ولذلك وصى أرسطوطاليس للأسكندر بهذه الوصية، فقال: خذ نفسك بإثبات السنة، فإن فيها كمال البقاء! وأيضا فليقل لمن فاتته هذه الطرق، وعدم هذه السعادات: إن مما يرجى له الشفاء من عماه، والتخلص من حيرته، قراءته فى كتب العقلاء من المتقدمين الذين قد أجهدوا أنفسهم بالطرق العقلية، والقوانين القياسية فى إصابة الحق، ودركه. فإنه قد كان يجد فيها من فصيح الأقاويل، وواضح الأدلة على وجوب الإقرار بالبارئ تعالى، وعلى وحدانيته وقدرته وحكمته ووجوده، والإقرار برسله وشرائعه، والثواب والعقاب، ما لو جمع لكثر وطال وثقل محمله. ولكن لا بأس بإثبات اليسير من ذلك، لما أرجو به من النفع لمن التمس الحق، والتوبيخ والإخجال لمن عدل عنه إلى الآراء الرديئة، والمذاهب المفسدة.
وينبغى أن أقدم من القول فى هذا المعنى أقاويل الفلاسفة، وأبدأ منهم بأقاويل أرسطوطاليس، ثم أتبع ما قالته الفلاسفة ببعض ما قالته الأطباء. وأظهر أقاويل أرسطوطاليس وأوضحها فى ذلك ما صرح به فى كتابه الذى عنونه ﺑ «كتاب ما بعد الطبيعة»، وخاصة فى «مقالة اللام» منه، قال: إن الذى لا مكان له أصلا ولاتحويه نهايات الأجسام، كما يحوى جميع الأشياء التى فى المكان هو الله حقا.
وقال أرسطوطاليس أيضا فى موضع آخر من هذه المقالة: فإنه من الصواب والحق أن يعتقد أن ذلك الشئ المعقول مفرد عن الجواهر جميعا، حتى لا يوجد بينه وبينها مشاركة البتة، لا فى الطبع ولا فى عرض من الأعراض، وهو الله تعالى. ثم قال: وغرضنا إنما هو الكلام فى هذا الشئ الأعظم، أعنى الأول الذى لا يتحرك، وهو الله الحق. وقال أيضا: المحسوسات واقعات تحت حس البصر، منها الأجسام السماوية، والأجسام الأرضية من الحيوان والنبات، وأمرها بين. وأما الفاضل الأول، فهو الذى هو غير متحرك، الأزلى الأبدى. وقال أيضا: وذلك أنه ليس بينه وبين ما هو دونه من الجواهر مشاركة فى شئ من الأشياء أصلا، لا فى تغير من كل التغير، ولا فى مكان، ولا فى نمو، ولا نقص، ولا يجمعهما أيضا مبدأ واحد عنه حدثا، لكن البدء الأول الذى هو الله لا مبدأ له أصلا، وكل ما هو دونه، فمبدأه منه.
ومن أقاويله التى صرح فيها بضرب من ضروب النبوة قوله فى الطبيعة هذا القول، قال: وليس بعجب أن تكون الطبيعة، وهى لا تفهم، منساقة بما تفعله إلى الغرض المقصود إليه، إذ كانت لا تروى ولا تفكر فى فعل ما تفعله. قال: وهذا مما يدلك على أنها ألهمت إلهاما تلك النسب من سبب هو أكرم منها وأشرف وأعلى مرتبة. ولذلك صارت تفعل ما تفعل منساقة نحو الغرض، وهى لا تفهم الغرض، كما قد ترى القوم الذين يلهمون أن يتكلموا بكلام ينبئون به، كما يسألون عنه قبل أن يكون، فهم لا يفهمون العلة فيما يقولون
Page 7