذه، فهو عنصر ممهد لغيره فحسب، ومهمته الوحيدة هي أن يكون تهيئة لظهور الأجزاء الظاهرة من الشجرة؛ ومن ثم فهو أشبه ما يكون «بالشرط السلبي» لوجود هذه الشجرة، أو هو مجرد «وسيلة» لغاية هي النبات المكتمل. (ج)
وأخيرا، فمن الممكن أن نفهم علاقة الجذر بالنبات الكامل على نحو ثالث يجمع بين عناصر في كل من المعنيين السابقين؛ أي إنه يؤكد - مع المعنى - أهمية الجذور. ولكنه يؤكد - مع المعنى الثاني - أن جذع الشجرة وثمارها هي الغاية، ونقطة الانطلاق في هذا المعنى هي أن الجذر - وإن كان وسيلة لغاية هي النبات المكتمل - لا تنتهي مهمته بعد ظهور هذا النبات، بل إن الشجرة - مهما نمت وعلت - تظل في حاجة دائمة إلى جذرها؛ لأنه هو الذي يظل يزودها بالعصارة الغذائية التي يتوقف عليها استمرار حياتها، ولو انتزعت جذور الشجرة لذبلت على الفور مهما بدت لأعيننا متطاولة إلى السماء، ومعنى ذلك أن وظيفة الجذور في النبات الكامل «مستمرة»، وأنها هي التي تزود هذا النبات برحيق الحياة، ولولاها لما عاش جذع ولا ثمار؛ أي إن تأثير الجذر هو الذي تطغي أهميته على كل ما عداه. وليس صحيحا أن النبات المكتمل يلغي أهمية الجذر ويتخذه مجرد أداة تنتفي الحكمة من وجودها بعد أن تؤدي رسالتها، وإنما الصحيح أن هناك علاقة استمرار واتصال دائم بين هذين العنصرين.
وهكذا يكون للجذر - في علاقته بالشجرة - ثلاثة معان؛ فهو إما أن يكون العنصر «الأهم» الذي يطغى على كل ما عداه أو يحجبه ويكون جديرا باهتمامنا بدلا منه، وإما أن يكون العنصر «الممهد» الذي يهيئ المجال لغيره ويتوارى بعد ذلك عن الأنظار، وإما أن يكون العنصر «المستمر» الذي يظل يزود النبات الكامل برحيق الحياة طوال مراحل نموه.
هذه المعاني المستمدة من بناء تشبيه الشجرة ذاته، يمكن أن تترجم فلسفيا إلى ثلاثة تفسيرات مختلفة للعلاقة بين الميتافيزيقا (بوصفها جذر الشجرة) وبين الفيزياء والعلوم التطبيقية (أي الجذع والثمار): (1)
التفسير الأول يرى أن الميتافيزيقا هي العنصر الأهم في فلسفة ديكارت، وكل ما عداها ثانوي الأهمية بالقياس إليها. وهكذا رأى كثير من شراح ديكارت أن فلسفته هي في أساسها «ميتافيزيقا»، وعلى الرغم من أن البحث في الميتافيزيقا لم يكن سوى موضوع واحد من بين موضوعات متعددة أبدى بها ديكارت اهتماما كبيرا، فإن هؤلاء الباحثين يخصصون أكبر حيز من مؤلفاتهم عن ديكارت لآرائه الميتافيزيقية، على حين أن آراءه العلمية ولا يشار إليها في هذه الحالات إلا إشارة عابرة.
ولا شك أن المرء قد يلتمس عذرا لمن يعالجون فلسفة ديكارت بهذه الطريقة، على أساس أن البحث الميتافيزيقي يحتفظ بقيمته على مر العصور، على حين أن الآراء العلمية تفقد قيمتها بسرعة ولا يعود لها مكان إلا في متحف التاريخ العلمي فحسب. وهذا تبرير معقول ومفهوم. ولكن كان ينبغي أن يصحبه إدراك للأهمية النسبية لكل من المبحثين عند ديكارت نفسه، فلا بأس من أن يخصص الشارح المعاصر معظم كتابه للمسائل الميتافيزيقية ويتجاهل المسائل العلمية، بشرط أن ينبهنا إلى أن ديكارت ذاته جعل لهذه المسائل العلمية موقعا رئيسيا في فلسفته. ولكن ما يحدث في أغلب الأحيان هو أن طغيان البحث الميتافيزيقي يصحبه عادة اعتقاد ضمني بأن الوضع كان على هذا النحو حتى بالنسبة إلى ديكارت ذاته، ألم يقل ديكارت: إن الميتافيزيقا هي الجذور؟ وأليست جذور الشجرة هي الأصيلة والعميقة والراسخة؟ (2)
أما التفسير الثاني فيذهب - على العكس من ذلك - إلى أن دور الميتافيزيقا عند ديكارت كان «تمهيديا» فحسب؛ فهي التي تهيئ الطريق للبحث في العلوم النظرية والتطبيقية، وذلك بأن تزيل عقبات معينة كان من الممكن أن تحول دون قيام هذه العلوم، كعقبة الشك في قدرة الإنسان على المعرفة، أو في وجود العالم، وبعد أن تؤدي الميتافيزيقا هذه المهمة، التي هي سلبية بطبيعتها (أعني إزالة العقبات)، وبعد أن تضيء النور الأخضر للعلم، ينطلق العلم في مساره مستقلا عن الميتافيزيقا، ووفقا لهذا التفسير لا تحتل الميتافيزيقا في فلسفة ديكارت إلا مكانة ثانوية، ويكون اهتمام ديكارت الحقيقي منصبا على المسائل العلمية. (3)
وأخيرا، فإن التفسير الثالث يمكن أن يعد مركبا من التفسيرين الأخيرين، فهو يعترف بالأهمية القصوى للميتافيزيقا، ويعترف في الوقت ذاته بأن البحث في العلوم كان هو الغاية النهائية لفلسفة ديكارت، وذلك عن طريق تأكيد الروابط المستمرة بين الجانبين؛ فالعلوم تظل معتمدة على المبادئ الأساسية التي تزودها بها الميتافيزيقا، ومهمة الميتافيزيقا في إعلاء صرح المعرفة العلمية مستمرة؛ لأن تصور ديكارت للعلم لا يستقيم بدون وجود مبادئ ميتافيزيقية أساسية تضفي اليقين على كل ما يتوصل إليه العلم النظري والتطبيقي من نتائج، وعملية المعرفة - في نهاية الأمر - تسير في خط واحد لا انقطاع فيه؛ بحيث يستحيل وضع حد فاصل نهائي بين ما يقوم به الباحث الميتافيزيقي وما يقوم به العالم النظري والتطبيقي. بل إن ديكارت نفسه تصور أنه هو القادر على السير في طريق المعرفة هذا من بدايته إلى نهايته.
وهكذا تتحدد طبيعة فلسفة ديكارت، في علاقتها بالجوانب العلمية من نشاطه، في إطار هذه التفسيرات المرتكزة على ثلاثة طرق ممكنة في فهم تشبيه الشجرة، وسوف تكون مهمتنا - في الأجزاء التالية من هذا البحث - هي تقديم عرض مفصل لهذه التفسيرات، من أجل بيان مدى قدرتها على التعبير عن موقف ديكارت الحقيقي في مشكلة العلاقة بين الجوانب الفلسفية والجوانب العلمية في تفكيره.
على أن من الواجب أن ننبه إلى أن التفسير الأول، وهو القائل إن الميتافيزيقا هي العنصر الهام الذي يطغى على ما عداه، والذي يجعل من ديكارت فيلسوفا ميتافيزيقا في الأساس، ولا يتحدث عن مواقفه من العلم إلا حديثا ثانويا. هذا التفسير كما قلنا في بداية هذا البحث هو الشائع والمألوف، ولما كانت نسبة كبيرة من الكتابات والأبحاث التي ألفت عن ديكارت قد دافعت عن هذا الموقف، فإنا لا نجد أنفسنا بحاجة إلى عرض مفصل لهذا التفسير؛ ولذلك سنركز اهتمامنا على التفسيرين الأخيرين؛ لأنهما أقل شيوعا، ولأن كلا منهما يلقي ضوءا من زاوية جديدة على فلسفة ديكارت، ويبرز جانبا لا تشيع الكتابة عنه، وبطبيعة الحال ففي ثنايا العرض الذي سنقدمه لهذين التفسيرين، ستكون هناك إشارات دائمة إلى التفسير الأول، وحوار مستمر مع القائلين به. (4) الدور السلبي للميتافيزيقا إزاء العلم
حينما تصف جور الميتافيزيقا إزاء العلم - وفقا لوجهة النظر التي سنعرضها الآن - بأنه سلبي، نعني بذلك أن الميتافيزيقا عند ديكارت هي التمهيد المنطقي للعلم، وأن العلم يبدأ من حيث تنتهي الميتافيزيقا.
ذلك لأن من المستحيل أن يبدأ العالم في ممارسة عمله العلمي لو كان هناك شك في أدوات المعرفة التي يستخدمها، وهي الحواس والعقل، أو في الموضوعات التي يبحثها، وهي الداخلي (الإنساني) والخارجي (الطبيعي).
لذلك أخذ ديكارت على عاتقه في بحوثه الميتافيزيقية أن يبدد هذا الشك، وبالفعل قام برحلته الميتافيزيقية الطويلة التي لا نرى هنا ما يدعونا إلى عرض تفاصيلها، لكي يصل في النهاية إلى إثبات وجود الذات الإنسانية، إلى إثبات وجود العالم الخارجي، وإمكان الثقة في حواس الإنسان وعقله، ما دام الله موجودا وكاملا، وبالتالي يستحيل أن يقدم إلينا عالما وهميا، أو يعطينا أدوات زائفة للمعرفة.
منذ هذه اللحظة يصبح العلم ممكنا. أما قبل ذلك وطوال الوقت الذي كان وجود العالم الخارجي أو سلامة الأدوات التي نعرفه بها معرضا فيه للشك، فكان من المحال تصور أي علم، وهكذا يكون هدف تلك الرحلة الطويلة في ميدان الميتافيزيقا هو أن يمهد «سلبيا» لظهور العلم، بمعنى تبديد الشكوك التي كانت تمنع من قيامه، كأن ديكارت، بعد أن ينتهي من مذهبه الميتافيزيقي، يخاطب رجال العلم قائلا : «الآن يمكنكم أن تبدءوا بحثكم العلمي وأنتم مطمئنون، بعد أن أثبت أن الموضوعات التي تبحثونها غير معرضة للشك، وأن وسائلكم في معرفة هذه الموضوعات موثوق بها». وبعبارة أخرى؛ فالميتافيزيقا تنتهي بذلك الضوء الأخضر الذي يبدأ بعده العلم في الانطلاق وعند هذا الحد ينتهي دورها.
هذا الرأي ينطبق - كما قلنا - على تفسير معين لجذور شجرة المعرفة، يجعل هذه الجذور ممهدة للنبات الكامل فحسب. ويمكن القول: إن وجود الجذور (تحت الأرض) يرمز بوضوح لهذه الطبيعة «السلبية» للميتافيزيقا الديكارتية. وحين تكون الفيزياء والعلوم التطبيقية هي الجذع والثمار - أي هي الجزء الظاهر فوق الأرض - يصبح المعنى الواضح لذلك هو أن هذه هي المعارف «الإيجابية» التي تضيف إلى حصيلتنا من العلم، بينما الميتافيزيقا تكتفي بأن تجعل هذه المعارف ممكنة، وبأن تفسح لها مجال الانطلاق، ثم تتركها وشأنها، أي تظل متوارية «تحت الأرض».
وعلى أساس هذا التفسير تكون الميتافيزيقا عند ديكارت وسيلة لا غاية؛ فهي - برغم كل ما أولاه إياها مؤرخو الفلسفة من اهتمام - أداة يستخدمها ديكارت لكي يصد عن العلم هجمات تجعل قيامه مستحيلا. ولكنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما المقصود لذاته هو العلم النظري والتطبيقي. (5) فما هي الأسباب التي تجعل هذا التفسير يبدو معقولا؟ (1)
أول هذه الأسباب هو ضعف بناء الميتافيزيقا الديكارتية. والواقع أن الكلام عن جوانب الضعف في هذه الميتافيزيقا يمكن أن يستغرق مجلدات بأكملها، وعلى الرغم من أن ديكارت كان له على الدوام مريدون يدافعون عن كل ما قال، فإن خصومه قد ظهروا منذ اللحظة الأولى، وسرعان ما أدركوا أن بناء الميتافيزيقا الديكارتية غير متماسك، وأن الحجج التي ساقها للدفاع عن آرائه غير مقنعة.
ففكرة الشيطان الخادع (
Malin génie ) إذا أخذت بجدية، وإذا مضينا فيها إلى آخر مداها استخلصنا كل ما تنطوي عليه من مضامين يمكن أن تهدم فلسفته بأكملها، وتجعل «الكوجيتو» ذاته غير مضمون. أما قضيته الأساسية، وهي «أنا أفكر إذن فأنا موجود»، فقد كانت - وما زالت - موضوعا للنقد الشديد بوصفها قضية مليئة بالمسلمات التي لا يبرهن عليها؛ ومن ثم فهي متناقضة مع نفس المنهج الرياضي الذي دعا إليه ديكارت، والذي يفترض إثباتا حاسما لكل مقدمة يرتكز عليها الاستدلال الفلسفي. ولكن إذا كان ديكارت نفسه قد رد على الاعتراضات التي توجه إليه في هذا الصدد، وإذا كان كثير من شراحه يؤكد أن من الممكن الدفاع عنه ضد كل نقد يوجه إليه في هذا الصدد، فإن براهينه على وجود الله قد أثبتت أنها أضعف من «الكوجيتو» بكثير، ولم تستطع أن تقنع عددا كبيرا من معاصريه، حتى أولئك الذين كانوا حريصين كل الحرص على إيجاد مثل هذه البراهين. بل إن لاهوتيا كبيرا من خصومه - وهو فويتيوس
Voetius
الذي كان مديرا لجامعة «أوترخت» وأستاذا للاهوت بها - قد اتهمه بالإلحاد والدجل والادعاء؛ لأن براهينه على وجود الله ضعيفة ضعفا مقصودا، الهدف منه زعزعة الإيمان. وقد ترتب على هجوم «فويتيوس» هذا اتخاذ إجراءات قضائية ضد ديكارت، كادت أن تؤدي إلى محاكمة لولا تدخل أصدقائه لدى بلاط أمير «أورانج»، وتكررت هذه القصة نفسها في ليدن، حيث هاجمه لاهوتي آخر اسمه «ريفيوس»
Revius
ووصل الأمر إلى القضاء في عام 1647م، فكان لا بد من تدخل السلطات العليا مرة أخرى لإنقاذه من المحاكمة، وإن كانت الأوامر قد صدرت بتحريم نشر تعاليمه في الجامعات،
2
أما إثباته لوجود العالم، فلا يمكن أن يعد إثباتا بالمعنى الصحيح، وخاصة إذا ما نظر إليه في ضوء الشك الشديد الذي بدأ به ديكارت، وإنما هو أقرب ما يكون إلى الاطمئنان النفسي واستعادة الثقة فيما تنقله إلينا حواسنا عن هذا العالم.
3
إننا لا نستطيع بالطبع أن نناقش موضوعا عظيم الاتساع كالميتافيزيقا الديكارتية في هذه اللمحة السريعة. ولكننا نرى أن جميع الانتقادات التي وجهت إلى البناء الميتافيزيقي عند ديكارت - وما أكثرها - تدعم وجهة النظر القائلة: إن دور الميتافيزيقا سلبي؛ أي إنها تدعم التفسير الذي يركز على «ثمار» الشجرة، ويرى في الجذور الميتافيزيقية مجرد وسيلة تمهد - آخر الأمر - لظهور هذه الثمار. (2)
ولو تأمل المرء ترتيب الحقائق التي كان ديكارت يهدف إلى إثباتها في مذهبه الميتافيزيقي؛ لأمكنه أن يفسر هذا الترتيب على نحو تكون فيه الميتافيزيقا أساسا يمهد لقيام العلم، ولا تكون فيه غاية مقصورة لذاتها؛ فالحقيقة الأولى التي يرتكز عليها بناء الميتافيزيقا هي وجود الذات، والحقيقة الثانية هي وجود الله، والثالثة وجود العالم. ولقد أراق شراح ديكارت بحورا من المداد لكي يثبتوا أن انطلاقه من الحقيقة الأساسية المتعلقة بوجود الذات، واتخاذه من الكوجيتو (أنا أفكر) أساسا لإثبات هذا الوجود، وتأكيده أن هذه هي القضية المحورية في مذهبه الميتافيزيقي، معناه أن ديكارت فيلسوف ميتافيزيقي مثالي، بل هو «أبو المثالية الحديثة»، ما دام جوهر المثالية هو تأكيد أولوية الفكر، لكن من الممكن أن يقال - من وجهة نظر أخرى. إن الانطلاق من حقيقة الفكر التي تؤسس وجود الذات لا يدل على أولوية الفكر في مذهبه، بل كانت تلك نقطة بداية ضرورية لكي يتسلسل إثبات الحقائق الثلاث الرئيسية بطريقة مقنعة للعقل فحسب؛ فالترتيب في هذه الحالة هو ترتيب منهجي لا مذهبي؛ أي إن أفضل طريقة عرض ممكنة، وأكثر هذه الطرق إقناعا للذهن، هي تلك التي تبدأ بحقيقة الفكر ووجود الذات وتنتهي إلى وجود العالم. ولكن هذا الترتيب لا يعكس على الإطلاق أهمية كل حقيقة من هذه الحقائق الثلاث داخل المذهب، ليس ترتيبا «للأولوية» بينها.
والدليل الواضح على ذلك هو موضع الحقيقة المتعلقة بوجود الله، فهذه الحقيقة يأتي ترتيبها ثانيا؛ أي بعد حقيقة وجود الذات، فهل يعقل أن فيلسوفا مثل ديكارت، بذل كل هذا العناء من أجل تقديم مذهب ميتافيزيقي يرضى عنه رجال اللاهوت، بل ربما كان يستهدف من الميتافيزيقا كلها إسكات الأصوات المعارضة، هل يعقل أن يكون قد تعمد أن يضع حقيقة وجود الله في المرتبة الثانية من حيث الأهمية داخل مذهبه؟ إن هذا مستحيل بالنسبة إلى ظروف فيلسوفنا؛ لأنه لو صح لكان بذلك يناقض نفسه ويهدم كل ما بناه، ويعطي خصومه سلاحا قويا يهاجمون به ذلك الذي جعل وجود الذات أهم من وجود الله، وهو أيضا مستحيل بالنسبة إلى البناء الداخلي للمذهب ذاته؛ لأن وجود الله عنده هو دعامة المذهب كله، ومنذ اللحظة التي يتم فيها «إثبات » وجود الله يصبح كل شيء مرتكزا على هذه الحقيقة الأساسية.
وإذن فالترتيب الذي جاءت به الحقائق الثلاث في مذهب ديكارت ليس ترتيبا لأهمية هذه الحقائق داخل المذهب، بل هو كما قلنا ترتيب منهجي، يقصد به عرض هذه الحقائق بأكثر الطرق إقناعا للعقل، وما هو في حقيقته إلا تطبيق لقاعدة «التركيب»، أي القاعدة الثالثة من قواعد المنهج الديكارتي المشهورة، التي تعطي للباحث عن الحقيقة حرية ترتيب قضاياه، دون التقيد بالترتيب الطبيعي لهذه القضايا؛ بحيث تقتنع العقول بها اقتناعا كاملا.
فإذا كان الأمر كذلك، فلن تعود هناك أسبقية لوجود الفكر على وجود العالم، ولا يحق لأحد أن يستنتج، من ورود حقيقة الفكر أولا، أنها هي الأولى في الأهمية، أو من ورود حقيقة العالم أخيرا أنها ثانوية الأهمية. بل إن كل ما في الأمر هو أن تسلسل البرهان على هذه الحقائق يقتضي - لكي يكون مقنعا إلى أقصى حد - أن يبدأ بحقيقة الفكر ووجود الذات، وينتقل منها إلى وجود الله، ثم من وجود الله إلى وجود العالم.
في هذا الإطار تبدو الميتافيزيقا الديكارتية كما لو كانت رحلة طويلة تستهدف، آخر الأمر، استرداد الثقة في وجود العالم. وفي الوسائل التي نستخدمها من أجل معرفته، وهي الحواس والعقل، أو بعبارة أخرى في الموضوع الذي يبحثه العلم وأدوات المعرفة العلمية. وحين تكون هذه هي نهاية المطاف في تلك الميتافيزيقا وسيلة تمهد لظهور العلم؛ أي إن مهمتها هي تذليل عقبات معينة كان من الممكن أن تحول دون ظهور العلم أصلا، وبعد أن تنتهي مهمة الميتافيزيقا يبدأ دور العلم. فبعد آخر حقيقة يتم إثباتها ميتافيزيقيا - هي وجود العالم والثقة في حواس الإنسان وعقله - يصبح الطريق ممهدا لكي يبدأ العالم عمله، وبهذا المعنى تكون الميتافيزيقا هي جذر الشجرة الذي يمهد لظهور غيره، الذي يختبئ «تحت الأرض» لأنه مجرد وسيلة لغاية أخرى مغايرة له.
هنا يمكننا أن نستشف سمة هامة في الميتافيزيقا الديكارتية ، هي أنها خطوة تمهيدية في طريق العلم، إنها تختلف عن الميتافيزيقا التقليدية، عن «ما بعد الطبيعة»؛ أعني عن ذلك المبحث الذي كان - عند الفلاسفة التقليديين في العصور القديمة والوسطى - يظهر بوصفه تتويجا للمذهب، ويفترض معرفة بالمسائل الطبيعية ثم يتجاوز هذه المعرفة لكي يبحث في «المبادئ الأولى»، بمعنى المبادئ القصوى أو النهائية؛ فالميتافيزيقا الديكارتية، وفقا لهذا التفسير، هي الفصل التمهيدي في كتاب المعرفة، وبعدها يبدأ العلم في الظهور. بل إننا لو شئنا الدقة لقلنا: إن هذه الميتافيزيقا محاطة بالعلم من الجانبين؛ ذلك لأن مسارها عند ديكارت يفترض معرفة دقيقة بالمنهج الرياضي، الذي يبعث الروح في كل مرحلة من مراحل الرحلة الميتافيزيقية الطويلة، ويوجه هذه الرحلة من بدايتها إلى نهايتها، فقبل أن نبدأ الميتافيزيقا ينبغي أن يكون الفيلسوف قد ألم بالرياضيات وتشبع بمنهجها إلى الحد الذي يتيح له أن يرتب أفكاره الميتافيزيقية بالطريقة الصحيحة، وبعد أن تنتهي الميتافيزيقا يكون الطريق قد أصبح ممهدا لقيام العلم الطبيعي، ومن بعده المعارف العملية التطبيقية؛ وعلى هذا الأساس تكون الميتافيزيقا الديكارتية مرحلة وسطى بين مرحلتين عمليتين: الأولى تسبقها والثانية تلحقها.
وسواء أخذ المرء بهذا التفسير، أم اكتفى بالقول إن ما تقدمه الرياضة مجرد «منهج»، أي أداة للبحث، وأن البداية الحقيقية هي البداية الميتافيزيقية التي تمهد لظهور العلم فيما بعد، فإنه في كلتا الحالتين يكون قد جعل للميتافيزيقا دورا سلبيا، يصبح فيه وجودها متوقفا أساسا على وجود العلم الذي تمهد له أو يمهد لها. (3)
ولو تأمل المرء موقع فكرة «الآلية» في فلسفة ديكارت؛ لوجد فيها دليلا آخر يؤيد الرأي القائل بأن مكانة الميتافيزيقا في مذهبه ثانوية أو تمهيدية بالنسبة إلى المعرفة العلمية؛ ذلك لأن هذه الفكرة تحتل موقعا رئيسيا في مذهب ديكارت. بل إنها هي المحور الذي تدور حوله نظرته إلى العالم وإلى الإنسان، وهنا نود أن ننبه إلى أن «المزاج الميتافيزيقي» - إن صح هذا التعبير - ينفر من فكرة الآلية، ولو تأملنا كبار الميتافيزيقيين طوال مجرى تاريخ الفلسفة؛ لوجدناهم خصوما ألداء لكل نظرة آلية إلى العالم أو الإنسان؛ فالآلية لا مكان لها في فلسفة أفلاطون، وأرسطو قد جعل من «الغائية» (أعني عكس الآلية) محورا لتصوره الخاص للعالم وللنفس البشرية، وكبار ميتافيزيقي العصور الوسطى تجاهلوا الآلية تجاهلا تاما؛ أي إن التراث الفلسفي حتى عصر ديكارت على الأقل كان يستبعد تماما الجمع بين الميتافيزيقا والتصور الآلي للكون والإنسان، وعلى العكس من ذلك كانت النزعة الآلية تحتل على الدوام مكانة رئيسية في تفكير الفلاسفة ذوي النزعة العلمية، الذين كانوا خصوما تقليديين للميتافيزيقا، ابتداء من ديمقريطس حتى أبيقور لوكريتيوس.
ولكن الصورة التي تبدو عليها فلسفة ديكارت ظاهريا، والتي يقبلها القسم الأكبر من شراحه، هي صورة فيلسوف يجمع على نحو فريد بين النزوع الميتافيزيقي الطاغي، الذي تكون فيه فلسفته كلها مرتكزة على الضمان الإلهي للحقائق البشرية، بين نظرة آلية متطرفة إلى العالم، لا تدع مجالا لتدخل القوة الإلهية إلا في أضيق الحدود. وفي أول المراحل فحسب؛ بحيث يسير كل شيء بعد بقواه الذاتية، وتتفاعل قوى العالم وعناصره فيما بينها بانتظام دقيق.
هذه الصورة تفتقر - في رأينا - إلى الاتساق الداخلي، وتبعث في فلسفة ديكارت نوعا من الازدواجية التي تكاد ترقى إلى مرتبة التناقض، فلا عجب إذن أن يحاول أنصار التفسير الميتافيزيقي الإقلال من أهمية الجانب الآخر المرتكز على الآلية، بقدر استطاعتهم، أو عرضه بطريقة مقتضبة عاجلة دون أية إشارة إلى التعارض الحاد بين النزوع الميتافيزيقي وتأكيد سيادة الآلية.
على أن صورة الفلسفة الديكارتية تبدو أكثر اتساقا إذا ما أدرك المرء الأبعاد الكاملة لتصوره الآلي للعالم والإنسان، وحاول بعد ذلك أن يجعل للميتافيزيقا المكانة التي تستحقها في مذهب آلي كهذا، وهي قطعا ستغدو عندئذ مكانة أقل أهمية مما تبدو عليه عادة، فديكارت - كما هو معروف - قد وضع صورة للعالم تختلف اختلافا كليا عن تلك الصورة التي رسمها فلاسفة اليونان للكون المنظم المنسق (
Cosmos ) وتلك التي قال بها مفكرو العصور الوسطى اللاهوتيون، الذين قالوا بعالم يسير وفقا لغايات إلهية محددة. وصحيح أن الصورة التي قال بها ديكارت لم تكن حصيلة منهج علمي سليم، بقدر ما كانت استدلالات فلسفية بحتة، (كما سنبين فيما بعد) ولكن هذا لا يمنع من القول إن عالم ديكارت أقرب بكثير إلى العالم الذي يقول به العلم الحديث، على الرغم من أنه لم يتبع كل منهج هذا العلم الحديث في الوصول إلى تصوره هذا، وبغض النظر عن تفاصيل نظرياته الطبيعية - وهي نظريات كان فيها قدر كبير من الخطأ - فقد كان تطور هذا العالم - منذ حالته الأولى حتى حالته الراهنة - يسير بطريقة آلية بحتة؛ إذ تحدث فيه «دوامات» هائلة يؤدي دورانها إلى تناثر أجزاء الكون وتمايزها، دون تدخل أية قوة خارجة عن نطاقه، دون وجود أية غايات يتجه هذا العالم إلى تحقيقها. وهكذا كانت الروح الآلية عنده أشبه بتلك التي سادت مذهب «ديمقريطس»، فيلسوف الذرة اليوناني المشهور، الذي كان بدوره من أكبر أنصار التصور الآلي البحت للعالم، والذي لا يمكن أن يعد فيلسوفا ميتافيزيقيا بأي حال من الأحوال.
على أن الأهم من ذلك هو تطبيق ديكارت لفكرة الآلية على المجال البشري، ذلك المجال الذي كان الميتافيزيقيون حريصين كل الحرص على أن يجعلوه مقرا للتفسير الغائي. وكانوا يرونه عالما قائما بذاته، مستقلا عن العالم الخارجي، وعن أية نظرية نكونها عن هذا العالم.
ولننظر إلى ما يقول ديكارت في كتابه «وصف الجسم البشري»
La Description du corp humain (1648م) مهاجما فكرة «النفس» على أساس أنها أسطورة قائمة على التشبيه بالإنسان (
anthopomorphisme )؛ نظرا إلى أننا قد جربنا جميعا - منذ طفولتنا - أن كثيرا من هذه الحركات تطيع الإرادة التي هي من قوى النفس، فإن هذا يدفعنا إلى الاعتقاد بأن النفس مبدأ كل شيء، وهو خطأ ساعد عليه الجهل بالتشريح ومبادئ الميكانيكا (لاحظ استخدام لفظ «الميكانيكا» في هذا المجال)؛ ذلك لأننا لا نأخذ في اعتبارنا سوى ظاهر الجسم البشري، فلم نتصور قط أن هناك عددا كافيا من الأعضاء أو من مصادر الحركة، تتحرك بذاتها على الأنحاء المتباينة التي نرى الجسم يتحرك بها،
4
وإذن فحركات الجسم ذاتية، لا تحتاج إلى نفس، والجسم تسري عليه قوانين الفيزياء الكونية، وقوانين الحركة بوجه عام.
ولقد كان ديكارت حريصا على أن يفصل بين المبدأ الذي يقوم بالوظائف الحيوية في الإنسان، والمبدأ الذي يفكر فيه، فألغى النفس من المجال الأول ، بينما كان غالبا يستخدم لفظ
esprit
للمجال الثاني، وتكاد كلمة
esprit
تعني عنده - في كل الأحوال تقريبا - العقل، ومعنى ذلك أن الثنائية الحقيقية عنده بين العقل والجسم لا بين «النفس» والجسم. ولكن حتى الوظائف الفكرية والعقلية ذاتها كانت أحيانا تفسر في فلسفته بطريقة توحي بأنه يريد تطبيق فكرة الآلية عليها.
ففي رسالة كتبها ديكارت إلى صديقه «مرسين»
Mersenne
قال: «إنني أقوم الآن بتشريح رءوس حيوانات مختلفة كيما أفسر طبيعة التخيل والتذكير»،
5
وقد اقتبس مؤرخ الفلسفة المشهور «برييه»
Brehier
هذا النص
6
دون أن يحلله تحليلا كافيا، ودون أن يتوصل إلى دلالته الكاملة؛ ذلك لأن التخيل والتذكر ملكتان بشريتان، ولا علاقة لهما بالحيوانات، لا سيما وأن الحيوانات - في مذهب ديكارت بالذات - أشبه بالآلات التي لا تشعر ولا تعي، فما معنى التجاؤه إلى تشريح رءوس الحيوانات من أجل تفسير طبيعة التخيل والتذكر؟ إن لهذه العبارة دلالة مزدوجة؛ فهي أولا تدل على أن ديكارت يحاول أن يزيل الحد الفاصل بين الطبيعة الجسمية للحيوان والإنسان، ويفسر الثاني من خلال الأول، والأهم من ذلك أنها تتضمن تفسيرا ماديا وآليا، لا للوظائف الجسمية أو الحيوية فحسب، بل للوظائف الفكرية أيضا؛ فالتخيل والتذكر ملكتان عقليتان، ومع ذلك فإن تشريح رءوس الحيوانات يمكن أن يفسرها، ولنتذكر في هذا الصدد أن ديكارت عندما شرح كلمة «أنا أفكر
Cogito » فسرها بأنه يقصد التفكير بالمعنى الواسع، الذي يشمل التخيل والتذكر والرغبة ... إلخ؛ أي إن الصفات التي تنتمي إلى صميم النفس من حيث هي جوهر مفكر، يمكن تفسيرها من خلال التشريح.
هذا الاتجاه إلى توسيع نطاق فكرة الآلية؛ بحيث يصبح الكون كله آلة ضخمة تسير قواها الذاتية دون غايات، وبحيث يصبح الإنسان ذاته خاضعا لقوانين الفيزياء الكونية، لا في وظائفه الحيوية فحسب، بل ربما في وظائفه الفكرية أيضا، يتعارض، كما قلنا من قبل، مع المزاج الميتافيزيقي. ومن الصعب أن تكون الميتافيزيقا هي الهدف الأساسي لفيلسوف يضفي على التفسير الآلي للظواهر كل هذه المكانة في مذهبه. كما أن من الصعب أن يكون هناك مكان رئيسي للميتافيزيقا في هذا العالم الديكارتي الذي يخضع لقوانين الميكانيكا وتستبعد منه القوى الخارجة عن الطبيعة. (4)
ومن العوامل الهامة التي تؤيد هذا التفسير أن كثيرا من تعبيرات ديكارت التي تتخذ مظهرا ميتافيزيقيا أو لاهوتيا يمكن أن تفسر تفسيرا علميا. بل إنها تخدم قضية العلم، الذي كان لا يزال ناشئا في ذلك الحين، أكثر مما تخدم قضية الميتافيزيقا أو اللاهوت التقليدي، وذلك على عكس ما يوحي به مظهرها الخارجي.
فديكارت يتناول فكرة لاهوتية وميتافيزيقية خالصة، وهي فكرة ثبات الطبيعة الإلهية؛ لكي يستنتج منها عددا من النتائج الهامة التي تشترك كلها في أنها تخدم العلم الناشئ، فنظرا إلى أن الطبيعة الإلهية ثابتة، فإن القوانين التي يسير العالم وفقا لها لا بد أن تكون ثابتة.
وربما بدا للبعض أن فكرة ثبات القوانين الطبيعية تتعارض مع شمول القدرة الإلهية التي تستطيع أن تخالف هذه القوانين في أي وقت. ولكن ديكارت يحدد موقفه من ذلك فيقول (في رسالة إلى أرنولد
Arnauld
بتاريخ 29 يوليو 1648م): «في رأيي أن من الواجب ألا يقال عن أي شيء أنه مستحيل على الله؛ لذلك لأنه لما كان كل ما هو حق وخير معتمدا على قدرته الشاملة، فإنني لا أتجاسر حتى على القول: إن الله يعجز عن صنع جبل بغير واد، أو عن جعل الواحد والاثنين لا يساويان ثلاثة، وكل ما أقوله هو أن الله أعطاني عقلا تقتضي طبيعته ألا يكون في إمكاني تصور جبل بغير واد، أو تصور الواحد والاثنين بغير أن يكون مجموعهما ثلاثة»، هنا نجد دفاعا يبدو في ظاهره متطرفا عن فكرة القدرة الإلهية الشاملة، التي تسري حتى على القوانين الفكرية الضرورية ذاتها. ولكن قليلا من التفكير يقنعنا بأن هذا دفاع على مستوى فرضي، وهو مستوى لا يعني العقل البشري؛ لأن كل علومنا ومعارفنا وتجاربنا تقع في ذلك المستوى الآخر، الذي لا نستطيع فيه - كما قال ديكارت - أن نتصور الجبل بغير واد، أو الواحد والاثنين دون أن يكون مجموعهما ثلاثة؛ أي إن قوانين الطبيعة والفكر تظل فيه ثابتة. هذا هو المستوى الذي يهمنا في العلم . أما الحالة الفرضية المتعلقة بالطبيعة الإلهية في ذاتها، فقد كان ديكارت يستطيع أن يقول عنها ما يشاء ما دامت لا تؤثر في العلم أو الفكر البشري.
وحين أراد ديكارت أن يعبر عن موقفه من فكرة الغائية، لم يقدم هذا الموقف بطريقة مباشرة، وإنما عرضه من خلال تعبيرات ذات مظهر لاهوتي وإن كانت النتيجة المستخلصة منها علمية إلى حد بعيد، فهو لا ينكر الغائية إنكارا مباشرا، بل يؤكد على عكس ذلك أن الكون يخضع لغايات إلهية ولكن هذه الغايات تخفى علينا؛ لأن عقولنا البشرية عاجزة عن استيعابها؛ ومن ثم فلا بد أن نعامل الطبيعة «كما لو كانت» خالية من الغايات. هذا التأكيد للغايات الإلهية - مقرونا بالتأكيد الآخر الذي يقول: إن عقولنا تعجز عن فهمها، معناه - من الوجهة العلمية - نفي لهذه الغايات أو إبطال لجدواها، ما دمنا لا نملك إلا عقولنا «القاصرة» هذه؛ ومن ثم فإن ديكارت ينضم في الحقيقة إلى صف المفكرين الذين ينتزعون الغائية عن الكون، وإن كان يغطي آراءه بقشرة لاهوتية لا يصعب على العقل الناقد كسرها.
ومثل هذا يقال عن رأيه في بساطة القوانين الطبيعية، فأساسها هو بساطة الطبيعة الإلهية ذاتها، التي تسلك في فعلها أقصر الطرق. ولقد كان مبدأ بساطة الطبيعة الإلهية وثباتها هو الذي اعتمد عليه ديكارت في تأكيد مبدأ علمي كانت له في عصره أهمية كبيرة، وهو مبدأ ثبات كمية الحركة في العالم، وسير الأجسام المتحركة في خط مستقيم، مما يؤدي إلى قوانين تصادم الأجسام
Lois du Choe
التي تفسر على أساسها حوادث الطبيعة كلها،
7
وترتب على ذلك اتفاق ديكارت مع جاليليو في القول بقانون القصور الذاتي، بل وفي التعبير عنه بصيغة دقيقة،
8
فعن طريق التنقل الدائم للأجسام وتبادل الحركة والسكون بينها - في إطار مجموع ثابت من الحركة - تفسر الظواهر الكونية كلها، كتكوين الأجرام السماوية والضوء والثقل والحرارة والألوان والروائح للأجسام. وهكذا يرتكز ديكارت على مبدأ ذي مظهر لاهوتي، هو مبدأ بساطة الطبيعة الإلهية؛ لكي يصل إلى تفسير لحوادث العالم خال تماما من الغيبيات، ويعد في عصره تعبيرا عن روح علمية أصيلة.
بل إن فكرة الإلهية ذاتها هي الفكرة التي أوضحنا من قبل مدى تعارضها مع روح الميتافيزيقا، والتي كانت تعبيرا عن إدراك ديكارت الكامل لأهمية الميكانيكا، وهي أهم العلوم في عصره، قد غلفت بدورها بغلالة لاهوتية؛ ذلك لأن ديكارت يعرض أصل الكون وتطوره في فلسفته الطبيعية وكأنه آلة كبرى تتكون تدريجيا. ولكنه كان حريصا على أن يجامل الأوساط اللاهوتية في تقديمه لهذه الفكرة ذات النتائج الخطيرة، فقال: إنه يعلم أن العالم قد خلق على أكمل صورة ممكنة، لكنه يود فقط أن يبحث في «احتمال» أن تكون الحالة الراهنة للعالم قد تطورت من حالة أخرى أقل كمالا. وهكذا اتبع ديكارت هنا أسلوبا حذرا يذكرنا بذلك الذي سبق أن اتبعه ناشر كتاب كبرنيكوس الأشهر في «دورات الأجرام السماوية» - وهو الأب «أوسياندر»
Oseander - عندما قال في تقديمه للكتاب: إن المؤلف على يقين من أن الأرض ثابتة، وأنها مركز الكون، ولكنه يود أن يتخيل فقط ماذا يكون عليه الأمر لو كانت تدور؛ أي إن أهم كشف علمي حديث قد عرض كما لو كان تدريبا عقليا فحسب، ولم يكن ذلك في الحالتين إلا نتيجة للصدمة العقلية التي ستحدثها الفكرة الجديدة، وخاصة في عقول رجال الكنيسة.
ويمكن القول: إن المكانة الكبرى التي أعطاها ديكارت للرياضيات في تفسيره للعالم، تدخل بدورها في هذا الباب، فديكارت يرى أن القوانين الرياضية هي ذاتها اللغة الإلهية كما تنطبع على العالم. وهكذا يضع ديكارت أساسا لاهوتيا قويا لفكرة علمية خالصة، هي الفكرة القائلة: إن مسار الظواهر الطبيعية تحكمه قوانين رياضية دقيقة، وتلك - كما نعلم - فكرة افتتنت بها عقول العلماء في عصر ديكارت. وكانت هي الكشف الكبير التي توصل إليه كبلر وجاليليو وباسكال، ومن بعدهم نيوتن، وقد استنتج
Bridoux
من ذلك وجود تطابق أساسي بين العقل الإلهي والعقل البشري عند ديكارت، ما دام كلاهما يعمل وفقا لقوانين رياضية شاملة، فقال: «إن التطابق بين أسرار الطبيعة وتسلل الرياضيات - الذي افتتن به ديكارت عندما شعر بوجوده - أصبح (بعد الوصول إلى المنهج) أمرا يقينيا ، فما دام العقل الإلهي متجانسا مع عقلي فإن أساليب العقل الإلهي في الخلق لا يمكن أن تكون مختلفة عن أساليب العقل البشري في العلم. وهكذا فإن «الميكانيكا الكبرى» التي ذكر ديكارت أن الوصول إليها يكفل لنا معرفة كاملة وشاملة بالكون، هي العلامة التي طبعها الله على ما خلق، وهي في الوقت ذاته نتاج عقلي البشري حين يسير وفقا لقوانينه الداخلية؛ ومن ثم فإنني أغدو على ثقة من أن كل الأشياء التي أكون عنها فكرة منظمة يمكن أن تكون ناتجة عن الله بنفس الطريقة التي أتصورها بها؛ أي إن العقل البشري وهو يمارس عمله في الخلق»،
9
وربما كان للمرء الحق في ألا يتفق مع صاحب النص السابق في قوله بالتجانس بين العقل الإلهي والعقل البشري، لا سيما وأن ديكارت لا يكف عن تأكيد التفاوت الهائل بين نطاق فهمنا المحدود والمقاصد الإلهية التي تتجاوز عقولنا إلى حد لا متناه، فضلا عن تأكيده أن الإرادة الإلهية لا تتقيد بشيء، وأن من الممكن - نظريا - أن يجعل الله مجموع الواحد والاثنين غير مساو للثلاثة (كما أوضحنا من قبل). ومع ذلك فسيظل من الصحيح أن الرياضة التي هي علامة الدقة العلمية بالنسبة إلى العقل الإنساني، هي أيضا لغة إلهية أو تعبير عن طريقة الله في تدبير الكون، والنتيجة العلمية لهذا الرأي هي تأكيد التفسير الرياضي للعالم، وصد أية هجمات لاهوتية يمكن أن توجه إلى هذا التفسير. (5)
وربما قيل: إن طريقة التعبير التي ضربنا لها أمثلة في النقطة السابقة كانت أصيلة لدى ديكارت، وأنه كان بالفعل يعني ما يقول. ولكن واقع الأمر هو أن ديكارت - شأنه شأن كثير من فلاسفة القرن السابع عشر - كان يعتمد أن يحجب الكثير من آرائه، وألا يصرح إلا بما يعتقد أنه يثير غضب السلطات المسيطرة في ذلك الحين. والواقع أن فيلسوف القرن السابع عشر كان يواجه في التعبير عن آرائه صعوبة كبرى ؛ فهو من جهة يتحمس بكل ما يملك من حب للحقيقة، للاتجاهات الجديدة ذات الطابع العلمي، ويود هو ذاته أن يسهم في هذه الاتجاهات كيما يساعد العقول على الخروج من ظلال العصور الوسطى والتحرر من سلطة أرسطو والمدرسة الغاشمة. ولكنه من جهة أخرى كان يرى أنه لا ينطق إلا باسم أقلية مستنيرة كانت حتى ذلك الحين ضئيلة الشأن. وكانت السيطرة الحقيقية للقوى التقليدية، وعلى رأسها الكنيسة التي كان رجالها يشغلون المناصب الرئيسية في الجامعات. وكان لهم نفوذ هائل على السلطات الحاكمة. وفيما بين حب الحقيقة والخوف من اضطهاد المتعصبين كان الفيلسوف يحاول أن يشق لنفسه طريقا أشبه بصراط يوم الحساب، حيث يمكن أن يؤدي به أقل انحراف إلى الجحيم. ولقد عرضنا في موضع آخر بتوسع لنموذج يمثل الطريقة التي حاول بها واحد من كبار فلاسفة ذلك القرن - وهو اسبينوزا - أن يوفق بين هذين المطلبين المتناقضين،
10
ولكن من الواضح لمن يدرس أحوال الفكر في ذلك القرن الخصب أن تلك السمة لم تكن تقتصر على فيلسوف واحد. بل إنها كانت تمثل وضعا حضاريا عاما كان يسري - بدرجات متفاوتة - على كل الشخصيات الفكرية الكبرى في ذلك العصر.
والحق أن رسائل ديكارت تزخر بأمثلة تدل على خوفه الشديد من الاضطهاد، واضطراره إلى عمل حساب لرد فعل السلطات على ما يكتب، وخاصة بعدما بلغته أنباء المحاكمة التي تعرض لها جاليليو بسبب آرائه العلمية، والتي نجا بها من فتك محاكم التفتيش بصعوبة بالغة. وهكذا اضطر ديكارت إلى أن يحجب كتابا عن العالم (
Traite du monde ) كان يعتزم نشره. وكان يتضمن آراء مشابهة لتلك التي أدين من أجلها جاليليو، وكتب إلى صديقه مرسين
Mersenne
في يوليو 1633م يقول: «وهذا الموضوع (أي حركة الأرض) مرتبط بكل أجزاء البحث الذي كتبته (أي كتابه في العالم) إلى حد يستحيل معه فصله عنها دون أن تصبح بقية الأجزاء ناقصة نقصا مخلا. ولكني لما كنت لا أرغب البتة في أن يصدر عني قول يتضمن أقل كلمة لا تقرها الكنيسة، فقد آثرت أن أحجب هذا البحث بدلا من أن أصدره مبتورا»، وبتاريخ 10 يناير 1634م كتب إلى مرسين في المعنى نفسه يقول: «إنك تعلم ولا شك أن جاليليو قد حوكم منذ فترة قصيرة على يد قضاة التفتيش على العقائد، وأن رأيه عن حركة الأرض قد أدين بوصفه بدعة وهرقطة؛ على أنني أود أن أخبرك بأن كل الأمور التي شرحتها في كتابي «عن العالم» والتي كان من بينها أيضا فكرة حركة الأرض، يعتمد بعضها على بعض إلى حد يكفي معه أن يكون أحدها باطلا لكي يقتنع المرء بأن كل الحجج التي استخدمتها واهية، وعلى الرغم من إدراكي أنها ترتكز على براهين شديدة الوضوح واليقين، فإني لا أرغب البتة في الدفاع عنها ضد سلطة الكنيسة، وإن رغبتي في أن أعيش في هدوء، وأن أواصل الحياة التي بدأتها متخذا لنفسي شعارا من المثل القائل: «من عاش هادئا عاش سعيدا.» لتجعل شعوري بالارتياح لتخلصي من الخوف الذي كان يمتلكني من أن أكتسب عن طريق هذا الكتاب شهرة تفوق ما أريد، يطغى على شعوري بالأسف على ما أضعته في تأليفه من وقت وما بذلته من جهد.»
وفي «المقال في المنهج» يصف ديكارت كيف تردد طويلا في نشر كتابه «في العالم» أو لا ينشره، ثم انتهى إلى النتيجة الآتية: «رأيت أن من اليسير علي أن أختار بضعة موضوعات لا تكون عرضة لمجادلات كثيرة، ولا أضطر فيها إلى أن أعلن من مبادئي أكثر مما أريد. ولكنها تكتشف في الوقت نفسه عما أستطيع وما لا أستطيع أن أفعله في العلوم.»
إن في وسع المرء أن يأتي بعشرات الأمثلة التي تدل على أن ديكارت قد توخى الحذر الشديد في تعبيره عن فلسفته، وأنه كان يكتب وإحدى عينيه على الحقائق التي يريد التعبير عنها، بينما العين الأخرى على رجال الكنيسة وأساتذة اللاهوت في الجماعات، فرسائله تحتشد بعبارات التحوط والخوف من غضب السلطات. بل إنه يقدم إلى أحد تلاميذه - وهو ريجيوس
Regius - درسا علميا في كيفية منافقة الجهلاء ذوي النفوذ من أجل اتقاء شرهم، وتقديم التعاليم الجديدة إليهم بطريقة ملتوية غير مباشرة حتى لا تصدمهم،
11
ومعظم ما كتبه عن الأخلاق المؤقتة،
Morale proisoire
إنما هو نموذج حي للرغبة في «التقية» والابتعاد عن شر أصحاب السلطان بمداراتهم والاستسلام لأوامرهم. ومن الجائز أن ديكارت كان مضطرا إلى ذلك، وخاصة بعد أن شهد بعينيه ما لحق بجاليليو. غير أن المرء لا يملك عندما يقرأ ما كتب في هذا الصدد إلا أن يتفق مع «بريدو
Bridoux » الذي قال معلقا على الجهد الشاق الذي بذله ديكارت لكي يستعيد ما كان لديه من حظوة لدى السلطات: «إن هذا ليس أفضل جوانب ديكارت؛ إذ لا يملك المرء إلا أن يعترف بأنه يبدي في أحيان كثيرة دبلوماسية مفرطة في تعامله مع الأشخاص وطريقة عرضه لأفكاره.»
12
ومن المسلم به أن هذا الحذر الذي توخاه ديكارت قد ظهر أوضح ما يكون في آرائه عن العالم والطبيعة؛ لأن هذا الموضوع هو الذي كان يثير ضجة هائلة في الأوساط الثقافية الأوروبية بعد محاكمة جاليليو. ولكن من المؤكد أن نفس الحذر كان ينطبق على آرائه الميتافيزيقية. بل إن هذه الآراء قد تكون - ومن وجهة معينة - وسيلة يستعين بها ديكارت لإرضاء السلطات الغاضبة على أفكاره العلمية، فمحاولة إثبات وجود الله وصدقه وخلود النفس معناها أن ديكارت كان، في جانب واحد من نشاطه العقلي، يعالج نفس المشكلات التي دأبت المذاهب التقليدية على معالجتها، ويضع لتفكيره نفس الأهداف.
ومع ذلك يبدو أن معاصري ديكارت لم يكونوا مطمئنين كل الاطمئنان إلى أن نواياه، في عرضه لمذهبه الميتافيزيقي، كانت خالصة، ويشهد بذلك ما قلناه من قبل عن خصمه «فويتيوس» الذي اتهمه بأنه يتعمد أن يقدم براهين غير مقنعة على وجود الله لكي يزعزع إيمان الناس، وبالمثل فإن «ريجيوس
Regius » الذي كان في البداية تلميذا مخلصا لديكارت ثم انقلب فيما بعد إلى خصم له، كان يعتقد بأن الميتافيزيقا لا تتلاءم مع تعاليم الدين، الأهم من ذلك أنه كان يشك في أن يكون ديكارت قد صرح بكل ما في ذهنه عندما قدم مذهبه الميتافيزيقي. وهكذا كتب إليه في يوليو 1645م رسالة يقول فيها: «إن كثيرا من ذوي العقل الراجح والشرف قد ذكروا أن تقديرهم لسمو عقلك يمنعهم من الاعتقاد بأن لديك في قرارة نفسك أفكارا مضادة لتلك التي تظهر علنا باسمك، وحتى لا أخفي عنك شيئا، فإن الكثيرين على ثقة من أنك أسأت إلى نفسك كثيرا بنشرك لآرائك الميتافيزيقية، التي لا تؤدي إلا إلى مضاعفة الشك والغموض.»
وكان رد ديكارت على ذلك - وهو رد بعث به في الشهر نفسه - غير كاف لتبديد هذا الشك، إذ يقول فيه: «إنني أعترف بأن من الحكمة السكوت في ظروف معينة، وألا يقدم المرء إلى الجمهور كل ما يعتقد. أما أن يكتب المرء بلا داع شيئا مضادا لآرائه الحقة، ويحاول إقناع قرائه به، فإني أرى في ذلك وضاعة وخبثا محضا»، وبطبيعة الحال فإن من يقرأ كتابات ديكارت ورسائله الكثيرة التي كان يعرب فيها عن ضرورة التحوط والحذر لأن الظروف تقتضي ذلك، لا بد أن يوقن بأن ديكارت لم يفعل ذلك «بلا داع»، فقد كانت لديه - من وجهة نظره الخاصة - كل الأسباب التي تبرر التجاءه إلى الحذر، والحذف أو الإضافة وفقا لما تقتضيه الظروف. (6)
وأخيرا، فإنا نعلم أن هناك الكثيرين يعترضون بشدة على الرأي القائل: إن الميتافيزيقا كانت عند ديكارت وسيلة من الوسائل التي حاول بواسطتها التخفيف من وقع آرائه في العالم الطبيعي، ولدى هؤلاء المعترضين أسباب متعددة يبررون بها اعتراضهم. ومن المستحيل أن يتسع المجال هنا لأكثر من إشارة أو تسجيل لوجود هذين الموقفين المتضادين.
ومع ذلك يظل من الصحيح أن ديكارت ذاته قد صدرت عنه عبارات كثيرة تدل على أن الهدف الأكبر لتفكيره كان علميا، بل كان نهاية الأمر تطبيقا، على حين أن الميتافيزيقا لم تشغل من حياته إلا جانبا ثانويا، ولنستمع إليه في التأمل السادس حين يتحدث عن العالم الذي يريده أن يصبح مصنعا هائلا يستطيع فيه المرء - عن طريق الآلات - أن «يستمتع دون أي عناء بثمار الأرض وكل ما فيها من خيرات»، أو حين يتحدث عن تقدم الطب الذي «يتيح للناس حياة طويلة سليمة»، ويؤكد ضمنا أن الموت ليس شيئا طبيعيا على الإطلاق، وأن «الشيخوخة نوع من المرض، وضعف قد يكون من الممكن الاهتداء إلى علاج له»،
13
ألا توحي هذه الآراء بأن الميتافيزيقا عنده كانت ثانوية الأهمية، وبأن تفكيره الحقيقي كان يستهدف غايات مختلفة كل الاختلاف؟
إن ديكارت - في نص مشهور في «المقال في المنهج» (الكتاب الأول) - يقارن مقارنة صريحة بين قيمة التأملات الميتافيزيقية النظرية - التي هي دائما قيمة نسبية من شخص لآخر - وبين المعارف العلمية المرتكزة على أساس فيزيائي متين، فينحاز بصورة قاطعة إلى الثانية، ويحكم على التفكير النظري الميتافيزيقي بأنه أشبه بتسلية طريفة فحسب. وهكذا يقول: «على الرغم من أن تأملاتي النظرية (
speculations ) قد أعجبتني كثيرا، فقد رأيت أن للآخرين بدورهم تأملاتهم التي ربما أعجبتهم أكثر من ذلك. ولكنني بمجرد أن اكتسبت بعض الأفكار العامة المتعلقة بالفيزياء، ولاحظت - بعد اختبارها في حل عدة صعوبات خاصة - إلى أي مدى تستطيع أن توصلني، وإلى أي حد تختلف عن المبادئ التي ظلت شائعة حتى الآن، رأيت أنني لو ظللت أحجبها عن الناس لكنت بذلك ارتكبت إثما كبيرا في حق ذلك المبدأ الذي يحضنا على أن نحرص بقدر ما في وسعنا على تعميم الخير بين الناس جميعا؛ ذلك لأن هذه الأفكار أوضحت لي أن من الممكن الوصول إلى معارف ذات فائدة جمة للحياة، وبدلا من تلك الفلسفة التأملية النظرية التي تعلم في المدارس، يستطيع المرء أن يهتدي بواسطة هذه الأفكار إلى فلسفة عملية، تكشف له عن القوة الكامنة في النار والهواء والنجوم والمسارات وكل الأجسام المحيطة بنا وعن تأثيرات هذه الأجسام، بدقة لا تقل عن تلك التي نعرف بها مختلف الحرف التي يجيدها صناعنا، وبذلك نجعل من أنفسنا سادة للطبيعة ومسيطرين عليها.»
تلك إذن شهادة صريحة من ديكارت، تكشف عن رأيه في القيمة الحقيقة للتأملات النظرية التي لا ترتكز على أساس يمكن الاتفاق عليه، ولا تحدث في حياة الناس العلمية تغييرا، ولا يمكن لمن يتأمل هذا النص - ونصوصا أخرى كثيرة غيره - إلا أن يستنتج أن المسافة بين تفكير ديكارت وتفكير معاصره الإنجليزي الأكبر سنا - فرانسس بيكن - لم تكن واسعة إلى الحد الذي يتصورها عليه مؤخر الفلسفة؛ فالحلم الذي كان مستحوذا على عقل بيكن - العدو الأكبر للمنهج النظري التأملي عند مفكري العصور القديمة والوسطى - كان متسلطا على فكر ديكارت بدوره. بل إن بعض التفاصيل متماثلة، كدعوة ديكارت إلى إنشاء «مدرسة للصنائع والحرف»، وإلى أن تنشأ في الكلية الملكية وغيرها من معاهد التعليم العام قاعات لكل حرفة من الحرف، وتخصص الدولة أموالا تكفي للإنفاق على هذا التعليم ... إلخ.
14
والهدف النهائي واحد، وهو أن يسترد الإنسان مملكته المفقودة، ويعود مرة أخرى سيدا للطبيعة، ومن خلال كشفه لأسرارها ومعرفته لقوانينها واستغلاله لقواها وطاقاتها.
وأخيرا، فلنلق نظرة على شهادة أصرح حتى من هذه، أدلى بها ديكارت في رسالة بعث بها إلى الأميرة إليزابيث، التي كان يبوح لها بالكثير من مكونات نفسه، في 28 يونيو 1643م. فبعد أن عدد ديكارت ثلاثة أنواع من الأفكار الأصلية: فكرة النفس، التي تدرك بالذهن المحض وتؤلف موضوع الرياضيات، ثم فكرة اتحاد النفس والجسم، التي تدركها الحواس بوضوح تام، وتؤلف موضوع الحياة والمحادثات والمعاملات اليومية، يقول: «أستطيع أن أقول عن صدق: إن القاعدة الأساسية التي أتبعها في دراساتي على الدوام، وتلك التي أعتقد أنها أعانتني أكثر من أي شيء آخر في اكتساب المعرفة، هي أنني لم أقض أبدا سوى ساعات قليلة كل سنة أفكر في الأمور التي تشغل الذهن المحض، بينما كنت أقضي ما تبقى من يومي مستهدفا استرخاء الحواس وراحة النفس ... وأخيرا فمع أني أؤمن بأن من الضروري إلى أقصى حد أن يكون المرء قد فهم مبادئ الميتافيزيقا مرة في حياته؛ لأنها هي التي تعطينا معرفة الله وبأنفسنا، فإنني أعتقد في الوقت ذاته أن من أشد الأمور ضررا أن يشغل المرء ذهنه بالتفكير فيها؛ لأنه لن يستطيع عندئذ أن يتفرغ لوظائف الخيال والحواس؛ ومن ثم فإن أفضل شيء هو أن يكتفي المرء بأن يستعيد في ذاكرته وفي ذهنه النتائج التي استخلصها منها من قبل، ثم يستغل ما تبقى لديه من وقت في التفرغ للأفكار التي يتعامل فيها الذهن مع الخيال والحواس.»
هذا النص يكشف بوضوح عن الموقع الذي احتلته الأفكار الميتافيزيقية وسط اهتمامات ديكارت: فالميتافيزيقا ضرورية بغير شك. ولكن يكفي المرء أن يكون قد عرفها مرة واحدة في حياته، وبعد ذلك لا يحتاج إلا «لساعات قليلة كل سنة» كما يستعيد مبادئها الرئيسية. أما بقية أوقاته فيشغلها التفكير في المسائل الرياضية والفيزيائية (أي تلك التي يقوم بها الذهن مستعينا بالخيال أو تقوم بها الحواس)، هكذا كان ديكارت يقسم أوقاته، هو تقسيم يعبر تعبيرا صريحا عن وجهة النظر التي كنا نعرضها طوال هذا الجزء من البحث، وأعني بها أن الميتافيزيقا الديكارتية كانت «جذرا» بالمعنى السلبي لهذه الكلمة؛ أي بمعنى الأساس الذي يمهد لغيره ثم تنتهي مهمته، ويظل الجذع والفروع بعد ذلك هما مدار البحث والاهتمام. (6) الميتافيزيقا ودورها الإيجابي في العلم
على أن الجذور لا يتعين أن تكون وظيفتها سلبية بالنسبة إلى جذع الشجرة وثمارها، فأجزاء الشجرة - التي تبدو ظاهرة أمام أعيننا وتحظى منا بأكبر قدر من الرعاية والاهتمام - تظل - ما دامت الشجرة حية - في حاجة إلى الجذور؛ إذ تستمد منها رحيق الحياة وعصارتها بلا انقطاع؛ وعلى أساس هذا الفهم لتشبيه الشجرة، قلنا: إن هناك تفسيرا آخر ممكنا لعلاقة الميتافيزيقا بالعلم، تظل فيه الميتافيزيقا تقوم بدور إيجابي طوال مراحل البحث عن الحقيقة العلمية.
ومن الواجب أن ننبه - قبل بيان مبررات هذا التفسير - إلى أنه لا يمثل نقيضا تاما للتفسير السابق، فإذا كان التفسير الذي عرضناه في الجزء الأول من هذا البحث قد أكد أن اهتمام ديكارت كان علميا في المحل الأول، وأن وظيفة الميتافيزيقا سلبية أو تمهيدية فحسب، فإن التفسير الذي نعرضه الآن لا يعكس الآية، ولا يقول: إن الميتافيزيقا هي المحور الرئيسي، وإن العلم كان ثانويا، بل يقول - مع التفسير الأول: إن العلم كان هدفا أساسيا لفلسفة ديكارت (إذ إن الشواهد المؤيدة لهذا أقوى من أن يتجاهلها أحد). ولكنه يخالف التفسير الأول في تأكيده أن الميتافيزيقا تظل تقوم بدور إيجابي في جميع مراحل البحث العلمي؛ أي إن الجذور الميتافيزيقية لا تتوقف مهمتها عند حد ظهور النبتة العلمية فوق سطح الأرض. بل إنها لا تكف لحظة واحدة عن تقديم عصارة الحياة إلى جذع شجرة المعرفة وثمارها.
فلننتقل الآن إلى بيان أهم المبررات التي تثبت وجهة النظر هذه في علاقة الميتافيزيقا بالعلم. (6-1) وحدة المعرفة عند ديكارت
في مستهل هذا البحث، ذكرنا أن تشبيه الشجرة ذاته يوحي بأن ديكارت كان من أنصار وحدة المعرفة، ولم يكن يعترف بالاستقلال التام للعلم، وهو الاستقلال الذي كانت بوادره قد بدأت تظهر في عصره بوضوح؛ ذلك لأن الشجرة - كما قلنا - هي نموذج الوحدة العضوية التي لا يكون لأي جزء فيها كيان دون الباقين، وفكرة وحدة المعرفة هذه يمكن أن تكون مبررا قويا للرأي القائل بأن الميتافيزيقا الديكارتية تقوم بدور أساسي في العلم.
لقد حدد ديكارت مهمة الفلسفة في مقدمة كتاب «مبادئ الفلسفة»، وهو كتاب يعبر عن الصورة الأخيرة لتفكير ديكارت؛ لأنه نشر قبل ثلاثة أعوام من وفاته، فقال إن «لفظ الفلسفة يعني دراسة الحكمة. وليس المقصود بالحكمة هو الفطنة في الأمور العلمية فحسب، بل هو أيضا المعرفة التامة لكل ما يستطيع الإنسان أن يعرفه سواء بسلوكه في الحياة وبحفاظه على صحته واختراعه لكل الفنون، ولكي تكون المعرفة على هذا النحو، ينبغي أن تستنبط من العلل الأولى؛ بحيث إن العكوف على اكتسابها - أي التفلسف بالمعنى الصحيح - يقتضي البدء بالبحث عن هذه العلل الأولى، أي المبادئ.
هذه النظرة إلى الفلسفة تعود بنا إلى العهد الذي كانت فيه المعرفة الفلسفية حكمة شاملة، تسري على الميدانين النظري والعلمي معا؛ فالفلسفة تشمل معرفة المبادئ الأولى - أي الميتافيزيقا - ومعرفة الطبيعة، والخبرة والحكمة في شئون الحياة، والحرف التطبيقية، ورعاية الجسم البشري في الطب؛ أي إنها هي النسق الكامل للمعرفة، ويمثل تفكير ديكارت في هذا الصدد ارتدادا أو تراجعا عن ذلك التحول الضخم الذي كانت معالمه قد بدأت تظهر منذ أوائل عصر النهضة، وهو التحول الذي أدى إلى استقلال العلم النظري وتطبيقاته العلمية بمجال خاص يميزه عن مجال الميتافيزيقا وبأساليب في البحث لا شأن لها بالتأمل النظري.
وإذا كان ديكارت قد حدد هذا التصور الشامل للفلسفة في أخريات أيام حياته، فمن الواجب أن نتنبه إلى أن ذلك لم يكن تصورا عارضا طرأ بذهنه في فترة معينة، بل لقد كان ملازما له منذ البداية، فقد استهل ديكارت حياته الفكرية «بالحلم» المشهور الذي كان نقطة تحول في حياته، وفي هذا الحلم تراءى له مشروع طموح للمعرفة، يهدي إلى بلوغ «علم شامل يسمو بطبيعتنا إلى أسمى مراتب الكمال»، وتعبير «العلم الشامل
Science universelle » هذا كان تعبيرا دائم التردد في كتابات ديكارت، لازمة من بداية الحياة العقلية حتى نهايتها. ومن الطبيعي أن تتواصل أجزاء هذا العلم الشامل بحيث يكون هناك اتصال وثيق بين الميتافيزيقا وبين العلم الطبيعي وتطبيقاته العلمية؛ لأن العلم الشامل هو الذي يجعلنا «أحكم وأبرع»
plus sages et plus habiles ؛ أي إنه يعلو بتفكيرنا نظريا وعمليا.
هذا العلم ينطبق من مبادئ واضحة بذاتها، موجودة لدينا «قبليا»، ويشيد البناء الكامل للمعرفة بعملية عقلية خالصة، وما دام «النور الفطري أو الإلهي» هو الذي يهدينا إلى هذه المبادئ الأولى، فلنكن على ثقة من أنها - مهما قل عددها - قادرة على أن توصل إلى أبعد آفاق المعرفة العلمية. وهكذا يقدم إلينا كتاب «مبادئ الفلسفة» نموذجا لأسلوب بناء المعرفة عند ديكارت؛ إذ يبدأ الباب الأول فيه بعرض مفصل للمبادئ الميتافيزيقية، ويكون الأساس الضروري للأبواب الثلاثة الأخرى التي تتعلق كلها بمشكلات في العلم الطبيعي.
هذه النظرة إلى الميتافيزيقا - بوصفها المبحث الذي يقدم المبادئ الأساسية لكل علم طبيعي - يبدو أنها تقلب وضع العلاقة التقليدية بين الميتافيزيقا وبين الفيزياء عند أرسطو مثلا، فليست الميتافيزيقا الديكارتية كما كانت تسمى في التراث الأرسطي «ما بعد الطبيعة» أو «ما وراء الطبيعة»، وإنما هي على الأصح «ما قبل الطبيعة»، إنها ليست تتويجا للمذهب. وليست بحثا في الصورة النهائية للعالم أو الحدود القصوى، يبدأ بعد أن يكون كل بحث آخر قد اكتمل، وإنما هي الأساس الذي ينبغي أن يأتي أولا، ويقدم لكل دراسة في الطبيعة تلك الدعامات الضرورية التي ينبغي أن ترتكز عليها، (ولكن لعلنا نظلم أرسطو في هذا الحكم: كما نعلم جميعا لم يكن هو الذي نحت لفظ «الميتافيزيقا»، والرواية التي تقول: إن اللفظ يرجع فقط إلى ورود الكتاب الذي يعالج هذا الموضوع بعد كتاب «الفيزيقا» في الترتيب، ربما كانت تدل على عدم التأكد من أن مبحث الميتافيزيقا يعني ما بعد الطبيعة، والاسم الذي أطلقه أرسطو على كتابه - وهو «الفلسفة الأولى» - يدل على أنه نظر إليها بوصفها هي الجذور، وهي التي تقدم الأسس الأولى لا الحقائق النهائية. وأخيرا فقد اشتغل أرسطو نفسه بالميتافيزيقا في المرحلة الأولى من حياته، واشتغل بالفيزياء في مرحلتها الأخيرة؛ أي إن الترتيب الفعلي كان من الأولى إلى الثانية لا العكس، وهذه أيضا قرينة تدل على أن الفارق بين استخدام ديكارت واستخدام أرسطو للكلمة قد لا يكون كبيرا إلى الحد الذي يبدو عليه لأول وهلة).» (6-2) المنهج الاستنباطي في العلوم
إن القول بأن المعرفة عند ديكارت متكاملة، بأن الميتافيزيقا تكون أساسا ضروريا لبناء المعرفة الموحد، لا يكفي في ذاته لإثبات الدور الإيجابي الذي تقوم به الميتافيزيقا في بناء العلم، فقد تكون الميتافيزيقا أساسا ضروريا، تقدم إلى العلم مبادئه الأولى، ثم تتركه بعد ذلك وشأنه. ولكن حقيقة الأمر هي أن الميتافيزيقا تظل - عند ديكارت - تمارس فاعليتها إيجابيا في جميع مراحل المعرفة العلمية، وتظل جذورها تقدم إلى العلم عصارتها التي تعطيه القدرة على البقاء والنماء، وهذه الحقيقة لا تتضح إلا إذا أدركنا طبيعة المنهج الذي كان ديكارت يدعو إلى اكتسابه في تحصيل العلوم.
إن هناك حقائق معروفة عن منهج ديكارت، تحشد بها الكتب رائعة، ولا نجد ما يدعونا إلى تكرارها، وكلها تدور حول اتخاذه الرياضة نموذجا لكل معرفة نود أن تكون يقينية، فديكارت واحد من ذلك الصف الطويل من الفلاسفة الذين افتتنوا بالدقة الرياضية، وحاولوا أن يحاكوها في سائر مجالات المعرفة، بدءا من أفلاطون مرورا باسبينوزا وليبنتس وكانت وانتهاء إلى هوسرل. ولكن الأمر الذي يلفت النظر عند ديكارت هو أنه حاول - في عصر كان فيه العلم التجريبي قد بدا يثبت وجوده، وبدأت نتائجه المثمرة تظهر للعيان - أن يقيم بناء شاملا لعلم فيزيائي يعتمد أساسا على المنهج الذي أثبت نجاحه في الرياضيات وهو الاستنباط، والاستنباط بطبيعته عملية عقلية؛ ومن ثم فإن أي علم فيزيائي يبنى عليه لا بد أن تكون أسسه مخالفة للعلم التجريبي. صحيح أن العلم التجريبي يلجأ إلى الرياضة في صياغة قوانينه. ولكنه لا يكتفي بالرياضة وحدها، وإنما يعتمد على المشاهدات والتجارب وتكوين الفروض. وهكذا ما كان يقوم به جاليليو في أبحاثه التي سبقت ديكارت زمنيا ثم عاصرته فترة ما. أما ديكارت فكان يعتقد بأن العقل وحده قادر - عن طريق الاستنباط - على أن يشيد بناء الفيزياء كاملا، ومثل هذه الطريقة في إقامة العلم الفيزيائي لا بد أن يكون للميتافيزيقا فيها دور رئيسي.
ذلك لأن الاستنباط، عند ديكارت، يبدأ من مجموعة قليلة من المبادئ ذات اليقين المطلق، ويقوم العقل بتوسيع هذه المبادئ تدريجيا، مع مراعاة الاحتفاظ بيقينها المطلق في كل خطوة، حتى يمتد بها إلى أوسع آفاق المعرفة، ومن طبيعة هذه المبادئ التي تتخذ نقطة انطلاق أنها ميتافيزيقية، ومعنى ذلك أن هناك خطا واحدا متصلا، يبدأ بالميتافيزيقا وينتهي إلى الفيزياء، وتكون واسطة الانتقال بين كل مراحله هي الاستنباط، وعلى هذا النحو يقيم ديكارت علما فيزيائيا مرتكزا، لا على تجارب أو مشاهدات، بل على مبادئ ميتافيزيقية قبلية تعبر عن حقائق أزلية، ويستحيل فهم الفيزياء عنده منفصلة عن مبرراتها ونقاط ارتكازها الميتافيزيقية.
ولا شك في أن منهج ديكارت هذا يظل مختلفا عن مناهج العصور الوسطى؛ لأن الأسس الرياضية التي يتمسك بها ترتكز كلها على فكرة «الوضوح»، وهي فكرة كان يفتقر إليها تفكير المدرسيين الذي كان مغرقا في الغموض، ولم يكن يكترث بمناقشة المقدمات التي يرتكز عليها مناقشة نقدية، ومن جهة أخرى فقد كان ديكارت يسعى دائما إلى أن يكشف بمنهجه حقائق جديدة، فقيمة الاستنباط عنده تكمن في أنه يتيح توسيع نطاق المعرفة إلى آفاق جديدة لم تكن معروفة من قبل، على حين أن المنهج الذي كان سائدا عند المدرسيين كان يقتصر على قياس كل حالة تصادفنا بمبدأ عام معروف من قبل؛ ومن ثم فلا مجال فيه للتوسع أو التجديد.
وبرغم هذه الفوارق فإن منهج ديكارت الاستنباطي في الفيزياء لم يصل إلى مستوى المنهج الذي اتبعه علماء عصره الكبار مثل جاليليو وباسكال، وإنما ظل يحمل من سمات العصور الوسطى فكرة استخلاص حقائق العالم الفيزيائي بالعقل، وعدم الاكتراث بالتجارب، وتشييد البناء العلمي كله على مبادئ يقينية قليلة تدرك كلها بالنور الفطري أو الإلهي، ويظل يقينها المطلق ساريا على كل تطبيقاتها التالية.
وكانت نتيجة هذا الإصرار على استنباط حقائق الفيزياء بطريقة عقلية: وقوع ديكارت في أخطاء واضحة، مثال ذلك: اعتقاده أنه لما كان الله هو الدعامة الأولى للعلل التي يتسلسل بها عالم الطبيعة، فإن من المستحيل الحد من استمرار هذا التسلسل عن طريق وجود «فراغ
Vide »؛ ولذلك رفض ديكارت فكرة «الفراغ» برغم أن معاصريه من العلماء كانوا يجرون تجارب مثمرة حولها، وترتب على ذلك إنكاره لنظرية جاليليو الجديدة عن سرعة سقوط الأجسام في الفراغ؛ لأن الثقل في رأيه لا معنى له في شيء غير موجود وهو الفراغ، وهاجم ديكارت آراء جلبرت في المغناطيسية، مع أنها كانت أصح من آرائه، واعتقد أن الضوء ليست له سرعة، وإنما ينتقل آنيا أو لحظيا. وفي المجال البيولوجي كون نظرية غير صحيحة عن الدورة الدموية حتى بعد ظهور نظرية هارفي
Harvey
الثورية. أما في الميدان الفلكي فقد حاول أن يتخذ موقفا وسطا بين النظرية الجديدة والنظرية التقليدية؛ حتى لا يغضب الكنيسة، فقال بفكرة «الدوامات» التي تحيط بالأرض، وتنقلها حول الشمس دون أن تكون الأرض ذاتها متحركة.
15
لذلك تعرض ديكارت لهجوم عنيف من جانب عدد غير قليل من شراحه الذين اتهموه بالتراجع إلى الوراء في منهجه العلمي، بالقياس إلى التقدم الكبير الذي تحقق في عصره. بل إن «ريفيل
Revel » يشكك حتى في قيمة الهجوم الذي شنه ديكارت على المدرسيين، على أساس أنه «لم يكن فيه جديد؛ لأن هذه الحرب (ضد المدرسيين) كانت قد بدأت قبل قرنين. كما أن ديكارت - على خلاف جاليليو ومونتين - لم يدخل في هذه الحرب لكي يعمل على إحلال نمط فكري جديد محل النمط القديم، بل دخلها لكي يضع محل القضايا القديمة قضايا أخرى جديدة تظل داخلة في نفس الإطار الفكري»؛ ولهذا السبب يحذرنا «ريفيل» من أن ننخدع بشأن تلك التطبيقات العلمية والتجارب التي دعا إليها ديكارت في نهاية كتاب «المقال في المنهج»، فهو لا يدعو إلى التجريب بالمعنى الذي كان يمارسه به جاليليو، وإنما كانت لديه ثقة مطلقة في صحة مبادئه القبلية التي لا تدرك إلا بنور العقل؛ ومن ثم كان لديه يقين مسبق بأنها فعالة في المجال العملي. بل إن عزلة ديكارت في هولندا لم تكن - في رأيه - ترجع إلى خوفه من الاضطهاد، بقدر ما كانت ترجع إلى رغبته في التباعد عن الأوساط العلمية التي كان يخشى الاحتكاك بها، ويعتقد أنها لن تنفعه في شيء.
16
ويذهب «جسدروف
Gusdorf » إلى نتيجة مماثلة، فيؤكد أن المنهج الاستنباطي الذي اتبعه ديكارت في الفيزياء كان أقرب إلى الروح المدرسية منه إلى الفكر الحديث، وبدلا من أن يجهد ديكارت نفسه - كما فعل علماء ذلك العصر الذين بنوا على أكتافهم صرح العلم الحديث - في البحث والتنقيب بصبر وأناة عن وقائع جزئية، يكشفها بأكبر قدر من الدقة، ويعبر عنها تعبيرا رياضيا، نراه يزدري الوقائع ولا يكترث بملاحظتها؛ ولذلك يقتبس «جسدروف» نصا لبول موي يقول فيه: «إن فيزياء ديكارت نسق مذهبي. بل إنها - إذا جاز التعبير - كتلة مرتبطة بالميتافيزيقا ارتباطا وثيقا؛ فالديكارتية العلمية هي مذهب قبلي
apriorisme
متكامل».
17
خلاصة القول إذن: إن ديكارت لم يكتف بأن جعل الميتافيزيقا أساسا للعلم الفيزيائي. بل إن المبادئ الميتافيزيقية الرئيسية تظل ضرورية طوال مراحل البحث الفيزيائي، وعليها يرتكز كل ما يمكن أن يصل إليه هذا البحث من يقين؛ فالعالم المادي في نظره يستحيل أن يعرف ما لم يكن المرء قد عرف من قبل مبادئ ميتافيزيقية هي التي تستنبط منها كل معرفة بهذا العالم. وفي الوقت الذي كان فيه علماء العصر يشنون معركة حامية ضد الميتافيزيقا ويسعون إلى استبعادها من العلم استبعادا تاما، ويصطنعون لأنفسهم منهجا يجمع بين الملاحظة المتأنية والتجارب الدقيقة التي تجرى على موضوعات جزئية، وبين الصياغة الرياضية الدقيقة للنتائج التي يتوصل إليها البحث العلمي تدريجيا ، كان ديكارت يسعى إلى استنباط معرفتنا بالطبيعة كلها من مبادئ ميتافيزيقية، ويحاول استخراج الحقائق كلها من أفكاره العقلية وحججه المنطقية البارعة، وبالاختصار كان يريد للجذور الميتافيزيقية أن تظل تزود الجذع الفيزيائي وثماره التطبيقية، بذلك اليقين الذي لا يكتسب إلا بالاستنباط من مبادئ أولية مؤكدة، فكان في ذلك متراجعا عن تيار عصره بغير شك. (6-3) الترفع وازدراء العلماء
والنتيجة الضرورية لتمسك ديكارت بالمنهج الاستنباطي في البحث لفيزيائي هي اعتقاده أنه - بفلسفته الخاصة ومنهجه الذي كان يراه جديدا - هو وحده الذي يستطيع انتشال العلم من وهدة التخلف التي سقط فيها على يد المدرسيين؛ بحيث كان ينظر إلى الجهد العلمي، كما لو كان جهدا فرديا يحتاج إلى عبقريته الخاصة وحدها، وتلك هي طريقة التفكير التي يتحتم أن يصل إليها من يمزج الميتافيزيقا بالعلم؛ لأن المبادئ التي يرتكز عليها بناء العلم كله مبادئ خاصة به، توصل إليها عقله هو بجهد تأملي خاص. أما من يعترف للعلم الطبيعي باستقلاله، ويضع له المنهج الملائم له، فلا بد أن يكون أكثر تواضعا في فهمه لدوره وللمدى الذي يستطيع أن يصل إليه، ولا بد أن يكون أكثر تقديرا لجهد الآخرين؛ لأنه يعرف أن العلم ينمو ببطء ومشقة، وأن حقائقه لا تتكشف كلها بنور مفاجئ، وإنما تظهر تدريجيا على أيدي أجيال لا حصر لها من الباحثين.
ويظهر هذا الفارق بين عقلية الفيلسوف الذي يمزج العلم بالميتافيزيقا وبين عقلية العالم الحقيقي، في موقف ديكارت من جاليليو، فعلى الرغم من أن ديكارت قد تأثر إلى حد بالغ بمحنة جاليليو. وكانت هذه المحنة، التي بلغته أنباؤها في عهد مبكر نسبيا من حياته الفكرية (عام 1633م) - نقطة تحول في طريقة تعامله الفكري مع العالم المحيط به، فإنه يبدو أن العامل الذي تأثر به ديكارت في هذا الصدد هو النتائج المحتملة لهذه المحنة على مصيره هو، ولم يكن اهتمامه بمصير جاليليو نفسه، فديكارت كان يفكر في نفسه طوال الوقت الذي يبدي فيه انزعاجه من التهمة الظالمة التي وجهتها محاكم التفتيش إلى رجل لم يكن هدفه - آخر الأمر - إلا توسيع نطاق المعرفة البشرية وزيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة، وهي في رأيه أمور لا ينبغي أن تغضب لها أية سلطة دينية تفهم طبيعة رسالتها. وكان شغل ديكارت الشاغل في هذا كله هو: ماذا يكون موقف هذه السلطات الغاشمة من آرائه هو التي ترتكز على مواقف فيها بعض الاتفاق مع آراء جاليليو؟ وما الذي يفعله في مؤلفاته التي تتضمن هذه الآراء، والتي كان يزمع نشرها قريبا؟
أما جاليليو نفسه، فلم يكن ديكارت يهتم به كثيرا، أو كان على الأقل يتظاهر بعدم الاهتمام به؛ ففي خطاب إلى صديقه «مرسين» ذكر أنه لم يطلع على كتاب جاليليو الرئيسي إلا في عام 1634م، أي بعد عام من محنة العالم الإيطالي الكبير، واستخدم في هذا الصدد لفظا يدل على أنه «تصفح» هذا الكتاب
feuilleter
وفي خطاب آخر إلى مرسين، بتاريخ 11 أكتوبر 1638م، علق أعمال جاليليو، فقال: «وفيما يتعلق بجاليليو، أود أولا أن أقول لك: إنني لم أره أبدا، ولم يكن لي أي اتصال به؛ ومن ثم فلا يمكن أن أكون قد استعرت منه شيئا، كما أنني لا أرى في كتبه شيئا يجعلني أحسده، ولا أكاد أرى فيها شيئا أرغب في تبنيه»، ويعلل المؤلف الذي اقتبس هذين النصين
18
ضآلة اهتمام ديكارت بجاليليو، بأن الأول لا يتصور علما بغير منهج؛ ومن ثم كان ما يعيبه على جاليليو هو أنه ليس «فيلسوفا»، وبالفعل يمكن أن نعد جاليليو باحثا بلا منهج، إذا فهمنا المنهج بالمعنى الاستنباطي الذي فهمه ديكارت، وإذا اعترفنا بأن المبادئ الميتافيزيقية الرئيسية هي الدعامة التي يظل البحث في الطبيعة مرتكزا عليها حتى آخر مراحله. أما إذا كنا نفهم المنهج بمعناه العلمي لا الصحيح، لا بمعناه الذي يخلط بين مقتضيات الفلسفة ومقتضيات العلم، فإن جاليليو يغدو عندئذ رائدا من رواد المنهج الحديث، بالإضافة إلى ريادته المعترف بها في ميدان البحث العلمي ذاته.
وعلى أية حال ففي استطاعتنا أن نستشف من النص الأخير - ومن كلام ديكارت عن «الجسد» وغيره - لهجة ظاهرها الترفع والتعالي، وباطنها الإحساس بأنه إزاء عمل كبير لا يقدر على أن يجاريه، وعلى أية حال فإن تبرؤه الشديد منه لا يخلو من قدرة من الانتهازية.
ومما يلفت النظر أن «جسدورف» قد تنبه إلى الرسالة الأخيرة ذاتها (رسالة ديكارت إلى مرسين بتاريخ 11 أكتوبر 1638م)، واستدل منها على نتائج مضادة لتلك التي انتهى إليها «جوييه
Gouhier »؛ ذلك لأنه ركز على الجزء الذي يقول فيه ديكارت عن جاليليو: «يبدو أنه يفتقر إلى الكثير، من حيث إنه يكثر من الاستطراد ولا يتوقف لكي يقدم تفسيرا كاملا لموضوع ما، مما يدل على أنه لم يبحث تلك الموضوعات بطريقة منظمة، وعلى أنه بحث عن أسباب بضع نتائج جزئية قبل أن يدرس الأسباب الأولى للطبيعة، وشيد بذلك بناء بغير أساس»، ويؤكد جسدورف أن تلك «الأخطاء» التي عابها ديكارت على جاليليو هي في الواقع حسنات تحسب له؛ إذ إنه لم يصدر أحكاما تتجاوز ما يستطيع تأكيده. أما ديكارت فكان يزدري ذلك الصبر الطويل الذي يقتضيه البحث التجريبي، ولا يحاول الرجوع إلى الأشياء ذاتها للتأكد من صحة أحكامه؛ إذ كان على ثقة من أن الوقائع ذاتها ستخضع لأوامر النسق الفلسفي؛ وعلى ذلك فإذا كان جاليليو قد ارتكب خطأ جزئيا هنا أو هناك، فإن ديكارت قد أخطأ في موقفه الكامل، وعندما انهارت الأسس الميتافيزيقية التي شيد عليها المعرفة؛ انهار بناؤه العلمي بأكمله.
19
وهكذا يعود المنهج الاستنباطي القائم على أسس ميتافيزيقية إلى صبغ نظرة ديكارت إلى نفسه وإلى معاصريه بصبغة بعيدة عن التواضع والتضافر الذي يقتضيه العلم، فديكارت يتصور أنه لا يدين للعلماء المعاصرين له بشيء، ويترفع عن قراءة أبحاثهم بإمعان، ويتملكه إحساس طاغ بأنه هو القادر على إصلاح مسار المعرفة البشرية كلها؛ لأن درجة اليقين التي يستطيع بلوغها في العلم - بفضل المبادئ الأولى التي يرتكز عليها - لا تتوافر لدى أي باحث علمي غيره.
والواقع أن ديكارت كان منذ اللحظة الأولى في حياته الفكرية يشعر بأنه يحمل رسالة مقدسة ألقيت على عاتقه هو، ولم تكن تلك الرؤى الثلاث التي ظهرت له في شبابه المبكر، والتي شكر من أجلها الله لأنه اختصه برسالة المعرفة؛ لم تكن سوى تعبير عن إحساسه بأنه هو الذي يستطيع أن يحمل العبء وحده. ولقد كان أسلوب «الحلم أو الرؤيا» هو ذاته أسلوبا ذا طبيعة تنبؤية، وربما كان للمرء أن يشك في صحة التفاصيل التي رويت عن هذه الرؤيا بعد ثمانية عشر عاما من حدوثها (حدثت الرؤيا عام 1619م، ورواها ديكارت في «المقال في المنهج» عام 1637م). بل إن من الباحثين من أبدى عدم اقتناعه بالموضوع بأسره. ولكن هذه مسألة لا تهمنا كثيرا، وإنما الذي يهمنا هو دلالة الأسلوب الذي اتبعه ديكارت، والذي ينم عن إحساسه بأنه هو الذي اختير لحمل رسالة المعرفة.
وتتوالى الشواهد على هذا الإحساس بالتعالي وبالأهمية الذاتية عند ديكارت؛ إذ تتخذ فكرة «الكوجيتو» عنده طابعا فيه إشارة دائمة إلى «الأنا» الذي يفكر، والذي يستدل عن طريق أفكاره وحدها على وجودها الله، ويؤسس عليه وجود العالم، ثم يتخذ من هذه المبادئ الميتافيزيقية المستخلصة من داخل العقل والروح البشرية مصدرا للمعرفة يفوق في أهميته أية كتابات أو أبحاث علمية أخرى، وأية مشاهدة مباشرة للوقائع. وحتى المرحلة الأخيرة من حياة ديكارت ظل هذا الاعتقاد بأنه يستطيع أن يفعل ما لا يقدر عليه غيره ملازما له، ويكفي قوله في مقدمة كتاب «مبادئ الفلسفة»: «لقد كان هناك رجال عظماء حاولوا أن يهتدوا إلى، الحكمة حتى الآن.»
هذه لهجة قد يراها البعض تعاليا وترفعا، وقد يراها غيرهم تعبيرا عن كبرياء المفكر واعتزازه بنفسه. ولكنها قبل كل شيء لهجة فيلسوف يحاول أن يفرض طريقته التأملية على مسار العلم، والتعليل الأخير لهذا كله إنما يكمن في ذلك التداخل الفريد بين الميتافيزيقا والعلم عند ديكارت. وفي احتفاظه للجذور الميتافيزيقية - في شجرة المعرفة - بدور إيجابي تظل تقوم به حتى بالنسبة إلى أبعد الأغصان والثمار.
خاتمة
كشف لنا هذا البحث عن إمكان تفسير ذلك التشبيه الذي يبدو بسيطا في ظاهره - تشبيه الشجرة - على أنحاء متعددة، يؤدي كل منها إلى فهم مختلف للعلاقة بين الميتافيزيقا والعلم في فلسفة ديكارت؛ بحيث يمكن القول - بمعنى معين: إن الاتجاه الفكري العام لديكارت يتحدد على أساس الموقف الذي نتخذه من هذا التشبيه. وقد تركنا جانبا الموقف الأول، الذي يركز الاهتمام على الميتافيزيقا ويكاد يتجاهل أو يعده ثانوي الأهمية؛ لأنه يجد من يعبرون عنه بكل قوة بين الكتاب ذوي النظرة التقليدية، وتوسعنا في عرض وجهة النظر التي تؤكد أهمية الجانب العلمي في فلسفة ديكارت، وذلك من خلال تفسيرين: أحدهما يجعل العلم هدفا أساسيا إيجابيا تتوارى إلى جانبه الميتافيزيقا التي تكتفي بتمهيد الطريق له فحسب، والآخر يجعل للميتافيزيقا دورا إيجابيا يظل ملازما للعلم حتى أبعد أطرافه وأكثرها تشبعا.
ومن خلال هذين الرأيين الأخيرين، اللذين لا يتعارضان في تأكيدهما لأهمية العلم. ولكنهما يتعارضان في الدور الذي ينسبه كل منهما إلى الجذور الميتافيزيقية في عملية اكتساب المعرفة، يتضح لنا أن المرء يواجه ها هنا إشكالا يتعلق بصميم مهمة الفلسفة التأملية عند ديكارت: فهناك شواهد قوية تدل على أن ديكارت أراد من هذه الفلسفة التأملية أن تكون «جواز المرور» إلى المعرفة العلمية، التي هي في نظره الغاية والهدف. ولكن هناك في الوقت ذاته شواهد أخرى تدل على أنه أراد لهذه الفلسفة أن تظل تقوم بدورها في إضفاء يقين راسخ على العلم حتى النهاية.
ويبدو لي أن عصر ديكارت ذاته وموقعه التاريخي ودوره كفيلسوف تحمس للمعرفة العلمية، كل هذه العوامل تعمل على الاحتفاظ بالأشكال في حالة تناقض حي، وتدعونا إلى الامتناع عن اتخاذ موقف نهائي بين طرفيه المتعارضين، فديكارت أراد أن يحتفظ للفلسفة بشيء مميز في عصر بدأ العلم فيه يصبح هو الوسيلة الرئيسية لتحصيل معرفة عن العالم، وأغلب الظن أنه اضطرب في محاولته هذه. ولكن هذا الاضطراب، والتخبط، كان طبيعيا في عصر حدثت فيه لأول مرة مواجهة بين منهج فلسفي يحمل كل التراث الماضي للمعرفة، ومنهج علمي يبشر بطريق جديد للمعرفة في المستقبل.
بل إن في وسعنا القول: إن مثل هذا الاضطراب في تحديد موقف الفيلسوف إزاء العلم ما زال يلازم الفلاسفة حتى يومنا هذا؛ إذ يسعى الفلاسفة بكل وسيلة إلى أن يحتفظوا للفلسفة بمجال مميز ومنهج خاص بها. ولكنهم يدركون في الوقت ذاته أن العلم هو أفضل وسيلة متاحة لتحصيل معرفة صحيحة عن الواقع؛ ومن هنا تتعدد المواقف. وربما تناقضت الاتجاهات حتى عند الفيلسوف الواحد، وهو تناقض يعبر عن تلك الأزمة الأساسية التي يعانيها الفكر الفلسفي في عصر العلم.
لقد كان الفكر القديم متحررا من أية أزمة من هذا النوع؛ لأن الفلسفة لم تكن تجد أمامها منافسا. وكان منهجها هو الوحيد الذي يعد وسيلة لتحصيل أية معرفة. ولكن منذ اللحظة التي ظهر فيها منهج أدق وأكثر ثقة بنفسه وبخطواته وبنتائجه؛ أعني منذ أوائل العصر الحديث وجدت الفلسفة نفسها في أزمة حقيقية هي أزمة تحديد موقفها من هذا النوع الجديد من المعرفة.
وكما رأينا، فقد كان هذا الإشكال واضحا لدى ديكارت كل الوضوح؛ لأن تفكيره يحمل في أحد جوانبه طابع الانحياز للمعرفة الجديدة والإقلال من أهمية الميتافيزيقا التقليدية، ويحمل في الجانب الآخر طابع الاحتفاظ بإيجابية الميتافيزيقا التقليدية حتى في قلب المعرفة العلمية، ووجود أزمة المواجهة بين الفلسفة والعلم عنده بمثل هذه الحدة هو - في رأينا - ما يجعل منه «أبا للفلسفة الحديثة»، فهو لا يستحق هذا اللقب؛ لأنه أضفى على الفلسفة الحديثة طابعها المميز وهو المثالية كما يزعم البعض، وإنما يستحقه لأنه أول من عانى من محاولة إيجاد منهج ومجال مميز للفلسفة في عصر أثبت فيه العلم فعاليته، وهو يستحق هذا اللقب؛ لأنه تناقض مع نفسه وأخفق في تحقيق هذا الهدف كما سيحاول ويخفق عشرات من الفلاسفة منذ عصره حتى وقتنا الراهن.
ومجمل القول أن تشبيه الشجرة - بما يكشف عنه من تفسيرات متعارضة، كلها معقولة - للعلاقة بين الميتافيزيقا والمعرفة العلمية، ينتهي بنا إلى حقيقة أساسية - وهي في رأينا حقيقة جديدة - هي أن ديكارت لم يكن فيلسوفا رائدا بفضل خصائص معينة في منهجه أو في مضمون فلسفته، بل كان أول المحدثين لأن فلسفته - في علاقتها بالعلم - وصلت إلى مأزق أصبح من لوازم الفلسفة في عصر سيادة المعرفة العلمية.
مذهب الذرات الروحية «المونادولوجيا» عند ليبنتس
(1) حياة ليبنتس وشخصيته
ولد جوتفريد فلهلم ليبنتس
Gottried Wihelm Leibniz
في ليبنتسج في 3 يوليو سنة 1646م، من أسرة اشتهر الكثير من أفرادها بالميول العقلية ولا سيما في ميدان القانون. وقد توفي أبوه وهو في السادسة من عمره، وحرصت أمه على أن تنشئه تنشئة بروتستانتينية محافظة. ولقد كان ليبنتس في صباه طفلا معجزا، سرعان ما فاق كل زملائه في مدرسة نيكولاي
Nikoloischule ، وعندما التحق بالجامعة لم يكن قد بلغ الخامسة عشرة من عمره، وتأثر في الجامعة بأستاذ كانت له اتجاهات مدرسية واضحة، وهو ياكوب تومازيوس
Thomasius ، وعلى يديه ألف أول بحث له نال به درجة البكالوريوس في موضوع كانت له أهمية كبرى في فلسفته التالية، وهو مبدأ الفردية
De principio individui ، وقبل انتهاء دراسة ليبنتس الفلسفية، انتقل إلى دراسة القانون، وأخذ في الوقت ذاته يدرس الرياضيات، فألف في عام 1666م كتاب «الفن الجامع»
Arts combinatorial ، ولفت إليه هذا الكتاب أنظار بعض الأوساط العلمية خارج مدينته، وعندما تقدم إلى جامعة «آلتدورف» للحصول على درجة الدكتوراه في القانون - في نفس العام (وهو 1666م) - كان بحثه ممتازا إلى حد أنه تلقى - وهو في هذه السن المبكرة - عرضا للأستاذية في نفس الجامعة، ولكنه رفض هذا العرض.
وقد اتصل ليبنتس في مستهل حياته العلمية بسياسي ألماني مشهور، هو البارون بوينبرج
Boineburg ، وبفضل هذا الاتصال أخذ يزداد اهتماما بالشئون السياسية، فسافر إلى فرانكفورت، وتولى مهمة إصلاح اللوائح القانونية المعمول بها في إمارة مينتس
Mainz ، ومنذ ذلك الحين ظلت السياسة هدفا رئيسيا من أهداف حياته.
وكان من أهم مظاهر نشاط ليبنتس السياسي، تلك المذكرة الهامة التي كتبها عن «الأمن العام الداخلي والخارجي»
Securitas publica interna et externa ، وتضمنت هذه المذكرة خطته المصرية
Consilium Aegyptiacum
المشهورة (التي سنعرض لها بشيء من التفصيل فيما بعد)، والتي اقترح فيها تحويل انتباه لويس الرابع عشر - ملك فرنسا المشهور - عن أوروبا باقتراح إرسال حملة لغزو مصر، وظلت هذه المذكرة تشغل قدرا كبيرا من اهتمام ليبنتس، فتوجه بها إلى باريس سافر عام 1672م آملا أن يستمع إليه الملك. وفي خلال إقامته بباريس سافر في رحلة قصيرة إلى لندن حيث انتخب عضوا في الجمعية الملكية، وبعد عودته إلى باريس بدأت دراساته الرياضية المركزة على يد الرياضي المشهور كريستان هوبجنز، وتوجت هذه الدراسات بكشفه حساب التفاضل والتكامل، والاهتداء إلى طريقة تدوينه المعمول بها حاليا، في عام 1675م. وكان ليبنتس يزمع الإقامة نهائيا في باريس؛ إذ كانت هذه الفترة من أخصب فترات حياته العلمية والفكرية، وفيها اتصل بعدد من أكبر رجال الفكر والفلسفة والعلم واللاهوت في عصره، وأجرى معهم مراسلات عميقة ألقت ضوءا ساطعا على نواح عديدة غامضة في تفكيره.
ومع ذلك فعندما عرض عليه يوهان فردريك - دوق هانوفر - وظيفة رئيس المكتبة في بلاطه (وهي وظيفة كانت لها في ذلك الحين أهمية غير قليلة) قبلها، وغادر باريس. وفي رحلة العودة إلى ألمانيا عام 1676م زار إنجلترا وهولندا، حيث قابل اسبينوزا واطلع على آخر كتاباته وأبحاثه، وأبدى في ذلك الحين إعجابا شديدا واهتماما كبيرا بها، وإن كان قد حرص فيما بعد على إظهار عدم اهتمامه بآراء اسبينوزا نظرا إلى شهرة هذا الأخير بالإلحاد في كثير من الأوساط الأوروبية.
وفي الفترة التي أقامها ليبنتس في هانوفر، بدأ كتابة تاريخ شامل لأسرة برنسفيك، كما نشر كشوفه في حساب التفاضل والتكامل. وفي ميدان الفلسفة ألف كتاب «مقال في الميتافيزيقا»
Discours de métaphysique (سنة 1686م)، ومجموعة من الأبحاث الهامة، من بينها «مذهب جديد في الطبيعة»
Système nouveau de la nature (1695م)، وبحثه عن فلسفة لوك بعنوان «أبحاث جديدة في الذهن البشري»
Nouveaux essais sur l’entenderment humain (1696م).
وعندما تولى جورج فلهلم إمارة الولاية (وقد أصبح فيما بعد جورج الأول ملك إنجلترا) لم يكن ليبنتس على وفاق معه. وكان لذلك بعض الأثر في إنتاج ليبنتس الذي تركز في ذلك الحين على إكمال كتابة تاريخ الأسرة الملكية؛ على أن جهود ليبنتس قد توجت بالنجاح في ميدان آخر: فقد نجح بفضل مساعدة تلميذته صوفيا شارلوت أميرة براندبرج (التي أصبحت ملكة بروسيا فيما بعد) في إنشاء أكاديمية برلين عام 1700م، واختير هو ذاته أول رئيس لها. ومع ذلك فقد فشلت جهوده الأخرى في سبيل إنشاء أكاديميات مماثلة في درسدن وسان بطرسبرج وفيينا، ونشر ليبنتس في ذلك الحين كتابه الفلسفي الرئيسي الوحيد الذي أشرف على نشره خلال حياته، وهو كتاب «الحكمة الإلهية»
Théodicée ، وهو يتألف أساسا من الكتاب الذي نقدمه هنا، وكتاب «مبادئ الطبيعة واللطف الإلهي»
فقد كتبهما عام 1714م ونشرا بعد وفاته.
وفي هذا العام نفسه أصبح جورج لودفج ملكا على إنجلترا، ولم يستطع ليبنتس أن ينال حظوة لديه، فأبعد في هانوفر حيث دأب على كتابة تاريخ الأسرة الحاكمة، ولم يكن قد أتم إلا جزءا بسيطا من هذا التاريخ عندما توفي في 14 نوفمبر عام 1716م.
ومن العجيب أن أوروبا التي كان ليبنتس ملء سمعها وبصرها في حياته، والتي لعب دورا عظيم الأهمية في ثقافتها وتفكيرها وسياستها، لم تهتم به قط في وفاته، ولم يرثه أحد سوى الفرنسيين. أما الباقون فلم يكادوا يشعرون بموته.
ومن المؤكد أن هناك جوانب عديدة غامضة في حياة ليبنتس، فبالإضافة إلى غموض كثير من المهام السياسية التي كان يضطلع بها - وهو الغموض الذي جعل كثيرا من الناس ولا سيما اسبينوزا يرتابون في نواياه ومقاصده الحقيقية - كانت حياته الخاصة بدورها مهمة إلى حد بعيد، ورغم كل ما كتبه من رسائل، فإن هذه الرسائل لم تكن شخصية، ولم تكشف شيئا عن الجوانب الخاصة لحياته، وهكذا فإن علاقاته العائلية ظلت مجهولة، وكل ما عرف عنها هو أن ليبنتس لم يتزوج أبدا، وأن أسرته كانت ميسورة الحال، مما أتاح له التنقل بحرية، والتفرغ للأمور السياسية والعلمية دون اهتمام بمشكلات الحياة اليومية.
على أن في وسع المرء أن يلمح خلال هذا الغموض المحيط بحياة ليبنتس عنصرين أساسيين يبرزان بكل وضوح طوال مجرى حياته، هما اتساع نطاق معارفه من جهة، واتجاهه إلى السياسة من جهة أخرى.
فبفضل العنصر الأول - وهو اتساع نطاق معارفه إلى حد مذهل - أحيطت شخصيته خلال حياته وبعدها بهالة أسطورية يتمثل فيها مفكرا وعالما تتحدى عبقريته كل التصنيفات والتقسيمات الشائعة، ولم يكن من المستغرب أن تصور شخصية بهذه الصورة الأسطورية؛ ذلك لأن الرجل كان بالفعل نوعا من الأسطورة. وربما كان ليبنتس آخر ممثل لتلك الفئة «الموسوعية» من المفكرين؛ ففي عصره وربما قبل عصره بقليل، كان عهد التخصص قد بدأ، واتسعت المعارف البشرية إلى حد أنه أصبح من المحتم على المرء أن يختار بين الفلسفة أو الأدب أو العلم أو القانون أو السياسة، وأصبح من الصعب أن يجمع المرء بين أكثر من فرع واحد من هذه الفروع. ولكن الدهشة تمتلك المرء حتما حين يجد ليبنتس قد اشتغل بهذه الفروع كلها معا. وكانت له فيها كلها تقريبا مساهماته المبتكرة وكشوفه البارعة؛ ذلك لأن ظهور مثل هذه العقلية الموسوعية أيام اليونان في شخص أرسطو، أو حتى خلال عصر النهضة في شخص ليوناردو دفينشي، كان أمرا مفهوما ومعقولا، أما ظهورها في النصف الثاني من القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر فهو بالفعل أمر يقارب حد الإعجاز، لا سيما إذا كان الشخص الذي تمثلت فيه هذه الظاهرة الفريدة ينافس في مجال الفلسفة أقطاب المدرسة الديكارتية الكبار، وينافس في مجال الرياضة نيوتن ويتفوق عليه في صياغته لحساب التفاضل والتكامل، ويضع من النظريات القانون ومن الآراء السياسية والدبلوماسية ما يجعل له دورا إيجابيا في سياسة عصره، ويشتغل بالعلم الطبيعي فيتفوق فيه، ويكتب شعرا لاتينيا يحوز إعجاب معاصريه، ويؤلف في التاريخ مرجعا عظيم القيمة، وينشئ، يسعى إلى إنشاء جمعيات وأكاديميات علمية في مختلف المدن الأوروبية، فثقافة ليبنتس عالمية بالمعنى الصحيح، ومعارفه تكاد تكون شاملة بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه، ولهذه الحقيقة - كما سنرى - فيما بعد أهمية عظيمة في إيضاح معالم مذهب ليبنتس وطريقة تفكيره.
على أن الجانب السياسي من نشاط ليبنتس الشامل يستحق اهتماما خاصا؛ لأنه يمثل ظاهرة فريدة فيمن عرفناهم من الفلاسفة؛ ومن هنا فإنه يؤلف وحده عنصرا قائما بذاته نود أن نشير إليه إشارة خاصة، فمنذ اللحظة التي تعرف فيها ليبنتس إلى الكونت «بوينبرج» وهو في الحادية والعشرين من عمره؛ أصبح يقضي حياته كلها في صحبة الأمراء والحكام ورجال البلاط، واعتاد صحبة الشخصيات الأرستقراطية الكبرى، ورغم كل ما طرأ على حياته من التقلبات، فإن الاهتمام بالسياسة ظل هو القاسم المشترك بين أهم فترات هذه الحياة، وحتى في تلك الفترة التي تعد أخصب فترات حياته، الوجهة العلمية والفكرية، وأعني بها فترة إقامته في باريس، نراه لا يكف عن القيام بدور الدبلوماسي ورجل البلاط وكاتم أسرار الأمراء، ويقوم بأسفار وبعثات ومهمات غامضة لحساب إمارة «مينتس» الألمانية في نفس الوقت الذي كان فيه يكون صلات مثمرة إلى أبعد حد مع مشاهير رجال العلم والفكر والفلسفة الذين كانت تزدان بهم فرنسا في عهد لويس الرابع عشر.
ولقد كانت السمة البارزة في نشاط ليبنتس السياسي، وهي نمو وعيه الأوروبي إلى أبعد حد؛ ذلك لأنه على الرغم من اشتغاله في معظم أوقات حياته لحساب حكام ولايات ألمانية معينة، كان في تفكيره السياسي يتجاوز حدود الولايات والدول. وكان «مواطنا أوروبيا» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان. وكانت الفكرة الرئيسية التي تستحوذ على تصرفاته السياسية هي أن أوروبا كلها تكون وحدة حضارية وثقافية وسياسية واحدة. ومن المؤكد أن في تفكير ليبنتس في هذه الناحية أوجه شبه عديدة مع تفكير دعاة الوحدة الأوروبية المعاصرين، من أمثال الجنرال دي جول والسياسي البلجيكي «سباك» وغيرهما، رغم اختلاف ظروف الدعوة في كلتا الحالتين، ولا يقف وجه الشبه عند هذا الحد. بل إن تفكير ليبنتس السياسي كان يتضمن عناصر رجعية واستعمارية لا تقل وضوحا عن تلك التي نجدها عند أقطاب ساسة أوروبا الغربية المعاصرين، ويتمثل ذلك العنصر من تفكير ليبنتس في «خطته المصرية» المشهورة، ونظرا لأهمية هذه الخطة للقارئ المصري على التخصيص، فسوف نتحدث عنها ها هنا بشيء من التفصيل.
وضع ليبنتس هذه «الخطة» وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وكان يهدف منها إلى إيجاد وسيلة لصرف أنظار لويس الرابع عشر - ملك فرنسا وأكبر شخصية سياسية في أوروبا في ذلك الحين - عن أوروبا ذاتها، وتحويل طاقته الحربية إلى مكان بعيد عن أوروبا، بذلك يعود توازن القوى إلى القارة الأوروبية، ويتسنى في الوقت ذاته الدفاع عن أوروبا ضد «البرابرة والزنادقة».
ولقد كانت الظروف السياسية في ولاية مينتس هي التي أوحت إلى ليبنتس بهذه الخطة؛ ففي نهاية عام 1671م، كان من الواضح أن فرنسا تعد العدة لغزو هولندا. وكان أمير الولاية الألمانية يدرك أن تغير ميزان القوى في أوروبا قد يؤدي إلى تغيير كبير في الخريطة السياسية لأوروبا، وبالتالي إلى فقدان الولايات الصغيرة حريتها. وهكذا أراد - ومعه ليبنتس - أن يحول دون اقتراب الحرب من الولايات الألمانية، وسنحت الفرصة لليبنتس حين وقعت حوادث وتحرشات على حدود الإمبراطورية العثمانية، أذكت الحروب الصليبية من جديد في نفوس الأوروبيين. وهكذا وضع ليبنتس خطته على أساس أن توجه أسلحة لويس الرابع عشر - التي كان يعلم أنها ستنطلق عاجلا أو آجلا - ضد عدو المسيحية كلها في الشرق، وهم الأتراك العثمانيون، عن طريق غزو بلد عظيم الأهمية مثل مصر، فكتب مذكرة سياسية مفصلة موجهة إلى الملك، قدم فيها عرضا تاريخيا لجميع الحملات التي شنت على مصر من قبل، وتحدث عن مركز مصر الاقتصادي وموقعها الجغرافي، وأوضح مدى سهولة غزوها، والفائدة العظيمة التي ستجنيها فرنسا من هذا الغزو، وهي السيادة البحرية والاقتصادية على البحر المتوسط، والسيطرة على الغرب والشرق معا، وازدياد ألقاب الملك لقبا جديدا مشرفا! ولم تصل الخطة في بادئ الأمر إلى مسامع الملك. ولكن ليبنتس بذل مساعي عديدة، حتى أتاه رد يقول: إن الملك على استعداد لسماع الخطة منه. ولكنه عندما سافر إلى باريس في مارس سنة 1672م كانت الحرب ضد هولندا قد بدأت بالفعل، ووقع ما أراد ليبنتس أن يتجنبه بغزو مصر، ونحن نعلم بطبيعة الحال تكملة القصة؛ وهي أن نابليون بونابرت قد حقق الخطة التي اقترحها ليبنتس. وربما كان قد اطلع على هذه الخطة ذاتها وأخذ بها، فحقق بذلك حلما احتل أهمية كبيرة في تفكير فيلسوفنا هذا، وبدأ عهدا جديدا من تاريخ الاستعمار الأوروبي في الشرق الأوسط.
ففي حياة ليبنتس إذن عنصران يستحقان اهتماما خاصا، هما شمول معرفته ونشاطه السياسي، ومن المؤكد أن العنصران متعارضان؛ إذ إن التفرغ للأعمال السياسية، والتنقل المستمر في أسفار وبعثات ومهام علنية وسرية، لا يترك للمرء فرصة الانصراف إلى الفلسفة والعلم، ولا بد أن ليبنتس كان يتمتع بقدرات معجزة، أتاحت له أن يركز ذهنه في أعمق المسائل العلمية، ويتفوق في عدد هائل من الفروع المتباينة للمعرفة، في نفس الوقت الذي كان يحيا فيه حياة صاخبة حافلة بالنشاط وسط عدد كبير من الأباطرة والملوك والأمراء والوزراء والسفراء ورجال البلاط، يقوم فيه بواجباته السياسية والدبلوماسية والقانونية على أكمل وجه، وهنا لا يجد المرء مفرا من أن يفترض لدى ليبنتس نوعا من العزلة الروحية وسط هذا الصخب الذي أحاط نفسه به، ولولا أنه كان يعزل نفسه من آن لآخر بالفكر على الأقل، وعن العالم المزدحم من حوله، لما تسنى له ممارسة نشاطه العلمي الهائل على الإطلاق، فهو إذن كان يشعر بنفسه ذرة واحدة منعزلة بلا أبواب ولا نوافذ، تنطوي في ذاتها على صورة مصغرة للعالم كله، وتلك بعينها هي الفكرة الرئيسية في الكتاب الذي نعرضه ها هنا، وأعني به كتاب «مذهب الذرات الروحية». (2) مؤلفات ليبنتس وكتاب «المونادولوجيا»
ذكرنا من قبل أن ليبنتس لم ينشر في حياته سوى كتاب «الحكمة الإلهية»
Théodicée ، كما نشر بعض الأبحاث القصيرة في صحف علمية مختلفة. أما كتبه الرئيسية الأخرى - التي أوردنا من قبل أسماء بعضها - فقد نشرت بعد وفاته، وإن كان هو ذاته قد أعد بعضها للنشر. ولقد حفظ ليبنتس مؤلفاته - من كتب ومقالات وأبحاث - في صورة مخطوطات ومسودات كاملة، عثر عليها في مكتبته الخاصة، أو حفظت في سجلات سرية (وهذا ينطبق بوجه خاص على مذكراته السياسية). ولقد كان نشاط ليبنتس السياسي هو سبب حفظ أوراقه العديدة المتناثرة، فعلى الرغم من أن أحدا لم يهتم به عند وفاته، فإن عددا من الأحزاب والفرق السياسية كانت تشعر بالقلق خوفا من أن يكون قد ترك بين أوراقه أسرارا سياسية. وهكذا ضموا أوراقه ومخطوطاته، ودفعوا لورثته (وهم أقرباء بعيدون) مبلغا ضئيلا من المال ليتنازلوا عن حقوقهم فيها، وظلت هذه الأوراق حتى اليوم مودعة في مكتبة هانوفر، ولا يمكن القول إن مؤلفاته الكاملة قد صدرت في نشرة شاملة حتى اليوم؛ ذلك لأن أكمل النشرات، وهي تلك التي بدأتها «أكاديمية العلوم البروسية» سنة 1913م بعنوان «المؤلفات والرسائل الكاملة»
Sämmticke Schriften und Briefe
وكانت تزمع فيها نشر كل ما خلفه ليبنتس، قد انقطعت عام 1933م بعد الانقلاب النازي في ألمانيا.
أما كتاب «مذهب الذرات الروحية» أو المونادولوجيا، فقد كان في الأصل مقالا قصيرا عرض فيه ليبنتس فلسفته في ملحق لرسالة بعث بها إلى أحد مراسليه الفرنسيين المتحمسين، واسمه «ريمون»
Rémond
ولقد أشار بعض شراح ليبنتس إلى هذه الحقيقة، ولاحظوا عن حق ما فيها من غرابة؛ إذ إن هذا الكتاب الرئيسي الذي يتضمن مذهبا ميتافيزيقيا طموحا، لم يكن إلا تعبيرا عارضا قدمه ليبنتس إلى أحد مراسيله، ولم يكن يقصد منه أن ينشر، وإنما كان مذكرة ملخصة تركها ليبنتس بين أوراقه الشخصية فحسب.
على أن أهمية هذا الكتاب - رغم ضآلة حجمه - إنما ترجع إلى أنه من أواخر مؤلفات ليبنتس الفلسفية، فقد ألفه قبل وفاته بعامين، في وقت كان قد اهتدى فيه إلى ذاته، وتكشفت له فيه الجوانب المتعددة التي تميزت بها عبقريته، فهو تعبير واضح عن فلسفته في أخصب فتراتها، وهو يمثل إلى جانب كتاب «مبادئ الطبيعة واللطف الإلهي»
principes de la nature et de la grâce
الذي ألفه في الفترة ذاتها، أعلى قمم التفكير الميتافيزيقي عنده، ورغم أن ليبنتس قد أعد الكتاب الأخير بنفسه للنشر، فإنه ترك الأول في صورة غير مكتملة تماما، مات قبل أن يضع اللمسات الأخيرة فيه. ولكنه مع ذلك ما زال أفضل مدخل إلى فهم فلسفة ليبنتس في صورتها الكاملة.
ويجدر بنا في هذا المقام أن نشير إلى أن ليبنتس نفسه لم يكن هو الذي اختار لكتابه هذا اسمه الذي اشتهر به، وهو «المونادولوجيا»، فليس هذا هو العنوان الذي يصدر الكتاب في مخطوطاته الأصلية الباقية في هانوفر وفيينا، وإنما كان يحمل اسم «مبادئ الفلسفة»
de la Philosphie ، وظل هذا هو الاسم السائد طوال قرن من الزمان. ولكن كوهلر
Koehler - الذي أعد طبعة من أوائل الطبعات الهامة لمؤلفات ليبنتس - وجد أن فكرة الذرة الروحية
Monad
تحتل المكانة الرئيسية بين أفكار الكتاب، فوضع له في ترجمته الألمانية عنوانا فرعيا هو «المونادولوجيا»، وجاء إردمان
Erdmann
في القرن التاسع عشر فجعل من هذا الاسم عنوانا رئيسيا للكتاب في نشرته الفرنسية لمؤلفات ليبنتس الفلسفية، ومنذ ذلك الحين اشتهر الكتاب بهذا الاسم . (3) الاتجاه العام لفلسفة ليبنتس
ينطوي تفكير ليبنتس على بعض المبادئ العامة التي لا يفهم هذا التفكير بدونها؛ ومن هنا كان لزاما علينا - قبل أن ننتقل إلى العرض التفصيلي لآراء ليبنتس في كتاب «المونادولوجيا» - أن نوضح أهم هذه المبادئ، ونحدد الاتجاه العام الذي سار فيه تفكير ليبنتس، حتى يتسنى وضع أفكاره المفصلة في إطارها الصحيح، والربط بين هذه الأفكار وبين حياة ليبنتس وشخصيته وعصره.
لقد اشتهر ليبنتس بأنه فيلسوف تلفيقي؛ أعني فيلسوفا يحرص على التوفيق بين المذاهب الأخرى وجمعها كلها في مذهبه الخاص. ولقد كان بالفعل يود أن يستوعب في مذهبه كل ما أتى به الأقدمون والمحدثون من «أفكار رائعة»، وأراد أن يأتي بمذهب يجمع بين «أفلاطون وديمقريطس وأرسطو وديكارت والمدرسيين والمحدثين، وبين اللاهوت والأخلاق والعقل؛ بحيث يأخذ أفضل ما في كل منها، ثم يتجاوزها إلى ما هو أبعد منها»؛ على أن هذه النزعة إلى الجمع بين المذاهب المختلفة ليس لها في كل الأحوال دلالة واحدة؛ فهي تكون مظهرا من مظاهر الهزل الفكري، حين يعجز المفكر عن الإتيان من عنده بشيء فيملأ الفراغ بآراء الآخرين. ولكنها قد تكون أيضا منبعثة عن ذهن ممتلئ بمعارف موسوعية شاملة، متفوق في مجالات متعددة للعلم البشري، ومن فيض هذه المعارف يتألف مذهبه العام، فهناك إذن توفيق ناشئ عن الهزال الفكري، وتوفيق ناشئ عن الامتلاء الفكري. ولقد كانت نزعة ليبنتس إلى الجمع بين المذاهب من النوع الثاني دون شك، فقد كان من الأذهان القليلة التي استطاعت أن تجمع أطرافا متناثرة من المعرفة البشرية في مركب واحد متناسق تصطبغ فيه العناصر المتفرقة بصبغة العقلية الخاصة؛ بحيث يعد مذهبه «مرآة» تنعكس عليها كل جوانب الحياة العقلية في عصره وفي العصور السابقة، وتتلون - فضلا عن ذلك - بلون مستمد من طبيعته الذهنية الخاصة.
على أن فلسفة ليبنتس لم تكن محاولة للتوفيق بين المذاهب الفلسفية المختلفة فحسب، بل لقد ذهبت إلى أبعد من ذلك، فحاولت التوفيق بين وجهة النظر الفلسفية والعلمية كلها، وبين وجهة النظر الدينية؛ ذلك لأن ليبنتس كان على وعي تام بالخطر الذي يهدد الدين من جراء الكشوف العلمية الحديثة. وهكذا حرص في فلسفته على أن يحد من تطرف الكشوف العلمية وطموحها، ويحاول تحقيق نوع من «الانسجام» بين مجالي الدين والعلم، مثلما حقق هذا الانسجام بين مملكتي الله والطبيعة، ولم يكن اهتمامه بالتوفيق بين النظرتين الآلية والغائية إلى الكون سوى تعبير عن اتجاهه إلى تخفيف التعارض بين الدين والعلم، فهو من جهة يمضي حتى النهاية في التفسير الآلي للطبيعة، ويسهم بنصيب كبير في وضع الصيغ العلمية لهذا التفسير. ولكنه من جهة أخرى يحرص على إيضاح الأفكار التي يمكن بواسطتها فهم الطابع الغرضي الحي للكون. ومن المؤكد أن ليبنتس كان من أقدر الناس على القيام بهذه المهمة؛ إذ إنه قد استوعب بعمق الثقافة التقليدية المدرسية والفلسفات القديمة. ولكنه في الوقت ذاته لم يكن منعزلا عن تيار العلم الحديث، بل كان له فيه دور كبير.
ولقد كانت وسيلته إلى هذا التوفيق ذات طابع مزدوج؛ فهو من جهة يؤكد أن الطبيعة لا تخضع للقوانين الآلية وحدها؛ لأنها ليست جوهرا ممتدا فحسب، وإنما هي ذات طبيعة روحية في أساسها، ولما كانت هذه هي الفكرة الرئيسية في كتاب «مذهب الذرات الروحية»، فإن بقية هذا البحث سيتكفل بشرح تفاصيلها؛ على أن ليبنتس لا يغفل الوجه الآخر للمشكلة، وهو التقريب بين تصور الألوهية - أي التصور الديني الرئيسي - وبين العلم، فنظرته إلى الألوهية كانت علمية إلى حد بعيد، وهو يسمي التفسير الإلهي «حسابا»، ويحمل بشدة على الفكرة القائلة إن القوانين العلمية تتوقف على المشيئة الإلهية، وأن الله كان في استطاعته تغيير هذه القوانين لو شاء، ويعبر ليبنتس عن فكرته هذه تعبيرا واضحا في قوله: «ومع ذلك ينبغي ألا نتصور أبدا ما قال به البعض من أن الحقائق الأزلية لما كانت تعتمد على الله، فإنها اعتباطية متوقفة على إرادته على نحو ما يبدو أن ديكارت قد قال به، فهذا حكم لا يصح إلا على الحقائق العارضة التي تخضع لبدء المنفعة أو اختيار الأفضل. أما الحقائق الضرورية فلا تتوقف إلا على الذهن الإلهي، وهي الموضوع الباطن لهذا الذهن.»
1 (4) الأفكار الرئيسية في كتاب: «مذهب الذرات الروحية» مع نصوص مختارة من الكتاب
2
على الرغم من الطابع التوفيقي أو التلفيقي الذي لاحظناه من قبل في فلسفة ليبنتس، فإن هذه الفلسفة كانت تتسم منذ بدايتها بوحدة تدعو إلى الإعجاب، فمنذ كتابات ليبنتس الأولى، نرى لديه بوادر واضحة لمعظم الأفكار التي تضمنها هذا الكتاب الذي نعرضه الآن، الذي ألفه قبل وفاته بعامين فقط، ومن أهم هذه الأفكار التي ظلت تلازمه من البداية إلى النهاية: الاعتقاد بأن الوحدات الحقيقة التي يرتد إليها العالم ليست وحدات مادية، وأن العالم الحي لا الطبيعة غير الحية، وهو الذي يمثل الفردية بأجلى معانيها. هذا الاتجاه يظهر منذ أول بحث فلسفي كتبه ليبنتس، وهو البحث الخاص بمبدأ الفردية، الذي كتبه عام 1663م، ثم يتردد في معظم كتاباته التالية. ولقد اتجه ليبنتس في البداية إلى استخدام لفظ «النفوس» للتعبير عن هذه الوحدات الأولية غير المادية، التي يتألف منها كل ما في العالم من أشياء مركبة. وكان في هذه التسمية متأثرا - بطبيعة الحال - بتلك التجربة الاستبطانية التي نشعر فيها بأن الذات أو الأنا هي الجوهر الحقيقي لكياننا وأساس الفردية فيه؛ على أن القول بأن الطبيعة مؤلفة من نفوس، يؤدي إلى تجاهل الفوارق الأساسية في مراتب الكائنات التي يتميز بعضها بالنطق والتفكير، ويفتقر بعضها الآخر إلى كل مبدأ معقول؛ ومن هنا التمس ليبنتس لفظا آخر، وجده في كلمة «ألموناد»، وهذه الكلمة اليونانية تعني أصلا الوحدة الحسابية. ولكنها تحولت إلى معنى الوحدة المادية، أو الجزء الذي لا يتجزأ؛ على أن ليبنتس يضيف إليها معنى جديدا؛ فهي عنده وحدة حية؛ أي إنها فردية الكائن الحي في أدق وأبسط مظاهرها ، وهي موجودة وجودا فعليا. وليست مجرد وحدة فكرية كالوحدة الحسابية، وهو يعرفها بأنها «جوهر بسيط، تشتمل عليه المركبات، المقصود بلفظ بسيط أنه لا يتجزأ، وحيث لا تكون أجزاء، لا يكون الامتداد ولا الشكل ولا الانقسام ممكنا، وهذه الذرات الروحية هي الذرات الحقيقية، وهي بالاختصار عناصر الأشياء.»
3
وأهم ما يميز فكرة «ألموناد» عند ليبنتس من فكرة الذرة كما عرفها الفلاسفة اليونانيون القدماء مثلا، هو أن الأولى دينامية في أساسها؛ فالذرة الروحية عند ليبنتس هي قبل كل شيء وحدة للقوة أو للنشاط والفاعلية. وبعبارة أخرى: فإن ليبنتس يريد أن يقول: إنه لا شيء حقيقي حتى في المادة نفسها، إلا ما هو نشيط فعال، وما هو في أساسه طاقة دينامية.
ويربط «ماير» بين فكرة الذرة الروحية وبين شخصية ليبنتس على نحو طريف يستحق أن نشير إليه هنا بشيء من التفصيل، فصورة الجوهر الفرد قد تكونت عن طريق تأكيد ليبنتس لذاته في مقابل العالم.
وعبقرية ليبنتس الشاملة كانت تضفي على العالم صورتها. وهكذا تصور الذات على أنها داخلة في تركيب العالم، أو تصور العالم على أن فيه شيئا من طبيعة الذات، فماهية العالم لا تفهم من خلال الموضوعات الممتدة كما تقول الميكانيكا الديكارتية، وإنما تفهم عن طريق تجربة ذاتية، هي بذل الطاقة والإرادة.
هذه الفكرة تعد مظهرا لشعور ليبنتس بالتقابل بين وجوده الذي يؤكد ذاته بوصفه وحدة عقلية أو جوهرا فردا، في مقابل تغير الزمان وتقلباته. وهذا الوجود لا يشعر بذاته وبوصفه شخصا إلا نتيجة الجهد الفكري الذي يبذله من أجل إضفاء صورة على مادة التجربة الحسية. وهكذا فإن مذهب ليبنتس الديناميكي إنما هو «تعبير باطن واع بذاته عن وجوده الخاص؛ إذ إن تحمسه الشديد للنشاط والفعالية إنما يرجع إلى وجوده الخاص»،
4
وبقدر ما يكون للذرة الروحية من إدراكات واضحة تكون فاعليتها، على حين أن الاختلاط في إدراكاتها يعني سلبيتها. وهكذا تتحدد مراتب القيم في هذا المذهب تبعا لدرجة النشاط الروحي أو العقلي، أو وضوح المعرفة الذاتية،
5
ولكي يدلل «ماير» على ارتباط فكرة القوة هذه بصفات ليبنتس الذاتية ومسلكه الخاص في الحياة، يربط على نحو طريف بين النص الذي يؤكد فيه ليبنتس فكرة القوة في كتاب «المونادولوجيا» وبين نص آخر في رسالة سياسية، هي رسالة «الأمن العام» التي كتبها في وقت مبكر من حياته. وفيها يقول: «إن الذهن البشري لا يمكنه أن يسكن؛ فالسكون؛ أي انعدام الحركة نحو المزيد من الإدراك - إنما هو عذاب للذهن، ومن يعرف كل شيء يفقد لذة الكشف. كما أن من يملك كل شيء يفقد لذة الكسب، ومن هنا فقد أحس الإسكندر الأكبر بالقلق من أن يغزو أبوه العالم كله، فلا يترك له شيئا يغزوه»،
6
وفي رأينا أن محاولة ماير هذه وإن تكن تنطوي أحيانا على قدر من الإسراف، فإن فيها عناصر معقولة إلى حد بعيد، فأغلب الظن أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن نرى ذلك المفكر الذي قضى حياته في صحبة الملوك والأمراء، وشعر بسطوة القوة وتأثيرها وأهميتها، وخضع هو ذاته لتأثيرها، وجاهر باحترامه لها، نقول: إنه لم يكن من قبيل المصادفة أن يجعل ذلك المفكر من فكرة القوة أساسا لتفسيره للعالم، ومعيارا للتفرقة بين مراتب الكائنات.
وإذا فجوهر الأشياء جميعا - في رأي ليبنتس - هو القوة عنده تصور أسبق من تصور الحركة نفسه؛ إذ إن الحركة - رغم ما لها من أهمية في تفسير الظواهر - ينبغي أن ترد آخر الأمر إلى نوع من القوة أو النزوع. ومن المؤكد أن ليبنتس قد أدخل تغييرا أساسيا على مفهوم الجوهر حين عرفه على هذا النحو؛ إذ إن الجوهر في الفلسفات التقليدية كان هو العنصر أو الأساس الذي يظل ثابتا من وراء تغييرات الظواهر، على حين أنه يغدو - في معناه الجديد عند ليبنتس - متغيرا فعالا، خاليا تماما من أي عنصر سكوني.
ولم يكن تقريب ليبنتس بين هذه الوحدات الجوهرية الفردية وبين النفوس البشرية مجرد تشبيه فحسب. بل إنه يعني بالفعل أن ذلك النوع الخاص من الوجود - الذي نستشعره في أنفسنا - منتشر في الكون بأكمله ولكن بدرجات متفاوتة؛ ذلك لأن الطبيعة لا تعرف انفصالا ولا طفرات مفاجئة، بل إن «قانون الاتصال» يسري على كل أجزائها؛ ومن هنا قال ليبنتس بنوع من الحيوية أو الوجود الحي في الطبيعة بأسرها، وأكد أن الحياة النفسية منتشرة في جميع نظم الطبيعة، وإن كانت تتخذ صورا غامضة في الكائنات الدنيا، ولا ترقى إلى مرتبة روحية تكتفي بالإدراك وحده
، وأخرى يتوافر لديها الإدراك الذاتي أو الوعي
appercéption
الأولى يسميها بالذرات الروحية المحض أو الكمالات
entétéchies ، والثانية هي النفوس البشرية، التي تتميز عن الأولى بازدياد تميز إدراكها، وبوجود ملكة الذاكرة والوعي لديها، وبمزيد من الإرهاف في حواسها.
وربما رأى البعض - عن حق - أن فكرة بعث الحياة في الطبيعة، أو تصور كل ذرة في الكون على مثال النفس البشرية، تفتح الباب أمام التفسير الأسطوري للأشياء؛ إذ إن الأساطير ما هي إلا محاولة لبعث الحياة في الكون بأكمله، ولتشبيه طبائع الأشياء كلها بطبيعتنا الخاصة. غير أن من المؤكد - رغم ذلك - أن ليبنتس قد أضفى على رأيه هذا طابعا علميا مستمدا من قانون الاتصال الذي أشرنا إليه من قبل؛ فالطبيعة في رأيه تسير على نحو مطرد. وهذا مبدأ أساسي لا غنى عنه للروح العلمية الصحيحة. ومن الخطأ أن نتصور أن ذلك الجزء من المادة - الذي تتألف منه الأجسام البشرية - هو وحده الذي يرتبط بمبدأ نفسي أو روحي، وهو وحده ملكة الإحساس والإرادة، فمعقولية الطبيعة واتساقها مع نفسها تتنافى مع هذا التصور؛ وعلى ذلك فإن الروح العلمية الصحيحة - في رأي ليبنتس - هي التي تحتم القول بانتشار نوع من الحياة النفسية في الطبيعة بأسرها.
ومن المؤكد أن تطور علم الأحياء في عصر ليبنتس كان من أهم الأسباب التي دفعته إلى الأخذ بفكرة انتشار الحياة في الكون بأسره، فقد أتاح المجهر لبعض العلماء - وعلى رأسهم ليفنهوك
Leeuwenhoek - أن يكتشفوا كائنات عضوية دقيقة لا تراها العين المجردة في الأجسام المادية التي تبدو جامدة لا حياة فيها، ووجد ليبنتس في ذلك تأكيدا تجريبيا لرأيه القائل: إن المادة التي تبدو غير حية تنطوي على عالم كامل من الكائنات العضوية الدقيقة المشابهة في طبيعتها لنا. وهكذا تصور الكون كله على أنه جسم عضوي لا متناه يتضمن في ذاته أجساما عضوية صغيرة، وهذه بدورها تنقسم إلى أجسام عضوية لا متناهية في الصغر، فكل جزء من المادة ليس فقط قابلا للقسمة إلى ما لا نهاية، وكل جزء منه يقبل القسمة إلى أجزاء لكل منها حركته الخاصة ... «ومن هذا يتضح أن هناك عالما للمخلوقات وللأحياء وللحيوانات وللكمالات والنفوس في أصغر أجزاء المادة.» «ونستطيع أن نتصور كل جزء من المادة على أنه بستان مليء بالنباتات، أو حوض مليء بالأسماك، غير أن كل فرع من النبات، وكل عضو من أعضاء الحيوان، وكل قطرة من هذه السوائل، هو بدوره بستان أو حوض هكذا، حتى التراب والهواء الواقعان بين النباتات، أو الماء الذي تسبح فيه الأسماك، يحتوي بدوره على مخلوقات دقيقة لا ترى.»
7
فإذا كانت الحياة النفسية والقوة والنزوع منتشرة في الطبيعة بأكملها، فإن ذلك يعني أن كل ذرة تمثل الكون بأكمله، وتشعر بكل ما يحدث فيه، وكما اتضح في كشوف علم الأحياء أن بذرة النبات تنطوي في ذاتها على صورة الكائن بأكمله، وأن في البذرة نوعا من التشكيل الأصلي
، فإن معنى ذلك أن كل ذرة روحية تنطوي في ذاتها على مبدأ جميع تطوراتها المقبلة.
هذه الفكرة الرئيسية في فلسفة ليبنتس كان لها - كما رأينا - أصل تجريبي مستمد من تطور العلوم في عصره. غير أن في وسعنا أن نرجعها إلى أصول أخرى إلى جانب الأصل التجريبي، فقد استمدها ليبنتس من مبدأ منطقي عام، هو المبدأ القائل: إن كل محمول متضمن في الموضوع
omne prqedicatum inest subjecto ؛ بحيث لا تكون فكرته الميتافيزيقية إلا تطبيقا أنتولوجيا لهذا المبدأ المنطقي. وفضلا عن ذلك فربما استطاع المرء أن يردها إلى أصل مستمد من نمط الحياة التي عاشها ليبنتس ذاته؛ ففي حياته الحافلة بالنشاط السياسي والعملي كان كلما فرغ لنفسه وخلا لأفكاره؛ استخرج من ذاته كشفا جديدا أو فكرة رائعة؛ فالذات إذن تنطوي في داخلها على كل شيء، وتطوراتها كلها موجودة فيها ضمنا، وتستخلص منها بالاستنباط، وهي رغم عزلتها تعكس العالم كله وتمثله، مثلما كان ذهنه يعكس معارف عصره كلها ويمثلها. ولقد كانت لهذه الفكرة الرئيسية؛ أعني فكرة تمثيل الذرة الروحية الواحدة للكون بأسره؛ بحيث تكون «مرآة» ينعكس عليها الكون في صورة مصغرة، وانطواء كل ذرة روحية على عناصر تطورها المقبل كلها، كانت لهذه الفكرة نتائج فلسفية متعددة، سنورد فيما يلي أهمها:
أولى هذه النتائج هي القضاء على الحد الفاصل بين الكون والفساد والميلاد والممات بحيث لا تكون هذه الأضداد إلا حالات طارئة تتعاقب على الذرات الروحية فحسب، ويؤكد ليبنتس أنه لا يعترف بوجود نفس خاصة تظل مرتبطة بكتلة معينة من المادة وتقتصر على رعاية شأنها؛ «ذلك لأن الأجسام كلها في صيرورة دائمة كالأنهار، وهناك أجزاء تدخل فيها وتخرج منها بلا انقطاع ... ويترتب على ذلك أنه لا يوجد كون تام، ولا فساد أو موت كامل بالمعنى الدقيق، يكون قوامه مفارقة النفس. وليس ما نسميه بالكون إلا نماء وزيادة، مثلما أن ما نسميه بالموت إنما هو ضمور ونقصان.»
ومن النتائج المترتبة على القول بأن الذرة الروحية مرآة ينعكس عليها الكون كله، الاعتقاد بإمكان تحصيل معرفة كاملة عن طريق مجموعة من الأفكار البسيطة مرتبة ترتيبا صحيحا، فالأفكار البسيطة تؤدي على المستوى المعرفي نفس الدور الذي تؤديه الذرات الروحية على المستوى الأنتولوجي، وهي بدورها تعكس عالم المعرفة بأسره، وتكشفه لمن يستطيع أن يستنبطه منها. ولقد كان هذا الاعتقاد ملازما لتفكير ليبنتس منذ شبابه المبكر، وظل على الدوام مؤمنا بإمكان وجود «أبجدية الفكر البشري»، وبإمكان التوصل إلى ذلك «العلم الإلهي» القائم على التحليل والرمزية والتركيب الجامع. وكان ذلك في رأيه أهم الأهداف وأجدرها بجهد الإنسان وسعيه، فإذا أمكن الاهتداء إلى قائمة كاملة بالأفكار البسيطة، وبالعناصر الأولية التي لا تقبل الانقسام في كل فكر بشري، فمن الممكن عندئذ أن نرمز لكل منها بعلامة، ويصبح استنباط كل الحقائق التي لم تكشف بعد مسألة حساب وجمع فحسب، وعلى هذا النحو ينشأ «علم كلي»
Scientia universalis
يتيح للإنسان فهم أدق أسرار الكون بطريقة حسابية رياضية دقيقة. ولقد كانت الخطوة الهامة التي اتخذها ليبنتس في سبيل بلوغ هذا الهدف، هي وضعه للدعائم الأولى للمنطق الرياضي، الذي قصد منه أن يكون أداة تدوين هذه المعرفة البشرية الشاملة. وفي هذا المجال كان ليبنتس رائدا لحركة لم تستأنف سيرها إلا بعد وفاته بما يقرب من مائة وخمسين عاما، ورغم أن المنطق الرياضي الحديث لا يضع لنفسه - في الوقت الراهن على الأقل - مثل هذا الهدف الطموح الذي قصد إليه ليبنتس، فإنه يدين لهذا الأخير قطعا بفضل التمهيد لظهوره والقيام بالأبحاث الأولى التي أدى تطورها إلى نضوج هذا العلم.
أما النتيجة الثالثة لرأي ليبنتس هذا فهي فكرة الانسجام، وقد ظهرت هذه الفكرة عند ليبنتس نتيجة لوجود صفتين متعارضتين - الظاهر - للذرات الروحية عنده؛ فكل ذرة هي - حسب تعريفها - فردية تماما، منطوية على نفسها، ليست لها «أبواب ولا نوافذ» تطل منها على العالم الخارجي، غير أنها - من جهة أخرى - تعكس العالم كله من وجهة نظرها الخاصة، فكيف إذن يتسنى تحقيق الاتفاق بين وجهات نظر الذرات الروحية كلها؟ لا بد لذلك من وجود نوع من «الانسجام المقدر»
harmonie préétablie
بين الكائنات كلها في الكون، ومصدر هذا الانسجام هو الإرادة الإلهية، التي شاءت أن تتفق إدراكات النفس الواحدة مع إدراكات كل نفس أخرى، مع أن كلا من هذه النفوس مقفلة تماما على ذاتها، ولا سبيل إلى اطلاعها على ما يحدث في الأخريات. وهكذا يرى ليبنتس أن الأصل الإلهي المشترك لكل النفوس هو الذي يضمن منذ الأزل حدوث انسجام بين إدراكاتها؛ بحيث يكون قد قدر لها منذ البداية أن تكون صورة متوافقة متسقة لعالم واحد رغم اختلاف وجهات نظرها إليه.
وتؤدي فكرة الانسجام هذه إلى حل مشكلة العلاقة بين النفس والجسم على نحو يلائم اتجاه ليبنتس الفكري الخاص. ولعل أفضل وسيلة لعرض طريقة ليبنتس الخاصة في اتخاذ فكرة الانسجام سبيلا إلى فهم العلاقة بين النفس والجسم، هي أن نقدم مقتطفات من نصوصه التي يظهر فيها رأيه في هذه المشكلة بوضوح كامل.
يشرح ليبنتس في رسالة له أصبحت تعرف - ضمن مجموع مؤلفاته - باسم «الإيضاح الثاني»
deuxiéme éclaircissement ، رأيه في هذا الموضوع من خلال تشبيه طريف فيقول: «لنفرض أن هناك ساعتين متفقتين تماما كل مع الأخرى في الدلالة على الوقت، مثل هذا الاتفاق يمكن أن يحدث على واحد من أنحاء ثلاثة: أولها أن يكون هناك تأثير متبادل على الواحدة في الأخرى، والثاني أن يكون الاثنتان معا خاضعين لعناية مستمرة من مشرف يدأب على ضبطهما، والثالث أن تظل كل منهما بذاتها دقيقة تماما في ضبط الوقت، والطريقة الثالثة تقتضي صنع الساعتين منذ البداية بمهارة وفن يضمنان لنا اتفاقهما في المستقبل، وتلك هي الطريقة التي أطلق عليها اسم الاتفاق المقدر، فإذا وضعنا النفس والجسم محل الساعتين؛ لوجدنا أن اتفاقهما أو انسجامهما يمكن أن يحدث على واحدة من طرائق ثلاث: الأولى هي طريقة التأثير، وهي طريقة الفلسفة الشائعة. ولكن لما لم يكن ثمة وسيلة لتصور الطريقة التي يمكن بها أن تنتقل الدقائق المادية أو الصفات اللامادية أو الأنواع الحسية من أحد هذين الجوهرين إلى الآخر، فمن الواجب التخلي عن هذا الفرض. أما طريقة الاستعانة بمشرف فهي مذهب العلل الفرضية
causes occasionnelles ، ولكني أرى أن ذلك يعني إقحام الألوهية في حادث طبيعي مألوف ينبغي - وفقا للمبادئ العقلية - ألا يتدخل فيه شيء مضاد للمجرى العام للحوادث الطبيعية، فلا يتبقى إذن سوى فرضي - أعني طريقة الانسجام المقدر - التي نقول فيها إن القدرة الإلهية الأزلية قد صاغت الجوهرين منذ البداية ونظمتهما بدقة تبلغ من الكمال حدا يجعل كلا منهما، في سيره وفقا لقانونه الخاص الذي اكتسبه مع وجوده، يتفق تماما مع الآخر وكأن هناك تأثيرا متبادلا، أو كأن الله يتدخل بيده دائما ليحدث هذا الاتفاق العام»، ويزيد ليبنتس فكرته وضوحا حين يقول في «المونادولوجيا»:
ولقد أتاحت لي هذه المبادئ أن أهتدي إلى تفسير طبيعي للاتحاد أو الاتفاق بين النفس والجسم العضوي؛ فالنفس تتبع قوانينها الخاصة، والجسم كذلك يتبع قوانينه الخاصة، وهما يلتقيان بفضل الانسجام المقدر بين جميع الجواهر، ما دامت الجواهر كلها تمثل كونا واحدا، فالنفوس تسلك - وفقا لقوانين العلل الغائية - عن طريقة النزوع أو الرغبة
appétiton
والغايات والوسائل. أما الأجسام فتسلك وفقا لقوانين العلل الفاعلة أو الحركات، والعالمان - عالم العلل الفاعلة وعالم العلل الغائية - منسجمان فيما بينهما.
8
وهكذا ينتقد ليبنتس نظرية ديكارت، التي تقول بتأثير الجسم والنفس كل منهما في الآخر، على أساس استحالة هذا التأثير بين جوهرين: أحدهما مادي والآخر لا مادي ، وينتقد نظرية مالبرانش التي تجعل تأثير النفس في الجسم مجرد «فرص» أو «مناسبات» لتدخل القوة الإلهية. ومن المؤكد أن ليبنتس - رغم أنه قد اعتاد التخلص من كل مشكلة تعترضه بالالتجاء إلى فكرة العناية الإلهية - كان في هذه الحالة يخفف من غلواء النزعة الدينية المتطرفة عند مالبرانش، الذي جعل التدخل الإلهي مستمرا في كل لحظة يحدث فيها تأثير من النفس في الجسم أو العكس. وليس معنى ذلك أن ليبنتس قد أنكر تدخل المبدأ الإلهي. ولكنه جعل هذا التدخل يقتصر على فعل الخلق الأصلي، الذي أدى إلى وجود الذرات الروحية أو الجواهر البسيطة، ولما كان هذا الفعل كاملا منذ البداية، فإن كل شيء يسير بعد ذلك في طريقه السليم، ويتحقق الانسجام التام بين الجسم والنفس، على الرغم من أن كلا منهما يسلك وفقا لطبيعته الخاصة، ولا يخضع إلا للقوانين التي تقتضيها هذه الطبيعة.
على أن الانسجام بين الجسم والنفس - داخل الكائن البشري - إنما هو تعبير جزئي عن ذلك الانسجام الأكبر الذي يسود الكون بأسره، فقد كان من الطبيعي أن يؤمن ليبنتس بأن العالم منظم ومعقول، وبأنه لا وجود لشيء ممتنع أو شاذ أو خلو من المعنى. وهكذا يستطيع العقل الخالص أن يدرك كل ما في الكون تبعا لما فيه من ضرورة، ولما له من دلالة، ويختفي الشر من العالم، ويصبح كل شيء منظما واضحا معقولا، ولا يخلو العالم من كل خطأ وكل نقيصة، وهذه الفكرة واضحة كل الوضوح من العبارة الأخيرة في النص الذي اقتبسناه منذ أسطر قليلة، والتي أكد فيها وجود انسجام بين عالم العلل الفاعلة وعالم العلل الغائية. وبعبارة أخرى: فحين يسير كل شيء تبعا لقانونه الطبيعي الخاص، يكون في الوقت ذاته قد حقق الغاية الإلهية المقصود منه، وتفسير الأشياء علميا يتفق وينسجم مع تفسيرها في ضوء الحكمة الإلهية، «فلا شيء في الكون يضيع بددا، ولا شيء عقيم أو ميت، ولا اضطراب ولا خلط إلا في الظاهر فحسب.»
9
في هذا العالم الذي يسوده الانسجام، والذي هو - في رأي ليبنتس - أفضل عالم ممكن؛ لأن الكمال الإلهي يحتم ألا يتحقق بالفعل إلا أكمل ما يمكن أن يتحقق، في هذا العالم المنظم - الذي يتكشف كل شيء فيه للعقل وللمنطق - تقف النفوس في مراتب يعلو بعضها على بعض، وتحتل المرتبة العليا فيها تلك الأرواح العاقلة التي هي صورة للألوهية، والتي ترتبط بالله في علاقة أشبه بعلاقة المخترع بآلته، بل الحاكم برعاياه والأب بأبنائه،
10
هذه الأرواح العاقلة يكون مجموعها ما أطلق عليه ليبنتس اسم «مدينة الله»، أي «أكمل دولة يحكمها أكمل الملوك.»
ويختتم ليبنتس كتاب «المونادولوجيا» بفقرات شعرية الأسلوب، تتضمن إطراء «لمدينة الله» هذه وتمجيدا لما يسودها من خير ونظام. وفي هذا النص يقول: «هذه المدينة الإلهية وهذه المملكة الشاملة بحق، هي عالم أخلاقي في العالم الطبيعي، وهي أرفع أعمال الله وأكثرها ألوهية. وفيها يكون المجد الإلهي بحق؛ إذ إن هذا المجد ما كان ليوجد لو لم تكن الأرواح تدرك عظمته وخيرته وتعجب بها. وفي هذه المدينة الإلهية تتبدى خيرية الله حقا، على حين أن حكمة الله وقدرته تتبدى في كل شيء.» «وكما أثبتنا من قبل وجود انسجام كامل بين مملكتين طبيعيتين: إحداهما مملكة العلل الفاعلة والأخرى مملكة العلل الغائية، فينبغي أن نلاحظ هنا انسجاما آخر بين المملكة المادية - مملكة الطبيعة - وبين الممالك الأخلاقية، مملكة اللطف الإلهي
grâce ؛ أي بين الله، منظورا إليه على أنه مهندس آلة الكون، والله منظورا إليه على أنه ملك مدينة الأرواح الإلهية.
هذا الانسجام يجعل الأشياء تؤدي إلى اللطف الإلهي بنفس مسالكها الطبيعية؛ بحيث ينبغي مثلا أن يدمر العالم ويقوم بالطرق الطبيعية في اللحظات التي تقتضيها حكم الأرواح، من أجل عقاب بعضها ومثوبة البعض الآخر.»
ويمكن القول أيضا: إن بوصفه صانعا
architecte
يرضى في كل شيء الله بوصفه مشرعا، وإن الخطايا - بالتالي - ينبغي أن تنطوي في ذاتها على عقوبتها وفقا لقانون الطبيعة، وبفضل التركيب الآلي للأشياء، وإن الأفعال الصالحة - بالمثل - تجتذب بطرق آلية بالنسبة إلى الأجسام، وإن لم يكن من الممكن أن يحدث ذلك دائما على الفور. «وأخيرا، ففي هذا الحكم الكامل لا يمكن أن يكون هناك فعل صالح دون ثواب، ولا حكم فاسد دون عقاب، ولا بد أن ينته كل شيء إلى تحقيق صالح الأخيار، وهذا ما يجعل الأشخاص الحكماء والفضلاء يحرصون على فعل كل ما يبدو متفقا مع الإرادة الإلهية المتوقعة أو المستبقة، ويرضون مع ذلك بما يصدر عن الله بالفعل عن طريق إرادته الغامضة، التي هي متسقة وحاسمة؛ ذلك لأنهم يدركون أنه لو كان في وسعنا فهم نظام الكون فهما كافيا؛ لوجدناه يفوق ما يتمناه أحكم الناس، ولاتضح لنا أن من المستحيل جعله أفضل مما هو، ليس فقط بالنسبة إلى الكون في مجموعه، بل أيضا بالنسبة إلينا على التخصيص، وذلك إذا ما تعلقنا كما ينبغي بخالق الكل، لا بوصفه صانع وجودنا وعلته الفاعلة فحسب، بل أيضا بوصفه سيدنا، والعلة الغائية التي ينبغي أن تكون هي الهدف الكامل لإرادتنا، والتي تكون فيها وحدها سعادتنا.»
11
في هذه العبارات الصوفية التي يختتم بها كتاب «المونادولوجيا» يعبر ليبنتس بدقة عن نظرته العامة إلى الكون، وهي النظرة التي حاول فيها - كما قلنا في حديثنا عن الاتجاه العام لفلسفته - أن يوفق بين العلم والدين على قدر استطاعته. ولقد اتهم ليبنتس بأنه يلجأ إلى فكرة العناية الإلهية ليتخلص بها من كل صعوبة فلسفية تواجهه، ولو تأملنا النص السابق جيدا، لوجدنا لهذا الاتهام ما يبرره؛ إذ يصل به الأمر إلى حد الدعوة فلسفيا إلى قبول كل ما يحدث في الكون، حتى ما لا يكون في ذاته مفهوما أو معقولا؛ على أنه مظهر لحكمة إلهية غامضة لا نستطيع أن نحيط بجميع أطرافها، ولا يمكننا أن ندرك مقاصدها الحقيقة بعقولنا القاصرة. ولقد كان من الطبيعي أن يلجأ هذا المفكر - الذي قضى حياته وسط الملوك والأمراء والحكام - إلى تشبيه الكون بمملكة إلهية، وتشبيه الله بالحاكم أو «أكمل الملوك»، وشتان ما بين طريقة التفكير هذه وطريقة تفكير اسبينوزا (معاصره الأكبر سنا) الذي طالما نبه إلى خطأ تصور الناس لآلهتهم من خلال تصورهم لحكامهم.
ومع ذلك فإننا لا نستطيع أن ننكر لليبينتس فضلا كبيرا، هو أن تأكيده لفكرة الغائية والحكم الكونية لم يتم على حساب القوانين الطبيعية، فهو لم يكن - مثل مالبرانش - على استعداد للتضحية بانتظام الطبيعة واطراد قوانينها في سبيل تأكيد القدرة الإلهية، وإنما حرص على تأكيد الاتفاق أو الانسجام بين انتظام الطبيعة وغائيتها، أو - حسب تعبيره في النص السابق - بين الله بوصفه صانعا والله بوصفه مشرعا. وربما كان ذلك أقصى ما يستطيع أن يفعله شخص مثل ليبنتس، كان ذا عقلية علمية نفاذة من جهة. ولكنه كان من جهة أخرى صفيا ومستشارا لحكام رجعيين، وسواء آمن المرء أم لم يؤمن بالفرض الذي يقول به رسل، من أن ليبنتس كان ذا فلسفتين؛ إحداهما لاهوتية هي تلك التي أذاعها في كتاب «الحكمة الإلهية»، والأخرى علمية هي تلك التي تضمنتها أبحاثه وكتاباته المختلفة، فمن المؤكد، على أية حال، أن ليبنتس قد صان حقوق العلم، في نفس الوقت الذي حاول فيه - عن طريق فكرة الانسجام - أن يجعل للاهوت دورا في تفسيره للعالم.
العالم إرادة وتمثلا لشوبنهور
(1) حياة شوبنهور
إذا كان تفسير آراء كثر من الفلاسفة من خلال وقائع حياتهم يخفق في أحيان غير قليلة، فإنه ينجح قطعا في حالة شوبنهور؛ لأن وقائع حياته تكشف نقاطا كثيرة في مذهبه الفكري، أو على الأقل ترتبط بهذه النقاط ارتباطا واضحا، وهو في ذلك على النقيض من أستاذه «إيمانويل كانت»، الذي لم يكن النمط الرتيب الجاف الذي سارت عليه حياته يكشف عن أي شيء من آرائه، ولا يمكن أن يرتبط بأية طريقة خاصة في التفكير، وستتضح هذه الحقيقة عن شوبنهور بجلاء خلال العرض الذي سنقدمه لحياته.
ولد أرتور شوبنهور
Arthur Schopenhauer
في مدينة دانتسج في 22 فبراير عام 1788م. وكان أبوه تاجرا ثريا، يهتم بعض الاهتمام بالمسائل الثقافية. غير أنه كان يتميز بنوع من الاستقلال في الآراء وجفاف الطبع. أما أمه فكانت امرأة ذات مواهب عقلية رفيعة، اشتهرت يوما ما بوصفها كاتبة قصصية. وكان لها فيما بعد منتدى أدبي (صالون) في فيمار. ولقد أبدى «أرتور» في طفولته مقدرة عقلية ممتازة، وعكف بعد ذلك على دراسة العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، ثم انتقل إلى دراسة الفلسفة في وقت متأخر نسبيا في جامعتي جوتنجن وبرلين. وفي عام 1813م ألف أول كتبه، وهو «الأصل الرباعي لمبدأ السبب الكافي»، وهي رسالة حاز بها درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة يينا، وعرض فيها نظرية في المعرفة مبنية على رأي «كانت» في مثالية الزمان والمكان والمقولات.
وفي خلال إقامته في درسدن - في المدة من سنة 1814م إلى سنة 1818م - أنتجت عبقريته الخلاقة كتابا فلسفيا ضمنه خلاصة تفكيره. وكان سنه عندما انتهى منه ثلاثين عاما، فكان مما يدعو إلى الدهشة حقا أن يكتمل تفكيره ويبلغ كل هذا القدر من النضح وهو في هذه السن المبكرة. هذا الكتاب - الذي عبر عن مذهب شوبنهور أكمل تعبير - هو «العالم إرادة وتمثلا»، وعنوانه في الألمانية
Die Welt als Wille und Vorstellung ، وإنه لمن الأمور التي تسترعي النظر أن شوبنهور قد عاش واحدا وأربعين عاما بعد نشر هذا الكتاب، لم يجد خلالها ما يدعوه إلى الرجوع عن أفكاره الرئيسية التي تضمنها كتابه هذا. ومن المعروف أنه كان منذ حداثته يحتفظ بكراسة مذكرات يدون فيها ما يخطر له من الأفكار. وهكذا كان الكتاب تعبيرا موضوعيا عن نظرته العامة إلى الحياة، تلك النظرة التي لم يتخل عنها إلى النهاية.
وفي سنة 1819م تولى شوبنهور منصبا للتدريس بجامعة برلين، فبلغت به الجرأة أن حدد لمحاضراته نفس مواعيد محاضرات هيجل. ولكنه بطبيعة الحال لم يستطع أن يجتذب المستمعين من فيلسوف ألمانيا الأكبر. وفي سنة 1821م اعتزل التدريس، ثم اعتكف في «فرانكفورت آم مين»، حيث عاش حياة منعزلة موحشة بلا أصدقاء سوى كلب أطلق عليه اسم «آتما» (وهي «النفس الكلية» عند الهنود). وكان سبب اعتكافه هذا واضحا، فقد أخفق تماما في التدريس. كما أن كتابه الرئيسي لم يلق أي نجاح، في الوقت الذي كان يرى فيه هيجل وشلنج وفشته - الذين كانوا في رأيه أقرب إلى الدجل منهم إلى الفلسفة الصحيحة، يرفعون إلى مصاف العباقرة، ويلقون أعظم النجاح في جميع الأوساط، وظل شوبنهور يعيش هذه الحياة الموحشة المعتمة، مع تأليف كتب أخرى أقل أهمية، حتى مات عام 1860م. ولكن الشهرة كانت قد بدأت تهبط عليه في العقد الأخير من حياته، وخاصة عندما ألف «يوليوس فراونشتت
Julius Frauenstädt » كتابه «رسائل عن فلسفة شوبنهور
Briefe über die Schopenhauersche philosophi ». ولكن كان واضحا أن الشهرة قد أتت بعد فوات الأوان، إذ لم تفلح في إضفاء أي قدر من البهجة على حياته الكئيبة. (2) مؤلفات شوبنهور
بدأ شوبنهور حياته التأليفية - كما قلنا - بكتابه الأصل الرباعي لمبدأ السبب الكافي
über die Vierfache Wurzel des satzes vom zureichendem Grunde . وهذا الكتاب يكون مدخلا ضروريا إلى فهم كتابه الرئيسي الذي نحن بصدده، وإن يكن قد تأثر فيه بكانت أكثر مما ينبغي، وبعد عامين (أي في 1815م) ألف كتابا في نظرية الألوان، بعنوان «الأبصار والألوان»
über das Sehen und die Farben ، ثم كتابه الرئيسي «العالم إرادة وتمثلا» في سنة 1819م. وفي فترة عزلته الأخيرة ألف عن «الإرادة في الطبيعة»
Uber das Willen in der Natur
عام 1836م، وكتاب «المشكلتان الأساسيتان في الأخلاق»
Die beide Grund probleme der Ethik
في عام 1841م، وكذلك كتاب «تكملات وإضافات
» عام 1851م.
على أن شوبنهور لم يكن قد اكتفى بالجزء الذي تحدثنا عنه من كتابه الرئيسي «العالم إرادة وتمثلا»؛ ففي عام 1844م؛ أي بعد خمسة وعشرين عاما من ظهور الطبعة الأولى، أخرجه في طبعة ثانية تتألف من مجلدين؛ كان المجلد الأول منهما مماثلا تقريبا للطبعة الأولى. أما المجلد الثاني فكان يتألف من خمسين فصلا تتضمن مناقشات تدور حول الأفكار الرئيسية التي تضمنها المجلد الأول. ولقد كان لهذا المجلد الثاني طابع موسوعي جامع، يشهد بمدى نضوج تفكير شوبنهور وتعمقه؛ بحيث أصبح المجلدان معا يكونان عملا من أعظم الأعمال الفلسفية على الإطلاق. (3) الأفكار الرئيسية في كتاب «العالم إرادة وتمثلا»
قلنا: أن الإلمام بكتاب «الأصل الرباعي لمبدأ السبب الكافي» ضروري من أجل فهم كتاب شوبنهور الرئيسي الذي هو موضوعنا الآن؛ إذ إن شوبنهور كثيرا ما يشير إليه في كتابه الكبير، ولا سيما في المجلد الأول، حيث ذكر صراحة أن هذا المجلد لا يفهم إلا إذا اتخذ الكتاب الآخر مقدمة له؛ ففي كتاب «الأصل الرباعي» هذا يناقش شوبنهور نظرية المعرفة، ولا سيما مشكلتها الرئيسية، مشكلة الإدراك الحسي، وهو يرى أننا عندما ندرك شيئا بحواسنا، لا تنقل إلينا الحواس سوى مواد بسيطة، لا تكفي لكي نعرف شيئا بالمعنى الصحيح، وإنما تقوم ملكة الإدراك لدينا - وهي ملكة ذهنية - بتكملة ما يرد إلينا من الحواس، وتكملتها هذه أساسية، حتى إننا نستطيع أن نقول إن إدراكنا «عقلي» لا «حسي»، وإن ذهننا هو الذي يكون صورة العالم الخارجي بما فيها من تنوع وثراء؛ ففيم تنحصر فاعلية هذا الذهن؟ وما هي العناصر التي يأتي بها من ذاته لكي يصبغ العالم بصورته الخاصة؟ لقد سبق أن قال الفيلسوف الألماني «كانت»: إن هذه العناصر هي «المقولات» الاثنتا عشرة، التي لا يعنينا هنا أن نعددها كلها. ولكن شوبنهور يختبر رأي «كانت» هذا بدقة، فيستبعد إحدى عشرة مقولة من هذه؛ ليستبقي واحدة فقط يرى أنها هي الأساسية؛ تلك هي مقولة العلية، وهو يضيف إليها صورتي المكان والزمان، وهما بدورهما ذاتيتان لا وجود لهما خارج الذهن؛ أي إنهما - كالعلية - وظيفتان باطنتان لذهننا، تصاغ فيهما كل تجربة ممكنة يدركها الإنسان؛ فكل ما حولنا، وما يخطر ببالنا وما يتراءى لنا بطريق مباشر أو غير مباشر، وهو إما علة أو معلول، وهو يحتل مكانا ويمر في زمان، وعن طريق هذه الصور الثلاث ينظم ذهننا العالم الخارجي والعلاقات بين الأشياء فيه، وهذه المعاني الثلاثة ليست مستمدة من التجربة. بل إن التجربة لا تكون ممكنة إلا إذا صيغت فيها، فتلك الصور الثلاثة إذن «أولية
Apriori ».
ويلخص شوبنهور تلك الصفة التي تكون الأشياء بموجبها معتمدة على الذهن، ومرتبطة بعضها ببعض في الإطار الذهني، بقوله: إن الأشياء تخضع لمبدأ السبب الكافي، ولهذا المبدأ أربعة مظاهر (هي التي تكون «أصله الرباعي»)، أولها مظهر التغير؛ فهو يتخذ أولا مظهر قانون العلية الذي يتحكم في تغير الظواهر ويربطها بعلاقة المعلول، هو يتخذ ثانيا مظهرا منطقيا مجردا، تكون فيه المقدمة المنطقية علة أو أساسا للنتيجة، وله مظهر ثالث هو الوجود في المكان والزمان، كما هي الحال في قضايا الهندسة التي تؤدي فيها إحدى العلاقات إلى علاقة أخرى بالضرورة. وأخيرا يتخذ مظهرا نفسيا أو أخلاقيا في الإنسان، حيث يؤدي الباعث المعين إلى ظهور فعل معين. وهكذا فإن مبدأ السبب الكافي يتناول الصورة التي «نتمثل» العالم عليها، وهو يتعلق «بشكل» العالم كما يتبدى لنا؛ أي بالطابع الذي يضفيه ذهننا عليه. ولكن لا بد من أن يكون هناك - من وراء هذا الشكل أو الطابع الذي يظهر عليه العالم لذهننا - كيان باطن هو الذي أطلق عليه «كانت» اسم «الشيء في ذاته»، وهو الذي يمكننا أن نعده قلب الوجود الحقيقي، تمييزا له من المظهر الذي يتبدى عليه هذا الوجود لإدراكنا.
وإذا كنا قد توسعنا قليلا في شرح آراء شوبنهور في هذا الكتاب؛ فذلك لأن هذه الآراء ترتبط مباشرة بأفكاره الرئيسية في كتاب «العالم إرادة وتمثلا»، وتمهد الطريق لمذهبه الكامل الذي يفترضها مقدما.
فهو يبدأ كتابه بالحديث عن العالم من حيث هو مظهر؛ أعني العالم من حيث هو موضوع لإدراكنا عالم الأشياء وعالم الطبيعة. هذا العالم في أساسه تمثل
Vorstellung : أي إن الذات التي تدركه هي التي تجعله موضوعا لها؛ ومن هنا فهو «تمثلي»؛ أي إنني أنا الذي أمثله لنفسي على نحو ما. ولقد أيدت أبحاث العلوم الطبيعية هذا الرأي؛ إذ قالت بأن الألوان أو الأصوات ذاتية، أي إنها ليست صفات في الأشياء نفسها، بل تضفيها الذات على الأشياء، وأكده الفيلسوف الألماني «كانت»، حين جعل المكان والزمان صورا ذاتية، وكذلك المقولات التي تفهم الذات من خلال العالم الخارجي، وإن يكن شوبنهور قد اختلف مع «كانت» - كما قلنا - في عدد المقولات وأهميتها النسبية.
على أن هناك عنصرا أساسيا في العالم لا يخضع لصفة «المظهرية» هذه، أي لا يتبدى من خلال أشكال تخلعها عليه ذاتنا، وإنما يتبدى في أصالته وعلى نحو مباشر، فإذا كان جسم الإنسان يخضع لشروط الزمان والمكان والعلية، فإننا نشعر أيضا بأن لنا كيانا آخر لا يخضع لهذه الشروط، ولا يتغير بتغير الزمان أو المكان، ويستطيع التغلب على قيود العلية، أو البدء في أفعال جديدة دون الخضوع لهذه القيود، ذلك الكيان هو «الإرادة»؛ فالجسم ذاته يعد - بالنسبة إلى هذه الإرادة - «مظهرا» لها، تدفعه حيث شاءت، وتتحكم فيه بشروطها الخاصة، ويمد شوبنهور نظرته هذه إلى الطبيعة بأسرها، فمن الممكن أن نتصور الكون كله على مثال الإنسان، بحيث يكون المجرى المادي للظواهر الطبيعية مماثلا لجسم الإنسان، بينما يوجد من وراء هذا المجرى المادي كيان آخر للطبيعة تتمثل فيه ماهيتها الحقيقية، ويكون هو «الإرادة» المنبثة في كل أرجاء الكون، والقوة المتحكمة فيه؛ فكل ما نعرفه في الطبيعة من قوى وطاقات تنتج أفعالا وتأثيرات، إنما هي أشكال تتجلى فيها الإرادة الشاملة في العالم. وهكذا يستمد شوبنهور من فكرة «القوة» أو «الطاقة» - التي تلعب دورا هاما في العلوم الفيزيائية - تأييدا لرأيه القائل: إن الماهية الأصلية للكون إرادة تتحكم في ظواهره المادة مثلما تتحكم الإرادة البشرية في ظواهر الجسم الإنساني، ولا يقتصر الأمر على الظواهر الفيزيائية وحدها. بل إن هناك إرادة واحدة من وراء كثرة الظواهر الفسيولوجية والنفسية. وهكذا فبينما تقوم علوم الفيزياء والبيولوجيا وعلم النفس بملاحظة الظواهر الكثيرة موضوعيا، وتحديد قوانينها في المكان والزمان، وتعيين ما هو علة وما هو معلول منها، فإن هناك مبحثا آخر - هو «الميتافيزيقا» - مهمته أن ينفذ من وراء هذه الكثرة الموضوعية إلى الكيان الأصلي الذي يتحكم فيها، وهو «إرادة» العالم.
فإذا كانت ماهية الإنسان وماهية الكون الأصلية هي الإرادة، فلا جدال في أن الصورة التي سترسم لحياة الإنسان ولمجرى الكون ستكون قاتمة إلى حد بعيد؛ ذلك لأن الإرادة ليست مبدأ عاقلا منظما، يستهدف غايات محددة ويسير نحو تحقيقها تبعا لخطة مرسومة، وإنما هي أساسا اندفاع أعمى، وقوة طاغية لا ضابط لها ولا نظام. أما ذلك الذي نطلق عليه اسم العقل أو الروح أو الذكاء، فما هو إلا أداة في يد هذه القوة الغاشمة تتحكم فيها تتحكم فيها كما تشاء، وطالما أنها هي المبدأ الأساسي في الكون، فلا بد أن يكون تاريخ البشرية كله سجلا للأعمال المتخبطة لهذه الإرادة، مثلما أن التاريخ الفردي حافل بالخداع، خلو من المعنى، ليس له من نهاية سوى الموت المحتوم؛ فالعالم في أساسه لا معقول، ومضاد لكل منطق.
وليس من الصعب أن يدرك المرء في هذه الصورة المعتمة التي رسمها شوبنهور للعالم. وفي التشاؤم الذي أصبح طابعا مميزا لفلسفته، صدى للإخفاق الذي لقيه في حياته، ولعجزه عن تحقيق رغباته واضطراه إلى اعتزال عالم الناس. ولكنه في الوقت نفسه يمكن أن يعد مظهرا من مظاهر أمانته العقلية نزاهته الأخلاقية؛ إذ لم يستطع أن يعيش طويلا مع الأكاذيب، أو أن يوفق بين ضميره وبين الخداع الذي واجهه في الحياة، فآثر أن يبتعد عن المجتمع ويعلن عداءه للحياة بدلا من أن ينافقها ويتعايش معها من وراء ضميره. ولقد تمكن خلال هذه النظرة التشاؤمية، المترفعة عن واقع الناس، من أن يتعمق في طبائع البشر وهو ينظر إليها عن بعد، وأن يكتسب دقة نادرة في ملاحظة النفس البشرية ونواحي الضعف فيها، فأثبت في كتاباته أنه عالم نفسي من الطراز الأول، وذلك في مجال الفهم العلمي لطبيعة الإنسان، لا في المجال النظري بطبيعة الحال، ونجم عن ذلك أن اكتسب فلسفته طابعا شخصيا إلى حد بعيد؛ بحيث يشعر قارئه على التو بالصلة الوثيقة بين الفكر والمفكر، على عكس الحال في مذهب خصمه «هيجل»، الذي حرص على أن يكون مذهبه لا شخصيا، وعلى أن ينسب إليه حقيقة موضوعية تعلو على تغيرات الزمان والمكان، وإذا كان مذهب شوبنهور قد افتقر إلى مثل هذه الحقيقة الموضوعية، فلا جدال في أنه قد عوضها بحقيقة أخرى ذاتية نحس فيها بحرارة الشخصية الإنسانية التي خلقت هذه الحقيقة، وبصدقها وإخلاصها الكامل.
ولكن هناك، مع كل هذا الطابع التشاؤمي وكل هذه اللامعقولية التي يتسم بها العالم، طريقا إلى الخلاص. وهذا الطريق له مرحلتان: مرحلة مؤقتة، ومرحلة نهائية كاملة، والمرحلتان معا تتميزان بمحاولة قمع أصل الشر في العالم وهو الإرادة.
أما المرحلة المؤقتة؛ فهي مرحلة الفن؛ ففي الفن يمارس الإنسان نشاطا خاصا، لا يؤثر فيه نزوع الإرادة أو طموحها، ويتحرر من كل الأغراض والأهداف المميزة للإرادة، فأنت حين تمارس نشاطا فنيا، لا تفعل ذلك لأن لإرادتك هدفا محددا تريد بلوغه. بل إن هذا النشاط خالص من كل غرض، وما هو إلا تأمل لأنماط وصور خالصة، وهو يعلو على الصفات الجزئية في الأشياء، ويتأملها في صورتها الكلية الخالصة؛ ففي العمارة نرى فاعلية القوة خالصة. وفي الفنون التشكيلية نتمثل الشكل الإنساني والحيواني في صفاته الحيوية الخالصة. كما أن الشعر يكشف لنا عن طباع الإنسان ومشاعره بوجه عام. أما الموسيقى فهي أعلى الفنون جميعا؛ إذ إنها تكشف عن إرادة العالم ذاتها في عالم الإيقاع والأنغام الذي تفتح آفاقه لنا؛ فهي فن الصورة الخالصة، لا الصورة المكانية أو العينية الجزئية، وهي لا تكشف لنا عن هذه العاطفة أو تلك، وإنما عن العاطفة بما هي كذلك؛ فالعالم - كما يقول «شوبنهور» - موسيقى متجسدة، مثلما أنه إرادة متجسدة.
وأما المرحلة النهائية للخلاص من قبضة الإرادة؛ فهي مرحلة الأخلاق، ويتم الخلاص الكامل - في مجال الأخلاق - بإدراك الإنسان أن الموجودات كلها تكون وجودا واحدا؛ أي بالقضاء على فكرة الكثرة أو الفردية؛ ذلك لأن شعور كل شخص بفرديته هو مبعث الأنانية، وبالتالي مصدر الشرور جميعا؛ إذ يتصادم الأفراد بعضهم مع البعض، فتنجم الرذائل الأخلاقية كلها - من كراهية وحسد ورغبة في القضاء على الخصم - عن هذا التصادم. غير أن هذه الكثرة ليست إلا خداعا. وحين ينكشف للإنسان هذا الخداع ويرفع عنه وهم الكثرة، يصل إلى الخلاص الحقيقي، إذ يدرك الوحدة الكامنة من وراء الكثرة الظاهرة، ويسود العطف أو الشفقة، وهو الشعور الذي يربط بين الأفراد بعد أن كانت الأنانية تفرق بينهم. وأفضل عقيدة دينية تمثلت فيها فكرة الوحدة هذه هي عقيدة الزهد عند الهنود؛ ففيها إماتة تامة للإرادة، التي هي أساس الشر كله. وفيها الخلاص الكامل من إرادة الحياة، وذلك في حالة «النرفانا»؛ أي محو الفردية تماما في حالة من الوحدة الكاملة مع الوجود في مجموعة.
تلك باختصار شديد هي الأقسام الأربعة الرئيسية التي ينقسم إليها كتاب شوبنهور «العالم إرادة وتمثلا»؛ ففي القسم الأول يتناول العالم من حيث هو تمثل أي ظاهرة في نظر الذات. وفي القسم الثاني يتحدث عن العالم بوصفه إرادة، ويناقش موضوع الإرادة من حيث هي مبدأ كلي، أو «شيء في ذاته»، من وراء كل مظهر. ولقد كان «شوبنهور» في هذين القسمين فيلسوفا محترفا إلى حد ما، من هنا يمكن القول - بوجه عام: إن تأثيره الأكبر في الفكر والأدب العالميين لن ينتج عنهما، وإنما نتج عن القسمين الثالث والرابع، اللذين عالج فيهما العالم من حيث هو إرادة وتمثل أيضا. ولكن من زاوية جديدة، هي زاوية الذاتية، فهنا كان «شوبنهور» ينطق لغة جديدة تتغلغل جذورها في أعماق النفس البشرية، وتفيض بالتقدير الكامل لموقف الإنسان في العالم، وهنا، لأول مرة، نجد كتابا ضخما يعرض مذهبا فلسفيا كاملا، يحدثنا فصولا طويلة عميقة عن العمارة والتصوير والشعر والموسيقى، ويجعل لهذه الفنون دورا أساسيا في فلسفته. وهكذا نجد آراءه في الإرادة من حيث هي مبدأ للعالم تعود إلى الظهور في فلسفة نيتشه وبرجسون ووليام جيمس. ولكن بصورة مختلفة في كل حالة. أما في ميدان الأدب والفن فقد كان تأثيره أعمق؛ إذ إن عددا كبيرا من الأدباء - على رأسهم هاردي وتوماس مان - قد اعترفوا صراحة بفضل فلسفة شوبنهور عليهم. كما أن شوبنهور كان هو الفيلسوف الأول والأهم الذي تأثر فاجنر بأفكاره. وكان اكتشاف فلسفته بمثابة فاتحة عهد جديد في تفكير فاجنر النظري الذي تكون منه أساس بنائه الفني. ويمكن القول بوجه عام: إن ازدياد قوة الاتجاه الشخصي في الفلسفة والفكر عامة، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، هو ظاهرة ترجع، بطريق مباشر أو غير مباشر، إلى تأثير شوبنهور. (4) نصوص من كتاب «العالم إرادة وتمثلا» لشوبنهور (4-1) العالم تمثلا
العالم تمثلي؛ تلك حقيقة تصح على كل كائن حي عارف، وإن يكن الإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يكون لديه وعي فكري مجرد بها، ولو فعل ذلك حقا، لأشرق عليه نور الفلسفة، وعندئذ يصبح من الواضح المؤكد له أنه لا يعرف شمسا ولا أرضا، وإنما عينا ترى شمسا ويدا تلمس أرضا، وأن العالم المحيط به ليس هناك إلا بوصفه تمثلا؛ أي بوصفه منسوبا إلى شيء آخر، وهو ذلك الذي يتمثل وهو أنا، ولو كان ثمت حقيقة يمكن التعبير عنها أوليا فهذه هي؛ إذ إن هذه الحقيقة تعبير عن صورة كل تجربة ممكنة يتسنى تصورها، وهي صورة أعم من كل الصور الأخرى، أي من الزمان والمكان والعلية؛ إذ إن هذه كلها تفترضها مقدما، وعلى حين أن كلا من هذه الصور، التي ذكرنا أنها أحوال خاصة لمبدأ السبب الكافي، لا يصح إلا على فئة معينة من التمثلات، فإن التقسيم إلى موضوع وذات هو الصورة المشتركة بين هذه الفئات جميعا، وهذه الصورة وحدها هي التي تتيح كل تمثل، وتجعله ممكنا، وإذن فليس ثمت حقيقة أكثر يقينا، من هذه الحقيقة؛ وأعني بها أن كل شيء يوجد للمعرفة؛ أي كل هذا العالم، لا يكون موضوعا إلا بالنسبة إلى ذات ولا إدراكا إلا بالنسبة إلى مدرك؛ أي بالاختصار، لا بد أن يكون تمثلا، فكل شيء ينتمي أو يمكن أن ينتمي إلى العالم يرتبط حتما بهذا الشرط: شرط التوقف على الذات، ولا يوجد إلا من أجل الذات؛ فالعالم تمثل. (الكتاب الأول، القسم الأول) (4-2) العالم إرادة
يشرح شوبنهور طريقة الوصول إلى فكرة الإرادة من وراء العالم الظاهري فيقول:
سيظل هناك دائما (من وراء البحث في العلل) باق لا يرد، ومحتوى للظواهر لا يمكن إرجاعه إلى صورته، ولا يمكن تفسيره من خلال شيء آخر وفقا لمبدأ السبب الكافي؛ إذ إن في كل ما في الطبيعة شيئا لا يمكن وضع أساس له، ولا تقديم تفسير له، ولا البحث عن سبب آخر له، ذلك هو الطريقة الخاصة لفعل الشيء؛ أي بعبارة أخرى: طريقة وجوده ذاتها وجوهره أو ماهيته الحقيقة، فما يكون في الإنسان شخصيته غير القابلة للتفسير ، وما يفترض مقدما في كل تفسير لأفعاله من خلال الدوافع، إنما هو بالنسبة إلى كل جسم غير عضوي طبيعته الأساسية، وطريقته في الفعل، على حين أنه هو ذاته، من جهة أخرى، لا يتحدد بأي شيء خارجه، وبالتالي لا يمكن تفسيره. (الكتاب الثاني، القسم 24)
إن الميكانيكا والطبيعة والكيمياء، تلقننا القواعد والقوانين التي تسلك وفقا لها قوى الصلابة والجاذبية والجمود والسيولة والتماسك والمرونة والحرارة والضوء والتجاذب الانتقائي والمغناطيسية والكهرباء وما إلى ذلك؛ أي بعبارة أخرى: القانون والقاعدة التي تلاحظ على هذه القوى فيما يتعلق بدخولها المكان والزمان في كل حالة. ولكن مهما فعلنا فستظل القوى ذاتها كيفيات غامضة؛ إذ إن الشيء في ذاته هو الذي يكشف بظهوره عن هذه الظواهر ... (الكتاب الثاني، القسم 24)
ثم يحدد شوبنهور بعد ذلك ماهية ذلك «الشيء في ذاته»، أو القوة التي تكمن من وراء قوانين العلم وظواهره هذه، بأنها هي الإرادة، ويصف الإرادة بأنها:
هي القوة التي تنبت النبات، وتوجه المغناطيس إلى القطب الشمالي، بل هي القوة التي توجد في الجاذبية ذاتها، والتي يظهر أثرها في كل مادة بوضوح، فتجذب الأحجار إلى الأرض والأرض إلى الشمس، كل هذه، لا تختلف إلا في ظاهرها. أما طبيعتها الباطنة فواحدة، فهي الماهية الباطنة والقلب بالنسبة إلى كل شيء جزئي إلى الكل أيضا، وهي تظهر في كل قوة عمياء للطبيعة، وكذلك في سلوك الإنسان الإرادي، والفرق الهائل بين الاثنتين لا يتعلق إلا بدرجة ظهورها لا بطبيعتها الباطنة. (الكتاب الثاني، القسم 21)
ويشرح شوبنهور كيف أن تسمية هذا الشيء في ذاته أو هذه القوة الباطنة باسم الإرادة، إنما هي من قبيل تسمية الظاهرة العامة باسم واحد من أهم أمثلتها، وهو الإرادة البشرية، فيقول:
لهذا سأطلق على الجنس اسم أهم أنواعه، وهو النوع الذي تكون لدينا أوثق معرفة به، ويؤدي إلى معرفة غير مباشرة بكل شيء آخر. أما من لم يستطع فهم اللفظ بالمعنى الواسع المطلوب، فسيظل دائما على خطأ؛ إذ لن يفهم من كلمة «الإرادة» إلا ذلك النوع الذي اقتصر اللفظ حتى الآن على الدلالة عليه؛ أي الإرادة التي توجهها المعرفة بدقة حسب دوافع، بل حسب دوافع مجردة، وتسير بإرشاد ملكة العقل. هذا - كما قلنا - هو أوضح مظاهر الإرادة وأكثرها تميزا، ولكن علينا الآن أن نفصل في أذهاننا الطبيعة الباطنة لهذه الظاهرة، والمعروفة لنا مباشرة، وننقلها إلى كل الظواهر الأضعف والأقل تميزا للماهية ذاتها، وبهذا نحقق الامتداد المطلوب لتصور الإرادة، ولقد كان تصور الإرادة حتى الآن يدرج تحت تصور القوة. أما أنا فأفعل العكس، وأرى أن كل قوة في الطبيعة ينبغي أن تتصور على أنها إرادة. ومن الواجب ألا نرى في هذا مجرد اختلاف في الألفاظ، أو مسألة لا أهمية لها؛ إذ إن لهذا الأمر - على عكس ذلك - أهمية قصوى، فمن وراء الصور القوة - كما هي الحال في كل تصور آخر - تكمن معرفة العالم الموضوعي من خلال الإدراك الحسي؛ أي بعبارة أخرى: الظاهرة، والتمثل الذي يستمد منه التصور، فهذا اللفظ مستخلص بالتجريد من المجال الذي يسوده العلة والمعلول، أما تصور الإرادة فهو الوحيد - من بين سائر التصورات الممكنة - الذي لا يرجع أصله إلى الظاهرة، ولا إلى مجرد تمثل الإدراك، بل يأتي من الباطن، ويستمد من أقرب وعي مباشر لكل شخص، وإذن فنحن إذا أرجعنا تصور القوة إلى تصور الإرادة، إنما نكون قد أرجعنا شيئا مجهولا تماما إلى شيء معروف لنا حق المعرفة، بل إلى الشيء الوحيد الذي نعرفه معرفة مباشرة كاملة. (الكتاب الثاني، القسم 22) (4-3) ماهية الفن
عند تحديد شوبنهور لماهية الفن، يتساءل أولا:
أي نوع من المعرفة ذلك الذي يتعلق بما هو مستمر في وجوده خارج جميع العلاقات ومستقلا عنها، وبما هو وحده الأساسي في العالم، والمحتوى الحقيقي لظواهره وما لا يسري عليه التغير، وبالتالي ما يعرف بحقيقة لا يؤثر فيها الزمان؛ أي الاختصار، ذلك الذي يتعلق «بالمثل» التي هي الموضوعية المباشرة المطابقة للشيء في ذاته وللإرادة، إنه الفن، نتاج العبقرية. وفي الفن تتكرر المثل الأزلية المدركة عن طريق التأمل الخالص؛ أي ذلك العنصر الأساسي الباقي في كل ظواهر العالم، وهو يكون نحتا أو تصويرا أو شعرا أو موسيقى تبعا للمادة التي تتكرر فيها هذه المثل، ومصدره الوحيد هو معرفة المثل، وهدفه الوحيد هو نقل هذه المعرفة إلى الآخرين. وإنا لنجد أن العلم - الذي يساير على الدوام تيارا قلقا غير مستقل هو تيار الأشكال الرباعية للأسباب أو الأسس والنتائج - يكشف طريقا جديدا بعد كل غاية يبلغها، ولا يمكنه أن يهتدي أبدا إلى هدف نهائي أو يصل إلى الرضاء التام، تماما كما لا يمكننا بالجري أن نصل إلى النقطة التي تتلامس فيها السحب مع الأفق. أما الفن فهو على الدوام بالغ هدفه؛ ذلك لأنه يلتقط موضوع تأمله من مجرى التيار الذي يسير فيه العالم، ويستبقيه أمامه منعزلا؛ وبذلك يصبح هذا الشيء الخاص، الذي كان داخل ذلك التيار جزءا متناهيا في الصغر، ممثلا للكل في نظر الفن، ومعادلا للكثرة اللامتناهية في المكان والزمان. وهكذا يتوقف الفن أمام هذا الشيء الخاص، ويوقف عجلة الزمان، وتختفي العلاقات بالنسبة إليه، ولا يعود له من موضوع إلا ما هو أساسي؛ أي «المثال»؛ وبذلك يمكننا تعريف الفن على وجه الدقة بأنه طريقة النظر إلى الأمور على نحو مستقل عن مبدأ السبب الكافي، وذلك مقابل طريقة النظر إليها على نحو يراعى فيه هذا المبدأ بدقة، وهي طريقة العلم والتجربة. (الكتاب الثالث، القسم 36)
فإذا تساءل القارئ عن معنى طريقة النظر إلى الأمور على نحو مستقل عن مبدأ السبب الكافي هذه فإن شوبنهور يوضحها بأنها طريقة:
لا نعود (فيها) ننظر في الأشياء إلى الأين والمتى و«لم» و«إلى أين»، وإنما ننظر إلى «ما هي عليه» فقط، ولا ندع التفكير المجرد وتصورات العقل تستحوذ على ذهننا، بل نكرس كل قوة العقل للإدراك، نستغرق فيه تماما، وندع وعينا بأسره يمتلئ بالتأمل الهادئ للشيء الطبيعي الماثل بالفعل أمامه، سواء أكان ذلك الشيء منظرا طبيعيا أم شجرة أم صخرة أم جلمودا أم بناء أم أي شيء آخر، فهنا «نفقد» أنفسنا تماما في هذا الموضوع. إذا شئنا أن نستخدم هذا التعبير المثقل بالمعاني؛ أي إننا بعبارة أخرى : ننسى فرديتنا وإرادتنا، ولا نظل نوجد إلا بوصفنا ذاتا خالصة، ومرآة صافية للشيء؛ بحيث يبدو كأن الشيء يوجد وحده دون أن يدركه أحد، فلا يعود في وسعنا التمييز بين المدرك والمدرك، وإنما يصبح الاثنان واحدا، ما دام الوعي بأكمله يمتلئ ويشغل بصورة إدراكية واحدة، فإذا أصبح الموضوع مستقلا إلى هذا الحد عن كل علاقة له بشيء خارج عنه، وإذا أصبحت الذات مستقلة إلى هذا الحد عن كل علاقة لها بالإرادة، فإن ما يعرف عندئذ لا يعود هو الشيء الفردي بما هو كذلك، وإنما هو «المثال» - الصورة الأزلية - والموضوعية المباشرة للإرادة في هذه المرحلة، وبالمثل فإن الشخص الذي يكون لديه إدراك كهذا، لا يعود في الوقت ذاته فردا؛ إذ إن الفرد قد فقد ذاته في الإدراك، وإنما يصبح «ذاتا عارفة» خالصة بلا إرادة وبلا ألم وبلا زمان. (الكتاب الثالث، القسم 34)
وإذا كان شوبنهور في النص السابق قد حدد ماهية الفن بوجه عام، فإنه يجعل للفن الموسيقي مكانة خاصة، ويوضح طبيعته في نصوص كثيرة من أهمها: ... إن في إمكاننا أن ننظر إلى عالم الظواهر أو الطبيعة وإلى الموسيقى على أنهما تعبيران مختلفان عن شيء واحد؛ فالموسيقى - إذا ما نظر إليها على أنها تعبير عن العالم - تغدو، بأكمل معاني الكلمة، لغة عالمية ترتبط بالتصورات الشاملة، مثلما ترتبط هذه الأشياء الجزئية، ومع ذلك فإن طابع الشمول فيها ليس ذلك الشمول الفارغ الناتج عن التجريد، وإنما هو من نوع مختلف تماما؛ فهو يقترن بتميز دقيق لا لبس فيه ولا غموض. والموسيقى في هذا أشبه بالأشكال الهندسية والأعداد، التي هي صور كلية لجميع الموضوعات الممكنة للتجربة، تنطبق على هذه الموضوعات جميعا بطريقة أولية. ولكنها مع ذلك ليست مجردة، بل هي قابلة للإدراك الحسي، وهي محددة بكل دقة. وهكذا فإن كل جهد تبذله الإرادة، وكل سوراتها وتجلياتها، وكل الحوادث التي تقع داخل الإنسان ذاته، والتي تدرجها ملكته العاقلة ضمن تلك الفئة الواسعة السلبية، فئة المشاعر، ويمكن أن يعبر عنها ذلك العدد اللامتناهي من الألحان الممكنة. ولكن ذلك التعبير يكون له دائما شمول الصورة الخالصة، دون أية مادة، ويكون دائما متعلقا بما يوجد في ذاته لا بالمظهر؛ أي بأعمق أغوار النفس من غير الجسم. هذه العلاقة الوثيقة للموسيقى بالطبيعة الحقة للأشياء جميعا تفسر لنا أيضا حقيقة هامة، هي أنه عندما تعزف موسيقى ملائمة لأي منظر أو فعل أو حادث أو بيئة، فإنها تبدو وكأنها تكشف لنا عن أدق معانيه خفاء، وتظهر وكأنها أفضل شرح وأدق تمييز له. وفضلا عن ذلك، فإنه يبدو للإنسان الذي ترك سيمفونية تتغلغل في نفسه بلا قيود، أنه قد رأى كل الحوادث الممكنة في الحياة وفي العالم تمر أمامه داخل ذاته. ومع ذلك فلو أمعن التفكير في الأمر لما وجد أي تشابه بين قطعة الموسيقى وبين الأشياء التي مرت بذهنه؛ ذلك لأن الموسيقى - كما قلنا - تختلف عن كل الفنون الأخرى في أنها لا تصور الظاهرة، أو بتعبير أدق، لا تصور موضوعية الإرادة المطابقة، إنما هي تصوير مباشر للإرادة ذاتها، وبالتالي فهي تعبر عن الماهية الميتافيزيقية لكل ما يوجد في عالم الأشياء، وعن الشيء في ذاته بالنسبة إلى كل ظاهرة. وهكذا يمكننا أن نسمي العالم موسيقى متجسدة مثلما يمكننا أن نسميه إرادة متجسدة. (الكتاب الثالث، القسم 52) (4-4) الطريق إلى الخلاص
في مجموعة النصوص التي أدرجت تحت الفئة «ثالثا»، حدد شوبنهور ماهية الفن، وأوضح في الوقت ذاته طريقا مؤقتا إلى خلاص النفس من قيود الإرادة، وهو في النص الآتي يوضح الطريق النهائي لخلاص الإنسان، وهو إماتة إرادة الحياة، والتخلص من مبدأ الفردية في ذاته:
لا يوجد إلا خطأ فطري واحد، وهو الفكرة القائلة: إننا نوجد لنكون سعداء؛ فما نحن إلا إرادة للحياة، ونحن لا نفهم من السعادة إلا أنها الإرضاء المتعاقب لإرادتنا.
وطالما ظللنا واقعين في هذا الخطأ الفطري، الذي يزداد رسوخا فينا بفضل المعتقدات التفاؤلية، فإن العالم يبدو لنا حافلا بالمتناقضات؛ ذلك لأننا نشعر حتما في كل خطوة. وفي كل الأشياء كبيرها وصغيرها، بأن العالم والحياة لن ينظما أبدا بقصد ضمان حياة سعيدة لنا ... وفضلا عن ذلك، فإن كل يوم مر في حياتنا حتى الآن قد علمنا أنه حتى في الحالات التي تتحقق فيها أفراح ولذات، تكون هذه في ذاتها خداعة، ولا تؤدي إلى النتائج التي تعدنا بها، ولا ترضي قلوبنا، فضلا عن أن الحصول عليها يقترن على الأقل بالمرارة التي يبعثها ما يرتبط بها أو ما ينبثق عنها من الآلام والمنغصات. أما الآلام والأحزان فتثبت أنها حقيقية إلى أبعد حد، وكثيرا ما تتجاوز كل ما نتوقعه. وهكذا فإن كل ما في الحياة قد رسم بحيث يؤدي بنا إلى الرجوع عن هذا الخطأ الفطري، وإلى إقناعنا بأن القصد من وجودنا هو ألا نكون سعداء. أما من تخلص بطريقة ما من الخطأ الأولي الكامن فينا ومن ذل التزييف الأول في وجودنا، فسرعان ما يرى كل شيء في ضوء مخالف، ويجد أن هذا العالم متفق مع إدراكه، وإن لم يكن متفقا مع رغباته؛ فلا تعود مظاهر البؤس - مهما كان نوعها أو مقدارها - تثير فيه دهشة، وإن كانت تبعث فيه الألم، إذ إنه أدرك أن الألم والشقاء هما ذاتهما اللذان يحققان الغاية الصحيحة للحياة، ألا وهي انصراف الإرادة عنها ...
والذي يحدث عادة هو أن القدر يمر على نحو حاسم بذهن الإنسان وهو في عنفوان رغباته وأمانيه، وعندئذ تتحول حياته تحولا أساسيا في اتجاه الألم، وعن طريق هذا التحول يتحرر من الرغبة المنفعلة التي يكون كل وجود فردي مظهرا لها، ويصل إلى النقطة التي يغادر فيها الحياة، ولم تبق لديه أية رغبة فيها وفي ملذاتها. بل إن الألم، في الواقع، هو عملية التطهير التي يصل الإنسان بها وحدها إلى القداسة؛ أي يرجع بها عن ذلك الطريق الضال، طريق إرادة الحياة. (المجلد الثاني، الفصل 49)
وفي هذا النص الأخير يربط شوبنهور بين مذهبه في الخلاص، وبين أخلاق الزهد والعطف فيقول:
إذا ما رفع «حجاب المايا»،
1
وأعني به «مبدأ الفردية»
principuum individuationis ، عن أعين المرء حتى لا يعود يميز على نحو أناني بين ذاته وأشخاص الآخرين، وإنما يهتم بآلام غيره مثلما يهتم بآلامه هو؛ وبذلك لا يكون خيرا ومحسنا إلى أقصى مدى فحسب، بل يكون أيضا على استعداد للتضحية بفرديته إذا ما كان في ذلك إنقاذ لعدة أفراد آخرين، فلا بد أن شخصا كهذا، سينظر إلى آلام كل حي على أنها آلامه هو؛ وبذلك يأخذ على عاتقه عذاب العالم أجمع، فكيف يتسنى له، بمعرفته هذه للعالم، أن يؤكد نفس هذه الحياة عن طريق أفعال إرادية دائمة؛ وبذلك يزيد نفسه تقيدا بها، ويغدو أشد تعلقا بأهدابها؟ ... إن الإرادة تنصرف عندئذ عن الحياة، وتفر من تلك اللذات التي ترى فيها تأكيدا للحياة. فهنا يبلغ الإنسان حالة العزوف الإرادي والاستسلام والهدوء الكامل والقهر التام للإرادة، ولما لم يكن الإنسان أصلا إلا مظهرا للإرادة، فإنه يكف عن توجيه إرادته إلى أي شيء، ويحذر من تعلق إرادته بأي شيء، ويحاول أن ينمي في نفسه عدم الاكتراث التام جميعا. (الكتاب الرابع، القسم 68)
«تاريخ المادية» لألبرت لانجه
(1) حياة لانجه ومؤلفاته
ولد «فريدرش ألبرت لانجه
Friedrich Albert Lange »
1
في بلدة تقع في إقليم دوسلدورف، اسمها «فالد بجوار زولنجن
Wald bei Solingen » في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر عام 1828م. وكان أبوه رجلا عصاميا استطاع أن يشق طريقه بكفاحه من عامل بسيط إلى أستاذ جامعي اشتهر في وقته بأنه من أعظم شراح الإنجيل في أوروبا، وقد قضى لانجه سنوات حياته الأولى في مدينة «دويسبرج
Duisburg ». ولكنه انتقل في الثانية عشرة من عمره إلى زيورخ في سويسرا التي أصبحت وطنا ثانيا له، ولم يغادرها إلا في سن متأخرة نسبيا عندما دفعه تعلقه بالسياسة إلى العودة إلى ألمانيا وخوض غمار المعارك السياسية فيها. وكان ذلك في عام 1848م الذي هزت فيه القلاقل السياسية كيان معظم دول أوروبا، وقامت فيه ثورات عنيفة أسهم فيها المثقفون الأوروبيون بدور فعال، في ذلك العام انتقل إلى جامعة بون ليدرس فقه اللغة، وتابع الأحداث السياسية الدائرة بحماسة بالغة، وكان من أنصار تحقيق الوحدة الأوروبية، وتحقيق وحدة الدولة الألمانية.
وبعد حصول لانجه على درجة الدكتوراه، انتقل للتدريس فترة قصيرة في «كولونيا»، ثم عاد إلى بون ليحاضر في التربية وعلم النفس والأخلاق وفي تاريخ المذهب المادي، ومن بون انتقل إلى دويسبرج. ولكنه اضطر إلى الاستقالة من عمله في التدريس نتيجة لنشاطه السياسي في عام 1861م، وكان من المناصب التي تولاها بعد ذلك منصب سكرتير الغرفة التجارية في دويسبرج، حيث أظهر مقدرة غير عادية في إدارة الأعمال الصناعية، وقد ظل طوال هذه المدة عاكفا على تأليف كتابه في «تاريخ المادية»، فضلا عن اشتراكه في تحرير صحيفة «الرين والرور» اليومية، التي كان يهاجم فيها الحكومة الرجعية القائمة بشدة. وقد تعرض نتيجة لذلك إلى اضطهادات سياسية مستمرة، فانتقل إلى «فنترتور
Winterhur » ثم إلى زيورخ حيث عمل أستاذا للفلسفة، ثم إلى جامعة ماربوج بألمانيا مرة أخرى. وكان برنامج محاضراته في هذه الجامعة الأخيرة يشتمل على المنطق وعلم النفس وتاريخ التربية والعلوم السياسية والشعر.
وفي هذه الأثناء كانت صحته قد اعتلت، وظهرت عليه بوادر المرض الذي أودى به في النهاية، ولكن نشاطه لم يفتر، وإنما ظل يؤلف ويعيد طبع كتبه السابقة بعد مراجعات دقيقة، حتى الأسابيع الأخيرة من حياته، وعندما قهره المرض وتوفي في 21 نوفمبر سنة 1875م، كان في أوج نشاطه العلمي والتأليفي. (1-1) وأهم المؤلفات الفلسفية والسياسية التي اشتهر بها لانجه هي (1)
المشكلة العمالية
Die Arbeiterfrage ، وقد ظهرت طبعته الأولى في عام 1865م، وأشرف هو ذاته على طبعتين أخريين كانت آخرهما عام 1874م. (2)
آراء جون استورت مل في المسائل الاجتماعية
J. S. Mill’s Ansichten über die sociale Frage (1866م). (3)
تاريخ المادية ونقد دلالتها في العصر الحاضر
Geschichte des Materialismus und Kritik seiner Bedeutung in der Gegenwart ، وقد ظهرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في عام 1865م، والطبعة الثانية في عامي 1873 و1875م. (4) «أسس علم النفس الرياضي
Die Grundlegung der mathematischen psycologie » (1865م). (5) «دراسات منطقية
Logische Studien »، وقد نشر بعد وفاة لانجه بعامين (1877م)، وأشرف على نشره الفيلسوف الألماني «هرمان كوهين».
ويتألف كتاب «تاريخ المادية» من بابين رئيسيين: (أ) «تاريخ المادية حتى كانت». (ب) «تاريخ المادية منذ كانت».
ولكل باب من هذين البابين أقسام تندرج تحتها فصول، وسوف نكتفي هنا بالإشارة إلى الأقسام التي يشملها كل من هذين البابين: (أ) تاريخ المادية حتى كانت
القسم الأول:
المادية في العصور القديمة (ويعالج هذا القسم الفلسفات اليونانية والرومانية في خمسة فصول).
القسم الثاني:
فترة الانتقال (وهي تشمل العقائد التوحيدية وموقفها من المادية، وكذلك الفلسفات المدرسية ثم عصر إحياء العلوم في أوروبا، ويشمل هذا العصر بيكن وديكارت).
القسم الثالث:
مادية القرن السابع عشر (وهو يشمل جاسندي وهبز والفلاسفة الإنجليز).
القسم الرابع:
القرن الثامن عشر (ويعالج تأثير الفلاسفة الإنجليز في فرنسا وألمانيا، ثم مادية لامتري، ودولباك، ورد الفعل على المادية عند ليبنتس وفلف). (ب) تاريخ المادية منذ كانت
القسم الأول:
الفلسفة الحديثة (ويشمل فصلا عن كانت والمادية، وآخر عن المادية الفلسفية منذ كانت).
القسم الثاني:
العلوم الطبيعية (ويعالج موضوعات: المادية والبحث العلمي والدقيق، والقوة والمادة، والنظريات العلمية في الكون، والداروينية والغائية).
القسم الثالث:
تكملة العلوم الطبيعية: الإنسان والنفس (ويبحث في العلاقة بين الإنسان والعالم الحيواني، والمخ والنفس، وعلم النفس العلمي، ووظائف الأعضاء الحسية).
القسم الرابع:
المادية الأخلاقية والدين (ويتحدث عن الاقتصاد السياسي والأنانية القطعية، وعن المسيحية والتنوير، والعلاقة بين المادية النظرية وبين المادية الأخلاقية، الدين، ووجهة نظر المثل الأعلى).
وقد اعتمدنا في هذا البحث على الترجمة الإنجليزية لهذا الكتاب، التي قام بها «إرنست تشستر توماس
Ernest Chester Thomas »، ونشرت لأول مرة في ثلاثة أجزاء، في الأعوام: 1877م و1890م و1892م، وقد أعيد طبع هذه الترجمة عدة مرات، والطبعة التي اعتمدنا عليها هي طبعة سنة 1950م في مكتبة
Routledge & Kegan paul (في سلسلة المكتبة الدولية لعلم النفس والفلسفة والمنهج العلمي)، وقد جمعت هذه الطبعة بين الأجزاء الثلاثة في مجلد واحد. ولكنها احتفظت بالترقيم الأصلي للصفحات في كل من هذه الأجزاء الثلاثة، وهو الترقيم الذي لا يطابق التقسيم الذي عرضناه للكتاب تماما؛ ولذلك نود أن نورد هنا حدود كل جزء في هذا الترقيم حتى لا يلتبس الأمر على القارئ:
الجزء الأول:
من البداية حتى نهاية القسم الثالث من الباب الأول (مادية القرن السابع عشر).
الجزء الثاني:
من بداية القسم الرابع (القرن الثامن عشر) حتى نهاية الفصل الثاني من ثاني أقسام الباب الثاني (العلوم الطبيعية: القوة والمادة).
الجزء الثالث:
من الفصل الثالث (النظريات العلمية في الكون) حتى نهاية الكتاب، وقد صدرت هذه الترجمة الإنجليزية بمقدمة قيمة للفيلسوف الإنجليزي الكبير «برتراند رسل» بعنوان «المادية ماضيها وحاضرها». (2) الأفكار الرئيسية في كتاب «تاريخ المادية»
يمكن القول - دون أية مبالغة: إن هذا الكتاب موسوعة فلسفية ضخمة تجمع كل ما عرف عن علاقة المادية بالفلسفة والعلم حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ولقد أظهر لانجه - صفحات هذا الكتاب التي تزيد على ألف ومائة صفحة - علما غزيرا بتاريخ الفلسفة وتاريخ العلوم حتى عصره، وتمتلئ صفحات الكتاب بهوامش طويلة قيمة تدل على سعة اطلاع هائلة، وقدرة فذة على النقد والتحليل.
ومن الممكن أن ينظر إلى هذا الكتاب من وجهين، فهو من ناحية تاريخ للفلسفة، ومن جهة أخرى مناقشة مذهبية لفكرة المادية، وكل من الوجهين متداخل تماما في الآخر. صحيح أن الباب الثاني كله، باستثناء الفصلين الأولين، ليس تاريخيا وإنما هو استعراض لعلوم العصر في علاقتها بالمادية. ومع ذلك فإن الفصول التاريخية الخالصة كانت تحفل بالمناقشة المذهبية، ولم تكن تقتصر على السرد التاريخي على الإطلاق. وفي هذه الفصول التاريخية عالج لانجه تاريخ الفلسفة كله تقريبا من وجهة نظر مادية، ولم يقتصر على الكلام على الفلاسفة الماديين وحدهم، وإنما بحث في أنصار المادية وخصومها على السواء؛ بحيث يمكن أن يقال: إن الكتاب تاريخ شامل للفلسفة حتى الفترة التي عاشها المؤلف.
وعلى ذلك فإن للكتاب مزايا ضخمة تجعله من أهم الكتب التاريخية في الفلسفة؛ وذلك لأسباب منها: (1)
إن نظرته إلى التاريخ الفلسفي جديدة إلى حد بعيد؛ لأنه يخرج بالفلسفة عن نطاق المألوف، يرفع من شأن فلسفات مادية لها في الأحوال العادية قيمة ضئيلة لدى مؤرخي الفلسفة؛ ففي كتابه هذا يجد دارس الفلسفة آفاقا جديدة مخالفة لما اعتاد قراءته في معظم الكتب الفلسفية، حيث تسود النزعات المثالية والروحية، ويكون تمجيد الفلاسفة على قدر ابتعادهم عن العالم الواقعي وتوغلهم في عالم الأفكار الخالصة، وما أحق كتاب كهذا بعناية المشتغلين بالفلسفة، إن لم يكن لما فيه من أفكار إيجابية، فعلى الأقل لكي يجدوا فيه تغييرا لما ألفوه، ولكي يفيدوا من الاطلاع على وجهات نظر مخالفة قد تصدمهم في بداية الأمر. ولكنها كفيلة بأن توسع أفقهم العقلي وتزيد من رحابة نظرتهم إلى الأمور. (2)
إنه، على الرغم من عنايته الكبيرة بالتاريخ، كتاب حي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، فهو في مناقشته لأقدم المذاهب والشخصيات الفلسفية، يربط آراءها بالواقع المعاصر له على الدوام، ويستخلص من كل فكرة قديمة دلالتها بالنسبة إلى الحاضر الذي يعيش فيه. وهكذا تراه يتحدث عن القرن التاسع عشر بإسهاب في الوقت الذي يعالج فيه فلاسفة أقدمين مثل ديمقريطس وأفلاطون وأرسطو، ولا يكف عن إجراء المقارنات بين القدماء والمحدثين، سواء في متن الكتاب وفي الهوامش الغنية الزاخرة التي تمتلئ بها صفحاته. (3)
إنه يقدم إلى القارئ في نصفه الثاني صورة شاملة لحالة العلم في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي صورة تكاد تكون موسوعية في نطاقها؛ إذ تشمل العلوم الجيولوجية والفلكية والبيولوجية والفيزيائية والنفسية والأنثروبولوجية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية والدينية. ومن المؤكد أن الدراسة الفاحصة لكتاب كهذا كفيلة بأن تلقي ضوءا ساطعا على هذه الفترة الهامة من تاريخ العلم، سواء من حيث تفاصيل الكشوف العلمية التي تمت فيها، أو من حيث الدلالة الفلسفية العامة لهذه الكشوف.
على أن الكتاب - على الرغم من مزاياه هذه - ينبغي أن تؤخذ المعلومات الواردة فيه بشيء من الحذر؛ وذلك للأسباب الآتية: (1)
إن الكتاب ذو نزعة «خلافية» واضحة؛ أي إنه يتخذ موقفا محددا من الخلافات الناشبة بين المفكرين في عصره، ويدافع عن هذا الموقف بعنف، بينما يهاجم آراء الخصوم كلما أتيحت له الفرصة، وبهذا المعنى يمكن القول: إن الكتاب كان مرتبطا بالمناقشات والمجادلات الدائرة في ألمانيا في الفترة التي عاش فيها المؤلف. (2)
إن هذه النزعة الخلافية كانت تتمثل، عند المؤلف، في انحيازه بقوة إلى فلسفة «كانت»، ويتمثل ذلك بوضوح في التقسيم الذي وضعه للبابين الرئيسين للكتاب؛ إذ يجعل فيهما من فلسفة كانت محورا يدور حوله التفكير الكامل للفلاسفة جميعهم؛ بحيث ينقسم تاريخ الفلسفة كله إلى ما قبل كانت وما بعده، كما يتمثل إيمانه بكانت في جميع مناقشاته، التي ينحاز فيها إلى الموقف الكانتي دون أي تحفظ، ويحاول إثبات صحته في كل الأحوال. بل إن المذهب المادي ذاته - الذي كان محورا للكتابة - كان هدفا لهجومه الشديد في كل مرة كان ذلك المذهب يبدو فيها متعارضا مع التعاليم الكانتية؛ أي في كل مرة يزعم فيها أنه يقدم نظرية ميتافيزيقية عن التركيب النهائي للعالم، ولا يقتصر على معالجة قوانين المادة بوصفها قوانين عالم «الظواهر» فحسب. (3)
أما بالنسبة إلى عصرنا الحاضر، فيبدو أن الكتاب قد توقف قبل أن تظهر آثار مرحلة حاسمة من مراحل تطور المذهب المادية، هي الماركسية أو المادية الديالكتيكية؛ ففي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت قد ظهرت مجموعة هامة من كتب ماركس وإنجلز. ولكن الحركة التي أثارها لم تكن قد بدأت في التأثير على الأذهان، ولم تكن دلالتها الهامة قد تكشف بعد بوضوح إلا لفئة قليلة نسبيا، ويبدو أن لانجه لم يكن من هؤلاء؛ إذ إن كتابه الضخم لم يتضمن إلا إشارات هامشية بسيطة إلى كارل ماركس، وهو وإن كان قد وصفه في أحد هذه الهوامش بأنه «يشتهر بأنه أعلم مؤرخي الاقتصاد السياسي الأحياء» (هامش ص309، الجزء الأول)، إلا أنه لم يجعل للمذهب الماركسي أي مكان في كتابه. ولا جدال في أن كتابا يعالج المذاهب المادية دون أن يتضمن إشارة إلى أهم مراحلها وأقواها تأثيرا في تاريخ الإنسان، يعد من وجهة النظر المعاصرة منطويا على نقص خطير؛ لأن أي كتاب معاصر لا يستطيع أن يتجاهل مذهب ماركس في المادية إن كان بصدد التأريخ لحركة المادية بوجه عام، وإنما ينبغي أن يفرد لها من حيث قبولها أو رفضها، وسوف تظهر آثار هذا النقص بوضوح خلال صفحات هذا البحث، ولا سيما في أجزائه المتعلقة بالموضوعات السياسية والأخلاقية.
ولكي نعرض لتفاصيل الأفكار الفلسفية التي وردت في هذا الكتاب، نرى أن من الأفضل تقسيمها إلى قسمين رئيسيين: أحدهما يتناول آراءه في تاريخ الفلسفة، الثاني يعرض موقفه من مشكلة المادية بوجه عام؛ أي إن القسم الأول تاريخي، والثاني مذهبي، وهما يناظران إلى حد ما البابين الرئيسيين في الكتاب، وإن كان الباب الثاني قد تضمن - كما قلنا من قبل - فصلين تاريخيين في البداية، قبل أن ينتقل إلى البحث المذهبي لمشكلة المادية في علاقتها بالعلوم المختلفة. (3) آراء لانجه في تاريخ الفلسفة
سبق أن أشرت إلى القيمة الكبرى لهذا الكتاب من حيث هو عرض لتاريخ الفلسفة من زاوية غير مألوفة، هي زاوية المذهب المادي. والواقع أن مشكلة المادية - التي تبدو ثانوية أو ضئيلة الشأن في كثير من كتب تاريخ الفلسفة - تظهر في هذا الكتاب على أعظم جانب من الأهمية، وتعد محورا رئيسيا دارت حوله خلافات الفلاسفة منذ أقدم العصور. وكان من نتيجة هذا التغيير الأساسي في المنظور أن أصبح الكتاب جديدا في نظرته إلى تاريخ الفلسفة؛ لأنه قد أبرز - من جهة - عنصرا طالما تجاهله المؤرخون، وأعاد - من جهة أخرى - تقويم الشخصيات المعروفة في تاريخ الفلسفة؛ بحيث أعلى مكانة البعض، وعالجهم معالجة مفصلة، مع أن أسماءهم لا ترد في الكتب الشائعة إلا لماما، بينما وجه نقده المرير إلى كثير من الشخصيات التي تحتل قمة التفكير الفلسفي في نظر معظم المؤرخين.
وليس في وسعنا بطبيعة الحال أن نعيد عرض تاريخ الفلسفة بأسره وفقا لنظرة المؤلف إليه، ولكنا سنكتفي بوقفات سريعة في مراحل مختلفة من هذا التاريخ، نوضح فيها مدى الجدة في نظرة المؤلف إلى تاريخ الفلسفة، ونتخذها نماذج لطريقته الخاصة في مراجعة الآراء الشائعة عن فلاسفة العصور القديمة والحديثة. (3-1) المادية وبداية الفلسفة
منذ الجملة الأولى في كتاب «تاريخ المادية»، يعبر لانجه عن الارتباط الوثيق بين المادية وبين الفلسفة، فيقول: «إن المادية قديمة قدم الفلسفة. ولكنها ليست أقدم منها»، وهو يشرح هذه الجملة في هامش الصفحة فيقول: إنها «موجهة - من جهة - ضد محتقري المادية الذين يجدون في نظرتها إلى الكون نقيضا مطلقا لكل تفكير فلسفي، وينكرون عليها أية قيمة علمية، كما أنها موجهة من جهة أخرى ضد أولئك الماديين الذين يحتقرون من جانبهم كل فلسفة، ويتصورون أن آراءهم ليست بأية حال وليدة نظر فلسفي، وإنما هي نتيجة خالصة للتجربة وللحكم الطبيعي السليم وللعلوم الفيزيائية». وهكذا فإن المادية عنده مقترنة في بداية ظهورها بنشأة الفلسفة ذاتها، فهي ليست مذهبا ضئيل الشأن من الوجهة الفلسفية. ولكنها في الوقت ذاته ينبغي ألا تدعي الترفع عن الفلسفة والارتباط بالعلم وحده.
ومنذ بداية الكتاب أيضا يوضح لانجه أن المادية قد اشتبكت في صراع حاد مع العقائد القديمة منذ ظهور أول المذاهب الفلسفية التي تدعو إليها؛ ذلك لأن الأفكار الدينية الوثنية التي كانت سائدة في الشرق القديم وفي العقائد اليونانية المختلفة كانت خليطا مضطربا غامضا، يغذيه الجهل ويبعث فيه قوى متجددة، وهو يصف هذه العقائد بأنها كانت «مفتقرة إلى الروحانية بقدر ما كانت مفتقرة إلى المادية». ولا شك أن مثل هذه العقائد التي لم تكن تستمد قيمتها إلا من شعور الناس بالجهل والعجز عن التحكم في القوى الطبيعية. وكانت خليقة بأن تصطدم بمذهب يحاول الإتيان بمبدأ واحد لتفسير الكون، ويسعى إلى بعث النظام والوحدة في جمع الظواهر المادية، والفكرة التي يود لانجه أن يدافع عنها - وإن لم يكن قد صرح بها - هي أن الصراع بين المادية وبين العقائد الغابرة كان منذ البداية صراعا بين العلم والجهل؛ أي بين الرغبة في إيجاد تفسير منظم للظواهر وبين الاكتفاء بالأفكار المضطربة والآراء الغامضة؛ فالمسألة إذن لم تكن هجوما من هذه العقائد على المادية رغبة منها في الدفاع عن الروحانية، وإنما كان الدافع الوحيد إلى هذا الهجوم هو - في واقع الأمر - الرغبة في الدفاع عن الجهالة والتفسير الغيبي للأشياء، ومن جهة أخرى فلم تكن المعركة التي خاضها الفلاسفة الماديون القدماء ضد رجال الأديان الوثنية راجعة إلى كراهيتهم للروحانية أو للمثل العليا، بل كان مبعثها الوحيد هو تأكيد حكم العقل وسيادة القانونية في فهم العالم، والرغبة في المضي في التفسير إلى أقصى مدى ممكن، ومعاداة الجهل في كل صورة، ومنها تلك الصورة التي تؤكد عدم قابلية ظواهر كثيرة في الكون للتفسير العلمي، وبهذا المعنى تكون المادية مرادفة للنزعة إلى التفسير العقلي للأشياء، وأقوى دليل على ذلك ارتباطها الدائم بالتقدم العلمي، وازدهارها في العصور الذهبية للعلوم. وقد تجلى ذلك منذ أول عهود التفكير الفلسفي عند اليونانيين؛ إذ إن مادية الطبيعيين الأولين كانت مقترنة بفترة ازدهار هائل للعلوم الفلكية والرياضية والطبيعية، وهو الازدهار الذي تجلت أوضح مظاهره في مدينة أيونيا، مهبط الفلسفة اليونانية، وموضع التقاء خلاصة الثقافات القديمة. (3-2) سقراط والمادية
حين يتحدث لانجه عن سقراط، فإنه في واقع الأمر يصدر حكما على الفلسفة العقلية اليونانية بأسرها، فسقراط هو الذي بدأ رد الفعل الضخم على المذهب المادي في الفلسفة اليونانية، واستهل تلك الحركة العقلية الهائلة التي بلغت قمتها العليا في فلسفة أرسطو، والتي دخلت فيها بعد تحالف مع الفلسفات اللاهوتية في العصور الوسطى، وظلت مسيطرة على الأذهان في العالم الغربي على نحو لا يمكن القول عن آثاره كلها قد اختفت حتى اليوم، ومن جهة أخرى فإن من المستحيل علميا وضع حد فاصل دقيق بين تفكير سقراط وتفكير أفلاطون؛ ومن هنا فإن إعادة تقويم فلسفة سقراط - على النحو الذي يقوم به لانجه في هذا الكتاب - هي في واقع الأمر إعادة لتقويم التيار العقلي في الفلسفة الغربية كلها، ولا سيما في قطبيه الكبيرين: أفلاطون وأرسطو.
ويؤكد لانجه أن المحاورات الأفلاطونية، التي تحدثت في معظم الأحيان بلسان سقراط وعبرت في أحيان غير قليلة عن آرائه، كانت تحفل بالخدع المنطقية والألاعيب وجميع أنواع المغالطات التي يرتكبها سقراط الظافر دائما، فهو يتلاعب بخصومه «كما يتلاعب القط بالفأر»، ويدفعهم إلى الوقوع في التناقض، وإلى الاعتراف بأن استدلالاتهم باطلة. ولكنهم لا يتخلصون من هذا الخطأ إلا ليقعوا على يديه في خطأ آخر. وفي رأي لانجه أن هذه الطريقة في الجدال تفيد في الحديث. وفي الصراع المباشر بين الحجج، حيث يجرب الشخص قواه العقلية ضد شخص آخر. ولكنها لا تفيد في البحث العلمي والسعي الجاد إلى المعرفة؛ ذلك لأن العلم لا يهدف إلى إفحام الخصوم، وإنما يرمي أساسا إلى كشف الحقيقة دون مغالطة أو مجادلة عقيمة، على قدر ما كان سقراط بارعا في الاهتداء إلى أخطاء خصومه، كان هو ذاته يقع في أخطاء لا تقل عنها خطورة. ولكنه كان دائما يعجز عن كشف الخطأ في استدلالاته الخاصة، وإذا لم يكن في وسعنا أن نتهم سقراط بالغش والخداع في المناقشة، فإنه كان على الأقل مسئولا عن ذلك الاتجاه اليوناني إلى جعل الفلسفة نوعا من الجدال اللفظي الذي هو أشبه ما يكون بمباريات مصارعة عقلية، تضيع فيها الحقيقة الهادئة في غمار المعارك الكلامية والرغبة المتحمسة في قهر الخصوم.
ولقد كان سقراط يدعي أنه لا يعلم شيئا، ويتخذ موقف البراءة والسذاجة من خصومه، ويطلب إليهم أن يزيدوه علما. ولكن هذه البراءة الفكرية كانت تختفي وراءها - في واقع الأمر - نزعة قطعية جازمة، سرعان ما تظهر عندما يحتار الخصم ويعجز عن المضي في المناقشة، وقوام هذه النزعة القطعية مجموعة بسيطة من المبادئ الثابتة: «كالقول أن الفضيلة هي المعرفة، وأن العادل وحده هو السعيد، وأن أول واجبات الإنسان معرفته لنفسه، وأن علو المرء بنفسه أجدى من أية عناية يوجهها إلى الأشياء الخارجية»،
2
فإذا ما أحرجه الخصم في مسألة معينة، عاد إلى التذرع بجهله الدائم، وذكرنا بالنبوءة التي أعلنت أنه أحكم الإغريق؛ لأنه كان يعلم أنه جاهل، على حين أن غيره لا يعلمون مثله أنهم لا يعلمون. ومع ذلك فقد كان سقراط أبعد الناس عن روح الشك؛ لأن افتراض وجود معرفة يقينية وإمكان وصول العقل البشري إليها كامن في كل عبارة نطق بها.
ومع ذلك فإن لانجه لا ينكر أن سقراط أسدى إلى الفلسفة خدمة كبرى، فمن الممكن أن يعد رائدا للنزعة النقدية في الفلسفة؛ لأن هدفه كان تمهيد الطريق للمعرفة الحقة بالقضاء على كل معرفة باطلة، ووضع منهج يتيح التمييز بين الحقيقة والبطلان، فمنهج سقراط إذن نقدي في أساسه، وفكرته القائلة إن النقد أساس المعرفة، كانت ولا تزال فكرة لها قيمتها الكبرى في الفلسفة، والأهم من ذلك أنه أسهم في تأكيد التمييز بين المظهر والحقيقة، وأكد أن العلم إنما يكون بالماهيات الكلية للأشياء، على حين أن الظواهر البادية لا تصلح أساسا لأية معرفة حقة.
ويشترك سقراط مع أفلاطون وأرسطو في أنهم جميعا قد أحدثوا رد فعل عنيف على النزعة المادية السائدة لدى الفلاسفة اليونانيين السابقين عليهم، ولم يكتفوا بذلك وإنما قلبوا موازين الأمور بحيث أصبحت وجهة النظر الدنيا هي العليا، وأحيوا من جديد تلك الأخطاء والأوهام القديمة التي كان الماديون الأولون قد قضوا عليها. ولكنهم أحيوها من جديد في صورة أبهى وأروع، وأضفوا عليها سلطة ونفوذا، وبينما كانت الخرافة القديمة صريحة واضحة، أصبحت على أيديهم تكتسي بثوب وقور، هو ثوب العقل المصوغ في قالب بشري بحت، والغائية التي تصور الطبيعة على مثال الإنسان.
ولقد ركز الماديون القدماء أبحاثهم في ميدان العلوم الطبيعية والرياضية؛ أي في ذلك الميدان الذي يستطيع العقل إحراز تقدم حقيقي فيه. أما رد الفعل الذي بدأه سقراط فقد نقل مركز الاهتمام إلى علوم الأخلاق والنفس البشرية؛ أي إلى ميدان يستحيل فيه تحقيق تقدم تتفق عليه كل الأذهان. بل إن أرسطو عندما أراد أن يعود فيما بعد إلى بحث تلك الفروع القديمة التي تجاهلها أفلاطون وسقراط، خلط بين البحث الطبيعي والبحث الأخلاقي، وذلك بإدخاله فكرة الغائية، وهي فكرة ذات أصل أخلاقي واضح؛ فالغاية عند أرسطو تتفق مع الماهية الفكرية للأشياء. ولكن هذا يعني أننا نسبنا إلى هذه الغايات القدرة على تحقيق ذاتها في الأشياء الطبيعية، وهي فكرة لا يمكن تصورها في العلم، ولا ترجع إلا إلى التشبيه بطريقة الإنسان العملية في تشكيل الأشياء حسب غاية معينة.
3 (3-3) هل كان ديكارت ماديا؟
يتحدد موقف ديكارت من المادية من خلال حقيقتين متعارضتين: فمن الشائع أن يقال: إن ديكارت كان عدوا للفلسفة المادية، وأنه فتح الطريق أمام المثالية بقضيته المشهورة: «أنا أفكر إذن أنا موجود». ولكن من الواجب أن نلاحظ - من جهة أخرى - أن واحدا من أشد الماديين الفرنسيين تطرفا - وهو «لامتري» - يؤكد انتسابه إلى ديكارت، فكيف إذن نحل الإشكال الذي تنطوي عليه هاتان الحقيقتان المتعارضتان؟
يرى لانجه أن ديكارت قد دفع المذهب المادي إلى الأمام دفعة قوية عندما أبدى اهتمامه المشهور بالرياضيات واتخذ منها أنموذجا لكل العلوم. صحيح أن الرياضة علم عقلي، ذو منهج استنباطي، وأن الطريقة الاستنباطية تتنافى مع روح المذهب المادي، التي هي تجريبية في أساسها، «ومع ذلك فقد كان ديكارت هو العامل الأكبر على سيطرة ذلك الجانب الرياضي من الفلسفة الطبيعية، الذي طبق على جميع ظواهر الطبيعة معيار العدد والشكل الهندسي»،
4
وكان معنى ذلك تغليب النزعة الآلية في بحث الطبيعة، وهي نزعة مادية في أساسها، وإذن فقد كان ديكارت هو الذي أذاع فكرة الآلية في هذه الفترة من تاريخ الفلسفة الحديثة، وهي الفكرة التي ظهرت بأوضح صورها في كتاب لامتري «للإنسان الآلة
L’homme machine »، وإلى ديكارت ترتد الفكرة القائلة: إن جميع وظائف الحياة العقلية، فضلا عن المادية، تعد آخر الأمر نواتج لتغيرات آلية.
ومن المؤكد أن المادية قد وجدت سندا كبيرا في آراء ديكارت التي ترجع كل التغيرات في العالم الطبيعي - بل وفي الإنسان ذاته - إلى ظاهرة الحركة، إلى تأثير الأجسام بعضها في بعض، مما يؤدي تلقائيا إلى استبعاد التفسيرات الصوفية للطبيعة، ويقتبس لانجه في هذا الصدد عبارة ديكارت المشهورة في كتاب «انفعالات النفس»: «إن الجسم الميت لا يكون ميتا لأن النفس تغيب عنه، بل لأن الآلة الجسمية ذاتها تفسد في جزء أساسي منها»، ثم يعلق على هذه العبارة قائلا: «إذا تذكرنا أن كل الأفكار المتعلقة بالنفس لدى الشعوب البدائية إنما ترجع إلى مقارنة بين الجسم الحي والجسم الميت، لرأينا على الفور في هذه النقطة الواحدة إسهاما له أهمية في دعم المذهب المادي في المجال البشري»،
5
ومن هنا فإن لانجه يذهب إلى أن «لامتري» كان على حق عندما أرجع ماديته إلى ديكارت. وحين أكد أن ديكارت كان فيلسوفا حذرا، حاول تجنب رجال الدين فأضاف إلى نظريته نفسا في حقيقة الأمر خارجة تماما عن مضمون النظرية ذاتها.
ومع ذلك فإن الجانب المثالي موجود بدوره في تفكير ديكارت. ومن الجائز أن ديكارت قد احتفظ بالمادية المثالية معا دون أن يحاول التوفيق بينهما على نحو ما فعل كانت. ولكن الجانب المثالي هو الذي أثار اهتمام الناس، وطغى بذلك على الجانب المادي في فلسفته. أما ديكارت نفسه فكان الأمر لديه على عكس ذلك؛ إذ إنه لم يبد اهتماما كبيرا بالنظرية الميتافيزيقية التي ترتبط الآن باسمه، على حين أنه أبدى أشد الاهتمام بأبحاثه العلمية والرياضية، ونظريته الآلية في الطبيعة، وكل ما في الأمر أنه عندما وجد الناس يستحسنون آراءه الميتافيزيقية وبراهينه على وجود الله ولا مادية النفس، أطربه أن يشتهر بين الناس بأنه ميتافيزيقي كبير، وبدأ يبدي اهتماما متزايدا بهذا الجانب من مذهبه. وكان هذا التحول إلى الميتافيزيقا أدعى إلى اطمئنانه على نفسه من هجوم رجال الدين، «إذ إن من المعروف أن خوفه من رجال الدين قد دفعه إلى إعادة النظر في مؤلفاته التي كانت قد تمت بالفعل، ومراجعتها مراجعة دقيقة، ومن المؤكد أنه سحب منها - رغما عما كان يؤمن به فعلا - نظريته في دوران الأرض.»
6 (3-4) كانت والمذهب المادي
سبق أن أشرنا إلى أن لانجه كان من أنصار كانت المتحمسين، وقد يبدو غريبا أن يظهر مؤلف ضخم عن المذهب المادي على يد واحد من أقطاب النزعة الكانتية الجديدة في ألمانيا. ولكن الواقع أن لانجه قد وفق بين آراء كانت وبين المذهب المادي على طريقته الخاصة، فهو من ناحية ليس نصيرا متحمسا للمذهب المادي في كل الأحوال؛ ذلك لأن المادية في نظره لها قيمتها بوصفها طريقة في تفسير الظواهر تخلصنا من المبالغات والأوهام الميتافيزيقية، وتزيد الفلسفة اقترابا من روح العلم. ولكنها لا تعدو أن تكون «طريقة في تفسير الظواهر» فحسب؛ أعني أنها لا تقدم تفسيرا نهائيا للأشياء في ذاتها، وهي تقضي على ذاتها إذا حاولت أن تقيم بدورها نظرتها الميتافيزيقية الخاصة إلى الكون، وتدعي أنها التعبير الكامل عن الطبيعة النهائية للأشياء، وإذن فالمادية عنده مقبولة من حيث إنها منهج في النظر إلى الأمور، قريب من الروح العلمية الحقيقية. ولكنها مرفوضة من حيث إنها نظرية ميتافيزيقية في طبيعة الأشياء في ذاتها تظل مجهولة لدينا تماما.
ومن جهة أخرى فإن لانجه يذهب إلى أن كانت لم يكن معاديا للمادية إلى الحد الذي يتصوره معظم مؤرخي الفلسفة؛ ذلك لأن كانت قد تأثر أشد التأثير بفلسفة هيوم، وهيوم فيلسوف تجريبي لا يؤمن بوحدة الذات أو بوجود جوهر للنفس أو بأن النفس بسيطة متوحدة، ومثل هذه الآراء عند هيوم لا تتمشى مع الإيمان بخلود النفس؛ ومن هنا فإنها تضر بقضية اللاهوت على قدر إضرارها بقضية الميتافيزيقا، فإن كان صاحب هذه الآراء هو أقوى الناس تأثيرا في تفكير كانت، فمن الواجب أن ننظر إلى علاقة كانت بالمادية في ضوء مخالف لما هو مألوف ؛ إذ إن كانت - مع معارضته للمادية - لم يكن ممن يزدرونها أو يستبعدونها تلقائيا. وهكذا يعرض لانجه فلسفة كانت عرضا مفصلا، ويهتم بوجه خاص بفكرة مثالية المكان والزمان من حيث تأثيرها في موقفه من الفلسفة المادية، كما يهتم أيضا بمقولة العلية التي كانت آراء «كانت» فيها بمثابة رد فعل على نزعة الشك عند هيوم؛ بحيث انتهى إلى أن العصور الذهنية تنتسب بالضرورة إلى تركيبنا الخاص، لا إلى التجربة ذاتها، وعلى أية حال فإن لانجه يثبت أن كثيرا من عناصر الفلسفة الكانتية لا تتعارض مع المذهب المادي، ويكفي أن كانت يؤكد أن العالم الظاهري - وهو العالم الذي تبحث المادية في قوانينه - هو العالم الوحيد المعروف لنا، فلا تعارض على الإطلاق بين فلسفة كانت وبين أية نزعة مادية طالما أننا ننظر إلى هذا العالم على أنه عالم ظواهر فحسب، ومن المؤكد أن كانت لا يرفض على الإطلاق أي بحث علمي يهدف إلى استخلاص قوانين عالم الطبيعة، منظورا إليه على أنه عالم الظواهر. أما إذا ادعت المادية أن القوانين التي يصل إليها العلم متعلقة بالأشياء في ذاتها، فإنها في هذه الحالة تتعارض مع أصول الفلسفة الكانتية، وتتعرض في الوقت ذاته لنقد شديد من جانب المؤلف.
وسوف نرى في الجزء التالي من هذا البحث كيف أن لانجه يوجه انتقادات شديدة إلى المذاهب المادية التي تزعم أنها تتوصل إلى الطبيعة النهائية للأشياء، على الرغم من إيمانه بقيمة المادية من حيث هي منهج علمي في البحث. (4) المادية والعلم
أفادت المادية كثيرا من تقدم العلوم الطبيعية، حتى إن الماديين الذين عرفهم «لانجه» حاولوا أن يربطوا مذهبهم بالعلم ربطا نهائيا، مؤكدين أنه لا مجال في أي موضوع ما عدا العلم الطبيعي؛ إذ لا يوجد خارج الطبيعة شيء، ومعنى ذلك أن الفلسفة لم تعد لها مجال، بل لقد أصبحت - بعد تقدم العلوم الطبيعية - عائقا حقيقيا في وجه الفهم العلمي للعالم، وإذن فالماديون يقولون بهوية تفكيرهم مع العلم، على حين أن التفكير الفلسفي المضاد لمذهبهم لا يساعد في رأيهم على توسيع نطاق المعرفة.
ويتفق «لانجه» مع هذا الحكم بقدر ما ينطبق على الفلسفات المثالية الألمانية في تطوراتها بعد كانت، وهي الفلسفات التي يتخذ منها موقفا شديد العداء، فطريقة تفكير شلنج وهيجل وغيرهما من المثاليين تبرر بالفعل عدم ثقة العلماء بالفلسفة. غير أن الفلسفة في تطوراتها السابقة - أي منذ ديكارت حتى كانت - لم تكن تتخذ من العلم هذا الموقف، وإنما كانت تساير العلم وتسانده، بل كانت في أساسها طريقة علمية في النظر إلى الأمور، فضلا عن أنها كانت محاولة لكشف أوجه أخرى للعالم غير ذلك الوجه الذي تكشف لنا الحواس. وفي هذه الحالة يقف لانجه موقف المعارضة الشديدة من الادعاءات المادية، وينكر على هذا المذهب زعمه أنه هو الممثل الوحيد للعلم، وهو كفيل باستبعاد الفلسفة نهائيا من مجال المعرفة البشرية، فللفلسفة كل الحق في الوقوف إلى جانب العلم، وكل محاولة للاستغناء بالعلم عن الفلسفة مصيرها الإخفاق.
ويعتقد لانجه أن «كانت» يقدم إلينا مثلا رائعا لمفكر جمع بين الاهتمام بالعلم والإسهام فيه وبين القدرة على تشييد مذهب فلسفي وطيد الأركان، فقد كان «كانت» من أوائل من قالوا بالنظرية التي ترد أصل الأجرام السماوية إلى مجرد تماسك المادة المبعثرة في أرجاء الكون، وهو قد استبق المذهب التطوري في نواح غير قليلة؛ إذ تحدث في محاضراته العامة عن تطور الإنسان من حالة حيوانية سابقة. وفضلا عن ذلك فقد رفض كانت فكرة وجود «مقر» للنفس، وأكد أنها فكرة لا معقولة، وكثيرا ما كان ينادي بأن الجسم والنفس شيء واحد يدرك على نحوين مختلفين، وهذه كلها عناصر مادية غاية في الوضوح، تضمنها تفكير كانت واتسع لها. ومع ذلك فإن تفكيره الذي لم يكن يستطيع أن يتعلم المزيد من الماديين - لأن كل قضاياهم موجودة فيه ضمنا - قد ظل محتفظا بالطبع المثالي؛ أي إن كانت قد استطاع أن يعترف للعلم بمجاله الخاص ويسهم في تقدمه بجهود غير قليلة. ولكنه مع ذلك لم ينكر على الفلسفة حقها في استطلاع مجالات أخرى، فالعالم المعطى لنا عن طريق حواسنا، ولتنظيمه وجعله معقولا بالنسبة إلينا. ولكن نظرة العلم الآلية لا تسري إلا على عالم الظواهر هذا، ومن وراء هذا العالم يوجد عالم الأفكار الذي يتعين علينا ألا نتجاهله؛ فالعلم يقف عند حدود هذا العالم المثالي أو الفكري الذي لا تقدر على استطلاعه إلا الفلسفة.
أما الزعم بأن النظرة المادية هي وحدها الكفيلة بتحقيق تقدم المعرفة البشرية، فإن لانجه يرد عليه بقوله: إن هذه النظرة - على العكس من ذلك - محافظة بطبيعتها، فلا شيء يدفع المادي إلى تجاوز الظواهر الحسية المباشرة، إلى استخلاص أوجه جديدة غير مألوفة للأشياء، والقيام بتجارب ومحاولات جريئة تغير مجرى المعرفة السائد. بل إن هذه الجرأة وذلك التجديد يحتاجان إلى ذهن لا يتقيد بالمحسوسات المباشرة، ولا يحول شيء بينه وبين تجاوز ما هو معطى، والتحليق في آفاق أعلى من مستوى ما هو حاضر أمامه مباشرة؛ ومن هنا يؤكد لانجه أن الكشوف والانقلابات الكبرى في العلم قد تمت على أيدي علماء لم يكونوا من ذوي النزعة المادية.
7
فهل يعني ذلك أن لانجه يحارب المادية المعاصرة له ولا يقبل أية قضية من قضاياها؟ الواقع أن موقف لانجه من المادية - كما قلنا من قبل - موقف مزدوج، فهو يحفظ من المادية بفكرة انتظام الطبيعة وقانونيتها، ويرى في هذه النزعة وسيلة لمحاربة كل أنواع التفكير الخرافي أو الميتافيزيقا المغرقة في الغرور. ولكنه يعترض على المادية بشدة في فكرتها القائلة: إن المادة هي جوهر الأشياء والموجودات جميعا. ومع ذلك فمن الواجب أن ننبه إلى أن اعتقاده بانتظام الطبيعة لا يعني أن هذا الانتظام في رأيه «موضوعي»، ينتمي إلى طبيعة الأشياء ذاتها، بل إن تأثيره بتفكير كانت جعله يؤمن بأن هذا الانتظام يرتد آخر الأمر إلى الذات التي تضفي قوانينها ومبادئها - أو صورها ومقولاتها - على كل ما تدركه في عالم الظواهر.
فلنتأمل إذن كيف يطبق لانجه آراءه في مجالات علمية محددة: (4-1) علم الفيزياء
كان هذا العلم - في عصر لانجه - قد بدأ يغلب فكرة الطاقة على فكرة المادة، ويرد الثانية إلى الأولى. ومع ذلك فإن قانون بقاء الطاقة قد لقي تجاهلا من الماديين المعاصرين له، من أمثال فشنر
Frchner
وبوشنر
Büchner ؛ «ذلك لأن العنصر الصحيح في المادية - وهو استبعاد المعجزة والتخبط من مجال الطبيعة - يثبت بفضل هذا القانون على نحو أعلى وأعم مما يستطيع الماديون إثباته من وجهة نظرهم الخاصة. أما العنصر الباطل - وهو القول بأن المادة هي مبدأ كل ما هو موجود - فإنه يطرح جانبا - بفضل هذا القانون - على نحو يبدو نهائيا قاطعا.»
8
والواقع أن عدم قدرتنا على طاقة خالصة، إنما يرجع إلى ضرورة نفسية تجعلنا ندرج ملاحظاتنا تحت مقولة الجوهر؛ فنحن لا ندرك إلا طاقات. ولكنا نطالب بعنصر تحل فيه هذه الظواهر المتغيرة؛ أي بجوهر. وهذا الجوهر هو في ذاته مجهول؛ ومن هنا فقد عرف لانجه المادة بأنها «ذلك العنصر في الشيء، الذي لا نستطيع أو لا نريد أن نمضي في تحليله إلى طاقات، والذي نجمده ونثبته فنجعل منه أصلا للقوى التي نلاحظها وحاملا لها.» (4-2) علم الحياة
يبدو لأول وهلة أن نظرية التطور عند داروين قد استبعدت فكرة الغائية نهائيا من مجال علم الحياة. ولكن هناك نوعا من الغائية لا تستبعده هذه النظرية، هو ذلك النوع الذي اعترف به كانت، الذي هو مجرد إقرار بمعقولية العالم؛ ذلك لأن الداروينية بدورها ليست إلا نظرية تضفي طابعا معقولا على أصل الأنواع الحية، وإذن فغائية العالم ليست - من الوجهة الشكلية - إلا تكيف هذا العالم مع أذهاننا. وهذا التكيف يتطلب بالضرورة سيادة قانون العلية على نحو مطلق، دون تدخل من أية قوى خارقة للطبيعة، كما يتطلب أن تكون الأشياء قابلة للفهم عن طريق ترتيبها وتنظيمها في صور وأنواع محددة. وهذا بعينه ما فعلته نظرية التطور في مجال الأحياء، أما النوع الآخر من الغائية، القائل بتدخل قوى تخرج بالحوادث عن مجراها المنتظم، وهو الغائية التشبيهية بالإنسان، فإنه يتنافى مع أسس فلسفة كانت، مثلما يتنافى مع العلم ومع الداروينية بوجه خاص. (4-3) علم النفس
لا ينكر لانجه أهمية البحث العلمي التجريبي الحديث في علم النفس وعلم وظائف الأعضاء، فلهذه الأبحاث في نظره قيمة عظمى. ولكنها لا تؤدي بأية حال إلى دعم المادية، فلندرس تأثير العوامل الميكانيكية في الإدراك كما نشاء. ولكن كل ما سننتهي إليه في الواقع هو أننا كشفنا القوانين الآلية التي تنظم أفكارنا لا حواسنا، ولو استطعنا أن نرد شيء إلى الحواس؛ لوجدنا آخر الأمر أن الحواس ذاتها إنما هي أفكار في أذهاننا؛ «ذلك لأن كل تركيب مادي - حتى لو كنت أستطيع إثبات وجوده بالمجهر أو المشرط - يظل مع ذلك مجرد فكرة لي، ولا يمكن أن يختلف في طبيعته عما أسميه بالذهن»،
9
وهكذا فإن أي تفسير يمكن أن يأتي به علم النفس - بشأن مفاهيم مثل الإدراك أو الإحساس أو غيرها - لا بد أن يرد إلى طبيعة «تركيبنا»؛ لأن كل ما ندركه في صورة إحساس يرتد إلى فكرة في ذاتنا في آخر الأمر. ولا شك أن هذه الطريقة في تفسير كشوف علم النفس - أو أي علم آخر - كفيلة بأن تفسد أية نتيجة يتوصل إليها ذلك العلم؛ لأن كل شيء يرجع حسب هذا المقياس إلى «فكرة» ذاتية. وهذا النوع من «المثالية» يستحيل تفنيده بالمنطق المألوف، وكل ما يمكن أن يقال عنه هو أنه عقيم لا يغير من الأمور شيئا، وإنما يزيدها تعقيدا. (4-4) السياسة والأخلاق
يعني لانجه بالمادية في الأخلاق كل مذهب يحدد هدف السلوك الأخلاقي، لا على أساس فكرة تسري على نحو مطلق، وإنما على أساس السعي إلى تحقيق حالة مرغوب فيها، مثل هذا المذهب يبدأ - كالمادية النظرية - من المادة في مقابل الصورة، وكل ما في الأمر أن المقصود هنا ليس مادة الأجسام الخارجية، وإنما المادة الأولية للسلوك العلمي، أي الدوافع ومشاعر اللذة والألم.
10
وعندما تطبق هذه المادية الأخلاقية في مجال السياسة، تتحول إلى شكل من أشكال الأنانية: كالقول بالحرية الاقتصادية وبفكرة المنفعة، وتغليب القيم «العلمية» والرغبة في توسيع نطاق الأعمال الخاصة وتكديس الأرباح. وهكذا يربط لانجه بين الرأسمالية بجميع مظاهرها المعروفة، والتي كانت أشد تطرفا في عصره بطبيعة الحال وبين المادية؛ إذ إن الجشع الرأسمالي والرغبة في الانتفاع على حساب الغير إنما ترتبط - في رأيه - بالتقدم المادي وبالاهتمام بالأوجه المادية للحياة بعد الثورة الصناعية.
ولا شك أن آراء لانجه هذه تعد، من وجهة النظر المعاصرة، باطلة تماما؛ لأن المادية ترتبط في أذهاننا الآن بالعداء للرأسمالية، الذي يتمثل على أوضح صورة في المادية الديالكتيكية عند ماركس. ولعل الخلط الذي وقع فيه لانجه في هذا الصدد هو أوضح مظهر من مظاهر ذلك النقص الرئيسي في كتابه وهو تجاهله للمادية الماركسية وعدم إدخالها ضمن الأشكال المعترف بها للمذهب المادي؛ على أن في وسعنا أن نستخلص من هذا الخلط أمرا له دلالته البالغة؛ فها هو ذا مفكر استعرض تاريخ المادية، حتى عصره بدقة بالغة، وانتهى إلى الربط بينها وبين الرأسمالية في مجال الاقتصاد السياسي، أليس في هذا دليل بالغ على مدى الاضطراب في فهم كلمة «المادية». وفي استخلاص مضموناتها الأخلاقية والسياسية؟ الحق أن معظم الناس ما زالوا يربطون - عن وعي حينا ودون وعي أحيانا - بين المادية وبين معنى الجشع والسعي إلى الربح وتكديس الأموال وتحقيق المصالح الشخصية، فهل يكون من المستغرب - والحال هذه - أن نرى أشد دول العالم تمسكا بدافع الكسب والربح، وأعظم شعوب العالم حبا للمال، تتخذ من نفسها حامية للروحية في العالم ضد «مادية» الاشتراكيين؟ وهل يكون من المستغرب أن يتهم كل مذهب يرمي إلى تحقيق المزيد من عدالة التوزيع، إلى تأكيد قيم التعاون والتضامن فوق القيم الفردية الضيقة المحدودة، بأنه مذهب يتجاهل العناصر «الروحية» في الإنسان؟ الحق أن الأمور كلها مختلطة والمقاييس مقلوبة، وأن الصورة التي ما زالت عالقة بأذهان مجموعات كبيرة من البشر - في النصف الثاني من القرن العشرين - لا تقل اضطرابا - في المجال السياسي - عن تلك التي نجدها عند «لانجه» منذ قرن من الزمان، والسبب الأكبر في ذلك الاضطراب هو الخلط الكبير في فهم ذلك المصطلح العظيم الخطورة: مصطلح «المادية»، وهو خلط يمكن أن يعد دعامة كبرى ترتكز عليها دعايات القرن العشرين. (5) نصوص مختارة من كتاب «تاريخ المادية» (5-1) فضل التفكير العربي على العلم
في هذا النص يوضح لانجه موقف المفكرين والفلاسفة العرب من مشكلة المادية، التي يفهمها في هذا الجزء من الكتاب بمعنى يقرب من معنى «الروح العلمية»؛ ومن هنا فإن النص بأكمله يعد من خير الشواهد التي قدمها الكتاب الغربيون على فضل الحضارة العربية في ميدان العلم: ... كان ثالث الأديان التوحيدية الكبرى - وهو الإسلام - أقربها إلى الروح المادية، فقد كانت هذه العقيدة - التي هي أحدث العقائد الثلاث عهدا - أسرعها إلى رعاية الروح الفلسفية المتحررة، التي نمت مع الازدهار الرائع للحضارة العربية. وكان لها تأثير قوي في المحل الأول على يهود العصور الوسطى؛ ومن ثم على مسيحيي الغرب بطريق غير مباشر.
ولقد ظهرت في الإسلام - حتى قبل معرفة العرب للفلسفة اليونانية - شيع ومدارس متعددة في علم الكلام، تكونت لدى بعضها فكرة عن الله بلغت حدا من التجريد استحال معه على أي بحث فلسفي أن يمضي أبعد منها في هذا الاتجاه، على حين أن بعضها الآخر لم يكن يؤمن إلا بما يمكن تعقله وإثباته، وقد ظهرت في المدرسة الكبرى بالبصرة، طائفة من العقليين، تحت رعاية العباسيين، كانت تسعى إلى التوفيق بين العقل والإيمان.
ولو قارنا بين هذا التيار الزاخر من علم الكلام والفلسفة الإسلامية الخالصة، وبين المشائين الذين تطرأ أسماؤهم على أذهاننا عادة عندما يرد ذكر الفلسفة العربية الوسيطة؛ لبدا هؤلاء الأخيرون مجرد فرع ضئيل الأهمية نسبيا، دون تنوع مذكور في داخله، ولم يكن ابن رشد - الذي كان اسمه أكثر الأسماء شيوعا في الغرب بعد أرسطو - نجما يحتل المكانة الأولى في سماء الفلسفة الإسلامية، وإنما ترجع أهميته الحقيقية إلى أنه هو الذي تجمعت عنده نتائج الفلسفة العربية الأرسططالية التي كان هو ذاته آخر ممثل عظيم لها، وهو الذي نقلها إلى الغرب في مجموعة واسعة النطاق من المؤلفات، ولا سيما في شروحه على نصوص أرسطو. ولقد نمت هذه الفلسفة - شأنها شأن الفلسفة المدرسية المسيحية - من تفسير لأرسطو يتسم بطابع أفلاطوني محدث. ولكن على حين أن المدرسية الغربية - في مراحلها الأولى - لم تكن لها إلا معرفة ضئيلة باللاهوت المسيحي وخاضعة لسلطانه، فإن الينابيع التي تدفقت على العرب من خلال المدارس السريانية كانت أغزر بكثير، فمضى الفكر معها في طريق أكثر تحررا من تأثير اللاهوت، الذي شق لنفسه طرقا تأملية خاصة به. وكانت نتيجة ذلك أن الجانب الطبيعي من مذهب أرسطو قد نما بين العرب على نحو لم تعرفه المدرسية المسيحية الأولى على الإطلاق، مما أدى فيما بعد بالكنيسة المسيحية إلى أن تعد مذهب ابن رشد مصدرا لأشد أنواع التجديف ...
على أن من واجبنا أن نشكر الحضارة العربية في العصور الوسطى على عنصر آخر إلى جانب فلسفتها، ربما كان أوثق صلة بتاريخ المادية، هو أعمالها الهامة في ميدان البحث الوضعي. وفي الرياضيات والعلوم الطبيعية، بأوسع معاني هذه الكلمة، والحق أن الخدمات الرائعة التي أداها العرب في ميدان الفلك معروفة بما فيه الكفاية،
11
ولقد كانت هذه الدراسات بوجه خاص هي التي أدت - عندما ارتبطت بالتراث اليوناني - إلى إفساح المجال مرة أخرى لفكرة انتظام مجرى الطبيعة وخضوعه للقانون، وحدث ذلك في وقت أدى فيه تدهور الإيمان في العالم المسيحي إلى بعث اضطراب في النظام الأخلاقي والمنطقي للأشياء يفوق ما كان حاصلا في أية فترة من فترات الوثنية اليونانية الرومانية. وفي وقت كان كل شيء فيه يعد ممكنا ولا شيء يعد ضروريا. وكان يفسح فيه مجال لا حدود له لحرية الموجودات التي كان الخيال لا يكف عن إضفاء صفات جديدة عليها ...
وينبغي علينا في هذا المجال أن نبدي اهتماما خاصا بعلم الطب، فقد عالج العرب هذا العلم بحماسة بالغة، وهنا أيضا نجدهم، مع تعلقهم بالتراث اليوناني، يعملون بروح مستقلة ميالة إلى الملاحظة الدقيقة، ويضعون بوجه خاص مذهبا في الحياة يرتبط ارتباطا وثيقا بمشكلات المادية. وهكذا استطاع الحس المرهف لدى العرب أن يدرس الإنسان، فضلا عن عالم الحيوان والنبات - والطبيعة العضوية بأسرها على نحو لا يقتصر على استقصاء خصائص الموضوع المعطى، وإنما يتتبع تطوره وكونه وفساده؛ أعني نفس المجالات التي كانت النظرية الصوفية في الحياة تجد فيها دعامة لها.
ولقد سمعنا جميعا عن ظهور مدارس طبية قديمة العهد في المناطق الجنوبية من إيطاليا، حيث كان الاختلاط قويا بين العرب وبين العناصر المسيحية المثقفة؛ ففي «مونتي كاسينو» - ومن بعدها في ساليرنو ونابولي - ظهرت تلك المدارس الطبية الشهيرة، التي كان طلاب العلم يتقاطرون عليها من جميع أرجاء العالم الغربي.
ولنلاحظ أن هذا الإقليم ذاته هو الذي شهد أول ظهور لروح الحرية في أوروبا، وهي الروح التي يتعين علينا ألا نخلط بينها وبين المادية الكاملة، وإن تكن وثيقة الصلة بها على أية حال؛ ذلك لأن هذه المنطقة من أرض جنوب إيطاليا - ولا سيما صقلية - التي يبلغ فيها التعصب المجنون والخرافة العمياء أقصى مداهما في أيامنا هذه. وكانت في ذلك الوقت كعبة العقول المستنيرة ومهدا لفكرة التسامح.
فإذا عدنا إلى العلوم الطبيعية عند العرب، لكان لزاما علينا - في الختام - أن نقتبس عبارة همبولت
Humboldt
الجريئة، التي يقول فيها: إن العرب ينبغي أن يعدوا المؤسسين الحقيقيين للعلوم الفيزيائية «بالمعنى الذي نعتاد اليوم استخدام هذا اللفظ به»؛ فالتجربة والقياس
measurement
هما الأداتان الهائلتان اللتان شق بهما العرب طريق التقدم، وارتفعوا إلى مكانة تقع بين ما أنجزه اليونانيون في فترتهم الاستقرائية القصيرة، وما أنجزته العلوم الطبيعية في العصر الحديث. (من الجزء الأول، ص177-184)
أركان العلم لكارل بيرسن
تقديم
في كل عصر يحرز فيه العلم تقدما كبيرا في الميدان النظري والميادين التطبيقية، نجد مجموعة من العلماء الذين لا يكتفون بالإسهام في دفع عجلة الكشف العلمي إلى الأمام، وإنما يقومون أيضا بعملية نقد ذاتي يتأملون فيها حدود العلم ويراجعون مناهجه ويعددون موقعه بين سائر أوجه النشاط الفكري والروحي والمادي للإنسان. ولقد كان القرن التاسع عشر فترة تقدم علمي لا شك فيه؛ ومن هنا كان من الطبيعي أن يظهر فيه بين الحين والحين عالم لا يكتفي بممارسة الكشف العلمي، بل يحاول أن يتلمس الموقع الحقيقي للعلم وبين الفلسفة، ويغدو عالما متفلسفا أو فيلسوفا علميا.
والكتاب الذي نعرضه ها هنا مثل بارز من أمثلة النقد الذاتي التي قام بها العلماء في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، فهو يهدف إلى أن يشرح للعلماء ولغير المتخصصين في العلم وللمشتغلين بالفلسفة وبشئون الفكر عامة، المعاني المحددة لعدد كبير من المفاهيم الرئيسية في العلم الطبيعي، ويرمي إلى مناقشة المشكلات الهامة لمنطق البحث العلمي، وبيان موقع العلم الحديث في الحضارة التي يعيشها الإنسان اليوم.
ولقد كان الجو الفكري الذي ظهر فيه الكتاب هو ذلك الجو المميز لإنجلترا في نهاية القرن التاسع عشر، حيث ظهرت نزعة مثالية قوية سيطرت على الجامعات الإنجليزية الكبرى، وقادتها فئة من الهيجليين الإنجليز المتأخرين، ولا يمكن أن يفهم هذا الكتاب على حقيقته إلا إذا نظر إليه بوصفه رد فعل على هذه النزعة المثالية التي اعتقد مؤلف الكتاب أنها من أكبر العقبات التي تحول دون تقدم العلم، وسنجد فيما بعد أن آراء المؤلف نفسه لم تبتعد كثيرا عن المثالية الفلسفية، بل اتخذت في كثير من الأحيان صبغة ذاتية متطرفة، وإن لم يتنبه هو ذاته إلى هذه النتيجة، وعلى أية حال فقد كان هذا الكتاب من العوامل الهامة التي ساعدت على تغيير المناخ الفكري في إنجلترا، وعلى إرساء دعائم فهم معين للعلم ما زال يجد له أنصارا كثيرين في البلاد الأنجلوسكسونية، وأعني به النظرة التجريبية التي تمتد جذورها إلى القرن السابع عشر، والتي تمثل صفة من الصفات الملازمة لتفكير البلاد الناطقة بالإنجليزية، وإذا كانت بعض المناقشات التي تضمنها هذا الكتاب قد فقدت قيمتها لأن تقدم العلم تجاوزها بمراحل، فلا شك في أن موقفه الفكري العام له في تراث الإنسانية أهمية فائقة لارتباطه باتجاه من الاتجاهات الدائمة للفكر الفلسفي. (1) حياة بيرسن ومؤلفاته
ولد كارل بيرسن في لندن عام 1857م، لأب كان محاميا إنجليزيا مشهورا، وتلقى العلم في «الكلية الجامعية»
University College
في لندن، ثم في جامعة كيمبردج، حيث أظهر مقدرة كبيرة في فروع متعددة، منها التاريخ والأنثروبولوجيا والاجتماع والفلسفة والعلوم الرياضية، وقد عين في عام 1884م أستاذا لكرسي الرياضة التطبيقية والميكانيكا بنفس الكلية. وفي الفترة من عام 1911م إلى عام 1913م كان يشغل كرسي «جولتن»
Galton
لعلم تحسين السلالات
Eugenics
بالكلية ذاتها، وخلال الفترة الطويلة لاشتغاله بالتدريس الجامعي، كان يلقي محاضرات على الطلبة وجماهير المفاهيم المستخدمة في العلوم الطبيعية، وعلى أساس هذه المحاضرات تبلور في ذهنه كتاب «أركان العلم» الذي نقدمه في هذا البحث.
وإذا كان هذا الكتاب هو مصدر شهرة بيرسن في ميدان الفلسفة والبحث في المناهج العلمية، فقد اشتهر بين العلماء أنفسهم لأسباب مختلفة تماما، أولها أنه كان من الرواد الأوائل لعلم تحسين السلالات، الذي كان مؤسسه أستاذه «جولتن»، ثانيها - وأهمها - أنه قام بأبحاث لها أهميتها الكبيرة في علم الإحصاء النظري والتطبيقي، ولا سيما في ميدان تطبيق المناهج الرياضية الإحصائية على العلوم البيولوجية، ويعد بيرسن أحد رواد علم الرياضة البيولوجية
Biometrcs ، وقد أنشأ مجلة بهذا الاسم
Biometrika
ظل رئيسا لتحريرها من عام 1902م حتى وفاته في عام 1936م، كما كان في الفترة من 1925م إلى 1930م رئيسا لتحرير مجلة «حوليات علم تحسين السلالات»
Annals of Eugenics ، فضلا عن إشرافه على معمل تحسين السلالات بعد وفاة جولتن، وقيامه فيه ببحوث كثيرة منها تطبيقه لمبادئ هذا العلم على أستاذة جولتن في الكتاب الذي ألفه عن حياته، والذي سيرد في ثبت مؤلفاته.
وأهم مؤلفات كارل بيرسن - بالإضافة إلى مقالاته العلمية العديدة - الكتب الآتية: (1)
أبحاث في الملكة البشرية وتطورها
1 (1913م):
Essaies into the Human Faculty and its opment . (2)
الأساس الأخلاقي للاشتراكية (1885م):
Moral Basis of Sociaism . (3)
الاشتراكية نظريا وعمليا (1887م):
Socialism in Theory and practice . (4)
Chances of Death and other Studies in creation . (5)
الحياة القومية من وجهة نظر العلم (1901م):
National Life from the Standpoint of Science . (6)
حياة فرانسس جولتن ومراسلاته (في مجلدات 1915م-1925م):
Life and Letters of Francis Galton .
أما الكتاب الذي نقدمه في هذا البحث - وهو «أركان العلم»
The Grammar of Science - فقد ظهرت طبعته الأولى عام 1892م، ثم ظهرت له طبعة ثانية في عام 1900م، أضاف فيها فصلين عن التطور. وفي هذين الفصلين عالج العلوم البيولوجية بنفس المنهج الذي عالج به العلوم الطبيعية في بقية فصول الكتاب. ولكن النتائج التي توصل إليها في مجال البيولوجيا لم تكن مرتكزة على أساس متين؛ لذلك أصدر بيرسن طبعة ثالثة للكتاب في عام 1911م حذف فيها هذين الفصلين، وأضاف فصلا آخر عن الأفكار الثورية الجديدة في علمي: الفيزياء والفلك، هي الأفكار التي بدأت في الظهور بعد مرحلة التحول الكبرى التي شهدها مطلع القرن العشرين. ولقد كان بيرسن يعتزم إصدار جزء آخر لهذا الكتاب يعالج فيه علوم الحياة في ضوء آخر ما وصلت إليه من تطورات. ولكنه لم ينفذ خطته هذه لأسباب غير معلومة؛ لذلك ظلت هذه الطبعة الثالثة هي الطبعة المعتمدة لهذا الكتاب، وقد اعتمدنا في هذا البحث على طبعة معادة (
reissue ) لها، نشرتها مكتبة
Meridian Books (بنيويورك) في عام 1957م. (2) الأفكار الرئيسية في كتاب «أركان العلم»
منذ الصفحات الأولى لكتاب «أركان العلم»، لا يترك بيرسن أي مجال للشك في إيمانه المطلق بالعلم من حيث هو وسيلة الإنسان الوحيدة لحل كل مشكلاته؛ فالعلم أفضل سبيل إلى تعويد المرء الموضوعية والنزاهة في أحكامه، وتخليصه من التحيز والنظرة الشخصية إلى الأمور، وإذن فمن الصفات الأساسية التي ينبغي أن تتوافر في المواطن الصالح، أن تكون نظرته إلى الأمور علمية، ولا يتعين - من أجل تحقيق هذا الهدف - أن يكون المرء عالما محترفا أو متخصصا، وإنما يكفيه أن يعالج ما يحيط به من مشكلات اجتماعية وفردية بنفس الأسلوب الذي يعالج به العالم الطبيعي ما يعرض له من المشاكل.
ولا غناء لمجتمع يهدف إلى النهوض بنفسه عن اتباع الأسلوب العلمي في كل الأمور. صحيح أننا نسمع أصواتا كثيرة تردد - بأساليب مختلفة - الفكرة القائلة: إن للعلم مجالا محدودا لا يتعداه، وإن هناك وسائل أخرى تعيننا على شق طريقنا في ذلك الميدان الواسع الذي لا يسعفنا فيه العلم. غير أن بيرسن - وإن اعترف بقصور العلم وعجزه في ميادين متعددة - يؤكد تأكيدا قاطعا أن جهل العلم بمجال ما يعني أن أي منهج آخر يجهل هذا المجال بدوره ، ويعجز عن إرشادنا فيه، وعلى أية حال فمن الخطأ الاعتقاد بأن جهل العلم حاليا يعني أنه سيظل إلى الأبد جاهلا في المستقبل، فليس لنا أن نقطع بأن هناك ميادين معينة ستظل مستعصية على العلم إلى الأبد، وبأن هناك أنواعا أخرى من المعارف غير العلمية هي التي تهدينا في هذه الميادين؛ ذلك لأن قدرات العلم لا حدود لها، ولكل ما في الأمر أن هذه القدرات تتكشف بالتدريج، وتقتضي وقتا وجهدا طويلا. أما إذا ظلت هناك أمور يقف أمامها العلم عاجزا مهما بلغت درجة تطوره، فإن هذه الأمور تكون من ذلك النوع الذي يستعصي على المعرفة البشرية ولن يعيننا في فهمها أي منهج آخر غير العلم.
ولعل أشهر أنواع المعرفة غير العلمية هي الميتافيزيقا التي اتخذ منها الفلاسفة أداة لمنافسة العلم، ومرشدا للسير في المجالات التي يعجز عن إرشادنا فيها المنهج العلمي. ولكن بيرسن يؤكد أن الميتافيزيقا لا يمكن أن تسمى معرفة بأي معنى من المعاني، وإنما الميتافيزيقا نوع من الشعر غير الواعي بذاته، والفارق بين المفكر الميتافيزيقي والشاعر هو أن الثاني ينفع المجتمع لأنه شاعر لا يعترف بوظيفته الحقيقية، بل يصوغ الشعر في لغة العقل، ويذهب بيرسن في تأكيده لأهمية العلم إلى حد القول: إن الشعر نفسه ينبغي أن يبنى على حقائق العلم. بل إن العلم أكثر إرضاء لحاستنا الجمالية ولشعورنا بالتوافق والانسجام من الشعر ذاته؛ لأنه هو وحده الذي لا يتناقض مع الملاحظة والتجربة، وهو وحده الذي يستطيع ضم كل عناصر تجربتنا في نسق منسجم متآلف. (3) وقائع العلم
يرتبط تفكير بيرسن ارتباطا وثيقا بالمذهب التجريبي الإنجليزي في صورته التقليدية الموروثة عن هيوم في القرن الثامن عشر وجون استورت مل في القرن التاسع عشر، وأوضح مظاهر تأثيره بهذا التراث التجريبي الإنجليزي اعتقاده بأن العناصر الوحيدة التي يمكن أن تسمى «حقيقية»
real
بالمعنى الصحيح في هذا العالم هي لانطباعات الحسية
Sense-impressions ، فالسبورة ليست جسما أو جوهرا واحدا له صفات معينة، وإنما هي قبل كل شيء لون وملمس ووزن وصلابة وحرارة، وإذا كنا عادة ننسب هذه الصفات إلى جوهر معين يحملها كلها، فإن التفكير الصحيح يثبت لنا أنه لا يوجد من وراء هذه الانطباعات شيء؛ فهي آخر حد تصل إليه معرفة الإنسان، وإذن فالشرط الأساسي لإدراكي حقيقة هذه السبورة هو وجود انطباعات حسية مباشرة تتخذ نقطة بداية للإدراك، ثم «استنتاج» إمكان تلقي انطباعات أخرى لو توافرت الظروف الملائمة له: مثل استنتاج أن من الممكن كسر خشب السبورة أو حرقه إذا تهيأت الظروف الملائمة لذلك.
ولكل انطباع حسي مباشر تأثير مختزن في الذاكرة؛ بحيث تبعث هذه التأثيرات المختزنة من جديد لتكون جزءا كبيرا مما نطلق عليه اسم «الموضوع الخارجي»؛ ومن هنا كان بيرسن يتفق مع «لويد مورجان» على تسمية الموضوع الخارجي باسم «المركب»
construct ؛ أعني ما يجمع في تكوينه بين انطباعات مباشرة وانطباعات قديمة مختزنة، ولا ينكر بيرسن أهمية دور الاستدلالات العقلية في تكوين ما نسميه بالموضوعات الخارجية: «فنحن عندما نذكر أن كل محتويات ذهننا مبنية آخر الأمر على انطباعات حسية، فإننا نحرص في الوقت نفسه على تأكيد أن الذهن قد انتقل - عن طريق التصنيف والعزل - إلى إدراكات عقلية بعيدة كل البعد عن الانطباعات الحسية التي يمكن تحقيقها مباشرة، فمحتويات الذهن في أية لحظة أبعد تماما عن أن تكون مطابقة لنطاق الانطباعات الحسية الواقعية أو الممكنة في تلك اللحظة، ونحن نستخلص على الدوام من انطباعاتنا المباشرة والمختزنة استدلالات بشأن الأشياء التي تتجاوز نطاق التحقيق المباشر بالحس؛ أي إننا نستدل على وجود أشياء لا تنتمي إلى العالم الموضوعي، أو لا يمكن على أية حال التحقق بانطباع حسي مباشر من أنها منتمية إليه في اللحظة الراهنة»،
2
ويرى بيرسن أن مهمة العلم الحقيقية هي تصنيف محتويات الذهن هذه وتحليلها، والقيام بمقارنات واستدلالات دقيقة من الانطباعات الحسية المختزنة. ومن الإدراكات العقلية المبنية عليها؛ أي إنه - مع اعترافه بأن الانطباع الحسي هو الحقيقة الأولى لكل إدراك - يؤكد أن هذا الانطباع لا يصبح موضوعا للعلم إلا بعد أن يصل إلى مرحلة الإدراك العقلي
conception ، أو الإدراك الحسي
على الأقل.
ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الموقف الذي اتخذه بيرسن منذ البداية إلى نتائج ذاتية مثالية واضحة: فليس في وسعي أن أدرك إلا وعيي الخاص. أما وعي الآخرين فيدرك نتيجة استدلال فحسب،
3
وأما العالم الخارجي فهو في نظره «فكرة مزعومة»؛ ذلك لأن أقصى ما يمكننا أن نقترب به من ذلك العالم المسمى بالخارجي هو أطراف أعصابنا الحسية، وهو يشبه موقفنا بموقف عامل «التليفون» الذي لا يتصل بالمتحدثين إلا من خلال الطرف المجاور له من أسلاك «التليفون». بل إننا في موقف أسوأ من موقف صاحبنا هذا؛ إذ إننا لم نخرج أبدا من مركز «التليفون» ولم نشاهد أبدا واحدا من أولئك المتحدثين الذين تصلنا أصواتهم من خلال الأسلاك؛ فالعالم الخارجي بالنسبة إلينا - كما هو بالنسبة إلى هذا العامل - هو مجموع الرسائل أو المكالمات التي تنقلها الأسلاك (أو الأعصاب) إلينا حيث نكون، «فالرسائل تتوالى علينا من ذلك العالم الخارجي المزعوم في صورة انطباعات حسية، ونقوم نحن بتحليل هذه الرسائل وتصنيفها واختزانها وإجراء الاستدلال عليها. غير أننا لا نعرف شيئا على الإطلاق عن طبيعة «الأشياء في ذاتها»، وما يمكن أن يوجد عند الطرف الآخر من نظام الأسلاك التليفونية الخاص بنا.»
4
وإذن فمعرفتنا تقتصر على ما تنقله إلينا الأعصاب من أطرافها القريبة منا. أما ما يقع في الطرف الآخر منها، فيظل غير معروف وغير قابل لأن يعرف، وعالم الانطباعات الحسية هذا مغلق علينا تماما، ولا أمل لنا في أن نبعد عنه خطوة واحدة، وإذن ففكرتنا عن العالم الخارجي ليست إلا «إسقاطا» منا لانطباعاتنا الحسية خارجنا، ولا يوجد أساس للتمييز بين ما يوجد داخلي وما يوجد خارجي سوى «كمية الانطباع المباشر»،
5
أما ما يسميه الميتافيزيقيون بالأشياء في ذاتها، فلا نعرف نحن عنه إلا صفة واحدة، هي «القدرة على تكوين انطباعات حسية، وبعث رسائل تمر بأعصاب الحس حتى المخ، فهذا هو القول العلمي الوحيد الذي يمكن الإدلاء به بشأن ما يوجد وراء الانطباعات الحسية.»
6
هذه إذن صورة العالم عند كارل بيرسن: انطباعات حسية مباشرة هي الأساس الوحيد لمعرفتنا، واختزان لهذه الانطباعات في الذهن البشري، ثم إجراء تركيبات ومقارنات ذهنية بين الانطباعات المختزنة تتكون منها العناصر الأولية لكل بحث علمي؛ فالعلم إذن يتعلق بتحليل وتصنيف تلك المركبات الذهنية التي ترتد آخر الأمر إلى انطباعات حسية مباشرة، وإن كانت صورتها الراهنة تختلف عنها كل الاختلاف، ولعلنا قد أدركنا بوضوح مدى اقتراب هذه الصورة للعالم من تلك الصورة المناظرة لها عند التجريبيين الإنجليز - ولا سيما هيوم - ومدى وثوق الصلة بين مهمة العلم - كما يحددها بيرسن - ومثيلتها عند الوضعيين في أواخر القرن التاسع عشر (ولا سيما العالم الألماني إرنست ماخ
Mach ) وفي أواسط القرن العشرين (ولا سيما الفيلسوف الإنجليزي آير
Ayer )، ولن نتعرض ها هنا لنقد هذه الصورة للعالم وهذا التحديد لمهمة العلم. وحسبنا أن نوضح ذلك الأساس النظري الذي تقوم عليه فلسفة بيرسن العلمية، وهو أساس سنقوم فيما بعد بتحليل مفصل له. (4) القانون العلمي
هل يوجد القانون العلمي في الطبيعة ذاتها، أو في الذهن البشري الذي يهتدي إليه؟ وهل هناك فارق أساسي - في هذا الصدد - بين القانون العلمي وبين القانون التشريعي؟ يؤكد بيرسن أن هذين النوعين من القانون متشابهان في صفة أساسية، هي أن كلا منهما لا وجود له قبل تعبير الإنسان عنه، ولا معنى له إلا لأنه مرتبط بذهن الإنسان، «فالقانون العلمي، هو تلخيص أو تعبير موجز عن العلاقات والتعاقبات بين مجموعة معينة من الإدراكات الحسية والعقلية، ولا وجود له إلا عندما يصوغه الإنسان»،
7
ولما كان بيرسن يلغي فكرة الأشياء في ذاتها، ويرى الطبيعة متوقفة على ملكات الإنسان في الإدراك والاستعادة، فإن القانون الطبيعي في نظره متوقف بدوره على هذه الملكات، ولا صلة له بأي شيء يخرج عن نطاق الذهن البشري؛ وعلى ذلك فإن القانون الطبيعي لا تكون له صحة مطلقة إلا بالنسبة إلى نوع معين من الملكة الإدراكية، هو ذلك النوع الذي يتوافر للإنسان السوي.
ولا يعني بيرسن بهذا التعبير الأخير أن عملية الوصول إلى القانون العلمي ذهنية فحسب، بل يعني أيضا أن القانون ذاته، بعد التوصل إليه، ينطوي على ربط بين وقائع طبيعية وبين إدراكات عقلية تبعد تماما عن المجال الخاص بهذه الوقائع؛ فالقانون العلمي ليس كشفا لعلاقات موجودة في طبيعة الأشياء، وإنما هو «اختراع» لهذه العلاقات، هو وصف مختصر لطريقة تعاقب الانطباعات الحسية في مجال معين، أو اختزال ذهني يحل لدينا محل الوصف المطول لتعاقبات الانطباع الحسي،
8
وإذن فما يقوم به العالم عند وضعه قانونا طبيعيا هو أن يدرس مجموعة من الظواهر، ويصنفها ويحللها ويكشف العلاقات والتعاقبات بينها، ثم يصف أكبر عدد منها بأبسط طريقة ممكنة؛ ومن هنا كان من الخطأ الفادح أن نتحدث عن القانون العلمي وكأنه «يحكم» الطبيعة؛ إذ هو لا يعدو أن يكون «وصفا» للمجرى العادي لإدراكاتنا لا «تفسيرا» لها. (5) فكرة العلية
تقتصر مهمة القانون في معناه العلمي - عند بيرسن - على وصف تعاقبات الإدراكات الحسية عن طريق اختزال ذهني، ولما كان العلم يقتصر على الوصف، ولا يفسر شيئا، فمن الطبيعي ألا ننتظر منه تعليلا للترتيب الذي تحدث به هذه الإدراكات، أو إيضاحا لعلة تكرار هذا الترتيب، وبعبارة أخرى: فليس من مهمة العلم أن يضفي الضرورة على تعاقب انطباعاتنا الحسية؛ وعلى ذلك فإن ما يسمى بالعلية ليس إلا ملاحظة حدوث تعاقب معين وتكرار حدوثه في الماضي. أما أن هذا التعاقب سيستمر في المستقبل، فهذا ما يستحيل أن نجزم به، وإنما موضوع للاعتقاد أو الإيمان نعبر عنه بمفهوم «الاحتمال». وليس في وسع العلم مطلقا أن يبرهن على وجود أية ضرورة كامنة في التعاقب، أو أن يثبت بأي يقين مطلق أن من الضروري تكرار هذا التعاقب فيما بعد؛ فالعلم بالنسبة إلى الماضي وصف، وبالنسبة إلى المستقبل اعتقاد.
9
ومع ذلك فإن للعلية مفهوما شعبيا يشيع بين الناس، ويرتكز على ملاحظة قدرتنا على إحداث أمور معينة بإرادتنا، مثل رفع الحجر باليد عندما نريد ذلك؛ فالحوادث التي تتعاقب في هذه الحالة تبدو راجعة إلى فعل خاص أقوم به وأحدثه وأسببه؛ أي إن قوتي هي التي أدت إلى حدوث هذا التعاقب، وحتى لو سقط الحجر من يدي وكسر النافذة، فإن الفهم الشعبي لفكرة العلية يحكم في هذه الحالة بأن سبب هذا الكسر هو الحجر المتحرك؛ بحيث يظل لفكرة الإرغام أو الإجبار دور في هذه الحالة أيضا، مع أن كل ما يمكن قوله من وجهة النظر العلمية هو أن جزئيات الحجر كانت تتحرك بطريقة معينة نحو جزئيات الزجاج، وبعد اصطدامها بها أصبحت نفس الجزئيات تتحرك بطريقة مختلفة كل الاختلاف، وإذا كان في وسعنا أن نصف طريقة حدوث هذا التغير، فليس في استطاعتنا أن نقرر «لماذا» حدث، وأي إقحام لفكرة الضرورة أو القوة يقضي تماما على الطابع العلمي لأحكامنا. ومع ذلك فإن تاريخ الفلسفة حافل بأمثلة هذا الفهم الباطل الذي يخلط بين المفهومين الشعبي والعلمي للعلية، فأرسطو حين يعجز عن تعليل حدوث الحركة في البداية، يدخل فكرة المحرك الأول، ويستمر هذا الخلط حتى القرن التاسع عشر، حين نجد فيلسوفا مثل شوبنهور يجعل من الإرادة مبدأ كونيا، «ويضع الإرادة من وراء جميع مظاهر الكون، تماما كما يفعل البدائي الذي يفترض وجود إرادة إله العواصف من وراء كل عاصفة.»
10
على أنه ليس يكفي أن نقرر أن الخلط ظل سائدا في فهم الأذهان لفكرة العلية منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحالي، وإنما الواجب أن نبحث عن تعليل لهذا الخلط المتأصل في النفوس، والتعليل الذي يأخذ به بيرسن هو التعليل العملي: ففكرة العلية - في معناها الشعبي الشائع بين الناس - راجعة أساسا إلى اعتبارات عملية تجعل من المحتم على الكائن المفكر أن يفضي اطرادا ضروريا على تعاقب إدراكاته؛ فالأصل في فكرة العلية كما تشيع في الأذهان، هو إذن ضرورة عملية نعمل على تجسيمها في صورة ضرورة موجودة في الأشياء ذاتها، وتبلغ هذه الضرورة العلمية حدا يستحيل معه أن نفهم بعقولنا عالما يفتقر إلى مفهومي العلة والمعلول،
11
ومع ذلك فإن هذا النظام المطرد بأسره ليس إلا مسألة تجربة، واعتقادنا به ليس في حقيقته إلا اقتناعا مبنيا على الاحتمال.
أما الفهم العلمي لفكرة العلية عند بيرسن فإنه يتفق إلى حد بعيد مع تصور جون استورت مل القائل: إن العلة هي السابق المطرد
uniform antecedent ، وهو يصوغ هذا الفهم على النحو الآتي: «حيثما يكون تعاقب الإدراكات د، ه، و، ز مسبوقا بلا تخلف بالإدراك ج، أو تكون الإدراكات ج، د، ه، و، ز حادثة دائما بهذا الترتيب؛ أي تكون نظاما مطردا (
routine ) للتجربة، يقال: إن ج هي سبب د، ه، و، ز، بينما توصف الأخيرة بأنها نتائجها.»
12
هذا المعنى الذي ينبغي - في نظر بيرس - أن تفهم به العلية، يؤدي إلى اتساع نطاق العلية وانتشارها على نحو يتجاوز كثيرا نطاق «السبب المباشر» الذي تتصوره الأذهان العادية لكل ظاهرة، وما دامت المسألة مسألة تعاقب، فمن الطبيعي ألا نقتصر، في تحديدنا للعلة، على الظاهرة السابقة مباشرة فحسب. بل إن كل الظواهر السابقة يمكن أن تكون أسبابا متعاقبة، وبهذا تتسلسل العلل حتى آخر حد يمكن أن تصل إليه المعرفة الراهنة، ولنضرب لذلك مثلا: فلو تعقبت علة نمو شجرة في حديقتي؛ لوجدت هذه الشجرة راجعة إلى وجود الحديقة ذاتها، والحديقة ترجع إلى وجود المدينة. وهكذا تظل سلسلة العلل تمتد مكانيا إلى ما لا نهاية. كذلك فإن نمو الشجرة يرجع إلى اتصاف التربة بخصائص معينة تتصل بالتكوين الجيولوجي في العصور المختلفة، وبذلك ترجع سلسلة العلل إلى الوراء في الزمان إلى ما لا نهاية. وهكذا فإن تعقب علة ظاهرة واحدة يجرنا إلى البحث في الكون بأسره، ومع اعترافنا بأن العلم لا يحاول التوسع في بحث العلل إلى هذا الحد، فمن الواجب أن نتذكر هذه الحقيقة حتى ندرك مدى ارتباط ظواهر الكون بعضها ببعض، ومدى تماسك الفروع المختلفة للمعرفة البشرية.
ومن جهة أخرى فمن الواجب ألا نتصور هذا التعاقب الذي تتولد عنه في أذهاننا فكرة العلة والمعلول؛ على أنه تعاقب مطرد بين عناصر متماثلة تماما؛ فالواقع أن التماثل المطلق بين عناصر التجربة مستحيل، وإنما هناك تشابه تتفاوت درجته، ولا يصل أبدا إلى حد التكرار الكامل للعناصر الماضية. ومن المحال أن تتضمن التجارب العلمية المتكررة عوامل متماثلة في كل شيء، بل هي تنطوي دائما على قدر من التنوع مهما كان طفيفا،
13
فأساس الموجودات إذن هو الفردية، والتشابه بينهما أمر نسبي على مدى دقة وسائل التصنيف والقياس؛ بحيث أن هذه الوسائل لو ازدادت في المستقبل دقة لبدا لنا أن ما نسميه اليوم متماثلا هو في حقيقة الأمر مختلف، وبالاختصار فما نسميه بالطبيعة يتألف من عناصر وظواهر لكل منها فرديته الخاصة، ولا يمكن أن يتكرر واحد منها أكثر من مرة واحدة، وإن كنا نكتفي من أجل تحقيق أغراضنا العلمية بقدر من التشابه بين هذه الظواهر، ونتجاهل ما بينها من فروق فردية أو نعجز عن إدراك هذه الفروق نتيجة لقصور ما في متناول أيدينا من أدوات. (6) الارتباط بدلا من العلية
في وسعنا أن نستخلص من المناقشة السابقة لفكرة العلية نتيجتين أساسيتين تتعلقان برأي بيرسن الخاص في العلية:
الأولى:
هي أن ما يسمى بالعلة لا يقتصر في حقيقة الأمر على العنصر السابق مباشرة للظاهرة المراد تعليلها فحسب. بل إن سلسلة العلل تمتد نظريا، في المكان والزمان إلى ما لا نهاية.
والثانية:
أن الطبيعة لا تعرف اطرادا أو تماثلا أو هوية تامة بين الظواهر والتكرار المطلق فيها مستحيل. بل إن الصفة الأساسية لها هي الفردية، وأقصى ما يمكننا أن نجده بين ظواهرها هو درجات متفاوتة من التشابه
likeness . أما التماثل
sameness
فلا وجود له.
هاتان النتيجتان الهامتان تستتبعان تعديلا أساسيا في مفهوم العلية؛ فالعلة والمعلول في تجاربنا الإدراكية المألوفة لا يدلان إلا على تشابه متفاوت في الدرجة، لا على تكرار مطلق، وقانون العلية ليس إلا اقتطاعا من التجربة، ولا يكون ماهية التجربة ذاتها، والمشكلة الحقيقية لا تنحصر في السؤال القائل: هل يؤدي السابق - المسمى بالعلة - إلى تكوين اللاحق - المسمى بالمعلول؟ وإنما الأهم من ذلك أن نتساءل: ما هي الدرجة أو ما هو الحد الذي يؤدي فيه تشابه السابق إلى تشابه اللاحق؟ وإلى أي مدى يؤدي تنويع أحدهما إلى تنويع الآخر؟ ففي الحالات التي لا يؤدي فيها تنويع السابق إلى أي تأثير في اللاحق يكون هناك استقلال تام. وفي الحالات التي يؤدي فيها تنويع السابق إلى التنويع مطابق تماما للاحق يكون هناك اعتماد تام، غير أن الاستقلال التام والاعتماد التام حالتان متطرفتان، تمثلان في واقع الأمر حدا عقليا للمعرفة. أما في الحالات الفعلية التي يصادفها العالم في أبحاثه الواقعية، فلا وجود لمثل هذه الحالات المتطرفة، وإنما توجد درجات لا نهاية لها من الارتباط بين الظواهر، هي درجات تتفاوت اقترابا من أحد هذين الحدين العقليين وابتعادا عن الآخر.
وهكذا يستعيض بيرسن عن مفهوم العلية، الذي يراه مفهوما عتيقا بمفهوم الارتباط
correlation ، الذي يؤكد أنه أوسع نطاقا بكثير من المفهوم القديم؛ لأنه يضم في داخله كل العلاقات التي تقع بين حدي: الاستقلال المطلق والاعتماد المطلق، وعلى حين أن الاكتفاء بفكرة العلية لم يكن يتيح تحديدا كميا لدرجة الاعتماد أو الاستقلال بين الظواهر موضوع البحث بين هذين الحدين المتطرفين؛ ففي حالة العلية نجد أن الظواهر إما أن تكون خاضعة لهذه العلاقة أو لا تكون. أما إذا استعضنا عن العلية بالارتباط فإن المجال يتسع لعدد لا نهاية له من الحالات الوسطى التي تتراوح بين هذا الحد المتطرف وذاك، كذلك يمكننا - بفضل فكرة الارتباط - أن نربط الظاهرة الواحدة بعدد كبير من الظواهر الأخرى التي قد يكون لكل منها دور متفاوت الدرجة في إحداث الظاهرة الأولى، وهو ما يتفق مع الفهم الواسع لفكرة العلية، بما يؤدي إليه من تسلسل لا يقف عند حد، على حين أن المفهوم القديم للعلية يقتصر على الربط بين ظاهرتين أو مجموعتين من الظواهر فحسب، ومن جهة ثالثة فإن فكرة الارتباط تصلح للتعبير عن عالم لا يتضمن إلا عناصر فردية غير متكررة، لا يعترف فيه بالتماثل التام بين الظواهر، على حين أن مفهوم العلية يفترض وجود أنماط متكررة بينها تجانس كامل، بالاختصار؛ ففي فكرة الارتباط مرونة تفتقر إليها مقولة العلية الجامدة. وفيها إحلال للفوارق الكمية محل التفسيرات الكيفية، يتمشى مع الاتجاه العام للعلم الحديث.
ونستطيع أن نقول: إن إصرار الباحثين عندما تصادفهم ظاهرة معينة على أن يتساءلوا: ما سببها؟ يؤدي بهم في كثير من الأحيان إلى أخطاء أو مواقف متحيزة كان يمكنهم التخلص منها بسهولة لو استعاضوا عن السؤال السابق بالسؤال : ما درجة ارتباطها بالظواهر الأخرى؟ فالسؤال الأول يقتضي إجابة واحدة نهائية هي في معظم الأحيان مستحيلة بالنسبة إلى هذا الكون العظيم التعقيد. أما السؤال الثاني فمن الممكن الإتيان بجواب معقول عنه، واكتساب معرفة عظيمة القيمة بشأنه، ولو تناولنا ظاهرة طبيعية معقدة مثل حالة الطقس؛ لوجدنا أن العوامل التي تتدخل فيها تبلغ من التشابك حدا يستحيل معه الكلام عن «سبب» في هذا الصدد، على حين أن فهم حالة الطقس عن طريق تحديد مدى ارتباطها بمختلف العوامل المؤثرة فيها - كالحرارة والرطوبة والضغط ... إلخ - يؤدي إلى إلقاء ضوء واضح على المشكلة موضوع البحث. أما في حالة العلوم الإنسانية فإن فكرة الارتباط بالقياس إلى فكرة العلية أوضح بكثير، خذ مثلا محاولات العلماء تعليل ظاهرة الأجرام: فكثير من هؤلاء العلماء يأتون بنظريات يتضمن كل منها سببا واحدا يعللون به هذه الظاهرة، كعوامل البيئة الاجتماعية أو الأسرة أو العامل الاقتصادي أو الوراثي أو التكوين الجسمي العصبي. ولكن الواقع يثبت دائما أن ظاهرة الجريمة أعقد من أن ترجع إلى واحد فقط من هذه العوامل، وإن كانت الحالات التي تدرس قد تبدو مرجحة لأحد من هذه العوامل على الباقين، وعلى العكس من ذلك فإننا لو بحثنا هذه الظاهرة من خلال فكرة الارتباط، أي إذا حددنا مقدار ارتباطها بالعامل الاقتصادي وبعامل تفكك الأسرة وغيرها من العوامل التي ينبه إليها الجريمة؛ لوصلنا إلى نتائج عظيمة الفائدة، دون أن نقيد أنفسنا بنظرية واحدة ذات طابع مطلق، فهناك إذن مجالات تشوه طبيعتها إذا عولجت عن طريق مقولة السببية، بينما يلقى عليها ضوء ساطع لو بحثت من خلال فكرة الارتباط. (7) المكان والزمان
المكان أساسا تعبير ذهني عن قيام ملكة الإدراك بفصل الانطباعات الحسية الموجودة معا في مجموعات من الانطباعات المترابطة، ففكرة المكان في رأي بيرسن تتوقف أساسا على قدرة الملكة الإدراكية التمييز والفصل بين المجموعات المختلفة للانطباعات الحسية، وأساس عملية الفصل والتمييز هذه هو التعود والتجارب السابقة، وهي بطبيعتها عملية ذهنية لا تنطبق على الواقع نفسه، وإنما تحدث لاعتبارات عملية، فذهننا يقوم بوضع حدود حول مجموعات معينة من الانطباعات، وهي حدود «اعتباطية» لا تطابق أي شيء حقيقي في عالم الانطباع الحسي أو الظواهر.
ويوافق بيرسن على رأي ليبنتس القائل: إن المكان هو «ترتيب» الظواهر الممكنة الموجودة معا. ومن الواضح أن فكرة الترتيب لا علاقة لها بوجود الظواهر ذاتها؛ إذ إن من الممكن تصور هذه الظواهر بترتيب مخالف؛ وعلى ذلك فالترتيب إنما ينتمي إلى طريقة الذهن في إدراك الظواهر، فمن الواجب إذن أن نتخلى عن النظر إلى المكان على أنه فراغ هائل وضعت فيه الأشياء بطريقة لا صلة لها بملكة الإنسان الإدراكية؛ إذ إن المكان ليس شيئا يضاف إلى الموضوعات الموجودة فيه، وإنما هو لا ينفصل عن هذه الموضوعات من حيث هي مرتبة على النحو الذي تقتضيه قوانا الإدراكية؛ وعلى ذلك فالقول: إن الشيء «يوجد في المكان» يعني أن الملكة الإدراكية قد ميزته من مجموعة أخرى من الانطباعات الحسية، التي توجد معا وجودا واقيا أو ممكنا، وقد يجوز لنا أن نتصور أن للإحساسات وجودا بدون أية ملكة إدراكية. ولكن لن يكون هناك عندئذ ذلك النوع من الإدراك الذي نسميه بالمكان،
14
والنتيجة التي تترتب على ذلك هي القول: إن المكان ينتمي إلى الملكة الإدراكية «الفردية»، فكيف حدث أن تشابهت طرق الإدراك الفردية هذه بين الناس؟ أو بعبارة أخرى: لماذا كان المكان عندي وعندك متشابها؟ يعلل بيرسن ذلك بقوله: «في الصراع بين جماعة وجماعة - وكذلك بين الجماعة وبيئتها - يكون من الواضح أن أية جماعة تجني فائدة كبرى من الاتفاق الوثيق بين الملكات الإدراكية لأفرادها، بينما تلحق أضرار كبيرة بالجماعة التي لا يتوافر لأفرادها مثل هذا الاتفاق، فتكون النتيجة الطبيعية استمرار بقاء الجماعة الأولى»،
15
وهكذا يتصور بيرسن أن تشابه المكان بين الأفراد المختلفين راجع إلى عوامل اكتسبت في مرحلة معينة من مراحل الصراع من أجل البقاء، ويربط على نحو غريب بين الرأي المثالي عند «كانت» وبين نظرية التطور، وذلك في تعليله الهزيل لاتفاق الأذهان على مكان واحد رغم أن كلا منها يدرك المكان الخاص به فحسب.
ويترتب على ذلك أن السؤال عن مدى ضخامة المكان سؤال لا معنى له؛ فالمكان ضخم بالنسبة إلي فقط وأبعد النجوم، وصفحة الكتاب الذي أمسك به هما بالنسبة إلي مجرد مجموعتين من الانطباعات الحسية، والمكان الذي يفصل بينهما ليس فيهما، وإنما في طريقة إدراكنا، ومن المحال أن يكون المكان - كما يصوره بعض الكتاب - ممتدا إلى حد يتجاوز خيالنا؛ إذ إنه في واقع الأمر لا يمتد إلا بقدر ما تمتد ملكتنا الإدراكية؛ وعلى ذلك فإن سر المكان إنما يوجد فينا. وفي وعينا لا خارجنا.
وليس معنى ذلك أن بيرسن ينكر المكان اللامتناهي وإنما هو يعترف به، وإن كان يؤكد أن هذا اللامتناهي هو المكان الذهني أو الهندسي؛ ففي وسعنا أن نتصور مكانا لا متناهيا في الكبر، أو انقساما للمكان لا متناهيا في الصغر. ولكننا حين نفعل ذلك نكون قد انتقلنا من المكان الواقعي إلى المكان العقلي أو التصوري، وإن كان هذا الانتقال يحدث في كثير من الأحيان بطريقة لا شعورية، فتكون النتيجة أخطاء لا حصر لها في موضوع المكان اللامتناهي في الكبر أو الصغر. وفي هذا المكان العقلي نتصور الانطباعات الحسية على أنها محددة بمسطحات ومحاطة بخطوط مستقيمة أو منحنية. وهكذا يرتبط المكان التصوري ارتباطا أساسيا بعلم الهندسة، وهنا قد يتساءل سائل: ولم كان علم الهندسة بالضرورة علما ذهنيا موضوعاته من صنع العقل وحده؟ يجيب بيرسن على هذا السؤال بقوله: إن الهندسة تقوم أساسا على فكرتين لا وجود لهما في التجربة، هما فكرتا المماثلة
ameness
والاتصال
continuity ، فمفهوم الخط - مثلا - يفترض مماثلة تامة واتصالا كاملا بين كل أجزائه. ولكن هذا الاتصال وهذه المماثلة لا جود لها إلا بالفكرة. أما التجربة فلا تعرف عناصر تقوم بينها مماثلة كاملة أو اتصال تام، «وهكذا لا نجد مفرا من الاعتراف بالنتيجة القائلة: إن التعريفات الهندسية نتائج لعمليات يمكن أن تبدأ في الإدراك الحسي. ولكن حدودها لا يمكن أن تبلغ فيه؛ فالمفاهيم الأساسية للهندسة ليست إلا رموزا تتيح لنا الوصول إلى تحليل تقريبي لانطباعاتنا الحسية. ولكنه لا يمكن أن يكون تحليلا مطلقا لها؛ فهي اللغة الاختزالية العلمية التي نصف بها ونصنف ونصوغ خصائص تلك الطريقة في الإدراك، التي نسميها بالمكان المدرك حسيا، وصحتها - شأنها شأن كل المفاهيم الأخرى - إنما تكمن فيما تتيحه لنا من قدرة على تقنين التجربة الماضية والتنبؤ بالتجربة المقبلة، ولعلنا لن نجد مثلا أفضل من الهندسة لإثبات أن العلم يصف عالم الظواهر بمساعدة مفاهيم لا تطابق أية حقيقة واقعة في الظواهر ذاتها.»
16
وما يقال على المكان يقال كثير منه على الزمان، فهما معا طريقتان تميز بهما الملكية الإدراكية موضوعات إدراكها، وكل ما في الأمر أن المكان يدل على وجود إدراكاتنا معا في زمان واحد، والزمان يدل على تلاحق إدراكاتنا في موقع واحد من المكان؛ أي إن كلا من الفكرتين تعتمد في تصورها اعتمادا أساسيا على الأخرى، والتصور الجامع بين الزمان والمكان هو الحركة؛ أي تغير المكان مع تغير الزمان؛ ومن هنا كانت الحركة في رأي بيرسن هي الطريقة الأساسية التي تتمثل لنا بها الظواهر ذهنيا. وكانت الأفكار التي نصف بواسطتها تغير المكان والزمان في ظاهرة الحركة أفكارا هندسية، أو قوالب نميز بها ونصف محتويات تجربتنا الإدراكية الحسية التي تندرج كلها تحت ظاهرة «الحركة» المعقدة، فعلم هندسة الحركة هو بدوره وصف ذهني أو تصوري لما يحدث في عالم المدركات الحسية من تغيرات، نستخدم فيه مفاهيم فكرية كمفهوم السرعة
Velocity
والعجلة
acceleration
والدوران
rotation ... إلخ، وإذن فما يطلق عليه اسم «حركة الأجسام» ليس حقيقة من حقائق الإدراك الحسي، وإنما هو طريقة ذهنية أو تصورية نصف بها التغيرات التي تطرأ على مجموعات الانطباعات الحسية. (8) المادة
ينظر بيرسن إلى المادة
matter
على أنها بدورها مفهوم تصوري أو ذهني، يستخدم في وصف انطباعاتنا الحسية، ولا يطابقه وجود فعلي في الخارج. أما المادة التي يشيع وصفها بأنها علة الانطباعات الحسية فهي - في رأيه - كيان ميتافيزيقي لا معنى له من وجهة نظر العلم، وفكرة لا تقل عمقا عن أي «شيء في ذاته» وعن أي إسقاط آخر للمعاني البشرية في مجال ما بعد المحسوس، سواء أكان هو «القوة» أم «العقل اللامتناهي» أم «الإرادة» ... إلخ.
ومن الشائع أن توصف المادة بأنها صلبة وغير قابلة للاختراق، وهاتان بالفعل صفتان تتميز بهما مجموعة كبيرة من أفراد فئة الانطباعات الحسية المسماة بالمادية. غير أنهما لا تنتميان بالضرورة إلى كل أفراد هذه الفئة؛ فالصلابة وعدم القابلية للاختراع أمران نسبيان، ولا يدلان على صفة مطلقة تنتمي إلى عالم الواقع. أما القول بأن المادة تتميز بالدوام والبقاء، فهو - في رأي بيرسن - قد يكون راجعا إلى استمرار الانطباعات الحسية لا إلى استمرار شيء غير مدرك من وراء هذه الانطباعات، وهو يضرب في هذا الصدد مثلا بالموجة؛ فعندما نرى الموجة تتحرك في البحر ، تتكون لدينا عنها انطباعات حسية متماثلة ومستمرة؛ بحيث يبدو لنا أن «نفس» الموجة هي التي تتحرك، وهي التي تقترب منا. ومع ذلك فلو ألقينا فيها قطعة من الفلين لارتفعت وانخفضت في نفس الموقع عندما تمر الموجة بها، ولما انتقلت معها، مما يثبت أن الموجة ليست هي نفسها التي تتحرك. وهكذا قد تظل الموجة محتفظة بشكلها، وتتكون لدينا عنها نفس المجموعة من الانطباعات الحسية. ومع ذلك يكون أساسها أو مادتها متغيرا على الدوام. وبعبارة أخرى: فإن تماثل الانطباعات الحسية لا يعني في كل الأحوال تماثل المادة الأساسية المكونة لها.
ولعل مما يلفت النظر حقا أن بيرسن يهاجم فكرة المادة - بمفهومها الشائع - على أساس أنها تفتح الباب لكل الخرافات الميتافيزيقية التي يبذل العلم جهدا كبيرا لكي يتخلص منها،
17
وهو بطبيعة الحال لا يقصد أن المادية مذهب لاهوتي. ولكنه يربط بين الاعتقاد بالمادية وبين الاعتقاد بما وراء الحس؛ إذ إن المادة هي العنصر الدائم من وراء تغيرات الانطباعات الحسية؛ فحينما نقول بمادة خارجية «تسبب» الانطباعات المحسوسة، نتجاوز نطاق الحقيقة الوحيدة التي يجوز لنا الاعتراف بها، وهي هذه الانطباعات، فنكون في ذلك أشبه بالميتافيزيقيين أو اللاهوتيين في شطحاتهم التي يتجاوزون بها عالم الواقع، ويفترضون بها كيانات ليس لوجودها أي مبرر؛ فالمادية إذن - في رأي بيرسن - تسير في نفس الطريق الذي تسير فيه المذاهب الميتافيزيقية واللاهوتية، وهي مضادة أساسا للروح العلمية السليمة، وقد وصفت هذا الرأي بأنه ملفت للنظر؛ لأن فيلسوفا آخر ينتمي إلى نفس التراث الإنجليزي الذي ينحدر منه بيرسن - وهو الفيلسوف باركي - قد هاجم المادية لأسباب مضادة تماما، هي أنها تفتح الطريق للإلحاد، وتسد الطريق أمام الإيمان الديني. ومن المؤكد أن الذهن الفاحص يستطيع أن يستخلص دلالات كثيرة عميقة من هذه المقارنة بين فيلسوفين ينتميان إلى تراث فكري واحد، يحارب أحدهما المادية دفاعا عن الدين، ويحاربها الآخر دفاعا عن العلم! (9) الأفكار الفيزيائية الحديثة
فيما بين الطبعة الأولى (1892م) والطبعة الثالثة (1911م) لكتاب «أركان العلم»، حدثت ثورة كبرى في علم الفيزياء قلبت مفاهيمه الأساسية رأسا على عقب، ولم يكن من السهل على من يكتب في العقد الأول من القرن العشرين أن يدرك الأهمية الهائلة لنظرية النسبية وللكشوف الضخمة في ميدان الذرة والكهرباء والمغناطيسية؛ ومن هنا فلم يكن في استطاعة بيرسن، بل لم يكن من المنتظر منه، أن يتمكن في الفصل الذي أضافه في الطبعة الثالثة عن المفاهيم الفيزيائية الحديثة، من استيعاب هذه المفاهيم وإدراك دلالاتها في نفس الوقت الذي كان يجري فيه تعديلها بسرعة لاهثة، ومبعث الطرافة في هذا الفصل هو أنه يمثل رأي عالم تكونت معظم أفكاره في ظل المفاهيم القديمة لعلم الفيزياء، ويكشف عن وقع هذا الانقلاب الضخم في أذهان علماء ذلك العصر.
ويلخص بيرسن رأيه في التغيير الشامل الذي طرأ على علم الفيزياء بقوله: «على حين أنه خلال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر مفهوم «المادة» هو الذي يعد أساسيا في علم الفيزياء، وكانت لهذه المادة خاصة غير مألوفة تسمى بالكهرباء، فإنه يبدو اليوم أن الكهرباء ينبغي أن تعد أهم من المادة، بمعنى أن ما كنا نعده مادة أساسية ينبغي أن يتصور الآن على أنه شكل من أشكال ظواهر كهربائية عظيمة التعقيد»،
18
ولا جدوى هنا من تتبع آرائه التفصيلية التي يطبق بها الحكم العام على المفاهيم الفيزيائية المختلفة؛ إذ إن هذه الحركة كانت - كما قلنا من قبل - ما زالت في بدايتها، وإنما الذي يعنينا في هذا الفصل كله هو أن بيرسن وجد في هذه التطورات الفيزيائية الحديثة تأييدا لرأيه القائل: إن العلم لا يهتم إلا باختراع أنموذج تصوري يصف به مجرى انطباعاتنا الحسية، ولا شأن له بتقديم تفسير للعالم المدرك حسيا بالفعل، ففكرة الإلكترون - التي أصبحت هي الفكرة الأساسية في الفيزياء في ذلك العهد - ما هي إلا تركيب ذهني يستحيل أن يكون موضوعا مباشرا للإدراك الحسي، شأنها شأن سائر المفاهيم التي أدخلتها الكشوف الحديثة على علم الفيزياء. (10) تحليل نقدي للمذهب الوصفي عند بيرسن
ينتمي بيرسن إلى تلك الفئة من فلاسفة العلم، التي يؤكد أفرادها أن مهمة العلم تقتصر على الوصف لا التفسير، وأن لغة العلم ليست إلا رموزا مختزلة تنتمي إلى مجال الذهن وحده، وتتيح لنا أبسط تعبير ممكن عن تعاقب الانطباعات الحسية، فهو إذن ينتمي إلى تلك المدرسة الفكرية التي ترى أن العلوم - ولا سيما الفيزيائية - لا تستطيع أبدا الإجابة على أي سؤال تفسيري يبدأ بكلمة: «لماذا»؛ إذ إن مثل هذه الأسئلة لا يجاب عليها إلا إذا أمكننا أن نثبت أن الأشياء «يجب» أن تحدث أو أن العلاقات «يجب» أن تقوم بين الأشياء على نحو معين. غير أن المناهج التجريبية المستخدمة في العلم لا يمكنها أن تصل إلى إثبات أية ضرورة منطقية في الظواهر التي تتناولها هذه المناهج؛ ومن هنا فإن قوانين العلوم ونظرياتها، حتى لو كانت صحيحة؛ فهي لا تعدو أن تكون حقائق عارضة، من الوجهة المنطقية، تصف علاقات التزامن والتعاقب بين الظواهر. أما الأسئلة التي يستطيع العلم أن يجيب عليها بحق فهي تلك التي تبدأ بكلمة: «كيف»؛ أعني الأسئلة الوصفية التي تبحث في طريقة حدوث الظواهر وتعاقبها؛ فكل علم إذن يهدف - تبعا لوجهة النظر هذه - إلى تكوين نسق شامل متأمل من «الأوصاف» لا من التفسيرات.
هذه النظرية ترتكز على أساس فلسفي معروف، هو المذهب المسمى بالمذهب الظاهري
phenomenalism
والقائل: إن الموضوعات الأولية المؤكدة للمعرفة هي «الانطباعات» المباشرة في التجربة الحسية الخارجية أو في التجربة الاستنباطية الداخلية. أما ما نسميه بالأشياء أو الجواهر، فما هي إلا إضافات ميتافيزيقية لا تبررها تجاربنا المعرفية المباشرة، ولا سبيل لأصحاب هذا المذهب - مهما بذلوا من محاولات - إلى أن يتخلصوا من شبح مذهب الذات الوحيدة
Solipsism
الذي يهددهم على الدوام، والحق أن بيرسن - على خلاف كثير من القائلين بهذا النوع من المذهب الظاهري - لم يحاول كثيرا أن ينفي عن نفسه شبهة الذاتية المطلقة؛ إذ إن تشبيهه للذات بعامل «التليفون» الذي أقفل على نفسه أبواب «كابينة» ولم يعرف عن العالم الخارجي إلا ما يأتيه خلال الأسلاك القريبة منه من أصوات. هذا التشبيه يكاد يكون اعترافا صريحا بالمثالية الذاتية التي يتردى فيها كثير من المفكرين، الذين يتصورون في بداية الأمر أنهم هم وحدهم القادرون على محاربة المثالية والدفاع عن العلم ضد هجماتها عليه. ولا جدال في أن هذه الحجة يمكن أن تستخدم سلاحا ذا حدين؛ إذ إننا نصف بالحمق والجنون عامل «التليفون» الذي يتوهم أنه هو وحده الموجود، ومعه الأسلاك القريبة منه، وأن العالم الخارجي والناس ليسوا إلا انطباعات حسية تأتي من الأسلاك فحسب، فوجود انطباعات من هذا النوع لا يفسر إلا بعالم خارجي يبعثها، وكذلك الحل في انطباعاتنا التي نعجز قطعا عن تفسير مصدرها في ظل أي مذهب يجعل من هذه الانطباعات حقيقة نهائية لا يقوم وراءها شيء. وهكذا يقع أصحاب هذه الآراء في سلسلة من الأخطاء التي يعجزون تماما عن التخلص منها كالقول إن مصدر الانطباعات المباشرة مجهول أو يستحيل أن يكون موضوعا للمعرفة، والعجز عن تعليل السبب الذي جعل بعض الانطباعات مباشرة، وبعضها الآخر غير مباشرة، والقول: إننا نقوم «بإسقاط» انطباعاتنا خارجنا، وكأن هذه العملية الأولية البسيطة - عملية إدراك الموضوعات الخارجية - هي في حقيقتها عملية إرادية كان يمكن أن تتم على نحو مخالف! ومن المؤكد أن الصورة النهائية التي يكونها أصحاب هذا المذهب للعالم أعقد ألف مرة من الصورة التي يكونها عنه الإنسان في موقفه الطبيعي، وأكثر تناقضا منها إلى حد بعيد.
ولقد دأب بيرسن طوال الكتاب على تأكيد أن «الميتافيزيقيين» هم مصدر الاعتقاد بوجود أشياء خارجية، مع أن هذا الاعتقاد ملازم للإنسان في حياته العادية دون أي تفكير ميتافيزيقي، فهو جزء لا يتجزأ من موقف الإنسان الطبيعي في هذا العالم، وترتب على هذا الخطأ الأساسي خطأ آخر، هو الاعتقاد بأن التجربة الأصلية هي تجربة إدراك الانطباعات الحسية المباشرة، كالألوان والأصوات والطعوم ... إلخ، على حين أن إدراك «الأشياء» هو استنتاج لاحق لا مبرر له، ومن المؤكد أن أبسط قدر من التفكير كفيل بأن يقنعنا بأن تجربة إدراك الانطباعات هي التي ينبغي أن توصف بالتعقيد، على حين أن تجربة إدراك الأشياء المتكاملة هي الأكثر أولوية وأصالة، «فتجربة الإنسان الفعلية ليست ألوان وطعم وأصوات، وإنما هي تجربة أشياء كاملة . وهذا أمر يقتضيه تكويننا نفسه، لا أخطاء الإنسان البدائي، أو التفكير قبل العلمي. أما فكرة اللون أو الصوت أو الطعم فلا نصل إليها إلا بالتجريد من هذه التجربة المباشرة، التي هي واحدة لدى كل البشر وفي كل العصور.»
19
وفضلا عن ذلك، فقد تصور بيرسن أن صورة العالم قد اختلفت نتيجة للفكرة السابقة القائلة: إن انطباعاتنا المباشرة هي المصدر الوحيد لمعرفتنا. وهكذا تحدث مرارا عن معرفتنا التي «تقتصر» على الانطباع ولا تتجاوزه. ومع ذلك فإن كل ما أتى به في هذا الصدد إنما هو لغة أخرى تصف نفس العالم الذي يقول به الماديون والمثاليون معا؛ فالجديد الذي أتى به - هو وغيره من أصحاب هذا المذهب - إنما هو إحلال لغة الانطباعات الحسية محل لغة الأشياء، على حين يظل العالم نفسه كما هو، ويظل محتوى المعرفة دون أي تغير،
20
أما أننا سنفلح يوما ما في وضع لغة علمية يستعاض فيها عن «الأشياء» بانطباعاتنا الحسية المباشرة، فهذا ما أشك في إمكان تحقيقه، فضلا عن أنه لو تحقق لكانت اللغة الناتجة أعقد كثيرا من اللغة المألوفة، ولما أحرزنا بذلك التغيير أي تقدم في فهم العالم. •••
ولنتساءل بعد هذا البحث في الأسس الأولية لفلسفة بيرسن: لماذا يحمل هذا الكتاب على فكرة التفسير، ويدعو إلى اتخاذ الوصف هدفا وحيدا للبحث العلمي؟ وعلى أي أساس يدعو إلى الاستغناء عن الأسئلة التي تبدأ بكلمة «لماذا» والاستعاضة عنها بأسئلة وصفية تبدأ بكلمة «كيف»؟ في وسعنا أن نستخلص من كتاب «أركان العلم» عدة إجابات على هذا السؤال، فلنحلل كلا منها لنرى مدى صحتها أو بعدها عن الصواب: (1)
من المعروف أن التفسيرات كثيرا ما تكون غائية، بمعنى أن الظاهرة تعلل تبعا للغاية المقصودة منها؛ إذ إن الأسئلة التي تبدأ بكلمة «لماذا» كثيرا ما يجاب عليها بتحديد غاية معينة يعتقد أن فيها تعليلا كافيا للظاهرة موضوع البحث، ولما كانت النظرة الغائية إلى الأمور قد جلبت للعلم أضرارا كبيرة لم يستطع التخلص منها كلها حتى اليوم، فقد كان من الطبيعي أن ينفر نصير متحمس للعلم مثل بيرسن من فكرة التفسير ومن كل سؤال يبدأ بكلمة «لماذا»، ونستطيع أن نقول: إن مخاوف بيرسن من النظرة الغائية مشروعة تماما، وكل ما في الأمر أننا قد نضطر أحيانا - في مجالات معينة - إلى إدخال الاعتبارات الغائية دون أن نكون قد خالفنا الروح العلمية؛ ففي مجال التاريخ مثلا تحتل النظرة الغائية أهمية غير قليلة؛ إذ إن كثيرا من الحوادث التاريخية تفسر تفسيرا كافيا بالغايات المقصودة منها، كذلك يوجد للغائية مجال في العلوم البيولوجية، فإذا أجبنا عن السؤال: لماذا كانت رقبة الزرافة طويلة؟ بقولنا: لكي تستطيع أن تحصل على غذائها من الأشجار العالية، لم يكن في إجابتنا هذه خروج عن الروح العلمية كما يبدو لأول وهلة؛ إذ إن الإجابة ترتكز على حقيقة أساسية من حقائق التطور البيولوجي، وهي تكيف الكائنات الحية مع ظروف بيئتها، وبالاختصار فحملة بيرسن على النظرة التفسيرية يمكن أن تعد مشروعة إذا كان المقصود منها استبعاد التفسيرات الغائية وتشبيه الطبيعة بالإنسان، وإن تكن هناك مجالات معينة لا تتعارض فيها فكرة الغائية مع وجهة النظر العلمية. (2)
هناك فهم لغوي معين لفكرة التفسير، يعتقد فيه أنها تفترض وجود ارتباط ضروري بين الأشياء، ولما كان العلم التجريبي يخلو بطبيعته من عنصر الضرورة، فقد تصور بيرسن أن من الطبيعي استبعاد التفسيرات من مجال هذا العلم. ولكن هل صحيح أن كل إجابة على الأسئلة التي تبدأ بكلمة «لماذا» تتوقف على إمكان إثبات ارتباط ضروري بين الظواهر؟ الواقع أن أساس المشكلة كلها إنما يرجع إلى معنى «الضرورة» المقصودة في كل حالة، فهناك نوعان من الضرورة: (أ)
ضرورة تحليلية، كالقول: إن الجزء يجب أن يكون أصغر من الكل. (ب)
ضرورة تركيبية، كالقول: إن كل جسم أخف من الماء يجب أن يطفو.
ولقد كانت حملة بيرسن على التفسير راجعة أساسا إلى اعتقاد موروث عن هيوم - فيلسوف التجريبية الأكبر - مؤداه أن التجربة لا تضمن لنا أي نوع من اليقين الضروري. وهذا صحيح إذا كان المقصود هو النوع الأول من الضرورة، أي الضرورة المنطقية. غير أن هناك نوعا آخر من الضرورة، لا يقل إحكاما عن الأول، ويمكن أن يستمد من التجربة؛ فالمبدأ القائل: إن كل جسم أخف من الماء يجب أن يطفو في الماء هو مبدأ ضروري. ومن المحال أن يوجد له استثناء واحد، ولكنه مع ذلك ضروري بالمعنى التركيبي لا التحليلي؛ إذ إن تأكيد عكسه لا يستتبع أي تناقض «منطقي». ولا جدال في أن هيوم كان يتصور الضرورة بمعناها المنطقي فحسب، وسايره في ذلك كل التجريبيين من بعده، مع أن النوع الآخر من الضرورة لا يقل عنه لزوما، ويمكن في الوقت ذاته أن يرتكز على أساس من العلم التجريبي. وفي اعتقادي أن التجريبيين قد ارتكبوا خطأ كبيرا حين تصوروا أن الضرورة الوحيدة التي ينبغي الاعتراف بها هي الضرورة المنطقية الشكلية، وأنها هي وحدها التي لا تتخلف، وظنوا أن في كلمة «ضرورة تركيبة» تناقضا في الألفاظ، على أساس أن الضرورة لا تكون إلا تحليلية فحسب؛ ذلك لأن الضرورة التي تجعل الحجر يسقط إذا ترك في الهواء لا تقل لزوما عن تلك التي تجعل الجزء أصغر من الكل، وإن تكن من نوع مختلف. (3)
وعلى أية حال فالبحث عن التفسير في مجال العلم قد لا يعني أكثر من السعي إلى الاقتناع العقلي فحسب، وبهذا المعنى يكون تفسير الظاهرة مرادفا لتقديم إيضاح يرضي العقل، وفهم الظاهرة فهما كاملا يكفي لتحقيقه الاقتصار على وصفها ، وعندئذ يكون التفسير مشروعا، بل يكون هو العلامة المميزة للتفكير العلمي من الخبرة المكتسبة في الحياة العادية، فقد نعلم بفضل هذه الخبرة اليومية أن النباتات تنمو إذا رويت وتعرضت لضوء النهار، أو أن الندى يتكون على السطح البارد للأجسام في الصباح الباكر. ولكن العالم وحده هو الذي يستطيع تقديم «تفسير» لهاتين الظاهرتين، بمعنى أنه هو وحده الذي يستطيع تقديم بيان مقنع لعقولنا عن أسباب حدوثهما، ولا يكتفي بوصف التعاقبات المتضمنة فيهما. وبعبارة أخرى: فقد يكون الاكتفاء بالوصف من العلامات المميزة للأذهان غير العلمية، على حين أن القدرة على تقديم التفسير هي أمر ينفرد به العالم وحده. (4)
وأخيرا ، فإن فكرة الوصف - كما يدعو إليها بيرسن - تنطوي على قدر غير قليل من الغموض؛ ذلك لأنه يؤكد أن القوانين العلمية تركيبات فكرية نستعيض بها عن المعطيات التجريبية للإدراك الحسي، وأن الحركة لا تنطبق مباشرة على ما يوجد في عالم الحس، وإنما تنطبق على تلك الفئة من المعقولات التي يستعيض بها العالم عن المعطيات الحسية، ولنسلم جدلا بأن هذا كله صحيح، لكن كيف يكون العلم في هذه الحالة وصفيا؟ وهل نكون قد وصفنا محتويات الإدراك إذا استعضنا عنها بنسق من الأفكار الهندسية الغريبة عنها؟ إن ما يقوم به العالم - كما يحدد بيرسن مهمته - هو في واقع الأمر عكس الوصف تماما؛ ومن هنا كان «كاسيرر» على حق حين قال: إذا كانت مهمة الوصف الموضوعي - بمعناه الصحيح - هي تصور المعطى على أدق نحو ممكن، دون أية إضافة أو أي حذف، فإن هذا التحوير للتجربة الأصلية - على عكس ذلك - هو بعينه الذي يميز العملية العقلية التي تقوم بها الفيزياء، وهو ما يضفي عليها قيمتها، فبدلا من التكرار السلبي المحض، نرى أمامنا عملية إيجابية، تنقل ما هو معطى في البداية إلى مجال منطقي جديد، وإنها لطريقة غريبة حقا في وصف ما هو حاضر أمامنا، أن ينصب اهتمامنا - في سبيل تحقيق هذا الغرض - على تصورات بحتة، لا تستطيع هي ذاتها أن تكون «حاضرة» على أي نحو.
21
وإذن فهناك خلط في فهم معنى «الوصف» لا يقل خطورة عن الخلط الذي لاحظناه من قبل في فهم معنى «التفسير»، وأساس هذا الخلط راجع إلى أن معنى الوصف بطبيعته سلبي، على حين أن بيرسن لا يكف عن تأكيد وجود عناصر إيجابية في عملية البحث العلمي؛ إذ يتدخل الذهن بمفاهيمه الخاصة التي لا تنتمي إلى مجال الإدراك المباشر على الإطلاق، وعلى حين أن الأفكار العقلية في رأيه ترتد آخر الأمر إلى انطباعات حسية مباشرة، فإنه يؤكد في الوقت ذاته ثنائية الفكر والواقع تأكيدا قاطعا، وذلك حين يصر على أن يجعل مفاهيم الرياضة والفيزياء منتمية إلى المجال العقلي وحده، ويفصلها تماما عن مجال الإدراك المباشر، مؤكدا أنها لغة عقلية اصطنعت لأغراض معينة فحسب. ولقد كانت هذه الثنائية القاطعة بين التركيبات الذهنية وبين الظواهر، وما تستتبعه من استبعاد تام للأفكار التي يستخدمها العالم في وصف الطبيعة من مجال الطبيعة ذاتها، موضوعا لانتقاد كثير من الباحثين في مناهج التفكير العلمي؛ إذ إنها تكرار لنفس الخطأ الذي وقع فيه ديكارت من قبل، حين ظن أن عالم الذهن بما فيه من كليات ومبادئ عقلية ينفصل تماما عن عالم الطبيعة المادية. صحيح أن الظواهر لا تطيع القانون العقلي حرفيا في كثير من الأحيان، وأن أي ظاهرتين لا يمكن أن تكونا في هوية تامة. ولكن هذا لا يعني أن القانون ذهني فقط، وأن عالم الفكر منفصل تماما عن عالم الطبيعة، فمن الممكن أن يكون هذا الانحراف الذي نلمسه في الطبيعة راجعا إلى تعقد ظواهرها وتشابكها. ومع ذلك يكون القانون صحيحا لو وجدت هذه الظواهر في حالتها الخالصة،
22
فقانون القصور الذاتي - بما يتضمنه من حركة مستمرة وسكون مطلق - يتناول بالفعل حالة فرضية لا وجود لها في الطبيعة المدركة. ولكن هذا لا يعني أن هناك انفصالا بين عالم العقل - الذي ينتمي إليه هذا القانون - وبين عالم الظواهر، وإنما يعني أن تعقد الظواهر وتداخلها يحول دون توافر الظروف التي تتيح انطباق هذا القانون في صورته الخالصة، وبالاختصار فإن عدم إطاعة الطبيعة للقانون العلمي، واستحالة تطبيق هذا القانون عليها في صورته المباشرة، ليس معناه أن هناك ثنائية قاطعة وانفصالا تاما بين عالم الذهن وعالم الظواهر، بل إن تقدم العلم يقدم في كل يوم مزيدا من الأدلة على تداخل هذين العالمين. (11) نصوص مختارة من كتاب «أركان العلم» (11-1) الكون كما تحكمه العلية وكما يحكمه الارتباط (القسم الخامس من الفصل الخامس) «تكاد كل الأفكار الموروثة التي وقفت حجر عثرة في وجه الفكر البشري أن تكون ناتجة، لا عن التجربة مباشرة، وإنما عن استنباط عقلي من تجربة محدودة النطاق إلى حد بعيد، وما علينا إلا أن نتأمل المذاهب الكونية السابقة على كبرنك، وننظر إلى تلك المفاهيم الضيقة من أمثال «المادة» و«القوة» أو «الذرة» و«الأثير»؛ لندرك مدى سيطرة المفهوم الذهني على التجربة، إلى الحد الذي يجعل الكثيرين ينظرون إليه على أنه حقيقة من حقائق التجربة، وضمن هذه القيود الذهنية التصويرية ينبغي أن يندرج آخر الأمر قانون العلية في صورته الصريحة المطلقة.
إن الكون مؤلف من كيانات لا حصر لها، كل منها على الأرجح فردي، وكل منها على الأرجح غير دائم، وأقصى ما يستطيع المرء أن يحققه هو أن يصنف هذه الكيانات - عن طريق القياس
measurement
أو ملاحظة الخصائص - إلى فئات من الأفراد «المشابهة». وفي داخل هذه الفئات يمكن ملاحظة تنوعات؛ ومن هنا كانت المشكلة الأساسية في نظر العلم هي كشف طريقة ارتباط تنوع فئة معينة بتنوع فئة أخرى، فرجل العلم يبحث دائما - عن وعي أو دون وعي في معظم الأحيان - عن جداول للارتباط، فإذا ما وجد كل فرد محدد في الفئة «أ» فردا مرتبطا به في الفئة «ب»، قال: إن «ب» مرتبطة ب «أ». ولكن الواقع أنه يجد على الدوام لكل فرد مختار من «أ» مجموعة من أفراد «ب»، وذلك إذا بلغت قدرته على الملاحظة والقياس قدرا كافيا من الدقة، وهذه المجموعة الأخيرة قد تكون شديدة التركيز وقد لا تكون، ومن هذه المجموعة يصل بعمليات ذهنية خالصة إلى حد نهائي تصور فيه «ب» بطريقة ذهنية على أنها معتمدة على «أ»، وينظر فيه إلى «أ» على أنه يحدد «ب» على نحو مطلق، وهنا نكون قد انتقلنا من وقائع التجربة إلى الحد التصوري الذي يتمثل في الاعتماد التام؛ أي إلى ما يسمى بقانون العلية. غير أن النظرة الأحدث والأصح في نظري إلى الكون هي القائلة إن الموجودات كلها تترابط بدرجات متفاوتة؛ فالموجودات فردية وليست عملية تصنيفها إلى عملية بشرية عقلية تستهدف الاقتصاد في الفكر، وأي تنوع داخل موجودات فئة معينة يتبين أنه مرتبط بتنوع مناظر بين موجودات فئة أخرى، وعلى العلم أن يقيس درجة وثوق الارتباط أو تفككه في هذه التنوعات المتلازمة؛ فالاستقلال المطلق هو الحد الذهني - في أحد الطرفين - لتفكك الروابط، والاعتماد المطلق هو الحد الذهني - في الطرف الآخر - لوثوق هذه الروابط، ولقد حاولت النظرة القديمة - القائلة بالعلة والمعلول - أن تدرج الكون تحت هذين الحدين التصوريين للتجربة. وكان لا بد لها أن تخفق؛ إذ إن الأشياء في تجربتنا ليست إما مستقلة أو معتمدة. بل إن جميع فئات الظواهر ترتبط سويا، والمشكلة في كل حالة هي تحديد درجة وثوق الارتباط.
إن الموقف العقلي الذي يرى بين كل الموجودات درجات متباينة من الارتباط - لا اعتمادا واستقلالا فحسب - يتأمل الكون عقليا من خلال مقولة جديدة، وهو يتحرر بسهولة من التمييز القديم البالي بين الظواهر الحيوية والظواهر الفيزيائية، وهو التمييز الذي لا يرجع إلى هذه الظواهر ذاتها، وإنما يرجع إلى تلك الحدود التصورية التي استخلصها منها الإنسان بعقله، ثم نسي كعادته قدرته على الخلق اليسير، فحولها إلى حقيقة قائمة من وراء إدراكاته الحسية وخارجة عنه، إن كل ما يمدنا به الكون هو التشابه في التنوعات. أما الإنسان فقد أضفى فكرة الاعتماد عليها رغبة منه في اقتصاد طاقته العقلية المحدودة.» (11-2) الإرادة بوصفها علة (القسم الثالث من الفصل الرابع) «ليس من المستغرب أن يتأثر البشر في مرحلة مبكرة جدا من نموهم العقلي بالقوة الحقيقية - أو البادية على أية حال - التي تكمن في نزوع إرادتهم إلى إحداث «حركة»، وعلى هذا النحو نجد أن أكثر الشعوب بدائية تنسب كل الحركات إلى إرادة معينة من وراء الجسم المتحرك؛ إذ إن أول تصور يكونونه عن علة الحركة إنما يكمن في إرادتهم الخاصة. وهكذا ينظرون إلى الشمس على أنها محمولة أثناء دورانها على أيدي إله للشمس، وإلى القمر على أن لديه إلها للقمر، بينما تفيض الأنهار وتنمو الأشجار وتهب الرياح بفضل إرادة مختلف الأرواح التي تكمن فيها. وكان لا بد من مضي عصور طويلة حتى يدرك البشر - بقدر متفاوت من الوضوح - أن الإرادة ترتبط بالوعي، وبتركيب فسيولوجي محدد، وأن الوصف العلمي للحركة يحل تدريجيا محل التفسير الروحاني، وأننا نستغني في حالة بعد الأخرى عن الفعل المباشر للإرادة في حركة الأجسام الطبيعية. ومع ذلك فإن فكرة الإجبار، وفكرة وجود ضرورة ما في ترتيب التعاقب ما زالت متأصلة بعمق في أذهان الناس، وكأنها إحدى حفريات التفسير الروحاني الذي يرى في الإرادة علة للحركة، وما زالت هذه الفكرة للأسف مرتبطة بالوصف العلمي للحركة، وبالفكرة المادية للقوة بوصفها ما يجعل من الضروري حدوث تغيرات أو تعاقبات معينة للحركة، وهي الفكرة التي تعد شبحا متخلفا عن المذهب الروحاني القديم؛ فالقوة التي يقول بها المادي هي الإرادة التي كان يقول بها الروحاني القديم، منفصلة عن الوعي، وكلتا الفكرتين تنقلنا إلى مجال يتجاوز انطباعاتنا الحسية؛ ومن ثم فكلتاهما فكرة ميتافيزيقية، ومن ذلك فربما كان استدلال الروحاني القديم - مع فساده - أقل بطلانا من استدلال المادي الحديث؛ إذ إن الروحاني لم يقل بوجود الإرادة وراء مجال الوعي الذي كان يجد الإرادة مرتبطة به على الدوام.
إن القوة بوصفها علة للحركة تقف على قدم المساواة تماما مع إله الشجر بوصفه علة للنمو، فكلاهما اسم يخفي جهلنا بالسبب الذي يرجع إليه النظام المطرد لإدراكاتنا الحسية، والضرورة في القانون الطبيعي لا تتسم بنفس الحتمية المطلقة التي تتسم بها النظرية الهندسية، ولا بالوجوب المطلق الذي يطلبه المشرع البشري، وإنما هي لا تعدو أن تكون تجربتنا التي نشعر فيها بوجود نظام مطرد لا تتسم مراحله بترتيب منطقي أو إرادي.»
الباب الثالث
الجذور الفلسفية للبنائية
ملخص
يبدأ البحث بتأكيد أن البنائية - من حيث هي منهج - قديم العهد. أما من حيث هي مذهب فكري شامل فهي ظاهرة حديثة. ومع ذلك فمن الوجهة الفلسفية الخالصة يمكن تتبع جذورها الفلسفية إلى أصول من أهمها فلسفة «كانت»، التي كانت بدورها تبحث عن نسق «قبلي» تنظم إطاره التجربة ويتألف من صورة أو قوالب ذات طبيعة ذهنية، وتشكل البنائية حلقة في تلك السلسلة الطويلة من المحاولات التي تهدف إلى جعل دراسة الإنسان علما دقيقا؛ ومن ثم كان النموذج اللغوي يقوم فيها بدور أساسي.
وأهم ما يميز البنائية - فلسفيا - هو محاربتها للنزعة التجريبية من جهة، وللنزعة التاريخية من جهة أخرى ؛ فهي تذهب إلى أن العقل ينمو نموا عضويا؛ بحيث تظل فيه صور هي أشبه بالنواة الثابتة، وإن كنا نزيدها على الدوام توسيعا وتعميقا، وعن طريق اكتشاف عناصر الثبات هذه تعتقد البنائية أنها انتقلت بدراسة الإنسان ومجتمعاته إلى مرحلة العلم المنضبط.
ويعرض البحث بعد ذلك للأسس الفلسفية للبنائية عند عدد من ممثليها الرئيسيين:
ليفي ستروس
يظهر الأساس الفلسفي لتفكير ستروس في تأكيد تدخل الذهن البشري في تشكيل كل نواتج ثقافته، وجمعه بين مجموعات متغايرة من الظواهر ضمن إطار أو بناء واحد، هو أساس كل المظاهر الخارجية للنظم الاجتماعية. وهذا الطابع الفلسفي هو أساس الانتقادات التي وجهها إليه علماء الأنثروبولوجيا، حين اتهموه بأنه كان دجماطيقيا يخرج البناءات عن مجرى الزمان، كما أن هذا هو أصل المعركة المشهورة بين ستروس وبين سارتر الوجودية بوجه عام.
ميشيل فوكو
في كتاب «الكلمات والأشياء» يحاول فوكو أن يبحث بطريقة غير تاريخية عن البناء المميز لكل مرحلة من مراحل الفكر الأوروبي الحديث، منذ عصر النهضة حتى اليوم، وهو يتعسف في تحديد هذا البناء الذي يراه ثابتا إلى حد إغفال كثير من العناصر الأساسية التي يستحيل فهم العصر بدونها.
الماركسيون
يستعرض البحث محاولة إيجاد مركب بين البنائية والماركسية عند «لوسيان سيباج»، وهي المحاولة التي ارتكزت على أساس اهتمام ماركس بالبحث عن أطر «كلية» تتجاوز نطاق العوامل الاقتصادية التي اقتصرت عليها الماركسية التقليدية؛ ولذلك أنكر «سيباج» السببية المطلقة للعامل الاقتصادي ووضعه في إطار أوسع منه.
والمحاولة الأهم هي التي قام بها «لوي ألتوسير»، الذي أراد أن يعيد إلى الماركسية انضباطها العلمي، ويؤكد استقلالها عن هيجل وعن التراث الفلسفي السابق كله، ويجعل محورها بناء اجتماعيا اقتصاديا يكون الإنسان ذاته جزءا منه، وهو يستعيض عن السببية التقليدية بين البناء الأدنى والأعلى بسببية معقدة متعددة الجوانب، وقد انتقدت هذه المحاولة بسبب تفسيرها المتعسف للماركسية من خلال منظور واحد هو المنظور العلمي الدقيق وحده، وتجاهلها المفرط للإنسان.
وفي خاتمة البحث تنتقد البنائية ككل لهذا السبب نفسه، أي تجاهل الإنسان، وتجاهل التاريخ والتطور، وإن كان «بياجيه» و«سيباج» يذهبان إلى تأكيد إمكان التوفيق بينها وبين النزعة التاريخية عن طريق تحديد أدق لمعنى «الإنسان» الذي تركز عليه البنائية أبحاثها، وينتهي البحث بتأكيد أن هذا الدفاع غير مقنع تماما، وأن البنائية لم تعمل حسابا لعوامل الحركة والتغير والفاعلية؛ لأنها ركزت على الإنسان في حالته «السكونية» حين يكون «مفعولا» لا «فاعلا».
مقدمة
بلغت البنائية - من حيث هي اتجاه فكري وفلسفي - ذروتها في السنوات الأخيرة من الستينيات في هذا القرن. وكان من الشائع في أوساط المثقفين أن ينظر إليها على أنها «مذهب فلسفي»، ومن سمات المذهب الفلسفي - أيا كان - أنه يسعى بقدر إمكانه إلى الشمول، ويستهدف تقديم تفسير موحد لمجموعة كبيرة من المشكلات الفكرية، ويضم مجالات معرفية متعددة في إطار نظرة واحدة إلى العالم وإلى طبيعة الأشياء، وبالفعل وصل المد البنائي - في فترة الذروة هذه - إلى ميادين شديدة التنوع؛ ففي مجال اللغويات كان جاكوبسون
Jakobson
وشومسكي
Chomsly
يقودان حركة نشطة اتخذ منها الكثيرون نموذجا ومثالا يحتذى في ميادين أخرى. وفي ميدان التحليل النفسي كان «لاكان
Lacan » يشد انتباه معاصريه بنظرته الجديدة إلى هذا العلم الذي كان يبدو - قبل نشر بحوثه - في حالة ركود نسبي. وفي النقد الأدبي كان «بارت
R. Barthes » يفتتح عهدا جديدا في تفسير النصوص على أساس بنائي. وفي الميدان الفلسفي كان مفكر ميال إلى المحافظة مثل «فوكو
Foucault » يبهر جماهير المثقفين برؤيته الجديدة في كتابه المشهور «الكلمات والأشياء
Les Mots et les Choses »، على حين أن مفكرا ماركسيا أصيلا هو «ألتوسير
Althusser » كان يعيد قراءة الأصول الكبرى للفلسفة الماركسية - وخاصة كتاب «رأس المال» ذاته - من خلال تفسير بنائي مبتكر، وقبل هؤلاء جميعا كان «ليفي ستروس
Lévi-Strauss » يواصل جهوده الرائدة التي كان قد بدأها قبل هذا التاريخ بما يقرب من عشرين عاما، والتي استطاع بفضلها أن يجعل للبنائية مكانة بارزة على خريطة المذاهب الفلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين، على الرغم من أن ميدان تخصصه كان علما اجتماعيا وليس فلسفيا هو الأنثوبولوجيا.
على أن هذا الانتشار الذي جعل من البنائية مذهبا فلسفيا شاملا ما يقرب من عشر سنوات ، لا ينبغي أن يخفي عن حقيقة هامة، هي أن البنائية لم تصبح مذهبا فلسفيا إلا لأن المتخصصين قد تنبهوا في ذلك الوقت بالذات إلى الإمكانات الخصبة التي تكمن في فكرة «البناء»، إما الفكرة ذاتها، وإما مبدأ التفكير من خلال «بناءات»، فكان معروفا قبل ذلك بوقت طويل، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن البنائية هي - قبل كل شيء - «منهج» في التفكير، وبهذا المعنى كانت موجودة منذ عهد بعيد. ولكنها لم تصبح «مذهبا» فلسفيا إلا بعد أن تنبه بعض المفكرين - بطريقة واعية - إلى أهمية هذا المنهج وحددوا معالمه بوضوح بعد أن كان يطبق بطريقة ضمنية دون وعي بكافة أبعاده. وكانت نتيجة الحماسة التي تملكتهم حينما اكتشفوا هذه الطريقة في التفكير أن جعلوا منها «مذهبا» شاملا يقدم تفسيرا للمشكلات التي تواجه العقل في ميادين شديدة التباين، ومعنى ذلك أن البنائية - من حيث هي منهج - قديمة العهد. أما من حيث هي مذهب شامل؛ فهي ظاهرة حديثة في الفكر المعاصر.
ولكن على أي أساس نقول: إن البنائية - من حيث هي منهج - كانت معروفة ومطبقة منذ وقت طويل؟ ذلك لأن مجرد تطبيق نموذج رياضي على موضوع علمي معين، هو في ذاته نوع من البنائية، «فإذا أدركنا أن العلم الحديث - منذ القرن السابع عشر - لم يتمكن من تحقيق إنجازاته الضخمة إلا بفضل تطبيق النموذج الرياضي على الظواهر الطبيعية، كان في استطاعتنا أن نحكم بأن هذا العلم كان منذ بدايته «بنائيا»؛ لأنه استهدف الاهتداء إلى «البناء» الكامن وراء الظواهر الطبيعية، وعبر عن هذا البناء بلغة رياضية. بل إن كل علم لا بد أن يكون له من البنائية نصيب؛ لأن دراسته تنصب على بحث أنساق من العلاقات والروابط بين الظواهر.»
1
ويؤيد بياجيه - عالم النفس المشهور - الرأي القائل: إن البنائية في تصميمها منهج قبل أن تكون مذهبا؛ ذلك لأنها أسلوب فني متخصص (
Technical )، وتقتضي التزامات عقلية معينة، تؤمن بالتقدم المتدرج. ولقد كان للمنهج الذي تمثله البنائية تاريخ طويل يشكل جزءا من تاريخ العلوم. غير أن سماتها لم تكتشف إلا في وقت متأخر؛ وذلك لأسباب منها: صعوبة المنهج البنائي وتعقده، واتجاه العقل البشري إلى أن يتجاهل في البداية مفاهيم الاعتماد المتبادل بين الظواهر، والكل النسقي الذي تشكله، مكتفيا بتفسيرات مبسطة موحدة الاتجاه. هذا فضلا عن أن البناءات الكاملة وراء الظواهر لا تظهر للملاحظة المباشرة، بل توجد على مستويات لا يتم التوصل إليها إلا بتجريد مضاعف، أو على حد تعبيره: بتجريد «صور الصور
Forms of Forms ».
2
على أنه إذا كان للبنائية - بوصفها منهجا - مثل هذا التاريخ الطويل، فإن ظهورها الذي يبدو على شكل انبثاق مفاجئ، والذي اتخذ صورة مذهب فكري متكامل، قد ارتبط بظروف تاريخية معينة، كان لها تأثيرها في الفلسفة الفرنسية بالذات؛ إذ إن أول البنائيين وأهمهم كانوا من الفرنسيين. فبعد الحرب العالمية الثانية كان إنتاج سارتر الغزير في ميادين الفلسفة والرواية والمسرحية والمقال السياسي هو المسيطر على الجو الثقافي الفرنسي. بل إنه تعدى نطاق هذا الجو الثقافي حتى أصبح «أسلوبا خاصا للحياة» يتميز به عدد كبير من الشبان الفرنسيين في مظهرهم وملبسهم ومناقشتهم، هم «الوجوديون» الذين كانوا من المعالم الفرنسية المميزة في ذلك الحين، ولم تظهر قوة فكرية أخرى تتحدد آراء سارتر في الحرية «المحكوم بها» على الإنسان إلا في الماركسية، التي ركزت أبحاثها على قوانين التحول التاريخي، وأكدت حتمية الصراع الطبقي، ولم يمض وقت طويل حتى سعى سارتر نفسه إلى إزالة التعارض الحاد بينه وبين الماركسية، حتى وصل به الأمر إلى حد إعلان أن الماركسية لا يمكن تجاوزها، وأن فلسفته بالتالي تتخذ لنفسها موقعا «داخل» الماركسية. هذا على الرغم من أن حركة التقارب لم تكن متبادلة من الطرفين؛ لأن الماركسية ظلت تهاجم النزعة الذاتية والمثالية في الوجودية، وتصفها بأنها نموذج واضح للأيديولوجية البورجوازية.
في هذا الجو ظهرت البائية لكي تدخل طرفا ثالثا في الصراع الفكري الذي سيطر على الثقافة الفرنسية في الستينيات، فأضافت وقودا جديدا إلى لهيب المعارك الدائرة بين المثقفين. وكان لظهورها دوي كبير، لا لأنها أتت باتجاه جديد فحسب، بل أيضا لأن التقابل بين الوجودية والماركسية - كما قلنا من قبل - كانت قد خفت حدته. وكان لا بد من ظهور خصم جديد يثير المعركة الفكرية مرة أخرى.
على أن البنائية كانت لها جذور فلسفية أقدم كثيرا من العصر الذي ظهرت فيه، وأهم هذه الجذور - في اعتقادي - هو فلسفة كانت؛ فالبنائية - مثل فلسفة كانت - تبحث عن الأساس الشامل، اللازماني، الذي ترتكز عليه مظاهر التجربة، وتؤكد وجود نسق أساسي ترتكز عليه كل المظاهر الخارجية للتاريخ. وهذا النسق سابق على الأنظمة البشرية؛ بحيث تستند إليه تلك الأنظمة زمانيا ومكانيا؛ أي إن هذا النسق «قبلي
a priori » بمعنى مشابه لما نجده عند كانت. ولقد ظهر لدى البنائيين - على اختلاف اتجاه تخصصاتهم - ميل واضح إلى فكرة النسق الشامل، ووضع أطر أو قوالب أساسية تندرج ضمنها الكثرة الموجودة في الواقع. بل إن هذه الأطر والقوالب لها عندهم طبيعة عقلية، حتى لو اتخذت مظاهرها أشد الصور حسية، كذلك تدعو البنائية بدورها إلى نوع من الثورة الكبرنيكية مماثل لذلك الذي دعا إليه كانت؛ إذ تؤكد أهمية العلاقات الداخلية والنسق الكامن في كل معرفة علمية، وتسعى إلى تجاوز المظهر الذي تبدو عليه المعرفة من أجل النفاذ إلى تركيبها الباطن، وهي بدورها تترفع على النظرة التجريبية، وتؤكد أن تقدم المعرفة لا يتم عن طريق وقائع تجريبية يضاف بعضها إلى البعض، وإنما يتم عن طريق إعادة النظر في قوالب أو صور أو عمليات موجودة بالفعل. ولكنها تتخذ مظهرا جديدا في كل عصر. وأخيرا فإن البنائية تتشابه مع فلسفة كانت في نقطة أساسية، هي أنها بدورها تستهدف أن تجعل من دراسة الإنسان موضوعا لعلم دقيق، وتحاول أن تهتدي إلى السر الذي جعل العلوم الأخرى تسير في طريق العلم الراسخ؛ لكي تطبقه على العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإن كان التركيز عند كانت ينصب على العلوم الرياضية والطبيعية، على حين أنه كان في حالة البنائيين ينصب على علوم أخرى، أهمها علم اللغة.
والواقع أن علم اللغة كان مصدرا من أهم مصادر البنائية، وهو مصدر كان معترفا به صراحة في كتابات البنائيين، على حين أن تأثير فلسفة «كانت» في تفكيرهم كان ضمنيا في أغلب الأحيان، ولهذا الارتباط بين البنائية وبين اللغويات مبررات قوية؛ إذ لا يوجد «بناء» بالمعنى الصحيح إلا لما هو لغوي، وجميع المجالات المعروفة لا يصبح لها بناء إلا حين تتخذ طابعا لغويا.
3
وفضلا عن ذلك فإن للغة بالذات ميزات خاصة جعلت النموذج اللغوي يحتل مكانة خاصة في تفكير البنائيين؛ ذلك لأن اللغويين - منذ أيام العالم السويسري المشهور «دي سوسير
Ferdinand de Saussure » في أوائل القرن العشرين - درسوا عناصر اللغة والسمات المميزة لعلاقاتها بوصفها أنساقا لا علاقة لها بالعالم الذي تعبر عنه أو تدل عليه، فكانوا بذلك يطرحون مشكلات بنائية خالصة ويضربون مثلا يحتذى للعلوم الإنسانية الأخرى التي لم تكن قد وصلت بعد إلى مرحلة الاستقلال عن مضموناتها واكتشاف تركيباتها الخالصة،
4
أي إن نجاح اللغويات - وهي قبل كل شيء علم إنساني - في بلوغ مرتبة العلم المنضبط كان عاملا مشجعا للباحثين في الميادين الأخرى للدراسات الإنسانية والاجتماعية على الاقتداء بهذا العلم الناجح في منهجه. وفي الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه. ولقد عبر ليفي ستروس عن هذه العلاقة بين اللغويات وسائر العلوم الإنسانية تعبيرا صريحا واضحا: إننا (يقصد علماء الأنثروبولوجيا) نجد أنفسنا - إزاء علماء اللغة - في وضع حرج، فطوال سنوات متعددة كنا نشتغل معهم جنبا إلى جنب، وفجأة يبدو لنا أن اللغويين لم يعودوا معنا، وإنما انتقلوا إلى الجانب الآخر من ذلك الحاجز الذي يفصل العلوم الطبيعية الدقيقة عن العلوم الإنسانية والاجتماعية، والذي ظل الناس يعتقدون طويلا باستحالة عبوره. وهكذا أخذ اللغويون، يشتغلون بتلك الطريقة المنضبطة التي تعودنا أن نعترف باستسلام أنها وقف على العلوم الطبيعية وحدها، مما ولد في نفوسنا قدرا من الأسى، وكثيرا من الحسد؛ إذ أردنا أن نكون صرحاء؛ فنحن نود أن نتعلم من اللغويين سر نجاحهم، فهلا يمكننا أن نطبق بدورنا على المجال المعقد لدراساتنا - كمجال القرابة والتنظيم الاجتماعي والدين والفلكور والأدب - تلك المناهج المنضبطة التي يتحقق عالم اللغة في كل يوم من فعاليتها؟
5
ويهمنا في هذا النص - الذي يذكرنا إلى حد بعيد بما قاله كانت في معرض المقارنة بين الفلسفة والعلوم الرياضية والطبيعية في مقدمة كتاب «نقد العقل الخالص» - أن البنائيين الذين كان ليفي ستروس رائدهم بغير نزاع، ليسوا من أولئك الذين يبحثون للعلوم الاجتماعية والإنسانية عن منهج خاص بها، مرتبط بطبيعة الظاهرة التي تتناولها هذه العلوم وهي الإنسان، وإنما هم يؤمنون بأن «العلم» - سواء أكان طبيعيا أم إنسانيا - له منهج واحد، وأن ما يصلح لإحدى الفئتين يصلح - بعد تعديلات بسيطة - للفئة الأخرى، وأن العلوم التي تبحث في الإنسان تستطيع أن تمسك بطوق النجاة الذي ينقذها من عواصف التخبط والتناقض واللامعقولية إذا طبقت نفس المنهج الذي جرب بنجاح في العلوم الدقيقة، وإن لديها في علم اللغة نموذجا رائعا لعلم إنساني تمكن من اللحاق بركب العلوم المنضبطة، تلك هي وجهة النظر التي ينطلق منها البنائيون، وهي تعبر عن فلسفة خاصة بهم، يمكن أن توجد فلسفة أخرى بديلة لها، هي تلك التي ترفض هدف الدقة والانضباط للعلوم الإنسانية أصلا، وتؤكد أن هذه العلوم تقدر على أمور ولا تقدر على أمور أخرى، وأن لها سماتها الخاصة التي لا تجعل من محاكاتها لمناهج العلوم الدقيقة أمرا مرغوبا فيه. وبعبارة أخرى: فإن البنائية قد اختارت لنفسها طريقا معينا تسير فيه نحو هدف الدقة العلمية عند دراستها للإنسان، وهي تستعين أساسا بالنموذج اللغوي من أجل تحقيق هذا الهدف، وقد لا نجد لدى بعض من يتبعون المنهج البنائي اهتماما كبيرا بالنموذج اللغوي، كما هي الحال عند بياجيه، الذي بنى أبحاثه على نماذج منطقية. ولكن الاتجاه الغالب لديهم هو أن يتخذوا من تلك البناءات الشكلية للتركيب اللغوي في عمومه - بغض النظر عن تركيب أية لغة بعينها وبغض النظر عن كل الدلالات اللغوية الخاصة - نموذجا يمكن أن يقتدي به الباحثون في مختلف مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ونستطيع أن نختم هذه المقدمة التاريخية بالقول: إن البنائية في أساسها نظرية في العلم (
epistémologie )، تؤكد أهمية النموذج أو البناء في كل معرفة علمية، وتجعل للعلاقات الداخلية والنسق الباطن قيمة كبرى في اكتساب أي علم. ولكن الحماسة الفياضة التي أثارتها هذه النظرية في فترة تاريخية معينة - هي فترة الستينيات المتأخرة. وربما أوائل السبعينيات - أدت بالبعض إلى أن يعاملوها كما لو كانت انقلابا فلسفيا شاملا، وثورة فكرية جديدة تجعل من الذات مجرد حامل للبناءات. ومن التاريخ مجرد تعاقب لصور تظل في أساسها ثابتة، وإن اختلفت مظاهرها التاريخية؛ على أن هذا التوسع في فهم البنائية قد أدى في تلك الفترة بالذات، إلى بعض التشويه في صورتها، وإلى إقحام عناصر داخلية عليها، عندما أصبحت هي «الموضة» الشائعة، وعوملت على أنها أيديولوجية جديدة كاملة، طبقت على ميادين قد لا يكون المنهج البنائي صالحا لها أصلا. وهذا تطرف نجده في كل مذهب يبهر الناس بجدته وخروجه عن المألوف. ولكنه لا يصح أن يتخذ أساسا للحكم على هذه الحركة الفكرية المثمرة.
ما هي البنائية؟
حينما أراد «بياجيه» أن يقدم تعريفا للبنائية في مستهل كتابه الذي خصصه لعرض هذا الاتجاه الفكري في جوانبه المختلفة، كان من رأيه أن من الضروري التفرقة بين الاتجاهات النقدية التي يسير فيها كل شكل خاص من أشكال البنائية، يطبق على ميدان محدد من ميادين معرفة الإنسان، وبين المثل الأعلى الذي تستهدفه فكرة البنائية مهما تعددت أشكالها؛ أي إنه كان يفرق بين التعريف السلبي للبنائية، من خلال بحث «ما تنقده» التعريف الإيجابي الذي يحدد «ما تهدف إليه». وكان يعتقد أن الأخذ بالأسلوب الأول يمكن أن يوقعنا في التعدد والتشتت؛ لأن البنائية لها أضداد يختلفون تبعا للميدان الذي تبحثه، فما تعارضه البنائية في ميدان الرياضيات مختلف عما تعارضه في ميدان علم النفس أو الأنثروبولوجيا أو اللغويات؛ ومن ثم فإن الأفضل - في رأيه - ألا نعرف البنائية من خلال اتجاهاتها النقدية، بل ينبغي أن نبحث عن المثل الأعلى المشترك بين جميع ضروب البنائية. وهذا المثل الأعلى في رأيه، وهو السعي إلى تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بنفسها، لا نحتاج من أجل بلوغها إلى الرجوع إلى أية عناصر خارجية، ومحاولة الوصول إلى السمات التي تشترك فيها كل البناءات التي نتوصل إليها بوجه عام.
1
هذا المثل الأعلى المشترك موجود بالفعل في كل أشكال البنائية. ولكنه في رأينا لا يوصل إلى الكثير. وربما كان الطريق الآخر - أعني التعريف بالسلب - أمرا لا مفر منه من أجل تكوين فهم مبدئي سليم للبنائية؛ ذلك لأن هذا الاتجاه لم يظهر في فراغ، لكي يدعو إلى مثل أعلى في المعقولية يكون فيه كل نسق يكونه العلم مكتفيا بذاته وقادرا على تنظيم ذاته دون إقحام عناصر خارجية. بل إنه كان في الأصل دعوة إلى التخلي عن أساليب مضادة في البحث العلمي. وكان يرتكز على فلسفة خاصة لا يمكن فهمها إلا في ضوء النقد الذي وجهته إلى الفلسفات المضادة لها، ولقد كان البنائيون - منذ البداية - يخوضون معارك حامية ضد خصوم أقوياء، لهم مواقع ثابتة في أرض الفلسفة والتفكير العلمي؛ ومن هنا كان مما يفيد في تقديم إيضاح أولي للبنائية أن نحددها من خلال المعارك التي خاضتها، ومن خلال الأفكار المضادة التي سعت إلى محاربتها. ومما يؤيد صحة هذا الاتجاه أن بياجيه نفسه حين قدم تعريفا أوليا للبنائية مرتكزا على مثلها الأعلى «الإيجابي»؛ اضطر عند شرحه لعناصر هذا التعريف إلى إيضاحها من خلال أضدادها - أي إنه عاد مرة أخرى إلى تعريف البنائية من خلال «ما تعارضه» - لا من خلال «ما تسعى إليه».
على أية حال فإننا لا نستطيع أن نغفل التحديد الإيجابي لمعنى البنائية، وكل ما في الأمر أن هذا التحديد ينبغي أن يستخلص - في رأينا - في مرحلة تالية؛ فالطريقة المثلى في إيضاح معنى البنائية هي أن نبدأ بتحديد هذا المعنى من خلال الاتجاهات التي ظهرت البنائية لكي تنقذها. أما الأهداف الإيجابية للبنائية فسوف تعرض بالتفصيل عندما نتحدث عن الأسس الفلسفية لهذا المذهب في الميادين المختلفة لمعرفة الإنسان، وسيكون من السهل عندئذ استخلاص العناصر المشتركة بين أشكال البنائية في كل هذه الميادين: (1) البنائية والنزعة التجريبية
في الفلسفة الفرنسية بأسرها - منذ عهد ديكارت - اتجاه إلى الإقلال من شأن النزعة التجريبية وتأكيد دور العقل الذي يسبق التجربة - سواء أكانت هذه الأسبقية منطقية أم زمنية - ويضفي عليها اتجاها وهدفا ومعنى، ومنذ أن أكد ديكارت أهمية النموذج الرياضي في المعرفة البشرية، وأكد فرانسس بيكن، في نفس العصر تقريبا، أهمية الملاحظة والرصد الدقيق للواقع، تحددت معالم اتجاهين متضادين: أحدهما دور العقل في المعرفة، والثاني يركز على أهمية التجربة. وصحيح أن العلم قد استطاع منذ وقت مبكر - بل منذ عهد هذين الفيلسوفين ذاتهما - أن يتجاوز التضاد بين النزعة العقلية والنزعة التجريبية، وذلك حين قدم جاليليو نماذج رائعة لكشوف علمية تعتمد على ملاحظات وتجارب دقيقة من جهة، وعلى فروض عقلية وصياغات رياضية من جهة أخرى. ولكن هذا التضاد ظل يقوم بدور أساسي في الفكر الفلسفي، وما زال له تأثيره عند المشتغلين بالعلوم الإنسانية حتى اليوم.
ومن أهم السمات التي نستطيع أن نلمحها عند البنائيين: مواصلتهم السير في هذا الاتجاه العقلي المعادي للنزعة التجريبية، وسعيهم إلى تفسير التجربة من خلال مبادئ عقلية، بدلا من إرجاع مبادئ العقل إلى مكتسبات تجريبية. ومما يدل على تأصل هذا العداء للتجريبية في تفكيرهم، أننا نجده عند مفكرين بنائيين تفصل بين اتجاهاتهما العقلية مسافات هائلة، وأعني بهما الأنثروبولوجي ليفي ستروس، والباحث لوي ألتوسير
Louis Althusser ، فمن الأسس المنهجية التي ترتكز عليها أبحاث ستروس في الأنثروبولوجيا، أنه لا يستهدف بمنهجه البنائي الاهتداء إلى عادات متشابهة وسط عدد هائل من الملاحظات الأنثروبولوجية التي يتم إجراؤها في ثقافات متباينة، كما كان يفعل الأنثروبولوجي الإنجليزي الكبير فريزر
Frazer
مثلا، بل يؤكد أن ما هو مشترك بين الثقافات لا يهتدي إليه بوضوح على مستوى الملاحظة، وإنما على مستوى البناء العقلي؛ فالبناء هو الذي يشكل العنصر الكلي الشامل في الثقافة البشرية. وهذا البناء خفي، لا يوجد على السطح الخارجي للظواهر أبدا، وإنما يكشف عقليا. وهكذا يستهدف التحليل البنائي - في ميدان الأنثروبولوجيا - الوصول إلى نوع من الجدول الرياضي أو المصفوفة الجبرية التي تعبر عن كل التحولات والتجمعات الممكنة في «الذهن البشري» اللاشعوري؛ ومن ثم كان هناك نوع من الازدراء في تعامل البنائية مع «الظواهر الأمبيريقية»، «وطوال كتابات ستروس يتكرر مرارا هذا التفضيل للتجريد العام على الواقعة التجريبية.»
2
وهكذا يؤكد ستروس الطبيعة المستقلة للذهن البشري على نحو يكاد يبدو معه فيلسوفا مثاليا، فهو يتكلم كما لو كان لدى الذهن (
L’esprit Humain ) استقلال خاص يجعله يمارس عمله بطريقة لا تعتمد على أي فرد أو جماعة إنسانية بعينها، وهو يذهب إلى حد أن يقول في واحد من كتبه: «إننا لا ندعي بيان الطريقة التي يفكر بها الناس في الأساطير، وإنما نبين كيف تفكر الأساطير في ذاتها من خلال الناس، ودون وعي منهم»، فهل يعني ذلك أن ليفي ستروس مفكر مثالي يجعل للذهن أولوية مطلقة على الظواهر؟ إنه هو ذاته ينفي بشدة كونه مثاليا، ويرى أن كل ما يدافع عنه هو القول بوجود طبيعة ثابتة للذهن البشري لا تتأثر بتغير الأفراد والمجتمعات، وتعبر عن نفسها من خلال نواتج الإنسان الثقافية كالأساطير؛ فالعقل البشري لديه مبادئ ثابتة، أشبه بمبادئ علم الجبر، يظهر تأثيرها في كل رسالة ينقلها إلينا أي موضوع ثقافي أنتجه الإنسان، وتعبر عن وجود «آليات» موحدة يعمل بها العقل البشري أينما كان.
فإذا انتقلنا إلى الطرف البعيد عن ليفي ستروس في البنائية - وأعني به الفيلسوف الماركسي ألتوسير - وجدناه بدوره يشترك مع ستروس - برغم كل ما بينهم من اختلافات أيديولوجية عميقة الجذور - في نقد المذهب التجريبي، والنظر إلى الحقيقة على أنها معيار لذاتها، دون الحاجة إلى تحقيق تجريبي خارجي؛ ففي نظر التجريبية تكون المعرفة تجريدا من الواقع ؛ أي إن الواقع نفسه يتضمن المعرفة ويخفيها وسط عناصر أخرى متداخلة تحجبها عنا، وكل ما علينا هو أن نطرح هذه العناصر جانبا لنجلو وجه الحقيقة الذي يشتمل عليه الواقع بالفعل؛ أي إن المعرفة عند التجريبيين هي عملية «طرح» نستبعد فيها الزوائد لكي نكشف ماهية الحقيقة، ومعنى ذلك أن التجربة المباشرة فيها أكثر مما هو مطلوب للوصول إلى الحقيقة، وعلى عكس ذلك يرى ألتوسير أن هذه التجربة المباشرة تتضمن «أقل» مما هو مطلوب لبلوغ الحقيقة؛ فنحن لا نحذف أو نختصر منها لكي نصل إلى الحقيقة، وإنما «نضيف» إليها؛ إذ إن من سمات التجربة المباشرة ألا تكون مكتفية بذاتها ، ومن سمات العقل الإنساني ألا يكون مجرد شاهد سلبي يسجل حقيقة موجودة بأكملها خارجه.
ولا يكتفي ألتوسير بهذا النقد للتجريبية. بل إنه يذهب خطوة أبعد من ذلك، فيقول: إن عملية المعرفة تحدث كلها في الفكرة، وإن الممارسة النظرية تتضمن في ذاتها معايير علمية النتائج التي يتم الوصول إليها في العلوم المختلفة؛ أي إن العلوم عندما تبلغ قدرا معينا من النمو، لا تكون أبدا بحاجة إلى ذلك التحقيق التجريبي الذي يربط بين قضاياها وبين واقع خارجي، والذي يقال: إنه معيار الصدق في القضايا،
3
والمثل الذي يضربه ألتوسير للتدليل على ذلك هو الرياضيات، التي لا تحتاج إلى تحقيق خارجي للتدليل على صحة قضاياها، ويعمم ألتوسير ما ينطبق في حالة الرياضيات على بقية العلوم؛ بحيث يجعل معيار الصدق في المعرفة كلها معيارا داخليا هو التماسك والاتساق، ويكون مقر الحقيقة عنده داخل الذهن
intramental
فحسب. أما الالتجاء إلى التجربة فهو «برجماتية» يرفضها ازدراء وترفع.
وهكذا نرى إلى أي حد يظل ألتوسير - في هذه المسألة بالذات - ديكارتيا مخلصا؛ وذلك أولا بسبب نزعته القبلية
a-priorisme
الواضحة، وجعله الحقيقة معيارا لذاتها، وتأكيده أن التجربة هي التي تكتسب مشروعيتها من حقيقة موجودة قبلها، بعكس ما يقول به التجريبيون من أن الحقيقة هي التي تكتسب مشروعيتها من تجربة سابقة عليها، وهو فضلا عن ذلك ديكارتي صميم حين يدلل على هذا كله بما يحدث في الرياضيات، ولا يكتفي بذلك، بل يواصل اتجاه ديكارت في اتخاذه من الرياضيات نموذجا لكل معرفة بشرية؛ على أن ألتوسير يعرض نفسه هنا لنفس النقد الذي طالما وجه إلى ديكارت، وأعني به أن ما يصدق على الرياضيات لا يتعين أن يصدق على بقية العلوم، وأنه إذا كانت العلوم الرياضية تكتفي بمعيار الاتساق الشكلي وتستمد حقيقتها كلها من داخل الذهن، فإن هناك علوما أخرى كثيرة تحتم الخروج عن الذهن، وتحيلنا إلى الواقع، ولا تجد غضاضة في الاستعانة بالتجربة من أجل تصحيح النظرية، ومن أجل أن تتمكن من التمييز بوضوح بين ما هو واقع فعلي وما هو مجرد إمكان ذهني .
وعلى أية حال، فها نحن أولاء نرى ليفي ستروس وألتوسير يتفقان معا على توجيه نقد شديد إلى النزعة التجريبية، ويضعان معيارا لصدق تحتل فيه التجربة - على أحسن الفروض - المرتبة بعد الجهد العقلي، وقد يبدو هذا متعارضا مع ما اعترف به ليفي ستروس ذاته من أن الوصول إلى البناء أمر يحتاج إلى مقارنة وتحليل دقيق لعدد من الأمثلة المدروسة، وما أكده من أن الباحث يلقى مشقة كبيرة حتى يتوصل إلى النسق أو التركيب الباطن للظاهرة التي يدرسها. ولكن حقيقة الأمر أنه ليس ثمة تعارض بين الموقفين؛ فالجهد الذي كان يبذله ستروس لا ينصب على دراسة الوقائع الخارجية بقدر ما ينصب على التفكير العقلي فيها. ومن المعترف به - كما سنرى فيما بعد - أن ستروس لم يكن من أولئك العلماء الأنثروبولوجيين الذين يقضون حياتهم في ملاحظة الجماعات البدائية وتسجيل عاداتها وطرائق حياتها إلخ، بل كان الجهد «الميداني» الذي بذله ضئيلا بالقياس إلى غيره من العلماء في هذا الميدان نفسه. أما الجهد الأكبر فكان في عملية التحليل الفكري الداخلي لتلك المادة غير المتسعة التي جمعها «من الميدان» ذاته. ومع ذلك بالرغم من المشقة العقلية الكبرى التي كان يعانيها في مقارنة الأمثلة المختلفة والجمع بين ظواهر شديدة التباعد من أجل التوصل إلى «البناء» الكامن فيها، فقد كان يؤكد دائما أن البناء موجود في الواقع بمعنى ما. وليس مجرد تركيب عقلي نقوم به للتسهيل أو التوضيح أو تقريب الظاهر إلى الأذهان. وهكذا يجمع البناء قدرا غير قليل من صفات القانون العلمي؛ فكل منهما يكشف عن ثبات من وراء التغير، وكل منهما يرد الكثرة الظاهرة إلى وحدة، وكل منهما عقلي في طريقة اكتشافه، وواقعي في وجوده خارج الذهن الخالص. ولكن البناء أهم من القانون العلمي؛ لأن هذا الأخير يلخص فئة معينة من الظواهر، على حين أن الأول يجمع بين فئات متباينة ومتباعدة، يستطيع العقل أن يكشف فيها كلها بناء واحدا.
وتبقى الكلمة الأخيرة - بعد هذا كله - للعقل، فبالرغم من تأكيد ستروس وجود البناء في الظواهر ذاتها، وبالرغم من إصراره على أنه ليس مجرد تركيب أو نموذج ذهني نبسط به الوقائع لكي يسهل علينا فهمها، فإن البناء ما كان يمكن أن يوجد في ظواهر على هذا القدر من التباعد (كوجود بناء واحد لنظام القرابة في مجتمع بدائي، وللنسق اللغوي في هذا المجتمع) لو لم يكن راجعا إلى تركيب الذهن البشري ذاته، ولو لم تكن مبادئ العقل واحدة في كل هذه المجالات، ولو لم تكن العملية التي يصوغ بها عقلنا نواتجه المتباينة عملية واحدة في صميمها؛ فالبناء موجود في الواقع بالفعل. ولكنه موجود فيه لأن هذا الواقع - في مجال الظواهر الإنسانية - إنتاج لذهن بشري يعمل دائما - وفي كل الميادين - بطريقة واحدة؛ ولهذا كانت البنائية تحارب النزعة التجريبية وترفض كل تفسيراتها لطبيعة المعرفة وعلاقتها بالواقع.
ومن النتائج الهامة لموقف المعارضة الذي وقفته البنائية من النزعة التجريبية، رفضها التام للنظرة التجريبية إلى علاقة الجزء بالكل؛ فالتجريبيون يرون أن الأطراف في أية علاقة سابقون على العلاقة ذاتها؛ أي إن تجمع الأطراف هو الذي يضفي على العلاقة طابعها الخاص، ويستحيل تصور هذه العلاقة مستقلة عن الأطراف الداخلين فيها، على حين أن كلا من هذه الأطراف له استقلاله الخاص، ويمكن تصوره بمعزل عن العلاقة التي يدخل فيها؛ أي إن العلاقات كلها، في رأي النزعة التجريبية، خارجية أما البنائيون فيرون أن العلاقة ليست مجرد مجموع لعناصر مستقلة قائمة بذاتها. بل إن هذه العناصر تخضع لقوانين تتحكم في بناء العلاقة التي تجمعها، وهذه القوانين تضفي على البناء سمات كلية تتميز عن سمات عناصره مأخوذة على حدة، كما تتميز عن مجموع هذه العناصر، ويضرب بياجيه مثلا لهذه الصفة بالأعداد الصحيحة في الحساب، فهذه الأعداد لا توجد بمعزل عن بعضها البعض، ولم يكتشف كل منها مستقلا بتعاقب عشوائي. بل إنها لا تظهر إلا في ترتيب معين. وهذا الترتيب يرتبط بسمات «بنائية» تختلف عن سمات الأرقام المنفردة.
4
وهكذا تنقد البنائية المبدأ الشائع بين التجريبيين، الذي يجعل أطراف العلاقة مستقلين عن العلاقة ذاتها، ويؤكد أن هؤلاء الأطراف أشبه «بالذرات» القائمة بذاتها، والتي لا تتغير طبيعتها بدخولها في أية علاقة (وهو المعروف بمبدأ الذرية التجريبية). ولكن هل يعني هذا النقد أن البنائية تنحاز إلى الرأي المضاد، الذي عرفناه في النظرية الجشطلتية في علم النفس، والذي يؤكد أولوية الكل على الأجزاء، ويجعل منه أكثر من مجرد تجميع لعناصر مستقلة؟ الواقع أن هذا القول بأسبقية الكل يقربنا إلى حد ما من فكرة البناء. غير أن مفهوم البناء ينطوي على ما هو أكثر من تغليب الكل على الأجزاء، واتخاذ الموقف المضاد - بطريقة آلية - للموقف التجريبي؛ فالبنائية لا تكتفي بأن تضع الكل في البداية، دون أن تحدد خصائصه وسماته الداخلية. بل إن أهم المشكلات في نظرها هي العلاقات الداخلية بين العناصر؛ فهي تركز بحثها على العمليات الطبيعية أو المنطقية التي يتكون بها الكل، والقوانين المتحكمة في تركيبه،
5
وتتجاوز بذلك الموقف الجشطلتي الذي يكتفي بافتراض أولوية الكل دون مزيد من التحليل لتركيبه الباطن. (2) البنائية والنزعة التاريخية
ربما كان التضاد الأهم، الذي تتحد به طبيعة البنائية بمزيد من الوضوح، هو تضادها مع النزعة التاريخية
historicisme ؛ إذ إن الجدل الأكبر الذي أثاره البنائيون كان موجها ضد أنصار النزعة التاريخية، والقوة الدافعة الأولى للتيار البنائي كانت الرغبة في مراجعة التفسير التاريخي مراجعة جذرية؛ ومن هنا كان فهم موقف البنائية من النزعة التاريخية أساسيا في تحديث سماتها.
فقد كان من الشائع - في القرن التاسع عشر بوجه خاص - تفسير كل الظواهر من خلال التاريخ، فالسابق هو الذي يتحكم دائما في اللاحق، والمنشأ الأول لأي ظاهرة، ثم مسارها التالي، أساسي في فهم طبيعتها الحالية. ولقد اتفق على هذه النقطة مفكرون كانوا يختلفون فيما بينهم في مسائل أساسية؛ إذ قدم إلينا دارون تفسيرا لتطوير الأحياء من منظور تاريخي، وعمم «سبنسر» نظرية دارون من المجال البيولوجي إلى جميع المجالات الاجتماعية والروحية والعلمية والمادية، واتخذ «نيتشه» من فكرة التاريخ أساسا لفلسفة كاملة تؤمن بأن للأخلاق والمعرفة والقيم (حتى المنطقية منها) تاريخا، وبأن حاضر هذه المعاني لا يفهم إلا من خلال ماضيها، وبأن الإنسان كائن تاريخي في صميمه، وطبق ماركس فكرة التاريخ على العلاقات الإنتاجية بين البشر في مراحلها المختلفة، فقدم إلينا نظرية في «المادية التاريخية» تجمع بين تأكيد الشروط المادية (والاقتصادية بوجه خاص) لتطور المجتمعات البشرية، وبين إعطاء أهمية كبرى للعامل التاريخي في هذا التطور، بل يمكن القول، من وجهة نظر معينة. إن العلوم الطبيعية ذاتها كانت تضفي على الفكرة الرئيسية فيها - وهي فكرة السببية - طابعا تاريخيا أو زمنيا؛ لأن السبب كان ينظر إليه على أنه «السابق المتكرر أو الدائم»، والتقطت علوم إنسانية كثيرة فكرة التفسير التاريخي، فأصبح من الضروري، من أجل فهم أية ظاهرة تنتمي إلى مجال الحياة الإنسانية، الرجوع إلى سوابقها الماضية، وأصبح النقاد الفنيون والأدبيون يفسرون عمل الكاتب من خلال تاريخ حياته، ويبنون نظرتهم إلى الفنان على وقائع نفسية أو اجتماعية أو سياسية لها كلها موقع محدد في «التاريخ»؛ أي إن التاريخ أصبح متغلغلا في كل شيء.
ولم يقف هذا التيار التاريخي الطاغي عند حدود القرن التاسع عشر، بل كانت له إمدادات قوية في القرن العشرين، تمثل ذلك في عودة ظهور فكرة «التقدم» التي ترجع إلى القرن الثامن عشر، وتأكيد وجود اتصال واستمرار تاريخي بين الظواهر؛ فالحاضر كامن في الماضي، والمستقبل كامن في الحاضر، وهناك خط متصل من التقدم، يمتد من أقدم العصور حتى اليوم، وبفضله يتحقق انتصار الروح في هذا العصر؛ لأن كل عصر وإن كان موجودا في حالة «كمون» في العصر الذي سبقه، يضيف جديدا إلى حصيلة التجارب البشرية، ويسهم في دفعها إلى الأمام؛ ولذلك فإن أعلى المستويات التي تصل إليها الروح البشرية ستكون في المستقبل.
ولقد ظهرت محاولات متعددة للحيلولة دون انتشار هذه النزعة التاريخية الطاغية، كان من أشهرها محاولة «باشلار
G. Bachelard » الذي أنكر وجود خط متصل من التقدم في المعرفة العلمية، وذهب إلى أن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء وعقبات تقف في وجه المعرفة بقدر ما هو تاريخ إنجازات ناجحة. بل إن الماركسية ذاتها - برغم ارتباطها القوى بالنزعة التاريخية - تنطوي على الفكرة القائلة بوجود نقاط انقطاع وانفصام في التاريخ البشري . وفضلا عن ذلك فليس من الضروري أن يكون الأساس الذي يبنى عليه التفسير سابقا من الوجهة الزمنية، فهناك غايات معينة تستهدف المستقبل، وتكون - في المجال الإنساني - نوعا خاصا من العلية تتطلع إلى الأمام لا إلى الخلف، وهذه مسألة ظهرت في الماركسية، التي يرتكز جانب كبير من دعوتها الأيديولوجية على نوع من العلية المتطلعة إلى المستقبل، هي تحقيق مجتمع بلا طبقات.
ولكن البنائية كانت هي التي أوقفت - بطريقة حاسمة - هذا التيار الطاغي للنزعة التاريخية، أو على الأقل قضت على ادعائها احتكار القدرة على تفسير الظواهر البشرية، فقد استعاضت البنائية عن النظرة الشائعة إلى تقدم الروح الإنسانية، وهي النظرة التي تمثل هذا التقدم على أنه تراكم تدريجي لمكتسبات يضاف الجديد منها إلى القيم إضافة خارجية، بتصور آخر تكون فيه الأفكار الجديدة مجرد توسيع لأفكار سبق ظهورها من قبل، وإن كانت قد اتسمت في البدء بالبساطة والبدائية؛ فالعقل الإنساني لا يسير في طريقه بطريقة جيولوجية إذا جاز لنا أن نستخدم هذا التعبير؛ أي إنه لا يضيف طبقة من المعرفة فوق طبقة أخرى، وإنما يسير بطريقة عضوية، يعيد فيها تمثل القديم بطريقة أصعب وأعقد، ويحتفظ فيها ببنائه القديم، وإن كان يدرك خلال تطوره أن هذا البناء - الذي كان يعد صحيحا صحة مطلقة في وقت مضى - لا يمثل إلا جانبا من الحقيقة، هو ذلك الجانب الذي كان عقلنا يستطيع بلوغه في ذلك الوقت.
وفي وسعنا أن نربط بين معارضة البنائية للنزعة التجريبية ومعارضتها النزعة التاريخية في هذه النقطة بالذات، فنقول: إن تصور التقدم البشري بأنه تراكم تدريجي لمكتسبات تتجدد على الدوام - وهو التصور المميز للنزعة التاريخية - ينطوي على وجه من أوجه النزعة التجريبية، إذ يصبح التقدم عندئذ حصيلة وقائع تجريبية تضاف كل منها إلى الأخرى مكونة طبقات متراكمة بعضها فوق بعض. وفي مقابل ذلك ترفض البنائية كلا من النزعتين التاريخية والتجريبية؛ إذ تستعيض عن التصور السابق بتصور آخر يظل فيه العقل البشري متضمنا صورا أو قوالب أو عمليات ثابتة، وإن كنا لا نكف عن إعادة النظر فيها، وعن توسيعها وتعقيدها؛ أي إن كل تقدم يظل محتفظا بالنواة المركزية. وهكذا يمكن القول: إن نوع التقدم الذي تعترف به البنائية هو ذلك الذي يرى أن طريق المستقبل يمر بالماضي، وأن الوصول إلى الغد يتم من خلال مراجعة ما تم بالأمس، فالبذور القديمة موجودة دائما، وكل ما نفعله هو أننا ننميها بطريقة جديدة.
والواقع أن كثيرا من الباحثين في تطور الحضارات قد اعترفوا بهذا المبدأ الذي تنادي به البنائية حتى قبل أن تعبر البنائية عن نفسها بوصفها مذهبا فكريا متميزا، فمنذ وقت بعيد لاحظ مؤرخو الحضارة أن كثيرا من ضروب التفكير العلمي والإبداع التكنولوجي التي عرفها العصر الحديث، ليست إضافة مطلقة لشيء لم يكن موجودا من قبل، بل هي تنمية لبذرة سبق ظهورها في عصور ماضية. وهكذا عرفنا - من تاريخ العلم والفلسفة - أن نظرية التطور كما ظهرت في القرن التاسع إنما هي صياغة جديدة لفكرة نستطيع أن نعدها من البذور الثابتة في العقل البشري، نبتت عند أناكسيمندر في القرن السادس ق.م وربما قبل ذلك أيضا، واتخذت أشكالا متعددة، إلى أن صيغت بالطريقة الحاسمة على يد دارون، ومثل هذا يقال عن فكرة الذرة التي بدأت من عهد ديمقريطس، واكتسبت أشكالا متباينة عند فلاسفة الإسلام وفلاسفة الغرب في العصور القديمة والوسطى والحديثة، إلى أن اتخذت شكلها العلمي في العهد القريب. وحين اخترعت أوروبا البارود كان الجميع يعلمون أن الصين قد استخدمته من قبل. وحين توصل «جيمس واط» إلى الطاقة البخارية، تنبه الكثيرون إلى أن المخترع الروماني «هيرو
Hero » قد عرف هذه الطاقة من قبل، وإلى أن ليوناردو دافنشي وضع تصميما لآلة تحركها طاقة البخار، وهكذا عرف الباحثون تاريخ الأفكار، وفي تاريخ الحضارات مئات الأمثلة التي تثبت أن مسار التقدم البشري يتخذ شكل تنمية وتطوير لمبدأ قديم يكاد يكون ثابتا، لا شكل إضافات خارجية جديدة كل الجدة، وأدركوا أن التصورات الأساسية التي نفهم بها عالمنا الحالي كانت موجودة من قبل، وإن كنا قد نميناها وعقدناها، وعرفوا أن طريق العقل البشري لا يمثل انتقالا من الظلام إلى النور. ومن الجهل إلى المعرفة، ولا يسير في خط مستقيم، كذلك الذي يقول به دعاة التقدم المستمر.
ومن السهل أن ندرك وجود فارق واضح بين هذا الموقف الذي اتخذته البنائية من فكرة التاريخ والتطور، وبين الموقف الذي ساد بوجه خاص في الأوساط الفلسفية الفرنسية في أوائل القرن العشرين، الذي يؤكد أن العصور اللاحقة تتجاوز تصورات العصور السابقة، بل تتخلى عنها نهائيا. وقد تمثل هذا الموقف الأخير في الفكرة التي اتخذ منها عالم الاجتماع الفرنسي «ليفي بريل
Lévi-Bruhl » محورا لأبحاثه؛ أعني فكرة وجود عقلية «قبل المنطقية
Mentalité pre-logique » لدى البدائيين، كما تمثلت في فكرة «مراحل العقل» عند ليون برنشفيج
Léon Brunschvicg ، التي ينتقل فيها العقل العلمي الإنساني من مرحلة «الطفولة» إلى مرحلة النضج، هذه الأفكار تفترض انتقالا من الجهل التام إلى المعرفة الكاملة، وتصور تاريخ العقل البشري بأنه صعود مستمر إلى أعلى دون وجود أي عنصر مشترك بين القديم والجديد. وهذا ما تفرضه البنائية؛ لأنها تؤكد مفهوم «التوازي»
6
بين التصورات القديمة والجديدة؛ فالعقل البشري ينمو في كل الأحوال عن طريق تعميق التفسيرات التي يقدمها للطبيعة، وتحويلها من مرحلة التقيد بالمظاهر الخارجية إلى مرحلة كشف القوانين الكامنة. ولكن أساس هذه التفسيرات يظل واحدا، والعناصر الأساسية باقية، والمقولة الأساسية في فهم التاريخ هي مقولة التوازي لا مقولة المسار الخطي الصاعد.
ولقد أورد «سيباج
Sebag »
7
مثلا للفرق بين المنهج التاريخي والمنهج البنائي، مستمدا من دراسة لجورج دوميزيل
G. Dumezil
في مجال الأديان المقارن، فقد انتهى «دوميزيل» إلى أن كل دين من أديان الشعوب الهند أوروبية يتضمن تقسيما ثلاثيا لموضوع العقيدة، وأن هذا التقسيم تمثل لدى الجميع وإن تفاوتت صوره واختلف في مدى وضوحه ونقائه. وهكذا نكتشف، من وراء تباين الآلهة والشعائر ووظائف العقيدة في كل حالة تقسيما ثلاثيا واحدا يظل على ما هو عليه مهما تنوعت الحضارات، وعلى العكس من ذلك فإن النظرة التاريخية إلى هذا الموضوع ذاته تستخلص كل شيء من أشكال الألوهية من الواقع الديني الخاص بكل شعب على حدة؛ ولذلك لا تتوصل إلا إلى دلالات جزئية، وتضيع منها التشابهات البنائية الموجودة وراء السطح الظاهري لتعدد العقائد، والواقع أن النظرة التاريخية إذا توصلت إلى أي نوع من البناء؛ فهي إنما تتوصل إليه بعد دراسة مضنية للجزئيات وللأمثلة الفردية، ولن تستطيع رغم ذلك أن تتوصل إلى بناء أساسي؛ ولذلك تعكس البنائية الآية، فتضع التغيرات التاريخية الجزئية «في إطار» البناء الثابت، وتفسرها من خلاله؛ فالتاريخ يدور في إطار البناء ويفسر بواسطته لا العكس، والعملية التاريخية الخلاقة لا تفهم إلا من خلال البناء الذي ظل موجودا طوال ألوف السنين؛ ولذلك يمكن تشبيه العلاقات بين البناء والعمليات التاريخية العينية التي تدور في إطاره، والتي تضفي الحياة على البناء اللاواعي وتنقله إلى مجال الوجود الفعلي، يمكن تشبيهها بالعلاقة بين «الشفرة
Code » والرسائل المختلفة التي نحصل عليها بعد معرفة الشفرة.
ولقد تأثر علم التاريخ بهذه الحركة الجديدة التي بدأت بها البنائية عهدا جديدا، فظهرت مدرسة تاريخية تركز جهدها على كشف المعالم العامة للحضارات التي تمتص في داخلها الأحداث وتصبغها بصبغتها الخاصة، بدلا من أن تتشكل بالأحداث وتسير في تيارها. ولكن ظهر أيضا رد فعل مضاد بين مؤرخين رأوا في هذه النظرة البنائية هدما لكل ما هو أساسي في التاريخ؛ ذلك لأن البنائيين يركزون على فكرة انعدام التغير
invariance . أما بالنسبة إلى المؤرخ فهناك على الدوام مؤثرات وتناقضات داخلية، تتجه دائما إلى إحداث توازن جديد؛ فالتحليل التاريخي يؤكد فكرة الحركة، وهو نقيض السكون الذي يؤكد التحليل البنائي؛ ولذلك يرى أنصار هذا الاتجاه المعارض للبنائية
8
أن التاريخ يرفض الأبنية الثابتة. بل إن الزمان يحمل في طياته كل بناء ويغيره، وقد يكون هذا التغيير بطيئا كما في حالة البناءات العقلية والمنطقية التي لا تتغير خلال التاريخ إلا ببطء شديد. وقد يكون سريعا كما في حالة الأوضاع الاقتصادية أو البناء القانوني لمجتمع ما. ولكن كل بناء يظهر ثم يذبل ويختفي، وعلى المؤرخ أن يدرس كيف يتم الانتقال من بناء إلى آخر، في ضوء اختلاف الإيقاع الذي تتطور به البناءات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعقلية.
على أننا لا نود أن نختم هذا الجزء - الذي نعرض فيه لموقف البنائية من النزعة التاريخية - دون أن ننبه إلى ثلاث مسائل هامة ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار في صدد النزاع المشهور بين البنائية والتاريخية: (1)
إن البنائية تستطيع أن تجد وسيلة للتوفيق بين نزوعها إلى الثبات ونزوع المؤرخ إلى الحركة والتغيير، وذلك عن طريق التفرقة بين الإطار العام والمضمون الداخلي في كل حدث تاريخي، فمضمون الأحداث التاريخية والمادة المحتواة فيها هو الذي يختلف تبعا للعصور والمجتمعات. ولكن هذا المضمون المتغير يكشف عن تنظيم يظل على ما هو عليه مهما اختلفت السياقات الاجتماعية والتاريخية؛ أي إن ما يسري عليه وما يخضع للتفسير التاريخي، هو المضمون والمادة الداخلية. أما التنظيم والبناء فهو فوق التاريخ، وعلى هذا النحو تستطيع البنائية أن تقدم إرضاء جزئيا على الأقل للمؤرخ الذي لا يمكنه أن يتصور علمه بدون فكرة التغير والحركة المستمرة؛ فهي لا تنكر التاريخ، وإنما تحصر تأثيره في مسافات وتنوعات تطرأ على إطار ثابت، على حين أن المؤرخ يؤكد أن كل شيء متحول، وأن أي بناء لا بد أن يسير في تيار التاريخ المتدفق. (2)
على أن البنائية لم تكن تهدف أساسا إلى معارضة المؤرخين حين أعلنت معارضتها للنزعة التاريخية؛ ذلك لأنها كانت تحارب هذه النزعة في مجالات العلوم الإنسانية الأخرى قبل أن تحاربها في مجال التاريخ ذاته، وهدفها الأساسي كان رفض التفسير الذي انتشر زمنا طويلا، والذي يرجع الظواهر الإنسانية إلى منشئها وتطورها فحسب، ويعجز عن كشف عناصر الثبات فيها، ومن هنا كان ميدانها المفضل - وهو الميدان الذي تستمد منه الحركة البنائية وحيها الأول - هو ميدان اللغويات، الذي حرص رائده «دي سوسير» على أن يكشف فيه بعدا لا يمت إلى التاريخ بصلة، فقد ميز «دي سوسير»
9
بين محورين أساسيين في اللغة: محور التزامن
Simultanéité
الذي يختص بالعلاقات بين التراكيب اللغوية دون أية إشارة إلى الزمان، ومحور التعاقب
Successivité
الذي تبحث فيه ظواهر المحور الأول، لا من حيث هي موجودة معا في وقت واحد، بل من حيث هي متطورة متغيرة، ومن هنا قسم الدراسات اللغوية إلى سكونية
Statique
أو تزامنية
Synchronique
وهي المتعلقة بالتركيب الثابت للمعاني والرموز، وتطورية
évolutive
أو تعاقبية
diachronique
وتتعلق بما يطرأ على التراكيب والعلاقات اللغوية من تطورات، وعلى الرغم من أن «دي سوسير» لم يتجاهل المحور الثاني الذي يتضمن فكرة الزمان والتاريخ، فإنه أدخله في سياق أوسع. وكان أكثر اهتماما بالمحور الأول؛ أي بالبحث في الثوابت اللغوية التي تعبر عن بناءات لا يؤثر عليها التطور؛ لأنها جزء من التركيب الأصلي لمفهوم «اللغة» بوصفها وسيلة للتعبير الرمزي عن المعاني، وبالمثل كان ميدان «الأنثولوجيا
Ethnologie »
10
ميدانا آخر مفضلا لدى البنائيين؛ لأنه يتعلق بشعوب بدائية؛ أعني بما يمكن أن يوصف بأنه شعوب بلا تاريخ، مادام التطور يكاد يكون غير ملحوظ بين هذه الجماعات؛ ومن هنا كان نجاح البنائية في كشف الأنساق الثابتة في هذا الميدان، وعجزها عن تطبيق منهجها هذا على الجماعات البشرية الحديثة التي هي مجتمعات موجودة «في التاريخ»؛ ففي الشعوب البدائية تحل الأسطورة محل التاريخ، ومن سمات الأسطورة أن التعاقب الزمني لا يؤدي فيها وظيفة ذات بال، بل إن الأسطورة ذاتها إذا طرأ عليها تطور خلال الزمان فإن القديم فيها يتعايش مع الحديث كما تتعايش حفريتان تنتميان إلى عصور مختلفة؛ ولذلك كان الميدان المفضل للبحث في المبادئ الأساسية للعقل الإنساني - عند البنائية - هو الأساطير البدائية الساكنة، المعبرة عن العقل في ثباته وفي سماته الجذرية. (3)
والواقع أن البنائية - في معارضتها للنزعة التاريخية - قد استهدفت إحداث تغيير منهجي حاسم في العلوم الإنسانية. ويمكن القول: إن هذا التغيير يماثل - من وجهة نظرها الخاصة - ذلك الانقلاب الأساسي الذي طرأ على العلوم الطبيعية حين تخلت - في أوائل العصر الحديث - عن الطريقة الكيفية في فهم ظواهر العالم الطبيعي، واستعاضت عنها بالطريقة الكمية، فهناك أوجه شبه متعددة بين الهدف الذي تسعى البنائية إلى تحقيقه في ميدان دراسة الإنسان، وذلك الذي حققته العلوم الطبيعية في تلك المرحلة الانتقالية الحاسمة من تاريخها: (أ)
ففي كلتا الحالتين كان الانتقال ثوريا، يمثل التحول من مرحلة «ما قبل العلمية» في دراسة الظواهر إلى المرحلة العلمية الدقيقة. ولقد كان من أهم أوجه النقد التي وجهها البنائيون إلى المنهج التاريخي في دراسة الإنسان: التجاؤه إلى تعبيرات غامضة وعبارات إنشائية مطاطة، وعجزه عن التعبير عن الظواهر التي يتركها كلها تنساب في مجرى التاريخ دون أن نتمكن من إيقاف هذا السيل المتدفق من أجل دراسته بطريقة علمية منضبطة. (ب)
وفي كلتا الحالتين كان العلم يسعى إلى تجاوز المظهر الخارجي للظواهر، والنفاذ إلى حقيقة أو ماهية أعمق منها، تظل ثابتة مهما طرأ على الظواهر من تغيرات. ولا شك أن هناك شبها قويا بين المعادلات الرياضية التي أصبحت قوانين الطبيعة تصاغ فيها بعد انتقال العلوم الطبيعية إلى مرحلة التعبير الكمي عن الظواهر، وبين البناءات التي تظل ثابتة من وراء الأشكال المتعددة التي تتحقق من خلالها في المجتمعات المختلفة. وفي كلتا الحالتين يحتاج إلى الثوابت - من وراء المتغيرات الظاهرية - إلى نفس القدر من الجهد العقلي والقدرة على التجريد. (ج)
بل إننا نستطيع أن نهتدي إلى وجه شبه مباشر بين الحالتين، يتمثل في التجاء البنائية إلى نماذج رياضية - قد تكون جبرية وقد تكون هندسية - من أجل التعبير عن الأنساق الثابتة التي يتم التوصل إليها، ومعنى أن البنائية تحقق - بطريق مباشر - الانتقال إلى أسلوب التعبير الكمي في ميدان الدراسات الإنسانية، وهو الانتقال الذي حدث بالفعل في العلوم الطبيعية منذ أربعة قرون. (د)
وأخيرا، ففي كلتا الحالتين تتخذ الحقيقة طابعا لا زمانيا، فللقانون العلمي الرياضي أزليته الخاصة، بمعنى أنه يعبر عن حقيقة ضرورية وبالمثل يتسم البناء في ميدان العلوم الإنسانية بالأزلية، لا لأنه يعبر عن حقيقة مجهولة المصدر تظل ثابتة على مر الزمان، بل لأنه فيه ضرورة تماثل ضرورة القانون الرياضي؛ ومن هنا كان في وسعنا أن نقول: إن التساؤل عن المصدر الذي يأتي منه البناء هو - بمعنى معين - تساؤل ساذج؛ إذ إننا في حالة القانون العلمي الرياضي لا نتساءل عن مصدر المعادلة الرياضية، أو عن المصدر الذي فرض على الطبيعة تنظيما رياضيا ثابتا، وجعل لها قوانين ثابتة من وراء مظاهرها المتغيرة؛ ففي كلتا الحالتين ترجع الأزلية إلى الضرورة المنطقية قبل كل شيء.
وفي ضوء هذه الملاحظة نستطيع أن نفهم على نحو أفضل طبيعة الصراع المشهور الذي قام بين البنائية والنزعة التاريخية، وندرك الهدف الفلسفي والمنهجي الذي دفع البنائية إلى رفض المنهج التاريخي بصورته التقليدية.
وبعد هذا العرض العام لسمات البنائية - من خلال الاتجاهات الرئيسية التي تعارضها - نستطيع أن ننتقل إلى معالجة الأسس الفلسفية لهذا الاتجاه الفكري الهام عند ممثليه الرئيسيين.
ولا جدال في أن هذه المعالجة التفصيلية ستزيد من وضوح السمات العامة التي اهتدينا إليها من قبل، وتضفي عليها مزيدا من التحدد والدقة المكتسب من تطبيقها على مذاهب فكرية محددة المعالم. (3) الأسس الفلسفية للبنائية عند ليفي ستروس
قد يبدو لأول وهلة أن الميدان الذي اختاره ليفي ستروس - وهو ميدان الأنثولوجيا والأنثروبولوجيا؛ أي دراسة الشعوب والحضارات القديمة - ينتمي إلى العلوم الاجتماعية الخالصة؛ ومن ثم فهو خارج عن نطاق بحثنا هذا الذي ينصب على الأسس «الفلسفية» للبنائية، ومن المؤكد أن المصادر التي أثرت على اتجاه ليفي ستروس الفكري كانت متعددة، وبعضها بعيد عن ميدان الفلسفة. ومع ذلك فسوف نحاول أن نثبت في هذا القسم من بحثنا أن ستروس كان فيلسوفا بقدر ما كان عالما أنثروبولوجيا، وأنه صبغ دراسته الاجتماعية بصبغة فلسفية لا تخطئها العين، وحول المؤثرات غير الفلسفية إلى الاتجاه الفلسفي. وكان هذا الطابع الذي يميزه عن سائر علماء الأنثروبولوجيا هو مصدر قوته وعمقه وطرافته. ولكنه كان في الوقت ذاته هو العامل الذي أدى إلى توجيه الانتقادات إليه من كلا الطرفين؛ لأن الفلاسفة لم يقنعوا بأسسه الفلسفية، على حين أن الأنثروبولوجيين لم يجدوه عالما أنثروبولوجيا بما فيه الكفاية.
لقد كان ليفي ستروس متفقا مع علم النفس عند فرويد في مواضع كثيرة، أدت إلى القول بأن آراء فرويد كانت مصدرا من المصادر التي استقى منها ستروس تفكيره؛ ففي كتاباته يظهر بوضوح إيمانه بفكرة وجود أساس لا شعوري عميق في الإنسان إلى جانب شعوره الواعي. ولقد كان مثل فرويد يؤمن بوجود جانبين: أحدهما طبيعي، والآخر نتاج للثقافة، في الإنسان، والجانب الأول هو الذي أطلق عليه فرويد اسم ال
fd (وتترجم عادة بكلمة: «هي») بينما الأنا، أي الجانب الثاني، يمثل تأثير الثقافة (بالمعنى الشامل) في الإنسان. وكان ستروس يعتقد - كما اعتقد فرويد - أن الأسطورة نوع من الحلم الجماعي في المجتمعات البدائية، وهو حلم له لغته الرمزية الخاصة القابلة للتفسير. وهذا التفسير كفيل بالكشف عن المعاني الخفية للأسطورة، واستخلاص المبادئ الأساسية لتفكير الإنسان البدائي من خلالها. ولكن هذه المبادئ التي توجد بطريقة لا واعية في ظاهرة جماعية - هي الأسطورة البدائية - ليست مقتصرة على البدائيين وحدهم. بل إنها في واقع الأمر تصدق على كل العقول البشرية على نحو شامل؛ فالمبادئ الأساسية التي نتوصل إليها عندئذ تؤثر في عقولنا مثلما تؤثر في عقول سكان جزر المحيط الهادئ من البدائيين، وهي تشكل نوعا من المنطق الكلي الشامل، الذي يتمثل لدى هؤلاء البدائيين بصورة نقية خالصة، قبل أن نضيف إليه نحن منطقنا الخاص، الذي تقتضيه الظروف المعقدة لحياة الإنسان الحديث.
على أن البنائية قد تجاوزت مدرسة التحليل النفسي في نقطتين:
الأولى:
هي أن مدرسة التحليل النفسي أرجعت الأساطير والهفوات والأحلام إلى مجال اللامعقول والعشوائي، ورأت أنها تعبر عن الذهن الإنساني في عفويته وتلقائيته غير الموجهة. أما البنائية فرأت أن هذه النواتج الذهنية هي نشاط موجه نحو تحقيق أهداف معينة، وأن لها منطقها الخاص الذي يسري على مجال محدد ، ويختلف عن المنطق الشامل الذي تحاول الحضارة الحديثة أن تتوصل إليه. ولكنه يظل مع ذلك منطقا له دقته وانضباطه في مجاله الخاص.
أما النقطة الثانية:
فهي أن البنائية تلغي المركز المميز للحالة الحاضرة أو للباحث نفسه، بالقياس إلى الحالة الماضية التي كان يعيشها البدائيون؛ ففي التحليل النفسي نجد المحلل يحتل مركزا مميزا بالنسبة إلى الشخص الذي يحلله، ويعد نفسه مختلفا عنه، ما دام قادرا على كشف أبعاد أعمق من تلك التي يرويها المريض عن تجاربه العفوية. أما في البنائية وفي اتجاهها التحليلي عند لاكان
Lacan
فإن المحلل نفسه لا يعتبر نفسه سليما وسويا بالقياس إلى من يحلله، ولا يتخذ منه أي موقف متميز.
ولكن إذا استثنينا هذه الفوارق البسيطة، فمن المؤكد أن حركة التحليل النفسي كان لها تأثيرها المباشر في البنائية؛ وذلك لأنها قدمت إليها مبدأ أساسيا في فهم الإنسان، وهو أننا إذا أردنا أن نعرف العقل الإنساني في جذوره وأصوله الأولى - التي لا تزال تمارس تأثيرها فينا حتى اليوم (وإن كنا قد أضفنا إليها تعقيدات لا حصر لها) - فلنحلل ذلك «اللاشعور الجماعي» للإنسانية كما يتمثل في أساطير البدائيين.
هكذا قدم علم النفس الفرويدي لستروس الهدف العام لأبحاثه. ولكن أداة البحث قد أتت إليه من مصدر مختلف، هو علم اللغويات؛ ففي الأربعينيات من هذا القرن حين كان ليفي ستروس في أميركا التقى بباحث مشهور في علم اللغويات هو «جاكوبسون
Jakobson »، وتأثر إلى حد بعيد بطريقته في البحث عن بناءات لغوية تظل ثابتة مهما اختلفت اللغات المنفردة. وكانت اللغة تعبيرا عن النشاط الرمزي للإنسان، فلا بد أن هذه البناءات الثابتة تعبر عن مبادئ أساسية للعقل البشري، تنعكس على مجالات نشاطه الأخرى؛ ومن هنا جاءت فكرة المزج بين البحث في اللغويات والبحث الأنثروبولوجي، وتفسير الظواهر الاجتماعية عند البدائيين على أساس النموذج اللغوي الثابت، وهذا معناه تجاهل العامل التاريخي، وتأكيد فكرة القبلية
a-prioisme ، أي وجود صور وقوالب لا تخضع لتأثير الزمان، ولا شأن لها بعوامل التطور، نفس الاتجاه الذي أكده جاكسوبون في مجال اللغويات.
إن اللغة - كما هو معروف - هي العنصر الأساسي في «التفكير»؛ لأننا لا نستطيع التفكير في أي شيء ما لم نقسم العالم المحيط بنا إلى فئات أو أصناف أو مقولات
catégories
ونعبر عن هذه الفئات برموز أو ألفاظ، ولو بحثنا في نظم القرابة العائلية مثلا
Le parenté ؛ لوجدنا أن سلوك الإنسان في مجال القرابة يتوقف إلى حد بعيد على تعبيراته في الحديث عن علاقات القرابة، فالمرء يدرك علاقة «أبناء العم أو الخال» عن وعي إذا وجد في اللغة لفظا يعبر عن ابن العم أو الخال، وعند مستوى معين تتيح اللغة للإنسان أن يتصل بغيره ويكون علاقات اجتماعية؛ بحيث يصبح من الممكن المقارنة بين نظم القرابة عند البدائيين - التي يتم فيها تبادل النساء - ونظم اللغة التي يتم فيها تبادل الألفاظ، ونستطيع عندئذ أن ننظر إلى قواعد الزواج ونظم القرابة على أنها نوع من اللغة، أي مجموعة من العمليات التي تستهدف تحقيق نوع معين من الاتصال
Communication
بين الأفراد والجماعات،
11
ففي كلتا الحالتين يتم تبادل «رسالة» معينة وتوصيلها من طرف إلى آخر: إما النساء اللائي يتبادلن بين العشائر أو الأسر، وإما الألفاظ التي تتداول بين الأفراد، ومن هنا كان من الممكن بحث الحالتين على أنهما تعبيران عن ظاهرة واحدة، لها نفس الهيكل أو البناء الأساسي.
وهكذا كان للبحوث اللغوية دور عظيم الأهمية في تحديد الاتجاه الذي سارت فيه بنائية ليفي ستروس وفي صبغ أبحاثه الأنثروبولوجية بطابعها المميز. ولكن هل يعني هذا أن العوامل الفلسفية لم يكن لها تأثير في تفكيره؟ الواقع أن هذه العوامل كانت بالغة الأهمية في حالة ستروس على وجه التحديد، وهي التي تميزه عن سائر الأنثروبولوجيين، وكل ما في الأمر أن الاهتداء إليها يحتاج إلى جهد خاص - سنحاول القيام به - تاركين جانبا تأثير العامل اللغوي (على أهميته)؛ لأنه خارج عن النطاق الأساسي لهذا البحث.
ولنبدأ بأن نلاحظ أن تكوين ليفي ستروس وتعليمه كان فلسفيا وقانونيا، وأنه لم يتجه إلى البحث الأنثروبولوجي إلا في مرحلة متأخرة نسبيا؛ ومن هنا كان من الطبيعي أن ينعكس هذا التكوين الفلسفي على منهجه في البحث الأنثروبولوجي، حتى أن أحد الباحثين قال عنه: إنه «كان يتصرف دائما كما لو كان داعية يدافع عن قضية، لا عالما يبحث عن الحقيقة الفعلية.»
12
على أن اهتمام ستروس المتأخر بالبحث الأنثروبولوجي لا ينبغي أن يعد تحولا عن الأصل الفلسفي الذي بدأ منه؛ ذلك لأن هذا الميدان بالذات يمكن أن يقدم مادة خصبة للتفكير الفلسفي، إذا كان الباحث قد تدرب على هذا التفكير بما فيه الكفاية، فمن الممكن أن نقول - ومن وجهة نظر معينة، إن دراسة الثقافات القديمة لها أهمية فلسفية كبرى؛ إذ تخرجنا من الحيز الضيق للثقافة التي نعيش فيها، وتقدم إلينا أنماطا فكرية مغايرة لتلك التي اعتقدناها. وصحيح أن هذه الأنماط البدائية - في رأي ستروس - لا تختلف «في جوهرها» عن تلك التي نستخدمها اليوم، ولكن المهم أنها تدرس هنا في إطار مغاير لذلك الذي ألفناه في حضارتنا الحديثة. وهكذا يجد الأنثروبولوجي مجالا خصبا لتطبيق واختبار فكرة النسبية التي طالما سعى الفلاسفة إلى فهمها، ويتيح له ميدان دراسته فرصة عظيمة لإلقاء نظرة «موضوعية» على الفكر الإنساني الذي نسينا أصوله وعجزنا عن اختبار جذوره العميقة المتأصلة فينا دون وعي منا، وعلى حين أن الفيلسوف يعجز - في الأحوال العادية - عن الخروج عن الإطار الفكري لحضارته؛ لأن هذا الإطار الفكري هو الذي يتكلم فيه ومن خلاله، فإن الدراسة الأنثروبولوجية تتيح له مجالا فريدا لتأمل مبادئه الفكرية «من الخارج» في بساطتها ونقائها الأول.
وفضلا عن ذلك، فإن ستروس لم يكن من أولئك الأنثروبولوجيين الذين يتوقف اهتمامهم عند حدود ثقافة بدائية معينة يعايشها بعمق، ويحلل ما لاحظه عنها في مؤلفات تفصيلية فيها كثير من الوصف وبعض التفسير، كما هي الحال عند مالينوفسكي
Malinowski
مثلا، فقد كانت دراسة الثقافات القديمة عنده وسيلة لغاية أوسع، هي الوصول إلى المبادئ الأساسية «للذهن البشري»، ولم تكن التفاصيل الأنثروبولوجية في نظره سوى أداة تساعده على الوصول إلى حقائق تصدق على هذا الذهن في عمومه، لا في شكل خاص من أشكاله؛ ولذلك لم يحاول ستروس أن يعايش ثقافة بعينها، ويقضي بين أهلها سنوات طويلة، ويندمج في حياتها اليومية فترة طويلة كما فعل غيره من الأنثروبولوجيين المحترفين. بل إنه كان يقوم بدراسات ميدانية سريعة إلى حد ما إذا قيست بما قام به غيره، ولم يكن يستقر في مكان واحد طويلا، وإنما كان يدرس ثقافة هذا المكان بالقدر الذي يساعده على تحقيق هدفه الأصلي، الذي هو في صميمه هدف فلسفي. وهكذا يمكن القول - من وجهة نظر معينة: إن بحثه في الأنثروبولوجيا لم يكن غاية في ذاته، بل كان وسيلة لغاية معينة هي في صميمها غاية فلسفية، وبقدر ما كان هذا الأسلوب في البحث مميزا له عن غيره من علماء الأنثروبولوجيا، من ثم سببا من أسباب شهرته بينهم، فقد كان في الوقت ذاته هو المحور الذي دارت حوله الانتقادات التي وجهت إليه، سواء من جانب علماء الأنثروبولوجيا ومن جانب الفلاسفة، وتلك - على أية حال - مسألة سنعرض لها فيما بعد بالتفصيل.
لقد كانت الفلسفة - مند بداية عهدها - ترفض المظهر الخارجي للعالم. وحين انبثق منها العلم الطبيعي أخذ بدوره يبحث عن حقيقة لا تقدمها إلينا المظاهر المباشرة، وأخذ بالتدريج يكون لنفسه عالما خاصا به، مؤلفا من كيانات عقلية ورياضية، لا نستطيع أن نجد لها وجودا في عالم المظاهر، وإن كانت مع ذلك قادرة على أن تجعل هذا العالم مفهوما ومعقولا. وكانت مهمة ليفي ستروس هي أن يطبق هذا الشرط الذي أتاح للعلم الطبيعي إحراز أكبر قدر من التقدم على العلوم الإنسانية؛ لكي يجعلها بدورها علوما تتجاوز نطاق المظهر الخارجي للأشياء، ولا تندمج في ظواهر العالم أو في الظواهر الإنسانية، وإنما تبحث عن حقيقة عميقة وراء مظاهرها البادية.
ولنذكر أنه كان في هذا الصدد يفرق بين العلوم الإنسانية، التي تستهدف الفهم النظري وحده، ولا تفترق مهمتها عن مهمة العلوم الطبيعية أو العلوم المنضبطة، وبين العلوم الاجتماعية، التي يمكن أن يكون لها دور عملي؛ لأن هدفها هو التغيير، وهو شيء لم يحاول ليفي ستروس أن يحققه في كتاباته، بل حرص على أن يظل بعيدا عن الميدان العملي وعن محاولات التغيير، فهو يسعى إلى الفهم فحسب، وقد عبر عن هذه التفرقة بقوله: «لقد استعارت العلوم الإنسانية من العلوم المنضبطة والطبيعية درسا هو ضرورة التخلي عن المظاهر
apparences
إذا أراد المرء فهم العالم، على حين أن العلوم الاجتماعية قد استخلصت درسا موازيا، هو ضرورة قبول المرء للعالم إذا أراد تغييره». وربما بدا المصطلح الذي يستخدمه ستروس في هذا الصدد غريبا إلى حد ما؛ إذ إن من الشائع أن يستخدم لفظ «العلوم الإنسانية» لمجموعة العلوم التي تقبل مظهر العالم وتعترف بالظواهر الإنسانية على ما هي عليه، على حين أن لفظ «العلوم الاجتماعية» أكثر انطباقا على تلك العلوم الهادفة إلى الانضباط والدقة، والتي تسعى إلى الاقتراب من مناهج العلوم الطبيعية؛ ومن ثم ترفض الشكل الظاهري للموضوعات التي تبحثها وتسعى إلى حقيقة خافية من وراء المظاهر، تعبر عنها - في الغالب - بقوانين رياضية. ولكن ستروس آثر أن يعكس الآية، ويجعل الانضباط في جانب العلوم الإنسانية، وعلى أية حال فالمسألة مسألة تسمية فحسب، ومن المعروف أن تعبيري «العلوم الاجتماعية» و«العلوم الإنسانية» ما زال موضوع خلاف بين المشتغلين في هذا الميدان، ولم يستقر الرأي نهائيا على مسميات ثابتة تحدد نطاق كل منهما حتى اليوم.
والذي يهمنا في هذا الأمر هو أن ستروس بالرغم من تأكيد هدف «الانضباط» في العلوم الإنسانية، كان فيلسوفا في رفضه للطابع الذي تتبدى عليه الأشياء، وسعيه إلى حقيقة أعمق من هذا المظهر، ولنذكر في هذا الصدد أن «كانت» بدوره كان يضع نصب عينيه هدف العلم «المنضبط»، ويستهدف تحقيقه في مجال الفلسفة ذاتها، التي أراد منها أن تبحث عن عوامل الانضباط في علمي الطبيعة والرياضة وتطبقها في ميدانها الخاص. وهكذا يمكن القول: إن «كانت» أراد أن يجعل من الفلسفة «علما إنسانيا» بالمعنى الذي حدده ستروس.
بل إن تفاصيل الانتقال من مظهر العالم إلى الحقيقة العلمية متشابهة فيما بين «كانت» وستروس؛ ذلك لأن ستروس بدوره يرى أن ما نعرفه عن العالم الخارجي ندركه من خلال حواسنا، أي إننا نضفي على الظواهر التي ندركها سمات معينة، ترجع إلى الطريقة التي تعمل بها حواسنا وإلى الترتيب الخاص الذي يرتب به ذهننا المنبهات الحسية ويفسرها، ومن أهم سمات عملية الترتيب هذه تفتيت المتصل الزماني والمكاني المحيط بنا إلى قطاعات منفصلة؛ بحيث نرى في الطبيعة أشياء مصنفة في فئات، ونجعل الزمان مؤلفا من حوادث منفصلة متعاقبة، وما يحدث في حياتنا الاجتماعية. وفي ثقافتنا، هو انعكاس لما يحدث في إدراكنا للعالم المحسوس؛ إذ إننا نجزئ نواتج ثقافتنا ونرتبها بنفس الطريقة التي نجزئ بها نواتج الطبيعة ونرتبها، ونكون منها «بناء» مماثلا للبناء الذي ننظم به إدراكنا للعالم، وكما تحدث كانت عن مقولات ذهنية تكون قوالب لا بد أن يصاغ فيها كل ما ندركه عن العالم، ثم طبق هذه المقولات (في الجزء الخاص «بجدل العقل الخالص» من كتابه المشهور «نقد العقل الخالص») على نواتج الفكر الميتافيزيقي والتأملي البحت، فجعل منها ما يشبه «البناءات» التي تنقل من مجالها الأصلي إلى مجال مغاير، فكذلك فعل ليفي ستروس حين أكد أننا عندما نضع نظما اجتماعية أو نقوم بشعائر، نحاكي طريقة إدراكنا للطبيعة، ونحول النموذج الذي ندرك عليه الطبيعة إلى المجال الثقافي؛ بحيث يكون بناؤهما مشتركا. وهذا أمر مفهوم؛ لأن الذهن البشري هو الفعال في الحالتين، ولا بد من وجود نقاط تشابه أساسية في طريقة ممارسته نشاطه في كل مجال من المجالات.
ولكن مثلما أن تأكيد «كانت» لفاعلية الذهن البشري لم يؤد به إلى أن يكون مثاليا على طريقة باركلي، فكذلك كان ستروس بعيدا كل البعد عن هذا النوع من المثالية؛ فهو يعترف بأن للطبيعة وجودا حقيقيا خارج الذهن البشري، ولا يجعل وجودها متوقفا على إدراكنا الذهني لها، «ولكن فهمنا للطبيعة تتحكم فيه كثيرا طبيعة ذلك الجهاز الذي نفهمها به. وهكذا فإن فكرة ستروس هي أننا إذا لاحظنا الطريقة التي نفهم بها الطبيعة، وتأملنا خصائص التصنيفات التي نستخدمها وطريقة تعاملنا مع المقولات الناتجة عن هذه التصنيفات التي نستخدمها وطريقة تعاملنا مع المقولات الناتجة عن هذه التصنيفات؛ أمكننا أن نستدل على حقائق أساسية عن آلية التفكير»،
13
وإذا عرفنا آلية التفكير البشري؛ أمكننا أن ندرك نواحي التشابه الأساسية في الثقافات المختلفة التي تشترك في أنها كلها نواتج لذهن يعمل بطريقة واحدة.
وإذن فلم يكن ليفي ستروس مثاليا بنفس الطريقة التي كان بها باركلي مثاليا. ولكن مثاليته «كانتية» إلى حد بعيد، فهو بدوره يؤكد تدخل الذهن في كل شيء، ويتمسك بفكرة الترابط الوثيق بين كل الظواهر التي تجمع بينها آلية ذهنية واحدة، وتنفذ هذه النظرة الكانتية إلى صميم عمله الأنثروبولوجي، فيسعى إلى كشف العلاقات الباطنة بين مختلف مظاهر الحياة في المجتمع البدائي، وطريقة تشييدهم لمساكنهم، وأدائهم لشعائرهم وطقوسهم الروحية، وتنظيمهم لعلاقات القرابة بينهم، كل هذه تكشف عن بناء واحد قد يجد العالم الأنثروبولوجي صعوبة كبرى في الوصول إليه؛ لأنه بناء لا شعوري، لا يدرك عن وعي ولا يوجد على السطح الظاهر. ولكنه لن يعجز عن ذلك إذا كان مسلحا بالمنهج السليم.
أما هذا المنهج السليم فأهم ما فيه هو تأكيد أولوية البناء على مظاهره الخارجية، أو ما يمكن أن يسمى - بلغة كانت - بالقبلية
a priorisme ؛ ففي استطاعتنا أن نفهم النواتج الثقافية على أساس البناء الواحد الذي ترتكز عليه. أما إذا بدأنا بهذه النواتج ذاتها، ولم نحاول أن نردها إلى أساس سابق فلن نصل إلى أي فهم متعمق؛ ومن هنا كان انتقاد ستروس للنزعة الوظيفية عند «مالينوفسكي».
هذه الوظيفة كانت تتجلى - على سبيل المثال - في تفسير مالينوفسكي لظاهرة قيام قبائل معينة بتسمية نفسها بأسماء حيوانات؛ إذ كان يرى أن هذا راجع إلى الفائدة المكتسبة من هذه الحيوانات في الحياة اليومية لتلك القبائل، أو إلى أنها كانت تعتمد عليها في مأكلها، وغير ذلك من التفسيرات الوظيفية التي رفضها ليفي ستروس من أساسها؛ فالبناء سابق على مظاهره، وليست هذه الأفعال الجزئية هي التي تفسر البناء. بل إن البناء هو الذي يفسرها، وقد عبر ستروس عن هذه الفكرة بوضوح حين قال: «في الأنثروبولوجيا، لا تكون المقارنة هي التي يرتكز عليها الحكم العام. بل إن العكس هو الصحيح، فإذا كان من الصحيح - وهو ما نؤمن به فعلا - أن النشاط اللاواعي للذهن قوامه فرض أشكال على مضمون، وإذا كانت هذه الأشكال في أساسها واحدة بالنسبة إلى جميع الأذهان، تستوي في ذلك القديمة والحديثة البدائية والمتحضرة (وهو ما تدل عليه دراسة الوظيفة الرمزية كما تعبر عنها اللغة)، فإنه يكفي المرء عندئذ أن يدرك البناء اللاواعي الكامن من وراء كل نظام اجتماعي
institution
وكل عرف؛ لكي يتوصل إلى مبدأ للتفسير يسري على كل النظم والأعراف الأخرى، شريطة أن نمضي في التحليل بما فيه الكفاية بطبيعة الحال.»
14
هكذا تكتسب لغة ستروس صبغة «كانتية» واضحة، ويصبح تفسير هذه الظواهر من خلال البناء «شرطا لإمكان» هذه الظواهر؛ أي إن البناءات هي التي تفرض على الظواهر المتباينة والكثيرة تنظيمها وترتيبها الخاص، بل هي التي تجعلها ممكنة. ولقد كان هذا التشابه الواضح مع مذهب كانت هو الذي دعا الفيلسوف «ريكير
Ricoeur » إلى أن يصف بنائية ستروس بأنها «مذهب كانتي بدون ذات ترنسندنتالية»،
15
صحيح أن زوال الذات الترنسندنتالية يعني فقدان عنصر أساسي في مذهب كانت؛ لأن هذه الذات - بما لديها من صور الحساسية ومقولات الفهم - هي التي تعطي العالم مظهره القابل للمعرفة. ولكن يظل من الصحيح أيضا أن بناءات ليفي ستروس، وعلاقتها بالظواهر الاجتماعية التي تفترضها مقدما، مشابهة للصور الذهنية التي هي بمثابة القوالب لكل موضوع نعرفه في العالم كما قال بها كانت، وإن هذا التشابه يصل إلى حد لا يمكن تجاهله.
على أن هذه النزعة الفلسفية الواضحة لدى ليفي ستروس، إذا كانت تضفي مزيدا من العمق على أعماله الأنثروبولوجية، وتصبغها بطابع فريد لا نجد له نظيرا بين غيره من المشتغلين في هذا الميدان، فقد كانت هي ذاتها السبب الأكبر في النقد الذي تعرض له. ومما يلفت النظر أن النقد لم يأت من جانب المشتغلين بالأنثروبولوجيا وحدهم، فعلى حين أن هؤلاء لم يقتنعوا بالاتجاه الفلسفي الواضح في كتابات ستروس العلمية، نجد أن الفلاسفة بدورهم قد دخلوا معه في حوار حاد وجهوا فيه انتقاداتهم إلى الركائز الأساسية لتفكيره، وإلى الأهداف التي يتجه إليها عمله العلمي بوجه عام، وسوف نبحث كلا من اتجاهي النقد هذين - العلمي والفلسفي - على حدة.
إن من الحقائق المعروفة في حالة فلسفة كانت: أنه افترض للذهن البشري تركيبا معينا دون أن يحدد مصدر هذا التركيب، فهو لا يقول لنا من الذي وضع في الذات الإنسانية صور الحساسية ومقولات الفهم التي هي أساس معرفتنا لكل ظواهر العالم، ولا يبين لنا كيف أصبح للذات هذا التركيب بعينه. ويمكن القول: إن ليفي ستروس قد سار في أعقاب كانت في هذه المسألة بدورها، فهو لا يبين لنا كيف تكون البناء، ولا يحدد له أصلا، وأغلب الظن أنه ينظر إلى السؤال عن أصل البناء على أنه سؤال ميتافيزيقي لا شأن له به.
ومع ذلك ففي مجال العلم ينبغي أن يطرح هذا السؤال، ولا يمكن أن يقبل المشتغلون بالعلم - سواء في ميدان الأنثروبولوجيا أو غيره - افتراضا مسبقا بوجود بناءات ثابتة للعقل البشري تفرض نفسها على كل نواتجه الاجتماعية والثقافية، وتصبغها بصبغتها الخاصة، ما لم يحدد الباحث أصلا لهذه الأبنية يكفي لإقناعهم بأن لها هذا القدر من العمومية والثبات، وهو ما لم يفعله ليفي ستروس.
ولقد كان الأصل الوحيد الذي ورد في كتاباته صراحة هو الأصل اللغوي، وهذه نقطة أساسية كان فيها ستروس مختلفا عن كانت الذي لم تكن للغويات أهمية في فلسفته. ومع ذلك فمن الممكن القول بوجود قدر معين من التشابه حتى في هذه الحالة، فمن المعروف أن «كانت» قد استمد قائمة مقولاته من أنواع الأحكام المنطقية، مرتكزا في ذلك على الفكرة القائلة إن النشاط الرئيسي للذهن البشري يتمثل في عملية إصدار الأحكام ذات الطابع المنطقي؛ ومن ثم فإننا إذا حصرنا قائمة الأحكام التي يصدرها ذهننا، أمكننا أن نستخلص منها المقولات والقوالب الرئيسية التي يشكل بها الذهن كل موضوع يدخل في نطاق معرفته، ويجوز أن ليفي ستروس لم يبتعد كثيرا عن هذه الفكرة حين قال: إن النشاط الرئيسي للذهن هو العملية الرمزية التي تتمثل في اللغة،
16
وإننا نستطيع أن نرجع الأنساق الرئيسية التي ينظم بها الإنسان حياته الاجتماعية إلى تلك البناءات الأساسية المشتركة بين كل اللغات البشرية.
وعلى أية حال فإن وجه الخطورة في هذا الرأي هو أنه يحكم على اللغات البشرية في عمومها من خلال وجهة نظر معينة، هي السائدة في عصر معين أو في مدرسة فكرية معينة. ومن المعروف في علم اللغويات أن النماذج اللغوية تتعدد بتعدد المدارس. وقد تأثر ستروس بالنموذج الذي وضعه «جاكوبسن»، وهو نموذج تجاوزته الأبحاث التالية في علم اللغويات بمراحل، «فالآليات التي تعتمد عليها قدرة الإنسان على إضفاء معنى مركب على الكلمات البشرية وما يترتب على هذه القدرة من تكوين أنماط محددة، هي عمليات أعقد بكثير مما يوحي به النموذج المبسط من وراء نظريات جاكوبسن وستروس؛ ومن هنا فإن ما يستخلصه من بناءات مستمدة من معطيات غير كافية، ليست على الإطلاق بناءات تعبر عن صفات مشتركة بين الإنسانية كلها. بل إنها تعبر عن صفات جماعة ثقافية معينة فحسب.»
17
ولقد كان هذا الاتجاه إلى تعميم نموذج لغوي معين على كل مجالات العلوم الإنسانية، وإنكار تعدد النماذج تعدد ميادين البحث، هو الذي أدى بالنقاد إلى التحذير من خطورة التعميمات الشاملة لدى البنائيين، ولدى ستروس بوجه خاص، وبالفعل نجد في البنائية ميلا إلى اتهام كل من لا يعترف بهذا الأنموذج الواحد ويطبقه على كل مجالات العلوم الإنسانية بأنه جاهل أو مفتقر إلى الروح العلمية، مما دعا «لوفبفر
Henri Lefebvre » إلى أن يصف البنائية بأنها «مذهب إرهابي»؛ لأن المرء في نظرها إما أن يكون بنائيا متسقا يؤمن بأنموذج موحد ويطبقه تطبيقا شاملا على كل شيء، وإما أن يكون شخصا لا يفهم شيئا،
18
والأمر الذي لا يمكن إنكاره هو أن ستروس قد بذر في البنائية بذرة دجماطيقية أصبح من الصعب بعد ذلك التخلص منها؛ نتيجة لتسلط النموذج اللغوي عنده على جميع الميادين.
وإذا كان البعض قد انتقدوا النموذج اللغوي الذي أراد ستروس تعميمه، فإن البعض الآخر قد انتقدوا الاعتقاد الذي يكمن من وراء عملية التعميم هذه - سواء أكان أصلها لغويا أم غير لغوي - وهو الاعتقاد الراسخ لدى ستروس بأن البناءات ثابتة، لا يؤثر فيها الزمان. ولعل أحق النقاد بأن نستمع إلى وجهة نظره في هذا الصدد هو «بياجيه»، ليس فقط لأنه كان عالما ومفكرا من الطراز الأول، بل أيضا لأنه كان من أنصار البنائية، مع ذلك فقد هاجم فكرة ثبات البناءات، ورأى أنها ليست ضرورية على الإطلاق لكي يكون المذهب البنائي متسقا مع نفسه.
فمن الملاحظ أولا أن ليفي ستروس ينسب إلى البناءات ضربا من الوجود يصعب تحديد طبيعته، فهي موجودة على نحو مستقل عن ذهن العالم الذي يتوصل إليها؛ أي إنها ليست مركبا من تلك المركبات الاصطلاحية التي يتواضع عليها العلماء من أجل تيسير عملهم، دون أن يكون لها وجود حقيقي. ولكن وجودها في الوقت ذاته ليس وجودا متعاليا
transcendent
ينتمي إلى عالم شبيه بعالم المثل الأفلاطونية، بل هو كامن في قلب التجربة الواقعية. وليس مما يقرب طبيعة هذا الوجود إلى أذهاننا أن يقول ستروس: إنها تنبثق عن الذهن البشري الذي لا يتغير، وإنها سابقة على كل تنظيم اجتماعي؛ لأنها أصل كل تنظيم وسابقة على ما هو نفسي وما هو عضوي؛ ذلك لأن حيرتنا تزداد حين نعلم أن لها وجودا مستقلا يهتدي إليه الذهن ولكنه لا يخلقه، وإن هذا الوجود ليس اجتماعيا ولا نفسيا ولا عضويا،
19
ويبدو أن ما يهم ليفي ستروس في هذا كله هو أن يدافع عن ثبات العقل البشري عن طريق تأكيده أن لهذا العقل «وظيفة رمزية» لا يؤثر فيها تغير الزمان. ولكن بياجيه يرد على ذلك بقوله: «ينبغي أن نعترف بأننا لا نفهم على وجه التحقيق لماذا يكون العقل قد كرم إذا ما حول إلى مجموعة من الأطر الثابتة، أكثر مما يكرم إذا نظر إليه على أنه نتاج لم يكتمل بعد لعملية بناء ذاتي مستمرة، فهل من الضروري النظر إلى الوظيفة الرمزية على أنها ثابتة؟»
20
إن ما يدافع عنه بياجيه في هذا الصدد هو إمكان الجمع بين فكرة البناء وفكرة التطور التي تسري حتى على الوظيفة الرمزية لدى الإنسان، وهو هنا يهاجم «وهم الثبات» الذي كان يشكل صنما كبيرا من أصنام الفلسفة منذ أيام أفلاطون، والذي يبدو أن ليفي ستروس كان بدوره من الواقعين تحت تأثيره. ولكن هل يعني هذا أن كل من رفض فكرة الثبات وأكد التطور كان في موقف أفضل من موقف ستروس؟ الواقع أن بعض هؤلاء - مثل «ليفي برول
Lévi-Bruhl » - قد ارتكبوا أخطاء أشد بكثير مما وقع فيه ستروس، على الرغم من أنهم أكدوا أن عقل الإنسان ليس أزليا وليس ثابتا، فعند ليفي برول تقسم المجتمعات البشرية إلى مجتمعات خلت من المنطق لها عقلية «قبل المنطقية
Mentalité pré-logioqe »، وهي المجتمعات البدائية، وأخرى محتضرة وحدها التي تعرف الكثير. ولقد كان ستروس على حق تماما في رفضه القاطع تقسيم الإنسان إلى منطقي وغير منطقي، نقد ليفي برول بشدة لأنه شبه العقلية البدائية بعقليات الأطفال أو المجانين؛ لأن هذا كله يرجع إلى اتخاذ ليفي برول نظرة متركزة حول الذات، تأثر فيها بحضارته الخاصة والعصر الذي يعيش فيه، وتصور أن ما عداها خطأ وتخلف، وحقيقة الأمر في نظر ستروس هي أن ما يبدو غير منطقي أو قبل المنطقي له منطقة خاصة، وإن كان مخالفا لمنطقنا؛ لأنه لا يخشى التناقض ولا ينفر منه، ومن ناحية أخرى فقد علل ليفي برول التجاء البدائي إلى مبدأ «المشاركة
» (أي أن يكون الشخص من قبيلة معينة مثلا، ويتصور أنه من قبيلة أخرى في الوقت نفسه) بأنه يرجع إلى غلبة العنصر الانفعالي الوجداني
affectif
على العنصر العقلي. ولكن الخطأ الذي وقع فيه هو أنه ضيق نطاق العنصر العقلي بحيث جعله مقتصرا على النشاط العلمي، مع أن النشاط العلمي ليس إلا وجها واحدا لنشاط عقلي أعم، تتولد عنه أنساق كثيرة يختلف بناؤها تبعا للغاية التي تستهدفها (كاللغة والأسطورة والفن والمنطق والرياضة). وهكذا يرى ستروس أن الاختلاف بين مجتمع وآخر لا يرجع إلى استخدام كل منهما لشكل خاص من أشكال النشاط العقلي، ما دام من الضروري أن يتوافر فيها كلها حد أدنى مشترك هو وجود لغة، وهو الشرط الضروري لقيام أية ثقافة، وما دامت اللغة ترتكز على النشاط العقلي (الرمزي) ولا قيام لها بدونه.
وإذن فليس كل من قال بأن العقل البشري يتطور ويتخذ أشكالا متباينة «من حيث الكيف» وفقا لمستوى الحضارة التي ينتمي إليها، ليس كل من قال بذلك يعد في موقف أفضل من موقف ستروس، ومن المؤكد أن ستروس كان محقا في نقد بعض الاتجاهات التي ارتكزت على فكرة حدوث تحول أساسي في نوع العقلية البشرية عبر العصور. وكان على حق في دعوتنا إلى ألا نتعالى، وألا نتصور أنفسنا على أننا أسياد للآخرين، ونقيسهم بمقاييسنا الخاصة، بل ينبغي أن نترك المجتمعات البدائية توجه رسالتها بلغتها العقلية الخاصة دون حط من شأنها . ولكن المشكلة هي أن ستروس قد تطرف في تأكيد معقولية البدائيين إلى حد القول بأن للعقل الإنساني هوية أساسية تظل ملازمة له في كل زمان ومكان، وأننا نستطيع كشف هذه الهوية بتحليل نواتج هذا العقل - من أساطير ونظم اجتماعية وطقوس ... إلخ - في المجتمعات البدائية، وهنا يتعرض هذا التطرف المضاد للنقد الذي وجهه إليه بياجيه، والذي ركزه على قول ستروس «بمنطق طبيعي» يكون الأساس الثابت لكل تفسير وتنظيم إنساني أيا كان مكانه أو زمانه، فليس هناك ما يمنع على الإطلاق من تأكيد حدوث تطور حتى تلك البناءات التي تمسك بها ستروس - مثل أنساق القرابة - والتي ينبغي أن تكون ناجمة عن «مؤسسات» معينة، ولا بد أن يكون الجهد الجماعي الطويل الأمد هو الذي جعلها ممكنة.
وعلى عكس اعتقاد ستروس بأن العقل يكرم بتأكيد ثباته، يرى بياجيه أن التطور ميزة في البناءات البشرية ليس عيبا فيها؛ ذلك لأن الحيوان لا يستطيع أن يغير نفسه ما لم يغير نوعه بأكمله. أما الإنسان فينفرد بالقدرة على تشكيل ذاته وتحويرها عن طريق تكوين بناءات من صنعه هو لا تفرض عليه من الداخل أو من الخارج؛ ولذلك فمهما كان تأكيدنا لتلك الضرورات الباطنة التي تفرض نفسها على تطور الذهن من خلال تعامله مع البيئة الخارجية، ينبغي أن نعترف بأن العقل قد تطور، وبأن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي تتيح لنا إنقاذ البنائية من عزلتها المترفعة.
21
هكذا فإن نقد بياجيه يلقي ظلالا من الشك على الاعتقاد الذي لم يحاول ستروس أن يناقشه، وهو أن تأكيد أهمية البناءات في المعرفة يستتبعه حتما تأكيد ثبات هذه البناءات، وأن البنائية - من حيث هي مذهب فكري - ترتبط بفكرة الثبات ارتباطا لا ينفصم، وأغلب الظن أن العامل الذي أدى إلى تأكيد ستروس لهذه القضية وحرصه الشديد على أن يقدمها كما لو كانت هي إنجازه الأكبر في الميدان الأنثروبولوجي، هو ذلك المنهج الخاص الذي اتبعه في الدراسة الأنثروبولوجية، والذي أثار انتقاد عدد كبير من المتخصصين «المحترفين» في هذا الفرع، وإن كان قد أضفى على كتاباته طابعا فلسفيا شيقا، فقد كان ستروس يؤمن بأن البحث الأنثروبولوجي يحتاج إلى قدر محدود من الدراسة الميدانية التجريبية، وإلى قدر كبير من التفكير والتحليل العقلي. وكان - مثل كبار الفلاسفة الفرنسيين - يؤمن بأن التجربة لا تتضمن الحقيقة. بل إن الحقيقة «تضاف» إلى التجربة بواسطة العقل. ومن الطبيعي بالنسبة إلى الباحث الذي يجعل للتحليل العقلي الدور الأساسي، وأن تكون فكرة «الثبات» أساسية عنده؛ لأن مهمة العقل هي البحث عن عناصر الثبات من وراء المتغيرات، ولو كان ستروس يتبع المنهج الأنثروبولوجي التقليدي لما بدأ بحثه وفي ذهنه فكرة لا تتزعزع، هي محاولة الوصول إلى المبادئ العامة للعقل البشري من خلال دراسة الإنسان البدائي.
لقد كان ستروس - كما وصفه واحد من نقاده - من الأنثروبولوجيين «المربوطين على الكراسي
Chair-Borne anthroplgists »،
22 (أو المحمولين على الكراسي)، الذين لا يكترثون بالإقامة طويلا بين الشعوب البدائية التي يدرسونها، بل يقيم في مكان بالقدر الذي يسمح له بجمع المادة اللازمة لاستدلالاته العقلية والرياضية، التي هي في الواقع مهمته الأساسية. أما المعايشة وتعلم اللغات الأصلية للسكان والإقامة بينهم كأنه واحد منهم؛ فكلها أمور تدخل في باب «التفاصيل» التجريبية التي كان يترفع عنها. وكانت نتيجة ذلك أنه قام بمغامرة غير مضمونة العواقب، فهو لم يستطع أن يلقي ضوءا على عقل الإنسان المعاصر من خلال الإنسان البدائي؛ لأن الهوة التي تفصل بينهما سحيقة ولأن المسافة التاريخية والحضارية هائلة إلى حد لا يكاد معه القول بوجود «قوالب ثابتة» يفيدنا في إلقاء أي ضوء على السلوك المعقد للإنسان المعاصر، كما أنه (وهو الأهم) ربما كان قد شوه صورة الإنسان البدائي حين قصر همه على كشف «سماته الأساسية»، إذ إنه لم يحاول أن يفهمه فهما متكاملا يعايش فيه كل جوانب حياته، بل كان ما يهمه منه هو أن يجد فيه صورة بدائية أو «طبعة أولى» لتلك السمات التي يعدها أساسية في الذهن البشري بوجه عام، ومن شأن هدف كهذا أن يجعل البحث في الإنسان البدائي مجرد وسيلة لإثبات هدف فلسفي مسبق أصر عليه الباحث منذ البداية.
وهكذا كان الجانب الفلسفي الذي لا ينكر في أبحاث ستروس، سببا للحملة التي شنها عليه علماء متفرغون للأنثروبولوجيا، ينظرون إلى بحوثهم المتعلقة بالحضارات القديمة على أنها غاية في ذاتها، تستهدف بقدر الإمكان فهم هذه الحضارات من داخلها دون إقحام لأي هدف خارجي. ولكن الفلاسفة - من جانبهم - لم يقتنعوا بالأسس الفلسفية التي ارتكز عليها تفكير ستروس ولا بالأهداف التي سعى هذا التفكير إلى تحقيقها. وكان الخلاف المشهور بين ليفي ستروس وجان بول سارتر علامة مميزة للتباين في وجهات النظر بينه وبين الفلاسفة بوجه عام.
إن البنائية في نظر سارتر مذهب «تعالمي
Scientiste » يقوم على الأخذ بنموذج علمي معين (قد يكون لغويا أو رياضيا ... إلخ) ثم تطبيقه على جميع الميادين، وفرضه فرضا حتى على التركيب الأساسي للذهن البشري، والفيلسوف أو العالم البنائي لا يرى أمامه - في كل شيء - سوى هذا النموذج الواحد المستمد من أصل علمي، والذي يبهره إلى حد أنه يتجاهل كل شيء ما عداه، ومن هنا كانت البنائية فلسفة تصلح لمجتمع تسوده وتحكمه التكنوقراطية؛ لأن التكنوقراطي بدوره إنسان متخصص في ميدان فني أو علمي معين، يعجز عن إدراك أي شيء إلا من خلال ما تخصص فيه، بحيث تكون نظرته إلى الأمور دائما جزئية محدودة، بالرغم مما تدعيه من دقة وانضباط. هذا التكنوقراطي هو النموذج المطلوب للإنسان في المجتمع البورجوازي لأنه عظيم الكفاءة والإنتاجية في ميدانه . ولكنه عاجز عن رؤية الصور الكلية والأهداف العامة، ولا يخطر بباله أصلا أن يسعى إلى تغيير المجتمع ما دام هذا التغيير يفترض الرؤية الشاملة؛ ولذلك فإن البنائية - التي هي فلسفة مجتمع تكنوقراطي - تخضع دون أن تشعر للأيديولوجية البورجوازية السائدة في مجتمع لا يطلب فيه من الإنسان إلا الدقة والانضباط، مع ترك التركيب الأساسي للمجتمع على ما هو عليه دون أدنى محاولة للتغيير.
على أن ستروس لم يحاول التبرؤ من صفة «التعالمية»، ولم يجد فيها ما يدعو إلى الخجل، فهو يعترف بأنه يريد أن يبحث الإنسان بطريقة موضوعية؛ ومن ثم فلا بد أن يخضعه لنموذج علمي صارم، ومثل هذا البحث لا ينبغي أن يعد داخلا في إطار أيديولوجية معينة؛ لأنه في حقيقته خارج عن الأيديولوجية، ولا يمكن بالمثل أن يتهم بأنه تفكير مجتمع تكنوقراطي؛ إذ إنه لا يضع نفسه داخل هذا المجتمع ولا يتحدث من وجهة نظر مندمجة فيه، فمن طبيعة البنائية أنها ترفض الطابع الظاهري للعالم والإنسان؛ لكي تكتشف بناءاتهما الخفية، مثل هذا الرفض يجعلها بمنأى عن كل التسميات أو الاتهامات المستمدة من وجهة نظر مندمجة في العالم ومعترفة بمظهره.
ولكن هل هذا رد مقنع؟ قد يكون مقنعا للبنائي ذاته. ولكن ناقده يستطيع أن يرد بأن الخروج عن الأيديولوجية هو ذاته نوع من الأيديولوجية، وأن رفض الطابع الظاهري للعالم والوقوف بمعزل عن محاولات تغييره هو بالضبط ما تريده البورجوازية من الإنسان التكنوقراطي؛ لكي يخلو لها الجو ويزداد تسلطها إحكاما، وإن نزعة ستروس اللاسياسية (
a politisme )
23
التي حرص فيها على أن يظل بعيدا عن الميدان العملي، تسدي إلى الأيديولوجية المحافظة خدمة جليلة، وعلى أية حال فالمسألة ستظل دائما موضوعا للخلاف بين وجهتي نظر أساسيتين: إحداهما تبحث عن الدلالة الأيديولوجية، لكل سلوك نظري أو علمي، حتى ولو كان يعلن ابتعاده عن الأيديولوجية، والأخرى تؤكد أن الأيديولوجية معناها فرض تفسير على الحوادث من خارجها وإخضاعها لغايات ليست كامنة فيها، بينما المطلوب من العلم أن يقدم تفسيرا داخليا للحوادث وفقا لما يكمن في باطنها من عناصر فحسب.
وهكذا يبرر ستروس منهجه في التفكير على أساس أنه هو الذي يتيح كشف الطبيعة الباطنة للظواهر، دون إقحام لعناصر خارجية. ولكن الأمر الملفت للنظر حقا هو أن كلا من الجانبين البنائي والوجودي، يؤكد أن طريقته الخاصة في التفكير هي التي تتيح بحث الظواهر من الباطن والتغلغل في أعماقها، ويتهم الجانب الآخر بأنه يتبع منهجا خارجيا أو سطحيا في التفكير، لا يسمح بالاندماج في اللب العميق للظواهر، فكما رأينا سارتر يتهم ستروس بالنزعة التعالمية التي تفرض على الظواهر نموذجا علميا خارجا عنها، وتعجز بذلك عن فهم حقيقتها الباطنة أو العمل على تغييرها، فإن ستروس يوجه اتهاما مماثلا - ولكن من زاوية أخرى - إلى سارتر وإلى الوجودية بوجه عام، وقد خصص ستروس فصلا كاملا من كتاب «التفكير غير المتحضر
La pensée sauvage » لنقد وجهة نظر سارتر في كتاب «نقد العقل الجدلي
Critique de la raison dialectique »، وهو نقد لم ينصب في واقع الأمر على سارتر وحده، بل على وجهة نظر كاملة تمثل وجودية سارتر جانبا واحدا من جوانبها المتعددة، فهناك مجموعة كاملة من المذاهب الفلسفية تتصور أنها تصل إلى العمق الباطن للإنسان من خلال «التجربة المعاشة»، وتشمل هذه المجموعة - إلى جانب الوجوديين - مفكرين وفلاسفة مثل برجسون ودلتاي وريما هوسرل أيضا. ولكن الواقع أن هذه التجربة المعاشة ليست - كما تبدو للوهلة الأولى - الطريق الموصل إلى ما هو كامن وأصيل في الإنسان. بل إنها - في نظر ستروس - لا تعدو أن تكون سطحا خارجيا تكمن من ورائه قواعد بنائية أساسية هي تلك القواعد التي تتحكم في العلاقة بين الأنا والآخر.
فالتجربة المعاشة - مهما بدت عميقة - ليست إلا النتاج الظاهري لأساس أعمق، هو البناء الذي يشكل معناها الباطن.
ويعتقد ستروس أن الوجوديين وأنصار التجربة المعاشة - بوجه عام - يصعدون مشاغلهم الشخصية إلى مرتبة المشكلات الفلسفية. وهذا - على حد تعبيره في كتاب
Tristes tropiques
الذي كان نوعا من الترجمة الذاتية لحياته، موضوعة في إطار أنثروبولوجي - «أمر محفوف بالمخاطر، وقد يؤدي إلى نوع من الفلسفة السوقية ...»
24
ذلك لأن التفكير عندما يدخل المرحلة التعليمية الموضوعية، لا ينبغي أن يعود مرة أخرى إلى الإهابة بالتجارب الشخصية والفردية التي كان يدور حولها قبل وصوله إلى هذه المرحلة، والتي تجاوزها عمدا عن طريق التجريد وبناء أنساق شخصية، فأمثال هذه المذاهب ترتد ثانية إلى المرحلة قبل العلمية، وتنسى أن العالم - بتجريداته ونماذجه الشكلية - يستطيع أن يلقي ضوءا حتى على التجربة المعاشة ذاتها، ويفسرها بطريقة أكثر ثراء. والمهم في الأمر أن هذا الصراع بين ستروس والوجوديين يذكرنا بالصراع الذي دار قبله بما يزيد عن قرن من الزمان، بين كير كجورد - فيلسوف الذاتية المشهور - وبين هيجل - نصير التجريد العقلي والنسق الفكري الشامل -
25
ويبدو أن كل عصر يشهد فصلا من فصول هذا الصراع الذي لا ينتهي بين أنصار الفكر العيني المعايش للحياة وأنصار الفكر التجريدي الذي يسعى دواما إلى الشمول.
ولقد كان من نتيجة هذا الصراع بين النزعة التجريدية عند ستروس، والنزعة العينية عند سارتر، أنهما تبادلا الاتهامات في ميدان آخر، هو ميدان التاريخ، الذي كان سارتر يتأمله في حركته وديناميكيته وصيرورته الدائمة، على حين كان ستروس يجمده لكي يدرس نماذجه بطريقة سكونية، فقد عاب سارتر على ستروس أن فلسفته تتهرب من الواقع الحي لكي تغرق نفسها في تجريدات شكلية تنصب على حضارات بدائية يصفها ستروس نفسه بأنها «خارج التاريخ»؛ ومن ثم فإنها تعجز عن الانتقال من ذلك الميدان الذي كان فيه التاريخ متوقفا أو مجمدا - إن جاز هذا التعبير - إلى مجال التاريخ الحاضر في تدفقه نحو المستقبل. ومن المؤكد أن ستروس عاجز عن تطبيق أية نتيجة يتوصل إليها في مجال بحثه - على الإنسان المعاصر - بالرغم من كل ما بذله من جهود لتأكيد وجود تشابهات أساسية في «الطبيعة البشرية» بمعناها العام، وبغض النظر عن موقعها من التاريخ.
على أن ستروس يرد على هذا الاتهام بأن الوجودية - وخاصة عند سارتر - هي التي تمركزت حول الحاضر، واتجهت صوب المستقبل أكثر مما ينبغي. صحيح أنها تمجد التاريخ وتؤكد تدفقه وصيرورته، ولكنها في نظرتها إلى التاريخ تفهم الماضي من خلال مقولات الحاضر فحسب، ولا تعطي هذا الماضي حقه، بل لا تعترف للآخرين بالحق في دراسة الماضي لذاته، وإنه لمن الطبيعي للمذهب الذي يرتكز على مقولات الذاتية، وعلى تحليل الإنسان في موقفه العيني وفي «مشروعه» الحي، أن يكون متمركزا حول الذات وحول الحاضر، وأن يكون التاريخ الماضي في نظره هو ما يؤدي إلى الحاضر، والمستقبل هو ما ينبثق عنه؛ على أن النتيجة التي ترتبت على هذا هي أن سارتر قد تجاهل العقلية البدائية، وبدا كما لو كان يساير الرأي القائل بأن البدائيين عاجزون عن التحليل العقلي والبرهان المنطقي، وهو استنتاج غير مستغرب عند فيلسوف يتخذ من الذات - في موقع تاريخي معين - مركزا يدور حوله كل تفكيره، وإذا كانت الوجودية تتهم البنائية بأنها تتطلع إلى الماضي المتجمد خوفا من مواجهة الحاضر والمستقبل وتهربا من مسئولية اتخاذ موقف منهما، فإن البنائية تعود - من جانبها - فتتهم الوجودية بأنها تغمض عينيها عن شكل أساسي من أشكال التجربة البشرية، هي تلك النظم والطقوس والأساطير التي عاشت بها الإنسانية البدائية، وتتصور أن السعي من أجل مستقبل أفضل يتحرر فيه الإنسان من شتى أنواع العبودية، معناه تجاهل البناءات الاجتماعية والفكرية للإنسان في صورتها النقية الأولى، أو أن الهدف الأول يتعارض مع الثاني، مع أنه لا تعارض بين الاثنين على الإطلاق.
وهكذا فإن البنائية والوجودية - ممثلتين في ستروس وسارتر - تتبادلان الاتهامات بصورة يبدو معها كأن المذهبين يقفان على طرفي نقيض، وكأنه لا سبيل على الإطلاق إلى إيجاد أية وسيلة للتقريب بينهما. ومن المسلم به أن المسافة بين هذين المذهبين كبيرة إلى أبعد حد، وأن بينهما اختلافا أساسيا في منهج التفكير ووسائله وأهدافه. ومع ذلك فربما كان من الممكن - بشيء من الجهد - أن يتلمس المرء بعض النقاط التي يتلاقى فيها المذهبان، أو على الأقل بعض أوجه الشبه غير المباشرة. وربما غير المقصودة، بينهما.
ولنلاحظ أولا، فيما يتعلق بستروس وسارتر على وجه التحديد، أن كلا منهما قد اتصل بالماركسية خلال فترة معينة من حياته: ستروس في أولها، وسارتر في آخرها، فقد اعترف ستروس في سيرته الذاتية بأنه كان في شبابه ماركسيا. أما سارتر فإن قصة التقائه المتأخر بالماركسية معروفة للجميع؛ ومن هنا كانت كتابات كل منهما تلجأ - بدرجات متفاوتة - إلى المصطلحات الماركسية، على الرغم من أنهما استخدما هذه المصطلحات بمعان متباينة، وعلى أية حال فإن من القرائن غير المباشرة على أن التضاد بين البنائية والوجودية ليس بالحدة التي يصور بها عادة أن ستروس، برغم خلافه الشديد مع سارتر، قد أهدى كتاب «التفكير غير المتحضر
La pensée sauvage » إلى ذكرى «مير لو بونتي» الذي كان أقرب إلى الوجودية بكثير منه إلى البنائية.
26
على أننا نستطيع أن نجد نواحي أخرى يتشابه فيها المذهبان دون وعي منهما بهذا التشابه، وأهم هذه النواحي، رأي ستروس في الطبيعة والثقافة، الذي نجد فيه ما يذكر برأي سارتر في الوجود والماهية، فمنذ كتاب «البناءات الأولية لنظام القرابة
Les Structures élémentaires de la parenté » وهو الكتاب الحاسم والأساسي في المذهب البنائي بأكمله، ويؤكد ستروس وجود تضاد أساسي بين الطبيعة والثقافة
Nature et culture
في الإنسان، فليس ثمة إنسان طبيعي، وإنما يكتسب الإنسان طبيعته من خلال ثقافة معينة. وهذا التقابل بين طبيعة الإنسان وثقافته وخضوع طبيعته للعناصر الثقافية، وهو الذي يميز الإنسان عن الحيوان، الذي لا يعيش إلا في «الطبيعة» ولا يحور هذه الطبيعة إلا إذا حور نفسه من حيث هو نوع حيواني. وربما بدا لأول وهلة أن رأي ستروس في هذه المسألة ينطوي على مفارقة؛ إذ إن هدفه الذي لا يمل تكراره هو أنه يريد الوصول إلى الطبيعة الأساسية للذهن البشري، مما يوحي بأن لهذا الذهن تركيبا «طبيعيا» ثابتا. ولكن ستروس يؤكد - من ناحية أخرى - أن طبيعة الإنسان تكمن في خروجه عن الطبيعة، فإذا أردنا أن نبحث في ذلك التركيب الثابت الذي يميز الذهن البشري على نحو شامل، فلنبحث عنه في تلك النظم الثقافية (أي اللاطبيعية) التي انفصل عن الحيوان منذ أن وضعها.
وهذا يعني بعبارة أخرى: أن ستروس عندما بحث عن المبادئ الكلية للذهن البشري - بوجه عام - لم يحاول أن يلتمسها في تكوين طبيعي لم يتدخل فيه الإنسان وإنما تلقاه على ما هو عليه، بل إنه اهتدى إليها في ذلك التنظيم الثقافي الذي يتحكم به الإنسان في حياته، الذي يعبر مباشرة عما هو أساسي في طريقة تفكيره.
وإذا كان من الشائع النظر إلى الطبيعة التي لم يخلقها الإنسان على أنها هي الأصل، وإلى الثقافة على أنها الفرع أو الناتج، فإن ستروس يقلب الآية ويرى الثقافة أصلا والطبيعة (في حالة الإنسان بالذات) مشتقة منها، وإذا كان من الشائع أيضا وصف الطبيعة الخام بأنها ثابتة والثقافة بأنها نسبية متغيرة، فإن ستروس يؤكد أن الثقافة هي العنصر الثابت في تكوين الإنسان، ومنها يستمد الإنسان ثبات طبيعته، فمنذ اللحظة التي يحظر فيها زواج المحارم، يكون معنى ذلك ظهور عنصر ثقافي في المجتمع الإنساني (وهو الحظر، أي التنظيم الاجتماعي والقانون) يشكل الطبيعة (وهي غريزة الجنس) ويتحكم فيها؛ ففي هذا الحظر والتحريم تتجاوز الطبيعة ذاتها وتبدأ في تكوين بناء جديد، يحل فيه التنظيم المعقد المميز للإنسان محل العفوية والعشوائية المبسطة التي تميز بناء الحياة الحيوانية.
ولسنا نود أن نستطرد في وصف العلاقة بين الطبيعة والثقافة عند ستروس. بل إن ما قلناه يكفي لإيضاح المسألة التي نريد أن ننبه إليها، وأعني بها وجود نوع من التشابه ربما لم يتنبه إليه ستروس ولا سارتر بين البنائية والوجودية في هذه النقطة الأساسية؛ ذلك لأن من القضايا الرئيسية في الوجودية؛ تلك القضية القائلة: إن وجود الإنسان سابق لماهيته؛ أي إن ما يميز الإنسان هو عدم وجود طبيعة ثابتة مميزة له. ومن المؤكد أن هناك تشابها قويا بين تأكيد ستروس أن الإنسان يصنع طبيعته عن طريق الثقافة، وتأكيد سارتر أن الإنسان لا يبني وجوده على ماهية ثابتة، بل يصنع ماهيته من خلال وجوده. وفي كلتا الحالتين تأكيد لحقيقة أساسية: هي أن أهم ما يميز الإنسان هو ما يصنعه الإنسان نفسه، مع فارق هام مستمد من مجال اهتمام كل من المفكرين الكبيرين، هو أن ستروس كان يتحدث عن الإنسان الاجتماعي، على حين أن مدار حديث سارتر كان الإنسان الفردي.
وأخيرا، فإن التضاد بين نزعة التجريد عند البنائيين والنزعة العينية عند الوجوديين يمكن تخفيفه إلى حد غير قليل إذا أدركنا أن كل طرف يحمل في ثنايا مذهبه شيئا من صفات الطرف الآخر، فلم تكن الكتابات الوجودية في كل الأحوال عينية تنبض بالحياة، كما يشيع وصفها عادة، وإنما كانت في أحيان غير قليلة تتسم بقدر كبير من الجفاف التجريدي، وأوضح مثل على ذلك كتابا سارتر: «الوجود والعدم» و«نقد العقل الجدلي»، اللذان كانا يعرضان مضمونا فكريا عينيا من خلال شكل وأسلوب لا يقل في تجريده عن كتابات ستروس.
ومن جهة أخرى ففي وسع المرء أن يجد في كتابات ستروس جانبا من اللمحات الشعرية التي تخفف - من آن لآخر - من غلواء التجريدات المتطرفة ، ويظهر ذلك بوضوح حين يتحدث عن الموسيقى ويربط بينها وبين الأسطورة؛ إذ يجد فيهما معا إيقاعات متكررة وتنويعات على ألحان (أو موضوعات) رئيسية. وفضلا عن ذلك فهما تشتركان معا في أن ما يفهمه المرء منهما خاص به إلى حد بعيد، وفي أن من يتلقى الرسالة الموسيقية أو الأسطورية - وليس مرسلها - هو الذي يتحكم في معناها، وتثير الموسيقى والأسطورة - من حيث هما أسلوبان ثقافيان - استجابات انفعالية في المخ البشري، يمكن عن طريق تحليلها فهم البناء اللاشعوري للذهن البشري، وبالفعل يكرس ستروس جزءا كبيرا من مجلداته الثلاثة الضخمة التي ألفها بعنوان «أسطوريات
Mythlogiques » للكشف عن الآليات المنطقية التي تثير تلك الاستجابات الانفعالية، ويؤكد وجود تواز بين البناء المنطقي والاستجابة الانفعالية؛ أي بين الجانب الثقافي والطبيعي في الإنسان، ويمجد ستروس الموسيقى في لغة يختفي فيها جفاف تجريداته الرياضية المألوفة، فيقول مثلا: «إن الموسيقى، هي وحدها - من بين سائر اللغات - التي تتسم بطابع متناقض هو أنها معقولة أو مفهومة. وفي الوقت ذاته غير قابلة للترجمة، وهذه السمات تجعل الموسيقى ذاتها السر الأعظم في المعرفة البشرية؛ فكل فروع المعرفة الأخرى تسير في أعقابها، وهي التي تحمل مفتاح تقدمها.»
27
والواقع أن كتاب «الأسطوريات» يحفل بأمثال هذه الارتباطات الشعرية التي يمزجها ستروس بتحليلاته الأنثروبولوجية فيخفف إلى حد بعيد من جفافها، ويثبت أن للجانب الانفعالي العيني وجودا لا يمكن تجاهله وسط الصيغ الرياضية المفرطة التجريد التي اشتهرت بها كتاباته، ولعل في هذا ما يدل على أن الشقة التي تفصل بين بنائيته وبين الوجودية يضيق أحيانا إلى حد لا يتصوره من يتأملون كلا المذهبين من خلال الصيغ التي شاع إطلاقها عليهما دون تدقيق أو تمييز. (4) ميشيل فوكو وبناء العقل الحديث
حين نشر ميشيل فوكو
M. Foucault
كتاب «الكلمات والأشياء
Les Mots et le Choses » في عام 1966م، أحدث الكتاب ضجة كبرى، ورآه البعض مبشرا بفلسفة جديدة، بينما نظر إليه آخرون على أنه أضاف بعدا جديدا إلى الحركة التي سبق أن أثمرت - في ميادين اللغويات والأنثروبولوجيا - التحليل النفسي والتفسير الماركسي. ولكن هذه الضجة الصاخبة التي كانت في واقع الأمر ضجة مؤقتة؛ إذ إن الكتاب بعد مضي عشر سنوات على نشره، لم يثبت قدرته على الصمود للزمن، وأصبح من المألوف كلما تعرض باحث لهذا الكتاب في الوقت الحالي أن تغلب لهجة الانتقاد عنده على لهجة الإعجاب. بل إن البعض يعربون عن اعتقادهم بأن الكتاب كان «موضة» مرتبطة بفترة معينة، وأنه - برغم عدم اعترافه بالتاريخ - قد أصبح اليوم ذا قيمة تاريخية فحسب؛ ومن هنا فإننا لا نعتزم الإطالة في الكلام عن فوكو وعن كتابه الرئيسي هذا؛ إذ إن الاتجاهات الأكثر ثباتا في البنائية أحق منه بالبحث المطول.
في كتاب «الكلمات والأشياء» يعرض فوكو الصور البنائية المختلفة التي أخذها العقل الأوروبي منذ عصر النهضة في القرن العشرين، وقد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن مثل هذا العرض لا بد أن يكون تاريخيا، ما دام موضوعه قد تغير طابعه على مر القرون الخمسة التي اتخذها المؤلف ميدانا لبحثه. ولكن حقيقة الأمر أن فوكو نظر إلى العقل - الذي أطلق عليه اسمه اللاتيني
Ratio - نظرة نسبية لا علاقة لها بالتاريخ؛ فالعقل قد تغير طابعه في مرحلة من مراحل بحثه؛ لأن هناك «بناء» مميزا لكل من هذه المراحل. أما تلك التغيرات التي تطرأ نتيجة لتفاعل العقل مع الأحداث وحركته خلال الزمان فإن فوكو لا يهتم بها، ولا يتحدث عنها في كتابه. وهكذا فإن كل ما يقدمه إلينا هو مجموعة من البناءات المغلقة إغلاقا محكما، والتي اتخذها العقل خلال الفترة الحديثة من الحضارة الأوروبية. أما كيفية الانتقال من كل بناء إلى آخر، والعوامل التي أدت إلى تغير البناءات، فهذا ما لا يحاول فوكو أن يفسره.
ولقد وضع فوكو لكتابه هذا عنوانا فرعيا هو:
Archéologie des sciences humaines .
وهو عنوان يمكن أن يعني في اللغة العربية أمورا كثيرة: فلفظ
archéologie
هو - في معناه المباشر - علم الآثار، وعلم الآثار علم تاريخي، فهل كان هذا ما يهدف إليه فوكو؟ الحقيقة أن رفضه للنزعة التاريخية يؤدي إلى استبعاد هذا التفسير من أساسه، كذلك قد يدل هذا اللفظ على فكرة القدم؛ بحيث يكون المعنى المقصود هو البحث في الجذور القديمة للعلوم الإنسانية أو في مبادئها الأولى،
28
لا بالمعنى التاريخي بل بالمعنى البنائي. وهذا بالفعل هو ما يقصده فوكو، فهو لا يريد أن يدرس ماضي الإنسانية من خلال وثائقها القديمة (كما يفعل علماء الآثار في ميدانهم الخاص) لكي يتابع بالتدريج تلك العملية التي أدت - من خلال تحولات تعاقبت تاريخيا في خط متصل - إلى اتخاذ العلوم الإنسانية طابعها الراهن. بل إنه يجمد كل وضع اتخذته هذه العلوم خلال تلك الفترة، ويتأمل كل مرحلة انتقالية؛ لأن بناءها يبدو له متماسكا، ولأنه يسقط من حسابه عناصر التحول والتغير الكامنة في كل مرحلة؛ لكي يحتفظ بهيكل بنائي ساكن يراه أنه هو المميز حقا لكل مرحلة.
ففي عصر النهضة نرى بناء أساسيا واحدا يسود جميع المجالات، ويعبر عنه فوكو بفكرة الفك الكري
La Sphére ؛ فالمعارف كلها موحدة، ومقولة التشابه والتماثل هي السارية على جميع الميادين، والمعرفة ذاتها متناهية مقفلة دائرية، ومثل هذا التصور لعصر النهضة يعتمد في الواقع على الاستشهاد بآراء شخصيات ثانوية في ذلك العصر؛ ولذلك التجأ فوكو في كثير من المواضع إلى آراء شخصيات مغمورة، محققا بذلك هدفين: أولهما أن يبهر القارئ بمعارفه الواسعة وقراءاته المستفيضة، فيجتذب بذلك أولئك الذين لا يبحثون في الفكر إلا عن تبحر صاحبه
érudition ، وثانيهما أن يجد في هذه الشخصيات الثانوية - التي لم تكن تتابع حركة الرفض الناشئة في ذلك الحين - تأييدا لذلك التصوير البنائي الذي عبر عن روح عصر النهضة، ولو كان فوكو قد رجع إلى الشخصيات الكبيرة في ذلك العصر؛ لأدرك أن كل شيء كان موضوعا موضع الشك والتساؤل، وأن العقول الناضجة لم تكن سوى إشكالات وأسئلة قلقة حيث كانت العقول الهزيلة ترى كلا متكاملا مقفلا على ذاته. ومن الجائز أن هذه الأسئلة لم تكن تطرح دائما بطريقة صارخة، وأن الشك والقلق كان يخشى التعبير عن كل ما ينطوي عليه من هدم لنظام المعرفة القديم، ولكن من المؤكد أن اتجاه أقطاب عصر النهضة كان واضحا، وأن بركانا كان يغلي تحت السطح، على حين أن فوكو لم يركز نظرته إلا على ذلك السطح الساكن الراكد، فكان من الطبيعي ألا يتصور البناء الفكري لذلك العصر إلا على أنه أشبه بالفلك المقفل المستدير.
ومثل هذا يقال عن نظرته إلى العصر الكلاسيكي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حيث كان «النظام
Ordre » يسود جميع مجالات المعرفة والنشاط الذهني للإنسان؛ ففي وسعنا أن نوافق معه على أن النظام كان بالفعل حقيقة أساسية في ميادين الرياضيات والفلك والفيزياء. وفي الإبداع الفني (القواعد الكلاسيكية للعمل الفني) والميدان السياسي (نظام الحكم المطلق). ولكن هذا النظام بدوره لم يكن يخلو من قلق وتوثب وتحفز لكسر كل إطار يدور في داخله النظام الموجود، والدليل على ذلك أن الفترة الأخيرة من هذا العصر هي التي شهدت حركة التنوير، وهي حركة كان أهم ما يميزها هو تطلعها إلى عصر مقبل تتحطم فيه قيود النظام المستتب، سواء أكان ذلك في المجال العقلي أم في المجال السياسي والاجتماعي. ومن الظلم إدراج حركة التنوير - التي كانت تتضمن بذوره ثورة كاملة - ضمن إطار عصر يوصف بأنه عصر شكلت فيه المعرفة نسقا لا يحيل إلا إلى ذاته، ولا تستمد أية حقيقة فيه قيمتها إلا من موقعها في كل أوسع منها، وبأنه عصر لا تظهر فيه أدنى بادرة لفكرة التطور والتحول.
وحين ينتقل فوكو إلى القرن التاسع عشر، يصفه بأنه هو القرن الذي «اخترع» التاريخ واستعاض به عن النظام ؛ على أنه لما كانت نظرة فوكو في أساسها غير تاريخية، فإنه يسيء فهم البناء الأساسي لهذا العصر إلى حد بعيد، ومثال ذلك أنه لا يتحدث عن ماركس إلا في صفات قلائل، ويستبعده بسرعة على أساس أنه لم يأت بجديد بالقياس إلى ريكاردو، ويذهب إلى أنه لم يتجاوز نفس المشكلات، ونفس الإطار المعرفي، الذي دارت فيه أبحاث ريكاردو، ويصف الموجة التي أثارها الاثنان معا بأنها «زوبعة في فنجان»،
29
وليس من الصعب أن يدرك المرء الأسباب التي دعت به إلى إصدار مثل هذا الحكم الجائر، فتفكير ماركس يخرج عن إطار البناء الموحد الذي حدده للقرن التاسع عشر. كما أن ثبات البناء يقتضي ألا يكون قد حدث تحول أساسي في الموضوع الواحد بين شخصيتين كبيرتين مثل ريكاردو وماركس.
أما العصر الحاضر، فإن فوكو يقسم المجال المعرفي فيه إلى أبعاد ثلاثة، الأول منها هو العلوم الرياضية والفيزياء، والثاني هو العلوم التي أطلق عليها اسم «التجريبية» كالاقتصاد والبيولوجيا واللغويات، والثالث هو التفكير الفلسفي. وفي رأيه أن العلوم الإنسانية تبحث لنفسها عن مكان في هذه المجالات الثلاثة؛ إذ تحاول البحث عن صياغة رياضية، وتطبيق الأسلوب التجريبي، وإن كانت تخضع في كثير من الأحيان لإغراء الفكر التأملي. ولكن فوكو لم يتعمق في بحث المشكلات الجوهرية التي تواجه العلوم الإنسانية في عصرنا الحاضر، كالتضاد بين الفهم والتفسير، وبين فكرتي البناء الثابت والمنشأ التاريخي ... إلخ.
ومن خلال هذا العرض السريع للاتجاهات الأساسية في كتاب «الكلمات والأشياء»، نستطيع أن ندرك العيوب الأساسية التي اتسمت بها نظرته إلى بناء الفكر الأوروبي الحديث منذ عصر النهضة حتى اليوم.
فكتابه يحفل بمحاولات التقسيم الثلاثي الذي يسري - بطريقة واحدة - على جميع المجالات، وهي المحاولات التي اشتهر بها كانت في تقسيمه الثلاثي للمقولات الذهنية وتطبيقه لهذه التقسيمات على بحوثه في مختلف المجالات، كما اشتهر بها هيجل في التزامه للإيقاع الديالكتيكي الثلاثي الذي يظل يحكم المذهب من بدايته إلى نهايته؛ فالانتقال من عصر النهضة إلى العصر الحاضر كان انتقالا ثلاثيا مبنيا على نموذج هندسي، هو الانتقال من الشكل الكري المقفل
La sphére
الذي كانت فيه المعرفة محددة مقفلة، إلى المسطح
Le plan
الذي يسوده النظام الهندسي في العصر الكلاسيكي، إلى المثلث أو الثلاث
La triedre
الذي يتألف منه العلم المعاصر، وأمثال هذه التقسيمات قد تعجب هواة التماثلية والتناسق الشكلي. ولكنها لا تفيد في الكشف عن طبيعة الواقع؛ لأن واضعها كثيرا ما يضطر إلى تجاهل عناصر أساسية، أو التعسف في تفسير عناصر موجودة، من أجل ضمان الانسجام الشكلي الظاهري للبناء. وفي حالة فوكو نجده يتجاهل القرن التاسع عشر؛ لأنه لا يدخل في الإطار الثلاثي الذي وضعه، فضلا عن أن فكرة المسطح ليست هي الفكرة المميزة لعصر تسوده روح النظام. بل إن أي شكل هندسي آخر يصلح لتحقيق هذا الغرض.
ومن ناحية أخرى فإن فوكو حتى ولو كان قد أتى بنموذج يصلح للتعبير عن كل مرحلة «من داخلها»، فإنه يعجز تماما عن تفسير الانتقال من مرحلة إلى أخرى؛ أي عن تفسير التغير الذي أدى إلى تحول الفكر الأوروبي من بناء إلى آخر، فموقفه يستلزم القول بوجود انفصال أساسي بين كل مرحلة وأخرى، مع أن المعقولية تقتضي السعي إلى إيجاد اتصال بين المراحل، والتاريخ يستحيل تصوره في ظل نظرة تضع هوة لا قرار لها بين فتراته المختلفة، وتقف عند حد فهم كل فترة في إطارها الداخلي الخاص. وليس أدل على ذلك من أن فوكو وجد نفسه مضطرا إلى القول بوجود «انقطاع غامض
rupture énigmatique » في تفسير الانتقال من عصر النهضة إلى العصر الكلاسيكي، أو من عصر «النظام» إلى عصر «التاريخ»، وهو تعبير يكشف بطريقة صريحة عن العجز عن الفهم، ويدل على أن التمسك المفرط بالبناء والنسق يمكن أن يصبح عقبة في وجه المعقولية الصحيحة.
على أن أهم أوجه النقد التي يمكن أن توجه إلى فوكو هو استخفافه بالتاريخ، وإنكاره أن يكون العقل البشري قد أحرز تقدما منذ عصر النهضة حتى عصرنا الحاضر، وكما هو واضح فإن هذا النقد لا ينطبق على فوكو وحده، بل ينطبق على البنائيين عموما، وإن كان إهمال فوكو لفكرة الاتصال التاريخي أكثر وضوحا ؛ لأن الموضوع الذي عالجه في كتابه الرئيسي يرتبط ارتباطا وثيقا بموضوع التاريخ، وعلى أية حال فإن النقد الذي يوجه إلى فوكو في هذا الصدد يمكن أن يعمم على معظم البنائيين الآخرين.
إن فوكو يحاول أن يهتدي - في كل عصر - إلى عناصر الثبات من وراء التحول الظاهري، وهو في هذا يرتكز على مبدأ يسلم به - هو ومعظم البنائيين - دون مناقشة، وهو أن العناصر الثابتة هي الأساسية والجوهرية، وأن العناصر المتحولة والمتغيرة سطحية عرضية؛ على أن هذا المبدأ يمكن الاعتراض عليه من الأساس، فمن الممكن من وجهة نظر أخرى أن نقول: إن الثبات هو المظهر السطحي، الذي تكمن من ورائه تحولات وتغيرات أعم منه؛ ذلك لأن حالة المعرفة في كل عصر تبدو ثابتة بالنسبة إلى من يضع نفسه في إطار ذلك العصر. ولكن في استطاعة النظرة التاريخية - حين تخرج عن ذلك الإطار وتطل على ذلك العصر إطلالة راجعة فيها رحابة واتساع - أن تكشف عن العمليات المتغيرة والتفاعلات التي كانت تدور في الخفاء من وراء هذا الثبات الظاهري. وفي هذه الحالة يعتبر المنظور التاريخي المبني على التغير أعمق وأكثر نفاذا إلى باطن الأشياء من المنظور البنائي الذي يعد عندئذ مكتفيا بوصف السطح الخارجي وقبوله على ما هو عليه، ولسنا ندعي أن هذه هي الحالة الوحيدة الممكنة؛ إذ إن البنائي يستطيع أن يؤكد أنه اكتشف عناصر ثابتة أعمق من عناصر التحول الجديدة. وهكذا يظل لكل من المنظورين الحق في القول بأنه يتعمق في الظواهر إلى مستوى أبعد من الآخر. ولكن من المهم في الأمر أن هذا يبطل ادعاء البنائية، وادعاء فوكو على وجه التحديد بأن منهجه الذي ركز فيه باختياره على عناصر الثبات وجمدها، وأهمل عناصر التحول، هو وحده الذي يوصل إلى الأساس المطلق للمعرفة. (5) البنائية والماركسية (5-1) سيباج
كان لوسيان سيباج
Lucien Sebag
من أوائل الماركسيين الذين تنبهوا إلى إمكان وجود عناصر بنائية في فكر ماركس، ويبدو أن تحمسه لإثبات هذه الفكرة قد أدى به إلى الانحياز إلى جانب البنائية وإنكار عناصر أساسية في الماركسية؛ مما أبعده بالتدريج عن التيار الرئيسي للفكر الماركسي الفرنسي، وأدى إلى فصله من الحزب الشيوعي الفرنسي، وعلى أية حال فقد أتيح لسيباج أن يعرض وجهة نظره كاملة - قبل موته المبكر - في كتاب يعد من الكتب الكلاسيكية في هذا الموضوع، هو «الماركسية والبنائية».
30
ولقد أثار هذا الكتاب مجموعة من المسائل التي قد لا يلقى بعضها معارضة شديدة من الماركسية التقليدية، على حين أن البعض الآخر لا يمكن الاعتراف به في الإطار التقليدي للفكر الماركسي؛ لأنه يتضمن تشكيكا في مبادئ كانت أساسية عند ماركس نفسه، لا مجرد تفسير جديد لأفكار كانت موجودة عنده بالفعل، ومن أمثلة النوع الأول - أعني ذلك الذي يمكن أن يكون مقبولا في إطار الماركسية التقليدية - القول بوجود عناصر بنائية في صميم فلسفة ماركس، أما النوع الثاني فيتمثل في رفض الصورة المألوفة للعلاقة بين البناء الأدنى
infrastructure - وخاصة الاقتصاد - وبين البناء الأعلى
Superstructure ، وهو رفض يصل إلى حد تغيير ركن أساسي من أركان الماركسية، وسوف نعرض لكل من هذين النوعين على حدة.
من المؤكد أن الماركسية تربط بين الأسس التي يرتكز عليها سلوك أفراد أو جماعات معينة، وبين عناصر معينة في أيديولوجية هؤلاء الأفراد أو الجماعات على نحو ينطوي على القول بوجود تشابه بين الطرفين، فمثلا تفسر الماركسية النمط الخاص للعلاقة بين الله والإنسان في العصور الوسطى (وهو نمط ينتمي إلى مجال الأيديولوجيا) بأنه انعكاس للعلاقة بين الإقطاعي ورقيق الأرض في هذه العصور (وهي علاقة تنتمي إلى مجال الأساس أو البناء الأدنى)، وتفسر سيادة الفكر النظري المحض على البحث في العلوم التطبيقية في المجتمع اليوناني (وهو موضوع ينتمي إلى أيديولوجية ذلك المجتمع) بأنها ترجمة لعلاقة السيد في مجتمع يسوده الرق (وهو تفسير ينتمي إلى البناء الأدنى)، وتفسر عقيدة الجبر المطلق
- كما قال بها كالفان
Calvin
في عصر النهضة الأوروبية - بأنها تعبير عن إحساس الإنسان في بداية العصر الرأسمالي بوجود قوى مجهولة تتحكم في مصيره (هي قوى السوق وقوانينه) وتفرض نفسها عليه دون أن يستطيع السيطرة عليها، في كل هذه الحالات تفسر الماركسية عنصرا معينا من عناصر الأيديولوجية في مجتمع معين، بعلاقات إنتاجية ذات طابع اقتصادي واجتماعي، ولكي يكون هذا التفسير ممكنا ومقبولا فلا بد من وجود «بناء» مشترك يجمع بين المجالين المتباينين: المجال الأيديولوجي (وهو في هذه الحالة فلسفي أو ديني) والمجال الاجتماعي الاقتصادي، وعلى سبيل المثال فكما أن العلاقة بين الإقطاعي وتابعه في العصور الوسطى هي علاقة رأسية بين طرفين يعلو أحدهما على الآخر علوا هائلا، فإن هذا النمط أو «البناء» ينعكس هو ذاته على تصور هذه العصور للعلاقة بين الله والإنسان، وقل مثل هذا عن سائر التفسيرات الماركسية لمختلف عناصر الأيديولوجية كالفكر الفلسفي والفن والأدب.
ولنذكر في هذا الصدد ما سبق لنا أن أشرنا إليه من أن البنائية من حيث هي منهج ليست بالشيء الجديد، وإنما الجديد هو التعبير الواعي عنها في مذهب فكري متماسك، فهنا نجد هذا النوع من التفسير البنائي لا يلقى معارضة من الماركسيين المتمسكين؛ لأنه لا يخرج عن إطار الماركسية التقليدية، وكل ما يفعله هو أنه يستخدم في تقديمها مصطلحات بنائية.
على أن هذا - في رأي سيباج - لم يكن هو المظهر الوحيد الذي اتخذته البنائية في الفلسفة الماركسية، فمن الممكن أن تتحدد العلاقة بين البناء الأدنى - أي الأساس - وبين البناء الأعلى - أي الأيديولوجية - على مستوى آخر، هو أن ننظر في مجال كامل من مجالات الواقع الاجتماعي، مثل علاقات الإنتاج، ونربطه بمجالات أخرى ذات طبيعة فكرية أو أيديولوجية، فعلى هذا المستوى لا نربط بين تفكير فرد معين أو جماعة معينة وبين عنصر معين في علاقات الإنتاج، وإنما نربط على نحو أعم وأكثر تجريدا بين «أنماط» معينة من التفكير، وأنماط معينة من علاقات الإنتاج أو من الواقع الاجتماعي، ومثل هذا الربط يحتاج إلى عملية توحيد ومقارنة أشد تعمقا مما يحتاج إلى الربط على المستوى الأول، وعلى الرغم من أن ماركس بحث الموضوع على المستويين معا، فقد كان البحث على المستوى الثاني هو الغالب لديه، فهو لا يلجأ إلا نادرا إلى الكلام عن تأثير عامل معين يسهل تحديده في توجيه الفكر وجهة معينة، بل يتحدث عن التأثير الشامل لآليات نمط اقتصادي كامل - كالاقتصاد الرأسمالي - في تحديد أسلوب التفكير والوعي الاجتماعي داخل هذا النمط؛ أي إنه يستهدف دائما بحث «كليات شاملة
totalités »،
31
وتؤثر كل منها في الأخرى، وتكشف عن «بناء مشترك»، ومثل هذا البحث هو الجدير بأن يسمى «علما» بالمعنى الصحيح؛ لأن موضوعه بناءات كلية.
على أن «سيباج» يستخلص من تطبيق المنهج البنائي على تفسير الماركسية نتيجة تتعارض مع عنصر أساسي من عناصر التفكير الماركسي التقليدي، هي رفض الحتمية الاقتصادية؛ فعندما يكون أساس تفسيرنا هو البناء الكلي لا يعود من الممكن أن نعطي أولوية مطلقة لواحد بعينه من عناصر هذا البناء، ونجعل منه «سببا» للعناصر الأخرى؛ فالعامل الاقتصادي - وفقا للنظرة البنائية - هو مجرد عنصر من العناصر التي ينطوي عليها البناء. وليس هو أساس البناء بأكمله؛ ولذلك رفض سيباج تفسير التاريخ على أساس القول بأولوية العامل الاقتصادي، بل نظر إلى العلاقات الاقتصادية، جنبا إلى جنب مع اللغة والأساطير ونظم القرابة؛ على أنها عناصر يمكن اقتطاع أي منها من الكل بعملية ذهنية متعمدة تسعى إلى استخلاص السمات المميزة لهذا العنصر بالذات، عن طريق فصله عن علاقاته بمجالات الواقع الأخرى، وعندئذ يمكننا الوصول إلى مقارنات وتوازيات بين كل عنصر والآخر،
32
ولكننا لا نستطيع أن نصل إلى حالة يكون فيها لأحد هذه العناصر - كالعنصر الاقتصادي مثلا - أولوية سببية بالقياس إلى العناصر الأخرى، أو يكون هو الذي تتولد عنه هذه العناصر الأخرى.
وإذا كانت وحدة العناصر وتفاعلها المتبادل في البناء تمنع من معاملة أحد هذه العناصر (كالعنصر الاقتصادي) معاملة مميزة، بوصفه أصلا للباقين، فإن هناك أسباب أخرى تؤدي في نظر «سيباج» إلى هذه النتيجة نفسها، ومن أهم هذه الأسباب: أن العامل الاقتصادي لا يمكن أن يكون عاملا ماديا بحتا، في مقابل نتيجة فكرية أو عقلية هي الأيديولوجية بصورها المختلفة، وينتقد سيباج التصوير التقليدي عند بعض الماركسيين الذين يعالجون العامل الاقتصادي كما لو كان مادة خاما تختلف في طبيعتها عن العوامل الأخرى التي هي «معلولات» لها. والواقع أن العقل الإنساني - الذي يتدخل في كل هذه العوامل - يزيل الفوارق النوعية بينها عن طريق تدخله هذا؛ فالأساس الاقتصادي لا يكتسب كيانه ووجوده إلا من تلك الدلالة التي يضفيها عليه العقل الإنساني؛ بحيث إن التضاد بين الواقع الاقتصادي والناتج الأيديولوجي المرتكز عليه ليس تضادا بين حقيقتين بينهما اختلاف أساسي في الطبيعة، وإنما هو تضاد يقع «داخل» الإطار العقلي والعلمي ذاته، ومن هذا الإطار العقلي يكتسب الطرفان معا دلالتهما. وهكذا تكون الوسيلة الوحيدة لدراسة العلاقة بين الاقتصاد والأيديولوجية - في نظر سيباج - هي البحث في العلاقة المتبادلة بين الطرفين. أما فكرة وجود بداية مطلقة أو سببية نهائية، يكون فيها أحد الطرفين منتجا للآخر وأصلا له، فإنه يرفضها بوصفها فكرة مستحيلة.
وهناك سبب أخير يؤدي إلى إنكار فكرة السببية المطلقة بين الواقع الاقتصادي والأيديولوجي، من فكر أو فن أو دين، لا يكفي لتفسيره أن نرجعه إلى أصله؛ لأن هذا الناتج يخرج عن الأصل ويتجاوزه، ويكتسب خلال تطوره دلالة خاصة مستقلة عن الأصل الذي نشأ منه، ويعبر «سيباج» عن هذه الفكرة بقوله: «إن القول بأن نظاما فكريا معينا يتولد عن ممارسة اجتماعية معينة لا يكفي لتفسير طبيعة هذا النظام؛ إذ إن ما نعبر عنه على المستوى الرمزي يتجاوز دائما، ذلك الواقع الذي اتخذ منه نقطة بدايته»،
33
وهو يستشهد في هذا الصدد برأي لبياجيه
يقول فيه: «إن تولد البناءات من أصل اجتماعي لا يفسر وظائفها اللاحقة؛ لأن هذه البناءات حين تندمج في تركيبات كلية جديدة يمكن أن تتغير لدلالاتها. وبعبارة أخرى: فإذا كان بناء تصور معين يتوقف على تاريخه السابق، فإن قيمته تتوقف على موقعه الوظيفي في الكل الذي يكون هذا التصور جزءا منه في لحظة معينة.»
34
وهكذا يدافع «سيباج» عن تلك القدرة الخلاقة التي يتسم بها العقل الإنساني، والتي تجعل لنواتج هذا العقل استقلالا ذاتيا بالقياس إلى الواقع الاجتماعي الذي أنتجها، ويترتب على ذلك أن النسق البنائي الواحد الذي يكونه هذا العقل يستطيع أن يعبر عن أكثر من واقع أساسي واحد. كما أن الواقع الواحد يمكن أن يولد أنساقا متباينة، ولهذا الرأي نتيجتان هامتان تؤلفان تعديلا أساسيا على النظرية الماركسية التقليدية:
الأولى هي إنكار وجود علاقة مباشرة بين الأساس الاقتصادي والاجتماعي الواحد والنسق الفكري الذي يقال: إنه يرتكز عليه؛ فالسببية هنا ليست خطية تجمع بين الطرفين، بل هي متشعبة يمكن أن تسير في شتى الاتجاهات.
أما النتيجة الثانية فتذهب إلى مدى أبعد؛ إذ تنكر القسمة الثنائية التقليدية بين بناء أدنى وبناء أعلى، أو بين أسس الواقع الاقتصادي الاجتماعي والبناءات التي تشيد عليه في ميادين الفكر والدين والفن إلخ، فليس ثمة أولوية للأسس الاقتصادية والاجتماعية، وإنما يكشف لنا التاريخ عن سلسلة دائمة من التفاعلات المتبادلة، التي تتحول فيها الأسباب إلى نتائج، والنتائج إلى أسباب، ولو رجعنا إلى ما يحدث بالفعل في عالم الواقع؛ لوجدنا أن الناس حين يسلكون، يجمعون في مركب واحد بين مستويات كثيرة لا يمكن الفصل بينها إلا بعملية فيها قدر من العمق؛ ولذلك فإن هذه العملية المزعومة للعنصر الاقتصادي تعزل شطرا واحدا من كل لا ينطوي إلا على علاقات متبادلة.
35
وهكذا يذهب «سيباج» في تحليله البنائي للماركسية إلى مدى بعيد في الخروج عن المبادئ الأساسية للنظرية الماركسية التقليدية. وليس أدل على ذلك من أنه يرفض النقد الذي وجهه ماركس إلى هيجل، على أساس أنه قلب الأوضاع رأسا على عقب، وجعل من الواقع الاقتصادي الاجتماعي مجرد ناتج مترتب على «الفكرة» الدينية أو الميتافيزيقية أو المنطقية، على حين يريد ماركس أن يعيد الأمور إلى نصابها ويوقف الديالكتيك «على قدميه» بعد أن كان واقفا «على رأسه». هذا النقد يرفضه «سيباج»؛ لأن قلب الأوضاع هذا يمكن أن يحدث بالفعل؛ لأنه سمة أساسية من سمات العملية الرمزية التي ينفرد بها الإنسان، والتي تجعل للنواتج الرمزية - من فكر ولغة وعقيدة - استقلالا ذاتيا عن الأصل الذي نشأت منه، وقدرة على التأثير في الواقع ذاته، وتغيير الأسس الاقتصادية الاجتماعية؛ فنحن ها هنا في مجال لا يمكن التمييز فيه بين ما هو «أصل» وما هو «نتيجة»، وتلك كلها آراء تعدها الماركسية التقليدية تحريفات غير مشروعة؛ لأنها لا تتعلق بالاجتهادات في تفسير النظرية، بل الأسس التي يرتكز عليها. (6) البنائية والماركسية (6-1) ألتوسير
كان تفكير «لوي ألتوسير
Louis Althusser » أوسع وأشمل بكثير من تفكير «سيباج»، كما أن اتجاهات العام في تفسير الماركسية - وهو اتجاه بنائي في أساسه، وإن لم يكن هو ذاته يرحب كثيرا بهذه الصفة - قد تحددت معالمه قبل سنوات قليلة من ظهور كتاب سيباج عن الماركسية والبنائية. ومع ذلك فقد أرجأنا الكلام عنه إلى ما بعد عرض آراء سيباج حتى يكون الانتقال بينهما انتقالا إلى مزيد من التفصيل والتعمق في الموضوع. هذا فضلا عن أن ألتوسير ما زال مؤلفا خصب الإنتاج، وما زال صاحب مدرسة كاملة في التفسير الماركسي، في الوقت الذي توقف فيه إنتاج سيباج فجأة بموته السابق لأوانه.
وليس من الصعب أن يستدل المرء على طبيعة الظروف التي ظهر فيها التفسير البنائي للماركسية عند ألتوسير؛ إذ إن جهده الفلسفي يمكن أن يوصف بأنه رد فعل على رد فعل؛ فبعد النقد العنيف الذي وجه إلى الجمود الفكري الذي اتصفت به المرحلة الستالينية، حدث رد فعل في الاتجاه المضاد، وظهرت تفسيرات للماركسية تؤكد جوانبها الإنسانية وتحاول التوفيق بينها وبين كثير من المذاهب الفلسفية التي حاربتها طويلا، وكأنها تحاول إزالة صفات التحجر المذهبي وإنكار النزعة الإنسانية، وهي الصفات التي اتهمت بها ماركسية ستالين في أوساط كثيرة - منها الأوساط الماركسية ذاتها - في الخمسينيات من هذا القرن.
ولقد كان المفكر الذي حمل لواء هذه الدعوة إلى كسر جمود الماركسية التقليدية وإذابة جليد الاتجاه اللا إنساني في الستالينية هو «روجيه جارودي
Roger Garaudy »، ولو شئنا أن نلخص الطابع المميز لرد الفعل عند جارودي - بالقياس إلى الاتجاهات السائدة من قبل - لقلنا (مستخدمين لفظا أصبح شائعا في هذه الأيام): إنه هو الاتجاه إلى «الانفتاح» على الفلسفات الأخرى التي كانت تقف من الماركسية السابقة موقفا عدائيا صريحا، محاولا بذلك تعويض الدجماطيقية والتزمت والخصومة العنيفة التي اتسمت بها فترة عبادة الفرد الستالينية؛ ففي كتاب «النزعة الإنسانية الماركسية
Humanisme marxiste »، وكذلك في كتاب «آفاق الإنسان
»، قدم جارودي للماركسية تفسيرا إنسانيا وصفه بأنه يستخلص - «عن طريق التحليل النقدي للوجودية والفكر الكاثوليكي وللماركسية - نقاط الالتقاء الممكنة في المسعى المشترك الذي تبذله هذه المذاهب من أجل الوصول إلى الإنسان الكلي»، وواضح من هذا الوصف أنه يهدف إلى إثبات وجود نوع من التكامل بين أفكار ماركس وبين مذاهب أخرى كانت حتى ذلك الحين تخوض ضد هذه الأفكار معارك حامية؛ على أن جارودي قد ذهب في هذا البحث عن التكامل والسعي إلى التوفيق، ومحاولة إجراء «حوار» يسوده التفاهم مع التيارات الفلسفية الأخرى إلى حد أبعد مما ينبغي؛ إذ إنه أرجع الماركسية إلى أصولها المثالية، وخاصة عند «فشته
Fichte » وتجاهل الانقلاب الإبستمولوجي الذي قام به ماركس وإنجلز، وجعل التحول الاجتماعي راجعا إلى أسباب إنسانية تجريدية ولم يعط إلا أهمية ثانوية لمقولات المادية التاريخية والديالكتيك الموضوعي، وإذا كانت الماركسية قد كسبت - بمحاولة جارودي هذه - صداقة بعض التيارات التي كانت تعاديها كالوجودية والشخصانية، أو اتخذت صورة متقاربة معها، فإنها قد خسرت قدرا غير قليل من طابعها النضالي وقدرتها على نقد الأيديولوجيات المضادة لها، وفقدت جانبا كبيرا من طابعها العلمي الموضوعي.
ويمكن القول: إن أعمال ألتوسير كانت - في جانبها الأهم - رد فعل على هذا الاتجاه إلى إذابة الماركسية في رخاوة النزعة الإنسانية (ولهذا وصفناها من قبل بأنها رد فعل على رد فعل). وكانت سعيا إلى العودة بها إلى صلابة النزعة «العلمية
Scientificité »، وعودة إلى تأكيد مقولاتها المادية المستمدة من كتب مثل «الأيديولوجية الألمانية» و«رأس المال»، وإبرازا لطابعها المتميز الذي يرتكز على أسس لا يمكن الجمع بينها وبين تلك التي تقوم عليها الفلسفات البرجوازية، فلسفته هي بمعنى معين نوع من «السلفية» المتقشفة الصارمة، التي ترجع إلى المنبع وتنبذ التحريفات. ولكنها تقوم في الوقت ذاته بحركة مزدوجة؛ فهي في رجوعها إلى المنبع لا تكتفي بلعبة الاقتباس والاستشهاد بالنصوص، وهي اللعبة التي يندفع إليها كثير من الماركسيين، إما عن عجز منهم عن التفكير المستقل، وإما عن تقصير في متابعة تيارات الفكر التي أعقبت ظهور المؤلفات الأساسية للماركسية، وإما نتيجة الانشغال بالكفاح السياسي، ورغبة في خدمة الاعتبارات العلمية والكفاحية قبل أية اعتبارات أخرى. بل إن ألتوسير يعود إلى الأصول مزودا بكل إنجازات الفكر والعلم المعاصر، ويستخدم في فهم النصوص أحدث أدوات التحليل الفكري التي عرفت في النصف الثاني من القرن العشرين، وخاصة تلك التي تحققت في العلوم الإنسانية التي امتد إليها تأثير العلم الطبيعي، كعلم اللغويات المرتكز على فكرة البناء، والتحليل النفسي الجديد المتأثر بهذه الفكرة نفسها، مما أتاح إلقاء جديد على موضوعه من زوايا حديثة متعددة. وهكذا يمثل تفكيره عودة إلى المنبع وقفزة إلى الأمام في آن واحد، وهو - فضلا عن ذلك - لا يتجاهل المشكلات السياسية التي تشغل الماركسيين في الوقت الحاضر، وكل ما في الأمر أنه يؤكد الحاجة إلى منهج يتمشى مع الاتجاه الأساسي لماركس، ويتيح لنا معرفة الواقع بطريقة علمية، فهو ينظر إلى الماركسية بوصفها علما يأخذ هو على عاتقه صياغة قوانينه الأساسية، عن طريق هذه القوانين يمكن التصدي للمشكلات التي تواجه الإنسان المعاصر بثقة والإتيان بحلول أصيلة لها.
على أن من الخطأ أن ننظر إلى هذه العودة إلى المنبع على أنها مجرد شرح وإيضاح لفكر ماركس، فمرحلة الشرح قد تم تجاوزها منذ وقت طويل، بل لقد أصبحت كثرة الشروح المباشرة وتكرارها الممل مشكلة من المشكلات التي تواجه الفكر الماركسي. وكان من الضروري أن تأتي بعد ذلك مرحلة تقديم ذلك الفكر بطريقة منهجية جديدة، وإعادة تفسيره في ضوء المعرفة الجديدة التي تم اكتسابها في ميادين متعددة. بل إن نصيب الفكر المبتكر الخلاق في أعماق ألتوسير لا يقل عن نصيب الكتابات الأصيلة التي يقوم بتفسيرها، فإذا تذكر المرء ذلك المستوى الهابط الذي قدمت به الماركسية في كثير من الشروح المباشرة - التي امتلأت بالدعايات الساذجة وسطحت تفكير الفيلسوف نفسه - أمكنه أن يقدر أهمية العمل الذي قام به ألتوسير، الذي بعث حياة جديدة في الفكر الماركسي، و«أثبت أن المفكر يستطيع أن يكون ماركسيا وخلاقا في الوقت ذاته.»
36
ولقد كانت نقطة البداية الطبيعية في هذا الخلق الجديد للماركسية، هي نقد الاتجاهات السائدة في تفسير الماركسية، لا في عصره فقط، بل منذ أن ظهر ذلك المذهب؛ ذلك لأن هناك تفسيرا شائعا، له سمات محددة لا يكاد يشك فيها أحد، وهو تفسير تفقد فيه الماركسية أصالتها وتتحول إلى مجرد امتداد للهيجلية. هذا التفسير هو الذي أخذ ألتوسير على عاتقه مهمة نقده، بعد أن أطلق عليه اسم «الماركسية السوقية أو العامية
marxisme vulgair »، فعلى أي نحو انتقد ألتوسير هذا التفسير الشائع؟
في التفسير الشائع للماركسية تأكيد مفرط لتأثير هيجل في ماركس؛ فالماركسية تصور على أنها فرع من شجرة متعددة الأغصان، هي الهيجلية التي سارت إمداداتها - من بعدها - في اتجاهات اليمين والوسط واليسار. وهذا الأصل الهيجلي هو مصدر الخطأ الأكبر في الفهم الشائع؛ إذ إنه يؤدي إلى إغفال جوانب أخرى لم تكن هي التي تميزت بها هذه الفلسفة، ولم تكن هي موضع الجدة والأصالة فيها.
والواقع أن نظرة ماركس إلى الفكر تؤدي - منذ البداية - إلى افترق طريقه عن هيجل على نحو حاسم، فماركس لم يعرف ذلك الفكر المكتفي بنفسه، الذي هو أبرز السمات عند هيجل، وإذا كان الفكر والواقع عند هيجل يمتزجان في بوتقة واحدة، فإن هذا الامتزاج يتم عن طريق إضفاء الصبغة الفكرية على الواقع. وحين يقول هيجل: إن «كل واقع معقول، وكل معقول واقع»، فإن أساس قوله هذا هو طريقته الخاصة في إضفاء الطابع الفكري على الواقع؛ بحيث يكون الفكر هو الطرف الثابت، والواقع هو الطرف الذي يتشكل وفقا للفكر، والذي لا نفهمه إلا من حيث هو تعبير عن مقولات فكرية. أما في حالة ماركس فإن نقطة البداية مختلفة اختلافا جذريا؛ إذ إن التفكير عنده نوع من الإنتاج أو الإحداث، والفكر «ممارسة نظرية
» لا تنتج عن جهد الذات الفردية بقدر ما تكون حصيلة تفاعلات بين الذات وبيئتها التي تدخل فيها عوامل اجتماعية وتاريخية،
37
بل إن كل معرفة إنما هي نوع من الإنتاج، يقوم به المجتمع مثلما يقوم بإنتاج الثروة، والنظام الذي يخضع له «الإنتاج» في الحالتين متشابه. ولا شك أن هذه النظرة إلى الفكر بوصفه ناتجا اجتماعيا خاضعا لشروط مشابهة لتلك التي تخضع لها النواتج الاجتماعية الأخرى تشكل فارقا أساسيا ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار قبل أية محاولة للمقارنة بين فكر هيجل وماركس.
فإذا انتقلنا إلى مضمون فلسفة هيجل؛ وجدنا أن الرأي الشائع في هذا الصدد هو أن ماركس قد اقتبس الجدل الهيجلي على ما هو عليه، وإن كان قد جعله يعتدل بعد أن كان مقلوبا، واستخدمه في فهم الواقع المادي بعد أن كان يستخدم في تحديد مسار حركة الفكر؛ على أن ماركس قد افترق عن هيجل افتراقا تاما في تصوره لفكرة التناقض التي هي الفكرة المركزية في الجدل الهيجلي؛ فالحركة الجدلية تتم في الإطار الهيجلي عن طريق السلب الذي يعرض علينا، كما لو كان يتضمن قوة خفية تؤدي إلى التحريك. ويبدو أن في قلب الجدل الهيجلي إيمانا بنوع من الغائية الغامضة تتمثل في تلك الدينامية المنبعثة عن التناقض، والتي تدفع بالفكر إلى الأمام نحو مزيد من التعقيد، وتصل بهذا الفكر في النهاية إلى غايته المرسومة مقدما. وحين يقتبس الماركسيون التقليديون هذا التصور الهيجلي للجدل، ويطبقونه على مسار التاريخ، يصورون هذا المسار كما لو كان صراعا مستمرا بين الأبيض والأسود، يقوم فيه ملاك طاهر (هو المركب) بالتوفيق بينهما، مع إلحاق الهزيمة - جزئيا على الأقل - بالأسود. وهذا التبسيط هو ما يعترض عليه ألتوسير، ويراه تزييفا مثاليا لفكر ماركس.
والواقع أن ماركس، كما يفهمه ألتوسير، لم يكن مجرد ناقد لهيجل أو مصحح له، اكتفى باقتباس الجدل منه مع إيقافه على قدميه بدلا من رأسه. بل إنه أزال الزيف الهيجلي المثالي وأعاد إلى الحقيقة طابعها المعقد المتشابك، ولم يكن استمرارا لهيجل، بل كانت مهمته الرئيسية هي تفنيده وتبديد أساطيره. وهكذا لم تكن نقطة بداية ماركس هي الرغبة في إكمال مسار هيجل بعد تصحيحه، وإنما كانت هي «العودة إلى الوراء»، إلى التاريخ الحقيقي الذي شوهته الأيديولوجية الألمانية وبخاصة عند هيجل، وإلى العناصر التي حرفت في مذهب هيجل؛ ومن هنا فإن من الخطأ النظر إلى العلاقة بين ماركس وهيجل في ضوء فكرة «التجاوز والرفع
Aufhebung » الهيجلية؛ لأن ماركس لم يقوم أخطاء هيجل، وإنما بدد أوهامه، وعاد إلى الوراء من الوهم المتبدد إلى الواقع الذي لم يتنبه إليه هيجل؛ أي إلى الأسس العينية للحياة الاجتماعية، كما تتمثل في التاريخ والاقتصادي السياسي والاجتماع. فهو بالاختصار قد اقتحم أرضا جديدة واستمد تفكيره من مصادر مغايرة لتلك التي انطلق منها هيجل.
ولو قارن المرء بين ما قام به هيجل بالنسبة إلى السابقين عليه، وما قام به ماركس بالنسبة إلى هيجل؛ لأدرك الفرق بوضوح؛ فهيجل قد تجاوز بالفعل كلا من اسبينوزا وكانت «وفشته»، ولكن هذا كان تجاوزا ينطبق عليه لفظ
Aufhebung ؛ إذ إنه واصل السير في نفس طريق الفلسفة التأملية النظرية الذي سلكوه، واحتفظ بواحدية اسبينوزا وبالذات الفعالة عند كانت وفشته، مع تجاوزه للنظرة الأحادية الجانب عند كل منهم،
38
أما في حالة علاقة ماركس بهيجل فإن الأمر يختلف؛ إذ إنه اتخذ لنفسه منذ البداية طريقا مختلفا، وتخلى عن الوظيفة التأملية للفكر لكي يربط بينه وبين الممارسة العلمية ربطا أساسيا، وجعل للتفكير مهمة مغايرة لكل من سبقه، هي مهمة تغيير العالم لا مجرد تفسيره؛ أي إنه بدلا من أن يرتفع بتأملات هيجل إلى مستوى أعلى قد فجر مذهبه من أساسه.
على أن هذا لا يعني أن ماركس قد انفصل بفكره عن هيجل من أول عهده بالتأليف. فهناك قدر من الصواب في الرأي القائل: إنه قد بدأ هيجليا. ولكن المهم أن نفرق بين الفترة التي كان فيها ماركس دائرا في فلك «الإشكال الهيجلي
la probématique Hegelinre » وتلك التي أصبح له فيها إطاره الفكري الخاص، الذي يتسم بالانضباط العلمي، وتنطبق عليه المقولات البنائية؛ لذلك يقسم ألتوسير تفكير ماركس إلى مراحل: مرحلة الشباب (1840-1844م)، ومرحلة الانفصال أو الاعتزال
coupure
39 (1845م)، ومرحلة النضج (1845-1857م وما بعدها)؛ ففي المرحلة الأولى التي يمكن تسميتها بالمرحلة الأنثروبولوجية، كان اهتمام ماركس منصبا على الإنسان. وكان متأثرا بفوير باخ عندما جعل هدفه هو أن يحقق للإنسان ماهيته الأصيلة ومتأثرا بهيجل في مصطلحاته وطريقته التأملية في تقديم الحجج وحديثه كفيلسوف تجريدي. أما بعد «الاعتزال» فقد أصبح يعد المرحلة السابقة مرحلة «أيديولوجية»، وأخذ يبحث لنفسه عن مصطلحه الخاص، وازداد اهتماما «بالطابع العلمي» للفكر بدلا من طابعه الأيديولوجي، وأصبح مدار بحثه تحليل بنية النظام الاقتصادي والاجتماعي، بعد أن كان تحقيق ماهية الإنسان.
في هذه المرحلة لم ينفصل ماركس، في الواقع، عن هيجل فحسب. بل إنه انفصل عن التراث الفلسفي السابق كله. وتلك نقطة يؤكدها ألتوسير بقوة؛ إذ إن من أهم القضايا التي يلح عليها في تفسيره الخاص للماركسية، أن تفكير ماركس الناضج كان يتسم بالجدة الكاملة وكان يمثل انقطاعا أساسيا
rypture
بالنسبة إلى كل ما سبقه. فما هي السمة المميزة لتفكير ماركس في هذه المرحلة الرئيسية، مرحلة الجدة والاستقلال عن التراث الفلسفي السابق؟
لكي يتسنى لنا الإجابة عن هذا السؤال، ينبغي علينا أن نلقي الضوء على لفظ محوري في لغة ألتوسير، استخدمناه منذ قليل دون إيضاح لمعناه، وهو لفظ
(مستخدما بوصفه اسما لا صفة)؛ ففي رأي ألتوسير أن كل مذهب فكري له إشكاله الخاص، أو على الأصح: إطاره الإشكالي المميز، الذي تدور في نطاقه كل تفاصيله وجزئياته. بل إن كل أيديولوجية ينبغي أن تفهم على أنها تؤلف كلا تجمعه وحدة باطنة، هي وحدة ذلك الإطار الإشكالي أو التساؤلي الذي تتصدى للإجابة عنه، والذي تنفرد به عن غيرها، ويشكل البؤرة المركزية المميزة لتكوينها النظري،
40
وسيان أن ننظر إلى هذا المحور الأساسي في ضوء تشبيه الإطار؛ بحيث يكون هو الهيكل الذي تندرج «في داخله» كل التفاصيل ولا تفهم إلا من خلاله، أو في ضوء تشبيه النواة المركزية؛ بحيث تكون هذه التفاصيل دائرة «حوله» ومتجهة نحوه، فإن المهم في الأمر أن فهم هذا المحور أساسي من أجل الوصول إلى معنى كل قضية من القضايا التي تثار في المذهب أو الأيديولوجية المعينة.
على أنه لا يتعين أن يكون المفكر على وعي بالإطار الإشكالي الذي يدور في داخله تفكيره، أو أن يصرح به في كتاباته بوضوح. بل إن هذه هي مهمة المفسر الذي ينبغي عليه أن يستخلصه من كتابات بطريقة ضمنية ، وأن يقرأ ما بين السطور، ولا يكفي بما هو مصرح به. وفي كثير من الأحيان لا يكون السؤال الأساسي أو المحوري هو ذلك الذي «يبدو» بارزا في كتابات الفيلسوف؛ ففي كتاب «رأس المال» يبدو أن الفكرة الرئيسية هي فكرة العمل وعلاقته برأس المال. ولكن التفسير الصحيح في رأي ألتوسير ينبغي أن يرتكز على التقابل بين القيمة والقيمة الاستعمالية
valeur d’usage
وعلى فكرة فائض القيمة، ومن هاتين الفكرتين يستخلص «البناء» الأساسي الذي أخذ ماركس يطوره وينميه طوال الأجزاء الثلاثة من كتابه الرئيسي، بغض النظر عن الترتيب الفعلي الذي سار عليه من جزء إلى آخر.
هذا «البناء» المميز للماركسية ذو طابع موضوعي، أصبحت بفضله الماركسية «علما» بالمعنى الصحيح. أما تفسير الماركسية من خلال كتابات الشباب التي كانت تنظر إلى الإنسان بوصفه الموضوع الأساسي للبحث، وتعده المحرك الوحيد للتاريخ، وتركز جهودها على تحقيق صورة مثلى للإنسانية، فأقل ما يقال عنه إنه يصبغ الماركسية بصبغة رومانتيكية تضيع معها علميتها وموضعيتها وانضباطها، فأصل البحث الماركسي ومحوره هو ذلك البناء الاجتماعي الاقتصادي الذي يحمل الإنسان في طياته، والذي يساعدنا - إذا شئنا - على أن نفهم الإنسان في داخله، وإن لم يكن مستمدا من المقولات الإنسانية؛ لأنه يتعلق بحقيقة مستقلة عنها، لها قوانينها الموضوعية، شأنها شأن أي بناء آخر. وكل تحليلات ماركس للصراع الطبقي من هذا النوع المرتكز على قوانين بنائية تنتمي إلى تركيب المجتمع ذاته، وتفرض نفسها على الإنسان.
ولكي يعمل ألتوسير حسابا لهذا البناء المعقد الذي هو محور التساؤل ومدار البحث عند ماركس، كان من الضروري أن يتجاوز المفهوم الساذج للحتمية الاقتصادية، الذي روجت له الماركسية العامية. فهذا التفسير الساذج يرد كل شيء إلى عامل واحد، هو العامل الاقتصادي، ويقول بوجود علاقة سببية مباشرة بين البناء الأدنى والبناء الأعلى، ويغفل التعقد الشديد للواقع، واستحالة تطبيق مثل هذه الحتمية المباشرة ذات الاتجاه الواحد في مجال معقد كذلك الذي تصدت له الماركسية. وفي مقابل ذلك يقول ألتوسير: إن نوع الحتمية الوحيد الذي يمكن تصوره في هذا المجال هو ما يسميه بالحتمية المتبادلة أو المعقدة
surdétermination ، فمن الخطأ في نظره تفسير ماركس على أساس القول بعنصر رئيسي ذي طبيعة اقتصادية تخضع له كل العناصر الأخرى التي تعد «ثانوية» بالقياس إليه. بل إن الحقيقة الأصلية معقدة بطبيعتها، والحتمية فيها متبادلة دون أفضلية لواحد من عناصرها على الآخرين. وهكذا يستخدم ألتوسير مقولة فكرية تلائم تعقد الموضوع الذي يبحثه، ويستعين بمعطيات ذهنية جديدة يراها أصلح للتعبير عن المعقولية الكامنة في الماركسية، وكما أن علماء الفيزياء أدركوا - في مطلع القرن العشرين - أن الحتمية المباشرة ذات الاتجاه الواحد لا تصلح للتعبير عن سلوك الجزئيات في المجال الذري، وأدخلوا مفاهيم جديدة تحفظ لهذا المجال طابعه الموضوعي، وتعمل في الوقت ذاته حسابا لتعقده وتشابكه، فكذلك يفسر ألتوسير الماركسية على أساس فكرة العلية المتعددة الجوانب، التي لا يكون فيها مركز مميز لأي عنصر بعينه من عناصرها؛ فالأسباب أو العلل في المجال الاجتماعي شديدة التعقيد، والحركة لا تتولد فيه عن طريق إضافة الأسباب بعضها إلى بعض خلال مسارها، وهي تمارس تأثيرها على المستويات المختلفة،
41
وبذلك يتسع نطاق المعقولية على نحو يتجاوز بكثير الفهم التقليدي للحتمية الاقتصادية.
وليس من المرء بحاجة إلى تفكير طويل لكي يدرك مدى تأثير فكرة «البناء» على مفهوم «العلية المتبادلة» عند ألتوسير، فهذه الفكرة هي التي تتيح فهم التفاعلات المتبادلة الكثيرة التي تحدث على مستويات مختلفة للواقع الاجتماعي. ولا شك أن ألتوسير قد أضاف إلى الماركسية بعدا عميقا حين استخدم، في تفسيره الفلسفي، مفاهيم جديدة توصلت إليها البحوث العلمية المعاصرة، فاستطاع بذلك أن يحقق ما عجزت عنه أدوات التفكير الكلاسيكية، وتمكن من الإحاطة على نحو أكمل بالعلاقة البالغة التعقيد بين البناء الأدنى والبناء الأعلى، متجنبا ذلك التبسيط المخل الذي كانت الماركسية العامية مهددة دائما بالوقوع فيه.
وعلى الرغم من أن كتابات ماركس لم تعبر عن هذا الاتجاه إلا بصورة ضمنية، فقد كانت فيها بذور مؤكدة أكن تنميتها فيما بعد، فعلى حين أن بعض الماركسيين يعتقدون أن كل مجتمع بشري ينبغي أن يمر بنفس المراحل المحددة: من البدائية إلى الرق ثم الإقطاع وبعده الرأسمالية؛ لينتهي إلى الاشتراكية، فإن كتابات ماركس ذاتها قد تضمنت ما يوحي لنا بتفسير مخالف، يساعد على كشف ما هو مميز لكل مجتمع، ولا ينظر إلى التاريخ بنظرة تراكمية تؤدي فيها كل حضارة إلى ظهور حضارة أخرى تمر بنفس المراحل، ويتمثل هذا التفسير المخالف في تنبيه ماركس إلى ما أطلق عليه اسم «أسلوب الإنتاج الآسيوي»، الذي يدل على رغبته في فهم واقع الشعوب الآسيوية، وكثير من المجتمعات التي نطلق عليها اليوم اسم «العالم الثالث» دون الحاجة إلى وضعها في قوالب أوروبية أو تأكيد انطباق مقولات التاريخ الأوروبي عليها بطريقة مبسطة موحدة الاتجاه، وما هذا إلا مثل واحد يدل على أن كتابات ماركس كانت تتضمن بالفعل بذورا لنظرة جديدة إلى الحتمية، مخالفة للحتمية المبسطة ذات الاتجاه الواحد، التي اعتاد الماركسيون اللاحقون أن ينسبوها إليه.
بقي أمامنا في هذا العرض الذي نقدمه لتفسير ألتوسير البنائي للماركسية سؤال أخير، هو: هل نجح هذا التفسير بالفعل في تجاوز كل العقبات التي تقف في وجه التفسير التقليدي للماركسية؟ وهل تمكن من أن يعبر - على نحو جامع - عن الماهية الأصلية لتفكير ماركس؟ من المؤكد أن ألتوسير مفكر قدير، متمكن من مادته ومن أسلوبه، وأن عمقه قد أفاد الماركسية كثيرا في إنقاذها من خطر «التسطيح» الذي تتعرض له على يد التفسيرات المفرطة في التبسيط. ولكن المشكلة في أمثال هذه التفسيرات المتعمقة هي أنها أحيانا تقوم بعملية «إسقاط» تطغى فيها أفكار المفسر ذاته على الفيلسوف الذي تفسره، كما أنها قد تضطر - من أجل الاحتفاظ بتماسكها الداخلي - إلى تجاهل بعض الحقائق الأساسية التي تقف عقبة في وجهها، ويبدو أن ألتوسير معرض للوقوع في أخطاء من هذين النوعين.
ولعل أول ما تجدر الإشارة إليه - في هذا الصدد - هو الاتجاه العام لتفسير ماركس عن ألتوسير، فهو يريد أن يثبت أن الإطار الذي وضعه ماركس لتفكيره كان جديدا كل الجدة، وربما كان من حقنا أن نتساءل عما إذا كانت مبادئ الماركسية ذاتها تسمح بوجود إطار جديد كل الجدة لدى أي مفكر؛ ذلك لأن هذا معناه أن يكون المفكر مختلفا عن كل السابقين غير متأثر بهم، فهل تعد هذه النظرة إلى تطور الفكر، التي تؤكد وجود حالات «انقطاع» حاسم فيه، وتنكر الاتصال التاريخي بالنسبة إلى هذه الحالات بعينها، وتقول بإمكان وجود بداية مطلقة في الفكر؛ هل تعد هذه النظرة متمشية مع وجهة النظر الماركسية ذاتها في تطور الفكر؟ أشك كثيرا في أن يكون الجواب عن هذا التساؤل بالإيجاب.
وفي سبيل تأكيد هذه البداية المطلقة، أنكر ألتوسير أن يكون ماركس قد تأثر - في مرحلة نضوجه - بالمقولات الفكرية الهيجلية، وتلك نقطة أخرى لا يمكن قبولها بسهولة. وكانت هي على وجه التحديد من أكثر النقاط التي اعترض عليها ماركسيون آخرون من نقاد ألتوسير؛ ذلك لأن ألتوسير تجاهل هنا أن ماركس نفسه قد شهد في كتاباته بتأثير المنهج الديكالتيكي الهيجلي عليه، وبأنه قد اقتبسه بعد أن أعاده من وضعه المقلوب إلى وضع الاعتدال، كما تجاهل لغة ماركس التي ظلت هيجلية حتى كتاب «الأيديولوجية الألمانية» على الأقل، وتجاهل تأكيد ماركس أن هيجل هو الذي قدم إليه الأداة المنطقية التي تمكن بواسطتها من الانتقال من أبسط العلاقات وأقربها إلى الطابع المباشر - أي العلاقة بين شخصين في التعامل بسلعة معينة - إلى النقد العام للنظام الرأسمالي بأسره، متبعا نفس المنهج الذي اتبعه هيجل في انتقاله من أبسط المفاهيم حتى أعقدها، في كتابي «المنطق» و«ظاهريات الروح»، وتجاهل أخيرا كل ما قاله لينين بعد ذلك عن أهمية هيجل واستحالة فهم ماركس دون دراسة منطق هيجل، والأمر الذي أتاح له هذا التجاهل هو تلك التفرقة التي وضعها بين ما عبر ماركس عنه صراحة وعن وعي، وما كان ماركس يعنيه بالفعل، فهو لا يكترث بالتصريحات الفعلية بقدر ما يهتم بالمعاني الضمنية التي لا تفهم إلا من خلال دراسة «النسق» الفكري لكتاباته وتحليل بنائها، بغية الوصول إلى دلالتها التي تظهر على السطح الخارجي. وهكذا كان ألتوسير يقلل من شأن تأكيد ماركس أنه قلب الجدل الهيجلي رأسا على عقب، ويصفه أنه مجرد مجاز لفظي، وهي طريقة في التفسير يمكن أن تؤدي إلى أية نتائج يريدها المرء، ما دام لا يقيم وزنا لما يقوله المفكر نفسه، وأما عن شهادة لينين، فمن الملاحظ أن ألتوسير قد قام بنفس هذا العمل عن لينين نفسه (في كتاب «لينين والفلسفة
Lenine et la philosophie »)؛ أي إنه فسره تفسيرا «علميا» مبالغا فيه، وتجاهل الارتباط الوثيق بين البناء الشكلي والمضمون الفلسفي في كتاباته، كما تجاهل المضمون الثوري الذي ينبغي للمرء أن يعمل حسابه في كل قراءة لتلك الكتابات، إلى جانب ما فيها من شكل علمي خارجي.
42
والواقع أن حرص ألتوسير الشديد على كشف «البناء» العلمي المنضبط في كتابات ماركس، قد أدى به إلى السير في متعرجات الاستدلال الفلسفي، التي يتوه فيها القارئ معه دون أن يعرف كيف يعود إلى الواقع الذي بدأ منه. وفي خلال هذا المسار المتعرج، والذي ينبغي أن نعترف لألتوسير بالقدرة على سلوكه دون أن يفقد الخيط الجامع بين أطراف براهينه، وبالتمكن التام من شاد الاستدلالات تجريدا، في خلال ذلك يحس القارئ بأن النهاية شيء والبداية شيء آخر، وبأن البناء الشكلي للتفسير أخذ يطغى بالتدريج على المضمون الفكري، حتى يتحول الأمر في النهاية إلى مجرد الاستمتاع بالجمال الشكلي لهذا البناء مع نسيان الهدف الأصلي الذي كان ماركس يضعه نصب عينيه في كل ما كتب.
أما هذا الهدف الأصلي، فهو الإنسان أولا وأخيرا، ومهما قيل عن وجود بناء علمي موضوعي لا شأن له بالاعتبارات العاطفية الإنسانية عند ماركس (وكثير من هذا الذي يقال صحيح)، فإن كل بناء شيده ماركس كان له - في النهاية - هدف إنساني. صحيح أن ماركس قد استبعد الاعتبارات العاطفية من تفكيره، ولم يكن في مرحلته الناضجة يهتم بتحقيق صورة مثالية للإنسان بقدر ما كان يهتم بكشف القوانين العلمية الموضوعية للعلاقات الاجتماعية التي تعلو على الأشخاص، كل هذا صحيح. ولكن هذه الحجج «العلمية» كلها كانت تستهدف - آخر الأمر - القيام بثورة «إنسانية» تؤدي إلى إقامة علاقات اجتماعية يختفي فيها استغلال الإنسان للإنسان، ولو لم يتذكر المرء هذا الهدف النهائي للماركسية على الدوام؛ لكان - على حد تعبير أحد نقاد ألتوسير - كالمستجير من دجماطيقية النزعة الإنسانية بدجماطيقية أخرى أفدح وأخطر، هي دجماطيقية الشكلية التجريدية.
43
والواقع أن ألتوسير كان على حق في محاولته تخليص فكر ماركس من التشويهات التي أصابته على يد أولئك الذين كان هدفهم الأوحد تحقيق غايات علمية وبرجماتية؛ بحيث نسبوا إليه نزعة إنسانية شبه مثالية لكي يرضوا مجتمعا متشبعا بالأفكار والمبادئ الليبرالية، ويقربوا أفكاره إلى عقول الناس في مثل هذا المجتمع، وبهذا المعنى كان تفسير ألتوسير نوعا من العودة إلى الأصالة بعد التشويهات العملية، التي لا تقيم وزنا كبيرا للمذهب في صورته النقية، ولا يملك المرء إلا أن يتعرف بأن ألتوسير كان على حق - ولو بصورة جزئية - حين هاجم أولئك الذين انطلقوا - في تفسيرهم لماركس - من مفهوم مجرد للإنسان، وارتكزوا على مفاهيم مثل «الاغتراب» لم يحاولوا أن يربطوها بجذور اجتماعية ملموسة. وكان على حق حين أكد أن العلم الإنساني الذي شيده ماركس في «رأس المال» لم ينطلق من مفهوم الإنسان، حتى لو كان ذلك هو الإنسان الواقعي في علاقاته الإنتاجية المحددة، بل انطلق من تحليل بناء الإنتاج ومن فكرة الطبقات الاجتماعية. ومن القوانين الموضوعية للاقتصاد التي توجد مستقلة عن وعي الإنسان بها، بل وتتحكم في هذا الوعي.
ولكن عندما يصل الأمر بهذا التفسير إلى رفع شعار «موت الإنسان» (بالمعنى المحدد في الفقرة السابقة)، فإن المرء لا يملك إلا أن يعد هذا تطرفا غير مشروع؛ فالقضية الكامنة من وراء هذا الشعار - وهي أن هناك تعارضا بين الاعتراف بالإنسان كنقطة بداية للبحث، وبين الوصول إلى الحقائق الموضوعية للمجتمع - هي ذاتها قضية مشكوك فيها إلى حد بعيد، وإذا كانت تلك الحقائق الموضوعية الذي ركز عليها ألتوسير تفسيره هي البناء الطبقي وعلاقات الإنتاج وقوانينها اللاشخصية، فمن المهم أن نذكر أن عملية الإنتاج نفسها عملية إنسانية، بل هي التي تميز الإنسان عن سائر الحيوانات التي لا «تنتج» شيئا لكي تعيش، وتلك حقيقة أكدها ماركس نفسه، وخطورة هذا التطرف في التفسير تكمن في أنه يصور الأمر كما لو كانت في المجتمع قوى تعمل بذاتها - بصورة تلقائية لها قوانينها الخاصة - على نحو مستقل عن الإنسان الذي هو في نهاية الأمر صانعها وسبب وجودها.
ولذلك نعتقد أن «ميلو
Milhau » كان على حق حين انتقد تطرف ألتوسير في إنكار النزعة الإنسانية بقوله: «إذا اعترفنا بأن الماركسية منظورا إليها على أنها تصور علمي لتطور المجتمع لم تكن نزعة إنسانية بمعنى نظرية تستمد نقطة انطلاقها من الإنسان، وإذا سلمنا بأنها على عكس ذلك، هي الدراسة العلمية لتطور المجتمع في تحديداته الذاتية والموضوعية، فإنه يظل من الصحيح رغم ذلك أن هناك نزعة إنسانية ماركسية تعبر عن أماني الطبقات المضطهدة في صراعها من أجل التحرر . هذه النزعة الإنسانية ليست إضافة ذات طابع روحي تلصق أو تلحق بنظرية علمية، بل هي تركز نظريا على حقيقة واقعة، هي وجود أفراد من البشر يسلكون في العمل المنتج وفي صراع الطبقات بكل أشكاله وفقا لشروط محددة لا تتوقف عليهم، وتترتب على سلوكهم هذا تغييرات على مستويات متعددة، سواء أكان سلوكهم واعيا أم لم يكن، وسواء أكانت هذه التغيرات متعمدة أم لم تكن، وهذه التغيرات بدورها تتخذ موضوعا لدراسات تجريبية وعينية، وفقا لمقولات المادية التاريخية، (مما يؤدي إلى ظهور) دراسة إنسانية علمية لا يمكن أن تستمد مبادئها إلا من المادية الجدلية والمادية التاريخية مفهومتين بمعناهما الشامل.»
44
وهكذا يكون من الممكن التوفيق بين الاهتمام بالقوانين الموضوعية للمجتمع والاهتمام بالإنسان. أما حين يصل الأمر عند ألتوسير إلى حد استبعاد مفاهيم أساسية عند ماركس، مثل مفهوم النزعة الإنسانية والاغتراب و«البراكسيس» والنزعة التاريخية على أساس أنها كلها تمثل مرحلة «أيديولوجية» سابقة على الماركسية الناضجة، وعلى أساس أنها تشكل عقبة في وجه الفهم البنائي العقلاني للمجتمع، فإن هذا يعني أن صاحب هذا التفسير لا يتحدث عن ماركس الحقيقي بقدر ما يتحدث عن ماركس كما يتلاءم مع تفكير المفسر ذاته؛ أعني ماركس التجريدي الذي وضع الإنسان وواقعه العيني «بين قوسين»، واكتفى ببناء طاغ على الإنسان، ولتحقيق ذلك لجأ ألتوسير إلى التمييز بين ما قاله ماركس فعلا، وما كان يعنيه «حقيقة» ولكن بصورة ضمنية، ومثل هذا التمييز بين التعبير الصريح للمفكر وبين «ما يقصده بالفعل» هو دائما محفوف بالخطر، يكون من الصعب معه وضع حد فاصل بين التفكير الأصلي للفيلسوف المراد تفسيره، وبين الاتجاهات الخاصة التي يريد المفسر - بناء على تكوينه الفكري الخاص - أن ينسبها إليه، وبقدر ما يكون في مثل هذا التفسير من جدة ومن أصالة - وهي صفات تتوافر في ألتوسير بغير شك - فإنه يظل على الدوام معرضا للانحراف عن نقط البداية التي انطلق منها، ولفقدان الطريق الموصل إلى حل للمشكلات التي بدأ بالتصدي لها.
خاتمة: البنائية والإنسانية
لم يكن ألتوسير هو الفيلسوف البنائي الوحيد الذي وجهت إليه تهمة إنكار الإنسان من أجل تأكيد نسق أو بناء يعلو عليه ويتجاوزه، فواقع الأمر هو أن البنائية - في شتى اتجاهاتها - معرضة لهذا الاتهام، وبعض ممثليها لا ينكره ولا يجد فيه ما يدعوه إلى اتخاذ موقف الدفاع عن نفسه. وفي البنائية - كمذهب - اتجاه عام إلى تأكيد طغيان النسق على الإنسان؛ بحيث يعجز الإنسان عن التحكم في نشأته أو في غايته، ولا يتبقى أمامه إلا إخضاع دراسة الإنسان للمعقولية والموضوعية الكاملة هو الذي بدا - في نظر الكثيرين - مهددا للإنسان نفسه؛ بحيث تبلورت حوله كل الانتقادات التي وجهت إلى البنائية من شتى الاتجاهات.
ولعل أبرز العناصر التي انصب عليها هجوم نقاد البنائية، هو نظرتها السكونية
Statique
إلى الإنسان وإلى تاريخه، فعلى قدر نجاح البنائية في التعبير «التكوين الثابت» للإنسان عبر العصور المختلفة، نجدها تخفق في تعليل التطور والتقدم، وتكاد تذهب إلى حد القول بأن الاعتقاد بالتقدم وهم، وبأن التحديدات التاريخية سراب خداع، ويترتب على هذه النظرة السكونية عجز البنائية عن تفسير «منشأ» البناءات التي تدور حولها أبحاثها، وعن تفسير كيفية الانتقال من مرحلة إلى أخرى، أو من بناء إلى آخر؛ ففي أبحاث ستروس - التي استهدفت الوصول إلى التكوين الثابت للعقل من خلال الدراسة الأنثروبولوجية للحضارة، نعجز عن تعليل كيفية ظهور هذا العقل أو نشوئه، ويبدو وكأن هذا العقل كان «هناك » على الدوام، كما نعجز عن تفسير تحول هذا العقل إلى صورته الحديثة التي أنتجت العلم وأنتجت البنائية ذاتها مظهرا من مظاهر العلم. وفي تحليلات ألتوسير ينصب التأكيد على فهم العناصر المتزامنة
synchroniques . أما الانتقال من أسلوب في الإنتاج إلى آخر، والطريقة التي تكون بها هذا الأسلوب في فترة تاريخية معينة، فهذا ما نعجز عن الاهتداء إليه في نطاق أبحاثه؛ أي إن ألتوسير بدوره لا يقدم تعليلا كافيا «لمنشأ» الظواهر التي يبحثها، أو «لنقاط التحول» التاريخية الحاسمة التي تطرأ عليها، والتي يتعين إذا شئنا تفسيرها أن نخرج عن النطاق الذي تقيد به ألتوسير، ونعود إلى البشر والإطار الذهني الذي كانوا يعيشون فيه. أما «فوكو» فكان إنكاره للتاريخ صريحا. بل إنه يتجنب كل ما له صلة بمقولات التغير والتحول، ولا يرى في كل مرحلة تاريخية إلا ثوابها فحسب، ويصل به الأمر إلى حد التشكيك في مفهوم «الإنسان» نفسه، من حيث هو مفهوم يصلح لإقامة دراسة علمية موضوعية، مؤكدا أن الإنسان ليس إلا «ثنية خفية
ride » في الرمال.
45
ومن النتائج الهامة التي ترتبت على إنكار مفهوم الإنسان، وإسقاط التاريخ من الحساب، هجوم بعض البنائيين على المفهوم الجدلي للعقل، واعترافهم بعقل واحد فقط هو العقل التحليلي، وقد ظهر ذلك واضحا في الفصل الذي خصصه ستروس لمهاجمة كتاب «نقد العقد الجدلي» لجان بول سارتر، فهو في هذا الفصل ينكر أن يكون هناك استخدام آخر للعقل غير الاستخدام التحليلي، ومن ثم فإن كل اتجاه إلى البحث عن منشأ الظواهر وتاريخها وتطورها هو اتجاه ثانوي، يمكن أن يضاف إلى العقل التحليلي. ولكنه لا يمكن أن يكون بديلا عنه، فما يسمى بالعقل الجدلي هو الجهد الذي يبذله العقل التحليلي عندما يريد أن يقوم بمغامرات، ويشيد الجسور ويعبرها، وينتقل من مواقعه. ولكنه ليس على الإطلاق «نوعا آخر» من العقل «يختلف» عن العقل التحليلي أو يحل محله، ويظل الطابع الدائم للعقل الإنساني هو التحليل الذي يكشف عن البناءات الثابتة، والذي يوصلنا هو وحده إلى المعقولية في فهم الظواهر.
على أن البعض الآخر من أنصار البنائية يأخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن المذهب ضد هذه الاتهامات الموجهة إلى تصور البنائية للإنسان؛ ومن ثم للتاريخ والعقل الجدلي، وهم ينطلقون في دفاعهم هذا من مبدأين أساسيين: أولهما وجود سوء فهم لتلك المقولات التي تتهم البنائية بأنها تنكرها، وثانيهما إمكان التوفيق بين البنائية وبين تلك المقولات مفهومة بمعناها الصحيح.
أول هؤلاء المدافعين هو بياجيه، وقد عرضنا في مستهل هذا البحث لرأيه في إمكان التوفيق بين البنائية والنزعة التاريخية، وتساؤله عن الحكمة في إصرار البنائيين على النظرة السكونية إلى المعرفة البشرية. وحسبنا الآن أن نعرض رأيه في النقد الذي أشرنا إليه في النقطة الأخيرة، وأعني به تصور العقل في البنائية؛ ففي رأي بياجيه أن ستروس كان على صواب حين قال: إن العقل الجدلي يضاف إلى العقل التحليلي وليس بديلا عنه، وهو بدوره يؤمن بأن كلا منهما طريقة خاصة في استخدام العقل. ولكنهما متكاملان وليسا متنافرين، فمهمة العقل التحليلي في العلم هي القيام بالتحقيق والتثبيت من صحة القضايا
verification ، ومهمة العقل الجدلي أو التركيبي هي أن يعطينا القدرة على الإبداع والتقدم، وهي قدرة يفتقر إليها العقل التحليلي، وفي كثير من الأحيان يتم التقدم في العلم عن طريق عملية النفي
négation
التي يهدم بها العقل الجدلي معتقدات كثيرة زائفة تعترض طريق العلم، أو ينتزع مبدأ علميا يعتقد الناس بصحته المطلقة من مكانته الرفيعة، ويضع محله مبدأ آخر أكثر منه مرونة، وأقدر منه على تكوين مركب يوسع نطاق العلم. وهذا ما حدث حين أنكرت الهندسة اللاإقليدية مصادرة التوازي، مما أدى إلى قيام هندسات أشمل من هندسة إقليدس، أو حين أنكر المناطقة المعاصرون مبدأ الثالث المرفوع، فترتب على ذلك ظهور المنطق متعدد القيم،
46
وهكذا فإن بياجيه - مع اعترافه بوحدة العقل البشري وبالدور الرئيسي للعقل التحليلي في العلم - يؤكد إمكان التوفيق بين هذا الرأي وبين أنصار العقل الجدلي في العلم، يؤكد إمكان التوفيق بين هذا الرأي وبين أنصار العقل الجدلي، إذا اعترفنا بأن هذا الأخير يمثل طريقة مثمرة في استخدام العقل العلمي، وأنه هو الذي يتيح للعلم فرصة التحرك نحو أنساق أو بناءات أوسع وأشمل.
أما الاتهام القائل بتجاهل البنائية للإنسان أو للنزعة الإنسانية بوجه عام، فإن بياجيه يرد عليه أن هذا اتهام مبني على سوء فهم لمعنى النزعة الإنسانية؛ ذلك لأن موجهي هذه التهمة يعرفون الذات الإنسانية على طريقتهم الخاصة، ثم ينعون على البنائية أنها تهدم هذا الذي يرون أنه هو تلك الذات، وحقيقة الأمر - في رأي بياجيه - هي أن البنائية تفرق بين الذات الفردية - التي لا تتخذها البنائية موضوعا للبحث على الإطلاق - وبين «الذات المعرفية»
epistémique ، أي تلك النواة المعرفية التي تشترك فيها الذوات الفردية كلها على مستوى واحد، كذلك تفرق البنائية بين ما تحققه الذات بالفعل، وبين ما يصل إليه وعيها، وهو محدود بطبيعته، وما تركز عليه البنائية اهتمامها هو تلك العمليات التي تقوم بها الذات، وتستخلصها بالتجريد من أفعالها الذهنية العامة، ومن هذه العمليات تؤلف البناءات التي تستخدمها الذات في نشاطها العقلي الذي لا ينقطع؛ ومن هنا لم تكن عملية تكوين البناءات واعية، ويرى بياجيه أن هناك سوء فهم يكمن وراء الاعتقاد بأن التركيز على هذه العمليات اللاشخصية العامة - التي تتكون منها البناءات - معناه اختفاء «الذات» الإنسانية؛ إذ إننا ها هنا في مجال العلاقات الشخصية، وإنما نحن في مجال «المعرفة». وهذا فارق عظيم الأهمية؛ ففي مجال المعرفة نتخلى عن اتجاهنا التلقائي إلى التمركز حول أنفسنا، ونتحرر من ذاتية العلاقات الشخصية، ولا يكون للذات وجود - بوصفها ذاتا عارفة - إلا بقدر ما تعمل على إيجاد مركبات بين عناصر معرفتها، وبقدر ما تكشف عن ترابطاتها المتداخلة، التي تتولد منها البناءات،
47
وبالاختصار فإن تلك الذات التي تصور سارتر في نقده أن البنائية تنكرها، هي الذات الشخصية التي تركزت عليها فلسفته. ولكنها ليست الذات التي تشيد بناء العلم، والتي يتحتم عليها - بحكم طبيعة عملها - أن تلجأ إلى تجريدات لا شخصية، والتي لا نستدل على وجودها إلا من هذه التجريدات.
وعلى أية حال؛ ففي استطاعة المرء أن يدرك بسهولة أن هذا الاهتمام بالبناءات التجريدية قد انبثق - في حالة البنائية - من دراسة متعمقة لعدد كبير من الظواهر الإنسانية الأصيلة، كالأساطير والأحلام والطقوس البدائية، ولو قارنا بين موقف البنائية وموقف الوضعية المنطقية في هذا الصدد لاتضح لنا أن هذه الأخيرة هي الأحق - بغير جدال - بأن توصف بتجاهلها للإنسان، فقد استبعدت الوضعية المنطقية - باسم العلم أو النظرة العلمية - كل هذه الظواهر من مجال «ما له معنى»، وأبت أن تعترف لها بأي نوع من الحقيقة؛ حرصا منها على فهمها الخاص الشديد الضيق للحقيقة وللمعرفة العلمية التي تنحصر فيما يقبل التحقيق
verification ، أما البنائية فكانت علمية بمعنى أوسع بكثير، يتسع لأنواع من النشاط ومن التجارب الإنسانية التي ظلت تعد حتى ذلك الحين داخلة في باب «اللامنطقي» أو «اللامعقول»، وأتاح لها هذا التوسيع لحدود النشاط العقلي أن ترد اعتبار الإنسانية طوال الجزء الأكبر من تاريخها، وهو ذلك الجزء الذي كان تسوده الأساطير والطقوس والنظم البدائية، كما أتاح لها الوصول إلى معنى جديد للمعقولية، وهو ذلك الذي يهتدي إلى تركيبات عقلية في تلك الظواهر التي تبدو في الظاهر أبعد ما تكون عن العقل.
ولقد انتهى «سيباج
Sebag » في دفاع آخر عن البنائية ضد تهمة إنكار الإنسان إلى نتيجة مماثلة ولكن من زاوية أخرى، فهو يعترف بأن البناءات - التي هي ذات تركيب رياضي ومنطقي - يمكن أن تفهم على أنها مستقلة عن إنتاج الإنسان لها؛ ومن ثم فلا يمكن تفسير مصدر إلا عن طريق الاعتراف بوجودها «قبليا» على نحو لا يخفف من غموض المشكلة الأصلية في شيء، أو عن طريق افتراض لاهوتي هو وجود إله يجعل تركيب الأشياء ذاتها قابلا للحساب الرياضي
Dieu calculateur ،
48
وهو فرض يعبر عن العجز عن حل المشكلة؛ على أن «سيباج» يرد على هذا النقد معترفا بأن كل ما ينتمي إلى مجال الإنسان لا بد أن يكون من صنع الإنسان؛ ومن ثم فلا يصح أن نتصور البنائية على أنها نظرية تجعل أصل الأنساق التي تفسر بها الظواهر الإنسانية خارجا عن نطاق الإنسان، فمسألة ارتباط اللغة والأسطورة والدين والمجتمع بالإنسان ونشاطه العقلي هي مسألة لا جدال فيها . ولكن من الواجب أن نفرق بين مقاصدنا أو نوايانا الخاصة حين نستخدم اللغة أو الأسطورة مثلا، وبين ذلك النسق الذي ينبغي أن نراعيه كلما نطقنا كلاما لغويا أو عرضنا موضوعا أسطوريا، فلكي يكون كلامي مفهوما ينبغي أن ألتزم قواعد معينة، وحتى لو كنت من أنصار التجديد في اللغة فلا بد أن أخضع في هذا التجديد لمبادئ معينة في النسق اللغوي ذاته، ومعنى ذلك أن العلاقة بين الناتج وعملية الإنتاج تصبح في هذه الحالة معكوسة؛ إذ إن الناتج (هو النسق اللغوي) هو الذي يتحكم في عملية الإنتاج (أي التجديد اللغوي واستخدام اللغة بوجه عام) لا العكس. وهذا هو المعنى الذي يمكن أن يقال به: إن البناء يؤدي عمله على نحو مستقل عن الإنسان،
49
أما القول بوجود بناءات خارجة عن أفعال الأفراد والجماعات الإنسانية التي تتعلق بها هذه البناءات، فإنه يعبر عن فهم مثالي مشوه للبنائية؛ إذ إنه يؤدي إلى تجاهل العناصر والمعلومات التي لا غناء لنا عنها في ذلك الجهد النظري الذي نبذله من أجل استخلاص البناء،
50
أي إن البناء - في رأي سيباج - مستقل «فكريا» عن الإنسان ولكنه «واقعيا» يظل مرتبطا به ومعتمدا عليه.
ويقف «فرانسوا شاتليه
François Châtelet » موقفا مماثلا في دفاعه عن البنائية ضد تهمة التشكيك في مفهوم الإنسان، والقضاء على الحرية الإنسانية التي يقال: إنها تضيع عندما يصبح «النسق» مسيطرا على جميع مجالات الواقع، دون أن يترك أي مجال للمبادرة الإنسانية؛ ففي رأي «شاتليه» أن المسألة ليست عدوانا على حرية الإنسان، أو تشكيكا في مفهوم الإنسان، بل هي أولا وأخيرا سعي إلى «العلمية» في ميدان دراسة الإنسان، وكل سعي إلى إخضاع الظواهر الإنسانية للعلم كان يتهم في وقت ما بأنه يقضي على حرية الإنسان، ثم يتبين فيما بعد أنه يدعم هذه الحرية إذ يساعد على مزيد من الفهم للإنسان، وكل ما تسعى البنائية إلى القضاء عليه - في رأي شاتليه - هو تلك الطريقة غير العلمية في بحث الإنسان، التي غلبت عليها النزعة البلاغية والإنشائية، التي كانت سائدة في البحوث الإنسانية قبل ظهور البنائية. والواقع أنه ليس هناك ما يمنع من أن تكتسب العلوم الاجتماعية طابعا موضوعيا مماثلا لذلك الذي نجده في العلوم الطبيعية وإن كان نوعه مختلفا؛ فالمجتمعات البشرية ليست أعقد من أن تدرس موضوعيا، وهي لا تعرف ذلك الخضوع المزعوم لنزوات الحرية وتلقائيتها.
ولكي تحقق العلوم الاجتماعية هدف الموضوعية هذا، لا بد لها من أن تشيد لنفسها لغة مجردة تعمل بها على تفسير عالم الحياة اليومية، بدلا من أن تتحدث بلغة هذا العالم ذاته؛ على أن كل منهج يعتمد في دراسته للإنسان على التجربة الحية أو الوعي العلمي، يتقيد بهذه اللغة اليومية؛ أي إنه يظل متعلقا بالمظاهر بدلا من أن يصل إلى جوهر الظواهر الإنسانية.
ومن هنا كانت البنائية تستهدف الانتقال من بحث المظاهر الخارجية إلى ما تطلق عليه الفلسفة الكلاسيكية اسم «الماهيات»؛ وبذلك تتوصل إلى المعقولية الكامنة من وراء التجربة العينية المعاشة؛ وعلى ذلك فإن البناءات لا تعدو أن تكون تلك المجردات التي تتوصل بها إلى المعقولية في فهم الظواهر الإنسانية؛ أي إنها «أنساق للمعقولية
systémes d’intelligibilité »،
51
فعلم اللغة البنائي هو الهيكل الفكري أو التصوري الذي أمكن بفضله جعل اللغات الفعلية معقولة، ومفهوم اللاشعور هو الإطار الفكري الذي جعل من الممكن إضفاء مزيد من المعقولية على ممارسات الإنسان وسلوكه، وأنساق القرابة تضفي معقولية على الظواهر المعاشة في المجتمعات البدائية، والبناء الأساسي لعلاقات الإنتاج هو التصور الذي أصبحت بفضله ممارسات المجتمع - في نظر ماركس - معقولة. ومن المؤكد أن سعي البنائية إلى تحقيق المعقولية في كل هذه الميادين، التي كانت خاضعة لمفاهيم غير علمية تغذيها نزعة إنسانية تعتمد على «التجارب المعاشة»، وعلى المظاهر الخارجية لسلوك الإنسان؛ هذا السعي إلى تحقيق المعقولية لا يحد من حرية الإنسان، ولا ينطوي على إنكار لتصور الإنسان إلا في ظل مذهب يسيء فهم النزعة الإنسانية فحسب.
ولكن من حقنا - بعد هذا كله - أن نتساءل: هل يظل معنى النسق واحدا في حالة البناء الرياضي. وفي حالة البناء الإنساني الاجتماعي؟ هل يكون من المشروع تشبيه النسق الذي يجمع بين أطراف واقعية ملموسة - كنظام القرابة أو علاقة الإنتاج - بالنسق الذي تكون أطرافه تجريدات عقلية خالصة؟ وهل يوافق العلم على هذا التشبيه؟ يبدو أن «دوفرين
M. Dufrenne » كان على حق حين قال: إن البنائيين وقعوا في خطأ كبير حين تصوروا أن معنى النسق واحد في الحالتين، وأن هذا الخطأ راجع إلى أنهم - بقدر ما أرادوا التشبه بالعلم - لم يكونوا علماء بالمعنى الصحيح؛ ولذلك كان هناك قدر من الصواب في عبارته الساخرة التي أطلقها على فلسفة البناء أو النسق: «إن فلسفة النسق هي فلسفة للعلم وضعها أناس لم يمارسوا العلم»،
52
ولكن في العبارة أيضا قدرا من الخطأ؛ إذ إن من يضع فلسفة للعلم لا يتعين عليه أن يكون ممارسا للعلم، وكل محاولات «تأسيس» العلم في الفلسفة تدخل في هذا المضمار.
على أن السؤال الأكبر هو: هل يقنعنا دفاع البنائية عن نفسها - كما عرضنا نماذج رئيسة له من قبل - بأن البنائية لم تتجاهل الإنسان بالفعل، ولم تضع مفهوم البناء أو النسق بوصفه قوة عقلية شبه دكتاتورية، تفرض نفسها سواء شاء الإنسان أم لم يشأ؟
إن الأمر الذي لا يمكن إنكاره هو أن البنائية أكثر انطباقا على الحالات السكونية للإنسان منها على الحالات المتغيرة. ومن المسلم به أن العلم يغدو أقدر على تحليل موضوعاته حين يجعلها ثابتة أو يتصورها في حالة الثبات. ولكن العلم الذي يتناول الميدان الإنساني بالذات يتعين عليه أن يعترف بالتغير والحركة والتاريخ بوصفها مقولات أساسية لا يمكن الاستغناء عنها في تفسير الظواهر الإنسانية؛ ومن هنا رأى البعض أن الأحداث التي عصفت بأوروبا في عام 1968م (مظاهرات الطلبة في باريس ثم في معظم البلاد الأوروبية وأحداث تشيكوسلوفاكيا) قد زعزعت إلى حد بعيد أركان البنائية التي بلغت أوج ازدهارها قبل هذه الأحداث بعام أو عامين؛ فهي قد أكدت مرة أخرى أهمية عوامل الحركة والتغيير، وقدرتها على دفع العقل الإنساني إلى مراجعة كثير من المفاهيم التي يضعها في حالاته السكونية، وشككت الأذهان من حيث المبدأ في إمكان وجود أي بناء ثابت لعقل الإنسان وأنظمته.
وفي اعتقادي أن المشكلة الأساسية التي تثيرها البنائية هي: هل الإنسان - بالنسبة إلى النظم التي تسود حياته - فاعل أم مفعول؟ إن أنصار البنائية يغلبون صفة «المفعولية» للإنسان بالنسبة إلى هذه النظم، على حين أن نقادها يغلبون صفة «الفاعلية». ولقد لخص سارتر سمة الفاعلية حين قال: «إن الشيء الهام، هو ما يفعله الناس بما فعل بهم.»
L’important c’est ce que les hommes، font de ce qu’on a fait d’eux
فإذا كانت البنائية تؤكد على الدوام أن البناء «موجود هناك»، بغض النظر عن الاختلافات في ظروف الحياة الإنسانية التي يطبق فيها هذا البناء، فإن قدرة الإنسان على القيام برد فعل على هذا البناء هي الأمر الجدير بالاهتمام حقا.
ومن هنا كان الميل الذي نلمسه لدى كثير من البنائيين إلى تصوير الأنساق أو البناءات كما لو كانت تؤثر وتمارس فعلها وحدها دون أن يكون للإنسان دور فيها - أعني الميل إلى جعل الإنسان «مفعولا» لا «فاعلا» - يعبر عن نزوع إلى السلبية وقبول الأمر الواقع. ولقد ضرب «دوفرين» للتضاد بين سلبية الإنسان وفاعليته إزاء النسق مثلا طريفا، فقال: إن المشكلة التي ينبغي أن تفكر فيها الفلسفة المعاصرة بإمعان هي كيف استطاعت جبهة التحرير الفيتنامية أن تقاوم الأميركيين بكل هذا النجاح (وهي لم تكن قد انتصرت بعد عندما قال هذا الكلام)، فتلك واقعة تثبت انتصار الفاعلية الإنسانية على العقول الإلكترونية التي طالما استعان بها الأميركيون في التخطيط وفي ممارسة الحرب ذاتها، وما العقول الإلكترونية إلا تجسيد «للنسق»، وهكذا فإن الأنساق لا تستطيع أن تسير في طرقها بلا مقاومة، ولا تستطيع أن تكبت فاعلية الإنسان وتجعله مجرد مفعول.
وهكذا تظهر الصورة أخيرا - في تطور التاريخ - مؤيدة لفكرة القدرة الفعالة للإنسان، حتى على أشد الأنساق والبناءات ثباتا، فأحداث عام 1968م تفجر الإطار السكوني للبنائية، وتنبه العالم إلى أهمية رد الفعل الإنساني على كل نسق يبدو ثابتا، وانتصار فيتنام يبدو كما لو كان هزيمة لمبدأ أساسي تقوم عليه البنائية، هو استقلال الأنساق عن الإنسان.
ولكن، إذا كان التاريخ قد بادر إلى الإدلاء بشهادته بعد بلوغ البنائية قمتها مباشرة، فلنذكر - أخيرا - أننا لسنا في حاجة إلى شهادة التاريخ لكي ندافع عن فاعلية الإنسان إزاء بناءاته؛ فالمنطق الداخلي للبنائية هو خير شاهد على ما نقول؛ إذ إن كل البنائيين الكبار من ستروس إلى ألتوسير، ومن فوكو إلى لاكان، قد بذلوا جهدا عقليا لا نظير له، ومارسوا «فاعليتهم» الذهنية إلى أقصى حد لكي «يكتشفوا» بناءات يقولون: إنها تجعل ذهن الإنسان «مفعولا»!
أهم المراجع
Claduse lévy-Strauss:
Les structures élémentaires de la parenté paris 1949.
Tristes Tropiques. Paris 1955.
La pensée sauvge 1962-1958.
Mythloogiques (3vols) paris 1964-1968.
Jean-paul Sartre: Cirtique de la raison dialectique. Paris (gallimard) 1963.
J. Lacan: Ecrits (Editions du Seuil) 1966.
M. Foucault. les mots et les choses. Gallimard 1966.
L. Althusser:
Lire le Capital (2 vols.) 1965 (Maspéro).
pour Marx. 1965 (Maspéro).
Lénine et la philosophie 1970 (Maspéro).
Elments d’auto-cirtique 1974 (Hachette).
F. de Saussure: Cours de linguistique générale (Payot) 1962.
Les Temps modernes (numero Spécial) Novembre 1966.
Structuralisme et marxisme (Plusieurs auteurs). Union Générale d’Edition, 1970.
J. Piaget: Structuralisme (English Trans) Routledge & Kegan paul, 1971.
F. Châtelet: Histoire de la philosophie. Tome 8 (Hachette) 1973.
E. Leach: Lévi-Strauss. London (Fontana Boods) 1970.
Jean-Marie Auzias: Clefs pour le structuralisme. paris (Seghers) 1967.
L. Sebag: structuralisme et marxisme. (payot), 1969.
J. Milhau: Chroniques philosophiques. (Editions Sociales), 1972.
الباب الرابع
العلم والقيم
العلم والحرية الشخصية
مقدمة
ومشكلة الحرية الإنسانية - في عمومها - من المشكلات التي خلفت وراءها تراثا طويلا، وعولجت بإسهاب طوال فترات الفكر الإنساني من الزوايا الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية والقانونية والنفسية. ولكن العلاقات بين العلم والحرية الشخصية لم تبحث بحثا صريحا، ولم يخصص المفكرون لها - فيما نعلم - كتابات مستقلة. وليس معنى ذلك أن الموضوع جديد كل الجدة، وإنما الذي نعنيه أن أية معالجة لهذا الموضوع لن تكون مرتكزة على تراث قديم العهد من المراجع والكتابات التي تعين الباحث على الاهتداء إلى طريقة، بل سيكون لزاما عليه أن يستخلص معلوماته في هذا الموضوع على نحو ضمني من كتابات لم تكن تتخذ مشكلة الصلة بين العلم والحرية محورا لأبحاثها. أما التركيب العقلي الذي يقوم به من أجل استكشاف الأبعاد المختلفة للموضوع والجمع بين أطرافه، فلا مفر للباحث من أن يعتمد فيه على جهوده الخاصة. (1) العلم والحرية: لمحة تاريخية
من المعروف أن مفهوم «العلم» بمعناه الدقيق المحدد - الذي نستخدمه فيه للدلالة على المعرفة المنظمة الخاضعة لمناهج دقيقة - يعد مفهوما حديثا نسبيا، وأن البشرية ظلت طوال الجزء الأكبر من تاريخها تستخدم لفظ العلم بمعنى آخر لا يمكن القول: إنه مضاد لهذا المعنى الأول، بل هو أوسع منه وأشمل بكثير، وأعني به معنى «المعرفة» والسعي إلى بلوغ الحقيقة، إلى اكتساب معارف عن الإنسان والمجتمع والطبيعة، بل وعما وراء الطبيعة وما يخفى عن طرق إدراكنا المألوفة؛ فالبحث الميتافيزيقي في مثال المثل - عند أفلاطون - أو في المحرك الأول - عند أرسطو - كان عندهما يدخل في صميم العلم، بل ربما كان هو «العلم» على الحقيقة، مع أنه بمقاييس المناهج العلمية الحديثة أبعد ما يكون عن العلم. بل إن البحث في الأمور الغيبية هو عند رجال الدين واللاهوت علم بأكمل معاني الكلمة، وإن كان في نظر العلماء المنهجيين مفتقرا إلى أبسط الشروط التي لا يمكن بدونها أن يسمى البحث علما. وهكذا عاشت البشرية أمدا طويلا تستخدم لفظ العلم بمعنى موسع لا يكون المعنى الراهن إلا جزءا ضئيلا منه.
بهذا المعنى الموسع الذي يكون فيه العلم مرادفا «للمعرفة» - أيا كان نوعها - ظهر ارتباط وثيق بين العلم وبين الحرية منذ أقدم عصور الوعي الإنساني. بل إن قصة هبوط آدم من الجنة - في العقائد السماوية - تنطوي على دلالة واضحة من حيث الربط بين الحرية وبين الفهم والمعرفة والعلم ، وتأكيد الإنسان لنفسه بوصفه موجودا له كيانه الخاص، وله عقله الذي يستقل به عن الطبيعة الجامدة، ويسعى به إلى فهمها والسيطرة عليها في الوقت ذاته. «في البداية كان الرجل والمرأة يعيشان في جنة عدن في انسجام تام معا ومع الطبيعة، وهناك كان السلام مستتبا، ولم تكن ثمة حاجة إلى العمل ولم يكن ثمة اختيار ولا حرية ولا تفكير أيضا، كان الرجل محرما عليه أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر. ولكنه تصرف على نحو معارض للأمر الإلهي، وخرج عن حالة الانسجام مع الطبيعة التي يكون جزءا منها، وإن لم يكن يعلو عليها. ولقد كان هذا - من وجهة نظر الكنيسة التي تمثل السلطة - خطيئة أساسية. أما من وجهة نظر الإنسان، فكان بداية الحرية الإنسانية، فسلوك الإنسان ضد أوامر الله يعني تحرير ذاته من القهر، وارتقاءه من طريقة الوجود غير الواعية المميزة للحياة في مراحلها السابقة على الإنسانية إلى مستوى الإنسان. هذا السلوك ضد أوامر السلطة وارتكاب الخطيئة هو في وجهه الإنساني الإيجابي أول فعل من أفعال الحرية، أي أول فعل إنساني؛ ففي القصة تكمن الخطيئة - من جانبها الشكلي - في السلوك ضد الأمر الإلهي. أما من جانبها المادي فهي تكمن في الأكل من شجرة المعرفة؛ أي إن فعل العصيان - بوصفه فعلا حرا - هو بداية العقل.»
1
إن الإنسان - حين أكد ذاته بوصفه كائنا حرا - قد اختار طريق المعرفة والعلم؛ ففي فعل المعرفة إذن تكمن حرية الإنسان، وبقدر ما يتوافر لدى الإنسان من المعرفة يكون حرا، تلك هي الدلالة التي يستخلصها «أريك فروم» من قصة طرد آدم من الجنة، وهي دلالة لها أهميتها الخاصة بالنسبة إلى موضوعنا. وليس يعنينا هنا أن هذا الفعل الحر - الذي اختار به آدم لنفسه طريق المعرفة - قد أدى إلى طرده من الجنة، فمن المعترف به أن طريق المعرفة شاق، محفوف بالمخاطر والآلام، وأن المسئولية التي يحملها على أكتافه من يريد الوصول إلى علم بالأشياء مسئولية ثقيلة فادحة؛ وبذلك يكون الإنسان قد اختار عذابه - أي خرج من الجنة - في نفس الوقت الذي اختار فيه لنفسه، بحرية، طريق المعرفة. ولكن المهم في الأمر أن أول فعل حر للإنسان كان فعلا غايته العلم، وأن هذا الفعل كان يشكل تحديا لله وعصيانا له؛ أي إن الإنسان كان يعلم أنه بسلوكه هذا الطريق كان يريد - بمعنى معين - أن يشارك الله في إحاطته بالأشياء علما.
على أن القصة الدينية التي تتحدث عن الفعل الحر الأول للإنسان لم تكن هي الموضع الوحيد الذي ربطت فيه العقائد الدينية بين الحرية وبين العلم - بمعنى المعرفة - بل إن فكرة الثواب والعقاب - وهي فكرة مشتركة بين العقائد السماوية جميعا - كانت تفترض مقدما وجود حرية اختيار لدى الإنسان بين الخير والشر، وهذه الحرية ترتبط ارتباطا وثيقا بالمعرفة؛ إذ إن الله أعطى الإنسان معرفة الخير والشر، ووهبنا إرادة - ترك لنا حرية التصرف - لكي يصدر حكمه علينا فيما بعد، ولولا هذه الحرية وتلك المعرفة لكانت المسئولية أمام الله مستحيلة، ولما كان هناك معنى للعقاب والثواب. وهكذا يبدو أن فكرة الحرية ترتبط بالعلم هنا ارتباطا مزدوجا: فحرية الإنسان ومسئوليته أمام الله تفترض معرفته الكاملة بما هو خير وما هو شر، واختياره أحدهما اختيارا واعيا مقصودا، ومن جهة أخرى فإن العلم الإلهي بنوايا الناس وبأفعالهم الظاهرة والباطنة هو الذي يضمن عدالة الثواب والعقاب في العالم الآخر؛ وعلى ذلك فإن حرية الإرادة ترتبط بالعلم الإلهي والعلم الإنساني معا، وبدونهما لا تبلغ نتائجها الكاملة.
وربما كانت المذاهب الدينية التي تنكر الحرية وتؤكد القدرية تبدو متعارضة مع مبدأ الارتباط بين الحرية والعلم؛ ذلك لأنها تعني أن كل ما يحدث في حياة الإنسان إنما هو قدر مكتوب مقدما، وأن طريقة فعلنا لن تؤثر على الإطلاق في المجرى الذي تسير فيه الحوادث، وأن الله قد حدد منذ البداية المسار الكامل لحياة الإنسان؛ بحيث لا تكون حرية الإنسان في التصرف إلا وهما كبيرا. وبالمثل فإن معرفة الإنسان لن تقدم ولن تؤخر؛ لأن أقصى ما يستطيع عقل الإنسان أن يفعله هو أن يمتثل لحكم القدر. ومع ذلك فليس من الصعب أن يدرك المرء في هذا المذهب القدري تأكيدا - عن طريق السلب - للارتباط بين الحرية والعلم؛ ذلك لأن انتفاء تأثير المعرفة مرتبط في هذا المذهب بانعدام الحرية؛ أي إن الإنسان حين لم يعد حرا لم يبق لمعرفته أي أثر في مصيره. أما إذا نظرنا إلى هذا المذهب من زاوية المسلك الإلهي، فسوف نجد أن الله فيه هو الكائن الحر الوحيد، فإذا ما بحثنا عن السبب الذي يدعونا إلى نسبة هذه الحرية إلى الله في المذاهب القدرية؛ لوجدنا أنه هو العلم؛ فبفضل العلم الإلهي - الذي يحيط بكل شيء ويدرك المجرى الكامل للحوادث المقبلة - يكون الله وحده هو الحر. وبعبارة أخرى: فإن مذهب القدرية ينطوي - بصورة ضمنية غير مصرح بها - على تعريف للكائن الحر بأنه هو ذلك الذي يحيط علمه بمجرى الحوادث وبأسباب حدوثها، ويرى أن هذا التعريف يستحيل انطباقه على الإنسان، ولا ينطبق إلا على الله. وهكذا تبدو فكرة القدرية منطوية ضمنا على تأكيد للربط بين العلم والحرية.
فإذا ما تركنا المجال الديني جانبا، وانتقلنا إلى التاريخ الفكري الدنيوي، لم يكن من الصعب أن ندرك وجود ارتباط مماثل بين الحرية والعلم في عصور الفكر المختلفة. وحسبنا أن نضرب لذلك أمثلة قليلة؛ إذ إننا سنناقش هذا الموضوع فيما بعد بمزيد من التفصيل، من حيث هو مشكلة فكرية. أما الآن فإن هدفنا لا يعدو أن يكون تقديم عرض تاريخي سريع للربط بين العلم والحرية.
في العصر اليوناني الكلاسيكي اتخذ مفهوم الحرية الشخصية في بداية الأمر معنى خارجيا لم يكن من الصعب أن يكون فيه مرتبطا بمفهوم العلم؛ فالشخص الحر عند اليونانيين كان هو المواطن الذي يتمتع بمركز اجتماعي معين، يؤهله لأن يتصف بصفات خاصة كالحكمة والكرم والشجاعة. والأمر الذي يتيح للحر اكتساب هذه الصفات، هو أن العبيد يعفونه من أعباء الأعمال الاقتصادية المرهقة؛ بحيث يستطيع التفرغ لرعاية جسمه وعقله، والتمتع بثمار المعرفة؛ فالحرية إذن كانت في الأصل صفة قانونية يكتسبها المرء بحكم وضعه في المجتمع. ولكن هذه الصفة القانونية كانت تؤدي بصاحبها إلى اكتساب القدرة على ممارسة أرقى أنواع المعارف العلمية التي عرفها العصر اليوناني، وهي العلم الرياضي والفلسفة بوجه خاص، ولم يكن من العسير على كثير من مؤرخي الفكر الفلسفي أن يثبتوا أن التفوق الكبير الذي أحرزه اليونانيون في الرياضة والفلسفة كان يرجع جزئيا - على الأقل - إلى انتشار نظام الرق، الذي أتاح للمفكرين من الوقت ومن الراحة الجسمية والذهنية ما مكنهم من التفرغ لتلك المهام العقلية الرفيعة. وبعبارة أخرى: فإن العلم الذي ورثته البشرية عن اليونانيين كان مرتبطا إلى حد بعيد بذلك النوع الخاص من الحرية الذي كان سائدا بينهم؛ أعني حرية المواطن، في مقابل العبودية التي يضيع فيها العلم والحكمة مع ضياع الحرية.
وقد طرأ فيما بعد نوع من التعديل على معنى الحرية عند اليونانيين، فانتقل هذا المعنى إلى داخل النفس الإنسانية بعد أن كان مجرد تعبير عن وضع قانوني معين، أصبحت الحرية هي التخلص من عبودية الانفعالات ومن سيطرة الظروف الخارجية. وكان وجه الاختلاف بين هذا المعنى الجديد القديم هو أن العبد ذاته يمكن أن يكون حرا بالمعنى الجديد؛ ولذلك إذا استطاع أن يقهر انفعالاته ويمتنع عن الانسياق وراء أهوائه، وإذا أمكنه أن يتحكم في الظروف الخارجية مهما كانت معاكسة أو مؤلمة. ولكن على الرغم من هذا التعبير الهام الذي طرأ على معنى الحرية، فقد ظلت في الحالة الثانية بدورها مرتبطة بالعلم؛ إذ إن المعرفة وفهم الضرورة السائدة في الكون، هي التي تتيح للمرء أن يقهر انفعالاته ويعلو عليها، وينظر إلى كل ما يمر به من حالات نفسية طارئة في ضوء الضرورة الكونية الشاملة؛ وبذلك يكون الحكيم أو العارف - فيما رأى الرواقيون الذين انتشر بينهم هذا اللون من التفكير - هو وحده الحر.
على أن هذه الحرية - كما هو واضح - لا يمكن أن تتحقق إلا لفئة محدودة من الناس، وهي - بحكم تعريفها - حرية ضيقة النطاق، ولا تتوافر إلا لمن كان لديهم من الوسائل ما يعينهم على التفرغ للعلم واكتساب المعرفة، أو من ضبط النفس ما يتيح لهم التحرر من الانفعالات. وهكذا كان مفهوم الحرية عند اليونانيين مقتصرا بطبيعته على فئة قليلة. وكان «هيجل» على حق حين تحدث عن مراحل ثلاث لفكرة الحرية على مر التاريخ البشري: حرية الفرد الواحد في عهود الطغيان القديمة، وحرية الأقلية في العصر اليوناني المرتكز على نظام الرق، وحرية المجموع في العصر الحديث.
ولكن من المعروف أن «هيجل» حين تحدث عن العصر الحديث، كان يعني الأمة الألمانية على وجه التخصيص. وكان يتصور - على نحو لا يخلو من الصوفية الغامضة - أن هذه الأمة هي وحدها التي تحقق فيها حلم الحرية الشاملة بين مجموع الناس، وبطبيعة الحال لم يكن لرأي «هيجل» هذا أي أساس من الدراسة الاجتماعية الفعلية، ولم يكن مبنيا على فهم للواقع الذي كانت تعيش فيه الأمة الألمانية في عصره، والذي كان أبعد ما يكون عن الحرية الشاملة. بل إنه ليمكن القول: إن الحرية الشاملة ما زالت هدفا بعيدا عن التحقيق في جميع أرجاء عالمنا المعاصر. فهل يعني ذلك أن عبارة هيجل السابقة بعيدة كل البعد عن الصواب في شطرها الأخير الذي يتحدث فيه عن شمول الحرية في العصر الحديث؟
والواقع أن هذه العبارة يمكن أن تصدق إذا استبعدنا منها أية إشارة إلى الأمة الألمانية بالذات، وطبقناها على العصر الحديث بأكمله، وإذا لم نأخذها على أنها تعبير عن أمر واقع، بل نظرنا إليها على أنها مثل أعلى يسعى العصر الحديث إلى تحقيقه؛ ذلك لأن العصر الحديث - وإن لم يكن قد حقق الحرية الشاملة - يتخذ من حرية المجموع هذه هدفا لكل ما يبذله في هذا السبيل من جهود، وهو في ذلك يختلف اختلافا جذريا عن العصر الكلاسيكي الذي لم يكن يتصور إلا نوعا من الحرية يستحيل أن يكتسبه إلا فئة قليلة من البشر. صحيح أن الإنسان في العصر الحديث بعيد كل البعد عن تلك الحرية التي يحلم بها، وأن هناك مجتمعات كاملة تعيش في ظل نظم لا تسمح - من حيث المبدأ - بتحقيق الحرية للجميع. ومع ذلك فإن الهدف المعلن عنه - حتى في هذا النوع الأخير من المجتمعات - هو حرية المجموع، وهو هدف لم يكن من الممكن أن ينادي به أحد في العصور القديمة، فما سبب هذا التغير الجذري في نظرتنا إلى الحرية؟ وما هي الظروف التي ساعدت على اتخاذ الحرية الشاملة شعارا لا تجرؤ على إنكاره حتى تلك النظم التي لا تتلاءم بطبيعتها إلا مع نوع محدود من الحرية، أو مع نوع شامل من الاستبداد؟
من المعروف تاريخيا، أن انتشار المثل الأعلى للحرية الشاملة كان مرتبطا ببداية عصر التصنيع واستغلال الإنسان للطبيعة على أساس الفهم الصحيح لقوانينها. ومن المعروف أن عصر التصنيع لم يكن من الممكن أن يبدأ إلا بعد أن مهدت له الطريق كشوف العلم الحديث منذ القرن السابع عشر. وربما قبل ذلك، وهنا يظهر الارتباط واضحا بين النهضة العلمية الحديثة وبين توسيع نطاق فكرة الحرية؛ فالعلم الحديث إذا كان قد أدى - من الوجهة السلبية - إلى تحرير الإنسان من الجهل وتحقيق سيطرته التدريجية على الطبيعة، فإنه أدى - من الوجهة الإيجابية - إلى نشر أفكار عن الحرية يمكن أن يقتنع بها ويحارب من أجلها ملايين الناس.
وقد أثبت العصر الحديث، على نحو لا يدع مجالا لأي شك، أن العلاقة بين العلم والحرية الشخصية علاقة طردية، وأن التقدم في أحدهما يعني تقدما في الآخر، فمنذ بداية عصر النهضة كان ظهور البوادر الأولى للمنهج العلمي الحديث يعني تحررا من سلطة الكنسية التي فرضت أقصى القيود على إنسان العصور الوسطى، ولم تكن الكشوف الفلكية الحاسمة التي توصل إليها كبرنيكوس وكبلر وجاليليو تعني بداية عصر جديد في تاريخ العلم فحسب، بل كانت تعني أيضا تحرير الإنسان من خرافة الاعتقاد بأن الأرض التي يعيش عليها هي مركز الكون، وبأن كل شيء في العالم مسخر لخدمته، بأن الكون يدور من حوله بينما هو ثابت مستقر. وكانت تلك ضربة قاضية إلى النظرة الغائية التي سيطرت على تفكير الفلاسفة والعلماء أمدا طويلا، كما كانت بداية النظرة الموضوعية إلى العالم، التي يكتسب فيها الإنسان حريته بعلمه وكفاحه وسعيه إلى إخضاع كل شيء لما يضعه هو ذاته من النظم والقوانين، ولا يظن فيها أن هذه الحرية قد منحت له من السماء لمجرد كونه إنسانا، أو أن غاياته وقيمه الإنسانية مطبوعة أصلا على نظام الكون، وكان التقدم المطرد الذي أحرزه العلم التطبيقي - ممثلا في التكنولوجيا - مرتبطا أوثق الارتباط بالكفاح من أجل نشر الحرية على أوسع نطاق. وحسبنا أن نضرب مثلا واحدا على ذلك: فحركة المطالبة بتعديل قوانين الانتخاب البريطانية، وهو الحركة التي أحرزت نجاحا حاسما لها في قانون الإصلاح النيابي عام 1832م، لم يكن من الممكن تصورها قبل الثورة الصناعية التي كانت في ذاتها أوضح تعبير عن تقدم العلم والتكنولوجيا في العصر الحديث.
وكانت لهذا الارتباط بين المطالبة بالحريات الديمقراطية وبين تقدم العلم دلالته العميقة؛ ذلك لأن الحرية والعلم - في أعلى صورهما - ديمقراطيان؛ فالحرية لا تكتمل إلا إذا أصبحت حرية للإنسان من حيث هو إنسان، لا حرية فرد واحد، أو طبقة واحدة في المجتمع. بل إن الحرية المحدودة إنما تحمل في داخلها بذور القضاء على كل حرية، ومثل هذا يقال عن العلم، الذي لا يبلغ أوج اكتماله إلا حين يصبح عاما، ولم يعد احتكارا لفئة تنكر ثماره على الآخرين، ومعنى ذلك أن كلا من العلم والحرية لا ينقص كلما ازداد عدد المشاركين. بل إن اتساع نطاق المشاركة فيهما يزيد من نصيب المجموع ومن نصيب كل فرد منهما معا، وهنا نجد أن الحرية تتأثر بالعلم، ليس فقط من حيث إن تعميق العلم نوعيا وكيفيا يساعد على تحقيق المزيد من الحرية، بل أيضا لأن توسيع القاعدة التي يرتكز عليها العلم - من الناحية الكمية الخالصة - يعني مزيدا من انتشار الحرية وتعميمها. ولا شك في أن هذا هو أبلغ الدروس التي نكتسبها من تطور مفهومي العلم والحرية الشخصية في تاريخ عصرنا الحديث. (2) تحليل نظري للصلة بين العلم والحرية
إذا كان العرض التاريخي السابق قد أكد وجود علاقة طردية وثيقة بين العلم والحرية في عصور التاريخ الرئيسية، فإن المناقشة النظرية التحليلية لا تنتهي دائما إلى هذه النتيجة، فقد ظهرت آراء متعددة في هذا الموضوع، وصل بعضها إلى حد التناقض التام مع النتيجة السابقة. وكان ذلك أمرا طبيعيا من وجهة النظر الفلسفية؛ إذ إن المناقشة الفلسفية النظرية للمشكلات تعمل - كما هو معروف - على استطلاع مختلف جوانبها، من هنا فإن هذه المناقشة، وإن تكن تنتهي في كثير من الأحيان إلى نتائج نهائية، فإنها تساعد دائما على استكشاف كافة الأبعاد الظاهرة والخفية للمشكلة موضوع البحث، وتقدم مدخلا لا غناء عنه لكل دراسة عملية لهذه المشكلة، ومن هنا كان لزاما علينا أن نعرض لأهم الآراء التي قيلت - من وجهة النظر الفلسفية - في العلاقة بين العلم والحرية؛ لكي نتبين مدى اتفاق التحليل الفلسفي مع الواقع التاريخي أو اختلافه عنه. (2-1) حياد العلم إزاء الحرية
أول رأي يصادفنا في موضوع العلاقة بين العلم والحرية هو ذلك الرأي الذي يستبعد أصلا وجود هذه العلاقة؛ فالعلم في نظر الكثيرين يلتزم الحياد التام إزاء القيم البشرية كلها، وضمنها الحرية. وليس معنى ذلك - عند أصحاب هذا الرأي - أن العلم لا يكترث بهذه القيم أو أنه يرفضها أو يأبى أن يعمل لخدمتها. بل إن كل ما يعنيه هو أن العلم لا يتدخل في مجال القيم، ويترك لأنواع أخرى من النشاط الروحي والعقلي للإنسان مهمة بحث القيم والعمل على إعلائها، والواقع أن اتجاه العلم الحديث كله - منذ أيام ديكارت - يوحي بهذا الرأي؛ إذ إن التفسير الآلي للطبيعة وللكون قد أخذ يزداد قوة، وأصبح العلم يقف على الطرف المقابل للقيم البشرية، ويؤكد استقلاله التام عنها، وأصبحت الروح الموضوعية ذاتها - وهي شرط لا غناء عنه للعلم - تعني ترك القيم والمشاعر والأماني البشرية جانبا، وصار المثل الأعلى للمعرفة العلمية هو العلم الرياضي الذي أخذ يغزو على الدوام ميدانا بعد الآخر من ميادين المعرفة، حتى أصبح له اليوم دور أساسي في العلوم الإنسانية ذاتها، والعلم الرياضي محايد بطبيعته، بل هو النموذج الأكبر للحياد الموضوعي التام إزاء كل القيم.
وكانت قمة هذا الاتجاه إلى تأكيد حياد العلم هي المذهب الوضعي، الذي جعل للعلم وللقيم ميدانين مستقلين بينهما هوة لا تعبر، وأكد أن القيمة من حيث هي تعبير عن أمان ورغبات إنسانية، لا شأن لها بعملية وصف الأمور الواقعة التي يأخذها العلم على عاتقه. وهذا الحكم العام - حين يطبق على المشكلة التي نحن بصددها - يعني أن العلم محايد إزاء الحرية، فهو لا يقف في وجهها. ولكنه لا يستطيع أن يعمل شيئا من أجل تحقيقها؛ لأن الحرية تنتمي إلى ميدان خارج عن نطاق اهتمام العلم؛ أعني إلى ميادين القيم المعيارية
normative values ، على حين أن مهمة العلم تقريرية ووصفية
descriptive
فحسب.
وعلى الرغم من أننا لا نود أن ندخل الآن في معركة نقدية مع الرأي القائل بحياد العلم إزاء الحرية؛ لأن المناقشة التالية تتضمن في ذاتها نقدا ضمنيا كافيا لهذا الرأي، فإننا نستطيع أن نلاحظ - منذ الآن - أن هذا الرأي حتى لو صح؛ لكان أقصى ما يعنيه هو أن البحث العلمي في ذاته لا صلة له بالسعي من أجل الحرية. ولكن العلم يمكن أن ينظر إليه لا من حيث طبيعته الباطنة فحسب، بل من حيث نتائجه أيضا. ومن المؤكد أن نتائج العلم وتطبيقاته يمكن أن تكون ذات مساس مباشر بمشكلة الحرية، أيا كان فهمنا لهذا اللفظ الأخير؛ فالخطأ الذي وقع فيه الرأي القائل بحياد العلم هو أنه نظر إلى العلم بطريقة انعزالية؛ بحيث لم يضع في اعتباره سوى عملية البحث العلمي والممارسة العلمية فحسب، على حين أنه لو كان قد تأمل العلم في سياقه الأوسع - أعني من حيث أصوله وتطبيقاته الاجتماعية - لانتهى إلى رأي مخالف تماما، يظهر فيه التأثير المتبادل بين العلم والحرية بوضوح. (2-2) نقيضة العلم والحرية
لعل التصوير الأصدق للعلاقة بين العلم والحرية - إذا ما نظر إليها من زاوية فلسفية - هو أنها تمثل «نقيضة
antinomy »؛ أعني أن هذه العلاقة مزدوجة على نحو ينطوي على تناقض.
هذه النقيضة يظهر أحد طرفيها بوضوح قاطع في فلسفة اسبينوزا، وذلك في قوله: «إن الناس يخطئون إذ يظنون أنفسهم أحرارا، وهو ظن لا يرتكز إلا على أن لديهم وعيا بأفعالهم، على حين أنهم يجهلون الأسباب التي تحكمت في هذه الأفعال، وإذن فقوام فكرتهم عن الحرية هو أنهم لا يعرفون أي سبب لأفعالهم؛ ذلك لأنهم حين يقولون: إن الأفعال الإنسانية تتوقف على الإرادة، فهم إنما يفوهون بألفاظ ليست لديهم أية فكرة عنها. والواقع أن الكل يجهلون ما هي الإرادة وكيف يمكنها تحريك الجسم ...»
2
أما الطرف الآخر فنستطيع أن نجد تعبيرا واضحا عنه لدى باحث كان في واقع الأمر متأثرا في تفكيره باسبينوزا إلى حد غير قليل، هو «ستوارت هامبشير»، وذلك حين قال: «بقدر درجة وعيي الذاتي بفعلي، وبقدر معرفتي الواضحة بما أقوم به أصبح حرا، بمعنى أن أفعالي تطابق نواياي.»
3
فالنقيضة تتمثل في أن الشعور بالحرية - وهو شعور باطل في رأي اسبينوزا - كان عنده مرتبطا بالجهل بالأسباب. أما عند هامبشير فإن هذا الشعور ناتج عن المعرفة الواضحة، فكيف إذن يكون الجهل مرتبطا بالحرية من جهة، وتكون المعرفة مرتبطة بها من جهة أخرى؟ هل الجهل هو الذي يوهمنا بأننا أحرار؛ بحيث إننا لو اكتسبنا معرفة لما عدنا نشعر بالحرية؟ أم أن هذه المعرفة هي وسيلتنا إلى اكتساب الحرية؟
الحق أن هذه النقيضة - وإن بدت حادة قاطعة - ليست بالخطورة التي تبدو عليها لأول وهلة؛ ذلك لأن اسبينوزا نفسه، مع تأكيده أن الشعور بالحرية يرجع إلى الجهل بالأسباب، قد عاد وأكد أن حرية كل كائن إنما تكون في معرفته بالضرورة الباطنة المتحكمة فيه. وبعبارة أخرى: فإن الحرية تكون في نظره وهما إذا ما فهمت بمعنى «الفعل الذي لا سبب له»؛ لأن كل فعل لا بد قطعا أن يكون له سبب، وإن كنا نجهل أسباب أفعالنا في معظم الأحيان. أما إذا فهمت الحرية بمعنى إدراك الضرورة الباطنة المتحكمة في الظواهر؛ فعندئذ يكون المرء حرا كلما عرف تلك الأسباب العميقة الداخلية المنبعثة من طبيعته الخاصة، والتي تدفعه إلى أفعال معينة، ويكون مرغما أو مقهورا إذا كان سلوكه منبعثا عن عوامل خارجية لا تنتمي إلى طبيعته الباطنة، وإذن فهناك حرية وهمية ترتبط بالجهل، وهناك حرية حقيقية ترتبط بفهم الضرورة الباطنة أي بالعلم، وهناك أيضا حرية اختيار عشوائية، ليس لها من مصدر سوى عدم معرفتنا بالأسباب. وفي مقابلها الحرية التي يجلبها السير وفقا للعقل، والتي ترتبط بالضرورة (لا بالقهر) أوثق الارتباط.
ولكن على الرغم من أن من الممكن تجاوز هذه النقيضة بالتفرقة بين الحرية العشوائية والحرية الناتجة عن فهم الباطنة والتصرف وفقا لها، فما زال من الصحيح أن العلاقة بين الحرية والعلم تنطوي - الوجهة الفلسفية - على إشكال حقيقي؛ ذلك لأن العلم كلما ازداد تقدما، أتاح لنا أن نكتشف أسبابا ضرورية لكثير من الأفعال التي كنا نظنها «حرة» أو منبعثة عن إرادتنا وحدها، وكلما اتسع نطاق العلم؛ تضاءل نطاق ما يسمى بالأفعال الحرة، بهذا المعنى فالعلم في هذه الحالة يلغي الحرية. ولكن العلم - من جهة أخرى - يعمل على تحرير الإنسان؛ لأنه كلما تقدم أتاح له مزيدا من القدرة على التحكم في الظواهر والسيطرة عليها. وهكذا يمكن القول - في آن واحد: إن العلم هو الذي يقضي على الحرية، وهو الذي يجعلها ممكنة. «فكيف يمكن التخلص من هذا التناقض؟»
لا بد لنا - إذا شئنا أن نصل إلى حل لهذا الإشكال - من أن نعرض لكل من طرفيه بمزيد من التفصيل. (2-3) التعارض بين العلم والحرية
عبر الفيلسوف الألماني «كانت» عن التعارض بين العلم والحرية أوضح تعبير حين أكد أن العقل عندما يبحث في موضوعات العالم يخضع للضرورة. وحين يتجاوز هذه الموضوعات إلى المجال الإنساني العلمي يصبح حرا؛ فالعالم الطبيعي - بكل جوانبه - خاضع لمبدأ السببية والحتمية الدقيقة، ومن هنا لم يكن ثمة مجال للحرية في أي علم من العلوم التي تبحث الطبيعة. بل إن وجهة النظر الطبيعية ذاتها - في بحث الأمور - تتعارض من حيث المبدأ مع فكرة الحرية. أما حين نخوض مجال الأخلاق والقيم الإنسانية، فلا يمكن أن تقف في وجهنا تلك القيود التي تلزمنا بها وجهة النظر الطبيعية؛ إذ إن الروح الإنسانية تمتاز بالحرية المطلقة، والإرادة قادرة على الاستقلال عن كل شروط العالم الطبيعي، وعلى أن تشرع لنفسها من القواعد ما يتفق مع حكم العقل وحده دون خضوع لأي قيد خارجي.
هذه التفرقة بين العالم الطبيعي الخاضع للضرورة، والذي تبحثه العلوم المختلفة، وبين العالم المعنوي أو الأخلاقي الذي ينفرد به الإنسان، والذي يتميز بالحرية المطلقة، تعبر عن فكرة ظلت تتردد فيما بعد على أنحاء شتى بين مفكرين كانوا يؤمنون بأن العلم - الذي يتسم مساره بالضرورة - يتعارض أساسا مع الحرية، وبأن المجال الإنساني يكون حرا حين لا يصبح موضوعا لأبحاث علمية تسودها وجهة النظر الطبيعية؛ ومن هنا فإن الكثيرين نظروا إلى العلوم الإنسانية التي تطبق مناهج قريبة الشبه بمناهج العلوم الطبيعية على أنها متعارضة بطبيعتها مع فكرة الحرية؛ فالقول بإمكان إيجاد تفسير مبني على فكرة الحتمية، لأفعالنا الذهنية والنفسية، يبدو متعارضا مع حرية الفعل الإنساني؛ إذ يكشف عن وجود مسار محدد لهذا الفعل لا يمكنه أن يحيد عنه. وحين يصبح الإنسان جزءا من الطبيعة، خاضعا لقوانين مشابهة لتلك التي تخضع لها الحوادث الطبيعية؛ أي حين يتحقق الهدف الذي يرمي إليه كل علم ببحث الإنسان مستخدما مناهج العلوم الطبيعية؛ فعندئذ يكون الإنسان - تبعا لوجهة النظر هذه - قد فقد حريته واستقلاله بفقدانه الطابع المميز له؛ ذلك لأن مشكلة الحرية لا تثار إلا منذ اللحظة التي يعد فيها الإنسان مقابلا للطبيعة ومستقلا عن قوانينها؛ ولذلك كانت هذه المشكلة تزداد حدة كلما ازداد العلم تقدما.
ففي العصر الحديث أصبحت الصورة التي يرسمها العلم للكون تتصف بالآلية، ولا تترك مجالا لقيم الإنسان ورغباته، أصبح العالم موحشا - غير مكترث - يسير في طريقه المرسوم بدقة وانضباط لا مكان فيهما لمشاعر الإنسان، وعلى حين أن العصور الوسطى كانت ترسم للعالم صورة متعاطفة مع الإنسان، فتجعله محتشدا بالملائكة والأرواح والقوى الغيبية، وتعطيه مسارا متجها إلى تحقيق غايات إنسانية، وتطبع القيم الإنسانية على الكون في مجموعه وفي كل جزء من أجزائه، فإن العصر الحديث أوجد انفصالا قاطعا بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان، وقضى على التداخل القديم بين هذين المجالين. وكان من نتيجة ذلك أن ازدادت رغبة الإنسان في البحث عن مكان لحريته في هذا الكون الأصم، وأصبح الاهتمام بمشكلة الحرية عاما بين الفلاسفة؛ لأن التعارض أصبح واضحا وقاطعا بين الشعور الإنساني بالحرية وبين الضرورة الكونية التي تبدو غير متجاوبة مع هذا الشعور. وبعبارة أخرى: فعندما بدا للإنسان أن صورة الكون الجديدة - كما رسمها العلم الحديث - تهدد حريته، أصبحت مشكلة الحرية - لأول مرة - مشكلة أصيلة.
إن المعرفة الدقيقة بكل تفاصيل الحياة والكون - وهي المعرفة التي يستهدفها العلم الحديث ويستخدم مناهجه الدائمة التطور من أجل بلوغها - تبدو في نظر الكثيرين متعارضة مع حرية الإنسان؛ فالوصول إلى معرفة شاملة بالطبيعة وبالحياة، معناه أن كل شيء قد أصبح واضحا محدد المعالم؛ بحيث لا يعود هناك إلا طريق واحد محدد بدوره لبلوغ الخير الإنساني، عندئذ لا يكون هناك معنى لترك الحرية للناس بحيث يسلك كل منهم وفقا للقاعدة التي يمليها عليه عقله، بل يكون الأقرب إلى المعقول هو إلزام كل شخص بمراعاة الشروط الضرورية لتحقيق الخير، وهي شروط وحيدة لا بديل لها، وما يبرز هذا الإلزام أن خروج المرء عنه يعني إلحاق الضرر بنفسه وبالآخرين. وهذا يعني أن العلم الشامل - على المستوى الإنساني - لا يترك مجالا لحرية التصرف، أو للسلوك غير الملتزم باتجاه واحد محدد مقدما.
هذه المشكلة - التي أثارها تقدم العلم الحديث - تناظر مشكلة أخرى سبق أن أثارها اللاهوت عن العلم الشامل على المستوى الإلهي، فقد بدا للبعض أن شمول العلم الإلهي وإحاطته بكل شيء يتعارض مع مسئولية الإنسان عن أفعاله ؛ ومن ثم فهو يتعارض مع فكرة الثواب والعقاب، فكيف يعاقب الله إنسانا وقد كان بعلمه الشامل يعرف مقدما أنه سيرتكب الشر؟ إن الخالق يعرف منذ البداية ما سيحدث لما خلقه؛ أي إن فعل الخلق يستتبع علما شاملا، فكيف يكون المخلوق بعد ذلك مسئولا أمام من خلقه، ومن أحاطه علمه منذ البداية بكل تفاصيل سلوكه في المستقبل؟ لقد لخصت الفيلسوفة «سوزان ستيبنج» وجهة النظر هذه حين أكدت وجود تناقض شديد بين فكرة الله بوصفه خالقا وفكرة الله بوصفه قاضيا،
4
فكيف يكون خالق الشيء حكما عليه؟ كيف يشكله على نحو معين، ويعلم مقدما ما سيترتب على هذه الطريقة الخاصة في التشكيل، ثم يحاسبه على تصرفاته المترتبة على طريقة تشكليه له؟ هذا الاعتراض الخطير هو الذي دفع اللاهوتيين إلى أن يبتدعوا فكرة «حرية استواء الأطراف
Librté d’indifférence »، بوصفها تلك الحرية التي منحت للإنسان بحيث يكون أمامه في كل حالة طريقان يستطيع الاختيار بينهما؛ فالله قد شاء أن يمنح الإنسان القدرة على أن يحدد لنفسه المسلك الذي يختاره بين مسالك متعددة ممكنة؛ حتى يكون للثواب والعقاب والمسئولية أمام الله معنى.
ولا جدال في أن هذا الحل يؤدي إلى تحقيق قدر من الحرية للإنسان. ولكن على حساب شمول العلم الإلهي؛ إذ إن إتاحة ممكنات متعددة أمام السلوك الإنساني لن يكون أمرا يستتبع مسئولية أمام الله إلا إذا كان اختيار الإنسان لواحد من هذه الممكنات أمرا خارجا عن نطاق العلم الإلهي الشامل، وإلا عدنا مرة أخرى إلى التعارض بين العلم الإلهي الشامل والمسئولية أمام الله، وهكذا يكون في هذا الحل ذاته تأييد للتعارض بين شمول العلم الإلهي وبين الحرية الإنسانية، بحيث لا يمكن تأكيد هذه الحرية إلا بتضييق نسبي لنطاق العلم الإلهي.
ولعل هذه النقاط كلها كفيلة بإيضاح وجهة النظر التي تؤكد وجود تعارض أساسي بين العلم والحرية، وتذهب إلى أن ازدياد أحكام البناء العلمي يؤدي حتما إلى تضييق نطاق الحرية، وإلى أن الحرية لا تزدهر بحق إلا في ظل مذهب يرخي من قبضة الحتمية العلمية على العالم ، ويترك مجالا للاختيار بين ممكنات متعددة تستوي في أهميتها، ولا يتحتم علينا تفضيل أحدهما دون الآخرين؛ أي إن الحرية في نظر أصحاب هذا الرأي لا تقوم لها قائمة إلا بقدر ما يتخلى العالم عن فكرة الضرورة ويستعيض عنها بفكرة العرضية، أو بقدر ما يتنازل عن الحتمية لكي يؤكد أن مسار الحوادث غير محتوم وغير متحدد أو متعين منذ البداية. (2-4) التوفيق بين العلم والحرية
لم يقتنع مفكرون كثيرون بوجهة النظر السابقة، التي تؤكد وجود تعارض أساسي بين العلم والحرية. وكان عدم اقتناعهم هذا راجعا إلى ما تشهد به التجربة ذاتها، من أن تحرر الإنسان مواكب لتقدمه في العلم، على حين أن الجهل مظهر من أوضح مظاهر عبودية الإنسان، وابتداء من هذه المقدمة التي لا تحتاج إلى برهان؛ لأنها مستمدة من تجربة المجتمعات التي ارتكز عليها أنصار الرأي السابق، لكي يهتدوا إلى أوجه الخطأ أو النقص فيها، ولم يكن من العسير عليهم أن يهتدوا إلى الأساس النظري الكفيل بتأييد الارتباط الوثيق الذي تشهد به التجربة تقدم العلم وزيادة حرية الإنسان.
ولقد كان لزاما على هؤلاء المفكرين أن يحاربوا - منذ البداية - وجهة النظر التي تفصل بين العلم والحرية، بحجة أن العلم متعلق بمجال المعرفة، على حين أن الحرية تتعلق بمجال الفعل والسلوك والإرادة؛ ذلك لأن تأكيد هذا الانفصال يعني - في نهاية الأمر - استحالة قيام أية علاقة بين العلم والحرية، ما دام لكل منهما مجاله الخاص؛ فالعلم يبحث في الأمور النظرية ويستهدف بلوغ الحقيقة لذاتها، على حين أن الحرية مفهوم علمي في أساسه، يحققه السلوك البشري، ولا يتأثر بالحقيقة النظرية في قليل أو كثير.
هذا الرأي ينكر التداخل الوثيق بين الجانب النظري والعلمي في حياة الإنسان، ويتصور العلم عاكفا على الكشف النظري للحقائق دون أي اهتمام بالتطبيق، ويبدو له أن قيمة الحقيقة تقطن - كما أراد لها أفلاطون - في عالم مثالي مفارق لعالمنا هذا، لا شأن له بمشكلات العالم الأرضي أو بالتطبيقات العلمية، ولسنا في حاجة إلى جهد كبير لكي نثبت بطلان هذا الانفصال غير المشروع بين مجال النظر ومجال العمل أو التطبيق؛ إذ إن العلم - في كل كشف نظري يبلغه - يحرز انتصارات علمية مرتبطة بهذا الكشف أوثق الارتباط، ولا يمكن فصلها عنه إلا تعسفا.
ليس هناك - إذن - انفصال بين مجالي الحرية والعلم، أو بين ميدان السلوك العلمي وميدان الحقيقة النظرية؛ فالعلم حين يسعى إلى كشف أسباب الظواهر - وهو سعي يبدو نظريا خالصا - يقدم إلينا في الوقت ذاته الوسائل التي تتيح لنا السيطرة على هذه الظواهر، وبالتالي إثبات حريتنا إزاء الضرورة الطبيعية. بل إن المبدأ العام الذي يرتكز عليه الجهد العلمي، ولا يكون هذا الجهد مفهوما بدونه، وهو مبدأ الحتمية، ووجود ارتباط منتظم بين الظواهر، هو في ذاته عامل عظيم الأهمية في تحقيق الحرية الإيجابية للإنسان، فهذا المبدأ يعني أن كل جهد يبذله الإنسان يمكن أن يحقق النتائج المقصودة منه، إذا كان هذا الجهد متجها في الاتجاه الصحيح، وأننا لو غيرنا اتجاه جهدنا لتغيرت النتائج المترتبة عليه. وهذا معناه أن مبدأ الحتمية - الذي يبدو في ظاهره مبدأ نظريا بحتا - يساعد على تحقيق الحرية بمعناها العلمي الإيجابي، أي من حيث هي بلوغ أهداف فعلية مطابقة لما نبذله في سلوكنا من جهد، وسائرة في نفس الاتجاه الذي يسير فيه هذا السلوك. أما لو تخيلنا أن مبدأ الحتمية ليس هو المسيطر، أي إذا تصورنا أن كل شيء في الكون لا يخضع لقوانين العلم الضرورية، إما لأن هناك قدرا محتوما يفرض على الطبيعة مسارها بقوة خارجية، لا بقواها الباطنة الخاصة، وإما لأن العرضية الشاملة هي التي تسود؛ بحيث لا يتعين أن تؤدي نفس الأسباب إلى حدوث نفس النتائج، لو تخيلنا ذلك فسوف تغدو الحرية مستحيلة؛ إذ إن هذا معناه أن أي جهد نبذله لن يكون له أثر، وأن كل شيء إما أن يحدث بطريقة مرسومة مقدما بغض النظر تماما عن الجهد الذي نبذله، وإما أن يحدث بطريقة عشوائية لا تعبر عن ارتباط منتظم بين الظواهر. وفي كلتا الحالتين تختفي العلاقة السببية بين جهدنا وبين النتائج التي نتوقعها منه، أو التي نبذل هذا الجهد من أجل بلوغها.
وهكذا فإن فكرة العرضية الشاملة التي تستبعد كل حتمية، والتي بدا لنا من قبل أنها هي التي تجعل الحرية ممكنة، تقف حاجزا منيعا في وجه كل حرية إيجابية نستهدف فيها تحقيق نتائج معينة من أفعالنا، ومعنى ذلك أن سيادة العرضية لا تقل تعارضا مع الحرية عن فكرة الجبرية المطلقة، أو القدرية التي لا تترك مجالا لأي تصرف فردي، وبالحتمية العلمية وحدها؛ أعني بالمبدأ القائل بوجود ترابط منتظم قابل للفهم بين الظواهر، يمكن للحرية أن تتحقق إيجابيا، بحيث تترتب على الأفعال الإنسانية كل النتائج التي نتوقعها منها.
بهذا المعنى يزول كل تعارض بين العلم والحرية، بل يصبح العلم أقوى أداة لتحقيق حرية الإنسان في مظهرها الإيجابي الفعال؛ أعني تلك الحرية التي تتجلى في سيطرة الإنسان على الطبيعة بمزيد من الإحكام. وفي قدرته على فهم قوانينها واستغلالها لصالحه، وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق بين العلم والحرية قد تأكد إلى أقصى حد بفضل كشوف العلم الحديث، فإن في وسعنا أن نجد لدى مذهب يوناني قديم - هو المذهب الرواقي - استباقا لهذا الاتجاه؛ إذ إن الرواقيين كانوا بدورهم يربطون بين فهم الإنسان للضرورة السائدة في الكون، وبين تحرره من انفعالات، فالإنسان - في نظرهم - يظل عبدا لانفعالاته ما دام يستسلم لها، وينظر إليها كما لو كانت قوة لها كيانها الخاص، تطغى على كل ما عداها من القوى المحيطة به. أما لو توصل إلى إدراك أن انفعالاته ليست إلا جزءا ضئيلا من القوانين الكلية للطبيعة، وإلى أن الأسباب التي تؤدي إلى ظهور هذه الانفعالات ليست إلا حوادث ضرورية كان ينبغي أن تحدث، ولا تستطيع انفعالاته - مهما اشتدت - أن تغير منها شيئا؛ فعندئذ يستطيع عقله أن يترفع عن الاستسلام للانفعال، وأن يوجه إرادته إلى موقف من «الكبرياء» يتعالى على كل عوامل الضعف في النفس البشرية.
ولقد لاحظنا من قبل، عند الكلام عن نقيضة العلم والحرية، رأي اسبينوزا القائل: إن حرية الإنسان تتحقق إذا ما استطاع أن يفهم الضرورة الكامنة في الظواهر، وأن يربط كل حادثة جزئية بالمجرى العام للحوادث الكونية. هذه القدرة على الفهم هي التي تحرر الإنسان من عبودية الانفعالات، وبقدر إدراك الإنسان للضرورة الكونية يكون حرا. ولا جدال في أن هناك ارتباطا وثيقا بين رأي اسبينوزا هذا وبين الرأي الرواقي، حتى إن الكثيرين نظروا إلى موقف اسبينوزا على أنه ترديد لفكرة رواقية قديمة، لم يأت فيه بجديد؛ على أننا نستطيع أن نلمح اختلافا رئيسيا بين الموقفين؛ فالموقف الرواقي كان يقف عند حد النتيجة السلبية، وهي التحرر من الانفعال، ولم يكن يجعل للعقل من دور إلا إدراك مبدأ الضرورة الكونية فحسب. أما اسبينوزا فإنه يتجاوز هذا الموقف السلبي، مع استيعابه له، ويؤكد أن المعرفة والفهم في ذاتهما - لا من حيث هما وسيلة للتخلص من الانفعالات فحسب - هما اللذان يحققان للإنسان حريته بمعناها الصحيح، فإدراك الضرورة عنده مرتبط بالحرية لمجرد كونه فهما عاقلا للقوانين الكونية. وفي العمل العقلي الذي نربط فيه كل الظواهر بأسبابها يكون تحررنا، وما التخلص من الانفعالات إلا خطوة تمهيدية تهيئ السبيل لتلك الممارسة العقلية التي هي أشرف غاية يمكن أن يستهدفها الإنسان. وهكذا يتفق رأي اسبينوزا مع الموقف الرواقي ثم يتجاوزه، والفارق بين الموقفين هو - بطبيعة الحال - تعبير عن الاختلاف بين فلسفة كان كثير من أقطابها مضطهدين، بل كان بعضهم عبيدا أرقاء بالفعل، تهدف إلى التخلص من مظاهر الانفعال التي تتملك النفس البشرية، دون أن تفكر على الإطلاق في السيطرة على الظروف الخارجية التي تولد هذه الانفعالات؛ لأن تلك الظروف خارجة تماما عن قبضتها، وبين فلسفة ظهرت في عصر الكشف العلمي وبداية التصنيع، تؤمن بأن من الممكن السيطرة إيجابيا على الطبيعة وعلى كل الظروف الخارجية التي تؤثر في الإنسان، ولا تكتفي بأن تقصر مجال اهتمامها على الإنسان من الداخل لكي تحرره من الانفعال فحسب.
ولقد أصبح هذا الرأي - الذي يربط إيجابيا بين الحرية والعلم - معبرا عن وجهة نظر الكثيرين في الفترة الحديثة من الفلسفة، ولسنا في حاجة إلى سرد أمثلة كثيرة لبيان مدى الأهمية التي أصبحت لهذا الرأي في الآونة الأخيرة. ولكن يكفي أن نشير إلى أن مذاهب فكرية متباينة أشد التباين قد أخذت، ومن أشهر هذه المذاهب - في الآونة الحاضرة - والمذهب الماركسي، الذي يرفض كل فهم للحرية مبني على فكرة عرضية الطبيعة أو نقص معرفتنا بقوانينها، ويؤكد أن لا حرية في ظل سيادة الصدفة والعشوائية، وأن الحرية ليست إلا الاستغلال القائم على الفهم لقوانين الطبيعة من أجل مصلحة الإنسان، والجديد الذي تضيفه الماركسية إلى هذا المبدأ - الذي رأينا أمثلة عديدة له خلال تاريخ الفكر الإنساني - هو أنها لا تقتصر على الربط بين الحرية وبين فهم قوانين الطبيعة، بل تربط - ربما على نحو أوثق - بينها وبين فهم قوانين المجتمع، فحرية الإنسان لا تتحقق كاملة إلا إذا استطاع أن يفهم الضرورة الكامنة في تطور المجتمعات البشرية، ويصل إلى القوانين المتحكمة في هذا التطور، ويستخدمها من أجل الوصول إلى مرحلة القضاء التام على استغلال الإنسان للإنسان. (2-5) الحرية والمعرفة الذاتية
كان المعنى الذي استخدمت به كلمة «العلم» حتى الآن هو معنى العلم بقوانين الطبيعة أو بقوانين الحياة الإنسانية. ولكن هناك مجالا آخر قد يكون للفظ «للعلم» فيه معنى مخالف، هو مجال معرفة المرء بذاته، فهل ينطبق ما قلنا من قبل عن العلاقة بين العلم والحرية على هذا المجال بدوره؟ أم أن الخصائص التي لا بد أن تتميز بها هذه المعرفة الذاتية عن سائر أنواع المعرفة، تجعل لهذه العلاقة طابعا مخالفا حين تطبق على هذا المجال؟
إن كثيرا من المفكرين يفرقون على نحو قاطع بين المشاهدة الخارجية لسلوك الآخرين، وبين تأمل الفاعل نفسه لسلوكه؛ ففي الحالة الأولى يبدو سلوك الآخرين في أغلب الأحيان خاضعا لعوامل ضرورية. أما حين أتأمل سلوكي الخاص فإني أشعر بنفسي حرا من كل قيد، والمشكلة في هذه الحالة هي أن الآخرين بدورهم يمكنهم - حين يشاهدون سلوكي - أن ينسبوه إلى عوامل ضرورية مسببة له؛ بحيث يكون للفعل الواحد طابع الضرورة في آن واحد.
ويتجلى هذا الاختلاف بين وجهة النظر الخارجية ووجهة النظر الداخلية إلى السلوك بوضوح تام في حالة القدرة على التنبؤ؛ فالعلم يسعى إلى أن يمنح الإنسان القدرة على التنبؤ بمجرى الحوادث الطبيعية وبسلوك الآخرين، والمثل الأعلى له هو أن يكون من الممكن التنبؤ مقدما بأكبر عدد ممكن من الظواهر إن لم يكن بالظواهر كلها. ولكن هل ينطبق ذلك على علاقة الفرد بنفسه؟ وهل يحاول أحد أن يتنبأ «علميا» بما سيسلكه بناء على دراسة وافية بسوابق سلوكه؟ هذا طبعا مستحيل، ويتنافى مع ما يحدث علميا؛ فالأمر المشاهد فعلا هو أن الشعور الداخلي بالحرية يظل قائما مهما زادت معرفتنا العلمية بدوافع الإنسان. بل إنني لأشعر بأن محاولة التنبؤ بسلوكي محاولة عقيمة؛ لأني أنا صانع أفعالي، فلا أحتاج إلى تتبع العوامل المتحكمة فيها، والتي يمكن أن تساعدني على التنبؤ بها.
في هذه الحالة نجد أن عدم قابلية سلوك المرء الداخلي للتنبؤ - حين يكون الأمر متعلقا بمعرفته لنفسه - لا يتعارض على الإطلاق مع شعور المرء بالحرية. بل إن هذا الشعور بالحرية هو ذاته الذي يجعل محاولة تنبؤ المرء بسلوكه محاولة لا معنى لها، والأمر هنا مختلف عما هو عليه في بقية الحالات: فتبعا لوجهة النظر التي عرضناها من قبل، والتي تؤكد عدم التعارض بين العلم وبين الحرية، لا تتنافى الحرية مع قابلية الظواهر الإنسانية للتنبؤ، فإذا تنبأت بأن شخصا أعرفه جيدا سيرفض لونا معينا من الطعام قدم له، فليس معنى ذلك أنه لم يكن حرا في رفضه هذا. وبعبارة أخرى: فإن الجهد الذي يبذله العلم من أجل زيادة قدرتنا على التنبؤ بسلوك الناس لا يتنافى مع الحرية أو يضيق نطاقها. ولكن هذا لا يصدق على ذلك النوع الخاص من المعرفة؛ أعني معرفة المرء بنفسه؛ إذ إن المرء لا يحاول أن يتنبأ بسلوكه قياسا على تصرفاته الماضية، ليس فقط لأن وراء كل فعل عددا لا نهائيا من العوامل التي يكاد يكون من المستحيل الإحاطة بها، والتي قد يستغرق تتبعها - في حالة مجرد اختيار بسيط نقوم به - عمرا بأكمله، بل أيضا لأن الطبيعة الخاصة للمعرفة الذاتية تجعل الشعور بالحرية ضروريا في تعامل المرء مع ذاته؛ بحيث يختلف هذا التعامل اختلافا جذريا عن التعامل مع الآخرين.
على أن هذا الشعور الداخلي بالحرية يقابله، ويرتبط به في الوقت ذاته: شعور آخر لا يستطيع أحد أن ينكر أهميته في حياة الإنسان الأخلاقية، وأعني به الشعور بالمسئولية. هذا الشعور يتخذ - في الحضارات الراقية - صورة علاقة بين الفرد وبين نفسه أو بينه وبين «ضميره»، ولسنا الآن بصدد مناقشة مشكلة التطور الذي طرأ على مفهوم المسئولية؛ بحيث تحولت من مسئولية أمام طرف خارجي - كالمسئولية أمام سلطة المجتمع أيا كان طابعها - إلى مسئولية داخلية لا يتصل الفرد فيها إلا بنفسه، ويكون الفرد فيها هو السائل والمسئول في آن واحد، إنما الذي يعنينا هنا أن مشكلة المسئولية مظهر من مظاهر المعرفة الذاتية للإنسان؛ أعني أن الإنسان لا يعد نفسه مسئولا إلا بناء على معرفة معينة بأبعاد فعله، وبعد تحليل ومقارنة بين فعله الحاضر وأفعاله الماضية، بل بينه وبين ماضيه بأكمله. وربما أدخل مشروعاته المستقبلية في حسبانه أيضا؛ لكي يستيقن من مدى دخول فعله في الإطار الذي يرسمه لحياته في المستقبل، ومعنى ذلك - بعبارة أخرى - أن فكرة المسئولية ترتبط ارتباطا وثيقا بمشكلة العلاقة بين الحرية والعلم، بل إن من الممكن أن تتخذ هذه المشكلة الأخيرة - في أحد جوانبها - طابعا ثلاثيا، يكون أطرافه هو: العلم والحرية والمسئولية، فعلى أي نحو يمكن أن تفهم المشكلة في طابعها الثلاثي هذا؟
ولقد سبق لنا أن ناقشنا موضوع التعارض بين العلم الإلهي الشامل وبين فكرة الثواب والعقاب، أي بينه وبين مبدأ المسئولية أمام الله، وتحدثنا عن الصعوبة التي يواجهها الفكر الإنساني عندما يتصور الله بوصفه خالقا ويتصوره في الآن نفسه بوصفه قاضيا؛ أعني عندما يتصور الخلق الإلهي للإنسان على أنه فعل مطلق تتحدد بوساطته الطبيعة البشرية بجميع تفاصيلها، ويتصور الجزاء الإلهي للإنسان على أنه محاسبة من الله لنفس الإنسان على أفعاله المترتبة على طبيعته هذه، أي على أنه تعبير عن مسئولية الإنسان أمام خالق طبيعته التي تسببت في هذه الأفعال، في هذه الحالة نجد تناقضا واضحا بين العلم - مفهوما بمعناه الإلهي الشامل - وبين الحرية وما يترتب عليها من مسئولية، فهل يوجد مثل هذا التعرض على المستوى الإنساني؟ أعني هل يؤدي العلم الإنساني إلى الحد من المسئولية الأخلاقية مثلما يعتقد البعض أنه يؤدي إلى الحد من الحرية؟
إذا بحثنا هذه المشكلة في أبعادها الثلاثة التي أشرنا إليها من قبل - أعني إذا حللنا العلاقة الثلاثية القائمة بين العلم (أو المعرفة) والحرية والمسئولية - لتكشفت أمامنا - منذ البداية - نقيضة تبدو - لأول وهلة - على قدر غير قليل من الغرابة؛ ذلك لأن الجميع يسلمون بأن الحرية شرط أساسي للمسئولية، ولم يكن التناقض الذي أشرنا إليه منذ قليل بين الله بوصفه خالقا والله بوصفه قاضيا سوى تعبير ضمني عن إيماننا بأن المسئولية لا يكون لها معنى في ظل انعدام الحرية؛ أعني في الحالة التي يكون فيها مصدر الأفعال الإنسانية خارجا عن الإنسان نفسه، أو تكون فيها تصرفات الإنسان خاضعة - بصورة حتمية - لمقتضيات طبيعة لم يكن للإنسان ذاته دور في إيجادها. صحيح أن هناك مجتمعات بدائية تعد الإنسان مسئولا عن أفعال لم يكن هو ذاته مصدرها، أو قام بها مرغما. ولكن حديثنا الآن ينصب على المراحل المتقدمة في الوعي الأخلاقي، وهي المراحل التي تكون فيها حرية الفعل شرطا لا غناء عنه لقيام المسئولية، ومع ذلك فإن المسئولية ذاتها تفترض مقدما نوعا من الحتمية؛ إذ إن عملية وضع المرء موضع المسئولية، تفترض وجود اتصال ضروري بين الشخص حين قام بالفعل الذي يسأل عنه، وبينه في اللحظة التي يسأل فيها، وتفترض وجود خط سببي واحد يجمع بين هاتين اللحظتين. كذلك فإن نتيجة المسئولية وهي الجزاء - سواء أكان جزاء معنويا أم ماديا - تفترض الحتمية؛ لأن هذا الجزاء سيوقع على الشخص بوصفه سببا للفعل. كما أن المفروض أن هذا الجزاء سوف يكون له تأثير معين في الشخص، فيشجعه على فعله المحمود ويثنيه عن الفعل المذموم، ومثل هذا التأثير يفترض بدوره الحتمية والسببية. وهكذا تظهر أمامنا تلك النقيضة بوضوح؛ إذ إن المسئولية تفترض الحرية قبلها، أي كشرط ممهد لها، وتفترض الحرية بعدها؛ أي بوصفها أساس تبرير فعل المسئولية ذاته، وما يترتب عليه من جزاء. وبعبارة أخرى، فإذا كان علمنا بأصل الفعل الذي نحاسب عليه الشخص غير ضروري؛ لأننا نفترض وجود حرية لدى هذا الشخص، فإن علمنا بالنتائج التي ستترتب على محاسبتنا له ضروري حتى يكون لهذه المحاسبة ذاتها معنى. وهكذا يتلخص الموقف في أن المسئولية تقتضي الحرية مقدما. ولكنها تقتضي عكس الحرية؛ أي الحتمية، في المرحلة اللاحقة، كما أن المسئولية لا تشترط العلم في البداية. ولكنها تفترضه وتشترطه في النهاية.
هذه النقيضة تنطوي ضمنا على الاعتقاد بأن الحرية، في مقابل الحتمية، هي المقدمة الضرورية لقيام المسئولية، وهو الاعتقاد الذي قلنا من قبل : إنه - بالنسبة إلى الذهن العادي - يكاد يكون قضية مسلما بها، فهل يصمد هذا الاعتقاد أمام النقد والتحليل؟ وهل من الصحيح أن الحتمية تتنافى مع المسئولية، بمعنى أن السلوك الذي تعرف أسبابه وتحدد مقدما لا يمكن أن يكون سلوكا يسأل عنه المرء؟
من الملاحظ أن هذا الرأي لا يقدم إلا في حالة الأفعال التي تستوجب اللوم فحسب؛ فحين يكون الجزاء المترتب على المسئولية عقابا، عندئذ نبحث في مقدمات الفعل الذي استوجب هذا العقاب، ونحاول أن نثبت أنه لم يكن فعلا «حرا»؛ أي إنه كان فعلا وقع نتيجة لأسباب حتمية؛ وبذلك نخفف من مسئولية المرء عنه أو ننفيها نفيا تاما. أما في حالة الأفعال التي تستحق المدح والإطراء، والتي يكون الجزاء فيها ثوابا، فإننا لا نحاول على الإطلاق أن نخفف من مسئولية الفاعل، أو من مسئوليتنا نحن إذا كنا فاعلين، عن طريق الإشارة إلى وجود سوابق ضرورية وحتمية للفاعل، وكما قال منكوفسكي: «فلست أعرف شخصا رفض اللجيون دونور (وسام الشرف الفرنسي) بحجة أنه من أنصار الحتمية»،
5
ومع ذلك فالمبدأ واحد في الحالتين، فلماذا إذن لا نرفض التكريم على فعل يستحق المدح على أساس أننا لم نكن أحرارا كل الحرية في القيام به، وأن هناك سوابق ضرورية هي التي جعلت من المحتم علينا أن نتصرف على هذا النحو؟ ولماذا نقتصر في استخدامنا لهذه الحجة على الحالات التي نكون فيها معرضين للوم أو العقاب؟ من المؤكد أن هذه الحقيقة وحدها كفيلة بأن تشككنا في صحة الاعتقاد الشائع بأن المسئولية لا قيام لها في ظل الحتمية؛ أي في ظل المعرفة الدقيقة بالأسباب الضرورية المؤدية إلى ظهور الفعل.
وواقع الأمر أنه ليس من الصعب على المرء تصور مسئولية بدون حرية كاملة؛ أعني مسئولية في إطار علم جزئي غير كامل بمقدمات الفعل الذي يسأل عنه المرء؛ فالمسئولية القانونية تفترض قدرا معينا من الحرية. ولكنها لا تفترض حرية مطلقة، بدليل أنها تقوم على أساس وجود قواعد تشريعية معينة يتحتم إطاعتها، سواء بحرية أم بغير حرية. وبعبارة أخرى: فإن عملية البحث عن دوافع الفعل - التي يقوم بها القانون من أجل تحديد مسئولية الفاعل - لا تستمر إلا إلى حد معين، بدليل أن القانون لا يظل يتعقب الأصول الوراثية للفاعل - مثلا - لكي يهتدي فيها إلى الأسباب التي ربما كانت قد تحكمت في جريمته، مع أنه قد تكون هناك من بين هذه الأصول عناصر يفيد منها العلم في الكشف عن عوامل كانت مقيدة لحريته، هي التي دفعته إلى ارتكاب جريمته، ولما كانت المسئولية الأخلاقية تنطوي على قدر من الموازاة مع المسئولية القانونية، ولما كان الضمير الأخلاقي هو «القانون وقد اتخذ طابعا باطنا»،
6
فمن الممكن القول: إن المسئولية الأخلاقية تفترض بدورها قواعد معينة، نقلت إلى المجال الباطن في الإنسان، ويتوجب على المرء إطاعتها مثلما يتوجب عليه إطاعة نصوص القانون، في هذه الحالة لا تفترض المسئولية حرية كاملة، بقدر ما تفترض إطاعة قواعد «الضمير الخلقي»؛ أي إنه إذا لم تكن الحتمية مؤدية إلى إعفاء المرء من المسئولية القانونية، ألا يثير ذلك احتمالا في أن تكون المسئولية الأخلاقية بدورها ممكنة في ظل الاعتقاد بالحتمية؟
إن من المسلم به أن هناك اختلافا أساسيا بين المسئولية الأخلاقية والمسئولية القانونية؛ فالقانون «نفعي» يستهدف تحذير الناس من ارتكاب الأخطاء، ويراعي في عقوباته أن تكون رادعا للآخرين لا جزاء للفاعل وحده. أما الأخلاق فهي شخصية، يتركز الحكم فيها على الفاعل نفسه؛ ومن ثم كانت أكثر اهتماما بالنوايا والمقاصد. وكان يبدو أنها تتنافى مع وجود الحتمية. ولكن ألا يجوز أن يكون في الأخلاق بدورها جانب نفعي؛ بحيث إنني عندما ألوم نفسي على فعل خاطئ، لا أوجه هذا اللوم إلى نفسي على أساس أنني كنت أستطيع أن أسلك بطريقة مخالفة (إذ أن هذا مستحيل في رأي مذهب الحتمية)، بل أوجهه على أساس أنني آمل بهذا اللوم، أن أتجنب تكرار مثل هذا الخطأ في المستقبل؟ في هذه الحالة تكون المسئولية ممكنة في ظل الحتمية، ولا يكون هناك تعارض بينهما.
على أن هذا التعارض يمكن أن يزول بمزيد من السهولة إذا رجعنا إلى تجربتنا الباطنة، فمهما كان رأي المرء في مشكلة الحتمية، وهل هي السائدة في العالم أم أن الحوادث فيها عنصر أساسي من العرضية، فإنه لا يستطيع أن يستخلص من شعوره الداخلي بالمسئولية؛ أي إن الجمع بينهما ممكن بلا تعارض في داخل الشخص الواحد، وتعليل ذلك ميسور؛ إذ إن الحتمية مبدأ لا شخصي شامل، على حين أن المسئولية ظاهرة معيشية، تعد من المعطيات المباشرة للوعي، وبها تتميز حياتنا الإنسانية على وجه التخصيص، الحتمية مبدأ يمتد إلى ما لا نهاية في المكان والزمان على حين أن المسئولية تجربة حية شخصية، تحدث في زماننا ومكاننا الخاصين، ولها حدودها المعلومة، ولما كانت الفكرتان لا تجتمعان على أرض واحدة، فإن التعارض بينهما لا بد أن يكون مصطنعا.
وأخيرا، فحتى لو سلمنا بوجود تعارض بين المسئولية التي تفترض الحرية وبين الحتمية التي تنفيها، فينبغي أن نتذكر أن هذا التعارض مصطنع؛ لأن الحتمية - كما أكدنا في موضع سابق - لا تنفي الحرية، ولأن هناك تراثا فلسفيا كاملا يجعل الحرية كامنة في نفس علمنا بالأسباب المتحكمة في السلوك وإدراكنا الواعي بها، لا في حالة العماء والتخبط التي تبدو فيها أفعالنا مفتقرة إلى أي سبب. (3) من الحرية النظرية إلى الحريات العملية
ليست التأملات النظرية السابقة منقطعة الصلة بالبحث العلمي في العلاقة بين العلم والحرية الشخصية؛ ذلك لأن الاتجاه النظري للمفكر لا بد أن يكون له تأثير في طريقة تناوله للأمور من زاويتها العملية. ومن الزيف أن نعتقد بوجود انفصال بين الوجه النظري والوجه العملي للفكر؛ إذ إن التجربة الإنسانية تشهد في كل لحظة بالتداخل الوثيق بين هذين الوجهين. وفي حالة مشكلة الحرية بالذات، كان للمواقف النظرية للمفكرين تأثيرها الفعال في نظرتهم إلى الحريات العلمية؛ إذ إن الفلسفات التي تقيم تعارضا بين العلم والحرية، لا تنادي عادة بمبدأ السعي الإيجابي من أجل اكتساب مزيد من الحريات العلمية عن طريق العلم، على حين أن تلك التي تزيل هذا التعارض تفتح الباب على مصراعيه أمام العلم كما يبذل جهود الإيجابية في سبيل نطاق الحريات الإنسانية .
ومعنى ذلك أن انتقالنا من بحث المشكلة على المستوى النظري التأملي إلى بحثها على المستوى الإنساني الواقعي، ليس انتقالا من مجال مخالف له، وإنما هو انتقال من الوجه النظري إلى الوجه التطبيقي لنفس المجال، وإذا كان قد ظهر من المفكرين من ينكرون أصلا قيمة البحث النظري في هذه المشكلة، ويؤكدون أن أمثال هذه التأملات الفلسفية إنما هي مناقشات عقيمة يقوم بها أشخاص لا يريدون التصدي للمشكلة الحقيقية في مواجهة مباشرة، فإن من واجبنا أن نؤكد ضرورة الجمع بين الوجهين: النظري والعملي لمشكلة الصلة بين العلم والحرية، وأن نثبت أن الأبعاد الحقيقية لهذه المشكلة لا تتضح إلا عن طريق إدراك العلاقات المتبادلة بين هذين الوجهين، وسوف يتبين لنا من الموضوعات التي اخترنا أن نعالجها في القسم التالي من هذا البحث أن هناك تداخلا وثيقا بين جانبي المشكلة هذين، وأن المناقشة النظرية السابقة تكتسب مزيدا من الوضوح وتحدد المعالم، وتنتقل إلى مجال التطبيق الواقعي بفضل المناقشة العلمية التي سننتقل إليها الآن. (3-1) مشكلة الحرية في العلوم المختلفة
أولى المشكلات التي يتعين علينا أن نعرض لها في هذا الجزء من بحثنا هي النتيجة التي تصل إليها العلوم المختلفة بالنسبة إلى مشكلة الحرية، وينبغي أن نلاحظ - منذ البداية - أننا لا نستهدف تقديم عرض شامل لرأي مختلف العلوم في هذه المشكلة؛ لأن مثل هذا العرض يتجاوز بكثير أبعاد بحث كهذا. بل إننا سنكتفي بالحديث عن وجهة نظر مجموعة محدودة من العلوم في هذه المشكلة. كذلك فإن العلوم التي سنعرض لها لا تعالج مشكلة الحرية معالجة مباشرة؛ إذ إن الموضوعات التي تبحث هذه العلوم لا تتصل مباشرة بمثل هذه المشكلة. بل إن الرأي الذي نقول به في هذا الصدد يمكن التوصل إليه بطريقة ضمنية غير مباشرة فحسب. وأخيرا ينبغي أن يلاحظ أن هذا الموضوع يمثل جسرا يمكن العبور عليه من البحث النظري إلى البحث العلمي لمشكلة الصلة بين العلم والحرية؛ إذ إن المسائل التي تعالج فيه تصلح للجمع بين وجهي المشكلة هذين، أو على الأصح: تمهد للانتقال من أحدهما إلى الآخر. (أ) الفيزياء
خلال فترة ازدهار العلم الميكانيكي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ساد الاعتقاد بأن القوانين الطبيعية تخضع لنوع من الحتمية الشاملة يجعل حوادث الكون كلها تسير في اتجاه يمكن حسابه مقدما بدقة كاملة إذا ما توافرت المعطيات الكافية، واستدل بعض المفكرين من ذلك على أن السببية الدقيقة التي يخضع لها الكون لا تترك مجالا للحرية الإنسانية، وعلى أن هذه الحرية لا يعود لها معنى في عالم تتحكم القوانين الضرورية في كل ما يقع فيه من أحداث. وكان أدق تعبير عن هذا الموقف هو تلك الفقرة المشهورة التي عبر فيها العالم الفرنسي «لابلاس» عن سيادة الحتمية في الكون، فقال: «لو وجد عقل يعرف - في لحظة معينة من الزمان - كل القوى التي تمارس تأثيرها في الطبيعة، فضلا عن المواقع التي تتخذها في تلك اللحظة جميع الأشياء التي يتألف منها الكون؛ لاستطاع أن يضم حركات أكبر الأجسام في العالم وحركات أصغر الذرات في صيغة واحدة، بشرط أن يكون هذا العقل من القوة بحيث يخضع كل المعطيات للتحليل، فبالنسبة إلى عقل كهذا لن يكون هناك شيء غير يقيني، بل يصبح الحاضر والمستقبل ماثلين أمام ناظريه.»
هذه الصيغة تعبر بوضوح قاطع عن موقف العلم الطبيعي في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر من مشكلة الحتمية. ولكن هل يمكن القول: إنها تؤثر فعلا في نظرتنا إلى مشكلة الحرية كما اعتقد الكثيرون؟ الواقع أن هذه الصيغة فرضية في أساسها؛ فهي تتحدث عن حالة غير متحققة فعلا، يوجد فيها عقل محيط بكل صغيرة وكبيرة عن العالم في لحظة معينة من الزمان، وحتى لو قيل: إن مسألة إمكان وجود مثل هذا العقل أو عدم وجوده مسألة ثانوية، وأن أهم ما في الأمر هو المبدأ نفسه في صورته الموضوعية، فينبغي أن نلاحظ أن هذا المبدأ لا يمس الحرية الإنسانية، إنه يؤكد إمكان التنبؤ بكل حوادث الكون. ولكنه لا يتدخل في مسار الإطلاق بقابلية الحوادث للتنبؤ، وسيظل هذا السلوك يسير في مجراه دون أي تدخل خارجي.
ومع ذلك فقد كان التفسير الشائع لصيغة «لابلاس» هو أنها تعني إلغاء الحرية. وكان من المألوف في أوساط المفكرين أن يقال: إن علم الفيزياء يؤكد استحالة الحرية الإنسانية، ومن هنا كان الحريصون على هذه الحرية يتحينون أية فرصة للخلاص من هذا المأزق الذي أوقعتهم فيه فكرة العلية الشاملة في العلم الطبيعي.
وحانت هذه الفرصة في أوائل القرن العشرين، حين حدث انقلاب حاسم في علم الفيزياء، انهارت معه مفاهيم الحتمية والعلية بمعناها التقليدي، وأصبح انعدام التعيين أو اللاتحدد كامنا في قلب جزئيات العالم المادي، وثبت أن التنبؤ الدقيق الكامل بمسار هذه الجزئيات مستحيل؛ لأن عملية الملاحظة ذاتها تتدخل في إحداث نوع من الانحراف في هذا المسار؛ بحيث تكون هناك قفزات غير متوقعة في دقائق المادة، يستحيل تطبيق مبدأ العلية الدقيقة عليها.
وكما سارع المفكرون من قبل إلى استخلاص نتائج تقضي على الحرية الإنسانية من صيغة لابلاس التي تؤكد الحتمية المطلقة، فقد سارع غيرهم إلى استخلاص نتائج تؤكد أن علم الفيزياء ذاته يؤيد الحرية الإنسانية، بعد أن ثبتت استحالة الحتمية بمعناها التقليدي. وكان من أصحاب هذا الرأي من بين العلماء المشهورين في أوائل القرن العشرين، فهذا أدنجتن
Eddington
يقول في أحد مؤلفاته: «نستطيع أن نلاحظ أن العلم يسحب بذلك (رأي بإدخال مبدأ عدم قابلية التنبؤ) معارضته المعنوية لفكرة حرية الإرادة، فأولئك الذين يقولون بنظرية حتمية عن النشاط الذهني ينبغي أن يفعلوا ذلك بوصفه نتيجة لدراستهم للذهن ذاته، لا على أساس أنهم بذلك يجعلونه أكثر تلاؤما مع معرفتنا التجريبية بقوانين الطبيعة غير العضوية.»
7
وفي كتاب آخر يقول: «إن الثورة في النظرية العلمية - التي طردت الحتمية من الفيزياء الحالية - لها نتيجة هامة هي أنه لم يعد من الضروري افتراض أن الأفعال البشرية محتمة مقدما بصورة كاملة، وعلى الرغم من أن باب الحرية البشرية قد فتح، فإنه لم يفتح على مصراعيه، بل ظهر قبس ضئيل من نور النهار. ولكني أعتقد أن هذا يكفي لتبرير إعادة توجيه نظرتنا إلى المشكلة ...»
8
ثم يقول: «وهكذا نستنتج أن نشاط الوعي لا يخالف قوانين الفيزياء، ما دام مبدأ اللاتعين السائد حاليا يسمح بوجود حرية تمارس عملها فيه.»
9
وبنفس الألفاظ تقريبا يقول جيمس جينز
James Jeans : «إن الفيزياء الجديدة (فيزياء اللاتعين) قد أظهرت على الأقل أن مشكلتي: العلية وحرية الإرادة في حاجة إلى صياغة جديدة، وعلى حين أن الفيزياء الكلاسيكية بدت كما لو كانت توصد الباب المؤدي إلى أي نوع من حرية الإرادة، فإن الفيزياء الجديدة لا تفعل ذلك، بل يبدو أنها توحي بأن الباب يمكن أن يفتح لو استطعنا أن نهتدي إلى المقبض. إن الفيزياء القديمة قد كشفت لنا عن عالم كان يبدو أقرب إلى السجن منه إلى المسكن. أما الفيزياء الجديدة فتكشف لنا عن عالم يبدو كما لو كان صالحا لأن يكون مسكنا ملائما للناس الأحرار لا مجرد مأوى للحيوانات»،
10
ويرى جينز أن مبدأ اللاتعين عند هيزنبرخ يؤدي إلى الاعتقاد بأن «مسامير العالم» قد تفككت قليلا، ودخل في جهاز العالم عنصر من «الخلخلة»، لا لأن صنعة العالم ناقصة، بل لأن كل شيء لم يكن محكوما تماما منذ البداية؛ بحيث أصبح يترك مجالا للحرية.
11
هذه الاستنتاجات المبنية على التطورات الحديثة في علم الفيزياء - والتي تستدل من هذه التطورات على وجود الحرية الإنسانية - تقع في أخطاء متعددة لا يصعب على المرء أن يتنبه إليها في وقتنا الراهن ، بعد أن انقضى عهد الحماسة المندفعة التي لازمت هذه الكشوف في أول عهدها، وأصبحنا أقدر على تأمل «أزمة» علم الفيزياء المعاصر بطريقة موضوعية. والواقع أن من حق المرء أن يتساءل عندما يصادف هذا الدفاع الحماسي عن الحرية: هل كان مكتوبا على الحرية الإنسانية أن تنتظر حتى تظهر الفيزياء الجديدة لكي تدعمها؟ وهل كان الإنسان عاجزا عن إثبات حريته طوال تاريخه السابق؟ لقد كان «منكوفسكي» على حق حين قال باستنكار: «في أيامنا هذه، اعتقد البعض أنه استخلص حجة لصالح الحرية من مفاهيم الفيزياء الحديثة. ولكن الواقع أن الحرية الإنسانية لا بد أن تكون مريضة حقا إذا بحثت عن حجج كهذه في هذا الميدان، أليس الأقرب إلى المعقول أن نتساءل، على عكس ذلك، عما إذا كانت هذه المفاهيم تبدو قريبة إلى قلوبنا ومغرية لأنها تسير - بقدر ما يمكنها - في الطريق الذي سارت فيه الحرية الإنسانية؟»
12
ولا جدال في أن قليلا من التعمق في بحث هذه الحجج يقنعنا بأنها تخلط - على نحو مؤسف - بين مستويين للظواهر: المستوى الذري من جهة، والمستوى المعتاد في حياتنا اليومية، ومن المعروف أن مشكلة الحرية لا تثار إلا على المستوى الثاني؛ لأنها تتعلق بالسلوك الإنساني في هذا العالم؛ ومن هنا كان من الخطأ أن نطبق ما نصل إليه من نتائج في مستوى الجزئيات الدقيقة على سلوكنا في العالم اليومي بأبعاده المألوفة، وحتى لو كانت اللاحتمية هي القاعدة في مجال الوجود الأصغر، فإن كل الأنساق الأكبر من ذاك يمكن أن تظل محتفظة بحتميتها حتى بالرغم من أن مكوناتها الصغرى لا تسودها الحتمية.
ولقد عبر «جان نابير» تعبيرا دقيقا عن هذا التعجل في تفسير النتائج العلمية تفسيرا فلسفيا، الاعتقاد بأن عدم إحكام البناء العلمي هو خير ضمان للحرية الإنسانية، فقال: «إن من سوء الفهم الواضح لكل ما هنالك من فكر وعقل في حتمية الموضوع أن يخشى البعض سيطرة هذه الحتمية على النفس البشرية، ويعتقد أنه لا يستطيع تجنب ذلك إلا بتهيئة الجو للحرية في الإنسان عن طريق كشف نوع من العرضية في قوانين الأشياء. ولكن الخطر الذي تتعرض له الحرية يظل موجودا عندما يجعلها المرء متوقفة على وجود لا معقولية في موضوع المعرفة؛ ذلك لأن هذه اللامعقولية لا يمكن إلا أن تكون نقطة بداية لتحديد أدق للموضوع. والواقع أنه قد تضافرت محاولات متعددة تلاقت كلها على هدف واحد، هو إضعاف قيمة العلم لكي تتيح من جديد إمكان قيام معرفة فوق العقلية، وعلية قائمة على الحرية، وهما هدفان كانت سيادة الضرورة في عالم الأشياء تحول دون تحقيقهما، وكأن المطلوب هو إيجاد رابطة وثيقة بين علم ناقص تتخلله ثغرات عديدة، وبين حرية لا تجد لها طريقا إلى العالم إلا بفضل هذه الثغرات، والواقع أن نجاح هذه المحاولات أمر مشكوك فيه، فما هي في الحقيقة سوى تفسير فلسفي متعجل لأزمة للعلم سيخرج منها أقوى مما كان، فلا جدال إذن في أن لا عقلية بعض نظريات المعرفة ستظل في التاريخ شاهدا على عصر كانت الفلسفة تظن فيه أنها تجد في حالة العلم الذي يعمل على زيادة مرونة مناهجه وسيلة لتبرير لحرية الإنسانية على نحو لا يخلو من المخادعة.»
13
خلاصة القول إذن؛ إن علم الفيزياء لا يقضي على الحرية حين يؤكد سيادة مبدأ الحتمية في الكون، ولا يدعم الحرية حين يؤكد وجود ثغرات في مبدأ الحتمية. بل إن الحرية الإنسانية تظل على ما هي عليه، سواء أكانت الحتمية أم اللاحتمية هي المبدأ السائد في الطبيعة. وهكذا يبدو أن النظريات العامة في علم الفيزياء لا تؤثر - إيجابا أو سلبا - على موقفنا من الحرية الإنسانية. ولكن هل يعني ذلك أن علم الفيزياء لا تأثير له على مشكلة الحرية؟ ألا يحتمل أن تكون لتطبيقات هذا العلم آثارها الهامة على الحرية الإنسانية؟ تلك مشكلة سنرجئ الكلام عنها مؤقتا، وسوف يتبين لنا - عندما نعود إلى معالجتها فيما بعد - أن هذا السؤال لا بد أن يجاب عنه بالإيجاب. (ب) علم النفس
لعل قدرا غير قليل مما قيل في وقت ما عن علم الفيزياء وتأثيره في مشكلة الحرية، ينطبق على علم النفس ، وكل ما في الأمر أن البحث في حالة علم النفس ينصب على السلوك الإنساني، لا على الحوادث أو الأفعال الطبيعية، فتقدم علم النفس كان يكشف دواما عن أنواع جديدة من الحتمية تؤدي - على نحو متزايد - إلى زعزعة الاعتقاد بإمكان وجود أساس للحرية الإنسانية، وهكذا أصبح هناك شعور متزايد بأن نطاق حريتنا يضيق كلما ازداد علم النفس تقدما.
والواقع أننا حين نتحدث عن علم النفس؛ فنحن إنما نستخدم هذا اللفظ بمعناه الواسع، الذي يمكن أن تندرج تحته أبحاث فسيولوجية كثيرة كان لها تأثيرها الهام في فهمنا لحقيقة السلوك البشري، فتقدم أبحاث المخ مثلا يؤدي إلى مزيد من الإيمان بالحتمية في هذا المجال، ويدفعنا إلى الاعتقاد بأن سلوكنا يرتد إلى مجموعة من «الدوائر الكهربائية» التي يمكن فهمها بالعلم البحت، فهل يمكن أن تسمى ظاهرة الفكرة - التي ترجع إلى عوامل كهذه - مظهرا من مظاهر الحرية؟ إننا «نشعر» حقا بأن فكرنا حر. ولكن ألسنا نشعر في كثير من الأحيان بأننا متمتعون بصحة كاملة، في الوقت الذي تكون فيه أجسامنا مصابة بأمراض خفية لا نشعر بها عن وعي؟
إن اتساع نطاق معرفتنا النفسية والفسيولوجية بالأفعال وردود الأفعال البشرية يقنعنا بأن تلك الأفعال التي نعتقد فيها أننا كنا نستطيع أن نسلك على نحو مخالف، أو أنه كان أمامنا بديل آخر غيرها، أضيق نطاقا مما كنا نتصور. وبعبارة أخرى؛ فهناك نسبة عكسية بين تقدم علم النفس والعلوم المرتبطة به، وبين النطاق الذي تحتله تلك الأفعال التي نسميها حرة، فهل نستطيع أن نطمئن إلى وجود ظاهرة الحرية في الوقت الذي نرى فيه مجالها وهو ينكمش باستمرار؟ ألا يحتمل أن يزداد هذا الانكماش حتى يصل إلى حد التلاشي التام؟
لقد اعتدنا من قبل أن نتصور الفارق بين الأفعال الحرة والأفعال غير الحرة على أساس أن أصل الفعل - في الحالة الأولى - موجود فينا، بينما الفعل في الحالة الثانية يرجع إلى أصل خارج عنا. ولكن تقدم علم النفس قد وضعنا في موقف جديد كل الجدة؛ إذ تبين أن كثيرا من الأفعال التي نظنها منبعثة من داخلنا آتية في الواقع من خارجنا، والمثل الصارخ على ذلك هو الشخص المنوم مغناطيسيا، الذي يأمره المنوم بأن يخلع معطفه ويفتح النافذة في ساعة معينة، فيفعل ذلك في الوقت المحدد، وينتحل أعذارا لفعله، متوهما أنه حر، بل ربما ظنه الناس جميعا حرا، إلا عندما ينبئهم الشخص الذي أمره بأنه لم يكن إلا مضطرا فيما فعل،
14
ألا يمكن إذن أن تكون أفعالنا كلها اضطرارية بهذا المعنى؟ ألا يحتمل أن تكون لها أسباب خارجية لا نعلم عنها شيئا؟ ألا يمكن أن يكون لعوامل البيئة والوراثة تأثير خفي ندركه عن وعي، يجعلنا نسلك على نحو لا نملك له دفعا، ونحاول في الوقت ذاته تبرير سلوكنا على أساس أننا أحرار؟
لا جدال في أن هذا الاحتمال قائم على الدوام. وفي أن تقدم علم النفس والعلوم السلوكية يزيده ترجيحا باستمرار. ولكن الذي نود أن ننبه إليه هو أن الألفاظ التي نصوغ بها هذه المشكلة تحتاج إلى إعادة نظر؛ فالمسألة - في جوهرها - ليست في واقع الأمر مسألة وجود عوامل قاهرة ترغمنا على أن نسلك على نحو معين، وإنما هي مسألة كشف أسباب لسلوكنا بعد أن لم نكن نعرف له سببا، وكما قلنا من قبل، فإن الاهتداء إلى المزيد من الأسباب المتحكمة في السلوك (وهو ما يقوم به علم النفس فعلا) لا يعني الاهتداء إلى المزيد من عوامل القهر، ليس من الضروري أن تكون هذه الأسباب كلها خارجية أو قهرية. بل إن تقدم علم النفس يتيح لنا أن نصنف ما نكتشفه من أسباب سلوكنا إلى فئتين: الأسباب «الداخلية» والأسباب «الخارجية»، وذلك يمكننا من أن نفرق على نحو أدق بين الأفعال الحرة والأفعال الاضطرارية.
وعلى ذلك فمن الممكن القول - نظريا: إنه إذا كانت الحرية لا تتعارض مع السببية الباطنة؛ أي كون الفعل راجعا إلى عوامل منبعثة من داخل الكائن نفسه، وإنما تتعارض فقط مع وجود أسباب خارجية تقهر الفاعل، فإن التقدم الذي يحرزه علم النفس في الكشف عن أسباب أفعالنا لا يؤدي بالضرورة إلى تضييق نطاق أفعالنا الحرة، بل يؤدي فقط إلى زيادة دقة التمييز بين ما هو حر وما هو غير حر من أفعالنا، وسيظل من حقنا أن نفترض - على المستوى العلمي - أن الفعل الإنساني يفترض الحرية بوصفها شرطا ضروريا؛ إذ إن هذا الفعل يغدو مستحيلا ما لم يتخذ وعينا موقفا محددا إزاء إمكانات متعددة للسلوك تظل متاحة لهذا الوعي. (ج) علم التاريخ
هل يؤدي التعمق في دراسة علم التاريخ إلى دعم شعور الإنسان بحريته؟ أم إلى إضعاف هذا الشعور؟
لا شك في أن الدراسة الجادة للتاريخ تبدو وكأنها تقتضي على الشعور الإنسان بالحرية؛ فكلما ازداد المرء تعمقا في معرفة التاريخ؛ بدت له الأحداث البشرية خاضعة لعوامل طاغية كانت هي المتحكمة في ماضي الإنسان منذ بدايته. صحيح أن البشر خلال حياتهم في عصر معين يخيل إليهم أنهم أحرار حرية تامة فيما يقومون به من أفعال، وإذا أحسوا بأن أفعالهم خاضعة لقهر خارجي، فإنهم ينسبون الحرية الكاملة إلى الحاكم الذي أخضعهم لإرادته، أو الزعيم أو القائد الذي استطاع أن يوجههم نحو أهداف لم يكونوا ليتجهوا إليها لو أنهم تركوا وشأنهم، كلما كان المرء قريبا من زمان وقوع الأحداث، بدت له هذه الأحداث حرة، وخيل إليه أن كل ما وقع منها كان يمكن ألا يقع. ولكنه حينما يقف على مبعدة منها، أي حين يمضي من الزمن قدر كاف لكي يتأمل المرء الأحداث الماضية بنظرة شاملة، تبدو له هذه الأحداث خاضعة لأسباب حتمية، ويختفي طابعها العرضي بالتدريج؛ لكي تحل محله الضرورة الحتمية، وبازدياد التعمق في دراسة التاريخ، والابتعاد الزمني عن وقت الأحداث، لا تبقى في نهاية الأمر إلا التيارات العامة، والتسلسل المحتوم للحوادث، ويظهر كل ما كان يبدو عارضا في وقت حدوثه على أنه حلقة في سلسلة مترابطة ترابطا محكما.
وهكذا فإن الأحداث التاريخية تبدو أشبه ما تكون بميناء ترى تفاصيله ونبضات الحياة في طرقاته ومبانيه وأنت تعيش في جنباته، حتى إذا ما ركبت سفينة وأخذت تبتعد عن الشاطئ، تلاشت أمامك التفاصيل رويدا رويدا، ولم يبق من كل هذه الحياة النابضة الصاخبة إلا الخطوط العامة أو الهيكل الخارجي في الأفق البعيد، ومن موقع الابتعاد هذا تبدو حياة البشر محكومة بقوانين قد تختلف بعض تفاصيلها باختلاف ميادين تطبيقها. ولكنها في نهاية الأمر سارية على السلوك الإنساني عبر التاريخ بلا تخلف.
وإذن فكلما اتسعت نظرتنا إلى تاريخ البشر وامتدت عبر فترات زمنية طويلة، تكشفت لنا الخيوط الخفية التي تربط بين الحوادث في خطوط قد يراها البعض مستقيمة، وقد يراها غيرهم دائرية أو متعرجة أو ملتوية. ولكنها على أية حال موجودة دواما، وكلما ازدادت هذه الخيوط الخفية تكشفا؛ ازددنا اقتناعا بأن العوامل المسيطرة على تاريخ البشر ثابتة، وتضاءل بالتدريج دور الشخصيات الفردية مهما تكن عبقريتها؛ لكي تحل محلها قوى متحكمة تعلو على الأفراد.
ولكن هل يعني ذلك أن دراسة التاريخ تفضي إلى اليأس من حرية البشر؟ وهل يؤدي بنا التعمق في هذه الدراسة إلى أن نقف مكتوفي الأيدي ونتأمل في يأس هذه العوامل التاريخية الغالبة على القوى الفردية، وهي تقود مسيرة البشر الذين لا يملكون لها دفعا؟
إن التاريخ - قبل كل شيء - من صنع الإنسان، ومهما يكن من حتمية تلك العوامل التي تطغى على القوى الفردية، فإنها أولا وأخيرا عوامل بشرية، ولم تكن قوانين الماضي حتمية إلا لأن البشر أرادوها - بطريقتهم الخاصة في السلوك - أن تكون كذلك، وإذا كانت أفعالنا الماضية قد خرجت تماما عن نطاق إرادتنا، (أي أصبحت «في ذمة التاريخ»، كما يقول التعبير الشائع) فإن أفعالنا في المستقبل ما زالت خاضعة لهذه الإرادة. صحيح أننا نصور التاريخ في المستقبل بنفس صورة التاريخ في الماضي. ولكن هذه طريقة في الكلام تنطوي على قدر غير قليل من التجاوز؛ لأن التاريخ هو الماضي لا المستقبل، وكم من الفلسفات كانت تؤكد حتمية القوانين التاريخية المستمدة من ماضي البشر، لا لكي تسد الطريق أمام حرية الإنسان، بل لكي تزيد هذه الحرية تدعيما، فلو ظلت القوانين الحتمية التي استخلصت من الماضي سارية على المستقبل لكان في وسعنا - مع ذلك - أن نستغل هذه القوانين أو «نركب موجتها»، من أجل التحكم في مستقبلنا على نحو أفضل. أما إذا كان مجال تغيير هذه القوانين مفتوحا في المستقبل؛ فعندئذ تكون دراسة الماضي وسيلة لكي نستخلص منه دروسا تعيننا على تجنب ما وقعنا فيه من أخطاء.
مجمل القول إذن إن دراسة التاريخ - التي تبدو لأول وهلة متعارضة مع حرية الإنسان - تفتح أمام هذه الحرية مجالات جديدة، وتعصم الإنسان في بحثه عن مستقبل أفضل من الوقوع في أخطاء الماضي، وتقدم إليه من خلاصة التجارب الماضية ما يتيح له استغلال فاعليته على أفضل نحو في سبيل تحقيق المزيد من الحرية.
العلم والحريات العملية
(1) الحقيقة والحرية
من الشائع أن ينظر المفكرون إلى الحريات العملية - كحرية التعبير والتفكير وحرية الانتخاب، إلخ - على أنها غاية في ذاتها، فهم يتصورون أن هذه الحريات هدف ينبغي أن يسعى إليه الإنسان مهما تكن الظروف، ويعتقدون أن اكتساب الإنسان لها هو في ذاته ضمان لتحرره من حيث هو موجود متكامل.
على أنه يكفينا لكي نبين افتقار هذا الرأي إلى الصواب أن نشير إلى حقيقة واضحة، هي أن الحرية يمكن أن تكون أداة للظلم في حالة الضعفاء؛ فالحرية المطلقة حين تكون أساسا للعلاقة بين عمال ضعفاء محتاجين إلى العمل من أجل قوت يومهم، وبين أصحاب أعمال يمكنهم في أية لحظة أن يستبدلوا بهؤلاء العمال غيرهم، لا بد أن تؤدي في نهاية الأمر إلى زيادة مركز هؤلاء العمال ضعفا، وتنقلب إلى أداة لتأكيد عبوديتهم. وفي هذه الحالة تصبح القيود والضوابط التي تفرض على الحرية، أداة لتحقيق المزيد من الحرية لا لتقييدها.
ولا جدال في أن العلم من أهم الضوابط التي تساعد على وضع الحريات العملية في نصابها، فعن طريق نشر المعرفة وتوفيرها لأكبر عدد ممكن من الناس، يستطيع العلم أن يضع الأسس الحقيقية التي لا يكون للحريات العملية بدونها قيمة، فجميع الحريات الديمقراطية - مثلا - تكتسب قيمتها الكاملة حينما تعرف الجماهير الحقائق الأساسية عن الأمور التي يراد منها أن تصدر حكمها عليها، أو تشترك في اتخاذ قرارات حاسمة بشأنها، وبدون العلم لا يكون لحرية التفكير معنى؛ إذ إن المرء إذا لم يكن قد تعلم كيف يفكر فمن العبث أن يتوقع المجتمع منه أن يفيد من حرية التفكير، مهما يكن نطاق هذه الحرية. أما حرية التعبير، فماذا تعني بالنسبة إلي إذا لم أكن أعرف كيف أعبر عن نفسي، وإذا لم تكن لدي معلومات عن العالم أو عن المجتمع أو التاريخ؟ إن العلم - دون شك - هو الأساس الذي بدونه تكون الحريات المعروفة كلها نفاقا أو كلاما أجوف، والمعرفة في ذاتها سبيل إلى الحرية، سواء أكانت مقترنة باعتراف شكلي بالحريات أم لم تكن، إن «الحقيقة تحرر الإنسان»؛ لأن معرفة حقائق الأمور هي في ذاتها سبيل إلى تحرير الناس من ربقة الجهل ومن عبودية الخداع.
ولو تعمقنا هذه الفكرة الأخيرة؛ لاتضح لنا أن قدرا كبيرا من الجدل الذي يدور حول الاعتراف أو عدم الاعتراف بالحريات العملية لا يمس - في واقع الأمر - صميم المشكلة الحقيقية؛ ذلك لأن لب الموضوع ليس الاعتراف الشكلي بهذه الحريات، وإنما هو ضمان الأسس التي يمكن بناء عليها ممارسة هذه الحريات - عندما تتوافر - ممارسة سليمة، مثال ذلك: إن الصحافة التي توجد في بلد يعترف اعترافا شكليا كاملا بحرية الإعلام، ويحيط هذه الحرية بجميع الحصانات القانونية الممكنة، لا يمكن أن تسمي نفسها صحافة حرة إذا كانت مليئة بالأكاذيب، أو كانت تبدد وقت القراء سدى في مهاترات أو تفاهات، ولو قارنت هذه الصحافة بأخرى في مجتمع لا يتشدق إلى هذا الحد بحرية الإعلام. ولكنه ينشر في صحافته قدرا أكبر من الحقائق؛ لكان المجتمع الأخير - في واقع الأمر - أعظم حرية من الأول؛ إذ إن الحقيقة - كما قلنا - هي التي تحرر الإنسان.
ومع ذلك فإن العلم ذاته يستخدم في وقتنا الراهن على نطاق واسع ليكون أداة لتكبيل الإنسان بقيود خفية لا يكاد يشعر بها إلا صانعوها. ومن الغريب حقا أن نفس هذه الأداة - التي رأينا منذ قليل أنها الضامن الحقيقي لكل حرية يصبو إليها الإنسان - تتحول على أيدي كثير من الأخصائيين البارعين إلى وسيلة فعالة لصب عقول الناس في قوالب جامدة لا أثر فيها لأي نوع من الحرية، وإذا كان التسلط على العقول والسيطرة عليها بوسائل ذكية ظاهرة قديمة عرفتها البشرية منذ عهود بعيدة، فإن الجديد في عصرنا هذا هو أن هذه السيطرة تتم - بأكمل صورة ممكنة - على عقول تتوهم نفسها حرة، بل توقن يقينا بأن كل ما تمليه عليها تلك القوى المسيطرة إنما صدر عن إرادتها الحرة ورغبتها الواعية.
والواقع أن أدوات السيطرة على العقول قد وصلت - في عصرنا الحاضر - إلى درجة عالية من الإتقان، ويكفي دليلا على ذلك أن أشد الدول تعارضا تستطيع أن تقنع شعوبها بعدالة قضيتها، وتجد كل منها بين شعوبها من يتحمس لهذه القضية تحمسا كاملا، مع أن من المستحيل أن تكون الدولتان اللتان تدافع كل منهما عن قضية مضادة لقضية الأخرى على حق في آن معا، وبعبارة أخرى: فإن معيار الحقيقة المطلقة - التي لا يختلف عليها اثنان - لم يعد ساريا على الصراعات السياسية والأيديولوجية في عالمنا المعاصر، وأصبح من المألوف أن نجد خصمين يؤمن كل منهما عن اقتناع كامل بحقيقة مناقضة لحقيقة الآخر، دون أن يكون ثمة أمل في وصولهما إلى حل لهذا التناقض؛ ففي عالمنا أصبحت الحقيقة المزدوجة - وربما الثلاثية أو الرباعية الأطراف - أمرا مألوفا غير مستغرب. وليس لهذه الظاهرة من تعليل سوى القدرة الفائقة التي اكتسبتها أساليب التحكم في العقول في عصرنا الحاضر؛ إذ إن الحقيقة في أي موضوع واحد ستظل حقيقة واحدة مهما تغيرت الأزمان، والاقتناع الراسخ بحقائق متناقضة يعني أن هناك أساليب غير منطقية قد استخدمت من أجل بث يقين كاذب في ذهن أحد الطرفين على الأقل، إن لم يكن كليهما معا.
وحسبنا أن نجول بأنظارنا في عالمنا المعاصر لنرى أمثلة لا حصر لها لظاهرة التحكم في العقول من أجل إقناعها بقضية كاذبة؛ ففي ألمانيا النازية سيق شعب كامل - له في العلم وفي الفن وفي الفكر تاريخ مجيد - إلى مجازر استنزفت منه ومن البشرية كلها أرواحا وأموالا لا حصر لها، واقتنع هذا الشعب -بالرغم من ماضيه المجيد هذا - بأشد الأساطير بطلانا عن تفوق العنصر الآري وامتياز الأمة الجرمانية وسيطرة الرايخ الثالث على العالم لمدة ألف سنة، إلى آخر تلك القائمة الطويلة من الأكاذيب التي عانت الإنسانية كلها من أجلها ويلات وكوارث لا تحصى، ولم يمض وقت طويل على انتهاء الحرب وزوال الغشاوة عن أعين الألمان؛ حتى أدركوا مدى الزيف الذي عاشوا فيه، وقبلوه عن طيب خاطر، وحاربوا وماتوا من أجله طوال اثنى عشر عاما، بل إن بعضا من مجرمي الحرب النازيين كانوا - خلال محاكمتهم - يعربون عن مشاعر ندم حقيقية، وحسبنا أن نذكر منهم «فرانك» وزير داخلية هتلر، وأحد كبار المسئولين عن المذابح النازية، فقد وصل ندمه إلى حد انتابته معه نوبة من الكآبة كان يستعجل معها إعدامه، وتضمنت أقواله شواهد سيكولوجية رائعة عن حالة التخدير العقلي التي كان الملايين واقعين فيها خلال الحكم النازي، والتي كانت تؤدي بهم إلى ارتكاب أفعال يستحيل أن يقرها المرء لو كانت لديه أدنى قدرة على التفكير الموضوعي.
وفي عصرنا الراهن نجد مثالا صارخا على عجز العقل البشري أمام سيل الدعاية الجارف في حرب فيتنام، حيث يطلب إلى مئات الألوف من زهرة شباب الأمريكيين أن يموتوا في سبيل الدفاع عن نظام فاسد يحكم بلدا تبعد عن بلادهم ألوفا عديدة من الأميال، ومجرد استمرار الحرب حتى يومنا هذا دليل على أن نسبة غير ضئيلة من هؤلاء الشبان مقتنعون بهذه الحرب إلى الحد الذي يبرر - على الأقل - استمرارهم في القتال. ومع ذلك فإن معظم من يقعون منهم في الأسر، يدركون - بعد أن يزول عنهم أثر الدعاية المخدرة وتعرض عليهم وجهة النظر المضادة - أنهم كانوا يحاربون من أجل قضية زائفة وخاسرة، ويبدون ندما شديدا على أفعالهم.
أما في عالمنا العربي، فإن الدعاية الصهيونية تقدم إلينا مثلا صارخا لما يستطيع التخدير المنظم للعقول أن يصل إليه من تزييف كامل لأهداف الناس وغاياتهم، فأشد الصهيونيين فهما لموقف بلاده لا يستطيع أن يأتي، دفاعا عن هذا الموقف، إلا بحجج لا عقلية تنتمي في نهاية الأمر إلى مجال الانفعالات الساذجة، أو الأساطير التي عفا عليها الزمان، وبهذه الأساطير يخدع نفسه ويدعي لليهود حقا في بلد أقام فيه غيرهم طوال ما يزيد على ألفي عام. ومع ذلك فعن طريق الدعاية المنظمة والتربية المنحرفة للصغار؛ استطاع الصهيونيون أن يكونوا لأنفسهم أنصارا متحمسين بل متعصبين بين يهود العالم، وحاولوا - وما زالوا يحاولون - أن يزيفوا عقول أبناء طائفتهم من أجل دعم قضية لا شك في بطلانها.
في كل هذه الحالات، يقف العقل البشري عاجزا أمام سيل الدعاية الجارف، الذي يستخدم أحدث الأساليب العلمية في تربية الصغار وتوجيه الكبار. وربما استطاع عقل ناقد لماح أن يقاوم تأثير هذه الدعاية حينا من الدهر. ولكنه في نهاية الأمر يستسلم لها، وتنهار مقاومته - إلا في القليل النادر - أمام الإلحاح والتكرار المستمر، وأساليب الحض الظاهر والخفي، والإقناع المباشر وغير المباشر، والترويج للفكرة الكاذبة يوميا في الصحف والتلفزيون والإذاعة، وهكذا فإن الإنسان المعاصر - على الرغم من كل ما اكتسبه عقله من تعمق ناجم عن التقدم الهائل في العلم الحديث - لم يعد قادرا على مقاومة التزييف الذي يفرض عليه بطريقة علمية منظمة، فتكون النتيجة هي تلك الانحرافات الشنيعة في سلوك أمم بأكملها.
وإذا كان تأثير الدعاية ينصب أساسا على المواقف السياسية والأيديولوجية، ويزداد تركيزا في أوقات الحرب والأزمات بالذات، فإن الإنسان الحديث يتعرض - بتأثير الإعلان - لنوع آخر من الخداع العقلي يمارس تأثيره في الحياة اليومية، ويؤدي بدوره إلى إضعاف مقاومة العقول وشل قدرتها النقدية؛ ومن ثم إلى القضاء على جانب هام من جوانب حريتها؛ ففي كل يوم تنهال على الإنسان العصري - الذي هو ميال بطبيعته إلى الاستهلاك - مئات الإعلانات التي تهيب كلها بالعناصر اللاعقلية في طبيعته وتتوسل - من أجل بلوغ أغراضه - بسلطة شخص مشهور، أو بجاذبية فتاة جميلة، أو بإرضاء غرور قارئ الإعلان والمبالغة في تفخيمه وتعظيمه، وكلها وسائل تستهدف في نهاية الأمر تحطيم مقاومة العقل وإضعاف قدرته على النقد والتمييز بالإلحاح والتكرار الذي لا ينقطع.
مجمل القول إذن: إن العلم الذي لا تقوم للحريات العلمية بدونه قائمة ، يمكن أن يكون هو ذاته أداة تؤدي إلى ضياع أعظم الحريات الإنسانية قيمة، ألا وهي حرية التفكير النقدي، والقدرة على الحكم المستقل على الأمور، ومن ذلك ننتهي إلى أن العلم وحده ليس ضمانا كافيا لتحقيق الحرية عمليا، وإنما ينبغي إلى أن العلم وحده ليس ضمانا كافيا لتحقيق الحرية عمليا، أنما ينبغي أن يقترن العلم بقيم إنسانية توجه ما ينطوي عليه من قدرات وإمكانات هائلة في الاتجاه الذي يضمن تحقيق أعظم قدر من التحرر للإنسان. (2) الحرية الشخصية والبحث العلمي
من الحقائق المعروفة أن البحث العلمي يحتاج لازدهاره إلى جو من الحرية يستطيع العالم فيه أن يجري أبحاثه وهو آمن على نفسه، واثق من أن النتائج التي سيصل إليها سوف تقدر تقديرا موضوعيا لا أثر فيه للتعصب أو التحيز. وربما بدا من الغريب - لأول وهلة - أن بداية العلم الأوروبي الحديث كانت مقترنة بحوادث اضطهاد وقمع لحرية العلماء والمفكرين على نحو يخيل إلينا معه أن هذا العلم قد استطاع أن يشق طريقه بفضل قدرته على مقاومة الكبت والقمع، لا بفضل ما كان يتاح له من الحرية، ومن ذلك فإن حوادث اضطهاد العلماء - التي أصبحت مشهورة في تاريخ العلم - لم تكن إلا بقايا عهود غابرة كانت تتشبث عن يأس بمواقع لم تعد مأمونة ولا مضمونة.
فصحيح أن جاليليو قد لقي اضطهادا قاسيا من محاكم التفتيش. وكان يراد منه أن يتراجع عن آرائه الفلكية التي أرست الأسس الأولى للعلم الحديث. وصحيح أن برونو قد أحرق حيا بسبب معتقداته العلمية والفكرية. وصحيح أن ديكارت واسبينوزا كانا يعيشان في خوف دائم من الاضطهاد. وكان لخوفهما هذا أثره البالغ في نشاطهما التأليفي. وفي تحديدهما لما ينبغي وما لا ينبغي أن ينشر من كتاباتهما. هذا كله صحيح. ولكن لا يقل عن ذلك صحة أن الجو العام الذي كان يعيش فيه هؤلاء العلماء والمفكرون كان - بالقياس إلى الجو السائد في العصور الوسطى الأوروبية - جوا من التحرر، وأن القوى الجديدة التي كانت قد بدأت تمارس تأثيرها في المجتمع الأوروبي كانت أكثر تشجيعا للعلم من القوى اللاهوتية والإقطاعية السابقة، وما كان الاضطهاد الذي عاناه هؤلاء العلماء والمفكرون سوى صرخة الاحتضار التي كانت تطلقها - في شراسة ولكن بيأس - عقليات ومصالح تعلم جيدا أن الزمن لم يعد في صفها وأن العصر لم يعد عصرها.
وإذن فبداية العلم الأوروبي الحديث تثبت - ولا تنفي - القاعدة المعروفة والقائلة: إن البحث العلمي يحتاج - من أجل ازدهاره - إلى جو من الحرية.
ومع ذلك فإن التعمق في بحث هذا الموضوع - ولا سيما في ضوء الأحوال السائدة في عصرنا الحاضر - يكشف لنا عن وجود تحفظات كثيرة ينبغي أن يعمل حسابها عند تأكيد القاعدة العامة السابقة، وبعض هذه التحفظات ناشئ عن طبيعة البحث العلمي بوجه عام ، وبعضها الآخر ناشئ عن الظروف التي يمر بها هذا البحث في عصرنا الحاضر. (1)
لا جدال في أن طبيعة البحث العلمي ذاتها - بما تقتضيه من صرامة وجدية، ومن تفكير منهجي دقيق - تستلزم قدرا من تضييق نطاق حرية العالم، وعلى سبيل المثال، فإن الحقائق الرياضية هي المثل الأعلى للدقة العلمية، وهي النموذج الذي يسعى إلى تحقيقه كل علم يود أن يكون منضبطا، والحقيقة الرياضية - بطبيعتها - تتسم بالضرورة، ولا مجال فيها لحرية التصرف أو للتغيير والتبديل، إنها حقيقة صارمة يتعين على العالم قبولها على ما هي عليه، ولو حاول أن يمارس إزاءها حريته لضاعت منه على الفور، ومثل هذا يقال عن سعي العلم إلى بلوغ الحقيقة بوجه عام، فطريق العلم صارم، يقتضي من العالم التزاما دقيقا لمناهج محدودة، ولا يسمح له بالتصرف الحر إزاء موضوعه إلا في حدود معلومة. وفي هذا يختلف العلم عن الفن اختلافا بينا، فعلى حين أن الحرية والانطلاق هما القاعدة في الفن، فإنهما بالنسبة إلى العلم قيدان ينبغي أن يتعلم الباحث كيف يتخلص منهما بأسرع وقت ممكن، وإلا فقدت أبحاثه كل قيمة لها، وبما لم تكن عملية التكوين العلمية - التي تستغرق من الباحث وقتا طويلا من حياته إلى أن يصبح عالما متمرسا - سوى تهيئة له كيما يعتاد أن يلتزم مسار العلم المقيد، ولا ينقاد للميل الطبيعي إلى الانطلاق أو التحرر من القيود، وكيما يألف إطاعة الواقع وقبول حقيقته وهو يعلم أنه ليس حرا في قبولها أو رفضها. (2)
يقتضي العلم في عصرنا الحاضر تنظيما واسع النطاق، يخرج عن نطاق الجهد الفردي لأي عالم بعينه؛ ففي الماضي كان العلم، إلى حد بعيد، سلسلة من الغزوات أو الانتصارات أو الكشوف الفردية. أما الآن فإن هذا الطابع الفردي يختفي باطراد، ليحل محله العمل الجماعي
team work
الذي يكون العالم الواحد فيه فردا في مجموعة، لا يملك حرية التصرف الكاملة؛ لأنه مقيد بعمل الآخرين، وملزم بتنسيق جهوده معهم. (3)
ومن وجهة أخرى فإن الأبحاث العلمية أصبحت تقتضي تمويلا ضخما يستحيل أن توفره موارد العالم ذاته مهما يكن ثراؤه، ومعنى ذلك أن العالم لا بد أن يستعين بالتمويل المقدم من مصادر خارجية، وقليلا ما تقف هذه المصادر موقف الحياد من أبحاث العالم. بل إنها تفرض عليه اتجاهات تتمشى مع مصالحها الخاصة؛ فالشركات الصناعية الكبرى تمول الأبحاث العلمية من أجل ترويج بضائعها، وحتى لو كانت تقدم أموالها في صورة تبرعات لمراكز أبحاث «مستقلة»، فإن هذه التبرعات يمكن أن تكون في ذاتها من عوامل فقدان استقلال مراكز الأبحاث بصورة جزئية أو كلية، وبعبارة أخرى: فإن العالم لم يعد اليوم قادرا على أن يتحرر في أبحاثه العلمية من مطالب اقتصاد السوق، أو هدف زيادة الإنتاج، وغيرها من الأهداف والنتائج العاجلة التي تسلبه - ولا شك - قدرا من حريته، وإذا كان السؤال: هل يكون العلم للعلم أم للمجتمع؟ سؤالا ينطوي في نظر الكثيرين على مغالطة، فإن السؤال: هل يكون العلم للعلم أم للسوق؟ قد أصبح في عصرنا الحاضر سؤالا حقيقيا ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار كلما بحثت مشكلة العلم والحرية. (4)
كثيرا ما يؤدي الولاء للوطن أو لأيديولوجية معينة إلى فرض قيود على الحرية الشخصية للعلماء؛ ففي ألمانيا النازية كان العلماء يجرون أبحاثهم من أجل خدمة أهداف تتنافى مع شرف العلم ذاته. وكان بعضهم واعيا بما يفعل، وبعضهم الآخر يسير في عمله العلمي على نحو آلي يفتقر إلى التفكير النقدي الواعي. ولكن العلماء كانوا في كلتا الحالتين مفتقرين إلى الحرية، ولم يكن هذا حائلا بينهم وبين مواصلة عملهم، والاهتداء إلى مجموعة هامة من الكشوف.
وفي العهد الستاليني كان العلماء السوفييت يتعرضون للاضطهاد في مجالات معينة، وذلك حين يفسر البعض أعمالهم بأنها متعارضة مع النظرية الفلسفية التي يقوم عليها نظام الحكم. وكان أشهر هذه المجالات: مجال البيولوجيا، الذي يسيطر عليه عالم ضيق الأفق، يتسم بقدر غير قليل من النفاق هو «ليسنكو»، وعلى يد «ليسنكو» هذا لقي عدد كبير من العلماء مصيرا أليما، وأوقف العمل في أبحاث كثيرة؛ لأن أحكامه المبتسرة كانت تعد الكلمة الأخيرة في ذلك الميدان. وكان الخلط المؤسف بين العقيدة السياسية وبين البحث العلمي سببا في الحجر على حرية علماء لم يخطر ببالهم أن يخونوا تلك العقيدة، ولم يقبلوا أن يخدعوا أنفسهم في أبحاثهم.
وأخيرا، فإن ظاهرة الاضطهاد السياسي لحرية العلماء ظهرت واضحة في الولايات المتحدة في الفترة التالية للحرب العالمية الثانية بوجه خاص، حين واجه العلماء الأمريكيون أزمة ضمير عنيفة بعد أن ألقيت على هيروشيما ونجازاكي أول قنبلتين ذريتين، فقد كان هؤلاء العلماء يظنون - خلال فترة الإعداد لهذا الاختراع القاتل - أنهم يخدمون قضية الحرية ببحوثهم. ولكنهم أفاقوا على ذلك الصدى المفجع الذي أحدثه انفجار القنبلتين في ضمير كل إنسان شريف، وتبين لهم أن اختراعا كهذا يمكن أن يكون وسيلة لاستعباد البشرية كلها، فضلا عما أحدثه بالفعل من كوارث لم يشهد العالم لها مثيلا في المدينتين المنكوبتين، وأدرك بعيدو النظر منهم أن هذه ليست إلا المقدمة، وأن السلاح الجديد يمكن تطويره بحيث تصل قوته التدميرية إلى أضعاف ما كانت عليه في البداية، وأن المدينتين اليابانيتين ليستا إلا حقل تجارب، وأن الهدف الحقيقي من التفجير المروع كان إرهاب العالم، ولا سيما البلاد ذات الأيديولوجيات المخالفة، وعندما دارت هذه المعاني كلها في أذهان العلماء أدت بهم إلى مراجعة شاملة لموقفهم: فمنهم من آثر أن يقف موقفا سلبيا، وانسحب من أي عمل علمي مرتبط بإنتاج أسلحة الدمار الشامل، ومنهم من وقف يحارب إنتاج هذه الأسلحة إيجابيا، وينبه العالم إلى الأخطار المروعة المترتبة على إشعاعات التجارب النووية، والأخطار المحتملة المترتبة على تخزين الأسلحة النووية وتطويرها، ومنهم من أدت به أزمة الضمير الحاد إلى الاتصال بالطرف الآخر في الصراع العالمي، وإفشاء أسرار القنابل النووية له.
وفي هذه الفئة الأخيرة تتمثل مأساة العالم المعاصر بأجلى صورها، فهم في نظر الدولة التي ينتمون إليها خونة كشفوا للعدو عن سر أخطر سلاح كان يضمن لدولتهم التفوق على كل من عداها من الدول؛ ولذلك حق عليهم أشد العقاب (ومنهم من أعدم بالفعل كالزوجين روزنبرج). ولكنهم في نظر الإنسانية شهداء بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان سامية؛ إذ إنهم قد افتدوا بتضحيتهم البشرية بأسرها، وهم قد أدركوا أن امتلاك طرف واحد لهذه الأسلحة الفتاكة قد يغريه باستعمالها للتخلص نهائيا من عدوه، وإرهاب البشرية كلها بالسلاح المدمر؛ لذلك كان إفشاؤهم لأسرار ذلك السلاح قضاء منهم على فعاليته. ومن المؤكد أن عدم قيام حرب ثالثة حتى يومنا هذا راجع إلى توازن الرعب النووي بين القوتين الرئيستين في العالم، وهو التوازن الذي كان هو الهدف الوحيد لما قام به هؤلاء العلماء من «خيانة» مزعومة.
وهكذا اكتسبت مشكلة العلم والحرية الشخصية أبعادا جديدة في عالمنا المعاصر؛ إذ أصبح العالم الواعي يدرك أن أبحاثه لها نتائج تؤثر - إيجابا أو سلبا - على مستقبل البشرية، ولم يعد العالم يكتفي بأن يطالب بالوسائل الكفيلة باستمرار أبحاثه فحسب، بل أصبح يتساءل: إلام تؤدي هذه الأبحاث؟ وهل ستكون قيدا على حرية البشر، أم عاملا من عوامل تحريرهم من الفقر أو المرض أو الخوف؟ وبالاختصار فإن العالم لم يعد يكتفي بالمطالبة بحريته الشخصية وحدها، أو بحرية ممارسة البحث العلمي فحسب، بل أصبح يصر على التأكد من أن نتائج أبحاثه لن تستغل في القضاء على حريات الآخرين، أو في فرض شكل جديد من أشكال العبودية على البشر. (3) العلم التطبيقي (التكنولوجيا) والحرية الشخصية
إذا كنا قد تحدثنا في الجزء السابق عن البحث العلمي في صورته العامة، فمن الواجب أن نتذكر أن هذا البحث قد أصبح له - في عصرنا الحاضر - جانب تطبيقي عظيم الأهمية. بل إن الحدود الفاصلة بين البحث النظري والتطبيق أصبحت في وقتنا الحالي أقل حدة بكثير مما كانت عليه من قبل، وظهرت كشوف عديدة تجمع بين الطرفين معا، ويصعب على المرء أن يقرر إن كانت تمثل نتاجا لبحث نظري أم تطبيقا، وتداخل الميدانان حتى أصبح المشتغلون بأحدهما يقومون بدور إيجابي فعال في الآخر.
ومع ذلك فإن التكنولوجيا المعاصرة - وبوصفها علما تطبيقا - تتسم بطابع خاص يبرر لنا معالجتها على حدة، وهي تعمل على تغيير حياة الإنسان المعاصر على نحو لا يملك معه المرء إلا أن يفرد لتأثيراتها في مشكلة الحرية الشخصية قسما خاصا في بحث كهذا الذي نقدمه؛ ذلك لأن الحرية الشخصية قد أصبحت مشكلة شديدة التعقيد في عصر التقدم التكنولوجي السريع، ولم يعد من الممكن إصدار حكم واحد بسيط على تأثير العلم التطبيقي في حرية الشخص الإنساني. بل إن الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية لهذا التأثير قد تداخلت إلى حد تضاربت معه الآراء في هذا الميدان تضاربا شديدا.
إن كل كشف علمي كبير قد حرر الإنسان ماديا أو معنويا أو كليهما معا من عبوديته للطبيعة أو لجانب من جوانب النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه. وحسبنا أن نستعرض عددا قليلا من المجالات التطبيقية في العلم؛ لندرك العلاقة الوثيقة بين تطبيقات العلم وبين الحرية الإنسانية؛ ففي الكيمياء أمكن - بواسطة المركبات الصناعية التي تقدمت تقدما هائلا في القرن العشرين - تحرير الإنسان من قيود البيئة الطبيعية وما تقدمه من مواد، وأدى التقدم في علم البيولوجيا، وكشف تركيب المورثات (الجينات) إلى بداية التحكم في الوراثة. وكانت تجارب التلقيح الصناعي وتحسين النسل إيذانا ببداية عهد جديد لا تفرض فيه الطبيعة سلطتها المطلقة على الإنسان في هذا المجال. وفي الفيزياء كان كشف الطاقة الذرية والقدرة على استغلالها علميا إيذانا ببداية عهد جديد من التطبيقات المثمرة في مجال الاستخدام السلمي لهذه الطاقة (وإن لم يكن النجاح في هذا الميدان ميدان الإيجابي قد بلغ نفس الأهمية التي بلغها النجاح في ميدان الاستخدام التدميري لهذه الطاقة). أما غزوات الفضاء الكبرى - التي هي فخر عصرنا الحاضر - فإنها تمثل نقطة البداية في تحرر الإنسان من الأرض التي ازدحمت بأهلها، وخروجه عن ذلك الاختناق السكاني الذي يوشك أن يطبق على الناس في كوكبنا المحدود.
على أن أهم تأثيرات التكنولوجيا المعاصرة قد لا تكمن في الكشوف والمخترعات الفعلية التي توصلت إليها، بقدر ما تكمن في أساليب العمل الجديدة التي ترتبت على التقدم التكنولوجي المتلاحق، فهذه الأساليب قد أكسبت الإنسان حريات جديدة لم يكن يحلم بها من قبل. ولكنها في الوقت ذاته واجهت حريته بأخطار لم تخطر له من قبل على بال.
ولا جدال في أن أهم تغيير في أساليب العمل طرأ على الدول الصناعية المتقدمة في عصرنا الحاضر، هو التوسع الهائل في تطبيق السيبرنطيقا
Cybernetics
وما يترتب عليها من تيسير ذاتي للمصانع (أوتوميشن
Automation ). هذا التطبيق كانت له - في الدول التي أخذت به - آثار عظيمة الأهمية في الحرية الشخصية للعاملين بها؛ ففي عصر الآلة - وهو المرحلة السابقة لتلك التي نتحدث عنها؛ أعني المرحلة الممتدة من الثورة الصناعية الأولى حتى الحرب العالمية الثانية على وجه التقريب - كان الإنتاج مشتركا بين الإنسان والآلة؛ بحيث كان كل منهما يتقيد بحدود الآخر. وكان الإنسان مرتبطا بالآلة، بل كان عبدا لها يلتزم مسارها الرتيب، ويضطر إلى تكييف ملكاته وقواه حسب حدودها، ومن جهة أخرى فإن الآلة كانت تعمل وفقا لقدرة الإنسان، ولما كانت للمقدرة الإنسانية حدود لا تتعداها، فقد كان قصور الطاقات الإنسانية يعوق الانطلاق الحر للآلة، ويحول بينها وبين العمل بالسرعة المطلوبة. ولكن عصر التسيير الذاتي (الأوتوميشن) قد كسر تلك القيود التي كانت تجمع بين الإنسان والآلة في جهاز إنتاجي واحد، وحرر طرفي هذه العلاقة معا، فهو قد حرر الآلة بحيث تستطيع أداء مهمتها الإنتاجية كاملة، دون أن تتقيد بحدود الإنسان، وهو أيضا قد حرر الإنسان بحيث يمكن إنجاز أعظم ما ينتظر منه في ميدان الإنتاج وفي غيره من الميادين التي يمارس فيها ملكاته الخلاقة على أفضل نحو؛ وبذلك ساعدت التكنولوجيا كلا من الإنسان والآلة على تحقيق أعظم ما لديهم من إمكانات، وعلى بلوغ قدر من الحرية لم يكن من الممكن تصوره في أي عصر سابق.
1
وحين لا يعود الإنسان داخلا في العملية التكنولوجية المباشرة بوصفه واحدا من عناصرها، يكتسب الإنسان حرية جديدة في أوقات قيامه بالعمل الإنتاجي وفي أوقات فراغه. أما الحرية التي يكتسبها أثناء العمل الإنتاجي، فترجع إلى أنه لا يعود مضطرا إلى أداء ما يفرضه عليه تركيب الآلة بنفس السرعة التي تفرضها الآلة.
2
وفضلا عن ذلك فإن الإنسان في هذا النوع من الإنتاج يقف من الآلة موقف السيد لا العبد، فهو لا يكتفي بالتحرر من إيقاعها الرتيب. بل إنه يكتسب من الخبرات ما يتيح له أن يسيطر على الآلة سيطرة تامة، ويستخلص منها أكبر قدر ممكن من الفوائد، فضلا عن ازدياد قدرته على تطويرها من أجل تلافي أوجه النقص فيها بسرعة، واستخلاص إمكانات جديدة منها.
ولكن النوع الآخر من الحرية - الذي يكتسبه الإنسان بفضل الأساليب التكنولوجية الحديثة وأعني به الحرية في أوقات الفراغ - هو الذي يثير في واقع الأمر أعقد المشكلات؛ ذلك لأن التكنولوجيا الحديثة أصبحت تقدم للإنسان إنتاجا أكبر بجهد ووقت أقل، ولم يعد الإنسان في حاجة إلى ساعات العمل الطويلة المرهقة التي كانت تقتضيها أساليب الإنتاج القديمة، بل أصبح الاتجاه العام هو الاتجاه إلى تقصير يوم العمل على نحو مطرد؛ ومن ثم زادت أوقات فراغ الإنسان العامل زيادة كبيرة، ولا بد أن يؤدي التطوير في المستقبل إلى زيادة ساعات الفراغ على ساعات العمل.
على أن زيادة أوقات الفراغ ليست غاية في ذاتها؛ لأن الفراغ يمكن أن يتحول إلى خمول يلحق بالإنسان ضررا بالغا، أو يدفعه إلى التفكير في وسائل تعمل على إثارة حواسه المتبلدة بأي ثمن، ولذلك فإن توفير الوقت الحر ينبغي أن يكون مقترنا بالتفكير في أفضل وسائل الانتفاع من هذا الوقت؛ ذلك لأن الغاية الحقيقية - كما قلنا - ليست هي أن تزيد أوقات فراغ الإنسان العامل، بل هي أن يصبح هذا الإنسان سيدا مسيطرا على وقته بحق، وإلا وقع فريسة عبودية من نوع جديد؛ بحيث يسيطر عليه الخمول أو الإثارة الزائفة أو الثقافة الضارة، وينتهي به الأمر إلى أن يصبح عبدا لوقته الحر لا سيدا له.
والحق أن الطرق المألوفة حاليا في قضاء أوقات الفراغ تهدد حرية العقل الإنساني بأخطار حقيقية، ولن نتحدث هنا عما يحدث على أرصفة المدينة الحديثة - وبخاصة في البلاد المتخلفة في التصنيع - من تبديد لساعات طويلة على المقاهي في أحاديث وألعاب مملة، أو في أحلام يقظة مريضة. بل إن ما يحدث داخل البيوت ذاتها أهم من ذلك وأخطر بكثير؛ ففي أمسية هذه المدينة الحديثة، تجد العدد الأكبر من سكانها يضحكون معا في لحظة واحدة ؛ وذلك لأن اختراعا هائل التأثير مثل التليفزيون يعرض عليهم نفس البرنامج، ويشكل عقولهم بنفس القوالب، ويتحكم في انفعالاتهم على نفس النحو، وما أسهل أن تغرس في نفوس الناس سموم كثيرة، وتنمى عادات ومطالب زائفة، عن طريق هذا الجهاز الصغير الذي يشد إليه - خلال ساعات طويلة - انتباه ملايين الناس الذين حققت لهم التكنولوجيا فراغا في الوقت وفائضا من المال، ومثل هذا يقال - مع تعديلات طفيفة - على التأثير الذي تحدثه الصحافة اليومية والإذاعة والسينما؛ ففي كل هذه الحالات يؤدي تقدم العلم التطبيقي إلى صبغ الثقافة بصبغة نمطية موحدة قد لا تكون أضرارها وخيمة إذا كانت تستهدف النهوض الفعلي بعقول الجماهير ومشاعرها. ولكنها تصبح خطيرة التأثير حقا إذا وضعت لنفسها أهدافا تحقق مصالح سياسية أو اقتصادية على حساب تضليل الجماهير وتشويه عقولها، والقضاء التدريجي على ما بقي لديها من قدرة على النقد والرفض والانتقاء.
وربما أدى انعدام التوازن بين وقت الفراغ ووقت العمل إلى أن تثار في الغد مشكلة التحرر المفرط من العمل. صحيح أن العمل الشاق فيه إذلال للإنسان وحط له إلى مرتبة الحيوان، وأن من أهداف الثورات الاجتماعية والتكنولوجية الحديثة تحرير الإنسان من هذا النوع من الإذلال، والسمو به من مرتبة الأداة المنتجة إلى مرتبة الكائن الواعي بنفس وبالعالم المحيط به، غير أن السير في هذا الاتجاه إلى نهايته قد يثير المشكلة العكسية، وأعني بها الحاجة إلى العمل، فقد يدرك الإنسان في المستقبل أن العمل ضروري حتى لو كان في استطاعته الاستغناء عنه والاكتفاء منه بحد أدنى، وقد يصبح السعي إلى العمل ضرورة مطلوبة لذاتها أو لتحقيق التوازن، في شخصية الإنسان، بين النشاط المتحرر المنطلق في أوقات الفراغ، وبين النشاط الملتزم المقيد في أوقات العمل المنتج. وربما حدث للإنسان نوع من رد الفعل المماثل لما حدث في علاقته بالطبيعة، حين سعى في البداية إلى التحرر منها بعد أن استعبدته طويلا. ولكنه سئم هذا التحرر المفرط، وظهر رد الفعل على صورة «المحافظة على البيئة» و«استرجاع الطبيعة» وغير ذلك من النزعات التي لا تكف عن ممارسة تأثيرها على نمط حياة الإنسان الحديث وعلى فنه وأدبه.
على أن هذه - دون شك - تطورات لا تعرفها ولن تعرفها إلا المجتمعات الصناعية المتقدمة، أما المجتمعات المتخلفة فما زالت بعيدة كل البعد عن ممارسة هذا النوع من الترف الفكري، فالمشكلة الأساسية التي تشغلها في الوقت الراهن، وستظل تشغلها طويلا في المستقبل، هي بلوغ مستوى من التقدم التكنولوجي ومن التطور العلمي يتيح لها أن تتمتع بالحريات التي حققها العلم للمجتمعات المتطورة منذ عهد بعيد، وما زال الكفاح فيها يدور حول ضمان حد من العلم والتكنولوجيا يسمح للإنسان فيها بأن يشعر بآدميته. أما تلك المشكلات الناجمة عن تحول العلم والتكنولوجيا إلى كائن له كيانه الخاص المستقل عن الإنسان، وله قوانينه الخاصة التي تطغى على الإنسان ذاته، وله حياة ذاتية ونوع من التطور التلقائي الذي قد يتجاوز أو ينحرف عما رسمه له الإنسان من خطط. أما هذه المشكلات فما زال العالم المتخلف بعيدا عن مواجهتها، ومن الجائز أنه لن يواجهها في المستقبل أبدا، لا لأن تطوره لن يصل إلى الحد الذي يتيح ظهور مشكلات كهذه، بل لأن المجتمعات الأكثر تطورا ستكون، على الأرجح، قد تمكنت من حل هذه المشكلات خلال الوقت غير القصير الذي سيستغرقه وصول المجتمعات المتخلفة إلى هذا المستوى.
ولعل أولى المشكلات التي يراد لها حل عاجل - التي نأمل ألا يضطر العالم المتخلف إلى مواجهتها يوما ما - هي مشكلة القضاء على الخصوصية في المجتمعات الصناعية الشديدة التقدم، في الولايات المتحدة بدأت ترتفع أصوات كثيرة تنبه إلى الخطر الذي تتعرض له الحرية الشخصية للمواطنين من جراء انتشار «بنوك المعلومات» حيث تختزن العقول الإلكترونية معلومات عن أدق أسرار ملايين المواطنين، وتضيف إلى البيانات الموجودة استنتاجاتها الخاصة، المستمدة من تحليل المعلومات المعطاة، وحيث تستغل هذه البيانات والاستنتاجات ضد كثير من الأشخاص أسوأ الاستغلال، فإذا أضفنا إلى ذلك التقدم المذهل في أدوات التجسس الحديثة، والقدرة على التصنت لما يدور وراء الجدران بآلات شديدة الدقة لا تكاد ترى أو بأجهزة متنقلة تسلط على بيوت المواطنين من خارجها، وبآلات التصوير التي تنفذ أشعتها من الحوائط، إلى آخر هذه القائمة التي يتسع نطاقها دواما؛ لأدركنا مدى الخطر الذي يتهدد حرية الإنسان الشخصية من جراء تقدم العلم التطبيقي، فحياة الإنسان الخاصة توشك أن تصبح حياة عامة معروفة للجميع، أو لمن يريد الاطلاع عليها، والحد الفاصل بين النشاط العام والنشاط الخاص يوشك على الاختفاء؛ بحيث يعجز المرء عن ممارسة أبسط حرياته؛ أعني حرية السلوك بوصفه فردا له كيانه الخاص ومشاعره الشخصية التي لا يحق لأحد أن يتدخل فيها.
هذه الأخطار التي أصبحت حقيقة واقعة في أكثر البلاد الصناعية تقدما، تعد مثلا واضحا لرد الفعل العكسي الذي يمكن أن يحدثه التقدم المفرط في العلم التطبيقي؛ فالتكنولوجيا التي تستهدف أصلا تحرير الإنسان من عبودية العمل الشاق، وتيسير جميع سبل الحياة أمامه؛ تنقلب في هذه الحالة إلى أداة للقضاء على أكثر الحريات الشخصية قداسة. ومن المؤكد أن كثيرا من المتشائمين يعممون هذا الحكم بحيث يتصورونه جزءا من طبيعة التقدم التكنولوجي ذاته، ومن هنا كانوا يحذرون البشرية من الأخطار التي يعرضها لها تقدم التكنولوجيا في العصر الحديث، ويحلمون بالعهود البائدة التي كان الإنسان فيها متصلا بالطبيعة اتصالا بريئا مباشرا، وكانت حياته خالية من تعقيدات العلم الحديث: النظري منه والتطبيقي.
ولكن هذه كلها أحلام واهمة؛ إذ لا سبيل إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ولا جدال في أن حكمنا على هذه المسألة كلها سوف يختلف اختلافا جذريا إذا نظرنا إلى عيوب التكنولوجيا الحديثة هذه، لا على أنها عيوب كامنة في التقدم العلمي التطبيقي ذاته، بل بوصفها ناتجة عن إساءة استغلال أنظمة اجتماعية وسياسية معينة لهذا التقدم، في هذه الحالة يمكننا أن نأمل في أن يتخلص التطور المقبل للتكنولوجيا من هذه العيوب، ويسير في طريقه محررا شخص الإنسان من القيود، بدلا من أن يفرض عليه ألوانا من العبودية أقسى وأفظع من تلك التي كان يعانيها في أشد العصور تخلفا.
خاتمة: الحرية الشخصية وكفاح العلم
العلم بطبيعته كفاح متدرج شاق في سبيل الوصول إلى حقيقة تختفي وراء ضباب الظواهر الجزئية المعقدة المتداخلة، وهو سعي مستمر في سبيل التغلب على عقبات لا نكاد نجتاز واحدة منها حتى تظهر أمامنا عشرات، والعلم أيضا مجهود يتحقق فيه الاتصال بين العقول على أكمل صورة؛ فالعلم لا يمكن تصوره بوصفه مجهودا فرديا. صحيح أن قدرا كبيرا من العمل العلمي يدور في ذهن العالم المنفرد. ولكن قليلا من التفكير يكشف لنا عن أن ما نسميه «بذهن العالم المنفرد» هو في حقيقته ذهن تجمعت فيه حصيلة معارف إنسانية هائلة تمتد من أبعد عصور التاريخ إلى أقربها، وخلاصة تجارب استمدت من ماضي البشر ومن حاضرهم، وهو ذهن أسهمت في تكوينه التربية - أعني التراث الإنساني كله - والتوجيهات والانتقادات والقراءات التي تربط المرء بمعاصريه وبسابقيه أوثق الارتباط، وبعد هذا كله فإن هذا الذهن الفردي لا يستطيع أن يمضي في بحثه العلمي إلا بعد أن يضعه في الإطار الواسع للمعرفة السائدة في عصره، ولا يستطيع أن يدرك قيمة عمله إلا بعد أن يصدر عليه الآخرون حكمهم في ضوء تجاربهم ومعارفهم المتعددة الأبعاد.
وبفضل هاتين الصفتين: صفة السعي التدريجي البطيء من أجل بلوغ الحقيقة، وصفة الاتصال والارتباط الدائم بين الفرد وبين الآخرين (سواء أكان هؤلاء الآخرون معاصرين أو تاريخيين)، استطاع العلم أن يكون أداة فعالة في تحقيق حرية الإنسان، فحرية الشخص الإنساني بقدر ما تكون مرتبطة بالعلم ومعتمدة عليه، هي بدورها كفاح متدرج بطيء، وهي بدورها تضافر وتواصل مع الآخرين من أجل بلوغ هدف مشترك.
على أن هذه النظرة إلى الحرية - بصفتيها اللتين ذكرناهما الآن - قد وجدت في الآونة الأخيرة فلسفة تنكرها، وتجعل للحرية صفات أخرى تؤدي - في نهاية الأمر - إلى فصم تلك الرابطة الوثيقة التي رأينا - طوال هذا البحث - أنها تجمع بين الحرية الشخصية والعلم. هذه الفلسفة هي الوجودية التي تعد مشكلة الحرية من أهم الموضوعات التي دار حولها تفكير أقطابها.
ولسنا في هذا المقال - وفي جزئه الختامي بوجه خاص - في وضع يسمح لنا بالدخول في تفاصيل الرأي الوجودي في الحرية. بل إن كل ما يهمنا في هذا الرأي هو ما يتصل منه بموضوع بحثنا، فهذا الرأي - في عمومه - يتعارض تعارضا أساسيا مع وجهة النظر التي كنا نحاول إثباتها في هذا البحث، والتي تجعل العلم شرطا ضروريا للحرية الشخصية من جهة، وتجعل الحرية - من جهة أخرى - دعامة أساسية من دعامات التقدم العلمي.
إن الحرية في المذهب الوجودي مرتبطة بوضع الإنسان في هذا العالم، إنها ماهية الموقف الإنساني نفسه؛ إذ إن وجود الإنسان - متميزا عن وجود الأشياء أو غيره من الأحياء - هو وجود حر، يعني أنه وجود يتجاوز ذاته دواما، ولا يكون لحاضره معنى إلا في إطار المستقبل الذي يتجه إليه، أو «المشروع» الذي يلقي بنفسه نحوه، وسواء أكان نوع الحياة التي يحياها الإنسان مما يدخل - تبعا لتصنيفاتنا العادية - في فئة حياة الحرية أو حياة العبودية، فإن الإنسان في نظر الوجوديين حر لمجرد كونه إنسانا، ولأنه بفضل إنسانيته يكتسب شكلا خاصا من أشكال الوجود، يصنع فيه «ماهيته» على الدوام، ولا يجدها تامة مكتملة، وتظل الإمكانات أمامه مفتوحة لكي يشكل بها حياته على النحو الذي يرسمه في «مشروعه»، والقوة المحركة لهذا «المشروع» هي قدرة الإنسان على الرفض أو النفي
la negativité ؛ أعني قدرته على أن ينتزع نفسه من الواقع، ويخرج بوجوده عن نطاق ما هو معطى أو قائم بالفعل، وعلى أساس هذا المشروع يصبح كل فعل وكل اختيار تعبيرا عن نظرة معينة إلى العالم يتخذها كل فرد لنفسه، ويزيدها في كل فعل يقوم به وضوحا وتوسيعا وإثراء بحيث يكون كل فعل تعبيرا عن هذا المشروع ورمزا له.
فهل يمكن أن يكون للعلم مكان في مثل هذه الحرية؟ نستطيع أن نقول: إن القدرة على النفي وعلى الرفض، تتقارب حسب درجة العلم التي يصل إليها المرء، فهذا الرفض لا يتوقف على الإرادة وحدها، وإنما يتوقف أيضا على العقل، وعلى تحليل الواقع المعطى وفهمه ونقده، ومن هذا كله تظهر الرغبة في تجاوزه؛ أي إن حدود الإرادة والنطاق الذي تمتد إليه تتحدد في هذه الحالة وفقا للعقل وللعلم، ومن جهة أخرى فإن «المشروع » الذي يضعه إنسان واع بنفسه وبحقائق عالمه يختلف عن ذلك الذي يضعه من يفتقر إلى الوعي. وفي هذه الحالة بدورها يدخل العلم عنصرا ضروريا في الحرية الإنسانية. ومع ذلك فإن الفلسفة الوجودية ذاتها لم تقل بهذا الرأي، وهي لم تتعرض أصلا للدور الذي يمكن أن يقوم به العلم في تحديد نطاق الحرية الإنسانية مفهومة بالمعنى الذي حددوه هم أنفسهم لها.
إن الفعل الإيجابي - في الفلسفة الوجودية - لا يستهدف «الوصول» إلى الحرية، بل يستهدف «استغلال» حرية موجودة بالفعل لدى كل إنسان بقدر ما يكون إنسانا. أما العلم - من حيث هو عامل أساسي من عوامل تحقيق الحرية الإنسانية - فلا يفترض حرية أصيلة لدى الإنسان، وإنما يعمل حسابا للواقع العيني الذي يكون فيه غالبية الناس مستعبدين، ويتعين عليهم فيه بذل جهود لا حد لها من أجل الخلاص البطيء من الاستعباد، والعلم لا يعرف «حرية» واحدة تجريدية شاملة، بل يعرف «حريات» عينية متعددة، تقتضي كل منها جهدا مستقلا من أجل بلوغها، وإن كانت كلها تتضافر في «تحرير» الإنسان. بل إن العلم لا يعرف حرية «للإنسان» بوجه عام، وإنما يعرف حرية فئة من الناس في موقف تاريخي، أو في بيئة اجتماعية، أو في وضع طبقي معين. وفي كل الأحوال لا تكون الحرية - في نظر العلم - صفة كامنة في الفرد، أو معطى من المعطيات كحقيقة جسم الإنسان مثلا، بل هي شيء ينبغي اكتسابه واتخاذه هدفا لسعي لا يتوقف، تكون نقطة البداية فيه هي الاعتراف بأن العبودية والجهل - لا الحرية والوعي - هي القدر الغالب على الإنسان، والذي ينبغي عليه أن يكافح من أجل تجاوزه، وعندما يقول سارتر: «إنني محكوم علي بأن أكون حرا ... إن الإنسان لا يملك أن يكون تارة حرا وتارة أخرى عبدا. بل إنه حر بأكمله، وحر على الدوام، وإلا لما كان موجودا»،
3
عندما يقول ذلك فإنه يتحدث عن نوع من الحرية لا يعرفه الإنسان الذي نراه حولنا غارقا في ظلام الجهل، أو مستعبدا بيد مستعمر أو سيد إقطاعي، أو عاجزا أمام قوى عاتية لا يعرف مصدرها، ولا يدري كيف يواجهها، فأين هي هذه الحرية التي «حكم علينا» بها؟ أهناك من يود التخلص منها لو استطاع أن يكتسبها؟ أهناك من يشعر بأن حريته محكوم عليه بها؟ إننا لنطرب لحرية ونتوق إليها ونبحث عنها فلا نجدها في كثير من الأحيان، فكيف تكون شيئا يحكم علي به أو قدرا ومصيرا لا أملك دفعه؟
إن الحرية - كما قلنا - هدف بعيد ما زال يقتضي كفاحا لا هوادة فيه، وسلاحنا الأكبر في هذا الكفاح هو العلم، هو فهم الواقع من أجل السيطرة عليه على نحو متزايد، والقول بأن الحرية هي سمة الموقف الإنساني يتجاهل تلك التجربة المؤكدة التي تميز فيها بين إنسان متحرر وإنسان مستعبد، وهنا تبدو الوجودية وكأنها هي الوجه السلبي لمذهب الجبرية المطلقة، الذي ينفي وجود أية حرية، ويتجاهل بدوره تجربة التمييز بين الحر والمستعبد، فسواء نظرنا إلى الإنسان على أنه حر على نحو مطلق، أم مجبر على نحو مطلق؛ فنحن في الحالتين نصبغ الإنسان بصبغة واحدة، ومع ذلك فحتى لو كان الإنسان حرا أو مجبرا بصورة مطلقة، فلا بد أن يكون في وسعنا أن نميز - على أساس معين - بين وضعين للإنسان؛ أحدهما يتسم بالحرية والآخر يفتقر إليها، داخل هذه الحرية المطلقة أو الجبرية المطلقة، وإلا كنا نغفل عنصرا أساسيا من عناصر تجربتنا الفعلية . •••
إن مجرد وجود «مشكلة للحرية» هو في ذاته دليل على وجود الحرية؛ لأن «وجود» هذه المشكلة معناه أن الجبرية ليست هي السائدة، ومعناه أن هناك قدرا من الاعتراف بالحرية حتى في الأذهان التي تنكرها على المستوى الفلسفي. ولكن وجود «المشكلة» يعني - من جهة أخرى - أن الحرية ليست مكتملة وليست مطلقة. وليست تعبيرا عن «الوضع الإنساني» الذي نجد أنفسنا فيه، إن قيام «مشكلة» الحرية دليل على أن الحرية لم تكتسب بعد، وعلى أن الإنسان «لا يحكم عليه» بالحرية، بل يحكم عليه بالسعي طوال تاريخه من أجل التحرر، والانتقال «بوضعه الإنساني» من ألوان الاستعباد التي يحفل بها إلى السيطرة على واقعه وعلى الظروف المحيطة به.
وفي هذا السعي الدائم يقوم العلم - مفهوما بأوسع معانيه - بالدور الرئيسي في تحقيق الحرية الإنسانية، وهو إذ يسير في طريقه بتدرج وبطء ويتغلب رويدا رويدا على ما يعترضه من عقبات، وإذ تتكامل فيه جهود العقول المنفردة بحيث تكون كلها «عقلا» واحدا يتسع نطاقه زمانيا ومكانيا بلا انقطاع، يقدم إلينا أنموذجا رائعا ينبغي أن نحتذيه في الجهود التي نبذلها من أجل تحرير أنفسنا.
وحين نتخذ من العلم نموذجا نضعه نصب أعيننا في سعينا إلى تحقيق حرية الشخصية الإنسانية، سندرك أن الحرية جهد ومشقة، وأنها تقتضي مقاومة وتغلبا على الصعوبات، وأننا لا نكون أحرارا إلا بقدر ما نبدي إيجابيتنا في التعامل مع الطبيعة ومع المجتمع، وسنعلم عندئذ أن من يخاطبنا على أساس أننا «لا نملك إلا أن نكون أحرارا»، وعلى أساس أننا «محكوم علينا بالحرية»، قد تجاهل واقعنا وتاريخنا، وأن العلم وحده هو الذي يستطيع - من خلال تأثيره المباشر بوصفه معارف نظرية وتطبيقات عملية، أو من خلال تأثيره غير المباشر بوصفه منهجا في التعامل مع الموضوعات - أن يقدم إلينا أفضل مثل ينبغي أن نحتذيه في سعينا من أجل تحقيق الحرية الشخصية لأنفسنا وللإنسانية جمعاء.
الحقيقة الفنية
عرفت الإنسانية منذ أقدم عصور الفكر ثلاث قيم كانت تعدها أهدافا ينبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقها في نفسه وفي العالم المحيط به بكل ما يملك من طاقات: هي قيم الحق والخير والجمال. وكان هذا التقسيم الثلاثي للقيم الإنسانية الكبرى مبنيا على نظرة متكاملة إلى طبيعة الإنسان الروحية، التي لا تكتمل مقوماتها إلا إذا كرس الإنسان حياته من أجل اكتساب الحقيقة في العلم، وتوخى الخير في التعامل مع الغير، وبحث عن الجمال في الطبيعة والفن، وهكذا كانت هذه القيم الثلاث تناظر ثلاثة أنواع رئيسية من النشاط الروحي للإنسان: العلم والأخلاق والفن، وإذا كانت ضروب النشاط هذه جديرة بسعي الإنسان واهتمامه حتى تتكامل شخصيته، فإنها في الوقت ذاته تعبر عن ثلاثة مسالك متباينة، لكل منها طابعه الخاص، مع تضافرها جميعا في تكوين شخصية الإنسان. وهذا معناه أن البحث عن الحقيقة شيء، والبحث عن الجمال شيء آخر، وأن الإنسان إذا كان يستهدفهما معا، فإنه يسلك لكل منهما طريقا مستقلا، لا يكون فيه مجال للالتقاء بينهما.
هكذا تطرح المشكلة تقليديا على أساس أن الحقيقة لا تتداخل مع الفن، وأن كليهما ضرب مستقل من النشاط الروحي للإنسان، ولو أننا حللنا طبيعة كل نوع من نوعي النشاط هذين لوجدنا مبررات قوية لهذا الفصل التقليدي بين الحقيقة والفن؛ فحين نمعن النظر في طبيعة البحث عن الحقيقة، ونقارنه بالبحث عن الجمال، نستطيع أن نجد بينهما فوارق أساسية، سوف أبدأ مقالي هذا بالإشارة إلى أهمها: • حين نبحث عن الحقيقة نتجنب - قدر استطاعتنا - استخدام الخيال. بل إن الحقيقة والخيال - في تعبيراتنا الشائعة - ضدان لا يجتمعان وحتى حين نقول: «إن الحقيقة قد تكون أغرب من الخيال.» فإن هذا القول - الذي يبدو ظاهريا أنه يقرب الحقيقة من الخيال في مجال الغرابة والخروج عن المألوف - يؤكد بطريقة ضمنية وجود تضاد أساسي بينهما؛ على أن الخيال هو دعامة الفن، وهو الملكة الأساسية التي نمارسها فيه. وفي مقابل ذلك فإننا - في سعينا إلى الحقيقة - نستخدم ملكة الاستدلال العقلي، وإذا استخدمنا الحواس في المشاهدة والملاحظة فإنا نحرص على أن تكون حواسنا، أو امتداداتها في آلات الرصد أو التكبير أو التصغير، مطابقة للواقع وملتزمة به التزاما كاملا، ولو فعل الفنان ذلك لضاع منه كل ما هو مميز له؛ إذ إن الالتزام بالواقع - الذي هو فضيلة في حالة السعي إلى الحقيقة واكتساب العلم - يغدو مظهر نقص وعلامة ضعف حين يكون هدفنا هو خلق عمل فني يتسم بالجمال؛ فالفنان صاحب خيال واسع قبل كل شيء، أو لنقل على الأصح: إن الحد الفاصل عنده بين الخيال والواقع يختفي لكي يحل محله تداخل وتشابك بينهما، فهو ينظر إلى الواقع بعين الخيال، ويضفي على صوره ورؤاه الخيالية كيانا واقعيا، ويجسم أخيلته كما لو كانت حقائق فعلية تروح وتجيء على مسرح الحياة.
ويترتب على الفارق السابق أن سعي الإنسان إلى الحقيقة يجعله مقيدا وملتزما بما هو موجود، على حين أن سعيه إلى الجمال من خلال الخيال هو سعي حر طليق؛ فالعالم الذي يبحث عن حقائق الأشياء لا بد له أن يخضع لنظام صارم دقيق، يتخلى فيه عن أهوائه وعن ميوله الذاتية لكي يدرس الظواهر كما هي، لا كما يريدها أن تكون. وبعبارة أخرى: فإنه يخضع عقله لطبيعة الظاهرة التي يدرسها، ويدربه على أن يراها على ما هي عليه؛ بحيث يكون قانون الظاهرة نفسها هو هدفه ومبتغاه، وعلى العقل أن ينحني دائما أمام الضرورة الحتمية الكامنة في الأشياء.
أما الفنان فقانونه الوحيد هو الحرية، وهو يتعمد أن يخالف النظام الفعلي للأشياء ويصورها على نحو مغاير لما هي عليه بالفعل. وربما خلق لنفسه - في مجال فني معين - عالما خاصا به، يخالف كل من هو موجود في عالم الطبيعة؛ فالفنان الموسيقي مثلا يخلق لنفسه عالما خاصا من الأصوات المتآلفة، عن طريق الآلات الموسيقية، التي تصدر عنها أصوات لا وجود لمثلها في الطبيعة، ويتحرر بذلك من قيود الصوت الطبيعي، الذي هو عادة خشن محدود، يسير على وتيرة واحدة؛ لكي يخلق لنفسه عالما كاملا من الأصوات المتآلفة، ذات الإمكانات الهائلة، ويتحرك في هذا العالم بحرية تامة يتجاوز فيها كل ما تقدمه إليه الطبيعة.
وبالمثل فإن الشاعر أو الروائي حين يمسك بقلمه وأمامه صفحة بيضاء لم يبدأ بعد في تدوين شيء فيها، يكون في موقفه هذا رمزا لحرية الفنان الكاملة؛ فالورقة أمامه خالية من كل شيء، وهي لا ترغمه على أن يكتب فيها شيئا بعينه. بل إن له الحرية التامة في أن يكتب أي شيء، أو في ألا يكتب شيئا، إنه يستطيع أن يخلق على الورق عالما كاملا من صنعه هو، دون أن يقيده أو يحد من حريته شيء، فهو في هذا المجال السيد الأوحد الذي لا يخضع لقانون، وشتان ما بين موقفه هذا وموقف العالم الذي تقيده قوانين الطبيعة الثابتة، ولا يتحرك عقله إلا في عالم من الضرورة والحتمية لا يملك إلا أن يعبر عنه كما هو دون أن يضيف إليه من عنده شيئا . • في هذا العالم الذي تسوده الضرورة الشاملة، يتعين على من يسعى إلى كشف الحقيقة أن يكون موضوعيا في تفكيره، موضوعيا في نظرته إلى الظواهر التي يبحثها؛ فالعالم الذي ينشد الحقيقة ينبغي عليه أن يتخلى عن أهوائه وميوله الذاتية. بل إنه قد يجد لزاما عليه أن يسير في طريق «مضاد» لذلك الذي يتجه ميله إليه، وكم من عالم تخلى عن فرض أثير لديه كونه بعد مشقة وجهد استغرق منه سنوات عديدة من البحث والتفكير؛ لأن «واقعة» بسيطة ظهرت أمامه وكذبت هذا الفرض، ولو ترك نفسه على سجيتها لتجاهل هذه الواقعة العنيدة كيلا يتخلى عن نتاج عمله الشاق. وهذا بالفعل ما قد يفعله عالم ضئيل الشأن. أما العالم الكبير فإنه يرفض أن يتجاهل ما هو مضاد لتفكيره، بل يوليه اهتماما كبيرا، ولا يجد غضاضة في أن يراجع خطواته السابقة كلها، ويبدأ طريقه الشاق من جديد إذا تأكد أن الفرض الذي كونه يتعارض مع أبسط الوقائع، وهكذا يعود العالم نفسه على الموضوعية، ويتخذها قاعدة أساسية لأخلاقه العلمية.
وبالمثل فإنه يتخذ موقفا موضوعيا إزاء الظواهر التي يبحثها، والتي توجد خارجه، فهذه الظواهر كلها في نظره متساوية، بمعنى أنه لا يقحم تفضيلاته الشخصية وميوله الذاتية عند بحثه عن حقيقة الأشياء، ولو وجد شخص يبدي اهتماما خاصا ببحث نبات معين؛ لأنه يفضل لون زهرته مثلا، لما كان في سلوكه هذا عالما بالمعنى الصحيح؛ فالبحث عن الحقيقة يستلزم وضع الظواهر على قدم المساواة في صف أفقي لا تعلو فيه واحدة على الأخرى إلا بقدر ما تفيد في الكشف عن القانون العام الذي يحكمها.
وعلى العكس من ذلك نجد الفنان - بالقياس إلى العالم - منحازا عاطفيا وربما هوائيا، وكم من فنان عظيم - وخاصة في عصرنا الحاضر: عصر أجهزة الإعلام المنتشرة على نطاق عالمي - يفرض على الناس نزواته الخاصة ويتناقلها هؤلاء الناس دون أي استياء، وكأنها جزء مما يدينون به لفنه العظيم، وبالمثل فهو في معالجته لموضوعاته لا يضعها أبدا على قدم المساواة، بل إنها تتخذ أمامه ترتيبا رأسيا، ويكون لبعضها عنده أفضلية مؤكدة على البعض الآخر. وهكذا يحل «التفضيل» في كل سعي إلى الجمال الفني محل «الموضوعية»، وتختفي المساواة بين الظواهر؛ لأن الفنان بطبيعته منحاز. بل إن متذوق الجمال ذاته يتخذ من «التفضيل» معيارا أساسيا، فهو لا يقيس الأعمال الفنية بالمقاييس المتعارف عليها في العلم، وإنما يضعها في ترتيب هرمي، ولا يقبل أي اعتراض على هذا الترتيب؛ لأن الأذواق - في رأي الكثيرين - لا مقياس لها، وما يفضله الواحد قد لا يكون مفضلا عند الآخر، دون أن يكون لأي منهما الحق في أن يفرض تفضيلاته الخاصة على الآخر. • ولعل أحدا لا ينكر أن سعينا إلى الحقيقة لا يصل إلى غايته إلا إذا استطعنا أن نستخلص من الظواهر قانونها العام؛ فالعالم الذي ينشد معرفة خصائص السوائل - مثلا - لا يهمه هذه الكمية المحددة من السائل أو تلك، وإنما يتجه جهده إلى استخلاص نتائج عامة عن طبيعة السوائل كلها، كأن يعرف - على سبيل المثال - لماذا هي مرنة على حين أن الجوامد صلبة؟ ولماذا تنتشر فيها الحرارة بشكل متساو؟ إلخ، ولقد أدرك المفكرون والفلاسفة هذه الحقيقة منذ أقدم العصور، فقال أرسطو كلمته المشهورة: «لا علم لا بما هو عام»، وظل من السمات الأساسية للعلم منذ ذلك الحين أن العالم يترك الحالات الفردية والجزئية والصفات العرضية جانبا، ويستبقي من الظواهر ما هو مشترك بينها. ولا جدال في أن هذا العنصر المشترك سيكون شيئا أقرب إلى التجريد؛ إذ أن القانون العام للظاهرة لا بد أن يكون ذا طبيعة مجردة، تتخذ في أغلب الأحيان صبغة رياضية.
وعلى العكس من ذلك نرى الجمال الفني لا يتمثل في شيء فردي ملموس؛ فالعمل الفني يصور موضوعا معينا، وحتى لو كان ذلك العمل ينتمي إلى الاتجاه التجريدي المعاصر، فإن هذا التجريد يتخذ بدوره صبغة ملموسة، بدليل أنه يعبر عن نفسه من خلال خطوط أو أشكال أو مساحات لونية محددة ندركها بحواسنا.
وهكذا تختلف الحقيقة عن الجمال في أن مقر الحقيقة هو العقل، على حين أن الجمال يتمثل فيما ندركه بحواسنا؛ أي في موضوع محدد ملموس يقع خارج الإنسان.
وأخيرا، فإن العالم الباحث عن حقيقة الأشياء يجد نفسه مضطرا إلى القيام بتحليل لموضوعات بحتة وتجزئتها إلى عناصرها الأولية، كيما تصبح مفهومة على نحو أفضل؛ فالظواهر التي يبحثها العالم لا تظل على ما هي عليه في الطبيعة، وإنما يقوم بتحليلها عقليا أو ماديا على نحو تفقد معه طابعها الأصلي، وقد يصعب علينا أن نتعرف عليها بعد أن فقدت وحدتها الأصلية، وأصبح الكل المتماسك مجموعة من العناصر المفككة. غير أن هذا التفكيك والتجزيء شيء لا بد منه لكي يتمكن العالم من فهم الظواهر المعقدة المتشابكة؛ إذ إن تحويل الشيء المعقد إلى بسائطه هو الذي يتيح معرفة تركيبه بدقة، والوصول إلى القانون المتحكم فيه.
وربما كانت هذه الصفة هي أكثر الصفات تمييزا للحقيقة العلمية عن الجمال الفني؛ وذلك لأن الفنان لا يعمد أبدا إلى التحليل، وهو لا يسعى أصلا إلى الفهم أو كشف القانون، وإنما الفن - قبل كل شيء - خبرة و«تجربة». وفي هذه التجربة الفنية لا نتذوق الجمال إلا إذا تركنا أنفسنا نستمتع بالعمل الفني دون تحليل أو تشريح. ولقد عبر الشاعر الألماني العظيم «جوته» عن هذه السمة المضادة للتحليل في التجربة الفنية بقوله: «إن كل نظرية شاحبة. أما وجه الحياة فناضر مفعم بالحيوية.» ويقترب من هذا المعنى القول المشهور : «إن كل تشريح قتل.» والمقصود هنا ليس المعنى المباشر، الذي يتعين علينا فيه أن نقتل الضفدعة مثلا قبل أن نقوم بتشريحها، بل المعنى غير المباشر، الذي يؤدي فيه التحليل العلمي إلى تشويه التجربة وضياع مذاقها المميز، فلكي تستمتع بالجمال الفني حقا ينبغي أن تترك هذا الجمال يسري خلالك ويؤثر في أعماقك ويغمرك من جميع الجوانب، وينبغي أن تستغرق في تأمله وفي تذوقه استغراقا تاما، أما إذا بدأت تحلل تجزئ وتشرح، فسوف يضيع منك قدر كبير من تجربة الجمال. صحيح أن الناقد يقوم بمثل هذا التحليل والتشريح. ولكنه يفعل ذلك في وقت ويستمتع بالعمل الفني في وقت آخر، وحتى لو كان من بين أولئك الذين يقومون بالأمرين معا في وقت واحد، فإنه هو ذاته يعترف بأن هذه مقدرة لا تتاح إلا لقلة قليلة من البشر، وبأن الأغلبية العظمى من متذوقي الفن لو جمعوا بين الاستمتاع والتحليل في وقت واحد؛ لفقدت تجربتهم الجمالية قدرا كبيرا من صدقها وأصالتها.
إن الاستمتاع بالجمال الفني هو بعبارة أخرى: واحد من تلك التجارب التي لا يعبر عنها باللغة إلا مجازا، على سبيل التقريب فحسب، فهو تجربة فريدة لا تتكرر، ولا يستطيع المرء أن ينقلها إلى الآخرين بسهولة؛ ومن هنا كان من أهم سمات التجربة الجمالية كونها شخصية ذاتية، أما الحقيقة العلمية فلا غناء لها عن لغة تعبر عن نفسها من خلالها. وقد تكون تلك هي اللغة الكلامية المألوفة، أو قد تكون لغة خاصة اصطنعت لأغراض علمية كاللغة الرياضية أو أية لغة رمزية أخرى. والمهم في الأمر أن تلك الحقيقة لا تنقل إلى الآخرين إلا من خلال اللغة، ولما كانت الحقيقة العلمية بطبيعتها قابلة للتداول، ولا بد لكل عقل يفهمها أن يقتنع بها ويتبناها كما لو كانت حقيقته الخاصة، فإن وجود نوع من اللغة يعد واحدا من المقومات الرئيسية للحقيقة العلمية. أما التجربة الفنية فشخصية ذاتية، لا يحس مذاقها كاملا إلا صاحبها وحده، ويعجز عن نقلها كاملة إلى الآخرين. •••
هكذا تكشف لنا المقارنة بين سعي العالم إلى كشف الحقيقة وسعي الفنان إلى الاستمتاع بالجمال عن وجود فوارق أساسية بين طبيعة قيمتي الحق والجمال، وهي فوارق تبرر الرأي الشائع الذي ينظر إليهما على أنهما تمثلان مجالين منفصلين لا سبيل إلى الالتقاء بينهما.
ولقد كان هذا هو ما حدث بالفعل خلال التاريخ؛ إذ إن الطريق الذي سار فيه العلم ظل منفصلا عن ذلك سار فيه الفن، ولم يحدث بينهما التقاء إلا في الحالات التي حاول فيها الفن أن يتخذ من العلم موضوعا له، كما في روايات الخيال العلمي
Science Fiction
أو الموضوعات التي أوحى بها ارتياد الفضاء للفانين في مجالات متعددة، وهي حالات نستطيع أن نعدها هامشية محدودة الأثر، أو في الحالات التي حاول فيها العلم أن يخوض ميدان الإبداع الفني لكي يدرسه دراسة منهجية منظمة، وهي حالات أهم بكثير، وتستحق أن نتوقف عندها قليلا.
ذلك لأن أهم ما يتصف به الإنسان ويتميز عن سائر الأحياء هو أنه مخلوق مبدع، وسواء فهمت كلمة الإبداع هنا بالمعنى الضيق، الذي ينصب على الخلق الجديد في ميادين الفن والعلم، أو بالمعنى الواسع، الذي يتعلق بأي تجديد يدخله الإنسان على جوانب نشاطه مهما كان محدودا، فإن الأمر المؤكد هو أن الإبداع هو الذي أتاح للنوع الإنساني - على وجه التحديد - فرصة الارتقاء والتقدم المستمر، وهو الذي أنقذ الإنسان من المصير الذي آلت إليه الأنواع الحيوانية كلها، وهو التجمد عند حدود وظائف معينة تؤدي إلى نحو آلي بحت، دون أي تنويع أو تجديد ودون أية قدرة على تطوير هذه الوظائف أو نقل الخبرات المكتسبة منها إلى الآخرين. وهكذا فإن العلم حين يحاول الالتقاء بالفن من خلال دراسة عملية الإبداع، إنما يقترب في الواقع من المنبع الأصيل للكائن البشري، ويستكشف آفاق العملية التي يتميز بها الإنسان بما هو إنسان. بل إنه يستكشف جذوره العميقة (أعني جذور العلم ذاته)؛ لأن الإبداع له دوره الحاسم في الكشف العلمي بدوره.
على أن الدراسة العلمية للإبداع ما زالت في أولى مراحلها. وليس لنا أن ندهش على الإطلاق حين نجد العلم يرجئ دراسة هذا الميدان العظيم الأهمية ولا يبدؤها إلا منذ عشرات قليلة من السنين؛ ذلك لأن هذه من أعقد الدراسات التي يتصدى لها العلم، إن لم تكن أعقدها على الإطلاق، فهي تتعلق بذلك الميدان المحاط بالأساطير والمغلف بالغموض؛ أعني بتلك القوة الخفية التي بفضلها يتمكن أشخاص معينون من أن يتجاوزوا مستوى البشر الآخرين، ويخلقوا شيئا جديدا يحشدون له طاقتهم الروحية ما يعجز عنه سائر الناس. هذه القوة التي لم تملك العصور السابقة إلا أن تعترف بعجزها عن فهمها، فأطلقت عليها اسم «العبقرية» أو «الموهبة»، وصورت من يمتلكها بأنه شخص به مس من «الشيطان» أو على أحسن الفروض بأنه شخص «ملهم» - وكلها ألفاظ تخفي بسذاجة جهلنا بالظاهرة نفسها - هذه القوة الشديدة التعقيد أصبحت الآن موضوعا لدراسات علمية ينبغي أن نعترف لها بالفضل، ونمتدح فيها تلك الشجاعة التي أتاحت لها أن تقتحم هذا الميدان المستعصي على الفهم، وإذا كانت هذه الدراسات لم تسفر حتى الآن عن الكثير، ولا يتوقع لها أن تصل في المستقبل القريب إلى نتائج مدوية، فإن هذا لا يمنع من الاعتراف بالأهمية القصوى لتلك المحاولات التي يسعى بها العلم إلى الالتقاء بالفن، وهي محاولات ستكشف أهم أسرار الإنسان حين يقدر لها النجاح.
على أننا إذا استبعدنا محاولات الالتقاء هذه - التي هي في أحد جانبيها محدودة النتائج، وفي جانبها الآخر ما زالت تحبو في أول الطريق - فسوف نجد الفن والعلم يسيران في طريقين منفصلين. وهذا التباعد راجع إلى العوامل التي عددناها من قبل، التي كشفت لنا عن وجود اختلافات أساسية في طبيعة هذين النوعين من النشاط الإنساني. •••
ولكن هل صحيح أن الاختلافات بين السعي إلى الحقيقة العلمية والسعي إلى الجمال الفني أساسية إلى الحد الذي يتصورها به الناس عادة؟ وهل هي من الحدة بحيث لا تسمح لنا بالجمع بين الطرفين والكلام عن «حقيقة فنية»؟ إن البحث المتعمق للفوارق التي أوردناها في مستهل هذا البحث، يكشف لنا عن وجود نقاط تشابه لا يستهان بها، بين الحقيقة العلمية والجمال الفني، والواقع أننا حين أكدنا هذه الفوارق في البداية إنما كنا نعرض وجهة النظر الشائعة في الاختلاف بين العلم والفن، وعلى الرغم من أن وجهة النظر هذه صحيحة إلى حد بعيد، فمن الممكن بمزيد من التفكير المتعمق أن نعيد تفسير كثير من عناصر الاختلاف السابقة؛ بحيث نهتدي إلى نقاط التقاء هامة بين هذين الميدانين.
ولسنا في حاجة - لكي نثبت وجود نقاط الالتقاء هذه - إلى تناول عناصر الاختلاف السابقة واحدا بعد الآخر لكي نهتدي إلى ما يمكن وراء كل منها من جوانب الالتقاء، بل يكفينا لإثبات وجهة نظرنا أن نشير إلى بعض من أهم هذه العناصر ونعيد تفسيرها في ضوء فكرة التشابه بدلا من فكرة الاختلاف.
فقد ذكرنا من قبل أن السعي إلى الحقيقة لا يترك مجالا للخيال، الذي هو ألزم اللوازم في الفن، وأن العالم يسير في طريقه مقيدا بالواقع وقوانينه الصارمة التي لا يملك إلا أن يخضع لها. ولكن هل القول: إن الحقيقة العلمية لا مجال فيها للخيال، هو قول صحيح على نحو مطلق؟ الواقع أن العلماء الكبار أنفسهم هم أول من يشهدون بأن البحث عن الحقيقة يقتضي من الخيال قدرا قد يقترب - في بعض الأحيان - مما يحتاج إليه الفنان؛ فالنظريات الكبرى في العلم لم تكن مجرد تقنين وتدوين للمشاهدات والملاحظات العلمية فحسب، وكل كشف علمي كبير كان أكثر من مجرد تلخيص للوقائع المشاهدة؛ إذ إن عقل العالم يقفز - بعد مرحلة جمع الوقائع وتحليلها - لكي يقدم فرضا جزئيا يحتاج إلى قدر كبير من الخيال. صحيح أن هذا الفرض لا بد أن يكون له ما يبرره - ولو بطريق غير مباشر - في الوقائع المشاهدة. وصحيح أن العالم يسعى إلى تحقيق فرضه هذا عن طريق إجراء تجارب حاسمة تثبت صحته أو خطأه، ولا يقبل أن يظل فرضه هذا مجرد فكرة خيالية غير محققة. ولكن المهم في الأمر أن ملكة الخيال تتدخل في مرحلة حاسمة من مراحل الكشف العلمي، وتقوم بدور أساسي في الوصول إلى الحقيقة العلمية؛ ومن هنا كان إخفاق تلك الفلسفات التي تصور العلم بأنه مجرد تكديس للوقائع وتحقيق لها واستخلاص مباشر لما توحي به المقارنة بين هذه الوقائع؛ فالعالم الكبير - الذي يتوصل إلى النظريات العلمية الحاسمة - غالبا ما يكون من أصحاب الخيال الخصب، إلى جانب كونه ملاحظا دقيقا ومفكرا عميقا، وهو لا يفهم الواقع إلا عن طريق تجاوزه بالخيال.
ولو تأملنا تفاصيل الدور الذي يقوم به الخيال في كشف الحقيقة العلمية؛ لوجدنا أن طريقة عمل الخيال مشابهة لما يحدث في ميدان الفن؛ فالفكرة الجديدة لا تظهر إلا بعد إعداد وتهيئة طويلة في ذهن العالم أو الفنان، وهو يظل في حالة انشغال بموضوعه وتفكير متعمق فيه، وبعد ذلك قد تأتي الفكرة المنشودة على شكل إلهام مفاجئ على أن هذا الإلهام لا ينبثق إلا في أرض مهيأة له سلفا عن طريق الإعداد والتفكير والاهتمام المركز، تلك سمة لا ينكر أحد أنها من أخص سمات الإبداع الفني في الوقت ذاته.
ولنتناول عنصرا آخر من عناصر الاختلاف بين العلم والفن، وهو عنصر الضرورة والحرية، فلو تعمقنا بحث هذا الموضوع لوجدنا أننا نستطيع تعديل الحكم السابق الذي ذكرنا فيه أن الفنان يتحرك في عالم من الحرية المطلقة؛ إذ إن هذه الحرية المطلقة ترتبط، في الواقع، بتصور تقليدي للفنان، كان سائدا في العصر الرومانتيكي بوجه خاص. أما في عصرنا الحاضر فقد أحاط الالتزام بالفنان من كل جانب، فمن حيث الموضوعات التي يعالجها الفنان نجده قد أصبح «ملتزما»، بمعنى أنه ينشغل بقضايا معينة - قد تكون قضايا اجتماعية أو إنسانية - يأخذ على عاتقه في علمه الفني أن يدافع عن وجهة نظر معينة فيها، وعلى الرغم من أن هذا الالتزام لا يفرض على الفنان - في معظم الأحيان - بقوة خارجية قاهرة، بل يفرضه هو نفسه على ذاته بإرادته، فإن وجوده يدل على أن الفنان الذي يتحرك في عالم الحرية المطلقة قد أصبح في عصرنا الحالي أسطورة بالية، ومن ناحية أخرى فإن الفنان - في كثير من الأحيان - يفرض على نفسه نظاما صارما من التدريب ومن العمل الشاق من أجل إتقان «صنعته»؛ بحيث أصبح الفنان «التلقائي» الطليق الذي يغرد بحرية كالعصفور أسطورة بدوره. وهكذا اكتشفنا في عصرنا الحاضر أن الحرية المطلقة لا تصنع فنانا رفيع المستوى، وأن هناك أنواعا من «الضرورة» تتحكم في الفنان، قد لا تختلف كثيرا عن تلك التي تتحكم في العالم.
ومن ناحية أخرى فإن الضرورة التي تتحكم في العالم قد خفت حدتها إلى مدى غير قليل في العلم المعاصر؛ إذ إن الحتمية الدقيقة قد أرخت قبضتها عن العلوم، واستطاع العلماء أن يصلوا إلى مجموعة من أهم اكتشافاتهم عن طريق الخروج عن إطار البديهيات الحتمية التي كان العلم - فيما سبق - يعدها أمورا غير قابلة للمناقشة. ومن المؤكد أن حرية العالم في هذا التحدي لم تكن مطلقة، بل كانت مقيدة باعتبارات تنتمي إلى صميم بحثه العلمي. ولكن الشيء الذي لا يملك المرء إلا أن يعترف به هو أن التصور التقليدي «للضرورة» التي تتحكم في فكر العالم وسلوكه قد تغير كثيرا، وأصبح العلم في الآونة الأخيرة يسمح بقدر من الحرية يتيح للعالم أن يبني أنساقا فكرية جديدة تتسم بالتماسك في داخلها، وإن كانت ترتكز على أسس شاركت في وضعها - جزئيا على الأقل - حرية العالم وقدرته على الخروج عن الضرورة المحتومة التي كانت سائدة في نظرة العصور السابقة إلى العلم.
ومجمل القول: إن الشقة بين الحقيقة العلمية والجمال الفني يمكن أن تضيق كثيرا، حين نكتشف أن العلم ليس مقيدا إلى الحد الذي نتصوره عادة، وأن الفن ليس حرا إلى الحد الذي يبدو عليه لأول وهلة. •••
هناك إذن أرض مشتركة بين الحقيقة والجمال، على الرغم من كل ما يفرق بينهما من الاختلافات، ووجود هذه الأرض المشتركة معناه أننا نستطيع أن نتحدث عن «حقيقة فنية» لها سمات مميزة، تلتقي بالحقيقة العلمية في جوانب وتفترق عنها في جوانب أخرى.
ولنلاحظ - بادئ ذي بدء - أن الفن يمكنه في أحوال كثيرة أن يقدم إلينا حقائق مباشرة، فالعمل الفني يمكن أن يكون - في حالات معينة - شاهدا على عصره، ويمكن أن يستخدم «وثيقة» نعرف بواسطتها الكثير عن هذا العصر، ولنذكر في هذا الصدد أن قدرا كبيرا من معلوماتنا عن العصور البدائية مستمد من أعمال فنية تركها البدائيون على جدران كهوفهم، ومنها استخلص علماء الحضارات القديمة كنزا من المعلومات عن حياة الإنسان البدائي. ولعل أحدا لا يستطيع أن ينكر الدور الذي تقوم به أشعار «هوميروس» وغيرها من الآثار الفنية اليونانية في تعريفنا بالعالم اليوناني القديم. وفي استطاعتنا أن نجد أمثلة مشابهة في تاريخنا العربي؛ إذ إن الشعر الجاهلي - مثلا - مصدر عظيم القيمة من المصادر التي يعتمد عليها في معرفة تاريخ العرب القديم وعاداتهم ونظمهم الاجتماعية ... إلخ. وفي أحيان غير قليلة استطاع العلماء - عن طريق التحليل الدقيق لأعمال فنية - أن يملئوا فراغات كبيرة في معرفتهم بعصور ماضية لا تقدم إلينا أنواع الوثائق الأخرى معلومات كافية عنها.
وإذن فالفن قادر على أن يزودنا بحقائق مباشرة. ولكن هذا ليس على التحديد ما نقصده حين نتحدث عن «حقيقة فنية»، وإنما نقصد بهذا التعبير نوعا آخر من الحقيقة، فهناك كثير من الناس يقولون: إنهم تعلموا الكثير عن الحياة والعالم والإنسان من خلال أعمال فنية كشفت لهم «حقائق» لم يكونوا متنبهين إليها. وربما ذهب البعض إلى حد القول: إنهم تعلموا من الفن أكثر مما تعلموا من العلم. هذا هو نوع الحقيقة الفنية الذي نود - فيما تبقى من هذا المقال - أن نعرض لأهم خصائصه.
وأول ما يلاحظ على هذه الحقيقة أنها غير مباشرة، لا تقدم إلينا المعلومات على هيئة سرد ينقلها إلى أذهاننا تامة جاهزة؛ فهي حقيقة «يوعز بها» العمل الفني دون أن يقدمها صريحة على النحو الذي نجده في الكتب العلمية. بل إن التعبير الصريح عن هذه الحقيقة يضعف من تأثيرها ويقلل من قيمة العمل الفني الذي تتجسد فيه؛ ومن هنا كان الفن الذي يحاكي الواقع محاكاة مباشرة فنا ضئيل الشأن، فضلا عن أنه - بهذه المحاكاة المباشرة - لا يصل إلى الحقيقة الكامنة لهذا الواقع.
وتلك مفارقة قد يجدها المرء غريبة للوهلة الأولى؛ إذ إن الفن كلما أراد الاقتراب من الواقع بصورة مباشرة، أصبح عاجزا عن التعبير عن أهم ما في هذا الواقع؛ أي ازداد ابتعادا عنه. ولكن هذه المفارقة تختفي إذا وضعنا نصب أعيننا الوظيفة الحقيقة للفن؛ فليس من مهمة الفن أن يكون نسخة محاكية للواقع كما تصور أفلاطون. بل إن المحاكاة الكاملة مستحيلة في الفن؛ لأن الفن مهما حاول أن ينقل الواقع على ما هو عليه، يظل لديه قدر معين من الاستقلال؛ لأنه على الأقل ينتقي عناصر معينة من هذا الواقع ويستبعد عناصر أخرى، بدليل الاختلاف الدائم بين اللوحة المرسومة - مهما كانت واقعية - وبين الصورة الفوتوغرافية، أو بين الرواية أو المسرحية - مهما كانت واقعية - وبين الشريط الذي يسجل محادثات فعلية دارت بين الناس.
وهكذا تتجلى قدرة الفن على التعبير عن حقيقته الخاصة - أوضح ما تكون - من خلال «الإيعاز» غير المباشر، وتبدو المفارقة السابقة في صورة معكوسة حين نقول: إن الفن يزداد اقترابا من أعماق الواقع لما ابتعد عنه، وتلك في الحق هي الفلسفة التي ترتكز عليها كثير من الاتجاهات الفنية الحديثة، في التصوير مثلا؛ فالمصور الذي يقدم إليك وجه إنسان تحتل فيه العين مساحة كبيرة، ولا تقع في موضعها الطبيعي، ولا يحافظ على قواعد المنظور في وضع الوجه، يبتعد عن الواقع ابتعادا شديدا. ولكنه يريد بذلك أن يقول: إن هذه هي «رؤيته» لهذا الوجه، وإنه يصوره كما يحس به في أعماقه الباطنة، لا كما يراه كل الناس؛ ومن ثم فهو يعبر - بهذا الابتعاد عن الواقع - عن حقيقة أعمق بكثير من تلك التي يعبر عنها من يصور هذا الوجه بطريقة «موضوعية» لا تتضمن «رؤية» خاصة.
لقد كان العلم - منذ بدايته - يتضمن تمييزا أساسيا بين «مظاهر» الأشياء و«جوهرها» الباطن، فمن المستحيل أن يتوصل المرء إلى أية حقيقة ما لم يستطع التفرقة بين ما هو عرضي وما هو أساسي في الأشياء، وما لم يستبعد صفاتها المتغيرة، ويحتفظ منها بالصفات الثابتة. وفي وسعنا الآن أن ندرك وجود تشابه بين الحقيقة العلمية والحقيقة الفنية في هذا الصدد؛ فالعمل الفني بدوره يستبعد ما هو عرضي، ويستبقي ما هو جوهري. صحيح أن هناك اختلافا يتمثل في أن الحقيقة العلمية تتخذ طابعا عاما، مجردا، كالقانون الرياضي الذي يعبر عن العلاقات الأساسية بين الظواهر، على حين أن العمل الفني يتخذ طابعا فرديا عينيا ملموسا؛ لأنه ينصب دائما على «موضوع» بعينه. وليس على مجردات ذهنية خالصة؛ فالعمل الفني متجسد دائما في العالم المحسوس، بينما الحقيقة العلمية مقرها العقل. ومع ذلك فإن الفن - في تصويره للموضوع الفردي - لا يسعى إلى التعبير عن هذا الفرد لذاته، بل يقدم ما هو جوهري وأساسي فيه. وهكذا فإن اللوحة المصورة إذا عبرت عن الفرح، فإنها لا تعبر عن فرح «س» أو «ص» من بني البشر، وإنما تعبر عن «ماهية» الفرح أو جوهره الباطن كما يتصوره الفنان، وقل مثل هذا عن القطعة الموسيقية أو التمثال أو أي عمل فني جاد، فللفن إذن حقيقته الخاصة، وهذه الحقيقة تشترك مع الحقيقة العلمية في أنها تترك جانبا ما هو عرضي في الأشياء وتحتفظ بما هو أساسي، وإن كانت تختلف عنها في أن الأولى تعبر عن جوهر الأشياء من خلال صيغ عقلية مجردة، على حين أن الثانية تعبر عنه من خلال نماذج فردية محسوسة.
على أن الحقيقة الفنية لا تكتفي بالتعبير عن جوهر «موضوع» ما، بل هي تعبر أيضا عن جوهر «الذات»؛ فالفنان لا يتعمق بنا إلى لب الشيء الذي يتحدث عنه فحسب. بل إنه يقودنا إلى الأعماق الباطنة لذاته، من حيث هو إنسان، وهذه صفة تنفرد بها الحقيقة الفنية عن الحقيقة العلمية؛ إذ إن العالم يركز جهوده على موضوع بحثه وحده. أما ذاته - من حيث هو إنسان - فتتوارى أو تختفي تماما وراء بحثه الموضوعي، ومهما تدخلت العوامل الذاتية في كشفه العلمي، فإنه يحرص كل الحرص على إخفاء هذه العوامل حين يعرض أبحاثه؛ لأن ظهور أي عامل منها يهدد «موضوعيته» بالخطر، ويصبح نقطة ضعف خطيرة في أبحاثه. وربما تحدث العالم عن تأثير هذه العوامل الذاتية حديثا شخصيا، حين يكتب سيرته الذاتية. أما حين يخاطب جمعا من العلماء فإن ذاته تختفي اختفاء تاما، وينصب الحديث كله على موضوع بحثه.
أما الفنان فإنه لا يحاول أن يخفي ذاته، وإنما يحرص - وخاصة في العصر الحديث - على أنه يطبع نظرته الخاصة إلى الحياة وميوله وتفضيلاته، على عمله الفني، ولا نعد نحن هذه السمة نقصا فيه، بل نراها - بعكس ذلك - علامة من علامات النضج الفني؛ فالفنان الذي تظهر خصائصه الذاتية في عمله الفني هو في نظرنا فنان له «شخصيته» المميزة التي تنعكس على أعماله، أما الفنان الذي لا تكشف أعماله عن ذاته، والذي ينتج أعمالا لا نستطيع أن نربطها به هو بالذات - وكان يمكن أن ينتجها أي فنان آخر - فهو فنان باهت اللون عديم المذاق.
وهكذا تتخذ الحقيقة الفنية طابعا مزدوجا لا نجده في الحقيقة العلمية؛ فهي تعبر عن جوهر الموضوع الذي تعرضه، وتعبر أيضا عن جوهر ذات الفنان، على حين أن الحقيقة العلمية تلتزم جانب التعبير الموضوعي وحده؛ ومن هنا كان في الفن بعد لا نجده في العلم، وأعني به «الصدق الفني»، وهو غير الصدق الأخلاقي المعروف، وإن كان يشاركه بعض صفاته؛ فالصدق الفني هو أن يكون الفنان معبرا في عمله عن تجربة أصيلة، وألا يعمد إلى خداع النفس أو التملق أو التعبير عما لا يحس به. وصحيح أن هذا معيار يصعب التحقق منه؛ لأننا لا نستطيع أن ننفذ إلى أعماق الفنان لكي نعلم إن كان صادقا مع نفسه أم غير صادق. ولكن الأعمال الفنية الكبيرة هي تلك التي تعبر عن معان ومشاعر عميقة لا بد أن يكون الفنان قد عاشها حتى يستطيع أن يعرضها علينا بكل هذا العمق، ويثير فينا معاني وأحاسيس مناظرة.
هذا الارتباط الوثيق بين العمل الفني وبين «ذات» الفنان هو الذي يجعل الفن في جوهره «تجربة»، بالمعنى الشخصي لهذه الكلمة. وفي هذه الصفة تختلف الحقيقة الفنية عن الحقيقة العلمية، وتقترب من ذلك النمو الخاص من الحقيقة الذي يحدثنا عنه المتصوف، والذي لا يستطيع أن يعبر عن أعمق ما فيه بالكلام؛ لأنه «تجربة» تجل عن الكلام، وعلى حين أن ما يهمنا - حين نقرأ كشفا علميا - هو «الاستنتاجات» النهائية، أيا كانت الصيغة التي تعرض بها، فإننا في حالة التجربة الفنية نحرص على المذاق الخاص للعمل الفني، الذي لا يتوافر إلا في جو خاص وعن طريق عناصر معينة تتكامل سويا لإحداث التأثير المنشود. وبعبارة أخرى؛ فالحقيقة الفنية لا تقدم إلينا قدرا معينا من المعلومات فحسب كما يحدث في الحقيقة العلمية، وإنما تضع هذه المعلومات في إطار خاص وفي قالب متميز، يحدث فينا تأثيرا فريدا.
ولو غيرنا هذا الإطار أو القالب لفقدت الحقيقة الفنية القدر الأكبر من تأثيرها؛ فحين نحول جميع المعاني المتضمنة في قصيدة شعرية رفيعة إلى لغة النثر، يضيع الجانب الأكبر من تأثير القصيدة، وتفقد «الحقيقة» التي تنقلها إلينا طابعها المميز، وتلك هي المشكلة التي تثيرها «ترجمة الشعر» من لغة إلى أخرى، مما دفع الكثيرين «عن حق» إلى أن ينظروا إلى هذا النوع من الترجمة على أنه تشويه غير مشروع للعمل الشعري الذي لا تكتمل مقوماته إلا في إطار لغته الأصلية.
ولنقل، بتعبير موجز: إن الحقيقة العلمية تهتم بالمضمون قبل الشكل، على حين أن الشكل في الحقيقة الفنية هو الذي يعطي المضمون تأثيره وقيمته، ويضفي على التجربة الفنية طابعها المميز.
وحين نقول: إن الفن في صميمه «تجربة» فريدة، فإننا نعني بذلك أن الفن لا ينافس الكتب العلمية في تقديم معلومات تغذي عقول الناس؛ إذ إن الفن يخاطب - إلى جانب العقل - مشاعر الإنسان ووجدانه. ولكن هذه التجربة ليست عاطلة أو عقيمة، وليست خبرة ذاتية مقفلة على نفسها دون أن يكون لها أي صدى خارجي؛ فالفن تجربة غنية مثمرة، قد لا يقدم إلينا معلومات مباشرة، ولكنها تزودنا بخبرة عميقة بالحياة، فقد يقدم إلينا العمل الفني الواحد من الفهم لأنفسنا وللناس وللعالم ما لا تقدمه عشرات الكتب. ولكنه لا يقدم إلينا هذا الفهم بالتلقين المباشر، وإنما يوعز به في إطار شكل متكامل يتسم بالجمال. وهو لا يصل إلى هدفه هذا بالتدرج المعروف عن العلم، بل يقدم إلينا حقيقة تنفذ بنا مباشرة إلى أعماق الموضوع.
وبفضل هذه السمة الفريدة في الفن؛ رأى بعض المفكرين في الحقيقة الفنية بديلا عن الحقيقة العلمية، وانتقدوا هذه الأخيرة لأنها لا تقدم إلينا من الظواهر إلا سطحها الخارجي، ووجهها الذي يقبل التعبير عنه بالكم والمقدار، والذي يسمح بمقارنتها بغيرها من الظواهر المشابهة، ولكنه يعجز عن النفاذ بنا إلى جوهرها أو عمقها الباطن. وهكذا تحمس هؤلاء للتجربة الفنية بوصفها بديلا عن المعرفة العلمية، وقدموا إلينا مثلا أعلى للإنسان يحيا فيه حياة «جمالية» خالصة، لا تشوبها تجريدات العلم أو تشوهها تعميماته.
ولكن هذه الحماسة الزائدة لدى أصحاب النزعة الجمالية هؤلاء - وإن تكن تعبر عن تقديس الفن - لا مكان لها في عالم وجد فيه العلم ليبقى، وقدم إلينا من الإنجازات ما لا يمكن التراجع عنه، وشكل مختلف جوانب حياتنا - حتى الفن ذاته - وصبغها بصبغته الخاصة. وأقصى ما يمكننا أن نحتفظ به من موقف عباد الفن هؤلاء، هو أن الحقيقة الفنية ينبغي أن تكمل الحقيقة العلمية وتعوض بعضا من نقائصها في عصر التخصص العلمي المفرط الذي نعيش فيه. ولو عرف الإنسان كيف يمزج بين الحقيقتين في كل متآلف؛ لكان بذلك يحقق أهم الخطوات في طريق تكامل شخصيته، ويبعث الانسجام بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي، ويخفف من غلواء التجريد الذي يحكم قبضته على الحياة الحديثة من كل جانب، ويضيف بعدا إنسانيا عميقا إلى عالم يفقد طابعه الإنساني على نحو متزايد في كل يوم.
مراجع عامة
النقد الفني: دراسة جمالية فلسفية - تأليف جيروم ستولينتز - ترجمة د. فؤاد زكريا (مطبعة جامعة عين شمس عام 1974م) الفصل الثاني عشر.
Hosperes, J,: Maening & Truth in The Arts (North California U. p.) 1946.
& Kriegev: Problems of aesthetics, New York (Rinehart 1953).
Richards & Ogden: The Meaning of Meaning London, Routhedge 1936.
Richards, I. A.: Principles of Literery Criticism. New York (Haveont & Brace) 1950.
B. Heyl: Artistic Truth Reconsidered journal of Aesthetics & Arts Criticim, vol, VIII (1960).
Sidney Zink: “Poetry & Truth” Philosophical Review, LIV (1945).
Weitz, Morris: Philosophy of The Arts. Harward U. p. 1950.
Wellek, René: A History of Modern Cristicisme. Yale U. p. 1955 Vol. 1.
الخلق الفني بين العلم والتجربة الشخصية
لن نستطيع أن نفهم معنى تعبير «الخلق الفني» فهما دقيقا إلا إذا أجرينا مقارنة بين هذا النوع من الخلق وبين نوعين آخرين: أحدهما يفترض أنه أعلى منه مرتبة، والثاني أدنى منه، ومن خلال هذه المقارنة يمكن أن تتضح لنا مكانة الخلق الفني بين أنواع أخرى من النشاط يمكن أن تختلط به في الأذهان. (أ)
فلفظ الخلق مرتبط في الأذهان بالخلق الإلهي، حتى إن الكثيرين يتحرجون من استخدام هذا اللفظ في أي مجال سوى المجال الديني. ولكن الواقع أن هذا الحرج مبالغ فيه؛ إذ من المعترف به أن الإنسان ينتج أو يولد أشياء لم تكن موجودة من قبل؛ ومن ثم يمكن أن يعد فعله هذا «خلقا». ولكنا حين نقول: إن ما ينتجه الإنسان «لم يكن موجودا من قبل» ينبغي أن نتحفظ قليلا في استخدام هذا التعبير، فهل صحيح أن أي إنتاج إنساني لم يكن له وجود قبل أن يصنعه الإنسان؟ من الجائز أن هذا الإنتاج - بعد أن اكتمل - قد أصبحت له صورة لم يكن يعرفها الناس من قبل. ولكن الأمر المؤكد هو أن «مادة» هذا الإنتاج على الأقل كانت موجودة؛ ولذلك يستحيل القول بأن العمل قد خلق «من العدم »، وهنا يكمن الفارق بين تعبيري: «الخلق الإلهي» و«الخلق الفني»؛ فالمفروض أن الخلق الإلهي يتم من العدم، دون أن يمهد له شيء، فهو عملية مفاجئة، تحدث كاملة بلا مقدمات. أما الخلق الفني فمهما كانت درجة اكتماله، فإنه يظل مع ذلك مرتبطا بسوابق لا نهاية لها: منها التراث الفني السابق، والمجتمع الذي يظهر فيه هذا العمل، والتكوين الشخصي للفنان، وغير ذلك من الشروط الممهدة التي لا يمكن أن يكون للعمل بدونها معنى أو صدى، بل لا يمكن أن يظهر أصلا.
ومع ذلك فإن الشكل النهائي للعمل الفني بالذات يكون مختلفا عن الأصل المادي أو المعنوي الذي انبثق منه، إلى حد يقترب فيه هذا العمل من الخلق الإلهي اقترابا يدعو إلى العجب، وهذا ما عبر عنه الناس تعبيرا مباشرا - منذ أقدم العهود - حين نظروا إلى الفنان على أن فيه قبسا من الألوهية، وما عبر عنه بعض أنصار الفن المتحمسين في عصرنا الحديث بقولهم: إن الفن ينافس الخلق الإلهي أو يعيد تصوير العالم كما كان الفنان يريده أن يكون لا كما نتج أصلا بالخلق الإلهي، وأيا كانت التعبيرات التي تستخدم، فإن الأمر الذي يتفق عليه الكثيرون هو أن الإنسان يقترب من الألوهية إلى أقصى حد حين يبدع فنا. ومع ذلك فإن هذا التقارب لا ينبغي أن ينسينا حقيقتين أساسيتين، وهما أن الخلق الإلهي يوصف بأنه يحدث من العدم، على حين أن الخلق الفني يفترض مقدمات لا غناء عنها من أجل ظهور العمل الفني، وأن نتاج الخلق الإلهي هو الطبيعة، على حين أن نتاج الخلق الإنساني مستقل عن الطبيعة ومقابل لها؛ أعني عملا فنيا. (ب)
وهذه الحقيقة الأخيرة تقودنا إلى تفرقة ثانية بين الخلق الفني ونوع آخر من الخلق، هو ما نسميه عادة بالصنعة، وإذا كانت التفرقة السابقة قد حددت الصلة بين الفن وبين نوع آخر من الخلق يوصف بأنه أعلى منه مرتبة، فإن التفرقة الحالية تحدد علاقة الفن بما هو أدنى منه مكانة؛ أعني نتاج الصنعة الحرفية، فقد وصفنا الخلق الإنساني من قبل بأنه نتاج مستقل عن الطبيعة ومقابل لها. ولكن هذه في الواقع صفة يتسم بها كل جهد يبذله الإنسان لإعادة تشكيل الطبيعة وفقا لأغراضه أو لتصوراته الخاصة؛ فالكرسي الذي يصنعه النجار ليس قطعة من الطبيعة، وإنما هو تشكيل جديد لمادة تقدمها الطبيعة، من أجل تحقيق منفعة إنسانية معينة، فهل يعني ذلك أن الفن لا يزيد - بدوره - عن أن يكون نوعا من الصنعة؟
هناك - وفي واقع الأمر - اختلافات مؤكدة بين إنتاج الفنان وإنتاج الصانع؛ فالأول عمل فردي، والثاني عمل نمطي؛ ذلك لأن الصانع ينتج مجموعة متكررة من الأعمال، وإذا حدث أن أنتج عملا واحدا لا يتكرر، فإنا نمتدح مثل هذا العمل فنصفه بأنه «قطعة فنية»، ونعني بذلك أن نتاج الصنعة إذا كان فرديا فإن الحد الفاصل بينه وبين العمل الفني يكاد يختفي. وفضلا عن ذلك فإن للتعود الآلي دورا هاما في طريقة إنتاج الصانع، على حين أن الفنان ينتج بصورة تلقائية لا أثر فيها للعادات الآلية. وربما كان أهم هذه الفوارق جميعا هو الدور الكبير الذي يقوم به الخيال في عمل الفنان؛ فالعمل الفني - أيا كان شكله النهائي - هو في واقع الأمر خيال متجسد، على حين أن نتاج الصنعة واقعي مادي، ويترتب على ذلك أن العمل الفني لا يستهدف إلا إرضاء حاستنا الجمالية، بينما يستهدف عمل الصانع دائما تحقيق غرض علمي.
ولكن على الرغم من هذه الفوارق، فمن الواجب أن نتذكر أن الفن ليس منفصلا عن الصنعة انفصالا تاما، فهناك صلة تاريخية قوية بينهما؛ ذلك لأن الصانع هو السلف الأول للفنان، بل إن الحد الفاصل بين الفنان والصانع لم يكن واضحا في العصور القديمة، وما زالت كثير من اللغات تحمل آثار هذا التوحيد القديم بين الفنان والصانع، فلفظ
techné
اليوناني القديم يدل على الفن والصنعة معا، ومن هذا اللفظ اشتقت كلمة «التكنولوجيا» الحديثة، وما زالت كلمة
art
تحمل معنى الصنعة إلى جانب معنى الفن، كما في التعبير
arts and crafts . وهذا التعبير له مقابل عربي يدل على هذه الصلة الوثيقة نفسها، هو تعبير «الفنون والصنائع»، وما زلنا في العربية نستخدم لفظ «صانع فني» بمعنى «صانع ماهر»، إلى جانب هذا التقارب التاريخي بين الفن والصنعة، هناك تقارب واقعي ناشئ عن أن كثيرا من الفنانين - وخاصة في الفنون التي تحتاج إلى أداء كالموسيقى والرقص والتمثيل - يخضعون حياتهم لنظام دقيق يتدربون فيه على الأداء الفني بنفس المشقة التي يتدرب بها الصانع على إتقان عمله، ويكتسبون من مرانهم عادات جسمية حركية تقترب من تلك التي يكتسبها الصانع الذي يتقن حرفته.
وهكذا تكشف لنا المقارنة التي عقدناها بين الخلق الفني والخلق الإلهي من جهة، وبينه وبين الصنعة البشرية من جهة أخرى، عن حقيقة هامة بشأن طبيعة الفن، هي أنه يحتل مرتبة وسطى ما بين الخلق الشامل الذي يوصف بأنه غير مسبوق بشيء، وبين التشكيل والتحوير النمطي لمادة الطبيعة من أجل تحقيق أغراض عملية معينة. (1) الخلق الفني والعلم
وكيف إذن يمكن معالجة هذا النوع الفريد من الخلق، الخلق الذي يبلغ به الإنسان أقصى درجات الإيجابية والإبداع؟ إن الوسيلة الفعالة التي يلجأ إليها الإنسان في فهم الظاهر هي العلم. ومن الطبيعي أن يسعى الإنسان إلى تطبيق هذه الوسيلة الفعالة على جميع المجالات التي يستعصى عليه فهمها وضمنها الفن. غير أن عملية الخلق ظلت - حتى يومنا هذا - محاطة بستار كثيف من الغموض، على الرغم من كل المحاولات التي بذلت من أجل إزاحة هذه الغموض ومعرفة كنه العملية الخلاقة. ومن المعروف أن عملية الخلق لا تتمثل في الفن وحده. بل إن الكشف العلمي بدوره - وخاصة في صوره العليا - يمثل نوعا من الخلق لا يقل سموا عن الخلق الفني. وربما لم يكن يقل عنه حاجة إلى استعمال الخيال. وفي وسعنا أن نستمر في عملية التعميم هذه؛ لنصل في النهاية إلى حقيقة لا بد من الاعتراف بها؛ وهي أن القدرة الخلاقة هي أول وأهم ما يميز به الإنسان عن سائر الكائنات؛ فالخلق - في مجال الفن وفي غيره من المجالات - هو الذي حقق للإنسان كل إنجازاته التي ضمنت له التفوق على بقية الأحياء من جهة، وأكدت تفوقه المستمر على نفسه من جهة أخرى. إن الخلق بعبارة أخرى: هو ماهية الإنسان، فإذا كان التفسير العلمي قد ظل حتى الآن عاجزا عن الإحاطة بعملية الخلق، فمعنى ذلك أن العلم لم يفهم الإنسان فهما كافيا، ولنقل بتعبير آخر: إن أزمة العلوم الإنسانية، أو أزمة الفهم العلمي للإنسان، تتمثل - أوضح ما تكون - في استمرار عجز العلم عن تقديم تفسير لعملية الخلق.
على أن هذا لا يعني على الإطلاق أننا ندين العلم بالقصور نظرا إلى عجزه في هذا المجال؛ فالعلم حركة مستمرة. وليس لأحد أن يلومه على ما لم يصل إليه بعد. والواقع أن هناك - في حالة الإبداع على وجه التخصيص - أسبابا خاصة تعلل الصعوبة التي يجدها العلم في فهم عملية الإبداع، وعلينا أن نتدبر هذه الأسباب جيدا حتى لا نسارع إلى توجيه لوم لا مبرر له إلى العلم.
ذلك لأن الخلق هو في أساسه إنتاج لشيء لم يكن له وجود، وانبثاق من هوة العدم، فهو يفترض انفصالا بين الظواهر، وانقطاعا في سلسلة العلل والمعلولات، والخلق الذي يمكن فهمه فهما كاملا من خلال مقدماته والسوابق الممهدة له لا يستحق أن يسمى خلقا بالمعنى الصحيح. وفي مقابل ذلك يفترض العلم اتصالا لا ينقطع بين الظواهر، وتسلسلا مستمرا للأسباب والنتائج؛ فمجال الانبثاق المفاجئ غريب عن العلم، أو هو على الأقل يقتضي نوعا من المعرفة يختلف عن ذلك الذي عرفناه في المعرفة العلمية بمعناها المألوف.
وفضلا عن ذلك فإن الخلق ينطوي على مراحل لا شعورية لها أهميتها البالغة. ولقد كانت هذه المراحل اللاشعورية هي التي جعلت الفن محاطا بهالة أسطورية منذ أقدم العهود، وجعلت الفنان يوصف بأنه إنسان به مس من الجنون، أو تسيطر عليه قوى شيطانية خفية. وكلنا نعلم أن «العبقرية» في اللغة العربية يرتبط باسم «عبقر»، وهو موطن الجن، وإن هذا اللفظ نفسه في اللغة الفرنسية (
Génie ) يدل أيضا على معنى الجن. ولكن إذا كان العصر الحديث يطرح جانبا كل هذه الارتباطات الخرافية ويحتفظ باسم «اللاشعور» لكي يدل به على مجموعة الظواهر السابقة؛ فإن هذه التسمية ذاتها لا تقل استبعادا للتفسير العلمي عن كل إشارة إلى الشياطين أو الجن؛ ذلك لأن العلم يهتم أساسا بعالم الوعي، والنشاط العلمي يفترض الوعي مقدما، بوصفه شرطا أساسيا لا غناء عنه؛ ومن هنا كان ثمة انفصال حاد بين العنصر اللاشعوري في الفن، وبين اعتماد العلم في تفسيراته على الشعور، وعجزه عن التحرك في أي مجال لا يكون فيه للوعي سيطرة تامة.
ومن ناحية أخرى، فإن ارتباط الخلق الفني بالخيال لا بد أن يؤدي بالعلم إلى أن يلتزم الحذر التام في التعامل معه؛ ذلك لأن العلم لا يستطيع أن يجد لديه وسيلة أو منهجا يتمكن به من حفز الخيال وإثارته، بل يبدو أن الخيال يتبع مسار التلقائي الخاص الذي لا شأن لقوانين العلم به؛ على أن عجز العلم عن فهم الخيال يدل على أن العلم لا يستطيع أن يفهم الأصول التي ظهر هو ذاته بها؛ ذلك لأن قدرا كبيرا من الأفكار العلمية الرئيسية قد تم إبداعه عن طريق الخيال، وعلى الرغم من ذلك فإن العلم حين يتحدث عن هذا النوع من الخيال الذي أدى إلى ظهور نظرياته الهامة، فإنه يفعل ذلك على استحياء، وكأنه يخوض أرضا محرمة؛ فالعلم يركز اهتمامه على النتائج النهائية لعملية الكشف العلمي. أما كيفية ظهور هذه النتائج، ونوع العمليات التي كانت من ورائها، والتي أدت إليها، فهذا ما يعجز العلم عن الحديث عنه، ما لا يبدي به اهتماما كبيرا.
ومما يزيد من صعوبة المعالجة العلمية للخلق الفني، أن هذا الخلق لا يتمثل على نمط واحد، فهناك فنانون ينبثق لديهم العمل الفني بسهولة ويسر، ولا يبدو أنهم قد بذلوا فيه جهدا كبيرا، وذلك على مستوى الوعي على الأقل، وهناك فنانون آخرون لا يتم الخلق الفني لديهم إلا بعد جهد ومعاناة شديد، وبعد محاولات متعددة يعيدون فيها إنتاج عملهم ويدخلون عليه تعديلات وتحسينات لا حصر لها، إلى أن يصل إلى تلك المرحلة التي يرضون فيها عنه، ويزداد الأمر تعقيدا حين نعلم أن هذا الاختلاف في أنماط الخلق الفني لا ينعكس على الأعمال ذاتها، بمعنى أن العمل الذي استغرق الفنان في إعداده فترة طويلة، والذي مر بتغييرات وتعديلات متعددة، لا ينم - بعد أن يكتمل - عن هذا الجهد على الإطلاق، بل يبدو - في حالة كثير من الأعمال الكبرى - كما لو كان الفنان قد أبدعه بيسر وطلاقة ودون أي قدر من المعاناة. ومن ناحية أخرى فإن يسر الخلق الفني أو عسره لا يرتبط بقيمة العمل الناتج عنه، فليس العمل الذي ينتج في يسر أفضل بالضرورة من ذلك الذي ينتج بجهد ومعاناة. بل إن بعضا من أعظم الأعمال الفنية كان الجهد الخلاق فيه شديد البطء والتردد. على حين أن الانطلاق والتلقائية قد يؤديان أحيانا إلى السطحية في الإنتاج. ومجمل القول: إن العلم حين يتصدى لظاهرة الخلق الفني لا يجد أمامه نمطا واحدا يخضع لنوع واحد من الدراسة والتحليل، بل يجد أنماطا متباينة لا تخضع لقاعدة واحدة.
ولقد كانت المحاولات العلمية التي بذلت من أجل الكشف عن القدرات المرتبطة بالإبداع الفني، تتجه إلى الربط بين الإبداع وبين صفات نفسية معينة، أهمها القدرة على الجمع بين عناصر منفعلة في إطار موحد؛ فالإبداع - تبعا لهذا الرأي - هو إيجاد وحدة جديدة تعمل على تبسيط العلاقات القائمة بين الأشياء، وأساس الإبداع اتجاه إلى الوحدة والتكامل والتوافق، بحيث إن من المستحيل أن ينتج الإبداع أجزاء أو فتات غير متصلة أو مترابطة. وهذا الرأي يصدق بالفعل على أنواع متعددة من الإبداع، وخاصة في ميدان الكشف العلمي. ولكنه يبدو غير كاف في حالة الفن على وجه التخصيص؛ ذلك لأن الخلق الفني يتضمن إضافة جديدة إلى التجربة، ولا يمكن إرجاعه إلى بعث الوحدة في العناصر المشتتة للتجربة، ومثل هذا يقال عن مختلف المحاولات التي تربط بين الإبداع الفني وبين القدرة على «حل المشكلات»؛ لأن هناك فارقا في النوع - لا في الدرجة فحسب - بين حل المشكلات وإعادة ترتيب العناصر الموجودة قبلا بطريقة فعالة، وبين ذلك الخلق الجديد الذي هو أهم ما يميز الإبداع في الفن.
وإذا كنا قد تحدثنا حتى الآن عن عدم كفاية المحاولات التي بذلها العلم من أجل فهم ظاهرة الخلق الفني، فمن الواجب أن نذكر أن الفن - من جانبه - قد أسهم بنصيب غير قليل في إبعاد العلم عن مجاله الخاص؛ ذلك لأن الفنان ينفر بطبيعته من التحليلات العلمية، ويتصور أن العلم إذا اقتحم مجاله الخاص فسوف يشوهه ويحيله إلى موضوع للتشريح والتحليل، والفنان بطبيعته فردي النزعة، يؤمن بأصالة إنتاجه وبأن كل ما يصدر عنه غير قابل للتكرار، بينما العلم يبحث عن قوانين وأنماط عامة لا شأن لها بما هو فردي، ويستبدل بالحرارة والحساسية المرهفة نظرة موضوعية باردة تستبعد كل اتجاه إلى التفضيل وكل نزوع إلى تأكيد الفوارق والاختلافات الفردية.
وهكذا نجد بين الفن والعلم نوعا من عدم الثقة المتبادلة، كانت نتيجته أن كلا منهما سار في تطور مستقل، دون أن يحدث بينهما تفاعل حقيقي، فمنذ أوائل العصر الحديث ظل العلم يحرز نصرا تلو الآخر، واستطاع أن يفتح أمام الإنسان آفاقا من الفهم ومن السيطرة على العالم لم يكن يحلم بها. وفي الوقت ذاته أخذ الفن يؤكد ذاته بوصفه نشاطا إنسانيا رفيعا، وتوالت مذاهبه واتجاهاته وتعددت وازدادت عمقا وتعقدا. ولكن مسار كل منهما ظل مستقلا عن الآخر، واتجها معا في خطين متوازيين لا يلتقيان إلا في أندر الأحوال؛ إذ إن العلم ظل ينظر إلى الإبداع الفني على أنه عملية خارجية عن مجاله، والفن ظل يترفع على التحليل العلمي ويأبى الخضوع له.
ويمكن القول: إن هذا النمو المتوازي للعلم والفن من أهم سمات العصر الحديث، وهو سمة تركت تأثيرها في كيان الإنسان ذاته؛ ذلك لأن عصرنا هذا إنما هو عصر التقدم الهائل للعلم والفن، ولكن بغير تفاعل أو التقاء بينهما، فهناك ازدواج حاد في الحضارة الحديثة بين شق علمي وشق فني، ترتب عليه بالضرورة ازدواج مناظر داخل الإنسان ذاته، فلم يقتصر الأمر على تباعد العالم والفنان كل عن الآخر. بل إن الإنسان الواحد أصبح ينظر إلى نفسه على أنه يشتمل على جانبين لا سبيل إلى التوفيق بينهما: جانب عقلي يسيطر عليه العلم ، وجانب خيالي إبداعي يسيطر عليه الفن، هذه الازدواجية تحول دون تحقيق أي انسجام بين جوانب حياة الإنسان المختلفة، وتجعل من المستحيل ضم حياة الإنسان كلها في وحدة متكاملة تجمع بين دقة المنهج العلمي وحساسية الخيال الإبداعي، ولو تأملنا العصر الحديث في نظرة شاملة؛ لجاز لنا أن نقول: إن قدرا كبيرا من مشاكله إنما يرجع إلى هذه الثنائية الحادة التي فرضها الإنسان على نفسه بين عقله العلمي وحساسيته الإبداعية؛ إذ إن العلم قد فرض عليه أن يكون غير مكترث بحساسية الروح، والفن قد فرض عليه أن يكون غير مكترث بموضوعية العقل، واستحل كل منهما لنفسه - في مجاله الخاص - ما يحرمه الآخر وينهى عنه، كل ذلك مع أن الهدف واحد وأرض الصراع واحدة وهي النفس البشرية.
والنتيجة الواضحة التي تفرض نفسها حتما بعد هذا التحليل هي أن محاولة فهم الخلق الفني من خلال العلم ما زالت حتى الآن تتعثر، وما زال من الصعب استيعاب هذا الخلق بواسطة المفاهيم العلمية وحدها، وإن لم يكن من المستحيل أن نتصور مجيء يوم يتحقق فيه اندماج أكبر بين العلم والفن. ولكن إلى أن يأتي هذا اليوم، فإن الدلائل كلها تشير إلى أن الطريق الذي يوصلنا إلى قلب الفن لا بد أن يكون طريقا آخر. (2) الخلق الفني والتجربة
هذا الطريق الآخر هو النظر إلى الفن على أنه تجربة. والواقع أن الذهن البشري قد اعتاد - في أمور كثيرة - أن يضع هذا التقابل بين ما هو موضوع للعلم وما هو موضوع للتجربة؛ فكل ما يعجز الإنسان عن تفسيره علميا، يتناوله على أنه موضوع للتجربة، وكل ما يعتقد الإنسان أنه أرفع من أن يفهم من خلال العلم، يدرجه ضمن الموضوعات التي تجرب مباشرة. وكلما كانت تجربة الإنسان أشد حرارة وأصالة، اتجه إلى أن ينأى بها عن مقولات العلم وقوانينه، وإلى أن يجعل منها شيئا فريدا يجل عن الوصف. ولقد قيل الكثير من قبل عن تجربة المتصوف، وكيف أنها تسمو على الفهم العقلي والمنطق، ولا يتذوق إلا من يمر بها، وقيل الكثير أيضا عن تجربة الحب التي لا تخضع للتحليل ولا تنطبق عليها قاعدة أو قانون، وإنما هي معاناة أصيلة لا يعرفها إلا من يكابدها، ومثل هذا يقال أيضا عن تجربة الفنان؛ فهي تجربة يقتلها التحليل والتشريح العلمي، وهي علاقة من نوع فريد بين الفنان وموضوعه، لا سبيل إلى وصفها. بل إن الوسيلة الوحيدة لمعرفتها هي الممارسة.
ولكن، ما الذي يميز التجربة والمعاناة - بالمعنى الذي حددناه - عن المعرفة العلمية؟ إن الفارق الحاسم هو أن المعرفة العلمية تفترض نوعا من التوسط، على حين أن التجربة مباشرة، فحين يمر المرء بتجربة عاطفية - مثلا - يشعر شعورا مباشرا بالانفعالات المرتبطة بهذه التجربة، ولا يحتاج إلى أي وسيط لكي يفهم ما يحس به. بل إنه قد يشوه تجربته ويسيء إليها لو بدأ في استخدام اللغة في التعبير عنها، وحاول أن يصف ما يمر به لشخص ثالث؛ فالعلاقة هنا مباشرة بين الطرفين. أما في حالة المعرفة العلمية فلا بد من وسيط بين العارف وموضع معرفته، وهذا الوسيط قد يكون هو اللغة العادية أو اللغة الرياضية أو المفاهيم العلمية المصطلح عليها أيا كانت، ويترتب على وجود هذا الوسيط أن المعرفة العلمية قابلة بطبيعتها للتداول. بل إن قيمتها إنما تكمن في قدرتها على إقناع أكبر عدد من الأذهان ومخاطبيها بلغة مشتركة يفهمها ويقتنع بها الجميع. أما التجربة الفنية فهي وإذا أصبحت تجربة متداولة فإن وقعها يغدو مختلفا في كل حالة عن الأخرى.
على أن هذا الاختلاف الأساسي لا يعني بالضرورة أن العلم يدير ظهره للتجربة الفنية ويستبعدها من قاموسه؛ ففي حالات معينة يقدم العلم تفسيرات لا يمكن أن تستقيم إلا إذا كانت هذه التجربة - بكل ما تتصف به من فردانية وأصالة - مفترضة ضمنا، فعلم النفس مثلا يعترف بدور اللاشعور في الخلق الفني. وحين يحاول أن يقترب من مجال اللاشعور - مستخدما لغة شبه علمية - يذكر أن ما يتم في اللاشعور هو نوع من «اختمار» الفكرة، يمهد الطريق لتدفق مفاجئ للإبداع. ولكن الشرط الأساسي لحدوث هذا «الاختمار». وهذا النضج البطيء غير الواعي، هو أن يكون الفنان مهتما بموضوعه ومنشغلا به، وإن طغى عليه الرغبة في التعبير عن نفسه من خلال وسيطه الفني الخاص، فلا يمكن أن يؤدي اللاشعور دوره في الإعداد لخلق فني مفاجئ إلا بالنسبة إلى شخص يستغرق الموضوع الفني قدرا كبيرا من تفكيره الواعي، ويشغل وقته وجهده به. هذا ما يقول علم النفس حين يحاول تجاوز نطاق الغموض الذي ظل طويلا يشوب كل ما يقال من عملية الإبداع الفني. ولكن هذا الاهتمام الدائم، والانشغال الذي لا ينقطع بموضوع معين، هو ذاته الذي يسميه الفنان تجربة ومعاناة مباشرة، فعلم النفس - في بعض اتجاهاته على الأقل - يفترض وجود تجربة أصيلة لدى الفنان، ويجعل من هذه التجربة بكل صفاتها المألوفة جزءا لا يتجزأ من عناصر التفسير الذي يقدمه للإبداع الفني، ومن شأن هذه الحقيقة أن تؤدي إلى تضييق الهوة بين المعالجة العلمية الخالصة للخلق الفني، وبين معاملته على أنه تجربة فريدة تأبى الخضوع لمنطق التحليل العلمي.
ولكن ما هي سمات هذه التجربة التي يتعين علينا أن نفهم الإبداع الفني من خلالها، والتي يبدو أنها ستظل هي المفهوم الرئيسي المستخدم في هذا المجال طوال فترة غير قصيرة من الزمان؟
إن المحور الذي يدور حوله أي فهم سليم للتجربة الجمالية هو مفهوم الانتباه؛ فالتجربة الجمالية هي - قبل كل شيء - انتباه مستغرق في موضوع معين، ننصرف فيه إلى إدراك القيمة الكامنة في هذا الموضوع، ونتلقاها كاملة في حضورها المباشر. هذا التحديد لطبيعة التجربة الجمالية من خلال فكرة الانتباه يؤدي إلى استبعاد مجموعة من المفاهيم التي ظلت طويلا ترتبط بهذه التجربة في أذهان الكثيرين، ومن خلال عملية الاستبعاد هذه يمكننا أن نفهم على نحو أفضل ماهية التجربة الجمالية وعلاقتها بالخلق الفني.
وأول المفاهيم التي تؤدي الطريقة السابقة في تحديد التجربة الجمالية إلى استبعادها - أو على الأقل إزاحتها عن مكانتها المركزية - هو مفهوم الانفعال؛ ذلك لأن الكثيرين يتصورون أن الوسيلة الرئيسية لتحديد طبيعة التجربة الجمالية هي تفسيرها من خلال ما تثيره من الانفعال، ولكن الشواهد التجريبية ذاتها تثبت أن الموضوع الفني الواحد يمكن أن يثير انفعالات متباينة في أشخاص مختلفين. وربما في الشخص الواحد خلال حالاته المختلفة، وهذه الشواهد ذاتها تكشف عن حالات لأشخاص لا يشك أحد في مكانتهم الفنية، ولا يكون للانفعال تأثير واضح في تجاربهم الجمالية، فهناك موسيقيون - قد لا يكونون كثيرين ولكنهم موجودون - يؤلفون بلا انفعال، وهناك شعراء يكتبون بلا انفعال، دون أن يكون غياب عنصر الانفعال مؤديا بالضرورة إلى الإقلال من قيمة ما ينتجون. وفي الطرف الآخر يوجد أولئك الذين لا يبحثون في العمل الفني إلا عن إثارة انفعالاتهم، وهؤلاء هم الذين لا يرون في الصفات الموضوعية للعمل الفني إلا وسيلة رمزية لبعث مشاعر معينة في النفس، مما يؤدي بهم إلى عدم الاهتمام بهذه الصفات الموضوعية، وإلى تركيز اهتمامهم على أنفسهم، أمثال هؤلاء المتذوقين يرتدون دائما إلى أنفسهم، وينظرون إلى مرآتهم الداخلية في الوقت الذي يبدون فيه وكأنهم يتأملون العمل الفني الخارجي، وما العمل الفني في نظرهم إلا ذريعة أو مناسبة لإثارة انفعالاتهم النفسية. وهذا النمط لا يمكن أن يقال عنه: إنه قادر على تذوق الفن في ذاته تذوقا سليما؛ ومن ثم فهو أشد عجزا في ميدان الإبداع؛ على أن هذا لا يعني على الإطلاق أن التجربة الجمالية لا صلة لها بالانفعال؛ فالانفعال مرتبط بهذه التجربة في معظم الأحيان. ولكنه يكون في هذه الحالة نتيجة للتجربة. وليس هو المحور الأساسي الذي تدور حوله.
وهناك مفهوم ثان ينبغي استبعاده من مجال التجربة الجمالية، هو مفهوم الإدراك السلبي، فالذهن أثناء التجربة الجمالية لا يكون متلقيا سلبيا للموضع، يستقبله على ما هو عليه دون أي تدخل من جانبه. بل إن الذهن يشارك إلى حد غير قليل في تحديد طريقة إدراكه للقيم الموجودة موضوعيا في العمل الفني، ولا يمكن أن توصف حالة التلقي السلبي بأنها هي الحالة المثلى للتذوق في الفنون. بل إن الشخص الخبير يعرف أن الفن لغة خاصة تحتاج إلى مران وجهد وفهم، وتقتضي نوعا إيجابيا من الانتباه. أما الإدراك السلبي فيندر أن يوصل إلى شيء.
وربما تصور البعض أن تأكيد سمة المشاركة الإيجابية من جانب متلقي الفن في فهم صفات الموضوع الفني، يعني أن هذا المتلقي يضيف من عنده عناصر تزيد من قيمة الموضوع. ولكن الواقع أن القيم التي ينبغي أن نشارك إيجابيا في إدراكها هي - كما قلنا من قبل - القيم «الكامنة» في الموضوع نفسه، ومعنى ذلك أنه ليس مطلوبا ولا مرغوبا من متذوق العمل الفني أن يخرج عن إطار هذا العمل إلى حد تشتيت انتباهه في أمور خارجة عنه، يضيفها من معلوماته الخاصة أو من ذكرياته السابقة، معتقدا أنه يزيد بذلك من قيمة هذا العمل؛ فالعمل نفسه ينبغي أن يظل محور التجربة الجمالية وكل ما يخرج عن نطاق العلم لن تكون له قيمة إلا بقدر ما يرتد آخر الأمر إلى العمل نفسه ويلقي ضوءا عليه.
وهنا يتضح الفارق الأساسي بين نوع الانتباه الذي تتطلبه التجربة الجمالية، ونوع الانتباه الذي نحتاج إليه في حياتنا اليومية، فهذا النوع الأخير من الانتباه غالبا ما يكون غير مكتمل، نكتفي فيه بإدراك وجه واحد من أوجه الموضوعات التي نتعامل معها؛ فحين أقول: إنني رأيت صديقا يمر أمامي، قد لا يكون ما رأيته بالفعل مجرد لون مميز لملابسه، أو طريقته الخاصة في المشي، وهذه العناصر البسيطة وحدها تكفي لتحقيق هدف هذا النوع من الإدراك . أما في إدراك العمل الفني فنحن لا نكتفي بهذا الاختزال، وإنما نستغرق في الموضوع استغراقا تاما، ولا نتخذه مجرد علامة لتحقيق هدف آخر.
وهذا يعني أن التجربة الفنية متجردة عن المنفعة، وأنها تأمل مقصود لذاته، لا من أجل أي غرض عملي. صحيح أننا نسمع عن أطماع أو منافسات تدب بين الفنانين، ونعرف أن الفن يستغل كثيرا لأغراض تجارية. غير أن هذه كلها ظواهر تقع على هامش الفن ولا تنتمي إلى صميمه، وإذا أصبحت لها السيطرة في حالة فنان معين، أصبح هذا الفنان في نظرنا مزيفا مفتقرا إلى الأصالة.
ومع هذا كله، فلا بد من الاعتراف بأن الوصول إلى حالة من التجرد التام عن المنفعة أو الهدف العملي، ونسيان الذات من أجل الاستغراق في الموضوع، والامتناع عن اتخاذ الموضوع الفني وسيلة للعبور إلى موضوعات أخرى تتداعى معه في أذهاننا، هو في حقيقة الأمر مثل أعلى يصعب تحقيقه، فهو يقتضي اهتماما وجهدا هائلا، وتدريبا طويلا شاقا، ونادرا ما يكون في وسعنا الوصول إليه؛ إذ إننا نجد من الأيسر دائما أن نعود إلى أنفسنا ونتأمل الموضوع الفني من خلال انعكاساته على حالاتنا النفسية، أو أن نهرب من التركيز على العمل نفسه إلى موضوعات أخرى سبق أن دخلت نطاق تجربتنا وأصبحت مألوفة لدينا ومريحة لنا. وفضلا عن ذلك فإن هذا التركيز الشديد يبدو في نظر الكثيرين متعارضا مع هدف التجربة الجمالية، وهو في نظر هؤلاء هدف يرتبط بالترويج عن النفس وتخفيف توتراتها، فكيف يراد مني أن أركز انتباهي وأضيف مزيدا من الجهد إلى ما أقوم به فعلا في حياتي اليومية، مع أنني أريد من الفن أن يريحني، وأن يزيل ما أعانيه من توتر؟ تلك هي الاعتراضات التي تكمن من وراء المقاومة التي يلقاها كل اتجاه فني جديد لا يدخل بسهولة في نطاق تجاربنا المريحة المألوفة، وأبسط رد عليها هو أنها تفترض أن الفن وسيلة لغاية أخرى، هي الراحة من عناء الحياة، مع أن الموقف الذي ندافع عنه يعد الفن غاية في ذاتها، وتجربة أصيلة لا تستخدم لخدمة أي غرض آخر.
هذه النظرة إلى التجربة الفنية على أنها غاية في ذاتها، يترتب عليها مباشرة القول باستقلال التجربة الجمالية عن سائر التجارب التي نمر بها في حياتنا المعتادة. غير أن استقلال هذه التجربة، وكونها فريدة في نوعها، لا يعني على الإطلاق أنها منقطعة الصلة بالحياة. صحيح أنها توصف أحيانا بأنها دخول إلى عالم جديد لا صلة له بعالم الحياة اليومية، وبأنها تخلق عالمها الخيالي الخاص الذي يتسم بأبعاده ومقولاته الفريدة، والذي لا يكاد يتصل بعالمنا هذا على الإطلاق. غير أن من الواجب ألا نبالغ في الفصل بين التجربة الفنية وبين الحياة المعتادة؛ إذ إن التجربة الفنية ليست آخر الأمر إلا تكثيفا وإثراء للتجارب الإنسانية بوجه عام؛ فالفن هو خلاصة الحياة وقد تركزت وتبلورت في لوحة أو قصيدة أو نغم، وما يبدو في نظر البعض فارقا كبيرا بين التجربة الفنية وتجربة الحياة المعتادة إنما يرجع - في واقع الأمر - إلى ما تتسم به الأولى من تركيز شديد، ومن قدرة على تلخيص الحياة واختزال عناصر كثيرة منها في عمل عظيم واحد.
ونتيجة لوجود رأيين متعارضين يرى أحدهما الفن منفصلا عن الحياة ويراه الآخر مرتبطا بها أوثق الارتباط، أصبح ينظر إلى الفن تارة على أنه هروب من الحياة وتارة أخرى على أنه أعظم مظاهر الحيوية والإقبال على الحياة في الإنسان، وأغلب الظن أن السبب الذي عد من أجله الفن هروبا من الحياة، هو أنه يكسب الفنان حرية وانطلاقا لا يجدهما في حياته الواقعية بما تخضع له من قوانين صارمة؛ فالفنان يضع لنفسه قوانينه الخاصة، ثم يخرج عنها كما يشاء، وهو يشكل عالما لا يخضع إلا لإرادته. وربما استخدم حريته هذه على سبيل التعويض عن القهر الذي يعانيه في عالم الواقع؛ ومن هنا لم يكن من الخطأ القول: إن تحرر الفنان وانطلاقه يتناسب تناسبا عكسيا مع تحرر الجو الذي يعيش فيه الفنان؛ فالقهر الاجتماعي يدفع الفنان إلى مزيد من التحرر والخروج عن القواعد، وعلى الرغم من أن هذه ليست قاعدة عامة ، فإنها تصلح لتعليل ذلك الخروج الزائد عن المألوف، والتحرر الذي يتخذ غاية لذاته، الذي يتسم به فن القرن العشرين، ذلك القرن الذي أصبحت فيه الضغوط الاجتماعية تتحكم في الإنسان بقوة لم يعرف لها من قبل نظير. ومع ذلك فإن هذا الهروب من القواعد هو ذاته تعبير عن موقف معين من الحياة، هو موقف الرفض؛ ومن ثم فهو يعد بهذا المعنى تلخيصا وتركيزا لما ينبغي عمله إزاء نوع الحياة الذي يعيشه الفنان. وهذا يعود بنا مرة أخرى إلى الحقيقة التي نحرص على تأكيدها في ختام هذا البحث؛ وهي أن فردانية التجربة الفنية لا تعني استقلالها التام عن الحياة وانفصالها عن المجرى العام للتجربة الإنسانية.
Page inconnue