وليس ينبغى لك، أيها الطبيب، أن تأخذ أمر قوى الأغذية، وحالاتها، وما تفعله من أفعالها فى البدن تقليدا ممن ذكره فى كتاب! فإن لأصحاب التجربة كتبا قد وضعوها فى ذلك على رأى التجربة. والتجربة فى ذلك غير كافية، إذ كانت تقضى على الأمور من ظاهر حالاتها. وأنت تجد من الأشياء المتشابهة ما يعمها بأسرها شئ واحد، وبه تشابهت، ولا يصلح لأجل ذلك الشئ أن تقضى عليها بقضايا أخر عامة لها كلها. ومثال ذلك أنك تجد عدة أشياء تسهل، أو تدر البول، وغير ذلك من الأفعال، وتجد بعضها باردا، وبعضها حارا.
وقد تقدم بتعليم ذلك جالينوس، ومن كان قبله من علماء الأطباء، كالذى حكاه جالينوس عن ديوقليس، وهو هذا القول، قال، قال ديوقليس: أما من ظن بأن الأشياء المتشابهة فى الطعوم، أو فى الروائح، أو فى الحرارة، أو فى غير ذلك مما أشبهها، قوتها واحدة، فبئس ما ظن. وذلك أنه قد يقف الإنسان من هذه الأشياء المتشابهة فى هذه الأشياء على أشياء كثيرة مختلفة القوى. وليس ينبغى أيضا أن يعمل على أن كل شئ مما يطلق البطن، أو يدز البول، أو له قوة أخرى سواها بين القوتين، فإنما صار كذلك من قبل أنه حار، أو بارد، أو مالح. وذلك أنه ليس كل الأشياء الحلوة، أو المالحة، أو غير ذلك مما أشبهها ، قوية قوة نظيرها فى الطعم، ولكن ينبغى أن يعمل على أن السبب الذى من أجله يحدث كل واحد من الأشياء ما من شأنه أن يحدث عنه، هو جملة طبيعة ذلك الشئ. فإن المتمسك بهذا الأصل لا يغلط، ولا يفوته الحق أصلا.
ولا ينبغى لك أيضا أن تسارع على أن تقطع على شئ من الأغذية أو الأدوية من حيث صورته للحس مفردة، بأنه يفعل فعلا واحدا. فإنك قد تجد ما صورته واحدة، وهو يفعل أفعالا متضادة، كالذى يفعله العدس والكرنب. فإنهما يطلقان بعض البطون، ويحبسان بعضهما. وإنما يفعلان ذلك لأن خلقة كل واحد منهما من أصل تركيبه ومزاجه قد اجتمع فيه جوهران مختلفان لهما قوتان مختلفتان. قال جالينوس: وأما السبب الذى صار له العدس يطلق بطن بعض الناس، ويلينه، ولا يحبسه، ويعقله فهو ما أصف، أقول: إنى قد بينت فى كتاب الأدوية المفردة أن كثيرا من الأنواع التى يظن بها بسيطة مفردة، وقد ركبت فى أول خلقتها من جواهر مختلفة، وقوى متضادة، بمنزلة ما نؤلفه نحن بالصنعة، فنعمل 〈من〉 أنواع كثيرة مختلفة نوعا واحدا مؤلفا. وقد نجد ذلك فى كثير من الأغذية، كالعدس، والكرنب، وجميع حيوان البحر ذوات الجلود الخزفية. فإن طبيعة كل واحد منها مؤلفة من قوى متضادة. وذلك أن جرمها الصلب بطئ الانحدار، حابس للبطن، وما فيها من الرطوبة، يطلق البطن. وبيان ذلك ما نجده فى طبيخها. وذاك أن مرق كل واحدة منها يطلق البطن، وجرمه الصلب يحبس البطن، ومن ثم اختلف الناس فى أمرها.
Page 40