وقال فى الحادية عشرة: ولا علم لى كيف يجوز أن أنسب من زعم أن هذا التدبير العجيب والحكمة الفائقة، 〈كيف〉 وقع كل ذلك بالبحث والاتفاق. يا هذا! إن كان هذا مما يقع بالبحث والاتفاق، فأى شئ يكون بالتعمد والعناية والقصد واللطف والحكمة؟! وقال جالينوس فى هذه المقالة مقرا بصحة ما قاله موسى عليه السلام وعلى سائر النبيين: والذى هو أفضل وأصوب هو أن نقول فى ابتداء خلق الخالق لجميع ما خلق على المذهب الذى يقول به موسى...ثم قال: قف عند العلم والقول! أحب أن تكون هذه الأمور على ما وصفنا لهذه الأسباب التى ذكرتها، ولا تتجاوز ذلك بالفحص عن كيف كانت. فإن الفحص عن ذلك جرأة وتهجم وإقدام. فإياك أن تأخذ فيه، ولا ترده! فإنه قبيح بك أن تقدم على الفحص كيف كانت أمور قد كنت أقررت بأنها كانت، ولا سبيل لك إلى العلم بذلك.
وقال فى السابعة عشرة وهى آخر مقالات الكتاب: وقد بلغ من حكمة القادر البرغوث وقدرته أنا نجده يخلقه وينميه ويعدو 〈على〉 أضلاعنا ولا يكلف. وإذا كنا نجد فى هذا الحيوان الذى قد بلغ من خساسته أن يتوهم المتوهم أنه إنما كان عن غير تعمد حكمة هذا مبلغها، فكم بالحرى ينبغى أن يتوهم فضل حكمة البارى وقدرته فى أصناف الحيوان الجليلة القدر! فهذه إحدى المنافع العظام التى نستفيدها من علم الطب، أعنى من طريق أنا محتاجون إلى الدلالة على قوة الله، إذ كان قوم يرون أن هذه القوة ليست بموجودة أصلا، فضلا عن أن يكون يعنى بمصالح الحيوان.
وقال جالينوس أيضا فى كتابه فيما يعتقدونه رأيا، وقد ذكر الله تعالى، فإنه شفاه من علة مؤيسة، فقال: ولذلك أعتقد إعظامه وتبجيله، وأتبع فى ذلك الشريعة والسنة، وأقبل ما أمر به سقراطيس من قول ما أمر الله به.
فبدى ما ذكرناه من هذه الأقاويل الجليلة عن هؤلاء القدماء الأفاضل الذين يقرون فيها بالله تعالى وبرسله، وبالوحى وبالثواب والعقاب، لم يشف بعد عمى هذا الشقى المغرور، ونحن نقول إن ما أحضرناه كاف لمن آثر الحق، ومال إلى الصدق. ولو علمت أن الزيادة تنفع من لم ينتفع بما تقدم ذكره، لزدت من أقاويل هؤلاء وغيرهم ممن هم فى طبقتهم مثل فثاغورس وافيقروس ودمقرايطيس وزينون وأمثالهم، ومن أقاويل أفاضل من الحدث مثل الكندى، وحسبك به جلالة وفضلا، فإنه قد أطنب فى هذه المعانى وخاصة فى كتابه فى الفلسفة الخارجة فى الرد على الثنوية ومثل حنين واسحاق وابنه، وغيرهم من أهل العلوم العقلية. فإن حنينا، على أنه على ضد مذهب التوحيد، قد وضع مقالة فى التوحيد، ووضع أيضا مقالة فى صحة الرسل. ولكنى أكتفى بما ذكرته لما فيه من توبيخ وتنبيه لمن يرجى له الفلاح والصلاح. وأما من لم ينتبه لما نبهناه، فليعد من الموات، أو من البهائم التى لا يؤثر فيها التوبيخ والعتب. فقد قيل لبزرجمهر: ما بالكم لا تعاتبون الجهلة؟ فقال: لأنا لا نريد من العميان أن يبصروا.
Page 11