قال ارطوطاليس: الحكمة رأس التدبير، وهى سلاح النفس ومرآة العقل. إجتهد ألا تكون واعظا بجميل الأقوال، لكن تكون عظتك بجميل القول والفعال! لا تأخذن الحدث بصعب التأديب، لكن درجة الأدب بترتيب! لقح عقلك بالآداب، كما تلقح الشجرة بالشجر الكرآب! رض النفس بالحكمة لتدرك الحقيقة، كرياضة الراضة للجسم، لتصبر على المشقة! واعلم بأن الحكمة تقضى بأهلها إلى مراتب عظيم فضلها، كما أن من ولى سلطانا وجب عليه أن يبعد الأشرار عنه، لأن جميع عيوبهم منسوبة إليه.
كذلك أنت، أيها الطبيب، يجب أن تبعد عنك الأشرار من الأصحاب والتلاميذ، فإن جميع ما يأتيه صحبك وخدمك منسوب إليك من قول وفعل! واعلم أن الفقر مع الحلال، أصلح من الغنى مع الحرام! والذكر الحسن مع بقائه، خير من نفيس المال مع فنائه! وأيضا فإن المال قد يوجد عند السفهاء والجهال، والحكمة لا توجد إلا عند أهل الفضل والكمال. إجتهد فى أن سرورك وحزنك جميعا بتوسط! وكن على ما زاد منهما متنسكا وتأمل حال النفس الموسطة للأخلاق من هذا القول الذى أحكمته لك من كلام جالينوس فى أول المقالة الثانية من كتابه فى المزاج: فإنه قال بعد أن وصف حال المزاج المعتدل هذا القول، قال: فهذه حال الإنسان الذى هو من أعدل الناس مزاجا فى بدنه، وهو أيضا فى نفسه متوسط بالحقيقة فيما بين الشجاعة والجبن، وبين المبطئ المتأخر والعجول المتهور، وفيما بين الرحيم والحسود. ومن كان كذلك، فهو طيب النفس، محب متحبب، متوخ لمحبة الناس، دمث. وإذا كنت مجتهدا على أن تخفى مالك فى بيتك، فاحذر أن تخفى حالاتك فى نفسك! إجتهد أيها الطالب للحكمة والأدب، فى إصابتهما من كتب أهلها! والتقط ألفاظهما ومعانيهما كما تلتقط النحلة ما يلاءم عملها من جميع الشجر، وتعمل منه ما يصلح للبناء بيتا، وما نغتذى به، وهو العسل، تذخره محفوظا!
فتأدب بما تقدمنا ذكره من هذه الوصايا والجمل، ففيها كفاية للنفوس المسعودة! ثم انصرف إلى الاهتمام بما يصلح جسمك، ويحفظ صحته، فإنى ذاكر جمل ذلك فى باب الثانى من هذا الكتاب، وهو الذى أبتدئ الآن فتدبره حسنا! PageV01P01 4
[chapter 2]
الباب الثانى فى التدابير المصلحة للأبدان وبها يصلح الطبيب جسمه وأعضاءه
أقول، والله المعين: إن الخالق تعالى، لما شاء إظهار حكمته وقدرته، جعل كل مخلوق محكما، وجعل الأدلة فى المخلوقات على إحكام خلقتها، وقدرة خالقها تبارك، كثيرة جدا. من ذلك ما جعل لبعضها من الاتصال الطبيعى ببعض، وما فضل بعضها عن بعض، وما رتبها بذلك مراتب مختلفة، لتأخذ من نوره، وتقبل من حكمته، بحسب ما لها من شرف المنزلة. فأعطى تعالى الناميات من القوى الأربع التى بها تتغذى وتنمى، ليتم لها البقاء بنوعها، ما لم يعطه للجامدات.
ووهب تعالى للإنسان من نوره نفسا، علامة عاقلة مميزة، ما لم يعط لغيره من الحيوانات. فالإنسان لذلك هو أتم أنواع الحيوان وأكملها، لأنه من جسم حى، ومن نفس ناطقة، ولأن النفس الناطقة هى المتممة لنوع الإنسان، وأفعالها بجسمه تظهر، فلذلك بنى جسمه بناء يلاءم قواها، كالذى بنيت عليه أجسام سائر الحيوان من الملاءمة لقوى نفوسها. فما كان منها شجاعا محبا للغلبة والقتال، بنى لنفسه جسم يصلح لهذه الأفعال، كالسبع والنمر والذئب، وأشباه هذه. وما كان منها جبانا، خلقت له آلة تصلح للهرب، كالأرنب والثعلب، وأشباه هذه من الحيوانات. فلذلك بنى جسم الإنسان أيضا بناء يلاءم نفسه. فنفس الإنسان لما كانت أصفى النفوس وأعدلها، بنى لها جسم أكمل الأجسام أعضاء، وأتمها هيئة، وأعدلها مزاجا، لتكون أفعاله تامة كاملة متقنة، ككمال نفسه وتمامها وشرفها.
Page 15