ولذلك يكون اجتذابها بما يضادها، لأن الضد ينفى ضده. ولا يغلطك ما تراه من إصلاح أمزجة حارة مثلا بأشياء باردة، وأمزجة باردة تصلح بأشياء حارة. فإن ذلك علاج مرض، لا حفظ صحة.
ولأن الصحة هى الطبيعية للبدن لأنه لم يقصد بخلقه إلا ليكون صحيحا، وقد ذكرنا معرفة ما الصحة قبيل باختصار، فيجب أن نجمل القول فيها ونصفها بما حدها به قدماء الأطباء فقالوا: إن الصحة هى حالة طبيعية للجسم، يتم له أفعاله بها. ولما كانت أفعال الجسم كثيرة، لأن عددها مساو لعدد أعضاء الجسم الآلية، وجب أن يكون كل فعل من أفعال آلات الجسم إنما يتم بصحة تلك الآلة، كالذوق الذى لا يتم إلا مع صحة الفم وآلاته، وكذلك البصر وسائر الأفعال.
وأعضاء البدن الآلية، أعنى التى هى آلات لأفعاله، تتم صحتها بثلاثة أشياء، أحدها اعتدال مزاج العضو، والثانى اعتدال هيئته، والثالث اعتدال اتصاله. ويجب أن تعلم أيضا أن اسم الاعتدال يعم ثلاثة معان، أحدها اعتدال تتساوى فيه الأسطقسات فى البدن، فيكون فيه من الحار مثل ما فيه من البارد، ويكون فيه من الرطب مثل ما فيه من اليابس، وهذا مزاج لا يمكن وجوده حسا، بل فهما، لأن الجسم لا يمكن أن يبقى طرفة عين بحالة واحدة، لكن تغيره واستحالته دائمة. والصنف الثانى من الاعتدال هو ما قرب من هذا الأول، وداناه، وهو أيضا قليل الوجود. فأما الصنف الثالث، وهو الكثير الوجود، فهو الذى هو بالحقيقة مائل إلى أحد الأربعة الأمزجة المركبة، أعنى الحرارة مع اليابس، أو إلى الحرارة مع الرطوبة، أو إلى البرودة مع الرطوبة، أو إلى البرودة مع اليبس، إلا أنه مع ذلك صحيح الأفعال، لا يذم منها شئ فلذلك سمى معتدلا.
ولذلك يجب أن يكون حفظ الصحة لكل واحد من هذه الأمزجة لا يتم، إلا بعد معرفتها بمقادير ما لها من كل كيفيتين من هذه المزاوجات وبعلامات صنف صنف منها، يعلم ما بها تحفظ، وبجميع كميات ذلك، وكيفياته وأماكنه وأزمنته، وغير ذلك مما قد شرحه قدماء الأطباء فى كتبهم، فاعلم ذلك! وينبغى أن يكون حاضرا لذكرك أيضا أن عملك إن كان فى شخص من الأشخاص، وكانت الأشخاص مختلفة الأمزجة، وصحة كل واحد منها يخص مزاجه، ولكل مزاج علامات تخصه، وتدابير توافقه، فيجب لذلك أن تتدبر وترتاض فى معرفة الحدس الصناعى الذى به تصل إلى التقدير، ولن تصل إلى ذلك، إلا بأحكام علم القوانين النوعية.
فإن اقتنيت علم الأصول والقوانين، وتدربت بالحدس، فخذ بنا الآن فى الكلام فى الطرق الجزئية التى ينبغى أن يسلكها حافظ الصحة على بدنه. وأول من يجب أن يعلم هذه الطرق، ويقتنيها ويعمل بها، هو الطبيب لأن من أقبح الأشياء أن يرى العاقل من الناس أن مصلحته فى شئ، وهو يعمل ضده، لسيره إلى لذة ما أو لهو آخر غير ذلك.
Page 19