ولنرجع إليك، أيها المحب للأدب، فنقول: إنه إذا صحت أمانتك بما تقدم القول به من الإقرار بالله جل وعز، ومن المحبة له والاعتراف بحقه، والإقرار برسله، والتمسك برسائله، فعليك بالعبادة له بما يرضيه. ولن تقدر على ذلك، دون أن تصلح أخلاقك، وتعدل أفعالك، ولا يمكنك ذلك حتى تعلم 〈أن〉 أصول قوى النفس هى ثلاث قوى، كما بين ذلك القدماء من الطبيعيين والأطباء. فإن جالينوس قد شرح ذلك وكشفه فى كتابه فى آراء بقراط وفلاطن، وفى كتابه فى الأخلاق، وفى مقالته التى بين فيها أن قوى النفس تابعة لمزاج البدن، وقال: إن القوة الأولى من قوى النفس هى القوة النفسانية، وهى التى تتم أفعالها بالدماغ. والقوة الثانية هى القوة الحيوانية، وأفعالها تتم بالقلب، والقوة الثالثة هى القوة الشهوانية، وأفعالها تتم بالكبد.
ثم تعلم 〈أن〉 باعتدال هذه القوى فى الإنسان تكون أخلاقه فاضلة ممدوحة، ونفسه طاهرة زكية، ولخروج هذه القوى عن الاعتدال، تصير أخلاقه مذمومة، ونفسه رذلة. فاعتدال القوة النفسانية يكسب الإنسان اللب والعقل، وجودة التحصيل والتمييز، وصحة الفكر. واعتدال القوة الحيوانية يكسبه الهدوء والرزانة، وقلة الحرد والغيظ. واعتدال القوة الشهوانية تكسبه العفة، وضبطه لنفسه عن اتباع الشهوات واللذات.
وبعد علمك بما ذكرناه، يجب أن تروض نفسك وتعودها هذه الخصال الثلاث، أعنى العقل والرزانة والعفة، لتصير فاضلا أديبا، وتنقى نفسك، وتصلح لاقتناء العلوم. واجتهد فى الحذر من الوقوع فى أمراض هذه القوى! فإن خروج القوة النفسانية عن اعتدالها هو مرض لها ، يوجب سوء التحصيل والجهل. وخروج القوة الحيوانية عن اعتدالها هو مرض لها، يوجب سرعة الغضب والجزع. وخروج القوة الشهوانية عن اعتدالها هو مرض لها، يوجب ألا يضبط الإنسان نفسه، أو ألا تقوى له شهوة. واجتنب هذه الحالات الست، فإنها أمرض للنفس يوجب لها الفجور والخبث والدناءة! وتعمد العدل، فإن فضيلته تنزل النفس كل شئ منزلته!
Page 12