القول فى المأكول
وإذا كان ما ذكرنا من مصالح الحواس الخمس نافعا فيما نحن فى الكلام فيه من إصلاح حالات الجسم، وكان ذلك قد توسط الكلام فى الأمور الطبيعية على طريق المثال والإرشاد والتنبيه، وكنا قد ذكرنا من الأمور الطبيعية أمر الهواء، وأمور الحركة والسكون، فيجب أن نتبع ذلك بالقول فى أمور المأكول على الطريق الذى سلكناه من الإيجاز، وذكر الجمل النافعة التى تحث وتشوق إلى تقصى العلم بذلك من مواضعه وكتبه.
فأقول: إن المأكولات تسمى أغذية على طريق الاستعارة، ولأنه قد يكون منها أغذية أيضا. فأما الأغذية الحقيقية، فإنما هى الجوهر الذى قد تميز من المأكولات بالطبخ الأول والثانى والثالث، وفارقته فضلاته التى لا تغذو، وبقى ذلك الجوهر الذى يصلح أن يلصق بالمغتذى، ويخلف عليه عوض ما تحلل منه، وهو الزائد فى كميته، لئلا يتحلل دائما فيهلك.
وإذا كان الأمر كذلك، فأنت تجد المأكولات مختلفة الطعوم والكيفيات، وبحسب اختلاف حالاتها، تؤثر فى البدن. فيجب أن تتعرف جواهرها وأفعالها، وتعنى أيضا بمعرفة البدن، ومزاجه الطبيعى له. ولابد لك مع ذلك من معرفة مزاج المعدة الطبيعى لها أو المكتسب.
وقد حثنا وأرشدنا إلى ذلك معلمنا الفاضل جالينوس فى كتابه فى الأغذية، فإنه قال: وإنما ينبغى أن تقصد للعناية بمعرفة الأمور. وقد تجد الأغذية تبطئ أو تسرع فى الانحدار، إما من قبل ما عليه طبيعة المعدة منذ أول أمرها، وإما من قبل جواهر الأشياء التى تؤكل وتشرب، لأن بعضها رطب، وبعضها يابس، وبعضها لزج، وبعضها يسرع التفرق والتقسيم، وبعضها فيه حدة وحرافة، وبعضها فيه حموضة، أو مرارة، أو حلاوة، أو ملوحة، أو قبض، أو عفوصة. وقد يوجد فى بعضها قوى ما من القوى الموجودة فى الأدوية، 〈فتكون〉 قوى هذه الأغذية داخلة فى جنس الأدوية المسهلة.
والعناية بما ذكره جالينوس من ذلك ينبغى أن ينصرف إليها الطبيب انصرافا شديدا تاما، إذ الحاجة إلى هذا الجزء من علمها فى بقاء الإنسان عظيمة جدا. قال جالينوس: وذلك أن العلم بقوى الأغذية قريب من أن يكون أنفع علوم الطب كلها، إذ كانت الحاجة إلى استعمال سائر ما يستعمل فى مصلحة البدن ليست فى كل وقت، فالحاجة إلى الغذاء دائمة أبدا، فى وقت الصحة، ووقت المرض، إذ كانت الحياة لا تبقى إلا معه.
Page 39