فهذه أصول الأمانات التى يجب على الطبيب أن يستسرها بينه وبين خالقه ويعتقدها اعتقادا صحيحا. فقد دلت القدماء على صحتها، وأتت الكتب المنزلة بها، وشهدت على حقيقتها، ولا يسع ذو شرع الخروج عنها. فليس ينبغى أن تحفل بمن عدل عن هذه الأمانات، ظنا منه ببطلانها، فأزرى على الشرائع، وأظهر التدهر والزندقة، فليس ذلك منه إلا جهلا يسوقه إلى الهلاك وسوء العاقبة. فإن دعتك نفسك إلى أن تختبره، لينكشف لك جهله، فسله عما اعتقده، لم اعتقده، ولم عدل عن اعتقاد الكافة وأهل شرعه! فإنك من مبتدأ جوابه تستدل على حيرته وسوء عقله. ولعله أن يكون فى ذلك مقلدا لمن كان يصحبه ممن كان يذهب ذلك المذهب، ويعتقد ذلك الرأى، ميلا إلى الرخصة وخلع العذار، وشوقا إلى بلوغ اللذات، ولم يزل هواه يغلبه، ولذاته تغره، حتى انطمست عين عقله، وعميت عن النظر الصحيح فيما يصلحه ويرشده إلى المذهب الحق، والرأى الصحيح. ودائما ذلك دأبه، والجهل يستحكم عليه 〈إلى〉 أن يؤدى إلى هلاكه فى دنياه وآخرته. ومع ذلك، فإنه سيكون سببا لهلاك من يصحبه من الأغراء، فتكون منزلته منزلة أصل الشوك الذى كلما كثرت فروعه، عظم ضرره، وعسر قلعه، فلا يستأصله إلا نار قوية تهلك الفروع والأصل معا، إذ يسقط فى الأرض من البزر ما يكون منه خلف. كذلك يكون الضرر أعظم كثيرا ممن اعتقد هذه الآراء، و〈تكون〉 الآفات على الناس أشد، والبلاء أكثر من الأحداث والجهال التابعين لهم، لميل الأحداث إلى اللذات، وسرورهم بالرخصة وقلة الكلفة. فهم بذلك يبيحون المحرمات، ويستحلون المحظورات، فقد أحاط منهم بالتابع والمتبوع نار لا تطفأ، وعذاب لا يفنى، بسوء ذكر فى الدنيا، وأليم عذاب فى الآخرة.
والشقى المغرور من هؤلاء الأحداث، الكبير العجب بالحقير من دنياه، الكافر بنعم مولاه، لو تيقظ من نومته، وصحا من سكرته، ففكر فى خلق ذاته وبقائه، وثباته مع تضاد أسطقساته، وتعادى أخلاطه، مدة حياته، وإتقان أوصاله، وإحكام هيئته، لكفاه ذلك دليلا على وجوب علته، وكان منه أوضح برهانا على وحدانية خالق الكل وقدرته وحكمته. وإذا كان هذا المخدوع قد عمى عن هذا الطريق وجهله، فقد كان له عدة أدلة من طرق أخر غيره. منها تأمله لنوع نوع من الموجودات، كعجائب ما فى الأرض من معادنها وأحجارها ونباتها وأشجارها، وما على وجهها من أصناف ماشيها وسائحها، وسابحات الماء، وطائرات الهواء، وما به تم كل نوع من هذه، من فضوله وخواصه المقومة لأفعاله. فإنه قد كان يكتفى فى الاستدلال على ما قدمناه من صحة تلك الأمانات، وحقيقة ما ذكرناه من الاعتقادات ببعض هذه الطرق، إذا سلكها فى استدلاله سلوكا مستقيما.
فأما إن فاتته هذه الأدلة، وأخطأ هذه الطرق، فقد كان له من الأدوية النافعة لعماه قراءته فى كتب الشرائع الحاثة على الخيرات، الآمرة بالصالحات، الباعثة على النافعات، مقومة الأخلاق، ومعدلة الأفعال، معدن الآداب والفضائل التى قد خاب من جهلها، وعظمت خسارة من عدل عنها، و〈عن〉 أخذ نفسه بامتثال أوامرها، واتباع سننها.
Page 6