وأيضا لما كان البدن آلة للنفس، وكانت أعضاء البدن مخلوقة لنفس الحيوان بحسب قواها، وكان لكل حيوان من الحيوانات عمل يخص ذلك النوع من الحيوانات، لا يقدر على غيره، وأعضاؤه كلها مرافد بعضها بعضا فى مصالحه، وفى إكمال ذلك العمل — كالذى نجده من عمل الزنبور والنحل والنمل لثبوتها، كل واحد بحكم ثبوته، وبشكلها بغير تشكيل الآخر، لكن بحسب ما يلاءم مصلحتها، وكنسييج العنكبوت لأخبيته، ودود القز، وما سوى ذلك من الحيوان — وكان الإنسان لشرف نفسه ولكمالها، ولقوة عقله على العلم بجميع المهن والصنائع، وإن الحكيم جل ذكره لما أراد إظهار ما فى قوة نفس الإنسان إلى الوجود بالفعل، خلق أعضاء جسمه أكمل وأتم، ليقدر على جميع ما يعمله الحيوان طبعا بعقله. فخلق تبارك له اليدين، ليقدر بهما على عمل ما دق من المهن، وما جل، وليتخذ بهما أنواع السلاح، كالسيف والرمح والنشاب والترس، ويروض الخيل، ليركبها. إذ كانت هذه الأشياء متفرقة فى الحيوانات، كالذى يوجد من الأنياب للخنزير لينجل بهما، فيقطع ما أمكنه قطعه، كقطع السيف، وكرمى القنفذ بشوكه، كرمى السهم، وكالقرون والمخاليب والجنن لسائر الحيوان. وليست توجد أمثال هذه مجموعة تامة كاملة، إلا للإنسان وحده، لأنه بعقله يلتمس الأعمال ويقومها.
أما الحيوان، فإنما له عمل واحد يعمله بطبعه. ألا ترى أن الحيوان لما كان بأسره مضطرا فى البقاء إلى المأكول والمشروب، والمكان، والستر من الحر والبرد، والتناسل، صار بطبعه يتخذ له الأعشاش والبيوت، وبطبعه يعرف أنواع أغذيته الموافقة له فى بقائه لا يبعد عنها، ومشروبه لا يتعداه، ويزاوج الذكور من كل نوع أناسه للنسل، لا يتجاوز ذلك، وبعضه فى أوقات من الزمان لا يزيده، وما لم يقدر عليه من مصالحه بطبعه، خلقه الله تعالى له لطفا به، لئلا يهلك، كالأصواف والأوبار والريش والشعر والجنن التى هى كسى له ساترة من الحر والبرد.
وأما الإنسان العاقل، فلما وهب الله تبارك وتعالى له ما هو أشرف من الطبع، وتوجه بالحكمة والعلم بالأمور الزمانية السالفة اللائقة، وصار يعلم ما يصلحه، له أن يتصرف بعقله فيما يختاره من اتخاذ الأبنية والكسى وأنواع الأغذية والأشربة، وله أن يقاوم بعقله المضار والمؤذيات الطبيعية والاختيارية جميعا. وذلك أن اللذة مقرونة بالأمور الطبيعية خلقها الخالق تعالى بحكمته فى الأمور المحسوسة والحواس، ليشتاق الحيوان إلى ما يلتذ به، فيستعمله. ولولا ذلك، لم ينسل الحيوان، ولم يبق. ولما كان الطبع يلتذ ويشتاق إلى اللذات، ولم يكن لأنواع الحيوانات عقل يقدر لها 〈من〉 الأمور اللذيذة ما يكفيها، لطف لها الخالق تبارك بتقدير ذلك لها طبعا، فلا تأخذ من كل لذيذ إلا ما يصلحها ويكفيها. ولذلك عدمت أكثر الحيوانات أكثر الأمراض التى تعرض للإنسان.
فأما الإنسان، فله عقل يقدر أن يميز به لطبعه الضار من النافع ويقدر له من الأغذية والأشربة وسائر ما هو مضطر إليه الكافى. فلذلك ترك وطبعه. فإن تبع ما يأمره به طبعه من استعمال الأشياء، واتخاذها للذاتها، ولم يتق ما يتبع اللذة من المضار والآفات، دخلت عليه الأمراض والأعراض، ولم يوقف عليه الهلاك، لأنه يكون فى ذلك دون البهائم، لما لم يجعل لها عقل تقدر به، كما قلنا قبل، صار لها التقدير طبعا، فهى بذلك أصلح حالا وآمن وخير ممن لا يتأدب بعقله.
Page 16