القول فى حاسة المذاق والأشياء الموافقة لها
حاسة المذاق تتم باللسان واللهوات والحنك، وذلك بالعصب المبسوط على هذه الآلات من الفم. والفم لما كان يشتمل على الأسنان، وعلى جميع أجزائه التى خلقت فيه لأنواع من مصالح الجسم، كتعرفه على أصناف الطعوم، وكيفية طبعه للأغذية، وكسر ما صلح أن يكسر منها، ثم طحن ما يصلح للطحن بالأضراس، وتقليب اللسان لذلك الغذاء، وترطيبه بالريق، ليتم طحنه، وتساوى أجزائه، لتكون صورته واحدة فى اللين، ليسهل نفوذه فى المرئ.
وأيضا مما ينتفع به الحى فى صلاح حياته بالفم ما يرد منه من الهواء إلى الرئة، والقلب، ليروح عن حرارته الغريزية، ويمدها بما صفا ونقى من الهواء. ومن منافع الفم وآلته خروج الصوت منه إلى الحيوانات، وخاصة فى الإنسان الذى خصه البارئ تعالى بالقوة العاقلة، القادرة على تفصيل صوته، وتقطيعه بآلات الصوت، وبآلات الفم، حتى صحت له النغم والحروف، وقدر بلطيف تمييزه على جمع تلك الحروف، حتى صح له القول الدال المعبر عما فى نفسه من الأمور المتصورة. فقدر بذلك النطق على الأقاويل المختلفة، والعبارات المتباينة فى أصناف العلوم. فالفم إذا باب يدخل منه، ويخرج ما ينفع الإنسان فى مصالح نفسه وجسمه.
فكما أن بحاسة الذوق، وما خلقه البارئ تعالى من القوة النفسانية المميزة للطعوم، يمكن للعاقل أن يعرف الغذاء من الدواء، ليستعمل كل واحد منهما فى وقته، ويعلم أيضا مما يبرز من الفم كثيرا من حالات البدن، كالبصاق والجشاء والقذف، وما جانس ذلك، فى كل واحد من هذه الفضلات عدة علامات يستدل بها على صحة المعدة وسقمها، وكذلك حالات غيرها من الأحشاء، كذلك أيضا يستدل العاقل من الناس من الألفاظ والأقاويل الصادرة من النفس على قدر شرفها، وعلو فضيلتها، أو على خساستها، وسقوط منزلتها.
وإذا كان ذلك كذلك، فيجب أن يعنى كل عاقل بنفسه وجسمه، لئلا يرد إليهما إلا محمود موافق لهما، ولئلا يصدر عنهما إلا مرض ممدوح. وأعظم ما أعان على ذلك صلاح الحواس، وخاصة الفم الذى هو الآلة للذوق والنطق، فإن من أنعم الله جل اسمه عليه بالمنطق المستقيم، فقد شرفه ونفع به الناس أجمعين. ومن حرم النطق عدم فضائل السامعين، كما أن من ساء نطقه، كان مرذولا حقيرا بين الناطقين.
Page 36