وأيضا فإن نفعها عام شامل لسائر الناس ممن له عقل وتحصيل، لما يربه من فضيلة أدبه، إن كان ذا أدب، ولما يبعثه ويحثه على التأدب، إن كان محبا للأدب، أو لما يخجله ويعرفه دناءة نفسه بين أهل العلم والأدب، إن كان عادلا عن محبة الأدب، وخاصة إن كان ممن قد نصب نفسه قاضيا على النفوس، وحاكما على الأجسام، ويتولى طبها وتدابيرها. فإن الخصال اللائقة بالحاكم، هى أو أكثرها لائقة بالطبيب أيضا. وقد قال أرسطاطاليس: تفقد من الحاكم أربع خصال: أن يكون حسيبا وأن يكون عالما وأن يكون ورعا وأن يكون غير عجول. وقال: إن الحاكم يزين الحكم وهو يوحشه. وإذا نقلت هذه الأقاويل إلى الطبيب، وجدتها به لائقة وعليه واجبة، إذ الطبيب حاكم فى النفوس والأجسام، ولا يشك أحد فى أن النفوس والأبدان أشرف من الأموال. فلذلك ينبغى للطبيب أن يأخذ نفسه بالآداب والعلوم النافعة له فى صناعة الطب، وبغير شك أن من لم يحط بما نذكره واطرحه، سيخجل إن كان له أدنى حس، وإن يكون له مع الحس يسير من العقل، فإنه سيستحى من الله جل ذكره الذى أنعم على الناس بصناعة الطب، ومنحها أفاضل يستحقون تعلمها، يخافونه ويرهبونه قبل الإقدام على علمها، فضلا عن العمل بها. وسيرى هذا المجترئ على الله وعلى أهله أن مزاحمته لهم، ودخوله بينهم بغير نصيب منها، قبيح جدا. فإن بعثه خجله على تأديب نفسه وإصلاح أخلاقه، ثم قصد أهلها بلطف وأدب وحسن مسألة، فتعلم منهم وخدم بين أيديهم فى أعمالهم، أمكنه حينئذ اجتماع العلم والعمل أن يحفظ صحة الأصحاء وأن يعالج المرضى. ولعل بعض الجهلة أن يظن أن خدمته لطبيب ما مدة من الزمان فى دكانه، ومعرفته ببعض الأدوية المفردة والمركبة، أو الفصد وما ماثله من أعمال الصناعة، وأخذه لذلك وتعرفه له من كناش أو أقراباذين، قد كفاه وأغناه عن قراءة كتب صناعة الطب، وتعرف أصولها وقوانينها. فليس ذلك إلا سوء حظ له ولمن يدبره، لأن ما علمه مما ذكرناه، إن لم يعلم أين يضعه من الجسم، وفيمن يجب استعماله، ومتى وأين من الأماكن، وبأى الحالات والمقادير، كان إلى أن يمرض الأصحاء، ويقتل المرضى، أقرب من أن يحفظ الأصحاء ويشفى المرضى.
فعلى جميع الوجوه والأسباب يجب أن أسارع إلى إجابتك فيما سألته، والله بكرمه المعين على جميع الخيرات. وبعد ما قدمته، أقول: إن أول ما يلزم الطبيب اعتقاده صحة الأمانة، وأول الأمانة اعتقاده أن لكل مكون مخلوق خالقا مكونا واحدا قادرا حكيما فاعلا لجميع المفعولات بقصد، محى مميتا ممرضا مشفيا، أنعم على الخلائق منذ ابتداء خلقهم بتعريفهم ما ينفعهم ليستعملوه، إذ خلقهم مضطرين وكشف لهم عما يضرهم ليحذروه، إذ كانوا بذلك جاهلين. فهذه أول أمانة واعتقاد ينبغى للطبيب أن يتمسك بها، ويعتقدها اعتقادا صحيححا. والأمانة الثانية أن يعتقد لله، جل ذكره ، المحبة الصحيحة، وينصرف إليه بجميع عقله ونفسه واختياره. فإن منزلة المحب اختيارا أشرف من منزلة الطائع له خوفا واضطرارا. والأمانة الثالثة أن يعتقد أن لله رسلا إلى خلقه، هم أنبياؤه، أرسلهم إلى خلقه بما يصلحهم، إذ العقل غير كاف فى كل ما يصلحهم، دون 〈أن يرسل〉 من رسائله ما شاء وكيف شاء فى الوقت الأصلح، كما اختار من الخلق للرسالة الصفوة ممن شاء.
Page 5