وكان من بين مظاهر الاحتفال إجراء سباق بين جبلة واللاذقية، يشارك فيه سباحون من شتى أرجاء الوطن العربي؛ لقطع مسافة ثلاثين كيلومترا على طول ساحل البحر المتوسط. كان ذلك أول سباق يجري من نوعه على الساحل السوري، وتابع محمد الذي كان في الثامنة عشرة كل خطوة فيه، من الإعداد له حتى السباق نفسه. كان يراقب السباحين أثناء التمرين، ويدرس ضرباتهم ونظامهم، مشتاقا إلى المشاركة في ذلك بنفسه، وتمكن من الحصول على عمل في طاقم قارب الإرشاد لأحد السباحين المتسابقين، واسمه منير ديب، وتمكن من مصاحبته بالسرعة نفسها على طول مسافة السباق.
وفي أثناء الطريق، لم يستطع محمد الصبر فقفز وجعل يسبح بجوار ديب وغيره من المتسابقين، ولم يقتصر محمد على مجاراة المحترفين، بل بهر أحد حكام السباق الذي قال: «هذا الولد ممتاز، وسوف يصبح بطلا!» ومنذ ذلك اليوم ومحمد لا يكاد يفكر إلا في تحقيق هذه النبوءة.
لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة لكنه كان يعمل صباحا بحرفتي البناء وأشغال الحديد، وعصرا بصيد السمك، وليلا بدأ يتدرب استعدادا لسباق العام التالي، وأبقى تدريبه سرا لم يخبر والده به، حتى عندما خاض اختبارين لسباحة المسافات الطويلة، أحدهما بين اللاذقية وجبلة، والآخر بين جبلة وبانياس. ولكن محمودا ما لبث أن عرف بطموحات ابنه، ولما كان يخشى أن يفقد ابنه في البحر الذي لا يرحم، والذي كاد يسلبه روحه يوما ما، منع ابنه من سباحة المسافات الطويلة، كان يريده أن يترك الصيد، ويبتعد عن البحر. كان يريد لولده أن يعيش.
ولكن محمدا لم يستطع التوقف، وعلى صعوبة عصيان والده، واصل التدريب، ودون أن يخبر أحدا من أفراد الأسرة دخل محمد سباق العام التالي. وعندما خرج من الماء في اللاذقية، كان التهليل يصم الآذان. كان قد فاز بلا عناء.
وقبل أن يتمكن محمد من العودة إلى بلده، قام أحد أصدقاء محمود القدامى، وكان أيضا من أبطال السباحة، بزيارة منزل زيتون وتهنئة محمود بفوز ولده. وهكذا عرف محمود أن محمد زيتون كان أفضل سباح في سوريا.
وعندما وصل محمد عائدا إلى منزله في تلك الليلة، كان محمود قد كف عن المقاومة. قال في نفسه إذا كان ابنه يريد هذا، وإن كان قدر ابنه أن يصير سباحا - إذا كان الله قد خلقه سباحا - فلن يقف هو في طريقه. وهكذا اشترى لابنه تذكرة في الأوتوبيس إلى دمشق حتى يتدرب ويتنافس مع أفضل سباحي المنطقة.
ووجد زيتون صورة أخرى. كانت صورة أول انتصار كبير يحرزه محمد في السنة نفسها، أي في عام 1959، وكان ذلك في سباق لبناني. كان المضمار مزدحما وحافلا بأسماء شهيرة، ولم يفز محمد بالمركز الأول فقط بل حقق زمنا قياسيا فيه؛ تسع ساعات وخمسا وخمسين دقيقة. كان زيتون شبه واثق بأن هذه الصورة التقطت أثناء الاحتفالات في أعقاب الفوز؛ إذ حضر الآلاف لتحية أخيه.
كم كان عمر زيتون آنذاك؟ أجرى حساباته في ذهنه. إنه عام واحد. ربما لم تكن سنه تزيد على عام واحد. لم يكن يذكر شيئا عن تلك الانتصارات الأولى.
وفي العام التالي دخل محمد السباق الشهير بين كابري ونابولي، وهو السباق الذي اجتذب أفضل سباحي العالم. كانت التوقعات ترجح كفة ألفريدو كاماريرو، وهو أرجنتيني كان قد فاز بالمركز الأول أو الثاني خمس سنوات متتالية، وكان محمد مجهولا عندما بدأ السباق في السادسة صباحا، وعندما اقترب من الشاطئ بعد ثماني ساعات لم يجل بخاطره أنه الفائز، ولم يدرك أنه قد فاز إلا عندما خرج من البحر وسمع صرخات الدهشة وترديد اسمه في الهتاف. كانوا يرددون: «زيتون العربي فاز!» لم يكن أحد قادرا على تصديق ذلك. سوري يفوز بأعظم سباق لسباحة المسافات الطويلة في العالم؟! وقال كاماريرو للجميع إن محمدا أقوى سباح شاهده في حياته.
وأهدى محمد الفوز إلى الرئيس عبد الناصر، وردا على ذلك أضفى عبد الناصر رتبة الملازم الفخرية في البحرية على محمد الذي كان في العشرين من عمره. وكان أمير الكويت قد شهد السباق واحتفل بمحمد في عشاء أقيم على شرفه في نابولي. وفي العام التالي فاز محمد مرة أخرى بسباق كابري-نابولي، وفي هذه المرة حطم الرقم القياسي الذي كان كاماريرو قد حققه بمدة خمس عشرة دقيقة. كان قد أصبح آنذاك أشهر سباح للمحيطات في العالم.
صفحه نامشخص