إن التعليم الثانى الذى نصبه العقل ووضعه، لتقويم الطبع، وإصلاح الإنسان، هو ما عدل جسمه، وأكسبه صحة، أو ما حفظ على الجسم صحته. وهذا التعليم والعمل به هو المسمى صناعة الطب، وهى التى وهبها البارئ تعالى للعقل، فنصب العقل للعقلاء أصولها، وعلمهم استخراج فروعها بطريقين هداهم بهما سبلها، وهما طريق القياس، وطريق التجربة. فبهذين الطريقين جميعا مجموعين استخرج علماء صناعة الطب علمها، ووصلوا إلى أعمالها.
وإذا كان قد اتضح لك، أيها المحب لتعلم صناعة الطب، أصول طرق التعاليم التى نصبها العقل للعقلاء وانكشف لك منها جمل، فارجع بنا إلى بسط التعليم الثانى، وهو المصلح للجسم، فإنى أحدثك فى طريق سهل المرام، واضح المسلك قد سبقنا من تقدم من العلماء بتوطئته، وأبان لنا سبله.
وأول المبادئ لهذا الطريق لمن أراد تعديل جسمه أن يفتقد أفعاله، إذا رام أعماله، فإن وجدها جارية مجاريها، ولم يتعذر عليه فعل ما ولا عمل من أعمال جسمه، فليعلم أن جسمه صحيح، لا مرض به. وكذلك ينبغى أن ينظر فى أمر عضو عضو من جسمه. فإن العين خلقت لتبصر المبصرات من الألوان والأشكال وغيرها. فإن وجدها تدرك مبصراتها بلا عائق ولا تقصير، قيل لها صحيحة، وإن قصرت أو لم تبصر، قيل لها مريضة، أو عادمة الإبصار. وكذلك القول فى سائر أعضاء البدن، وفى جملة البدن. ثم بعد العلم بالصحة وبالبدن الصحيح، يجب أن تعلم بماذا تحفظ الصحة على الصحيح، لئلا تزول عنه فيقع فى المرض.
ثم يتبع هذا التعليم الثانى بتعليم ثالث، وهو أن يعلم المريد إزالة المرض عن الجسم، إذا حل به المرض، ما هو المرض ، وأى الأمراض هو، وكيف يزال، وبأى الأشياء والتدابير يزال. ويحتاج بالضرورة إلى علم جميع ذلك من رام علاج الأمراض ولأن ليس غرضنا فيما نذكره هاهنا شيئا من هذا الفن، فلذلك لا نذكر من هذا التعليم الثالث شيئا، إلا ما جرى بطريق العرض فى فروع الكلام. ولكنى أقول أن ما أذكره فى هذا الباب الثانى من هذا الكتاب من حفظ الصحة، وتعديل الجسم بالأغذية والأشربة والتدابير، وتعريفى جملا من تقدير هذه على طريق القانون، فإنه ينبه ذا اللب والفطنة إلى معرفة أصول تدابير المرضى، وجمل ينتفع بها فى علاجهم. وهو أيضا يحث المتعلمين على طلب معرفة الأمراض، وما يعالجون ويدبرون به المرض.
فلنرجع إلى غرضنا، فنقول لمن علم أن بدنه صحيح: إن أول ما ينبغى لك أن تعلمه فى حفظ صحة بدنك، أن تعلم بماذا يحفظ الصحيح، لتقدر على حفظ صحتك، ومن ذلك بالضرورة 〈أن〉 تعلم بأى شئ تجتلب الصحة، إذا فقدت. فاعلم الآن أن الصحة تحفظ بما شابهها، لأن الشبه يحفظ شبهه.
Page 18