تقديم
إهداء
أقوال مأثورة
ملاحظات على هذا الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
مؤسسة زيتون
شكر وتقدير
تقديم
إهداء
أقوال مأثورة
ملاحظات على هذا الكتاب
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
مؤسسة زيتون
شكر وتقدير
زيتون
زيتون
تأليف
دايف إيجرز
ترجمة
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية. فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي، فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة، ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره، فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي، فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (It tolls for thee) ، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
إهداء
إلى عبد الرحمن، وكاثي، وزخاري ، ونديمة ، وعائشة، وصفية، وأحمد، في نيو أورلينز.
إلى أحمد، وأنطونيا، ولطفي، وليلي، في مالقة.
إلى قصي، وندى، ومحمود، وزكية، ولؤي، وإيمان، وفايزة، وفاطمة، وعائشة، ومنى، ونصيبة.
وجميع أفراد أسرة زيتون في جبلة، واللاذقية، وجزيرة أروض.
إلى سكان «نيو أورلينز».
أقوال مأثورة
... قد يوجد في تاريخ العالم ما يمكن أن تزيد عقوبته حتى عن الجريمة ... «كورماك ما كارثي»، الطريق
في عيني من يمسك مطرقة، يبدو كل شيء مسمارا. «مارك توين»
ملاحظات على هذا الكتاب
هذا عمل غير خيالي، بني أساسا على ما رواه عبد الرحمن زيتون، وزوجته كاثي زيتون، وتأكدت من صحة التواريخ، والأوقات، والأماكن استنادا إلى مصادر أخرى مستقلة، وإلى السجلات التاريخية. كما أوردت المحادثات وفق أفضل ما وعته ذاكرة المشاركين في الأحداث، ولكني غيرت بعض الأسماء.
ولا يحاول هذا الكتاب أن يصبح كتابا شاملا لكل ما يتعلق بمدينة نيو أورلينز أو إعصار كاترينا، إنه رواية وحسب لما مرت به أسرة واحدة من الأحداث قبل العاصفة وبعدها، وقد كتب بمشاركة كاملة من أفراد أسرة زيتون، وتتجلى فيه نظرتهم إلى الأحداث.
الفصل الأول
الجمعة، 26 من أغسطس 2005
في الليالي التي يغيب فيها القمر، يخرج الرجال والصبيان في جبلة؛ تلك القرية الصغيرة ذات الشوارع الترابية التي تعيش على صيد السمك على ساحل سوريا، فيجمعون مصابيحهم وينطلقون إلى البحر في أهدأ قواربهم، وهكذا تبحر خمسة قوارب أو ستة، وفي كل منها صيادان أو ثلاثة، وعلى مبعدة ميل من الشاطئ تنتظم قواربهم على شكل دائرة في البحر الغارق في الظلام، ثم يلقون بشباكهم في الماء، رافعين مصابيحهم فوق صفحة الماء كأنما يسطع القمر عليها.
وسرعان ما تبدأ أسراب السردين في التجمع، فتبدو كتلة فضية اللون صاعدة من الأعماق؛ طلبا لغذائها من العوالق الحية الصغيرة التي اجتذبتها الأضواء، فتبدأ الالتفاف والدوران في سلسلة ذات حلقات غير مترابطة، وتزداد أعداد أفرادها في الساعة التالية، فتغلق الفجوات السوداء بين الحلقات الفضية، بحيث يبصر الصيادون من تحتهم كتلة مصمتة من الفضة تدور حول نفسها.
لم يكن عبد الرحمن زيتون قد جاوز الثالثة عشرة من عمره حين بدأ يمارس صيد السردين بهذا الأسلوب الذي يسمى «لامبارا» المستعار من الإيطاليين، وكان قد انتظر سنوات طويلة للحاق بالرجال والشبان في قواربهم الليلية، وقضى تلك الفترة في طرح الأسئلة. لماذا لا يخرجون إلا في الليالي غير المقمرة؟! وأجابه أحمد قائلا: «لأن العوالق تبرز بوضوح في الليالي المقمرة في كل مكان، وتنتشر في أرجاء البحر كله، فيستطيع السردين أن يرى تلك الكائنات الدقيقة البراقة بسهولة ويأكلها، وأما في الليالي غير المقمرة فيستطيع الرجال أن يأتوا بقمر من عندهم، أي مصباح، فيجتذبوا السردين إلى السطح في تجمعات مذهلة.» وقال أحمد لأخيه الصغير: «عليك أن ترى ذلك، فلم تشاهد من قبل شيئا يشبهه!»
وعندما أبصر عبد الرحمن أول مرة ذلك السردين وهو يدور في الماء الحالك، لم يصدق ما يشاهد؛ جمال الحلقة الفضية المتماوجة تحت الضوء الأبيض والذهبي للمصابيح، ولم ينطق بكلمة واحدة، كما حرص الصيادون على التزام الصمت، فجعلوا يجدفون من دون تشغيل المحركات؛ خشية إخافة الأسماك النافرة فتهرب. كان من عادتهم أن يتهامسوا فوق البحر فيطلقوا الفكاهات، ويتحدثوا عن النساء والفتيات وهم يرقبون الأسماك ترتفع من تحتهم وتدور. وبعد بضع ساعات عندما يجتمع السردين - عشرات الآلاف اللألاءة في الأضواء المتكسرة - يحكم الصيادون طرح الشبكة ويأتون بالأسماك إلى القوارب.
وفي طريق العودة إلى الشاطئ يديرون المحركات ويحملون الأسماك إلى تاجر الجملة في السوق قبل بزوغ الفجر، حيث يدفع النقود للرجال والصبيان، ثم يبيع الأسماك في شتى أنحاء غرب سوريا؛ في اللاذقية، وبانياس، ودمشق. ويتقاسم الصيادون النقود، ويعود عبد الرحمن وأحمد بنصيبيهما إلى المنزل. كان والدهما قد توفي قبل عام واحد، وأمهما واهنة، ومن ثم كان كل ما كسباه من صيد السمك ينفق على المنزل الذي كانا يعيشان فيه مع عشرة أشقاء.
ولكن عبد الرحمن وأحمد لم يكونا يوليان المال اهتماما كبيرا، بل كانا على استعداد للقيام بهذا العمل من دون مقابل. •••
وبعد أربع وثلاثين سنة، وعلى مبعدة آلاف الأميال غربا، كان عبد الرحمن زيتون في فراشه صباح يوم جمعة، وقد أخذ يفيق ببطء من حلم أتاه قرب الصباح يحمل شتات ذكرى تلك الليلة غير المقمرة في جبلة. إنه الآن في نيو أورلينز يسمع صوت أنفاس زوجته كاثي الراقدة إلى جواره، ولم تكن زفراتها تختلف عن هسهسة الماء على جوانب القارب الخشبي، وفيما عدا ذلك كان الصمت يسود المنزل، كان يعرف أن الساعة تقترب من السادسة، وأن الهدوء لن يستمر؛ إذ كان ضوء الصباح عادة ما يوقظ الأطفال عندما يصل إلى نوافذهم في الطابق الثاني، كان أحد الأربعة يفتح عينيه، فتبدأ الحركة السريعة، وسرعان ما تعلو الأصوات في المنزل، فما إن يستيقظ أحدهم حتى يستحيل إبقاء الثلاثة الآخرين في الفراش.
وصحت كاثي على صوت رطمة مكتومة في الطابق العلوي، وكان مصدرها غرفة من غرف الأطفال، فأصاخت السمع وهي تدعو الله في نفسها أن يعود الهدوء. كان كل صباح يتسم بفترة دقيقة، ما بين السادسة والسادسة والنصف، تلوح فيها الفرصة، وإن كانت بعيدة الاحتمال، لاستراق بعض النوم ولو عشر دقائق أو خمس عشرة، ولكن صوت الرطمة تلاه صوت رطمة أخرى، ونبحت الكلبة، وتلا ذلك رطمة أخرى. ماذا كان يحدث في هذا المنزل؟ وتطلعت كاثي إلى زوجها فوجدته يحدق في السقف. كان هدير الحياة قد عاد إلى المنزل.
وبدأ رنين التليفون قبل أن يضعا أقدامهما على أرضية الغرفة، وهو ما يحدث في كل يوم، كان زيتون وكاثي يديران شركة للمقاولات المعمارية والطلاء، وكان معظم الناس ينادونه باسم الأسرة «زيتون» لأنهم لا يستطيعون نطق اسمه الأول، وفي كل يوم كان العاملون في الشركة وعملاؤها وجميع من لديهم تليفون ورقم تليفونهما، يتصورون، فيما يبدو، أنه من المناسب أن يتصلوا بهما بمجرد أن تحين السادسة والنصف صباحا، وكانوا يتصلون، وعادة ما كانت المكالمات تكثر في السادسة والنصف تماما إلى الحد الذي يجعل نصفها يتحول إلى جهاز التسجيل الصوتي.
وتولت كاثي الرد على المكالمة الأولى من عميل يقيم في الجانب الآخر من المدينة، بينما انطلق زيتون ليغتسل في الحمام، كان يوم الجمعة دائما يوم ازدحام العمل، ولكن هذا اليوم كان ينذر بالجنون خصوصا بسبب سوء الأحوال الجوية المتوقع؛ إذ كانت الأحاديث المقلقة تتردد طوال الأسبوع عن العاصفة المدارية التي تعبر جزائر فلوريدا الغربية واحتمال اتجاهها شمالا، وعلى الرغم من أن هذا الاحتمال كان يتكرر في شهر أغسطس من كل عام ولم يكن يثير دهشة معظم الناس، فإن عملاء كاثي وزيتون وأصدقاءهما كانوا الأشد حرصا؛ كثيرا ما يتخذون أهبتهم له، وكان المتصلون بالتليفون على امتداد الصباح كله يريدون أن يعرفوا إن كان زيتون سوف يسد الشبابيك والأبواب بألواح خشبية، وإن كان سوف ينتهي من العمل في مبانيهم قبل هبوب الرياح العاصفة، وكان العمال يريدون أن يعرفوا إن كان عليهم القدوم للعمل في ذلك اليوم أو في اليوم التالي.
وأجابت كاثي عن إحدى المكالمات، فبدأت بذكر اسم الشركة «شركة زيتون للمقاولات المعمارية والطلاء» - محاولة أن تبدو يقظة منتبهة. كانت المتحدثة عجوزا تقيم وحدها في منزل فاخر في حي الحدائق، وكانت تسأل إن كان عمال زيتون سوف يأتون لسد نوافذها بألواح خشبية.
وأجابت كاثي: «قطعا، طبعا.» وقدماها تقعان بقوة على أرضية الغرفة، كانت قد استيقظت تماما، كانت كاثي تتولى مهام السكرتارية في الشركة، وإمساك الدفاتر، والمحاسبة، وإدارة العلاقات العامة، باختصار جميع المهام في المكتب، ويتولى زوجها مهام البناء والطلاء، كان التوازن بينهما كاملا، فلما كانت إجادة زيتون للإنجليزية محدودة، وكان لا بد من التفاوض عند عقد الصفقات، كان العملاء يطمئنون عندما يستمعون إلى نبرات كاثي ذات الحروف الممطوطة التي يتميز بها سكان ولاية لويزيانا.
كان ذلك يمثل جانبا من جوانب عمل الشركة، أي مساعدة العملاء على إعداد منازلهم لاتقاء العواصف المتوقعة. ولم تكن كاثي قد شغلت بالها بالعاصفة التي كانت تلك العميلة تتحدث عنها، ولم يكن سقوط بضع الأشجار في جنوب فلوريدا كافيا لشد انتباهها.
وقالت كاثي للمرأة: «سنرسل إليكم بعض العمال عصر اليوم.» •••
كان قد مضى على زواج كاثي وزيتون أحد عشر عاما، وكان زيتون قد أتى إلى المدينة قبل سبعة عشر عاما في عام 1994م، من مدينة هيوستن، ثم باتون روج، وبضع مدن أمريكية أخرى كان قد استطلعها في شبابه، وكانت كاثي قد نشأت وترعرعت في باتون روج وغدت تألف السلوك المعتاد في مواجهة العاصفة؛ تكرر الاستعدادات والانتظار والترقب، وحالات انقطاع الكهرباء، والشموع وكشافات الجيب، والدلاء التي تتجمع فيها مياه الأمطار، وكان للعواصف التي تهب في أغسطس عشرة أسماء أخرى أو أكثر، ونادرا ما كانت أيها جديرة بكل هذه الاستعدادات، وقالت كاثي في نفسها: إن هذه العاصفة التي تسمى «كاترينا» لن تكون مختلفة.
وفي الطابق السفلي كانت نديمة التي تبلغ العاشرة، وهي الثانية من حيث السن بين الأطفال، تساعد في إعداد طعام الإفطار لأختيها الصغريين عائشة وصفية، وكانتا في الخامسة والسابعة من عمريهما على الترتيب، أما زخاري، ابن كاثي من زوجها السابق، وكان في الخامسة عشرة، فكان قد غادر المنزل لمقابلة أصدقائه قبل الذهاب إلى المدرسة. وأخذت كاثي في إعداد وجبات الغداء أثناء جلوس الفتيات الثلاث إلى مائدة المطبخ، وكن يأكلن ويرددن حوارا من مشاهد من فيلم «الكبرياء والهوى» بنبرات بريطانية. كن قد أولعن ولعا شديدا بذلك الفيلم، وكانت نديمة ذات العينين السوداوين قد سمعت به من صديقاتها وأقنعت كاثي بشراء أسطوانة ال «دي في دي» التي تحمله، ومنذ وصوله والفتيات الثلاث يشاهدنه كثيرا، بل كل ليلة على مدى أسبوعين. وعرفن كل شخصية وحفظن كل كلمة وتعلمن كيفية التظاهر بالإغماء مثل العذارى الأرستوقراطيات. كان ذلك أسوأ ما حدث لهن منذ أن شاهدن مسرحية «شبح الأوبرا»؛ إذ شعرن آنذاك بالحاجة إلى غناء كل أغنية، في المنزل، أو في المدرسة، أو على السلم الكهربائي في المركز التجاري بأعلى صوت.
لم يكن زيتون واثقا بأي الحالتين كانت أسوأ. وعندما دخل المطبخ وشاهد بناته ينحنين ويؤدين تحيات المجاملات ويحركن مراوح وهمية في أيديهن، قال في نفسه: «إنهن على الأقل لا يغنين»، وأخذ وهو يصب لنفسه كوبا من عصير البرتقال يرقب هؤلاء الفتيات في حيرة، كان قد نشأ في سوريا وكانت له سبع أخوات، لم تكن أيهن تعشق الدراما هذا العشق، كانت بناته يحببن اللعب والتظاهر بالشجن، دائمات الرقص في أرجاء المنزل، يتواثبن من فراش لفراش، وينشدن الأغاني بأصوات تتكلف التهدج، ويتظاهرن بالإغماء. كان ذلك ولا شك بتأثير من كاثي. كانت في الواقع تنتمي بروحها إليهن، فهي مرحة ذات طبع طفولي في سلوكها وأذواقها، مثل الولع بألعاب الفيديو، وروايات هاري بوتر، وموسيقى البوب المحيرة التي يستمعون إليها. وكان واثقا بأنها مصممة على أن تهيئ لهن فترة طفولة هانئة تختلف عما مرت به هي. •••
قالت كاثي لزوجها: «أهذا كل ما تفطر به؟!» إذ شاهدته يلبس حذاءه استعدادا للخروج، كان متوسط الطول، قوي البنية في السابعة والأربعين. أما كيف احتفظ بوزنه فكان لغزا؛ إذ يمكن ألا يتناول إفطارا، ويكتفي بلقيمات في الغداء، ولا يكاد يلمس طعام العشاء، وهو يعمل اثنتي عشرة ساعة كل يوم بنشاط لا يتوقف، ومع ذلك لم يتذبذب وزن جسمه قط. وكانت كاثي تعرف على مدى العقد الماضي أن زوجها ينتمي إلى نوع من الرجال الذين يتميزون بصلابة لا تفسير لها، والاكتفاء الذاتي، وعدم الحاجة إلى شيء أبدا، والعيش على الماء والهواء، من دون أن يصيبه ضرر أو مرض، ومع ذلك كانت تعجب له كيف يقيم أوده! كان يمر في المطبخ ويقبل الفتيات في رءوسهن.
وقالت كاثي: «لا تنس تليفونك.» حين لمحته فوق فرن الميكروويف.
ورد قائلا، وهو يضعه في جيبه: «ولماذا أنساه؟!» - «وإذن أنت لا تنسى شيئا؟» - «مطلقا!» - «هل تزعم حقا أنك لا تنسى شيئا؟» - «بل أزعم ذلك. هذا ما أقوله.»
لكنه ما إن نطق الكلمات حتى أدرك أنه أخطأ.
وقالت كاثي ضاحكة: «نسيت بنتنا البكر!» كان يدرك أنه وقع في الفخ بقدميه، وابتسمت الصغيرات لوالدهن، كن يعرفن القصة خير المعرفة.
وقال زيتون في نفسه: «إنه من الظلم أن تؤدي هفوة واحدة في أحد عشر عاما إلى توفير الذخيرة لزوجته حتى تغيظه بها طوال حياته.» لم يكن النسيان من طبع زيتون، ولكنه إذا حدث ونسي شيئا، أو إذا حاولت كاثي أن تثبت أنه نسي شيئا، لم يكن عليها إلا أن تذكره بالوقت الذي نسي فيه نديمة؛ إذ كان قد نسيها. لم ينسها فترة طويلة، ولكنه نسيها يوما ما.
كانت نديمة قد ولدت يوم 4 من أغسطس، في الذكرى السنوية الأولى لزفافهما، وكان المخاض شديد الوطأة، وفي اليوم التالي، وبعد أن عادا إلى المنزل، قام زيتون بمساعدة كاثي على الخروج من السيارة وأغلق الباب المجاور للراكب، ثم حمل نديمة وكانت لا تزال في كرسي الرضع بالسيارة، وبدأ عند ذلك في حمل الطفلة في إحدى يديه قابضا على ذراع زوجته باليد الأخرى. وكان الدرج الموصل إلى الطابق الثاني قريبا من باب الدخول، وكانت كاثي تحتاج إلى المساعدة على الصعود، فساعدها زيتون في صعود الدرجات العالية، وكاثي تئن وتتأوه أثناء ذلك، حتى وصلا إلى غرفة النوم، حيث انهارت كاثي على الفراش والتحفت بالأغطية. كان إحساسها بالراحة يصعب التعبير عنه لفظا أو معنى لعودتها إلى المنزل حيث تستطيع الاسترخاء مع رضيعتها.
ورفعت كاثي ذراعيها إليه قائلة: «أعطها لي!»
وألقى زيتون نظرة على عروسه، دهشا من فتنة جمالها الأثيري؛ إذ كانت بشرتها مشرقة وضاءة، وعيناها يلوح فيهما الإرهاق. ثم سمع ما قالته: «الطفلة!» كانت بطبيعة الحال تريد الطفلة، فاستدار ليعطيها الطفلة، لكنه لم يجدها، لم تكن الطفلة تحت قدميه ولم تكن في الغرفة. لم تكن الطفلة بالغرفة!
وقالت كاثي: «أين هي؟!»
وشهق زيتون شهقة سريعة قائلا: «لا أدري!»
وصرخت بصوت عال: «أين الطفلة يا عبده؟!»
وأصدر زيتون صوتا، ما بين الشهقة والصرخة، وانطلق يجري خارجا من الغرفة، وأسرع نازلا الدرج فخرج من الباب الأمامي ورأى كرسي السيارة فوق الكلأ، كان قد نسي الطفلة في الفناء. نسي الطفلة في الفناء! كان كرسي السيارة يواجه الشارع. لم يلمح أولا وجه نديمة، فأمسك بالمقبض وأدار الكرسي الصغير تجاهه وعندما شاهد الوجه الضئيل للصغيرة التي لا تدري شيئا، مكورة ونائمة، ومسها بأصابعه لقياس حرارتها، ولكنها كانت على ما يرام.
وحمل كرسي السيارة إلى الطابق العلوي، وسلم نديمة إلى كاثي، وقبل أن يتيح لها الفرصة لتوبيخه، أو للتفكه مما حدث، أو طلب الطلاق، انطلق هابطا الدرج بسرعة وخرج يمشي وحده. كان يحتاج إلى السير وحيدا ذلك اليوم، بل احتاج إليه في أيام كثيرة تالية؛ حتى يفهم ما فعل ولماذا فعله، أي كيف نسي طفلته وهو يساعد زوجته؟! ما أصعب أن يقوم المرء بالأمرين، أي أن يكون شريكا لطرف وحاميا للطرف الآخر. ما سبيل الموازنة بينهما؟ وقضى سنوات طويلة يتأمل ذلك اللغز.
وأما اليوم، والجميع في المطبخ، فقد قرر زيتون ألا يتيح الفرصة لكاثي حتى تعيد رواية القصة من جديد أمام أطفالهما، فلوح بيده مودعا.
وتعلقت عائشة بساقه صائحة: «لا تخرج يا بابا!» كانت تحب الحركات المسرحية، وكانت كاثي تسميها «دراما راما»، وأدى فيلم «الكبرياء والهوى» إلى زيادة هذه النزعة سوءا.
كان ذهنه مشغولا بالعمل الذي ينتظره ذلك النهار، وكان يشعر بأنه قد تأخر في الخروج، ولما تتجاوز الساعة السابعة والنصف.
وألقى زيتون بصره على عائشة، وأمسك بوجهها بين كفيه، وابتسم لمرأى كمال الحسن في عينيها الدكناوين الدامعتين، ثم فصلها عن ساقه كأنما يخلع سروالا مبللا، ولم تمض ثوان معدودة حتى كان يقف في مدخل المنزل أمام الشاحنة، ويقوم بتحميلها بلوازمه.
وخرجت عائشة لمساعدته، وجعلت كاثي ترقبهما وهي تتأمل معاملته للصغيرات. كان من العسير وصف ذلك؛ إذ لم يكن من الآباء الذين يسرفون في إبداء الحب لأطفالهم، ومع ذلك لم يعترض يوما على تواثبهن فوقه ولا على الإمساك به. كان حازما واثقا بنفسه، ولكنه كان يجد في ذلك التسرية الكافية فيتيح لهن «المساحة» التي يطلبنها، ويجد في نفسه من المرونة ما يكفي لقيامهن باستغلاله إذا دعت الحاجة إلى ذلك، بل إنه حتى إذا تكدر من أمر ما، فإنه يخفي الكدر خلف قناع عينيه بلونهما الأخضر العسلي وأهدابهما الطويلة. وعندما قابل كاثي أول مرة كان يكبرها بثلاثة عشر عاما، ومن ثم لم يكن مرشحا فورا للزواج منها، ولكن هاتين العينين اللتين كانتا تشعان ذلك الضوء الغريب استولتا عليها. كانتا حافلتين بالأحلام، ولكنهما ثاقبتا البصر أيضا، قادرتان على التقدير الصائب ؛ كانتا عيني مقاول ناجح. كان يلقي نظرة على مبنى أخنى عليه الدهر ويستطيع أن يرى بعين خياله فورا ما يمكن أن يتحول إليه، وإلى جانب ذلك يحدد استنادا على معرفته العملية التكاليف المطلوبة والزمن اللازم لإجراء الإصلاحات.
وقامت كاثي بإحكام الحجاب الذي تلبسه، وهي تنظر في زجاج النافذة الأمامية، فأدخلت الشعرات الخارجة منه - وكانت هذه عادة تلقائية - وهي ترقب زيتون أثناء انطلاقه بالسيارة من مدخل المنزل إلى الشارع، ومن خلفه سحابة رمادية تتلوى في الجو، وقالت في نفسها لقد آن الأوان لشراء شاحنة جديدة. كانت الشاحنة التي يملكانها تشبه دابة بيضاء متهالكة، طالت بها المعاناة ولكن يعتمد عليها، وقد غصت بالسلالم والأخشاب، وتصدر قعقعة بسبب ما تناثر هنا وهناك من مسامير لولبية وفراجين، وعلى جانب الشاحنة يعلو رمز الشركة الذي لا يختلف من مكان لمكان، وتحته الاسم الرسمي «شركة زيتون للمقاولات المعمارية والطلاء»، وأما الرمز فكان فرجون طلاء أسطواني الشكل مرتكنا إلى ذيل قوس قزح، كان الرمز مبتذلا ولا شك ولكنه كان يصعب نسيانه، فكان كل من في المدينة يعرفه؛ إذ كان يظهر فوق محطات الأوتوبيس، ولافتات المتنزهات وأرائكها، وكان شائعا في مدينة نيو أورلينز شيوع أشجار البلوط ونبات السرخس، ولكنه في البداية لم يكن بشير خير على الإطلاق.
لم يكن زيتون يدري عندما وضع تصميم ذلك الرمز للمرة الأولى أن لافتة تحمل رسما لقوس قزح عليها يمكن أن تعني أي شيء لأي شخص، باستثناء رمزية الألوان والصبغات المتعددة التي يستطيع العملاء أن يختاروا ما يشاءون منها، ولكن سرعان ما أصبح يدرك هو وكاثي دلالة ذلك الرمز المضمرة.
الواقع أنهما ما إن وضعا ذلك الرمز حتى بدآ يتلقيان مكالمات من أزواج من ذوي الميول الجنسية المثلية، ولم يكن في ذلك بأس على الإطلاق؛ إذ يبشر بازدهار العمل، ولكنهما لاحظا في الوقت نفسه أن بعض من يطلبونهما لأداء العمل كانوا يرفضون التعامل مع شركة زيتون للمقاولات المعمارية والطلاء بمجرد وصول الشاحنة إلى منازلهم. كما بدأ بعض العمال يتركون العمل بالشركة ظانين أن العمل بها سوف يؤدي إلى تصور أنهم من ذوي الميول المثلية، أو أن الشركة كانت تقتصر بصورة ما على تشغيل ذوي الميول المثلية.
وعندما أدرك زيتون وكاثي أخيرا الصلة بين قوس قزح وقوة دلالة ذلك الرمز، ناقشا الأمر مناقشة جادة، وتساءلت كاثي إن كان زوجها يريد أن يغير تصميم الرمز حتى يتحاشى إساءة تفسيره؛ إذ لم يكن لديه أصدقاء أو أقارب مثليون.
ولكن زيتون لم يبد أدنى اهتمام بالتغيير، قائلا إن ذلك يتكلف أموالا طائلة، بعد أن أعد ما يقرب من عشرين لافتة، ناهيك عن البطاقات التجارية والأدوات الكتابية التي تحمل ذلك الرمز نفسه، أضف إلى ذلك أن جميع عملائهما الجدد كانوا يدفعون فواتيرهم. لم تكن المسألة تزيد في بساطتها على ذلك.
وقال زيتون ضاحكا: «تأملي الأمر جيدا؛ نحن زوجان مسلمان ندير شركة للطلاء في لويزيانا، وليس من المستحسن تنفير العملاء.» فإذا كان البعض سوف يصعب عليه قبول قوس قزح، فلا بد أن يصعب عليه قبول الإسلام.
وهكذا استمر قوس قزح يشغل مكانه في رمز الشركة.
توقفت شاحنة زيتون في شارع إيرهارت، وإن كان جانب من ذهن الرجل ما زال في جبلة. كان كلما اعتادته هذه الخواطر الصباحية فتذكر طفولته، قضى فترة ما في التساؤل عن أحوال أهله جميعا في سوريا، عن كل إخوته وأخواته وأقاربه المنتشرين في كل مكان على الساحل، وعن غيرهم الذين رحلوا من هذا العالم من وقت طويل. كانت والدته قد توفيت بعد سنوات قليلة من رحيل والده، كما فقد أخا يعتز كثيرا به واسمه محمد في مقتبل عمره، ولكن باقي أشقائه الذين كانوا لا يزالون في سوريا، وإسبانيا، والمملكة العربية السعودية كانوا بخير حال، بل كانت أحوالهم مزدهرة بصورة فذة.
كانت عشيرة زيتون ذات منجزات رفيعة؛ إذ تحفل بالأطباء، ومديري المدارس، وكبار ضباط الجيش، ورجال الأعمال، ولكل منهم غرام مشبوب بالبحر؛ إذ نشأ الجميع وترعرعوا في منزل حجري ضخم على ساحل البحر المتوسط، ولم يبتعد أحد منهم كثيرا عن البحر. وكتب زيتون في مفكرته إشارة إلى ضرورة الاتصال بأهله في ذلك اليوم. كان يولد في كل يوم أطفال جدد، بحيث لم تنقطع الأخبار قط. لم يكن عليه إلا أن يتصل بأحد إخوته أو أخواته - وكان سبعة منهم لا يزالون في سوريا - حتى يحيط بكل ما يريد أن يعرفه.
وأدار زيتون مفتاح الراديو ليسمع الأنباء، كانت العاصفة التي يتحدث الناس عنها لا تزال بعيدة في فلوريدا، وتنتقل ببطء إلى الغرب، ولم يكن من المتوقع لها أن تعبر الخليج إلا بعد بضعة أيام أخرى، هذا إذا قدر لها أن تعبره، وعندما مضى بالشاحنة إلى أول عمل من أعمال اليوم، ألا وهو ترميم قصر رائع عتيق في حي الحدائق، حرك مؤشر الراديو بحثا عن شيء آخر، أي شيء. •••
تطلعت كاثي وهي واقفة في المطبخ إلى الساعة، وشهقت. كان من النادر أن تصحب الأطفال إلى المدرسة في الموعد المحدد، وكانت تعمل على حل تلك المشكلة، أو تنتوي العمل على حل تلك المشكلة عندما يهدأ العمل في ذلك الفصل من العام. كان الصيف أكثر فصول العام انشغالا للشركة، فكثير من الناس يرحلون هاربين من الحرارة والرطوبة، طالبين من الشركة طلاء بعض الغرف أو مدخل المنزل في أثناء غيابهم.
وأخذت كاثي تحث الأطفال على الإسراع بكلامها وحركات يديها حتى اصطحبتهم حاملين معداتهم المدرسية إلى الشاحنة الصغرى، وانطلق الجميع عبر نهر المسيسيبي إلى الضفة الغربية.
كانت لمشاركة زيتون وكاثي العمل في الشركة مزايا كثيرة، بل فوائد جمة لا تعد ولا تحصى، ولكن المثالب كانت واضحة وتزداد باطراد، كانا يقدران أرفع تقدير أن ذلك العمل يتيح لهما تحديد ساعات العمل، واختيار عملائهما وأشغالهما، والقدرة على الوجود في المنزل كلما دعت الحاجة على ذلك؛ إذ إن قدرتهما على الحضور والاستجابة لأي شيء يتعلق بأطفالهما في أي وقت كانت دائما مصدرا للارتياح العميق، ولكن عندما كان الأصدقاء يسألون كاثي إن كان من المستحب أن يبدءوا هم أيضا أعمالهم الخاصة، كانت تنصحهم بألا يفعلوا ذلك قائلة لهم: «إن صاحب العمل لا يدير عمله، بل إن العمل هو الذي يديره ويتحكم فيه.»
كان زيتون وكاثي يجدان في عملهما جدا يزيد على جد أي شخص يعرفانه، ولم يكن تبدو للعمل وللقلق نهاية. ليلا، وفي عطلة نهاية الأسبوع، والعطلات، لم يكن للراحة أي مجال، وكانا في العادة يقومان في الوقت نفسه بثمانية أعمال أو عشرة، ويتوليان الإشراف على ذلك من مكتب منزلي ومساحة للتخزين في شارع دبلن، المتفرع من طريق كارولتون، ناهيك بجانب العمل المتمثل في إدارة عقاراتهما، فقد حدث في وقت ما أن بدآ يشتريان المباني، والشقق والمنازل، وأصبح الآن لديهما ستة عقارات يقيم فيها ثمانية عشر مستأجرا. وكان كل مستأجر يعتبر من زاوية أخرى شخصا يعتمد عليهما، شخصا آخر يسهران عليه، ويوفران له المأوى، والسقف الذي يحميه، وأجهزة تكييف الهواء، والماء النظيف، كان الواقع يقول إن النجاح أتى معه بضرورة التعامل مع عدد مذهل من الأفراد بعضهم يتقاضى أجرا وبعضهم يدفع الإيجار، ومنازل تحتاج إلى التحسين والصيانة، وفواتير تتطلب السداد، وفواتير مطالبة بالدفع، ومعدات تشترى وتوضع في المخزن.
ولكنها كانت تعتز بما آلت إليه حياتها، وبالأسرة التي شاركت زيتون في تكوينها، كانت تسير بالسيارة الآن مع بناتها الثلاث في الطريق إلى المدرسة، وكان إدخالهن مدرسة خاصة، والاطمئنان إلى التحاقهن بالجامعة، وتوافر كل ما يحتاجون إليه وزيادة، يدفعها إلى أن تلهج بالشكر في كل لحظة وكل يوم.
كانت كاثي بنتا من تسعة أطفال، وكانت قد نشأت وترعرعت بأقل القليل، وكان زيتون الأخ الثامن بين ثلاثة عشر طفلا، كما نشأ وترعرع على ما يقترب من العدم، ولكن انظر إليهما الآن، انظر إلى ما استطاعا بناءه! لقد استطاعا بناء أسرة مديدة، وعمل بارز النجاح، واستطاعا الاندماج التام في مجتمع المدينة التي اتخذاها وطنا حتى أصبح لهما أصدقاء في كل حي، وعملاء في كل عمارة تقريبا يمران بها، وكانت هذه جميعا من نعم الله عليهما.
كيف يمكنها مثلا أن تتجاهل نديمة؟ كيف تأتى لهما أن ينجبا مثل هذه الطفلة البالغة الذكاء، الواثقة بنفسها، المؤمنة بالواجب، الحريصة على مد يد العون ، والمتقدمة ذهنيا على عمرها بمراحل؟ كانت فيما يبدو الآن في عداد الكبار، وكان حديثها قطعا ينم عن النضج؛ إذ كثيرا ما تبدي فيه من الدقة والحذر ما يزيد على ما يفعل والداها. وألقت كاثي نظرة إليها وهي تجلس الآن في مقعد الراكب بجوارها تلعب بالراديو، كانت تمتاز دائما بسرعة البديهة، فعندما كانت في الخامسة من عمرها وحسب، لا أكبر من خمسة أعوام، عاد زيتون ذات يوم إلى المنزل لتناول الغداء فوجد نديمة تلعب على أرضية الغرفة، ورفعت بصرها إليه وقالت: «أريد أن أصبح راقصة يا أبي!» وخلع زيتون حذاءه وجلس على الأريكة، ثم قال وهو يدلك قدميه: «في المدينة عدد أكبر مما ينبغي من الراقصات، ولكننا نحتاج إلى أطباء، وإلى محامين، وإلى معلمين. أريدك أن تصبحي طبيبة حتى تعتني بصحتي.» وفكرت نديمة فيما قاله لحظة ثم رددت قائلة: «لا بأس! إذن أكون طبيبة!» وعادت إلى كراس الرسم وتلوين الصور. وبعد دقيقة واحدة هبطت كاثي من الطابق العلوي بعد أن شاهدت الفوضى في غرفة نوم نديمة، فقالت لها: «نظفي غرفتك يا نديمة.» لم تجفل نديمة، ولم ترفع بصرها عن كراس الرسم، بل قالت: «لن أنظفها يا ماما، سوف أصبح طبيبة، والأطباء لا يقومون بالتنظيف!»
بينما كانت السيارة تقترب من المدرسة رفعت نديمة صوت الراديو؛ إذ التقطت أذناها خبرا عن العاصفة المقبلة. لم تكن كاثي تصغي باهتمام كبير؛ إذ بدا لها أن نبرات التحذير المبكر المزعجة تتكرر ثلاث مرات أو أربعا في كل موسم، منذرة بهبوب الأعاصير المتجهة مباشرة نحو المدينة، ودائما ما كان اتجاهها يتغير، أو تهبط سرعة الريح في فلوريدا أو فوق الخليج، فإذا قدر للعاصفة أن تصيب مدينة نيو أورلينز على الإطلاق فسوف تكون شدتها قد تناقصت كثيرا، فلا تلبث إلا يوما يسوده الغيوم وتهب فيه الرياح المتربة وتسقط فيه الأمطار.
ولكن المذيع كان يتحدث في الراديو الآن عن العاصفة المتجهة إلى داخل خليج المكسيك بقوة من الدرجة الأولى، وفي موقع يبعد نحو 45 ميلا إلى الشمال الغربي من جزيرة «كي ويست »، وهي في أقصى غرب جزر فلوريدا. وكان المذيع يقول إن العاصفة تتجه غربا. وأغلقت كاثي الراديو، فلم تكن تريد للأطفال أن يقلقوا.
وسألت نديمة: «تظنين أنها سوف تصيبنا؟»
وردت كاثي قائلة إنها لا ترى للأمر أهمية، فمن ذا الذي عساه أن يقلق إزاء عاصفة من الدرجة الأولى أو الثانية؟ وأخبرت نديمة أنها ليست بشيء على الإطلاق، ثم ودعت الأطفال بالقبلات عند المدرسة.
وعندما سمعت كاثي انصفاق أبواب السيارة الثلاثة انتابها شعور مباغت وقاطع بالوحدة. وفي أثناء عودتها بالسيارة من المدرسة فتحت الراديو من جديد. كان مسئولو المدينة يقدمون التوصيات المعهودة بتخزين المؤن الكافية لاستهلاك ثلاثة أيام، وكان زيتون دائما ما يعمل حسابا لذلك. ثم إذا بالمذيع يتحدث عن رياح سرعتها 110 أميال في الساعة، إلى جانب الأمواج العالية التي أثارتها العاصفة في الخليج.
وأغلقت الراديو ثانية، وطلبت زيتون على تليفونه الخلوي.
وسألته: «هل سمعت عن هذه العاصفة؟»
فقال: «أسمع أشياء مختلفة».
وعادت تسأل: «هل تظن أنها خطيرة؟»
ورد قائلا: «حقا؟ لا أعرف.»
كان زيتون قد أعاد ابتكار تعبير «حقا» فجعله يسبق عددا كبيرا من عباراته، كأنما كان التعبير عوضا عن النحنحة. فإذا سألته كاثي أي سؤال أجابها: «حقا، إنها مسألة عجيبة.» كان قد اشتهر بحكاياته المسلية، والأمثال المألوفة في سوريا، والمقتطفات من القرآن، والقصص المستقاة من أسفاره حول العالم. وكانت كاثي قد اعتادت ذلك كله، فيما عدا تعبير «حقا»، وإن كانت قد كفت عن معارضتها. كانت بالنسبة إليه مثل استهلال عبارة بالحشو كتعبير «أتعرف؟» أو «فلأقل لك شيئا». كان قائلها زيتون، وكان لا بد أن تجد فيها سببا للإعزاز.
وأردف قائلا: «لا تقلقي. هل الأطفال في المدرسة؟»
وردت قائلة: «لا، بل في البحيرة! يا ربي!»
كان الرجل مهووسا بالمدرسة، وكانت كاثي تحب أن تغيظه بذلك وبعدة أشياء أخرى. كان زيتون وكاثي يتحادثان تليفونيا عدة مرات في أثناء النهار، حول كل شيء؛ عن الطلاء، عن العقارات المؤجرة، وعما ينبغي إصلاحه، وعمله، والإتيان به، وكثيرا ما لا يزيد موضوع المكالمة على تبادل التحية والسلام. كان الهزل الذي ابتدعاه تشيع فيه نبرات ضيق صدره وأحاديثها المقتضبة، وكان مصدر تسلية لكل من يستمع إليه خلسة. وكان ذلك أيضا محتوما نظرا إلى تعدد محادثاتهما معا كل يوم، ونظرا إلى ضرورة توصيل المعلومات الزاخرة بأقصى سرعة. لم يكن أحدهما يستطيع من دون الآخر إدارة منزلهما، أو شركتهما، أو حياتهما، أو أيامهما.
وكانت كاثي دائما ما تندهش لقدرتهما على تحقيق مثل هذا التكامل؛ إذ كانت قد نشأت باعتبارها من أتباع طائفة المعمدانية الجنوبية في ضاحية من ضواحي مدينة باتون روج، ودأبت على أن تحلم بالرحيل (والواقع أنها رحلت بمجرد الانتهاء من مرحلة الدراسة الثانوية) وبإدارة مركز للرعاية النهارية للأطفال. وها هي ذي قد اعتنقت الإسلام، وتزوجت من أمريكي سوري، وتدير شركة لا تفتأ تتضخم للطلاء والمقاولات المعمارية، وعندما قابلت كاثي زوجها، كانت في الحادية والعشرين وكان في الرابعة والثلاثين، وينتمي إلى بلد لا تكاد تعرف عنه شيئا. كانت تتعافى من آثار زواج غير ناجح، وكانت قد اعتنقت الإسلام مؤخرا، ولم تكن تهتم أدنى اهتمام بالزواج من جديد، ولكنها اكتشفت أن زيتون كان يمثل كل ما لم تصدق وجوده في البشر؛ كان رجلا أمينا، أمينا إلى النخاع، جادا مجتهدا، صادقا، يعتمد عليه، مخلصا لأسرته. وكان أفضل ما فيه أنه كان يريد لكاثي أن تكون من كانت تريد أن تكونه، وعلى الحال التي أرادتها تماما، لا أكثر ولا أقل.
ولكن ذلك لم يكن يعني عدم نشوب بعض نوبات القلق، وهو التعبير الذي كانت كاثي تطلقه عليها، وتعني به مجادلاتهما العنيفة حول كل شيء؛ من الطعام الذي سيتناوله الأطفال في الغداء، إلى إذا ما كان عليهما تكليف وكالة لتحصيل الديون المتراكمة على أحد العملاء.
وكانت تقول لأطفالها: «نحن قلقون وحسب.» عندما كانوا يستمعون لتلك المجادلات بينهما. ولم تكن كاثي تملك أن تتحاشى ذلك؛ فهي تهوى الكلام ولا تستطيع كتمان شيء في نفسها. وقالت لعبده في الأيام الأولى لعلاقتهما إنها سوف تفصح عن رأيها دائما، ولم يفعل سوى أن هز كتفيه إذ كان يقبل ذلك، كان يعرف أنها كانت تحتاج أحيانا إلى التنفيس عن نفسها، وكان يسمح لها بذلك، وكان في هذه الأثناء يومئ صابرا، وأحيانا يشعر بالامتنان لأن لغته الإنجليزية لن تسعفه بسرعة استخدامها للغة، فبينما يبحث عن الكلمات المناسبة للرد عليها تستمر هي في الكلام، وكثيرا ما يحدث أن يكتشف أنها عندما تنتهي تكون قد شعرت بالإرهاق فسكتت، ولم يعد لديها أو لديه شيء يقال.
وعلى أي حال، فكلما شعرت كاثي بأنها سوف تجد أذنا صاغية، بل صاغية إلى النهاية، كان ذلك يخفف من حدة المجادلات، وهكذا، أصبحت مناقشاتهما أقل حماسة، وكثيرا ما كانت أقرب إلى إثارة الضحك، ولكن الأطفال، خصوصا في سنيهم الأولى، لم يكونوا يدركون الفرق.
وقبل سنوات، أثناء وجودهم في السيارة، نشبت مجادلة عنيفة حول أمر ما، فاعترضت نديمة وهي جالسة في مقعد السيارة الخلفي وحزام الأمان مربوط حولها؛ إذ شعرت بأنها لم تعد تطيق ما تسمع. هتفت قائلة: «تلطف في الحديث مع أمي يا أبي.» ثم خاطبت كاثي قائلة: «تلطفي في الحديث مع أبي يا أمي.» وتوقف زيتون وكاثي فورا، وتبادلا النظرات، ثم نظرا معا وفي الوقت نفسه إلى نديمة الصغيرة، كانا يعرفان سلفا أنها ذكية، ولكن الأمر الآن مختلف، لم تكن إلا في الثانية من عمرها!
بعد أن انتهت مكالمتها مع زيتون، فعلت كاثي ما كانت تعرف أنه خطأ؛ لأن العملاء يريدون ولا شك أن يتصلوا بها وينتظرون أن يستطيعوا مكالمتها ذلك الصباح، لكنها فعلت ما كانت تقدم كثيرا على فعله؛ أغلقت تليفونها المحمول، بعد أن غادر الأطفال السيارة وبدأت العودة إلى المنزل، لم يكن لها دافع سوى أن تهنأ بالعزلة ثلاثين دقيقة أثناء رحلة العودة - كان ذلك ترفا باهظا، ولكنه كان ضروريا. كانت تحدق في الطريق، وفي صمت تام، دون أن يخطر لها خاطر على الإطلاق. كانت تعرف أن اليوم سيكون طويلا، إذ لن تتوقف عن العمل حتى يأوي الأطفال إلى الفراش، ولذلك أباحت لنفسها هذا السرف. ألا وهو فسحة لمدة ثلاثين دقيقة من الصفاء والسكينة، لا يقطعها مقاطع.
وفي الطرف الآخر من المدينة، كان زيتون يتابع أولى مهام ذلك النهار، كان مولعا بذلك المكان، ذلك المنزل الجليل العتيق في حي الحدائق، وكان قد أرسل عاملين من شركته للقيام بالعمل فأراد التوقف للاطمئنان على وجودهما وانهماكهما في العمل وعدم احتياجهما لأي شيء، فصعد الدرج وثبا وخطا مسرعا داخل المنزل الذي كان قد بني منذ 120 عاما على الأقل.
وشاهد إميل، وهو دهان ونجار من نيكاراجوا، منحنيا يلصق شريطا على بعض أخشاب الأرضية، فتسلل خلفه وقبض على كتفيه فجأة، فانتفض إميل واقفا وضحك زيتون.
لم يكن واثقا بشأن ما الذي يدفعه إلى أن يفعل مثل هذه الأشياء، ولم يكن من اليسير تفسير ذلك، كان أحيانا يجد نفسه يميل إلى اللهو، ولم يكن العمال الذين يعرفونه خير المعرفة يدهشون لذلك، ولكن العمال الجدد كانوا ينزعجون ظانين أن سلوكه لون غريب من أساليب دفعهم إلى العمل.
وتمكن إميل من رسم بسمة على شفتيه.
وفي غرفة الطعام، كان ماركو منهمكا في طلاء الجدار بطبقة ثانية، وكان أصلا من السلفادور، وكان الاثنان، ماركو وإميل، قد تقابلا في الكنيسة، وانطلقا يبحثان عن العمل باعتبارهما فريقا من عمال طلاء المنازل. وذات يوم مرا بموقع من المواقع التي يعمل فيها زيتون، ولما كانت لديه في كل الأوقات تقريبا أعمال أكبر من طاقته، قرر استخدامهما. كان ذلك منذ ثلاث سنوات، ومنذ ذلك الحين وماركو وإميل يعملان لديه.
وإلى جانب استخدام عدد من أبناء مدينة نيو أورلينز، كان زيتون قد استأجر عمالا من كل مكان؛ من بيرو، والمكسيك، وبلغاريا، وبولندا، والبرازيل، وهندوراس، والجزائر. وكانت له خبرات عميقة مع معظمهم، وإن كان معدل ترك العمال وتعيين عمال جدد في شركته أعلى من المتوسط. كان كثيرون من عماله مؤقتين؛ إذ لا يعتزمون إلا قضاء أشهر معدودة في البلد قبل العودة إلى أسرهم. وكان يسعده استئجار هؤلاء الرجال، كما تعلم قدرا معقولا من اللغة الإسبانية في خلال ذلك، ولكن كان عليه الاستعداد لرحيلهم دون إخطار بموعد الرحيل بمدة كافية. وكان بعض العمال الآخرين مجرد صبية لا يتحملون المسئولية ويعيشون للحاضر فقط، ولم يكن يلومهم؛ فلقد كان يوما ما شابا لا يرتبط بشيء هو الآخر، ولكنه حاول، كلما أتيحت له الفرصة، أن يغرس فيهم إدراكه بأن التعقل وادخار عدة دولارات كل أسبوع كفيل بتوفير معيشة طيبة لهم، وتمكينهم من تكوين أسرة اعتمادا على هذا اللون من العمل. ولكنه نادرا ما كان يقابل شابا يقوم بهذا العمل ويعمل حسابا للمستقبل، كان مجرد توفير الطعام والملبس لهم، ومطاردتهم حين يتأخرون أو يتغيبون جهدا مرهقا، وأحيانا ما يثبط الهمة، كان أحيانا ما يشعر بأنه لا يعول أربعة أطفال فقط بل عشرات، معظمهم ذوو أيد ملطخة، وشوارب تحمل آثار الطلاء. •••
ورن جرس التليفون، ونظر إلى اسم المتحدث في الشاشة ورد عليه.
وقال زيتون بالعربية: «أحمد، كيف حالك؟»
كان أحمد الأخ الأكبر لزيتون وأقرب أصدقائه، وكان يحادثه من إسبانيا، حيث يقيم مع زوجته وطفليه اللذين كانا في مرحلة الدراسة الثانوية، وكان الوقت قد تأخر عند أحمد، الأمر الذي جعل زيتون يخشى أن تكون لدى أخيه أخبار خطيرة.
وسأله زيتون: «ماذا حدث؟!»
فقال أحمد: «إنني أتابع أنباء العاصفة.»
فقال زيتون: «لقد أفزعتني!»
ورد أحمد: «لا بد أن تفزع! فالعاصفة هذه المرة خطر حقيقي!»
وعلى الرغم من تشكك زيتون فقد أصغى بانتباه. كان أحمد ربان سفينة، وظل يقوم بهذا العمل على امتداد السنوات الثلاثين الماضية؛ إذ يتولى قيادة ناقلات البترول وسفن الركاب في كل بحر أو محيط، وكانت لديه معرفة وثيقة بالعواصف، وباتجاهاتها وقوتها. وكان زيتون في صباه قد صحبه في عدد من هذه الرحلات؛ إذ إن أحمد الذي يكبر زيتون بتسع سنوات قد ألحقه بالعمل في طاقم البحارة، فصحبه إلى اليونان ولبنان وجنوب أفريقيا، كما كان زيتون قد مارس العمل بالسفن من دون اصطحاب أحمد أيضا، فشاهد معظم بلدان العالم، مولعا بالتجوال، على مدى سنوات عشر، انتهت به إلى مدينة نيو أورلينز آخر الأمر وحياته مع كاثي.
وطقطق أحمد لسانه قائلا: «إنها تبدو حقا غير عادية، فهي ضخمة وتتحرك ببطء، وأنا أراقبها الآن على القمر الصناعي.»
وكان لأحمد غرام مشبوب بالتكنولوجيا، وكان يولي أحوال الجو اهتماما وثيقا، وخصوصا العواصف الناشئة، سواء في وقت فراغه أو في أثناء عمله. وكان آنذاك في منزله بمدينة مالقة، تلك المدينة الساحلية على الشاطئ الإسباني للبحر المتوسط، جالسا في مكتبه الغاص بالمعدات، يتابع مسير العاصفة عبر ولاية فلوريدا.
وتساءل أحمد: «هل بدءوا إجلاء السكان؟»
وقال زيتون: «لم يبدأ ذلك رسميا، ولكن البعض يرحلون.» «وكاثي والأطفال؟»
وأخبره زيتون بأنهم لم يفكروا في الأمر بعد.
وتأوه أحمد قائلا: «لم لا ترحلون ولو طلبا للسلامة وحسب؟»
وأصدر زيتون صوتا في التليفون لا يفصح عن القطع بشيء.
فقال أحمد: «سأطلبك في وقت لاحق.»
وغادر زيتون المنزل وسار على قدميه إلى حيث يجرى العمل في منزل آخر قريب. كانت الأمور تسير كثيرا على هذا المنوال؛ عدة أعمال قريبة بعضها من بعض، وكان العملاء يدهشون كثيرا للتعاقد مع متعهد طلاء أو مقاول يستطيعون الوثوق به وتزكيته لغيرهم، ويدهشون كيف يتسنى لزيتون أن ينجز نصف دستة أعمال في أي حي من الأحياء، من خلال تزكية العملاء له وبتتابع سريع.
وكان هذا المنزل الذي لم يتوقف عن العمل فيه سنوات طويلة، يثير الدهشة، كان يقع عبر الشارع في مواجهة منزل الكاتبة آن رايس، ولم يكن قد قرأ ما تكتبه ولكن كاثي قرأته، كانت كاثي تقرأ كل شيء، كان منزلا فخما فاخرا يضارع أمثاله في نيو أورلينز، كانت له سقوف عالية، وبه درج رائع يتلوى هابطا إلى البهو، وكل ما فيه نحته النحاتون بأيديهم، بحيث تتميز كل غرفة بطابع خاص بها. وكان زيتون قد قام بطلاء معظم الغرف أكثر من مرة، ولم يكن يبدو أن أصحابه يريدون التوقف، كان يحب التواجد في هذا المنزل، حيث يتأمل فن الصنعة بإعجاب، والعناية الفائقة بأدق التفاصيل والزخارف وأغربها؛ إذ رسمت لوحة جدارية فوق المدفأة، وركبت زخارف حديدية يختلف بعضها عن بعض في كل شرفة. كان هذا اللون من الاهتمام الرومانسي المتعمد والطليق بالجمال - وهو جمال سرعان ما يتأثر ويتغير ويتطلب الرعاية الدائمة - هو الذي جعل هذه المدينة تختلف اختلافا شاسعا عن غيرها، وجعلها فرصة إبداع لا نظير له أمام المهندس المعماري.
ودخل المنزل فصحح وضع الستار الهابط في البهو الأمامي، واتجه إلى مؤخرة المنزل، وأطل بنظره على جورجي، النجار البلغاري، الذي كان يقوم بتثبيت بعض معدات السباكة الجديدة بالقرب من المطبخ، كان جورجي عاملا ممتازا، في نحو الستين من عمره، واسع الصدر، لا يكل ولا يتعب، ولكن زيتون كان يعرف كيف يتحاشى دفعه إلى الحديث؛ إذ إنك إن جعلته يتحدث فسوف تصغي لحديث لا يتوقف على مدى عشرين دقيقة عن الاتحاد السوفييتي السابق، والمنازل المقامة على ساحل البحر في بلغاريا، وشتى رحلاته الطويلة في البلاد وهو يقود السيارة التي يعيش فيها - وتشبه الحافلة المزودة بكل ما يحتاج إليه المنزل المتنقل - مع زوجته ألبينا التي رحلت عن هذا العالم منذ عدة سنوات وغدا يفتقدها بشدة.
وركب زيتون شاحنته وأدار الراديو «فهاجمه» المزيد من إنذاراته بشأن هذه العاصفة التي تسمى كاترينا. وكانت قد تشكلت بالقرب من جزر البهاما منذ يومين، وبعثرت القوارب الراسية كأنها لعب أطفال. وانتبه زيتون لما يقال ولكنه لم يجده ذا بال، ما دامت الرياح لن تكون لها علاقة به قبل عدة أيام.
واتجه إلى متحف برسبتير في ميدان جاكسون، حيث بعض عماله يقومون بإجراء ترميمات دقيقة في ذلك المبنى الذي بلغ عمره مائتي عام، وكان منذ زمن بعيد مبنى محكمة، ولكنه أصبح الآن يضم مجموعة تحف وآثار فذة للاحتفال بثلاثاء المرفع، كانت المهمة تحظى بالاهتمام الجماهيري، وأراد زيتون إنجازها على خير وجه.
واتصلت كاثي به من المنزل، كان أحد العملاء قد اتصل بها لتوه من حي برودمور، وتتلخص الرسالة في أن عماله كانوا قد أغلقوا أحد الشبابيك بالطلاء ولا بد من إرسال عامل آخر لفتحه بعد أن التصق.
وقال لها: «سأذهب بنفسي.» كان ذلك فيما يتصور أيسر، فليذهب ليقوم بالعمل، من دون إجراء مكالمات أخرى، أو انتظار وصول أحد.
وقالت كاثي: «هل سمعت بالرياح؟ قتلت ثلاثة في فلوريدا حتى الآن.»
وأبدى زيتون استهانته بما سمع قائلا: «لن تضيرنا هذه العاصفة!» •••
كثيرا ما كانت كاثي تتفكه بعناد زيتون، وبرفضه الانصياع لأي قوة طبيعية كانت أم سواها، ولكن زيتون لم يكن يملك تغيير طبعه؛ إذ نشأ في ظل أبيه، البحار الأسطوري الذي واجه سلسلة من الشدائد الملحمية، وكان يتمكن من النجاة دائما بما يشبه المعجزة.
كان محمود والد زيتون قد ولد في جزيرة أروض التي لا تبعد كثيرا عن جبلة، وهي الجزيرة الوحيدة بالقرب من الساحل السوري، وهي صغيرة إلى الحد الذي لم تكن تظهر معه في بعض الخرائط، وكان معظم الصبيان يتأهلون للعمل ببناء السفن أو صيد الأسماك، وبدأ محمود في يفوعه يعمل في السفن على الطرق البحرية بين لبنان وسوريا، وخصوصا سفن البضائع الشراعية الضخمة التي تحمل الأخشاب إلى دمشق والمدن الأخرى الساحلية، وكان محمود إبان الحرب العالمية الثانية على متن إحدى هذه السفن المتجهة من قبرص إلى مصر، وكان هو ورفاقه يدركون دون أن تتضح لهم الصورة تماما وجود قوات المحور التي تستهدفهم ما داموا يمكن أن ينقلوا المؤن إلى الحلفاء، ولكنهم ذهلوا عندما ظهر سرب من الطائرات الألمانية في الأفق واتجه إليهم، وسارع محمود ورفاقه بالغطس في البحر قبل أن تبدأ الطائرات إطلاق وابل من الرصاص، وتمكنوا من استخراج قارب نجاة مطاطي نفخوه قبل أن تغرق سفينتهم، وكانوا قد بدءوا يزحفون إلى القارب عندما عاد الألمان الذين كانوا فيما يبدو قد قرروا قتل جميع من نجا من أفراد طاقم السفينة، واضطر محمود ورفاقه إلى الغطس تاركين القارب، والانتظار حتى يقتنع الألمان أن البحارة قد قتلوا أو غرقوا جميعا، وعندما عاد البحارة إلى قاربهم، بعد أن لاح لهم أن الأمان قد عاد إلى سطح الماء، وجدوا القارب مليئا بالثقوب ... وهكذا، خلعوا قمصانهم وسدوا بها تلك الثقوب، وجعلوا يجدفون بأياديهم لأميال حتى وصولوا إلى الساحل المصري.
وأما القصة التي كان محمود يكثر من روايتها عندما كان زيتون في بواكير صباه ، وكان محمود يريد بها منع أطفاله من الحياة في البحر، فكانت القصة التالية:
كان محمود في طريق عودته من اليونان على متن سفينة شراعية ذات صاريتين، ويبلغ طولها ستا وثلاثين قدما، عندما فاجأت السفينة عاصفة سوداء متعرجة المسار، وظل البحارة يقودون السفينة وسط العاصفة ساعات متوالية حتى أصيبت الصارية الرئيسة بشرخ أدى إلى وقوع الشراع في الماء، وهو ما كان ينذر بإلقاء السفينة كلها في البحر! ومن فوره، ومن دون تفكير، تسلق محمود الصارية، منتويا تخليص الشراع منها وتصحيح وضع جسم السفينة، ولكنه عندما وصل إلى الشرخ في الصارية إذا بها تنهار تماما، فسقط محمود في البحر، كانت السفينة تبحر بسرعة ثماني عقد (أي ثلاثة عشر كيلومترا في الساعة)، وهو ما جعل عودتها لإنقاذ محمود مستحيلة، فأخذ البحارة يلقون كل ما استطاعوا إلقاءه إلى محمود - بعض الألواح الخشبية وبرميل - ولم تمض دقائق حتى اختفت السفينة في الظلام، وظل وحيدا في البحر يومين كاملين، وأسماك القرش تسبح تحته والعواصف تهب من فوقه، متعلقا بما بقي من البرميل، حتى ألقته الأمواج آخر الأمر على الساحل بالقرب من اللاذقية، على مبعدة خمسين ميلا شمال جزيرة أروض.
ولم يستطع أحد، ولا محمود نفسه، أن يصدق أنه نجا، ولكنه حلف بعدها ألا يعرض نفسه لتلك المخاطرة مرة أخرى، فأقلع عن الإبحار، وانتقل مع أسرته من أروض إلى أرض سوريا الداخلية، ومنع أطفاله من العمل بالبحر، وقرر توفير تعليم جديد لهم جميعا، وإتاحة فرص أخرى للعمل بعيدا عن صيد السمك وبناء السفن.
وانطلق محمود وزوجته يبحثان عن منزل جديد بعيد عن الماء، وذلك في جميع أنحاء سوريا؛ فقضيا شهورا طويلة في السفر مع أطفالهما الصغار، ينظران في هذه البلدة وذلك المسكن، دون أن يلوح لهما ما يصلح، ولم يجدا شيئا يناسبهما حتى عثرا على هذا المنزل الذي يتكون من طابقين، وبه متسع لجميع أطفالهما الآن ومن سينجبانه في المستقبل، وعندما أعلن محمود أن هذا المنزل مناسب لهم، ضحكت زوجته؛ إذ كان المنزل يواجه البحر ، ولا يكاد يبتعد خمسين قدما عن الساحل.
وفي بلدة جبلة، افتتح محمود حانوتا للخردوات المعدنية، وألحق أبناءه وبناته بأفضل المدارس، وعلم أبناءه كل حرفة يعرفها، وعرف الناس جميعا أسرة زيتون؛ إذ كان أفرادها كلهم مجدين مجتهدين أذكياء، كما عرف الناس جميعا عبد الرحمن، الطفل الثامن، الذي أصبح الآن يافعا يريد أن يعرف كل شيء، ولا يخشى أي لون من ألوان العمل، وقد وجد نفسه في يفوعه يراقب الصناع وأصحاب الحرف في البلدة، كلما استطاع ذلك، ويدرس أسرار حرفهم، وعندما كانوا يدركون أنه جاد وسريع التعلم، كانوا يعلمونه كل ما يعرفونه، وعلى مر السنين اكتسب معرفة بكل صنعة استطاع الاقتراب منها، من صيد السمك، إلى تجهيزات السفن، والطلاء، وإعداد الأطر، وحرفة البناء، والسباكة، وإعداد الأسقف، وأعمال البلاط، بل وإصلاح السيارات.
ومن المحتمل أن والد زيتون كان سيشعر بالفخر والدهشة لمسار حياة ابنه، لم يكن يريد لأطفاله أن يعملوا بالبحر، ولكن عددا كبيرا منهم عمل في البحر، ومنهم زيتون. كان محمود يريد لأطفاله أن يصبحوا أطباء ومعلمين، ولكن زيتون كان يشبه والده شبها كبيرا، فعمل بحارا أول الأمر، ثم عمل كعامل بناء لتوفير الرزق لأسرته، وليضمن أن يعيش حتى يشهد أطفاله يكبرون.
واتصل زيتون تليفونيا بكاثي في الحادية عشرة، وهو في مستودع المعدات واللوازم المنزلية بعد أن أصلح النافذة في المنزل الكائن بشارع برودمور.
وسألها: «هل سمعت أي أنباء؟»
وأجابت: «التوقعات سيئة!»
كانت تطلع على الإنترنت، فوجدت أن المركز القومي للأعاصير عدل من تصنيف كاترينا معتبرا أنها إعصار من الدرجة الثانية، كما قال المركز إن المسار المحتمل لكاترينا قد انتقل من اللسان الممتد في البحر في فلوريدا إلى ساحل ولايتي المسيسيبي ولويزيانا، كانت العاصفة الآن تعبر جنوب فلوريدا برياح تبلغ سرعتها نحو تسعين ميلا في الساعة، وأدت إلى قتل ثلاثة أشخاص على الأقل، وانقطعت الكهرباء عن 1,3 مليون منزل.
وقال زيتون: «الناس هنا في قلق.» وأدار بصره في المخزن ثم قال: «كثير منهم يشترون ألواح الخشب الرقائقي.» كانت صفوف الزبائن طويلة، وبدأ مخزون المستودع من الألواح البلاستيكية يتناقص، وكذلك مخزونه من شرائط العزل والحبال، وكل ما من شأنه حماية النوافذ من الرياح.
وقالت كاثي: «سأستمر في المراقبة.»
وفي موقف السيارات نظر زيتون إلى السماء مستطلعا ما يدل على العاصفة المقبلة، لكنه لم يلحظ شيئا غير عادي، وعندما أخذ يدفع عربته اليدوية إلى الشاحنة، لا حظ شابا يدفع عربة مماثلة حافلة بالمؤن يقترب منه.
وسأله الشاب: «ما حال العمل؟»
وقال زيتون في نفسه إنه كهربائي على الأرجح.
وقال زيتون: «لا بأس، وكيف حال عملك أنت؟»
وأجاب الشاب: «ليس أفضل الأحوال.» ثم عرف زيتون بنفسه وبصنعته قائلا إنه كهربائي، كما حدس زيتون. وكانت شاحنة الشاب واقفة بجوار شاحنة زيتون، فبدأ يساعد زيتون في نقل ما في عربته إلى شاحنته ثم قال: «إن احتجت يوما ما إلى كهربائي فسوف أكون جاهزا، ومواعيدي دقيقة وأتم كل عمل أبدؤه.» وأعطى بطاقته لزيتون، وتصافحا ثم ركب الكهربائي شاحنته، وكانت في نظر زيتون أفضل حالا من شاحنته هو.
وسأله زيتون: «لم تحتاج إلي؟» ثم أردف قائلا: «شاحنتك أحدث من شاحنتي!»
وضحك الاثنان، ووضع زيتون بطاقة الشاب على لوحة مفاتيح السيارة وبدأ يغادر الموقف، وقال في نفسه إنه سوف يتصل تليفونيا بالشاب إن عاجلا أو آجلا، فهو دائما يحتاج إلى كهربائي، وراق له نشاط الشاب. •••
كان زيتون عندما بدأ العمل في نيو أورلينز منذ أحد عشر عاما يقوم بالأعمال اليدوية عند جميع مقاولي المدينة تقريبا، من الطلاء إلى تعليق الألواح البلاستيكية إلى تركيب بلاط الأرضية - أي شيء يطلبه المقاول - حتى استأجره رجل يدعى تشارلي سوسيار، وكانت لدى تشارلي شركته الخاصة، وكان قد بناها من الصفر، وأصبح ثريا، وكان يأمل أن يتقاعد قبل أن تعجز ساقاه عن حمله.
وكان لدى تشارلي ولد تقترب سنه من العشرين، ولم يكن لديه شيء أحب إليه من أن يترك الشركة لابنه. كان يحب ابنه، ولكن ابنه لم يكن يؤمن بالعمل، بل كان مخادعا وناكرا للجميل. وكان يتغيب عن العمل، فإذا حضر أبدى القلق والتبرم بالعمل، وأظهر الترفع على موظفي والده.
ولم يكن زيتون يملك سيارة في ذلك الوقت، فكان يركب دراجته إلى مواقع العمل عند تشارلي، وكانت دراجة لها عشر سرعات اشتراها بأربعين دولارا. وذات يوم كان زيتون يواجه خطر التأخر في الوصول إلى العمل، حين فوجئ أيضا بانفجار إطار إحدى العجلتين، وبعد سيره بالدراجة بالإطار المنفجر نصف ميل توقف في يأس، كان عليه قطع مسافة أربعة أميال عبر المدينة في عشرين دقيقة، وبدا له أنه سوف يتأخر عن العمل لأول مرة في حياته، لم يكن يستطيع أن يترك الدراجة ويجري؛ إذ كان يحتاج إليها، كما كان من المحال السير بالإطار المنفجر، وهكذا حمل الدراجة على كتفيه وابتدأ يهرول. كان في ذعر وفزع، فلو تأخر عن موعد العمل فما عسى أن يصيب سمعته؟ لسوف يخيب أمل تشارلي فيه، وربما كف عن استخدامه مرة أخرى. وما عسى أن يحدث لو تحدث تشارلي إلى غيره من المقاولين، ورأى أنه لا يستطيع تزكية زيتون؟ قد تكون العواقب واسعة النطاق. كان يدرك أن العمل هرم يبنى بالعمل الشاق يوما بعد يوم.
وزاد من سرعة عدوه. كان يدرك أنه سوف يصل متأخرا، لكنه إن زاد من سرعته فربما لم يزد التأخير على خمس عشرة دقيقة. كان ذلك في شهر أغسطس ورطوبة الجو خانقة، وبعد ميل أو نحو ذلك من الجري، وقد غمر جسده العرق المتصبب، توقفت شاحنة بجواره.
وجاءه صوت يسأل: «ماذا تفعل؟» والتفت زيتون لينظر من السائل، دون أن يبطئ من معدل عدوه، كان يتصور أنه أحد المازحين يريد أن يسخر من رجل يجري حاملا دراجته فوق كتفيه في الطريق العام، ولكنه وجد المتحدث رئيسه في العمل، تشارلي سوسيار.
وقال زيتون: «ذاهب إلى العمل.» كان لا يزال يجري، وحين يذكر الحادثة يرى أنه كان عليه أن يتوقف في هذه اللحظة، ولكنه كان يتبع إيقاعا منتظما فاستمر، والشاحنة تتسكع إلى جواره.
وضحك تشارلي وقال: «ضع دراجتك في حقيبة السيارة.»
وأثناء انطلاقهما بالسيارة، التفت تشارلي إلى زيتون وقال له: «تعرف؟ لقد قضيت ثلاثين عاما في هذا العمل، وأعتقد أنك أفضل من عمل عندي.»
كانا متجهين بالشاحنة الآن إلى موقع العمل، واستطاع أن ينعم بهدوء البال أخيرا، بعد أن عرف أنه لن يطرد من العمل في ذلك اليوم.
وواصل تشارلي حديثه قائلا: «لدي عامل يقول إنه لن يستطيع الحضور لأن سيارته لم تستطع القيام، وعندي عامل آخر يقول إنه لن يستطيع الحضور لأنه أوى إلى الفراش متأخرا، تخيل! تأخر في النوم! وعامل آخر طردته زوجته من المنزل أو شيء من هذا القبيل، ولذلك لم يحضر. عندي عشرون أو ثلاثون موظفا ولا يحضر منهم للعمل في أي يوم سوى عشرة!»
كانت الشاحنة قد توقفت في إحدى إشارات المرور، فألقى تشارلي نظرة فاحصة على زيتون وقال: «ثم أنت! لديك العذر القهري، فكل ما لديك دراجة وإطار إحدى العجلتين انفجر، ولكنك تحمل دراجتك على ظهرك. لم أعرف من قبلك قط شخصا يفعل شيئا كهذا!»
وبعد ذلك اليوم، تحركت الأمور بسرعة إلى الأمام وإلى الأعلى بالنسبة إلى زيتون، ولم يمض عام واحد حتى كان زيتون قد ادخر ما يكفي من المال لشراء شاحنته الخاصة، وبعد عامين اثنين، كان قد بدأ يعمل لحساب نفسه، ويعمل لديه اثنا عشر رجلا.
وعند الظهيرة اتجه زيتون إلى المركز الإسلامي في منطقة سانت كلود، وكان مسجدا متواضع المنظر ومكانا لاجتماع الناس في وسط البلد. وعلى الرغم من أن أشقاءه كانوا يتفاوتون في أداء صلواتهم، فإن زيتون كان شديد المحافظة عليها، ولم تكن تفوته أي صلاة كل يوم، والقرآن يأمر المسلمين بأداء خمس صلوات في اليوم؛ الأولى ما بين الفجر وطلوع الشمس، والثانية في الظهيرة، ثم في العصر والمغرب والعشاء أي بعد المغرب بساعة ونصف الساعة، فإذا وجد نفسه بالقرب من منزله ساعة صلاة العصر، توقف وأداها فيه، وفيما عدا ذلك كان يقيم الصلاة في أي مكان يكون فيه، مهما يكن العمل الذي يؤديه. وقد أدى صلواته في كل مكان بالمدينة، في مواقع العمل، وفي الحدائق، وفي منازل الأصدقاء، أما في يوم الجمعة فكان دائما يرتاد هذا المسجد، ليقابل أصدقاءه لأداء صلاة الجمعة، التي تعتبر شعيرة التلاقي بين كل الرجال المسلمين في المجتمع المحلي.
وبعد أن دخل المسجد وبدأ بالوضوء، وهو الاغتسال المنصوص عليه في الشعائر، والمطلوب من جميع المصلين، ثم بدأ صلاته فقرأ الفاتحة.
وبعد ذلك اتصل تليفونيا بكاثي.
قالت: «سرعان ما تصبح من الدرجة الثالثة!»
كانت كاثي في المنزل، تتأكد من حالة الجو على الإنترنت.
وسألها: «هل تتجه إلينا؟» - «هذا ما يقولونه.» - «متى؟» - «لست متأكدة. ربما يوم الإثنين.»
وتجاهل زيتون الأمر؛ فيوم الإثنين كان يعني بالنسبة إليه أنها لن تصل أبدا، كان يذكر أن ذلك حدث من قبل عدة مرات. كانت العواصف دائما تهب عبر فلوريدا مدمدمة مدمرة، ثم تخبو حدتها في مكان ما فوق الأرض أو فوق الخليج.
وعاد تليفون كاثي للرنين بالمكالمة التي كانت «محجوزة» فودعت زيتون، وبدأت الرد عليها. كان المتحدث روب ستانسلو، وهو عميل وصديق قديم.
وسألها: «هل ترحلون أم أنتم مجانين؟!»
وضحكت كاثي قائلة: «أريد أن أرحل، طبعا، لكنني لا أستطيع أن أتحدث باسم زوجي.»
وكان روب في ورطة مماثلة؛ إذ إن رفيقه والت طومسون كان مثل زيتون عنيدا، دائما ما يشعر كأنما كانت لديه معلومات أفضل من معلومات أي فرد آخر. وقد ترافق روب ووالت منذ خمسة عشر عاما، وتوثقت علاقتهما بأسرة زيتون منذ عام 1997. كانا قد استأجرا شركة زيتون لتجديد منزل اشترياه، وسرعان ما أصبح الجميع أصدقاء مقربين، وعلى مدى السنوات الماضية أصبحوا يعتمدون بعضهم على بعض.
كانت أسرة والت في مدينة باتون روج، وقال إنه ربما ذهب مع روب إليها في عطلة نهاية الأسبوع، واتفق روب وكاثي على تبادل المعلومات بشأن العاصفة أولا بأول طول النهار.
كانت كاثي توشك أن تستريح قليلا من متابعة الإنترنت عندما لفت انتباهها شيء؛ نبأ جديد جاء لتوه يقول: إن أسرة من خمسة أفراد فقدت في البحر. كانت التفاصيل محدودة، لا تزيد على أن الأسرة تتكون من أبوين، وثلاثة أطفال في الرابعة والرابعة عشرة والسابعة عشرة، كانوا يبحرون في الخليج ، وكان من المتوقع أن يعودوا إلى كيب كورال يوم الخميس، ولكن الاتصال انقطع بهم عندما هبت العاصفة، فقام أفراد الأسرة والأصدقاء بإبلاغ حرس السواحل، فانطلقت قوارب الجنود وطائراتهم للبحث عنهم وبذل كل جهد ممكن، وكانت تلك حدود المعلومات المتاحة حتى هذه اللحظة. لم يكن الأمر يبشر بالخير.
وشعرت كاثي بانقباض شديد، كانت مثل هذه الأخبار مدمرة لها.
وطلبت كاثي زوجها بالتليفون، وقالت: «روب ووالت راحلان.» - «حقا؟ هل يريد والت أن يرحل؟»
كان زيتون يثق في حكمة والت في كل شيء تقريبا.
وخطر لكاثي أن تقنع زوجها بقبول رأيها فقالت: «سمعت أن غزارة المطر بلغت خمس عشرة بوصة.»
والتزم زيتون الصمت.
وأضافت كاثي: «وعلت الأمواج إلى ارتفاع خمس وعشرين قدما.»
وغير زيتون الموضوع قائلا: «هل أقنعت أسرة دي كليرك بالموافقة على العينة التي أرسلناها من ذلك الطلاء؟»
وقالت كاثي: «نعم. فهل سمعت عن فقدان أسرة من خمسة أفراد؟»
ولم يكن زيتون قد سمع، فاندفعت كاثي في عجلة لاهثة تقص عليه ما عرفته عن الأسرة المفقودة في البحر في قاربها الصغير، بعد أن جرفه الإعصار، وهو ما سوف يحدث لأسرة زيتون إذا لم تفر وتتجنب مسار الإعصار.
وقال زيتون: «لسنا في البحر يا كاثي.»
كان زيتون قد قضى ما يقرب من عشر سنوات على متن السفن التي كانت تنقل كل شيء، من الفاكهة إلى البترول، وعمل بحارا، ومهندسا، وصيادا، وذهب إلى كل مكان من اليابان إلى كيب تاون في جنوب أفريقيا. وكان أخوه أحمد يقول له دائما: «إذا وجد البحار الميناء المناسب أو المرأة المناسبة فسوف يرسو بالسفينة.» وفي عام 1988، وصل زيتون إلى الولايات المتحدة على ظهر ناقلة بترول من المملكة العربية السعودية إلى هيوستن، وبدأ العمل عند مقاول في باتون روج، وفي تلك المدينة قابل أحمد، وهو أمريكي من أصل لبناني أصبح من أقرب أصدقائه، كما كان القناة التي قابل عروسه من خلالها.
كان أحمد يعمل آنذاك في محطة بنزين، وزيتون يعمل بإلصاق الرقائق البلاستيكية على الفواصل بين الغرف . وتصادقا عندما اكتشفا انحدارهما من أسلاف مشتركة. وذات يوم سأل زيتون أحمد إن كان يعرف امرأة غير متزوجة تناسبه، وكان أحمد متزوجا من امرأة تدعى يوكو، وهي أمريكية ذات أسلاف يابانية كانت قد اعتنقت الإسلام. كما اتضح أن يوكو كانت لها صديقة، وعندها أحس أحمد بصراع داخلي بسبب حبه لزيتون وثقته به ورغبته في مساعدته، وكان يأمل في تزويج صديقة يوكو من أحد أصدقائه، فقال إنه إذا لم يوفق في مسعاه لإقامة ارتباط بين صديقه وصديقة يوكو فسوف يعرفها قطعا بزيتون. وكان زيتون يريد احترام هذا الشرط، ولكن فضوله ازداد في الوقت نفسه إلى حد الاغتياظ، فمن يا ترى كانت تلك المرأة التي يحمل لها أحمد من التقدير ما يدفعه إلى الامتناع حتى عن ذكر اسمها؟
وفي ذلك العام كان تصميم زيتون على العثور على المرأة المناسبة يزداد باطراد، فأخبر أصدقاءه وأقاربه أنه يبحث عن امرأة مسلمة واقعية تريد تكوين أسرة. وكانوا يعرفون أنه رجل جاد مجتهد في عمله، فعرفوه بكثيرات، أرسلوه مرة إلى نيويورك ليقابل ابنة أحد المعارف، وذهب إلى أوكلاهوما ليقابل ابنة عم أحد الأصدقاء. وذهب إلى ألاباما ليقابل أخت رفيق لأحد زملائه في العمل.
وفي غضون ذلك كانت صديقة يوكو قد عرفت بصديق أحمد، وتقابلا فعلا عدة مرات على مدى عدة أشهر، ولكن العلاقة لم تكلل بالنجاح. وهنا وفى أحمد بوعده وأخبر زيتون أن صديقة يوكو لم تعد تتوقع الارتباط بشخص معين، وهنا فقط باح باسمها له: كاثي.
وسأله زيتون: «كاثي؟!» لم يكن زيتون يعرف مسلمات كثيرات يحملن هذا الاسم، فعاد يسأله: «كاثي ماذا؟»
وأجابه أحمد: «كاثي دلفين». - «أهي أمريكية؟» - «إنها من باتون روج، وقد اعتنقت الإسلام.»
وازداد إعجاب زيتون وزادت حيرته، فاتخاذ مثل هذه الخطوة يتطلب من المرأة شجاعة ورباطة جأش.
وقال أحمد: «لكن اسمع، لقد سبق لها الزواج، ولديها ابن في الثانية من عمره.»
ولكن ذلك لم يفت في عضد زيتون.
وسأله: «متى أستطيع أن أراها؟»
قال له أحمد إنها تعمل في معرض للأثاث، وأعطى زيتون العنوان . ووضع زيتون خطة تقضي بأن يوقف سيارته أمام المعرض حتى يراها دون أن تلحظ وجوده، وقال لأحمد إن ذلك هو الأسلوب المتبع في جبلة. لم يكن يريد أن يتخذ أي خطوة، ولا أن يسمح لأحد بأن يفصح نيابة عنه عن نياته قبل أن يراها. كان ذلك هو الأسلوب المتبع في وطنه الأصلي؛ المراقبة عن بعد، وإجراء التحريات، وجمع المعلومات، ثم المقابلة، لم يكن يريد أي خلط للأمور ولا جرح للمشاعر.
وأوقف سيارته في موقف السيارات الخاص بمعرض الأثاث في نحو الخامسة مساء ذات يوم، وقد اعتزم الانتظار حتى يراها خارجة عند انتهاء عملها، وكان قد استقر لتوه في موقع المراقبة حين اندفعت امرأة في مقتبل العمر خارجة من الباب وهي ترتدي جينز وتغطي شعرها بالحجاب. كانت باهرة وفي شرخ الشباب. وأدخلت بأصابعها عدة شعرات في حجابها وجالت ببصرها في موقف السيارات، ثم عادت تسير في خطوات واسعة بثقة مذهلة وذراعاها تتأرجحان بقوة كأنما كانت تريد تجفيف طلاء أظافرها الجديد! ثم ارتسمت على شفتيها بسمة مفاجئة كأنما تذكرت شيئا ما دفعها للضحك. وتساءل زيتون في نفسه: «ترى ماذا تذكرت؟» كانت جميلة ذات وجه نضر، وكانت البسمة عريضة، خجولا، مكهربة! وقال في نفسه: «أريد أن أجعلها تبتسم هذه البسمة. أريد أن أكون الدافع. أريد أن أكون السبب.» وازداد حبه لها في كل خطوة تخطوها نحوه. لقد وقع في غرامها!
ولكن اقترابها منه زاد عما ينبغي، كانت تتجه مباشرة نحوه. هل كانت تعرف أنه أتى ليراها؟ كيف يمكن ذلك؟ هل أخبرها أحد؟ أحمد؟ يوكو؟ كانت قد وصلت تقريبا إلى سيارته. سيبدو إذن أبله. لماذا كانت تتجه نحوه مباشرة؟ لم يكن على استعداد لمقابلتها.
ولما كان حائرا لا يدري ما يفعل غطس برأسه، وظل قابعا تحت لوحة المفاتيح ممسكا أنفاسه في انتظار ما يكون، وقال في نفسه: «يا رب! يا رب!» ترى هل تمر به وحسب أم تظهر عند نافذته، وتتعجب من ذلك الرجل المختبئ في السيارة؟! أحس بأن وضعه مضحك.
ولكن كاثي لم تكن تدري أنها تمر الآن برجل مختبئ تحت عجلة القيادة. كل ما في الأمر أن سيارتها تصادف وقوفها بجوار سيارته، وهكذا فتحت باب السيارة، وركبتها وانطلقت بها.
واعتدل زيتون في جلسته عندما مضت، وتنفس الصعداء، وحاول تهدئة نبضه المتسارع.
وقال لأحمد: «أريد أن أقابلها.»
واتفقا على أن يكون اللقاء في منزل أحمد ويوكو، على عشاء غير رسمي، وفي وجود أطفال أحمد ويوكو، وزخاري ابن كاثي. لن يكون الضغط كبيرا هنا، بل ستكون فرصة وحسب للمحادثة بينهما، وفرصة لكاثي أن تقابل ذلك الرجل الذي سأل عنها، ولم تكن قد حظيت حتى برؤيته إلى الآن.
وعندما رأته أحبت عينيه، وأحبت وجهه الوسيم ذا البشرة الذهبية، ولكنه كان محافظا أكثر مما ينبغي، كما كان في الرابعة والثلاثين ولم تتجاوز هي الحادية والعشرين، أي إن عمره كان أكبر كثيرا مما تخيلته في زوج المستقبل، وإلى جانب ذلك لم يكن قد مضى سوى عامين على انفصالها عن زوجها الأول، وكانت تشعر بأنها على غير استعداد للبداية من جديد، لم يخطر ببالها أنها في حاجة إلى شيء من الرجل، ولا شك في أنها تستطيع تربية زخاري بنفسها؛ إذ استطاعت أن تبني علاقة وثيقة معه، ولم تجد ما يدعوها إلى قلب توازن حياتها، ولم تكن تستطيع المخاطرة بالعودة إلى الفوضى التي أحدثها زواجها الأول.
وبعد أن غادر زيتون منزل أصدقائه في ذلك المساء، قالت كاثي ليوكو إنه رجل لطيف ولا شك، ولكنها لا تظن أن الزواج منه سينجح.
ولكنها كانت تقابله في بعض المناسبات في السنتين التاليتين؛ فقد يكون مدعوا إلى حفل شواء في الهواء الطلق في منزل أحمد ويوكو، ولكنه كان يغادر المكان عندما تصل احتراما لها؛ لأنه لم يكن يريدها أن تشعر بالحرج، ولكنه استمر يسأل عنها، وكان في كل عام يسأل يوكو بصورة عابرة عن أحوال كاثي؛ حتى يطمئن إلى أنها لم تغير رأيها.
وفي غضون ذلك كانت نظرة كاثي إلى الأمور تتطور، وإزاء تقدم زخاري في السن بدأ يراودها الشعور بالذنب ، كانت تأخذه للعب في المنتزه العام فترى غيره من الغلمان مع آبائهم. وهكذا بدأت تتساءل إن كان موقفها ينطوي على الأنانية، كانت تقول في نفسها: «الغلام يحتاج إلى والد.» هل كانت ظالمة حين استبعدت إمكان وجود صورة للأب في حياة زخاري؟ لم يكن ذلك يعني استعدادها لاتخاذ أي خطوة بناء على هذه الأفكار، ولكن الجليد في داخلها كان قد بدأ ينصهر ببطء. وعلى مر السنين، ووصول زخاري إلى عامه الثالث ثم الرابع، ازدادت تفتحا لقبول شخص جديد.
اتصلت كاثي بزيتون في أولى ساعات العصر.
ورد قائلا: «فلننتظر حتى تتضح الصورة!»
وقالت: «لم أتصل بك بسبب العاصفة.»
كانت إحدى العميلات في الضفة الغربية تريد إعادة طلاء الحمام.
وقال: «حقا؟ ولكننا انتهينا لتونا من ذلك.» - «لا يعجبها منظره.» - «قلت لها: إن ذلك اللون غير مناسب. برتقالي.» - «أصبحت تتفق معك الآن.»
وقال: «سأذهب الآن.»
فقالت: «لا تتعجل.» - «أرجو أن تستقري على رأي.»
قالت: «كل ما أرجوه ألا تقود السيارة بسرعة!»
كانت كاثي يقلقها أسلوب قيادته للسيارة، خصوصا إزاء قلق البعض من العاصفة المقبلة. كانت تعرف أن زيتون يعد نفسه سائقا ماهرا، لكنها حين كانت تركب إلى جواره تشعر بأعصابها تتحطم.
شرع يعترض قائلا: «كاثي! أرجوك ...»
قالت: «إنني أخاف وحسب أثناء قيادتك السيارة.»
فقال: «دعيني أسألك» - وكان بذلك يشرع في إحدى تجاربه الفكرية المتكررة - «فلنقل إن الشخص العادي يقود السيارة، في المتوسط، نحو ساعتين في اليوم، وإن ذلك الشخص يحصل في المتوسط على مخالفتين في السنة، وأنا أقود السيارة نحو ست ساعات في كل يوم. كم من المخالفات تتوقعين أن أرتكبها؟ هذا هو سؤالي.» - «كل ما قلته: إني شخصيا أشعر بالخوف.» - «إني لا أرتكب إلا مخالفتين أو ثلاثا في السنة يا كاثي! كنت أعرف رجلا يعمل سائقا لسيارة أجرة في نيويورك على مدى ثلاثين عاما من دون رخصة! وهذا الرجل ...»
ولم تكن كاثي تريد أن تسمع شيئا عن ذلك الذي يعمل في نيويورك، فقالت: «كل ما أقوله ...» - «كاثي كاثي! لدينا في سوريا مثل يقول : المجنون يتكلم والعاقل يسمعه.» - «ولكنك أنت الذي يتكلم.»
واضطر زيتون إلى الضحك. كانت دائما تفوز عليه في المناقشة.
وقال: «سأتصل بك فيما بعد.»
اتجه زيتون إلى الضفة الغربية ليلقي نظرة على الحمام البرتقالي. كان يحاول أن يجد بعض التسرية في تغير أذواق عملائه، بحسبان ذلك جزءا من عمله، فلو أنه غضب كلما غير أحدهم رأيه ما كتب له البقاء قط! وكانت محصلة ذلك توافر التسرية في كل يوم. كان عمله يعتمد اعتمادا كبيرا على الأذواق الشخصية للأفراد، والذوق بطبيعته مسألة ذاتية، فإذا أضفت إلى ذلك بعض المتغيرات مثل عامل الضوء والستائر والسجاجيد، كان من المحتوم أن تشهد إعادة التقييم، وأداء العمل مرة أخرى.
ومع ذلك فإن أغرب الطلبات كانت كثيرا ما تصدر عن أشخاص يبدون أسوياء إلى أقصى حد. كانت من بين العملاء فاتنة من الجنوب في الستينيات، وكانت قد اتصلت بشركة زيتون للطلاء، وكانت سعيدة بمحادثة كاثي، التي تتحدث بأسلوب الدردشة ولهجة مألوفة، ولكن عندما وصل العمال ليبدءوا طلاء واجهات المنزل، عادت المرأة إلى الاتصال فورا بكاثي.
قالت: «لا أحب هؤلاء الرجال!»
وسألتها كاثي: «ما عيبهم؟»
وقالت المرأة: «بشرتهم سمراء. لا أريد إلا رجالا ذوي بشرة بيضاء للعمل في منزلي.» وقالت ذلك بلهجة من يختار نوعا من التوابل للسلطة.
وضحكت كاثي: «ذوي بشرة بيضاء؟ آسفة! لقد نفد رصيدنا للتو من هؤلاء!»
وأقنعت المرأة أن الرجال الذين أرسلتهم - وكانوا كلهم من أمريكا اللاتينية في هذه الحال - يجيدون حرفتهم على خير وجه، وأنهم سيقومون بالمهمة خير قيام. ولم تعترض المرأة، لكنها عادت للاتصال بالتليفون: «هذا أقصر من أن يصبح عامل طلاء.» وكانت تشير بذلك إلى عامل يدعي هكتور ويزيد طوله على 180سم. ولما أدركت فاتنة الجنوب أنها لن تستطيع مهما اشتكت أن تستبدل بهؤلاء العمال عمالا أطول من ذوي البشرة البيضاء، قنعت بمراقبتهم، والتأكد من جودة أدائهم بين الحين والآخر.
وبطبيعة الحال، كثيرا ما كان يحدث أن يتوقف طالبو العمل عند اسم زيتون. كانوا يتصلون لمعرفة التكاليف ثم يسألون كاثي: «زيتون ؟! من أين أتى هذا الاسم؟ ما وطنه؟» وكانت كاثي تقول: «إنه سوري.» وبعد ذلك تمر فترة صمت طويلة أو فترة قصيرة قبل أن يقولوا: «هكذا؟ لا بأس! انسي الموضوع!» كان ذلك نادر الحدوث، ولكنه لم يكن نادرا إلى الحد اللازم.
كانت كاثي تخبر زيتون أحيانا بمثل هذه الحالات، وأحيانا تتكتمها، ولكنها لم تكن تذكرها قط حول مائدة العشاء، وكان عادة ما يضحك منها وينساها، ولكنها كانت أحيانا تثير أعصابه. كان شعوره بالإحباط إزاء بعض الأمريكيين شعور الوالد الذي خاب ظنه، كان بالغ الرضا في هذا البلد، مبهورا وعاشقا للفرص التي تتيحها للفرد، ولكن لماذا يخون الأمريكيون أحيانا ذواتهم الحقة؟ أي إنك إذا جعلته يبدأ الحديث في هذا الموضوع كنت تقول: وداعا لوجبة هنيئة. فهو يبدأ بالدفاع عن المسلمين في أمريكا، ويتخذ من ذلك منطلقا للتوسع في عرض القضية. كان يبدأ قائلا: إن كل جريمة ترتكب منذ الهجمات في نيويورك أصبحت تنسب إلى مسلم، ومن ثم يشار إلى دين ذلك الشخص، بغض النظر عن علاقته بالموضوع. وإذا ارتكب مسيحي إحدى الجرائم، فهل يذكرون دينه؟ وإذا استوقف مسيحي في أحد المطارات بسبب محاولة اصطحاب مسدس في الطائرة، فهل يخطر العالم الغربي بأن مسيحيا قبض عليه اليوم وأنه يخضع للتحقيق معه؟ وماذا عن الأمريكيين من أصول أفريقية؟ حين يرتكب رجل أسود جريمة من الجرائم، فإن ذلك يذكر في مستهل الخبر «قبض على رجل أمريكي من أصول أفريقية اليوم ...» وماذا عن الأمريكيين من أصول ألمانية؟ أو أصول إنجليزية؟ قد يسطو رجل أبيض على دكان صغير فهل نسمع أنه ينحدر من أسلاف اسكتلندية؟ لا تذكر السلالة أبدا في أي من هذه الحالات.
وعندها يقتطف بعض ما يقوله القرآن:
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (النساء: 135).
كانت كاثي تدهش لعمق معرفته بالقرآن الكريم وسرعة استشهاده بالآية المناسبة لأي موقف من المواقف. ومع ذلك، فهل تليق هذه المحادثة على مائدة العشاء؟ كان من الصالح للأطفال إدراك وجود أمثال هذا التعصب، ولكن الأمر لم يكن جديرا باستفزاز زيتون ومشاهدة خيبة أمله بعد أن قضى في العمل يوما طويلا، ومع ذلك كان زيتون يستطيع آخر الأمر أن يضحك من أمثال هذه الأحداث وينساها، وأما الذي لم يكن يطيقه قط فهو أن يرفع أحد العملاء صوته على كاثي.
وقد مر بهما عميل من هؤلاء، كانت امرأة في مقتبل العمر متزوجة من طبيب. كانت نحيلة جميلة وذات هيئة لا يعيبها شيء أبدا، ولم تبد أدني انزعاج عندما عرض زيتون عليها تقديره للتكاليف، وبدأ العمل في طلاء الدرج وغرفة الضيوف. وقالت لزيتون إنها كانت تتوقع، هي وزوجها، وصول ضيوف ينزلون بالمنزل، وأرادت الانتهاء من طلاء الدرج وغرفة الضيوف أيضا في غضون خمسة أيام فقط. وقال زيتون إن هذه مدة محدودة ولكنها لا تمثل مشكلة لشركته. وغمرتها السعادة الجارفة؛ إذ لم تقبل أي شركة طلاء أخرى الالتزام بمثل هذا الزمن المحدود.
وأرسل زيتون فريقا من ثلاثة عمال في اليوم التالي، ولما رأت العميلة كفاءة ذلك الفريق في العمل وسرعة إنجازه، سألت زيتون إن كان في إمكان الفريق طلاء مكتب زوجها وغرفة نوم ابنتها، وقال لها إن ذلك ممكن، فأرسل المزيد من عمال الطلاء إلى المنزل، واستمرت هي في إضافة غرف أخرى وأعمال أخرى، بما في ذلك تركيب بلاط جديد في الحمام وطلائه، وواصل رجال زيتون تنفيذ العمل بسرعة.
ولكن تلك السرعة لم تكن كافية، ففي اليوم الثالث اتصلت كاثي بزيتون وقد أشرفت على البكاء، قالت إن المرأة اتصلت بها أربع مرات متوالية في زمن قصير، وهي تشتم وتسب وتلعن، كانت العميلة تصرخ قائلة إن العمل لم يكتمل في المنزل، وضيوفها يصلون بعد أقل من يومين، وقالت لها كاثي إن رجال زيتون انتهوا من العمل الأصلي في أقل من المدة المطلوبة، ولكن ذلك لم يكن مطلب العميلة، كانت تريد كل شيء - كانت تريد الانتهاء من الغرف السبع كلها بمهامها التي لا تحصى - في خمسة أيام، كانت تريد أداء ثلاثة أضعاف العمل في الوقت المحدد للعمل الأصلي.
وحاولت كاثي استخدام المنطق معها، وقالت إنها لم تتعهد قط، وما تعهد زيتون قط بالقدرة على الانتهاء من جميع الأعمال الإضافية في خمسة أيام. فمثل ذلك الجدول الزمني غير منطقي، ولا تستطيع أي شركة، حتى لو كانت شركة زيتون نفسه، الانتهاء من العمل في مثل ذلك الوقت. ولكن العميلة لم تكن تعرف المنطق، بل ظلت تنبح في وجه كاثي وتغلق التليفون ثم تتصل من جديد وتغلق الخط، كان صوتها عاليا، ونبراتها مترفعة، ولهجتها قاسية.
واتصلت كاثي، والدموع تنساب من عينيها، بزيتون على تليفونه الخلوي أثناء سيره بالشاحنة إلى موقع عمل في الجانب الآخر من المدينة. وحول زيتون وجهة الشاحنة، حتى من قبل انتهاء مكالمة كاثي، وانطلق يقودها بأقصى سرعة يسمح بها القانون إلى منزل تلك العميلة. وعندما وصل إليه دخل بهدوء إلى المنزل وأخبر عماله أنهم سيرحلون، وفي غضون عشر دقائق كانوا قد جمعوا كل معداتهم، من علب الطلاء إلى السلالم، ومن الفراجين إلى المشمعات الواقية، ووضعوها في شاحنة زيتون.
وفي أثناء تراجع زيتون بالشاحنة إلى الخلف استعدادا للرحيل، جاء زوج العميلة يجري ملهوفا إلى زيتون. وسأله عما أغضبه، ماذا حدث؟ وكان غضب زيتون قد بلغ حدا جعله يعجز عن العثور على الكلمات المناسبة بالإنجليزية. والواقع أن امتناعه عن الكلام كان أفضل، وانتظر ثواني معدودة ثم قال إنه لا يقبل أن يتحدث أحد بذلك الأسلوب إلى زوجته، وإنه قد ترك العمل وانتهى الأمر وتمنى له حظا حسنا.
وعندما وصل إلى المنزل الذي طلي فيه الحمام باللون البرتقالي، طلب كاثي حتى تستعرض أسعار المواد التي قد يحتاجون إليها، وألقى نظرة على الجدران البرتقالية - وما كان أشق النظر إليها - فأدرك وجود البانيو الجديد، الذي كان ضخما يقوم على أرجل تشبه مخالب الطائر، ويوحي بالقدم والهرم.
وسألته كاثي في التليفون: «تقول إنه كبير الحجم لكن أليس جميلا؟»
ورد مازحا : «نعم، مثلك!»
فقالت : «حذار! أستطيع إنقاص وزني لكنك لن تستطيع أبدا إعادة الشعر إلى رأسك!»
عندما التقيا، كانت كاثي مشغولة بالحفاظ على رشاقتها لكنها كانت أنحف مما ينبغي. كانت في طفولتها سمينة، في أعين البعض على الأقل، وكان وزنها يتفاوت ارتفاعا وانخفاضا بشدة في سني المراهقة. كانت تطلق العنان لشهيتها، ثم تلتزم بنظام غذائي صارم ثم تعود إلى إطلاق العنان، وعندما تزوجا أصر زيتون على أن يجعلها تتجاوز قضية وزن الجسم وأن تأكل مثل الأسوياء. وأصغت لما يقول، فإذا به يتفكه الآن بأنها تمادت في العمل برأيه! كانت تقول لأصدقائها: «الحمد لله على العباية.» كانت عندما تريد عدم الانشغال بالملابس أو القلق على هذا الزي أو ذاك، تولى الزي الإسلامي الذي ينسدل من الكتف إلى الأرض حل المشكلة - حلا مهندما!
وسمعت طرقة على الباب فذهبت لتفتحه فوجدت ميلفن، وهو عامل طلاء من جواتيمالا، وكان يريد الحصول على أجره الأسبوعي قبل نهاية الأسبوع.
كان زيتون حاسما في جهوده لتقديم الأجر المجزي ودون تأخير للعمال، وكان دائما ما يستشهد بالحديث الشريف: «أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه.» وكان يستند هو وكاثي إلى هذا الأساس الصلب في إدارة العمل، ولم يفت العمال إدراك ذلك.
ومع ذلك فقد كان زيتون يفضل أن يدفع الأجور أيام الأحد أو الإثنين؛ لأن الدفع يوم الجمعة يجعل عددا كبيرا من العمال يختفي طوال عطلة نهاية الأسبوع، ولكن كاثي كان لها قلب شفيق، وكان اعتزامها تأجيل الدفع ولو ساعة يضعف في وجود هؤلاء العمال الذين يتفصدون عرقا، وعلى عقل أصابعهم الدم، ونشارة الخشب تغطي سواعدهم.
قالت له: «لا تخبر زيتون!» وكتبت الشيك له.
وأدارت كاثي جهاز التليفزيون وتنقلت بين القنوات، كانت كل محطة تغطي أنباء العاصفة.
لم يكن قد تغير أي شيء؛ إذ كان إعصار كاترينا يسير في طريقه من دون أن تقل سرعته أو قوته. ولما كان الإعصار في مجمله يتقدم ببطء شديد، بسرعة تبلغ ثمانية أميال في الساعة، زادت الأضرار التي تحدثها الريح، بل سوف تستمر في إحداث أضرار فاجعة.
لم تكن التغطية تتجاوز الكلام عن خلفية العاصفة حتى سمعت كاثي تعبير «أسرة من خمسة أفراد». كان المذيع ومن معه يتحدثون عن الأسرة التي فقدت في البحر، وقالت في نفسها «يا رب! يا رب!» ثم رفعت صوت التليفزيون. كانت الأسرة لا تزال مفقودة وكان رب الأسرة يدعى «إد لارسن». كان يعمل مشرفا على عمال البناء. وقالت في نفسها: «لست جادا.» كان قد أخذ عطلة لمدة أسبوع حتي يخرج مع أسرته في نزهة بحرية في اليخت الخاص به، وكان اسم اليخت «حاشية البحر». كان اليخت قد وصل إلى مرفأ ماراثون ثم انطلق منه إلى كيب كورال حينما انقطع الاتصال معه باللاسلكي. وكان الرجل يصطحب زوجته وأطفاله الثلاثة في طريقهم إلى الساحل لحضور حفل اجتماع شمل الأسرة الكبيرة. وما إن اجتمع أفراد الأسرة الكبيرة حتى أدركوا غياب أسرة «لارسن» وعندها تحول الحفل إلى سهرة حافلة بالقلق والصلوات.
ولم تستطع كاثي الاحتمال.
فاتصلت بزوجها وقالت: «لا بد أن نرحل.»
فقال: «انتظري. انتظري. علينا أن ننتظر حتى تتضح الأمور.»
فقالت: «أرجوك!»
فقال: «حقا؟ تستطيعين الرحيل.» •••
كانت كاثي قد اصطحبت الأطفال من قبل إلى الشمال عدة مرات عندما كانت العواصف تشتد، ولكنها كانت تأمل ألا تضطر إلى القيام بهذه الرحلة الآن، فعليها أن تؤدي بعض الأعمال في نهاية الأسبوع، والأطفال وضعوا برامج للعطلة، ودائما ما كانت تعود أشد إرهاقا مما كانت عليه.
وفي كل مرة تقريبا، سواء للفرار من وجه عاصفة أو لقضاء عطلة، كانت كاثي تضطر إلى الرحيل مع الأطفال في غيبة زيتون، كان من العسير على زوجها أن يترك العمل، ويصعب عليه الاسترخاء أياما متوالية. وبعد سنوات من هذه الحياة بلا عطلات هددت كاثي بأن تأخذ الأطفال بعد خروجهم من المدرسة عصر يوم من أيام الجمعة للذهاب إلى فلوريدا، ولم يصدقها زيتون أول الأمر. هل كانت كاثي قادرة على أن تغادر المنزل حقا معه أو من دونه؟
كانت تستطيع، ثم أقدمت على ذلك فعلا، ففي عصر يوم من أيام الجمعة كان زيتون يطمئن على سير العمل في موقع قريب وقرر أن يمر على المنزل، كان يريد أن يرى الأطفال ويلبس قميصا آخر ويأخذ بعض الأوراق الخاصة بالعمل، لكنه عندما أوقف السيارة في مدخل المنزل، وجد كاثي منهمكة في وضع الأمتعة في الشاحنة الصغيرة، والطفلين الصغيرين جالسين داخلها وقد ربطا أحزمة الأمان.
وسألها: «إلى أين تذهبون؟» - «قلت لك إنني سأذهب معك أو من دونك. وسوف نذهب!»
كانوا سيذهبون إلى «دستين، فلوريدا»، وهي بلدة ساحلية على خليج المكسيك على مبعدة أربع ساعات بالسيارة، وتتمتع بشواطئ طويلة بيضاء ومياه صافية.
وقالت نديمة: «تعال معنا يا بابا!» وكانت قد خرجت لتوها من المنزل تجمع عدة الغطس.
كان ذهول زيتون أكبر من أن يسمح له بالكلام، كان ذهنه مشغولا بمهام لا تحصى، وكانت أنبوبة في أحد العقارات المؤجرة قد انفجرت لتوها، فكيف يستطيع الذهاب؟
وجلست نديمة في الكرسي الأمامي وربطت حزام الأمان.
وقالت كاثي وهي تتراجع بظهر السيارة: «باي باي! نراك يوم الأحد.»
وانطلقت السيارة، والفتيات يلوحن له أثناء الرحيل.
لم يذهب مع باقي الأسرة في ذلك اليوم، ولكنه لم يعد يتشكك بعد ذلك في عزيمة كاثي، كان يعرف أنها جادة، وأنها سوف تستشيره في المستقبل بشأن خطط التمتع بالعطلات، وإن كان قد عرف كذلك أن كاثي يمكن أن تقوم برحلات إلى فلوريدا، وإلى أماكن أبعد، بل سوف تقوم بها، معه أو من دونه. وهكذا قامت الأسرة برحلات أخرى إلى دستين، بل إنه اصطحب الأسرة في عدد منها.
ولكنه لم يكن يتخذ القرار في جميع الأحوال إلا في آخر لحظة، وذات يوم تأخرت كاثي في الشروع في الرحيل، وتأخر زيتون إلى الحد الذي لم يسمح له بحزم أمتعته. وكانت كاثي قد أدارت السيارة وبدأت تتراجع بها استعدادا للانطلاق عندما وصل وأوقف سيارته بجوارها.
وقالت كاثي: «اركب الآن أو لن تأتي معنا!» حتى دون أن توقف المحرك.
وهكذا ركب السيارة، وكان لا يزال يرتدي ملابس العمل، وقد علاه التراب والعرق الذي كان يتفصد نتيجة توتره من صعوبة اتخاذ القرار مثلما يتفصد من عمل اليوم. واضطر عند وصولهم إلى فلوريدا إلى أن يشتري ملابس أخرى للبحر.
كانت كاثي تعتز بأنها تستطيع اصطحابه إلى دستن مرة في العام، ولم يكن زيتون يمانع كثيرا في الذهاب؛ إذ كان يعرف مدى قرب المكان، ويدرك أنه يستطيع العودة في أي لحظة، بل إنه قطع عطلته وعاد أكثر من مرة بسبب مشكلة ما في أحد مواقع العمل.
ولكن كاثي كانت - بحلول عام 2002 - تريد عطلة تشعرها بأنها عطلة حقيقية. وكانت تعرف أن عليها في سبيل ذلك أن تجد حلا جذريا، فعلى مدى الزمن الذي قضياه معا - وكان آنذاك يبلغ ثماني سنوات - لم يكن قد تمتع بعطلة تزيد على يومين متتاليين. وانتهت آخر الأمر إلى أن عليها أن تختطفه.
بدأت بالتخطيط لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في دستن، واختارت وقتا تعلم أن العمل سيميل إلى الهدوء فيه؛ إذ كانت عطلة عيد الميلاد قد انقضت لتوها، ونادرا ما كان العمل يستأنف بنشاط قبل حلول السنة الجديدة. وكالعادة، لم يتخذ زيتون قراره إلا في اللحظة الأخيرة، ومن ثم احتاطت للأمر وأعدت حقيبة ملابسه بنفسها وخبأتها في الشاحنة الصغرى، ولما كانت قد ضمنت أن تكون نهاية الأسبوع هادئة، قرر اصطحاب الأسرة، وإن كان ذلك، كعادته، في آخر لحظة. وتأكدت من هدوء الأطفال - إذ كانت تطلعهم على كل خطة تضعها - وسرعان ما غلبه النعاس وسال لعابه على حزام الأمان. وفي أثناء نومه، اتجهت كاثي بالسيارة عبر مدينة دستن وتجاوزتها جنوبا إلى شبه جزيرة فلوريدا، وكلما استيقظ قالت له: «كدنا أن نصل، عد إلى النوم!» وكان والحمد الله يعود إلى النوم؛ إذ كان بالغ الإرهاق، ولم يدرك أنهم ليسوا متجهين إلى دستن إلا قبل الوصول إلى شمال ميامي بساعة واحدة. كانت كاثي قد توجهت مباشرة إلى مدينة ميامي، سبع عشرة ساعة بالسيارة. كانت قد بحثت بالكمبيوتر عن أدفأ مكان في البلاد في ذلك الأسبوع، وكانت ميامي ذلك المكان، كان الوجود في مثل ذلك المكان البعيد السبيل الوحيد لضمان قضائه عطلة حقيقية، مقدار أسبوع كامل من الراحة. كانت كلما تذكرت تلك الحيلة، وكيف نفذتها بنجاح ابتسمت لنفسها. كان الزواج نظاما مثل غيره من النظم، وكانت تعرف كيف تنجح في إدارته.
وفي نحو الثانية والنصف عاد أحمد إلى الاتصال بزيتون، كان لا يزال يتابع مسار العاصفة من الكمبيوتر الخاص به في إسبانيا.
وقال أحمد: «لا يبدو أنها تبشر بالخير لكم.»
ووعد زيتون بأن يتابع أحوالها.
وقال أحمد: «تخيل الأمواج العالية التي تثيرها العاصفة.»
وقال زيتون إنه منتبه لهذا كل الانتباه.
وقال أحمد: «ولم لا ترحل طلبا للأمان وحسب؟»
قررت كاثي أن تذهب إلى دكان البقالة قبل توصيل البنات من المدرسة إلى المنزل؛ إذ قالت في نفسها إن المرء لا يستطيع أن يعرف متى يتزاحم الناس لشراء الضروريات قبل وصول العاصفة، وأرادت أن تتجنب مثل ذلك التزاحم.
ذهبت إلى المرآة لتسوية الحجاب، ونظفت أسنانها بالفرشاة، وتركت المنزل. لم يكن الأمر يشغل بالها كثيرا؛ ولكن كل مرة تخرج فيها إلى دكان البقالة أو المركز التجاري كانت تجازف بإمكان مواجهة لون ما من ألوان الإساءة. ويبدو أن تواتر هذه الأحداث كان مرتبطا إلى حد ما بالأحداث الجارية، والصورة العامة التي ترسمها أجهزة الإعلام للمسلمين في ذلك الأسبوع أو ذلك الشهر، وقد ازدادت شحنة التوتر قطعا بعد أحداث 11 سبتمبر عما كانت عليه قبلها، ثم ساد الهدوء بضع سنوات، ولكن حادثة محلية وقعت في عام 2004 أضرمت النار من جديد.
ففي مدرسة وست جيفرسون الثانوية، دأب معلم التاريخ على مضايقة طالبة في الصف العاشر باستمرار؛ لأنها كانت ذات أصول عراقية، كان يقول إن العراق من «بلدان العالم الثالث»، ويقول إنه يقلق لأن الطالبة قد «تفجر فينا القنابل» إذا عادت يوما ما إلى العراق. وفي فبراير من ذلك العام، أثناء أداء الامتحانات، نزع المدرس حجاب الفتاة قائلا: «أرجو أن يعاقبك الرب. لا! آسف! أرجو أن يعاقبك الله!» ونشرت أنباء الحادثة على نطاق واسع، ورفعت الطالبة قضية على المعلم، وأوصى رئيس المنطقة التعليمية التي تتبعها المدرسة بإنهاء خدمته، ولكن مجلس إدارة المدرسة ألغى الحكم وحكم بإيقافه عن العمل عدة أسابيع ثم عاد إلى المدرسة.
وبعد صدور ذلك القرار حدث ارتفاع في معدل وقوع المضايقات الطفيفة للمسلمين في تلك المنطقة. وكانت كاثي تدرك أنها تدعو إلى مضايقتها بخروجها بالحجاب، وكانت عادة جديدة قد نشأت في ذلك الوقت، يمارسها المراهقون من الصبية أو من يفكرون مثلهم، ألا وهي التسلل من خلف المرأة التي تلبس الحجاب واختطافه والجري به.
وذات يوم حدث ذلك لكاثي، كانت تتسوق مع أسما، وهي صديقة مسلمة لا تلبس الحجاب، وكانت أسما أصلا من الجزائر، واستمرت تقيم في الولايات المتحدة عشرين سنة، وكان الناس عادة يتصورون أنها إسبانية، وعندما خرجت كاثي وأسما من المركز التجاري، كانت كاثي تحاول أن تذكر أين أوقفت سيارتها، وكانت أسما على الرصيف، وعين كاثي لا تتحول عن صفوف العربات البراقة، عندما نظرت أسما إليها نظرة غريبة، قائلة: «كاثي! من خلفك فتاة!»
كانت فتاة في نحو الخامسة عشرة تقبع خلف كاثي ويدها مرفوعة توشك أن تختطف الحجاب من فوق رأسها.
وأدارت كاثي رأسها وصرخت فيها: «لديك مشكلة؟»
وانزوت الفتاة وتسللت مبتعدة لتلحق بمجموعة من البنين والبنات من أترابها، وكلهم يرقبون، وعندما لحقت بأصدقائها وجهت بعض الألفاظ المنتقاة إلى كاثي، وضحك أصدقاؤها وحاكوها، فأمطروا كاثي بوابل من الشتائم البالغة التنوع.
من المحال أن يكون الأولاد والبنات قد توقعوا أن ترد كاثي عليهم. ولا شك في أنهم كانوا يتصورون أن المرأة المسلمة التي يفترض فيها الخضوع والحياء في استخدام اللغة الإنجليزية سوف تسمح بانتزاع حجابها من رأسها دون رد. ولكن كاثي أطلقت عليهم سيلا من قذائف الألفاظ اللاذعة التي أذهلتهم وعقدت ألسنتهم عدة لحظات.
وفي أثناء رحلة العودة إلى المنزل كانت كاثي نفسها جازعة مما قالته، كانت قد نشأت في بيئة يكثر فيها استخدام الشتائم، وكانت تعرف كل كلمة وكل تعبير مسيء، ولكنها لم تستخدم أيا من ذلك منذ أن أصبحت أما، ومنذ اعتناقها الإسلام، إلا مرة أو مرتين، ولكن هؤلاء الأطفال كانوا في حاجة إلى أن يتعلموا درسا ، فلم تبخل به عليهم.
وفي الأسابيع التي تلت الهجمات على البرجين السامقين في نيويورك لم تشاهد كاثي إلا عددا بالغ القلة من المسلمات في الحياة العامة، وكانت واثقة بأنهن مختبئات ولا يخرجن من المنزل إلا إن دعت الضرورة، وفي أواخر سبتمبر كانت في حي «والجرينز» عندما شاهدت أخيرا امرأة ترتدي الحجاب، فأهرعت إليها قائلة: «السلام عليكم.» مصافحة مرحبة. كانت طبيبة تدرس في كلية تولين ويخامرها الإحساس نفسه، كأنها منفية في بلدها نفسه، وضحكت كل منهما على السعادة الغامرة التي واتتهما عند التلاقي. •••
وفي هذا اليوم من شهر أغسطس، قامت بالتسوق عند البقال دون مواجهة، ثم بدأت توصيل البنات إلى المنزل.
وسألتها نديمة: «هل سمعت عن العاصفة؟»
وأضافت صفية: «إنها مقبلة علينا.»
وسألتها نديمة: «هل نرحل؟»
كانت كاثي تعرف أن أطفالها يريدون الرحيل، يريدون الذهاب إلى منازل أقاربهم في مسيسيبي أو باتون روج، فيكون ذلك بمثابة عطلة، أو يومين من الكسل، وربما حصلوا على عطلة عند إغلاق المدرسة يوم الإثنين لتنظيف المدينة، كان ذلك قطعا ما يفكرون فيه ويأملونه. كانت كاثي تعرف مسار تفكير أطفالها.
وعندما وصل الجميع إلى المنزل في الخامسة كانت نشرات الأخبار تتحدث باستمرار عن إعصار كاترينا، وشاهدت الأسرة في التليفزيون صور الأمواج الهائلة والأشجار المقتلعة والبلدات الكاملة التي اجتاحتها الأمطار الغزيرة فكستها باللون الرمادي، وكان المركز القومي للأعاصير يتنبأ بأن كاترينا ستصبح عما قريب إعصارا من الدرجة الثالثة، وعقدت بلانكو، حاكمة الولاية، مؤتمرا صحفيا لتعلن فيه حالة الطوارئ في ولاية لويزيانا، وفعل ذلك نفسه باربر حاكم ولاية مسيسيبي معلنا فيها الطوارئ.
كانت كاثي منزعجة، ظلت تجلس على مسند الأريكة بذهن شارد جعلها تغفل البدء في إعداد العشاء حتى السادسة، وطلبت زيتون بالتليفون.
وسألته: «هل تستطيع إحضار بعض الدجاج المشوي في طريق عودتك للمنزل؟»
وقامت نديمة بترتيب مفرش المائدة وأطباق الطعام لكل فرد في المنزل، بينما أخذت صفية وعائشة تضعان أدوات الطعام والأكواب في أماكنها، وأعدت كاثي طبقا من السلطة وصبت اللبن للصغار والعصير لها ولزيتون.
وحضر زيتون ومعه دجاجة، فاستحم وجلس مع الأسرة لتناول العشاء.
وقال زيتون لبناته: «أكملن الأكل!» بعد أن لاحظ كيف يقتصرن على تناول الفتات تاركات مقادير كبيرة كما هي.
كان قد اعتاد ذلك بعد كل هذه السنين، ومع ذلك كانت تمر به لحظات يشعر فيها بالضيق من إهدار الطعام، بل إمكان إهدار كل شيء تقريبا. كان إبان نشأته في سوريا كثيرا ما يسمع التعبير القائل: «ما لا تكسبه يدك لا يأسف عليه قلبك.» وأما في الولايات المتحدة فلم يكن الأمر يقتصر على الرخاء - إذ لم تكن نيو أورلينز قطعا مدينة يسودها الرخاء بدرجة متساوية - بل كان الإحساس يشيع بأنه يمكن استعراض كل شيء، وبنزوة طارئة. كان يحاول أن يغرس في نفوس أطفاله قيمة العمل، وقيمة كل ما يدخل منزلهم، ولكنه كان يعرف أنه سوف يضيع الكثير في هذا السياق؛ فهو الإهدار والسرف اللذان تتصف بهما هذه الثقافة عموما. لقد درج على أن يعرف أن الله لا يحب المسرفين والمبذرين، وقد قيل له إن ذلك من بين الأشياء الثلاثة التي تعتبر أشد ما يكرهه الله، وهي القتل العمد، والطلاق، والتبذير؛ فهي تدمر المجتمع.
وبعد العشاء استأذنت الفتيات في مشاهدة فيلم «الكبرياء والهوى» مرة أخرى. كانت تلك ليلة الجمعة، ولم يكن لدي زيتون سبب منطقي يتعلق بالمدرسة للاعتراض، ولكن ذلك لم يكن يعني أنه كان مضطرا للجلوس والمشاهدة مرة أخرى. لقد أعجبه الفيلم أول مرة، ولكنه لم يكن يفهم ضرورة مشاهدته عشر مرات في عشرة أيام. وهكذا كان يذهب مع زخاري في الأسبوع الماضي إلى غرفة أخرى لأداء شيء آخر، أي شيء آخر. ولكن كاثي كانت في صحبة الفتيات، وقد تداخل الجميع بعضهن في بعض فوق الأريكة، وكانت العيون تغرورق بالدمع في المشاهد نفسها التي اعتادت ذلك فيها، وهز زيتون رأسه ودخل المطبخ لإصلاح باب دولاب صغير لا بد من تثبيت مفاصله.
كانوا يوقفون عرض الفيلم على امتداد المساء لمتابعة التقارير الإخبارية عن شدة العاصفة واتجاه مسارها. كانت الأنباء تقول إن الإعصار لا يزال يسير ببطء بحذاء الساحل، وقد زادت سرعة الرياح فيه عن مائة ميل في الساعة، وكلما تباطأت العاصفة فوق منطقة ما، ازداد الدمار الذي تحدثه فيها. كانت جميع الأنباء رهيبة. وعندما شاهدت كاثي صورة الأسرة بأفرادها الخمسة كانت على وشك إغلاق التليفزيون، كانت واثقة بأنهم غرقوا، وكان مصير هذه الأسرة سوف يشغل بالها أسابيع متوالية؛ إذ تتراءى لها صورة الأقارب الذين يتوقعون اجتماع شمل الأسرة، ثم إذا بهم مرغمون على البكاء على فقدان هذا العدد الكبير مرة واحدة، ولكن كاثي تبينت أن الأسرة لم تفقد! فرفعت صوت التليفزيون. لقد أنقذت. كان أفرادها قد أرسوا سفينتهم في جزيرة يغطيها نبات المنغروف بالقرب من المنطقة المعروفة باسم «الجزر العشرة الآلاف» واحتموا من العاصفة في غرفة اليخت، وهم يصلون، ويتناوبون الصعود إلى السطح لطلب الغوث من الطائرات المحلقة فوقهم، وكان حرس السواحل قد لمح سفينتهم قبل ساعات معدودة ورفعهم جميعا إلى بر السلامة. وهكذا أنقذت الأسرة بأفرادها الخمسة.
بعد أن قبلت كاثي زخاري قبلة المساء في وقت لاحق رقدت في فراش نديمة ورقدت البنات حولها، فتداخلت الأطراف والوسائد في غير ما نظام.
وسألت كاثي: «من تريد أن تبدأ؟»
وبدأت صفية القصة عن «بوكيمون». كانت القصص التي تتعاون الفتيات في نسجها كثيرا ما تدور حول بوكيمون. وبعد أن وصفت عائشة البطل، رسمت صفية مكان الأحداث وزمنها والصراع الأساسي فيها، واستأنفت نديمة القص من هذه النقطة، واستمر الجميع في بناء الحبكة بالتناوب حتى نامت عائشة. وبدأت نديمة وصفية في التثاؤب والتثاقل، فالنعاس. ونظرت كاثي فوجدت زيتون واقفا لدى الباب، متكئا على الإفريز، وهو يتطلع إلى الجميع، كان كثيرا ما يفعل هذا، فينظر وحسب، كيما يستوعب ما يشهد. وكان المشهد أحلى وأجمل من احتماله، كان يكفي لتفجير ينبوع نشوة في قلبه.
السبت 27 من أغسطس
استيقظ زيتون وكاثي متأخرين، بعد الثامنة. وعندما أدارا التليفزيون، شاهدا مايكل براون، مدير الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، وهو يخبر جميع سكان مدينة نيو أورلينز بأن عليهم أن يرحلوا في أقرب وقت مستطاع، والاتجاه داخل البلاد بأقصى سرعة ممكنة، وكان المركز القومي للأعاصير قد أصدر تحذيرا للمنطقة وسط ولاية لويزيانا قائلا إن الإعصار قد يبلغ حد الدرجة الخامسة عندما يصل إلى اليابسة. ولم تهب الأعاصير من الدرجة الخامسة على المنطقة القارية في الولايات المتحدة إلا ثلاث مرات من قبل، ولم تتعرض مدينة نيو أورلينز لها قط.
وقالت كاثي: «أظن أن علينا أن نرحل يا حبيبي.»
وقال زيتون: «ارحلوا أنتم، وسأبقى أنا.»
وسألته: «كيف يمكن أن تبقى؟»
ولكنها كانت تعرف الإجابة، لم يكن العمل الذي يقومان به عملا بسيطا يتيح لك أن تغلق المكتب وحسب وترحل، وكان معني الرحيل من المدينة ترك كل ما يمتلكانه، وكل منازل مستأجريهم، ولم يكن في طوقهم أن يفعلوا هذا إلا في حالة الضرورة القصوى. وكانت لديهما مواقع عمل في شتى أرجاء المدينة، وقد تحدث أشياء كثيرة يجهلانها أثناء غيابهما، وقد ترفع عليهما قضايا التعويض إذا تسببت معداتهما في إحداث أي ضرر بممتلكات عملائهما. كان ذلك من المخاطر الأخرى للشركة التي بنياها.
كانت كاثي تميل بشدة إلى الهرب، وبدا لها من متابعة الأخبار طول النهار ظهور دلائل كثيرة جديدة على الطابع الفريد لهذه العاصفة، بل بلغ من كثرتها أن كاثي لم تعد تطيق مجرد التفكير في البقاء، كانا قد أوقفا من قبل عمليات الشركة في مطار لويس أرمسترونج الدولي، وكان الحرس الوطني في لويزيانا قد استدعي أربعة آلاف جندي من جنود الاحتياط للخدمة.
كان ذلك وقت الضحي، ودرجة الحرارة لا تقل عن 35° مئوية، والهواء مثقل بالرطوبة، وكان زيتون في الفناء الخلفي يجري ويلعب مع الأطفال والكلبة «ميكاي». وفتحت كاثي الباب الخلفي.
وسألته كاثي: «هل ستبقى حقا؟» كانت تتصور لسبب ما أنه ربما يبدي التردد، ولكنها كانت مخطئة.
وقال لها: «ما الذي يقلقك؟»
لكنها لم تكن قلقة. لم يكن ما يراودها هو الخوف على سلامة زوجها، في الواقع، بل إحساس قاطع بأن الحياة في المدينة ستكون مضنية إلى أقصى حد خلال العاصفة وبعدها. لا بد من انقطاع الكهرباء، وسوف تكون الشوارع مغطاة بالأنقاض، ويتعذر المرور فيها أياما متوالية. فما الذي يدفعها إلى تحمل كل هذا العناء؟
وقال: «لا بد أن أرعى المنزل والمنازل الأخرى. قد ينشأ ثقب صغير في السقف، فإن أصلحته فلا ضرر منه، وإلا تحطم المنزل كله.»
وبحلول أولى ساعات العصر كان ناجين، عمدة المدينة، وبلانكو، حاكمة الولاية، قد بدآ الدعوة إلى إخلاء المدينة طوعا، وقال ناجين للسكان إن مبنى القبة الكبيرة، وهو الصالة الرياضية المغلقة في المدينة، سيكون مفتوحا باعتباره «مأوى الملاذ الأخير!» وارتعدت كاثي من تصور ذلك. ففي العام السابق، عندما هب إعصار إيفان، فشلت خطة الإيواء في ذلك المكان فشلا ذريعا؛ إذ كانت القبة الكبيرة تفتقر إلى المؤن اللازمة وتعاني من التكدس، مثلما كان الحال في عام 1998، في أيام إعصار جورج، ولم تكن تصدق أن المكان سوف يستخدم من جديد، وقالت في نفسها إنهم ربما تعلموا الدرس من المرة السابقة ووفروا المؤن اللازمة للصالة الرياضية المغلقة. كل شيء ممكن، ولكنها كانت غير واثقة.
كانت كاثي تعتزم أن ترحل بمجرد الإعلان عن تحويل المرور إلى اتجاه واحد، وهو ما كان من المفترض أن يبدأ تنفيذه في نحو الرابعة عصرا. ومن شأن هذا التحويل أن يجعل الحارات في جميع الطرق الرئيسة مجهزة للسيارات الخارجة من المدينة، ولكن كان على كاثي في هذه الآونة أن تحزم حقائبها وتضعها في سيارتها، واسمها «الأوديسية»، بحيث تكون على استعداد عند مدخل المنزل.
لكن ترى أين تذهب؟ كانت واثقة بأن كل فندق سيكون كامل العدد في أي مكان خارج المدينة حتى مسافة مائتي ميل. وإذن كان الأمر ينحصر في الاهتداء إلى من تثقل عليه بضيافتها من أفراد الأسرة. خطر لها أولا أن تذهب إلى أختها «آن» في مدينة «بوبلارفيل»، بولاية مسيسيبي، ولكنها عندما اتصلت بها، كانت «آن» أيضا تفكر في الرحيل؛ إذ إن منزلها كان يقع من الناحية الجغرافية المحضة في المنطقة التي سوف تتضرر من الرياح العاتية، كما كانت تحيط به أشجار عتيقة، ولما كان من المحتمل أن تسقط إحداها فتخرق سقف منزل «آن» لم تكن واثقة أنها ينبغي أن تظل في ذلك المنزل، ناهيك باستضافة كاثي وأطفالها.
كان الخيار التالي هو المقر الرئيس للأسرة في باتون روج، وكان منزلا ريفيا تحيط به مزرعة في إحدى ضواحي تلك المدينة، ويملكه أخوها آندي، وبه ثلاث غرف للنوم، وكان آندي كثير الترحال وكان آنذاك في هونج كونج، يعمل في مشروع إنشائي. وكانت اثنتان من أخوات كاثي، هما باتي وماري آن، قد انتقلتا للعيش فيه أثناء غيابه.
كانت كاثي تعرف أنهما سوف تسمحان لها بالنزول في ذلك المنزل مع أطفالها، ولكن التكدس محتوم في هذه الحالة، بداية لم يكن المنزل كبيرا، وكان لدى باتي أربعة أطفال أيضا، فإذا أضيفت كاثي بأطفالها الأربعة أصبح في المنزل ثمانية أطفال وثلاث أخوات، وغدا الجميع يعيشون معا في منزل من المحتمل أن تؤدي الرياح العاتية إلى قطع الكهرباء عنه.
ومع ذلك فإن الأسرتين لم تجتمعا معا منذ وقت طويل، وربما أدت هذه المناسبة إلى التقارب بين أفرادهما، فقد يستطيعون الخروج معا لتناول الطعام، أو للتسوق في باتون روج، وكانت كاثي واثقة بأن أطفالها سوف يرحبون بالفكرة. كان أطفال باتي أكبر سنا ولكنهم دائما ما كانوا يستمتعون بصحبة أطفال زيتون، وعلى أي حال فإن ثمانية أطفال تحت سقف واحد لا بد أن يجدوا شيئا يفعلونه معا، وعلى الرغم مما ينتظرها من التكدس والجلبة الصاخبة، فإن كاثي وجدت نفسها تتطلع إلى الذهاب.
وحاولت كاثي طيلة ساعات العصر إقناع زوجها بالذهاب معهم، وسألته متى طلب المسئولون من قبل إخلاء مدينة بأكملها؟ ألم يكن ذلك سببا كافيا للرحيل؟
وأقر زيتون بأن ذلك غير معتاد، ولكنه لم يمر بتجربة الجلاء عن مكان ما من قبل، ولم ير ما يدعوه إلى أن يفعل ذلك الآن، كان منزلهما يقوم على ربوة ارتفاعها نحو ثلاث أقدام، وكان يتكون من طابقين فوق الطابق الأرضي؛ الأمر الذي ينفي اضطرار أحد إلى اللجوء إلى غرفة السطح أو إلى سقف البيت نفسه، حتى في أسوأ الحالات. وقال زيتون في نفسه إنه يستطيع في جميع الأحوال أن يعتصم بالطابق الثاني، كما إنه ليس قريبا من أي سدود، ومن ثم فإن حدوث فيضان مفاجئ يغرقه، والذي يغرق بعض الأحياء الأخرى أمر مستبعد. والواقع أن منطقة شرقي نيو أوليانز، أو آخر الحي التاسع، بمنازلها ذوات الطابق الواحد والقريبة من السدود هي التي كانت تتعرض لأشد الأخطار.
وبالقطع لم يكن يستطيع أن يرحل قبل اتخاذ الإجراءات اللازمة لتأمين جميع المواقع التي تجري فيها أشغاله، لم يكن أحد سواه يستطيع ذلك، بل لم يكن يطلب من أحد أن يقوم بذلك. كان قد طلب من عماله ورؤسائهم أن يرحلوا عصر ذلك اليوم؛ حتى يكونوا في صحبة أسرهم، وحتى يتاح لهم التبكير قبل ازدحام الطريق بالسيارات، كما اعتزم المرور على كل موقع من المواقع التسعة التي يتولى العمل فيها حتى يجمع معداته أو يربطها في حزمة واحدة؛ إذ كان قد شاهد ما حدث عندما لم يفعل أحد المقاولين ذلك، فقد انكفأت السلالم المتنقلة التي يستخدمها العمال فكسرت النوافذ وخدشت الجدران، وأصابت الأدوات قطع الأثاث بأضرار، وسال الطلاء على الكلأ وفي مدخل المنزل.
وقال: «الأفضل أن أذهب بنفسي.»
وانطلق لزيارة مواقع العمل، فأخذ يثبت السلالم المتنقلة بأربطة، ويجمع المعدات في حزم ملفوفة، مثل الفراجين ووحدات البلاط والألواح المجصصة، وكان قد انتهى من العمل في نحو نصف المواقع حين اتجه إلى المنزل لوداع كاثي والأطفال.
كانت كاثي تنقل عددا من الحقائب الصغيرة إلى سيارتها، كانت قد حزمت ما يلبي احتياجهم لمدة يومين من الملابس وأدوات التزين والأغذية. وقالت في نفسها إنهم سوف يعودون في مساء يوم الإثنين بعد أن تأتي العاصفة وتمضي.
وأدارت كاثي الراديو في شاحنتها الصغيرة فسمعت العمدة ناجين وهو يكرر تعليماته لأهل المدينة بمغادرتها، ولكنها لاحظت أنه لم يكن يدعو إلى الإخلاء الإجباري، وكانت واثقة بأن ذلك سوف يزيد موقف زوجها صلابة. وحولت مؤشر الراديو إلى محطة أخرى، وكان المذيع هنا يقول محذرا إن على كل من يعتزم البقاء أثناء العاصفة في نيو أورلينز أن يكون متأهبا لوقوع فيضان، موضحا أن السدود قد تحدث بها شروخ ينفذ منها الماء، وقد ينشأ الفيضان من موجات البحر التي تدفعها العاصفة، وقد يصل ارتفاع المياه إلى عشر أقدام أو خمس عشرة، وعلى كل شخص ذي رأي متصلب أن تكون لديه فأس يكسر بها سقف غرفة السطح للوصول إلى السطح العلوي للمنزل.
وأوقف زيتون شاحنته وتركها في الشارع المواجه للمنزل، وشاهدته مقبلا نحوها، لم تكن كاثي تشك قط في قدرته على رعاية نفسه في أي ظروف، ولكن قلبها كان الآن يخفق بشدة. هل تتركه الآن لتتولى أمورها بنفسها، وتتركه ليحفر ثقبا في غرفة السطح بفأس في يده؟ كان ذلك جنونا!
ووقف هو وكاثي في مدخل المنزل، مثلما فعل في المرات العديدة التي رحلت فيها مع الأطفال وتركته وحده.
وقال زيتون: «الأفضل أن تسرعي. كثيرون يرحلون الآن.»
ونظرت كاثي إليه، وساءها كثيرا أن تشعر بالدموع في مآقيها. وأمسك زيتون بيديها.
وقال: «هيا هيا! لن يحدث شيء. الناس تثير ضجة بغير مبرر.»
وقالت عائشة بصوت منغوم من المقعد الخلفي: «باي باي يا بابا!»
ولوح الأطفال بأيديهم. لوحوا جميعا؛ كل أطفاله، وهو واقف في مدخل المنزل. لم يكن في هذا كله جديد، فلقد عاش الجميع هذه اللحظة عشر مرات؛ حينما كانت كاثي والأطفال يسافرون طلبا للمأوى الآمن أو للراحة، تاركين زيتون لرعاية منزله ومنازل الجيران والعملاء في شتى أرجاء المدينة. كان يحمل مفاتيح عشرات الأبواب؛ إذ كان كل فرد يأتمنه على منزله وكل شيء فيه.
وقال: «إلى اللقاء يوم الإثنين.»
وانطلقت كاثي بالسيارة موقنة أن الجميع مجانين. كان العيش في مدينة كهذه جنونا، والفرار الآن منها جنون، وترك زوجها وحيدا في منزل يقع في مسار الإعصار جنون.
ولوحت له بيدها، ولوح الأطفال بأيديهم، وظل زيتون واقفا يلوح في مدخل المنزل حتى ذهبت أسرته.
وانطلق زيتون للانتهاء من باقي مواقع العمل التي يتولاها. كانت النسائم تهب والسحب المنخفضة تغشاها بقع بنية ورمادية، وكانت المدينة في فوضى، وآلاف السيارات على الطرق، والمرور أشد سوءا مما توقع، كان يلمح أضواء الفرامل، ويسمع أبواق السيارات، ويرى بعضها يسير مضيئا الأنوار الحمراء، فسار في شوارع لن يسير فيها الخارجون من المدينة.
وفي وسط المدينة كان مئات الأشخاص يسيرون إلى مبنى القبة الكبيرة، حاملين البرادات والبطاطين وحقائب الملابس، ودهش زيتون من ذلك، فالتجارب السابقة في استخدام الاستاد ملجأ قد فشلت، وباعتباره من رجال المعمار كان قلقا على سلامة السقف؛ هل يستطيع الصمود حقا للرياح العاتية؟ وقال في نفسه إنه لا يقبل الاحتماء في ذلك المكان مهما يدفعوا له من أموال.
وعلى أي حال فلم تكن مثل هذه العاصفة في الماضي تمثل أكثر من عدة ساعات من صراخ الرياح، وسقوط بعض الأشجار، وارتفاع الماء قدما أو قدمين، وبعض الأضرار الطفيفة التي يمكن إصلاحها بمجرد هدوء الريح.
كان يشعر من الآن بالاطمئنان؛ إذ سرعان ما تخلو نيو أورلينز من السكان إلى حد كبير، وكان الوجود في المدينة الخالية دائما ما يشيع الشعور بهدوء البال على الأقل يوما أو يومين. واستمر في جولاته، وقام بتأمين المواقع القليلة الباقية، ووصل إلى البيت قبيل السادسة مساء.
واتصلت به كاثي في السادسة والنصف.
قالت إنها محشورة في زحام المرور على مسافة بضعة أميال خارج المدينة. وكان مما يزيد الأمر سوءا أنها ضلت الطريق الصحيح بسبب اضطرابها وأعداد السيارات الهائلة بصورة غير مسبوقة، فبدلا من السير في طريق أ-10 غربا للوصول مباشرة إلى باتون روج، انحرفت في الطريق أ-10 شرقا، ولا تجد ما يمكنها من تصويب ذلك الخطأ، بل أصبح عليها أن تعبر بحيرة «بونشارتران» ثم تعود القهقرى من جديد خلال مدينة «سليدل» وعبر الولاية. كان معنى هذا إضافة ساعات إلى زمن الرحلة، كانت تشعر بالضيق والإرهاق والرحلة لم تكد تبدأ.
كان زيتون يجلس في المنزل، واضعا قدميه على المنضدة، ويشاهد التليفزيون، وحرص على إخبارها بذلك.
وقال لها: «قلت لك ذلك.»
كان المتوقع أن تصل كاثي والأطفال إلى منزل باتي لتناول العشاء مع الأسرة، ولكنها بحلول السابعة لم تكن قطعت إلا أقل من عشرين ميلا ، وعندما وصلت إلى مشارف «سليدل» دخلت بالسيارة مطعما يقدم الهامبورجر للمسافرين، فتناولت مع الأطفال الهامبورجر بالجبن والبطاطس المقلية في السيارة، وبعد عدة دقائق سادت السيارة رائحة كريهة.
وسألت كاثي الأطفال: «ما هذا؟» فقهقه الجميع، كانت الرائحة رائحة براز منتنة، وسألت من جديد: «ما هذا أقول؟» وفي هذه المرة لم يستطع الأطفال من شدة القهقهة أن يجيبوا، وهز زخاري رأسه.
وتمكنت إحدى الفتيات من أن تقول: «إنها الكلبة ميكاي»، قبل أن تعود للضحك الهستيري من جديد.
كان الأطفال يقدمون إليها سرا قطعا من الهامبورجر بما فيه من جبن، وكان الجبن يسد أمعاءها، فظلت تفسو مسافة أميال.
وصرخت كاثي: «هذا فظيع!» وازدادت قهقهة الأطفال، واستمرت معاناة الكلبة، وكانت تختبئ تحت المقعد.
ومرت بمدينة سليدل وسرعان ما وجدت الطريق أ-190 وهو طريق أصغر، وكانت تتصور أن حجم المرور فيه أخف، لكنه كان على الدرجة نفسها من السوء، نهر لا نهاية له من أضواء الفرامل، وحدست كاثي أن أمامها عشر آلاف سيارة، وعشرين ألف ضوء للفرامل، تصطف على طول الطريق إلى باتون روج وتتجاوزها، كانت قد أصبحت جزءا من هذا «الخروج» دون أن تتبين تماما أبعاده الهائلة وغرابته. مائة ألف شخص في الطريق، متجهون جميعا إلى الشمال والشرق؛ فرارا من الرياح والماء. لم تجل بخاطر كاثي إلا صورة الفراش. أين يمكن لهؤلاء الناس جميعا أن يناموا؟ في مائة ألف سرير. كانت كلما مرت بمدخل منزل نظرت إلى البيت في شوق، كان التعب قد بلغ بها أقصاه ولم تكن قد قطعت حتى نصف المسافة.
وخطر لها أمر زوجها من جديد، كانت الصور التي شاهدتها في شريط الأنباء عجيبة حقا؛ إذ كانت العاصفة تشبه منشارا دائريا أبيض، يتجه مباشرة نحو نيو أورلينز. كانت المدينة في هذه الصور المرسلة بالقمر الصناعي تبدو بالغة الضآلة بالمقارنة بالإعصار، شيء صغير يوشك أن يقطعه نصل المنشار الدائري الهائل ويفتته تفتيتا. ولم يكن زوجها إلا رجلا وحيدا في منزل خشبي.
واتصل زيتون بها من جديد في الثامنة، كانت كاثي والأطفال قد قضوا ثلاث ساعات على الطريق ولم تصل السيارة إلا إلى بلدة كوفنجتون، على مبعدة خمسين ميلا تقريبا. وفي غضون ذلك كان يشاهد التليفزيون ويتسكع في المنزل، ويستمتع ببرد الليل.
وقال لها: «كان ينبغي أن تبقوا. المكان لطيف فعلا.»
وردت قائلة: «سنرى أيها الفتى الذكي!»
على الرغم من شعور كاثي بالإرهاق وضيقها الشديد بفساء الكلبة، فإنها كانت تتطلع إلى قضاء عدة أيام في باتون روج، والأقرب للواقع أن نقول إنها تتطلع إلى ذلك في لحظات معينة على الأقل. لم تكن تجد التعامل مع أسرتها يسيرا، وهذا أمر مؤكد، وكان يمكن لأي زيارة أن تنحرف عن المسار الصحيح بسرعة، وتأتي بأخطاء يصعب إصلاحها. كانت تقول للناس: «إن المسألة معقدة.» كانت نشأتها مع ثمانية أشقاء غاصة بالقلاقل، وعندما اعتنقت الإسلام تكاثرت المعارك وحالات سوء الفهم.
كانت المنازعات كثيرا ما تنشب بصدد حجابها، كانت تعود إلى المنزل، وتضع حقائبها، ثم يقول أحدهم: «الآن تستطيعين نزع هذا الشيء.» كانوا لا يزالون يقولون لها ذلك، بعد انقضاء خمسة عشر عاما على اعتناقها الإسلام، كأنما كان الحجاب شيئا تلبسه مكرهة، وفي صحبة زيتون فقط، أو كأنه قناع تنكري يمكن أن تطرحه في غيابه. أو قل كأنما كانت تستطيع في بيت أسرة دلفين، أسرتها، أن تجد ذاتها أخيرا وأن تستمتع بحياتها. وكان ذلك في الواقع هو الأمر الذي أصدرته والدتها إليها في آخر زيارة قامت بها كاثي؛ إذ قالت أمها: «انزعي هذا الشيء من رأسك، واخرجي لقضاء وقت سعيد!» •••
لكنه كان يحدث في بعض الأحيان أن يتغلب إخلاص الأم لابنتها على موقف والدة كاثي من الإسلام. فمنذ سنوات ذهبت كاثي مع أمها إلى إدارة المرور لتجديد رخصة القيادة الخاصة بكاثي، وكانت كاثي آنئذ تلبس حجابها، وكانت قد تلقت بالفعل عددا لا بأس به من النظرات المريبة من العملاء والعاملين في إدارة المرور قبل أن تجلس لالتقاط صورتها، ولكن الموظفة القائمة على آلة التصوير لم تخف احتقارها.
قالت المرأة: «انزعي ذلك الشيء!»
كانت كاثي تعرف أنه كان من حقها أن تلبس الحجاب عند التصوير، لكنها لم تشأ أن يتحول الأمر إلى مشاجرة.
فسألتها كاثي: «هل لديك فرشاة شعر؟» حاولت أن تحيل الأمر إلى فكاهة فقالت: «لا أريد أن يبدو شعري ملبدا في الصورة.» كانت كاثي تبتسم، ولكن المرأة كانت تحدق دون أن يرمش لها جفن. واستمرت كاثي تقول: «حقا، لا أبالي إن خلعت الحجاب ولكن بشرط أن تكون لديك فرشاة شعر.»
وكانت تلك هي اللحظة التي هبت فيها والدتها لإنقاذها، بأسلوبها الخاص.
وصرخت والدتها: «لها أن تلبسه! تستطيع إذا أرادت!»
وتحول الموقف إلى مشادة، وكان كل من في إدارة المرور يتفرج! وحاولت كاثي نزع فتيل النزاع قائلة: «لا بأس يا ماما! حقا لا بأس! هل معك فرشاة شعر يا ماما؟»
ولم يبد أن والدة كاثي استوعبت ما سمعت، بل كانت تركز اهتمامها على الموظفة التي تمسك آلة التصوير، وهتفت صائحة: «لا تستطيعين إرغامها على خلعه! إنه حق من حقوقها الدستورية!»
واختفت المرأة أخيرا في مؤخرة المكتب، ثم عادت بعد أن حصلت على الإذن من رئيستها بتصوير كاثي بالحجاب، وعندما أومض ضوء التصوير حاولت كاثي الابتسام.
نشأت كاثي وترعرعت في باتون روج، وكان منزل الأسرة مزدحما، غاصا بالضوضاء وصور التناقض الصارخ، كان تسعة أطفال يشتركون في العيش في منزل من طابق واحد مساحته 155 مترا مربعا، وكان كل ثلاثة ينامون في غرفة واحدة ويتنازعون على استخدام حمام واحد، ولكنهم كانوا قانعين إلى الحد الذي يمكن توقعه في هذه الأحوال. وكان الحي يتميز بالنظام؛ إذ يحفل بالأطفال الذين أنجبهم العمال القاطنون فيه. وخلف منزل كاثي كانت تقع مدرسة شيروود الإعدادية، وهي مدرسة ضخمة، تلاميذها ينحدرون من سلالات عرقية متعددة، وكانت كاثي تشعر فيها بأنها مغلوبة على أمرها، كانت واحدة من حفنة التلاميذ ذوي البشرة البيضاء، فكان الآخرون يضطهدونها ويستأسدون عليها ويضحكون منها. وهكذا درجت على أن تتشاجر بسرعة، وتجادل بسرعة.
ولا بد أنها هربت من المنزل أكثر من عشر مرات، وربما أكثر كثيرا. وكانت في كل مرة تقريبا، ابتداء من سن السادسة أو نحوها، تهرع إلى منزل صديقتها يوكو. لم يكن ذلك المنزل يبعد إلا بمسافة عدة شوارع، ويقع في الجانب الآخر من المدرسة، ولما كانت هي ويوكو من بين الأقلية غير السوداء في الحي، نمت بينهما رابطة عدم الانتماء، كانت يوكو تعيش مع أمها كاميكو وحدهما في منزلهما بعد وفاة زوج كاميكو؛ إذ قتله سائق مخمور ويوكو لا تزال طفلة صغيرة. وعلى الرغم من أن يوكو كانت أكبر من كاثي بثلاث سنوات، فإن الاثنتين أصبحتا صديقتين لا تنفصلان، وكانت كاميكو شديدة الترحيب بكاثي والحدب على رفاهتها حتى غدت كاثي تدعوها «ماما».
ولم تستطع كاثي أن تعرف على وجه اليقين سبب احتضان كاميكو لها، ولكنها كانت تحرص على ألا تتشكك في ذلك. وكانت يوكو تتفكه قائلة إن أمها تريد الاقتراب من كاثي وحسب إلى الحد الذي يسمح لها بأن تحميها، والواقع أن كاثي لم تكن تستحم كثيرا في طفولتها، ولم يكن الاستحمام يتمتع بأولوية كبيرة في منزلها، ولذلك كلما زارت منزل يوكو، ملأت كاميكو البانيو لها. كانت كاميكو تتفكه مع يوكو قائلة: «تبدو بشرتها دهنية.» ولكنها كانت تود لها أن تبدو نظيفة، وكانت كاثي تتطلع بشوق لذلك؛ ليدي كاميكو وهي تغسل شعرها، وأظافرها الطويلة تدغدغ رقبتها، والدفء الذي تحس به حين تضع كاميكو الفوطة السميكة النظيفة فوق كتفيها.
وبعد المدرسة الثانوية، ازداد اقتراب كاثي ويوكو، وانتقلت كاثي للإقامة في شقة صغيرة تقع في شارع متفرع من طريق «إير لاين» الرئيس في باتون روج، وبدأتا العمل معا في محل لبيع الفطائر. كان الاستقلال يعني كل شيء لكاثي، وحتى في شقتهما الصغيرة في الشارع المطل على الطريق الرئيس الرابط بين الولايات، وبه ست حارات، كانت قد بدأت تعرف ما لم تعرفه من قبل قط، ألا وهو الإحساس بالنظام والهدوء في حياتها.
وكان من بين من اعتادوا التردد على المحل أختان من ماليزيا، وبدأت يوكو تحادثهما وتسألهما: ماذا يعني غطاء الرأس ذلك؟ ماذا يفعل المرء في الإسلام؟ هل يسمح الإسلام لك بقيادة السيارة؟ وكانت الأختان صريحتين، وتتكلمان بهدوء ، ولا تنزعان إلى الدعوة إلى الإسلام أبدا. ولم تكن كاثي تجهل أنهما أثرتا في يوكو تأثيرا عظيما، ولكن يوكو كانت كالمسحورة، فبدأت تقرأ عن الإسلام، وتفحص القرآن، وسرعان ما أحضرت الأختان الماليزيتان بعض الكتب والكتيبات إلى يوكو فاندفعت تتعمق.
وعندما أدركت كاثي كم كانت يوكو جادة في هذا الموضوع، شعرت كاثي بأنها على شفا الخبل، وشعرت بالحرج لموقف يوكو، فلقد نشأتا كلتاهما على الدين المسيحي، ودخلتا مدرسة ابتدائية تلتزم بالمسيحية بصرامة، وكاد صبر كاثي ينفد وهي تشهد صديقتها وهي تتشرب هذا الدين الغريب. وكانت تراعي مبادئ المسيحية ورعا وتقوي كخير ما تكون المراعاة، وكانت كاميكو نفسها تتفوق عليها في ذلك.
وسألتها: «ماذا عسى أمك أن ترى في ذلك؟»
وقالت يوكو: «حافظي على تفتح ذهنك وحسب. أرجوك!»
ومرت عدة سنوات، وبعد بضعة أخطاء في التقدير وجراح في القلب، أمست كاثي مطلقة، تعيش وحدها مع زخاري الذي لم يكن قد أكمل عامه الأول في هذه الدنيا. كانت تؤجر الشقة نفسها الواقعة في شارع متفرع من طريق إير لاين الرئيس في باتون روج، وتقوم بعملين في الوقت نفسه، كانت في الصباح تعمل في صيدلية تابعة لسلسلة صيدليات شركة «كيه آند بي»، وينحصر عملها في محاسبة العملاء على مشترياتهم وتقاضي ثمنها قبل خروجهم، وكانت الصيدلية تقع في الطريق الرئيس. وذات يوم زار الصيدلية مدير متجر «وبستر» للملابس الذي يقع على الجانب الآخر من الطريق، وهو حانوت متخصص في ملابس الرجال، وشاهد كاثي وأبدي إعجابه بشخصيتها المتقدة حماسة، وسألها إن كانت على استعداد لترك الصيدلية والعمل لديه، أو الجمع - إذا شاءت - بين العملين. وكانت كاثي تحتاج إلى النقود فوافقت على العرض الأخير، وأصبحت تغادر الصيدلية مبكرا في عصر كل يوم وتعبر الطريق إلى متجر وبستر للملابس وتظل تعمل حتى وقت إغلاقه. وسرعان ما باتت تعمل خمسين ساعة في الأسبوع، وتكسب ما يكفي لتغطية نفقات التأمين الصحي لها ولزخاري.
ولكن حياتها كانت تمثل مجالدة عسيرة، وكانت تبحث عن بعض النظام وبعض الإجابات. وعلى عكسها، كانت يوكو تبدو هادئة واثقة، وكانت دائما تتميز بالقدرة على التركيز حتى غدت كاثي تحسدها، ولكن يوكو أصبحت الآن حقا، فيما يبدو، كمن استطاع أن يفهم كل شيء.
وبدأت كاثي تستعير كتبا عن الإسلام، ولم يكن يدفعها سوى حب الاستطلاع، دون أدنى نية لترك الدين المسيحي. كانت في البداية حائرة مفتونة وحسب بالأمور الأساسية التي لم تكن تعرفها، والأشياء الكثيرة التي افترضتها خطأ. لم تكن تعرف مثلا أن القرآن يزخر بالأشخاص الذين يتحدث عنهم الكتاب المقدس - مثل موسى، ومريم، وإبراهيم، وفرعون، بل وعيسى أيضا - ولم تكن تعرف أن المسلمين يعتبرون القرآن رابع كتاب من عند الله إلى رسله، بعد العهد القديم (الذي يشار إليه باسم التوراة أو شرع موسى) والمزامير (الزبور)، والعهد الجديد (الإنجيل). وكان اعتراف الإسلام بهذه الكتب السماوية مذهلا لها. وكان إدراكها أن القرآن يمتد نطاقه ليشمل الأديان الأخرى المتصلة به مفاجأة حاسمة:
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (البقرة: 136).
وشعرت بالضيق الشديد لأنها لم تكن تعرف ذلك من قبل، ولأنها عميت عن دين يدين به ألف مليون شخص أو نحو ذلك، كيف يمكن أن تجهل هذه الأمور؟
ومحمد، لقد كانت لديها معلومات بالغة الخطأ عنه، كانت تظن أنه الرب الفعلي الذي يعبده المسلمون، ولكنه كان الرسول وحسب الذي نقل كلام الله، كان محمد رجلا أميا زاره الملك جبريل وأنزل عليه كلمات الله، وأصبح محمد قناة توصيل هذه الرسائل، وإذن فإن القرآن ببساطة هو الصورة المكتوبة لكلمات الله، وهكذا فإن كلمة القرآن تعني «القراءة».
واكتشفت أشياء أساسية بالغة الكثرة حطمت ما كانت تفترضه سلفا؛ إذ كانت تظن أن المسلمين مجموعة متجانسة كالصخرة الواحدة، وأن جميع المسلمين يمتازون بصلابة الورع والاستقامة، ولكنها تعلمت أنه توجد تفاسير شيعية وسنية للقرآن، وأنك يمكن أن تجد في مسجد واحد التنوع نفسه في العقيدة والالتزام الذي تجده في أي كنيسة ، وأن بعض المسلمين يتهاونون في التعامل مع دينهم، والبعض يعرف كل كلمة في القرآن وفي السنة على نحو ما جاء في الحديث النبوي الذي يعتبر مرشدا للسلوك مرافقا للقرآن، وأن بعض المسلمين لا يكادون يعرفون شيئا عن دينهم، ولم يكونوا يصلون إلا عدة مرات في السنة، والبعض الآخر ممن يطبقون أشد تفسيرات عقيدتهم صرامة. وعرفت أن بعض المسلمات يرتدين ال «تي شيرت» والجينز، ومسلمات يغطين أنفسهن من الرأس إلى القدم. وأن بعض المسلمين من الرجال يتبعون في حياتهم السنة النبوية، وآخرين يضلون ولا يهتدون. عرفت بوجود مسلمين سلبيين، ومسلمين مزعزعي الدين، ومسلمين «لا أدريين» يعبدون الله «على حرف»، ومسلمين أتقياء، ومسلمين يحرفون الكلم عن مواضعه ليشتروا به ثمنا قليلا. كان ذلك الحال مألوفا إلى أقصى حد، بل من الظواهر الثابتة في كل عقيدة.
في ذلك الوقت كانت كاثي ترتاد كنيسة إنجيلية كبيرة لا تبتعد كثيرا عن وظيفتيها، وعلى الرغم من أنها لم تكن تمتلئ دائما، فإن مقاعدها كانت تكفي ألفا من رعايا الكنيسة. كانت تشعر بالحاجة إلى التواصل مع دينها؛ إذ كانت تحتاج إلى كل ذرة من القوة يمكن أن تجدها.
لكنها شهدت في هذه الكنيسة أمورا أقلقتها. كانت قد اعتادت أسلوب الوعظ المتقد في الكنيسة، وأقصى المظاهر الاستعراضية والدراما، ولكنها لاحظت ذات يوم أن أولئك قد تخطوا الحدود الفاصلة. كانوا قد انتهوا للتو من المرور بأطباق جمع التبرعات، وبعد أن جمعوا النقود المتبرع بها وعدوها، إذا بالواعظ - وكان رجلا قصيرا له وجه وردي وشارب - تبدو عليه خيبة الأمل. كان التعبير على وجهه صورة للألم، وبعدها لم يستطع كتمان ألمه، فانطلق يوبخ جماعة المصلين بهدوء أول الأمر، ثم بنبرات الضيق المتزايدة حدة، وتساءل: ألم يكونوا يحبون هذه الكنيسة؟ ألم يكونوا يقدرون العلاقة التي تخلقها هذه الكنيسة مع سيدهم المسيح؟ واستمر يهدر مؤنبا الحاضرين على الشح والبخل، واستغرقت محاضرته عشرين دقيقة.
وبهتت كاثي. لم تكن قد شهدت من قبل عد النقود أثناء صلاة الأحد، ثم طلب المزيد! كانت تعرف أن المصلين لم يكونوا أغنياء، فلقد كانت تلك كنيسة لطبقة العمال، كنيسة للطبقة الوسطى، ولقد تبرع كل بما يستطيع.
وغادرت الكنيسة في ذلك اليوم في قلق واضطراب إزاء ما شاهدته. وعندما عادت إلى البيت، ووضعت زخاري في فراشه لينام، لجأت من جديد إلى المواد التي أرسلتها يوكو إليها، وتصفحت القرآن. لم تكن كاثي واثقة بأن الإسلام هو الطريق الصحيح، ولكنها كانت تعرف أن يوكو لم تضللها قط من قبل، وأن يوكو كانت أكثر من عرفت اتزانا وعقلا، وإذا كان الإسلام قد نجح معها، فلم لا ينجح مع كاثي؟ كانت يوكو أختها، ومرشدتها.
وظلت كاثي تجالد قضية الإيمان طوال الأسبوع. كانت تعيش مع تساؤلاتها صباحا ومساء وطول النهار أثناء العمل. وذات يوم كانت ورديتها قد بدأت في محل وبستر للملابس عندما دخل رجل مألوف لها، ومن فورها، أدركت كاثي أنه أحد الوعاظ في الكنيسة، فأهرعت إليه تساعده في اختيار سترة «سبور» جديدة.
وقال لها: «تعرفين، عليك أن تأتي إلى كنيستنا، إنها ليست بعيدة عن هذا المكان.»
وضحكت وقالت: «أعرف كنيستكم. إنني أرتادها دائما. في جميع أيام الأحد تقريبا.»
ودهش الرجل قائلا إنه لم يرها من قبل.
فقالت: «ذاك لأني أجلس في الخلف.»
فابتسم وقال لها إنه سوف يبحث عنها في المرة القادمة، فقد كان يهتم بأن يجعل كل فرد يحس بأنه موضع ترحيب.
وقالت كاثي: «تعرف، لا بد أن هذه آية من عند الله، أقصد مقابلتك هنا.»
وسألها: «ماذا تعنين؟»
وحدثته عن أزمتها، وكيف أصابها الإحباط من بعض جوانب المسيحية التي تعرفها، وبعض الأمور التي شاهدتها، في الواقع، في كنيسته نفسها. وقالت له إنها كانت فعلا تفكر في اعتناق الإسلام.
كان يصغي بانتباه شديد، لكنه لم يكن، فيما يبدو، قلقا بسبب فقدان فرد من أفراد جماعة المصلين.
وقال: «لا! إنه الشيطان وحسب يلهو بك. من طبعه ذلك، أي محاولة غوايتك لصرفك عن المسيح، ولكن هذا لن يؤدي إلا إلى تقوية إيمانك، وسوف ترين يوم الأحد.»
وعندما ذهب الرجل كان يقين كاثي قد ازداد . كيف يمكن أن تكون هذه الزيارة إلا آية من عند الله؟ ففي اللحظة التي كانت تراودها الشكوك في عقيدتها، جاء رسول أرسله يسوع فدخل مباشرة حياتها.
وفي يوم الأحد التالي ذهبت إلى الكنيسة، وقد عقدت العزم من جديد على الصمود، فإذا كانت يوكو تجد الراحة والهداية في الإسلام، فإن كاثي كانت واثقة بأنها تلقت دعوة شخصية من المسيح. دخلت وجلست بالقرب من الصف الأمامي، مصممة على أن يراها صديقها الجديد ويعرف ما أحدثه من تأثير.
لم يستغرق ذلك مدة طويلة؛ إذ حين نظر إلى جماعة المصلين ووقع بصره عليها اتسعت حدقتاه، وأحست من تعبير وجهه أنها كانت الشخص الذي ظل يبحث عنه طول النهار، وذكرت التعبير نفسه على وجوه الأطفال حين يلمحون التورتة التي أعدت يوم مولدهم وكتبت عليها أسماؤهم.
وعند ذلك، فجأة، وسط الصلاة، نودي عليها بالاسم، كان الواعظ، أمام القاعة الزاخرة التي احتشد فيها ما يقرب من ألف شخص، يناديها باسمها كاثي دلفين.
وأمرها الواعظ قائلا: «تعالي هنا يا كاثي.»
ونهضت كاثي من مقعدها وسارت نحو الأضواء الباهرة التي غمرت المنبر، وحينما صعدت خشبة المسرح وقفت حائرة لا تدري أين تنظر، وكيف تتجنب وهج الأضواء، حجبت عينيها وحولتهما عن الضوء وخفضت بصرها. ركزت نظرها على حذائها وعلى الذين يجلسون في الصف الأمامي. لم يسبق لها أن وقفت أمام هذا الحشد الكبير. كان أقرب ما يشبهه يوم زفافها، ولم يكن عدد الحاضرين يتجاوز خمسين أو نحو ذلك من الأصدقاء وأفراد الأسرة، فماذا كان هذا؟ لماذا استدعيت؟
قال الواعظ: «كاثي! أخبريهم بما أخبرتني به. أخبرينا جميعا.»
وجمدت كاثي في مكانها، لم تكن واثقة بأنها تستطيع القيام بذلك. كانت كثيرة الكلام ونادرا ما تفقد أعصابها، أما أن تعيد ذكر ما قالته للكاهن بصفة شخصية أمام ألف من الغرباء فلم يبد لعينها صوابا.
ومع ذلك كانت كاثي واثقة بأنه يعرف ما يفعل، كانت تؤمن بأنها اختيرت للبقاء في هذه الكنيسة، وكانت تريد العبادة وتقديم يد العون، ربما كانت هذه الحادثة، مثل دخول الكاهن تيموثي المتجر في ذلك اليوم، حادثة قدرتها الأقدار، وقصدت بها أن تقربها من المسيح.
وقدم لها ميكروفون وتكلمت فيه، فقالت لجمهور المصلين ما قالته للكاهن، وإنها كانت تبحث في الإسلام وإن ذلك ...
وقاطعها الواعظ، وقال برنة استهزاء: «كانت تتطلع إلى الإسلام!» واستمر قائلا: «كانت تفكر في ...» - ثم توقف لحظة - «أن تعبد الله!» وعند ذلك أصدر صوتا كالشخير الهازئ الساخر، وهو الصوت الذي يصدره غلام في الثامنة أثناء اللهو في الملعب. كان هذا الكاهن، رئيس هذه الكنيسة الذي يؤم جمع المصلين، يستخدم هذا التعبير في الإشارة إلى الله. ألم يكن يعلم أن إلهه وإله الإسلام واحد؟ كان ذلك من أول الأمور التي تعلمتها من الكتيبات التي أعطتها يوكو لها وأبسطها، ألا وهو أن لفظ الجلالة «الله» كان اللفظ العربي للإله، بل إن المسيحيين الذين يتكلمون العربية يشيرون إليه باسم «الله».
وواصل حديثه فأثنى على كاثي وعلى يسوع، وأعاد تأكيد تفوق إيمانه وإيمانها، ولكنها كانت في تلك اللحظة لا تكاد تسمع ما يقال، كان قد انكسر شيء ما في داخلها، وعندما انتهى جلست في ذهول، حائرة وإن كانت قد تأكدت من أمر ما في تلك البقعة عينها وتلك اللحظة. ورسمت على شفتيها بسمة تأدب طيلة المدة الباقية من العبادة، وإن كانت موقنة أنها لن تعود إلى هنا أبدا.
وشغلت هذه الحادثة تفكيرها أثناء قيادة السيارة في رحلة العودة، وفي تلك الليلة واليوم التالي. وتحدثت إلى يوكو بشأنها، وأدركتا أن ذلك الرجل الذي يلقي المواعظ على ألف من رعايا الكنيسة الذين يثقون به ويتأثرون به لم يكن يعرف، أو لم يكن يهتم بأن يعرف أن الإسلام واليهودية والمسيحية فروع لدين التوحيد لإبراهيم الخليل، وأنها ترتبط بصلات وثيقة. هل يستبعد الإسلام كله بصوت لا يصدر إلا في الملعب؟ لم تكن كاثي تقدر على الانتماء إلى ما يدعو ذلك الواعظ إليه.
وهكذا، وبصورة متقطعة، اتبعت كاثي خطى يوكو إلى الإسلام؛ قرأت القرآن وأذهلها ما أحسته فيه من قوة وعذوبة. كان الوعاظ المسيحيون الذين سمعتهم ينفقون وقتا طويلا في الحديث عمن سيدخل النار ومن لن يدخلها، وعن شدة حرارتها والزمن الذي يقضى فيها، ولكن الأئمة المسلمين الذين قابلتهم لم يكونوا يتحدثون عن ذلك، وكلما سألت: «هل أدخل الجنة؟» كان الإمام يقول: «لا يعلم هذا إلا الله.» كانت شتي شكوك الأئمة تبث في نفسها الاطمئنان وتزيد من اجتذابها. كانت تطرح الأسئلة عليهم، مثلما كانت تطرحها على الكهنة، وكان الأئمة يحاولون الإجابة ولكنهم كثيرا ما يقولون إنهم لا يعرفون، بل يقولون: «فلنرجع إلى القرآن.» كانت تحب في الإسلام قوله بالمسئولية الشخصية، وانحيازه إلى العدالة الاجتماعية، ولكن أحب ما أحبته كانت سمات الكرامة والطهر المجسدة فيمن عرفتهن من المسلمات، فكانت ترى فيهن مثالا لصحة البدن والنفس، وللشرف الغامر، كن عفيفات، ملتزمات مهذبات، وكانت تنشد تلك القدرة على السيطرة على النفس، وما تأتي السيطرة به من طمأنينة.
وأما اعتناق الإسلام فعليا فكان يتحلى ببساطة جميلة؛ ففي حضور يوكو وحفنة من النساء الأخريات بالمسجد، كان كل ما فعلته أن نطقت بالشهادة، وهي العهد الإسلامي بالإيمان بالدين: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.» كان ذلك كل ما طلب منها، وأصبحت كاثي دلفين مسلمة.
وعندما كانت كاثي تحاول شرح الأمر لأصدقائها وأفراد أسرتها، كانت تتلعثم، لكنها كانت واثقة بأنها وجدت في الإسلام السكينة، بل إن الشكوك التي بذرت بذورها في العقيدة كانت تتيح مساحة للتفكير، ومساحة للتساؤل، وكانت الإجابات التي يقدمها القرآن ترسم لها الطريق إلى الأمام، بل إن نظرتها إلى أسرتها قل تشددها، حين نظرت إليها من خلال عدسة الإسلام، وغدت أقل عدوانية. كانت دائما ما تتشاجر مع أمها، ولكن الإسلام علمها أن «الجنة تحت أقدام الأمهات»؛ وهو ما كبح جماحها، وهكذا توقفت تماما عن الرد، وتعلمت كيف تزداد صبرا وقدرة على الصفح. كانت تردد: «لقد أعاد الإسلام الطهر والنقاء إلى نفسي.»
وإذا كان اعتناقها الإسلام يمثل خطوة إلى الأمام في نظرها، فإنه كان في نظر والدتها وأشقائها بمثابة نبذ لأسرتها وكل ما ترمز له. ومع ذلك فقد حاولت كاثي التعايش مع الواقع الجديد، وكذلك حاولت أسرتها، كانت تمر بها أوقات تسير الأمور فيها على خير ما يرام، كما كانت تشهد زيارات ممتعة لا يحدث فيها شيء، ولكن في مقابل كل مرة من هذه المرات، كانت الأمور تتطور وتتصاعد إلى القذف بالألفاظ والاتهامات، وصفق الأبواب والرحيل على وجه السرعة، كما كانت قد فقدت الاتصال تماما ببعض أشقائها الثمانية.
ولكنها كانت ترغب في أن تكون لها أسرة مديدة، كانت تريد أن يعرف أطفالها خالاتهم وأخوالهم وأبناءهم، وهكذا شعرت براحة عميقة حين وصلت شاحنتها «الأوديسية» إلى منزل أخيها في باتون روج، في الحادية عشرة والنصف، وأدخلت أطفالها المنزل وسرعان ما غلبهم النعاس، على الأرائك وعلى الأرض، ولما تمض دقائق معدودة.
وعندما استقر بها المقام طلبت زيتون بالتليفون. «هل وصلت الرياح العاصفة؟»
وقال: «لم يصل شيء بعد.»
وقالت كاثي: «سوف يغمى علي! لم يسبق أن شعرت بهذا الإرهاق!»
وقال: «استريحي الآن. عليك بالنوم.» - «وأنت أيضا.»
وتبادلا تحية المساء، وأطفآ الأنوار.
الأحد 28 من أغسطس
استيقظت كاثي قبل الفجر وفتحت التليفزيون. كانت كاترينا قد أصبحت الآن عاصفة من الدرجة الخامسة، وبلغت سرعة الرياح فيها 150 ميلا في الساعة، وكانت تتجه بصورة مباشرة تقريبا إلى نيو أورلينز، وكان المتوقع أن تبلغ أقصى شدتها في منطقة على بعد ستة عشر ميلا غربي المدينة. وكان رجال الأرصاد الجوية يتنبئون بمزيد من الرياح، وارتفاع الأمواج إلى عشر أقدام، وإمكان خرقها للسدود، ووقوع الفيضان على امتداد الساحل. وأشارت التقديرات إلى وصول العاصفة إلى نيو أورلينز في تلك الليلة.
ولم تتوقف المكالمات التي تلقتها كاثي وتلقاها زيتون طوال النهار من عملاء يطلبون تأمين شبابيك منازلهم وأبوابها، إزاء ازدياد سوء أنباء الإعصار. وكانت كاثي تجمع هذه الطلبات وتنقلها إلى زيتون. واكتشف زيتون أن أحد النجارين الذين يعملون لديه، واسمه جيمس كروسو، كان لا يزال بالمدينة، فاصطحبه وقضى الاثنان النهار في المرور بالشاحنة على المنازل لإجراء الإصلاحات اللازمة. كانت زوجة جيمس تعمل في أحد الفنادق في وسط المدينة ، وكان الزوجان قد قررا أن يمكثا في المدينة أثناء العاصفة. وظل زيتون وجيمس يمران بالشاحنة من عمل إلى عمل، وفي صندوقها ربع طن من الخشب الرقائقي؛ ليفعلا ما يستطيعان قبل وصول الرياح. كانت الطرق لا تزال مزدحمة؛ إذ كانت موجة جديدة من السيارات خارجة من المدينة، ولكن زيتون كان يستبعد فكرة الرحيل. قال في نفسه إنه سيكون آمنا في منزله بشارع «دارت» البعيد عن السدود، كما كان المنزل يتكون من طابقين، وهو مليء بالأدوات والأغذية.
وفي الضحى أصدر العمدة ناجين أول أمر في تاريخ المدينة بوجوب إخلائها، قائلا إنه لا بد من رحيل كل من يستطيع ذلك.
وطوال النهار، كان زيتون وجيمس يشاهدان الناس مصطفين عند محطات الأوتوبيس، أولئك الذين كانوا يعتزمون البقاء في مبنى القبة الكبيرة، كانوا عائلات، وأزواجا مع زوجاتهم، ومسنين، ونساء وحدهن، وكانوا جميعا قد حزموا أمتعتهم في الحقائب المحمولة على ظهورهم، وأكياس القمامة، وحقائب الملابس. وكانت مشاهدتهم في العراء هكذا والرياح تشتد والسماء تزداد سوادا يبعث القلق في نفس زيتون. ومر مع جيمس بالمجموعات نفسها، وهي تنتظر في صبر، في طريقهما إلى مواقع عملهما، ثم مرا بهم من جديد في طريق العودة.
وفي باتون روج، كان الجو مكفهرا صاخبا؛ إذ هبت الرياح العاتية واسود لون السماء في الظهيرة، وقضى الأطفال بعض الوقت في الخارج يلعبون، ثم دخلوا المنزل لمشاهدة فيلم مسجل على دي في دي، وكانت كاثي في صحبة باتي وماري آن. وكانت الأشجار في المنطقة تتمايل بشدة.
وقطعت الكهرباء في الخامسة مساء، فأخذ الأطفال يلعبون ألعابا منزلية على ضوء الشموع.
وكانت كاثي تخرج بين حين وآخر إلى السيارة لسماع الأنباء في الراديو. كانت الرياح تحطم النوافذ في نيو أورلينز، وتقتلع الأشجار وخطوط الكهرباء.
وحاولت كاثي الاتصال بزيتون، ولكن كان جهاز البريد الصوتي يرد عليها. وحاولت الاتصال بتليفون المنزل. لا شيء. وقالت في نفسها، إن الأسلاك قد سقطت. لم يكن الإعصار قد أصاب المدينة بعد، ومع ذلك فلا تستطيع الاتصال بزوجها.
وبحلول الساعة السادسة كان زيتون قد أوصل جيمس إلى بيته وعاد هو إلى المنزل جاهزا للطوارئ، وشاهد الأخبار في التليفزيون، ولم تكن قد تغيرت كثيرا. كان المتوقع أن تصل أطراف الإعصار إلى المدينة في نحو منتصف الليل، وقال في نفسه إن ذلك سوف يعني انهيار شبكة الكهرباء عدة أيام.
وبدأ زيتون يسير في الغرف التي يزداد ظلامها، ويجري تقديرا لجميع الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها خلال العاصفة. كان المنزل يتكون من أربع غرف للنوم؛ الغرفة الرئيسة في الطابق الأول، وغرف الأطفال في الطابق العلوي. وتوقع أن تتسرب المياه من بعض الأماكن هنا، فالاحتمال قائم بأن يصاب السقف ببعض الأضرار، وربما انكسرت بعض النوافذ. وكانت غرفة الجلوس في الطابق الأرضي، بنافذتها البارزة المقوسة، معرضة للأخطار، وربما سقطت الشجرة القائمة في الحديقة الخلفية فوق المنزل، ولو أن ذلك احتمال ضئيل، لكنها إن سقطت فسوف يتسبب ذلك في وقوع أضرار كبيرة؛ إذ لن يقوم حاجز يمنع المياه من الدخول.
لكنه كان متفائلا. وعلى أي حال كان يريد البقاء في المنزل، بعد أن أنفق الآلاف على التحسينات التي أدخلها فيه وعلى حمايته بشتى السبل الممكنة، وتذكر أن جدته كانت لا تبرح خلال ما لا يحصى من العواصف في جزيرة أروض، وقرر من ثم أن يحذو حذوها، فبيت الأسرة جدير بالكفاح في سبيله.
كان الأمر الوحيد الذي يقلقه هو السدود. كانت الأنباء تحذر مرارا وتكرارا من اندفاع الموج بسبب العاصفة. وكانت السدود قد بنيت بحيث تستطيع الصمود أمام موج يبلغ ارتفاعه أربع عشرة قدما، ولكن الموج العاصف في الخليج كان قد ارتفع بالفعل إلى نحو تسع عشرة، أو عشرين قدما، فإذا خرق الموج السدود، فسوف يكون قد خسر المعركة بلا جدال.
واتصل بكاثي في الثامنة.
وقالت: «ها أنت ذا! كنت مختفيا.»
ونظر إلى تليفونه فوجد أنه فاتته ثلاث مكالمات منها لم يرد عليها.
وقال: «لا بد أن شبكة التليفونات قد بدأت التقطع فعلا.» لم يكن تليفونه قد أصدر أي رنين. وقال لها إنه لم يحدث حتى الآن شيء يذكر ، باستثناء الرياح العاتية ، لم يجد جديد.
وقالت: «ابتعد عن النوافذ.»
وقال إنه سيحاول.
وتساءلت كاثي بصوت عال عما إذا لم يكن فيما يفعلانه بعض الحمق، كان زوجها يتعرض لإعصار من الدرجة الخامسة وهما يتحدثان عن الابتعاد عن النوافذ!
وقال: «قولي للأطفال: تصبحون على خير!»
وقالت إنها ستفعل هذا.
وقال: «الأفضل أن نقطع المكالمة، حتى لا تنفد البطارية.»
وتبادلا تحية المساء.
وبعد أن أوي الأطفال إلى الرقاد، جلست كاثي على الأريكة في منزل أخيها آندي، وجعلت تحدق في الشمعة أمامها، كانت الضوء الوحيد الذي بقي في المنزل.
وما إن جاوزت الساعة الحادية عشرة حتى كان الطرف الأمامي للعاصفة قد وصل إلى منزل زيتون. واكتست السماء بلون رصاصي أدكن، وكانت الرياح باردة تدور في دوامات، وانهمرت الأمطار مدرارا. وكان الدمار الذي يحدثه الإعصار خارج المنزل يتصاعد كل نصف ساعة. وفي منتصف الليل انقطعت الكهرباء، وبدأ تسرب الماء إلى المنزل في الثانية أو الثالثة صباحا. بدأ التسرب في ركن غرفة النوم الخاصة بنديمة، فهبط زيتون إلى الجراج وأحضر صندوق قمامة معدنيا يسع أربعين جالونا ليسقط فيه الماء المتسرب، وانفتح ثقب في السقف بعد ذلك بدقائق، وبدأ الماء يتسرب منه، وكان هذه المرة في الطرقة العلوية، وأحضر زيتون صندوق قمامة معدنيا آخر. وانكسر زجاج نافذة في غرفة النوم الرئيسة بعد الثالثة صباحا بقليل، كأنما ألقيت طوبة اخترقت الشباك، وقام زيتون بجمع الشظايا وسد الفتحة بوسادة. وانفتح ثقب جديد في غرفة صفية وعائشة، فأحضر صندوق قمامة معدنيا آخر، أكبر هذه المرة.
وجر الصندوقين الأولين جرا إلى الخارج، وأفرغ الماء على الكلأ. وكانت السماء تشبه لوحة رسمها طفل بإصبعه المغموس في الألوان؛ إذ اختلط فيها اللون الأسود باللون الأزرق خلطا يوحي بالعجلة. وازدادت برودة الرياح، وساد الظلام الدامس الحي كله، وأثناء وقوفه على الكلأ سمع صوت ارتطام شجرة بالأرض، في مكان ما بالمربع السكني، بدأ بصوت انكسار تلاه صوت هسيس عند اندفاع أغصان الشجرة من خلال الأشجار الأخرى قبل أن تستقر على جانب أحد المنازل.
فدخل المنزل.
وجد أن نافذة أخرى قد انكسرت، فدس وسادة أخرى فيها ليسد الفتحة. وكانت أغصان الأشجار تخمش الجدران والسقف. وكان يسمع أصوات الارتطام في كل مكان، وبدا له أن عظام المنزل تئن تحت الضغط المتوالي. كان المنزل يتعرض للهجوم.
وعندما نظر في الساعة، فوجئ بأنها الرابعة صباحا، كان لم يتوقف عن الحركة والعمل لخمس ساعات متواصلة. إذا استمر الدمار بهذا المعدل، فسيكون الوضع أسوأ مما تنبأ. كل هذا ولم تبدأ العاصفة الحقيقية بعد.
وكان زيتون قد خطر له خاطر في الهزيع الأخير من الليل، لم يكن يتوقع أن يغمر المدينة فيضان ولكنه كان يعرف أن خطر الفيضان غير مستبعد. وهكذا خرج وتنسم الهواء البارد، وسحب من الجراج القارب المستعمل الذي كان قد اشتراه، ووضعه في الوضع الصحيح، كان يريد أن يكون القارب جاهزا.
وتمنى لو استطاعت كاثي أن تشاهده الآن! كانت عيناها قد دارتا ذهولا عندما شاهدته يعود إلى المنزل بذلك القارب. كان قد اشتراه منذ عدة سنوات من عميل في بايو سانت جون؛ إذ عندما كان العميل يقوم بالانتقال إلى منزل آخر، شاهد زيتون القارب في حديقة العميل، وكان من طراز معتاد ومصنوع من الألومنيوم، فسأل العميل إن كان يعرضه للبيع، وضحك العميل وقال: «هل تريد هذا؟» في دهشة وعجب. واشتراه زيتون من فوره بخمسة وسبعين دولارا.
كان قد استرعى انتباهه شيء ما في القارب، كان متقن الصنع، وليست به أضرار، وفي داخله مقعدان خشبيان. كان طوله نحو ست عشرة قدما، ومصنوعا لشخصين، كان فيما يبدو يوحي بالاستكشاف والفرار! فربطه على ظهر شاحنته واصطحبه إلى المنزل.
وشاهدته كاثي من نافذة غرفة المعيشة وهو يوقف السيارة، فقابلته لدى الباب وهتفت قائلة: «مستحيل!»
وقال زيتون مبتسما: «ماذا؟»
وقالت: «أنت مخبول!»
كانت كاثي تحب التظاهر بأن صبرها نفد، ولكن الجانب الرومانسي في زيتون كان عاملا أساسيا من عوامل حبها له. كانت تعرف أن أي نوع من القوارب كان يذكره بطفولته، فكيف تحرمه من قارب مستعمل؟ كانت شبه واثقة بأنه لن يستخدمه أبدا ، ولكنها كانت تعرف أن وجود القارب في الجراج لا بد أن يعني شيئا ما له؛ رابطة بالماضي، وإمكان المغامرة. أيا كان ذلك الشيء فلن تحرمه منه.
والواقع أنه حاول مرتين أو ثلاث مرات أن يثير اهتمام بناته بالقارب، فأخذهن إلى بايو سانت جون، وأنزل القارب في الماء، وجلس فيه، وعندما نادى نديمة التي كانت تجلس على الكلأ، رفضت. ولم توافق البنتان الصغيرتان أيضا. وهكذا، ولمدة نصف ساعة، والفتيات يرقبنه من مجلسهن على الكلأ، ظل يجدف في الماء وحده، محاولا أن يجعل الأمر يبدو مثيرا، لا يقاوم. وعندما عاد كن لا يزلن يعارضن الفكرة، فأعاد وضع القارب على ظهر الشاحنة وعاد الجميع إلى المنزل.
وازدادت قوة الريح بعد الخامسة. لم يكن يستطيع أن يتنبأ بوقت وصول الإعصار فعلا إلى الساحل، ولكن النهار لم تشرق فيه أضواء تذكر ذلك الصباح. كان اللون يتحول من الأسود إلى الرصاصي الفاقع، والمطر يهطل كالحصباء التي تقذف على الزجاج. كان يسمع جذوع الأشجار وهي تتصدع بفعل الرياح، وزفرات عظيمة تتردد عند سقوط الجذوع على الشوارع وأسقف المنازل.
ولم يستطع مقاومة النوم آخر الأمر. وعلى الرغم من إدراكه أن منزله يتعرض للهجوم، فإنه رقد، وهو يعرف أن شيئا ما لا بد أن يوقظه بعد قليل، وهكذا استسلم مؤقتا، وغلبه نعاس غير عميق.
الإثنين 29 من أغسطس
واستيقظ زيتون متأخرا، لم يستطع تصديق ساعة معصمه، كانت تشير إلى تجاوز العاشرة صباحا، لم يكن قد تأخر في النوم إلى ذلك الحد منذ سنوات. كانت جميع ساعات الحائط قد توقفت، فنهض، وحاول إضاءة المصابيح في ثلاث غرف، ولكن الكهرباء كانت لا تزال مقطوعة.
كانت الرياح شديدة في الخارج، والسماء لا تزال مظلمة، والمطر ينهمر. لم يكن يهطل بغزارة ولكن إلى الحد الكفيل بإبقاء زيتون داخل المنزل معظم ساعات اليوم، وتناول طعام إفطاره، وذهب ليتحقق من عدم وقوع أضرار أخرى للمنزل، فوضع دلوين تحت ثقبين جديدين يتسرب منهما الماء، وكان الضرر بصفة عامة على المستوى نفسه الذي كان عليه قبل أن ينام . كان قد نام أثناء أسوأ أوقات الإعصار، وكان يرى من النوافذ الشوارع تغطيها أسلاك الكهرباء التي سقطت، والأشجار التي وقعت، وما يقرب من قدم كاملة من الماء، كانت الحالة سيئة، وإن لم تكن أسوأ كثيرا من بعض العواصف التي يذكرها.
وفي باتون روج، أخذت كاثي الأطفال إلى السوبر ماركت لشراء المؤن اللازمة وبعض الكشافات التي تعمل بالبطارية. وفي داخل المحل بدا أن عدد الناس أكبر من عدد البضائع، لم يسبق لها أن شاهدت مثل هذا من قبل. كان الناس قد اشتروا كل شيء، والأرفف خاوية تقريبا. كان المشهد يشبه نهاية العالم. كان الأطفال خائفين، ويتشبثون بها، وبحثت كاثي عن الثلج وقيل لها إنه نفد منذ فترة طويلة. وعلى غير توقع، وجدت كشافين في علبة واحدة، آخر المعروض، فالتقطتهما قبل أن تصل إليهما يد امرأة أخرى بثوان معدودة، وابتسمت ابتسامة اعتذار للمرأة واتجهت إلى مكان دفع الحساب. •••
وفي العصر هدأت الريح وخف هطول الأمطار، وخرج زيتون لاستكشاف الأحوال. كان الجو دافئا، ودرجة الحرارة تزيد على 26° مئوية، وكان ارتفاع الماء في تقديره يبلغ ثماني عشرة بوصة، كان من مياه الأمطار، عكرا، لونه بني ضارب إلى الرمادي، لكنه كان يعرف أنه سرعان ما ينصرف ويختفي، ونظر إلى فناء المنزل الخلفي فشاهد القارب، وكان القارب يناديه؛ إذ كان يطفو على سطح الماء، وكان جاهزا للاستعمال، وقال في نفسه: إنها فرصة نادرة للانزلاق فوق الطرق. لم يكن أمامه إلا هذا اليوم، فتخلص من الماء الذي نزل من السماء في القارب ودخله وهو يلبس تي-شيرت وشورت وحذاء رياضيا.
كان الخروج من الفناء صعبا؛ إذ كانت إحدى الأشجار التي اقتلعت من جذورها تعترض الطريق وتعوق المرور فيه، وكانت فروعها منتشرة تسد مدخل المنزل، فجدف حتى استطاع القارب الالتفاف حولها وأصبح يواجه المنزل. نظر إليه فلم يجد أن ظاهره قد أصابته أضرار خطيرة. كانت بعض البلاطات قد سقطت من السقف، والنوافذ مكسورة، وكانت إحدى البالوعات تحتاج إلى تسليك. لم يكن الأمر بالغ السوء، ولن يتطلب عملا لما يتجاوز ثلاثة أيام .
وكانت المنازل الأخرى في الحي قد أصيبت بأضرار كثيرة من جراء الحطام المتناثر؛ إذ انفجرت بعض النوافذ، وسقطت فروع الأشجار المبتلة التي اكتست لونا أسود فغطت السيارات والشارع. وكانت الأشجار المبتلة في كل مكان مقتلعة من الأرض وملقاة على جانبها.
كان الصمت عميقا. وعلى سطح الماء أمواج صغيرة بفعل الريح ولكن كل شيء كان هادئا. لم تكن أي سيارات تسير ولا أي طائرات تطير. كان بعض الجيران يقفون في مداخل منازل يخوضون في المياه التي غمرت الفناء ويحاولون تقدير حجم الأضرار، لم يكن أحد يدري أين يبدأ أو متى يبدأ، كان يعرف أنه سوف يستدعى كثيرا لتحديد الأضرار، ووضع التقديرات للتكاليف المطلوبة في الأسابيع المقبلة.
لم يكن قد سار بالقارب إلا عبر عدة مربعات سكنية حين بدأ يتردد. كان يعرف أن خطوط الكهرباء قد وقعت وتنتشر في كل مكان. ماذا عساه أن يحدث إذا مست هذه الأسلاك قاربه المصنوع من الألومنيوم؟ أضف إلى هذا أن الماء لم يكن عميقا إلى الحد الذي يسمح بمرور القارب فيه، بل إن بعض مناطق في الحي لم تكن بها مياه تذكر، لم يكن ارتفاعها يزيد على بوصات معدودة، وشحط القارب فهبط منه زيتون وأداره حتى بلغ منطقة عميقة المياه، وعاد للتجديف حتى وصل إلى البيت.
وعلى امتداد ساعات العصر، كانت المياه تنحسر من الشوارع بمعدل عدة بوصات في الساعة. كان جهاز الصرف يعمل. وبحلول المساء كانت المياه قد انحسرت تماما، وجفت الشوارع. كانت الأضرار شاسعة، ولكنها لم تكن أكبر في الواقع من حفنة أخرى من العواصف التي يتذكرها، وانتهى الأمر.
وطلب كاثي بالتليفون.
قال لها: «عودوا.»
وشعرت كاثي بإغراء العودة، ولكن الساعة كانت قد بلغت السابعة، وكان الجميع يوشكون أن يتناولوا وجبة العشاء، ولم تكن تتصور أن تقدم على قيادة السيارة ليلا مع أربعة أطفال وكلبة أمعاؤها منتفخة، أضف إلى ذلك أن الكهرباء كانت مقطوعة في نيو أورلينز، وهذا معناه أن يعودوا إلى الحال نفسها التي عانوها في باتون روج. كان الأطفال لا يزالون يتمتعون بالوقت الذي يقضونه مع بنات خالتيهم، وكانت الضحكات المجلجلة في المنزل تشهد بذلك.
واتفقت مع زيتون على معاودة الحديث في الموضوع في الصباح، وإن كان كلاهما يتوقع أن تقوم كاثي بحزم أمتعة الصغار في وقت ما في اليوم التالي.
ودخلت المنزل واجتمعت العائلات، ثلاثة من الكبار وثمانية أطفال، وتناول الجميع سندويتشات السجق الساخنة على ضوء الشموع، ولم تغفل كاثي عن أن أختيها وضعتا بعض لحم الخنزير على المائدة، ولكنها أقسمت في نفسها ألا تثير هذه القضية، وهمست لنفسها دون صوت: «فوتيها! فوتيها!» كان عليها الدخول في معارك بالغة الكثرة. كانت واثقة بأن أمامها أن تشتبك في معارك إلى الحد الذي لا يسمح لها ببذل جهدها مع أختيها أثناء تناول السجق الساخن، وإذا أرادتا تقديم لحم الخنزير لأطفالها، فعليهما أن تحاولا. •••
وبعد ذلك بفترة، عندما ذهبت إلى السيارة لتسترق لحظات معدودة مع الراديو، سمعت العمدة ناجين يردد صدى عزوفها عن الرحيل؛ إذ قال: «لا تعودوا الآن. انتظروا حتى تعرفوا طبيعة الأضرار، وحتى يستقر كل شيء وننتهي من عمليات التنظيف. أمهلونا يوما أو يومين.»
وفي عصر ذلك اليوم، تلقى زيتون مكالمة من قريب له يدعى عدنان، وكان قريبا من بعيد من ناحية والدته، وكان قد نجح في حياته منذ هجرته منذ عقد كامل، فكان يمتلك ويدير أربعة محال صب-واي للسندويتشات بمدينة نيو أورلينز. وكانت زوجته عبير حاملا في طفلهما الأول وفي الشهر السادس.
وسأله عدنان: «هل ما زلت في المدينة؟» إذ كان يفترض أنه لا يزال فيها.
فسأله زيتون: «طبعا. هل أنت في باتون روج؟»
قال عدنان: «نعم.» كان عدنان قد رحل بالسيارة في البارحة مع عبير ووالديه المسنين. ثم سأل: «وما الحال هناك؟»
فقال زيتون: «الرياح عاتية حقا! إن الجو يثير بعض الخوف.» لم يكن زيتون ليعترف بهذا قط لكاثي، ولكنه كان يثق في كتمان عدنان.
وسأله عدنان: «تظن أنك سوف تبقى؟»
وقال زيتون إنه يعتزم البقاء، وعرض على عدنان أن يرعى حوانيته، وكان عدنان قبل أن يرحل قد أفرغ درج النقود في الآلة المخصصة لتسجيل المبيعات وحسابها، في حانوته الموجود في سيتي بارك أفينيو، واطمأن إلى أن الخبز كان جاهزا؛ إذ كان يفترض أنه سوف يعود يوم الثلاثاء.
وسأله عدنان: «هل تعرف أي مساجد في باتون روج؟» كانت جميع الموتيلات وهي فنادق الطرق التي ينزل فيها أصحاب السيارات ممتلئة تماما، ولم يكن عدنان وعبير يعرفان أحدا في باتون روج. وتمكنا من إيواء والدي عدنان في مسجد في الليلة السابقة، ولكنه كان زاخرا بالمئات الذين كانوا يفترشون الأرض، وكان من المحال إيواء المزيد فيه؛ الأمر الذي اضطر عدنان وعبير إلى قضاء الليلة في سيارتهما.
وقال زيتون: «لا أعرف أحدا، ولكن اطلب كاثي، إنها مع أسرتها، ولن تمانع الأسرة في استضافتكما، وأنا واثق.» ثم أعطى عدنان رقم تليفون كاثي.
وأفرغ زيتون جميع الدلاء في المنزل من الماء، ووضعها من جديد تحت الثقوب في السقف، وأخذ أهبته للرقاد. كان الجو شديد الدفء في الخارج، خانقا في داخل المنزل، ورقد في الظلام، وانسرح يفكر في قوة العاصفة، والزمن الذي استغرقته، وكيف كان من الغريب ألا تصيب المنزل إلا بأقل الأضرار، وذهب إلى النافذة الأمامية، لم تكن الساعة قد جاوزت الثامنة مساء، ولكن الشوارع كانت قد جفت جفافا كاملا، وتأمل الجهد الذي بذل في الهرب. ولماذا؟ لقد اندفع مئات الآلاف للسفر إلى الشمال فرارا من هذا: من ماء لا يزيد ارتفاعه على عدة بوصات، ولم يعد له أدنى أثر.
كان الصمت والهدوء يسودان تلك الليلة، لم يسمع صوتا للريح، ولا للبشر، ولا لصفارات الإنذار بالسيارات، لم يعد يتردد غير صوت مدينة تتنفس كما يتنفس، مرهقة من الكفاح.
الثلاثاء 30 من أغسطس
واستيقظ زيتون في وقت متأخر، ورفع بصره إلى النافذة من فوقه، وشاهد اللون الرمادي نفسه في السماء، وسمع الهدوء الغريب نفسه، لم يعرف في حياته وقتا مثل هذا الوقت، لم يكن يستطيع السير بالسيارة إلى أي مكان، ولم يكن يستطيع العمل، ولأول مرة منذ عقود طويلة، لم يكن لديه ما يفعله، سيكون يوم هدوء وراحة. وراوده شعور غريب بالكسل، وإحساس رهيف بالرضا، فعاد لنعاس غير عميق.
كانت جزيرة أروض، موطن أسرته الموروث عن الأجداد، غارقة في الأضواء. كانت الشمس دائمة السطوع هناك، والضوء الأبيض الدافئ يكسو بالبياض المباني الحجرية، والحارات المرصوفة بالحصى، فيظهر بوضوح لا يصدق لون البحر الأزرق الأدكن الذي يحيط بالجزيرة.
كان عندما يحلم زيتون بأروض التي كان يزورها كل صيف، تبرز له صورة أروض في طفولته وصباه، وكان في تلك الأحلام يمارس ما يمارسه الصبيان؛ كالجري حول الجزيرة الصغيرة، وإفزاع طيور النورس فتطير، والبحث في البرك التي يخلفها المد والجزر عن سرطانات بحرية أو حلزونات أو أي كائنات غريبة يقذف بها البحر على شاطئ الجزيرة الصخري.
وبحذاء الجدار الغربي، الذي يواجه البحر الشاسع في الغرب، كان يقوم مع أحمد بمطاردة دجاجة منفردة في الأطلال التي تحيط بالمنازل في آخر الجزيرة، وكان الطائر الهزيل يعدو مسرعا فيصعد تلا من القمامة والأنقاض، ثم يختفي في كهف من المرجان والأحجار، وكان يجذب انتباههما صوت فرقاطة «سفينة حربية صغيرة»، ألقت مرساتها، في انتظار الرسو في طرطوس، الميناء الذي يقع على بعد ميل واحد إلى الشرق. كانا دائما ما يشاهدان نحو ست سفن، من ناقلات البترول ومن شاحنات البضائع، واقفة تنتظر أن ترسو في المرفأ المزدحم، وكثيرا ما كانت تلقي مراسيها على مسافة قريبة تجعلها تلقي بظلالها على الجزيرة الصغيرة. وكان عبد الرحمن وأحمد يتطلعان إليها، وهياكلها تعلو على سطح البحر بمسافة تتراوح بين عشرين وثلاثين قدما. وكان الغلامان يلوحان بأيديهما إلى البحارة، ويحلمان بأن يكونا على متون السفن. كانت حياتهم تبدو لهما حياة رومانسية وحرية لا تتحقق إلا في الخيال.
وحتى في تلك الأيام، عندما كان أحمد غلاما نحيفا في الخامسة عشرة لوحته الشمس، كان يعرف أنه سوف يصبح بحارا. كان يحرص على عدم إخبار والده، لكنه كان واثقا بأنه يريد أن يقود إحدى هذه السفن. كان يريد أن يرشد السفن الكبرى المبحرة في شتى أرجاء العالم، وأن يتحدث عشر لغات ، وأن يتعرف على أبناء كل أمة.
لم يراود الشك عبد الرحمن قط في أن أحمد قادر على تحقيق ذلك؛ إذ كان أحمد، في نظر عبد الرحمن، قادرا على أي شيء، كان أقرب أصدقائه ومثله الأعلى ومعلمه، وكان أحمد قد علمه كيف يغرس الحربة في السمكة، وكيف يجدف وحده في القارب، وكيف يمارس الغطس في البحر من الصخور الفينيقية العظمى في جدار الجزيرة الجنوبي. وكان يريد أن يتبع أحمد أينما ذهب، وكثيرا ما كان يفعل ذلك.
كان الغلامان يتجردان من ملابسهما ويكتفيان بالملابس الداخلية، ثم ينطلقان سابحين إلى أرخبيل صخري قريب، وكانا يتناولان الحربة التي يخفيانها دائما وسط الصخور، ثم يتناوبان الغطس لصيد الأسماك بها. وكانت السباحة رياضة طبيعية عند البنين في أسرة زيتون وجميع أطفال أروض، فاستطاعوا السباحة بمجرد تعلمهم المشي، وكانوا يحبون البقاء في الماء، سابحين أو منغمسين وحسب ساعات طويلة. وعند خروج أحمد وعبد الرحمن من الماء كانا يستلقيان على جدار حجري منخفض، يحفهما البحر من ناحية، وطريق كورنيش البلدة من الناحية الأخرى.
ولم يكن طريق الكورنيش جذاب المنظر، فكان لا يعدو كونه مساحة عريضة مرصوفة، أصابها البلى وانتشرت فيها المهملات، شاهدا على فتور محاولات اجتذاب السياح. وكان معظم سكان أروض لا يكترثون كثيرا إن جاءهم زوار أو لا؛ إذ كانت الجزيرة موطنا وحسب، ومكانا يظهرون فيه الجد والاجتهاد، فكانوا يصيدون الأسماك، وينظفونها، ويحملونها إلى البر الرئيس في سوريا، ويصنعون السفن، وهي سفن شراعية قوية من الخشب قد تكون بها صارية واحدة أو اثنتان أو ثلاث، بأساليب بلغت حد الكمال في الجزيرة على مر القرون.
وكانت أروض تعتبر موقعا حربيا استراتيجيا امتلكته سلسلة متتابعة الحلقات التي لا تكاد تنتهي من الدول البحرية: الفينيقيون، والأشوريون، والفرس الأخمينيون، واليونان في عهد الإسكندر، والرومان، والصليبيون، والمغول، والأتراك، والفرنسيون، والبريطانيون. وكانت تنتشر في الجزيرة شتى الجدران وسطوح القلاع، في صورة أطلال كادت تبلى، وكلها ينبئ عن حصون الماضي. وكانت تبرز في وسط الجزيرة قلعتان صغيرتان، لم تكادا تتغيران منذ العصور الوسطى، وربما ارتادهما الصغار المحبون للاستطلاع حتى يستكشفوا ما بهما. وكان عبد الرحمن وأحمد كثيرا ما يتسلقان الدرج الحجري الأملس في برج المراقبة المجاور لمنزلهما، ويتظاهران بأنهما يترصدان الغزاة، ويدقان أجراس الإنذار، ويرسمان خطط الدفاع عن الموقع.
ولكن ألعابهما كانت تقع عادة في الماء. لم يكونا يبتعدان عن المياه الباردة في البحر المتوسط أكثر من خطوات معدودة، وكان عبد الرحمن يتبع أحمد إلى الشاطئ، صاعدين الأحجار الفينيقية الضخمة. كانا ينظران أولا من أعلى الجدار فيشاهدان داخل نوافذ المباني السامقة في البلدة، ثم ييممان وجهيهما إلى البحر ويغطسان فيه، وبعد أن يسبحا ساعات متوالية وقد كاد الخدر يصيب سواعدهما يستلقيان على الجدار الحجري، بسطحه الذي صقلته الأمواج المتكسرة عليه وأقدام ما لا يحصى من الأطفال. كانا يستدفئان بحرارة الأحجار والشمس من فوقهما، ويتحدثان عن الأبطال الذين دافعوا عن الجزيرة، وعن الجيوش والقديسين الذين مروا بها. كما كانا يتحدثان عن خططهما للمستقبل، عن فعالهما العظمى ومكتشفاتهما.
وسرعان ما يهدأ كلاهما، ويصبحان على شفا النعاس، يهدهدهما صوت الأمواج المتكسرة على الجدران الخارجية للجزيرة، وهسيس البحر الذي لا يتوقف. ولكن صوت البحر لم يبد صحيحا في ذهن زيتون شبه الحالم، فلقد كان أشد هدوءا وأقل انتظاما، فلم يكن صوت مد وجزر، بل الهمس المنتظم الدائم لنهر من الأنهار.
وأيقظه النشاز.
الفصل الثاني
الثلاثاء 30 من أغسطس
فتح زيتون عينيه من جديد، كان في بيته، في غرفة ابنته نديمة، تحت أغطيتها، يتطلع إلى سماء غبراء شهباء. واستمر الصوت، صوت شيء يشبه الماء الجاري، ولكن المطر توقف، ولم يعد الماء يتسرب من أي شقوق. قال في نفسه: لعل أنبوبا قد انكسر، ولكن ذلك محال، فالصوت لا يصدر عن أنبوب مكسور. كان هذا الصوت أقرب ما يكون إلى صوت نهر جار، جريان كميات ضخمة من المياه.
واعتدل في جلسته وألقى نظرة من النافذة التي تطل على الفناء الخلفي فشاهد الماء، بحرا زاخرا تحته. كان الماء مقبلا من الشمال، ويتدفق داخل الفناء، تحت المنزل، ويرتفع مستواه بسرعة.
لم يستطع تفسير ذلك ؛ إذ انحسرت المياه في اليوم السابق كما توقع، لكنها الآن تعود، بقوة أشد كثيرا. وكانت هذه المياه تختلف عن مياه المطر العكرة في اليوم الفائت. كانت هذه خضراء صافية، كانت هذه مياه بحيرة.
وفي تلك اللحظة تيقن زيتون أن مصدرها السدود؛ فإما أنها طفحت وإما خرقت. لم يكن يساوره أدنى شك. وسوف تغمر المياه المدينة في القريب العاجل. كان يعرف أن المياه ما دامت قد وصلت إلى هذه البقعة فلا بد أنها غمرت معظم مدينة نيو أورلينز. وكان واثقا بأنها سوف تستمر في التدفق، ومن المحتمل أن يصل ارتفاعها إلى ثماني أقدام، أو أكثر، في الحي الذي يعيش فيه، ويزداد على ذلك خارجه. وكان يعرف أن التخلص منها قد يستغرق شهورا أو سنوات. كان على يقين أنه الطوفان.
واتصل بكاثي.
قال: «المياه تتدفق.»
قالت: «ماذا؟ لا لا! هل انكسرت السدود؟» - «أظن ذلك.» - «لا أستطيع أن أصدق.»
وسمعها تكتم نهنهة.
وقال: «يجب أن أذهب.»
وأنهى المكالمة واتجه للعمل.
وقال في نفسه: «لا بد من رفع الأشياء. الرفع، الرفع.» لا بد من نقل كل شيء إلى الطابق الثاني، وتذكر أسوأ ما جاءت به التنبؤات قبل العاصفة، إذا انكسرت السدود فسوف تتدفق المياه وتصل إلى ارتفاع عشر أقدام، أو خمس عشرة في بعض الأماكن. وبدأ يستعد للعمل بأسلوب منهجي. كان ينبغي نقل كل ما له قيمة إلى مكان أعلى. كان العمل عملا وحسب، وانهمك فيه بهدوء وسرعة.
حمل جهاز التليفزيون، وجهاز الدي في دي، والاستريو، وجميع الأجهزة الإلكترونية إلى الطابق العلوي، وجمع كل ملابس الأطفال وكتبهم وموسوعاتهم، ثم حملها بعد ذلك إلى المكان نفسه.
كان التوتر سائدا في المنزل في باتون روج. ففي الجو العاصف الأغبر، وإزاء مشاركة هذا العدد الغفير العيش في المنزل الصغير، كانت الأعصاب تفلت. ورأت كاثي أن الأفضل أن تختفي هي وأطفالها، فحملوا أكياس الرقاد، وهي بدائل الفرش والأغطية، والوسائد وأعادوها إلى أماكنها، ثم انطلقوا بالشاحنة الأوديسية؛ بقصد قضاء سحابة النهار في التجوال بالسيارة، والذهاب إلى المراكز التجارية أو المطاعم، أو أي مكان يكفل قتل الوقت، وقرروا أن يعودوا في وقت متأخر، بعد موعد تناول العشاء، للنوم فقط. وكانت تدعو الله أن يستطيعوا العودة إلى نيو أورلينز في اليوم التالي.
واتصلت كاثي بزيتون من الطريق.
قالت: «صندوق مجوهراتي!»
وأخذه زيتون، كما أخذ طقم الصيني الفاخر، ونقل ذلك كله إلى الطابق العلوي، وأفرغ الثلاجة ولكنه ترك الفريزر ممتلئا، ووضع الكراسي فوق المنضدة في حجرة المائدة، ولما عجز عن حمل صوان ملابس ثقيل، وضعه على حشية ونقلها جرا إلى الطابق العلوي، ووضع أريكة فوق أخرى، مضحيا بإحداهما لإنقاذ الأخرى، ثم حمل المزيد من الكتب، عدد هائل من الكتب، أنقذها كلها؛ لم يكن ليفرط في أي كتاب.
واتصلت كاثي من جديد وقالت: «نصحتك بعدم إلغاء التأمين على الأملاك.»
كانت على صواب، فمنذ ثلاثة أسابيع وحسب، اختار عدم تجديد ذلك الجانب من بوليصة التأمين ضد الفيضان الذي يغطي أثاث المنزل وكل شيء فيه. لم يكن يريد إنفاق النقود، وأقر بأنها كانت على حق، وكان واثقا بأنها سوف تظل تذكره بذلك لسنوات في المستقبل.
وقال لها: «هل يمكن أن نتحدث في ذلك فيما بعد؟»
وخرج زيتون من المنزل، وكانت تشيع في الجو الرطوبة، وهبات الريح القوية. كان قد ربط القارب في المدخل الخلفي للمنزل، وكانت همسات الماء تتصاعد من خلال الفتحات في السور الخلفي، ومستواها في ارتفاع، وكانت المياه تتدفق داخل فنائه بمعدل مدهش، ووصلت إليه وهو واقف فابتلعت كعبيه وارتفعت لساقيه.
وعاد إلى المنزل وواصل نقل كل ما له قيمة إلى الطابق العلوي. وفي أثناء ذلك شاهد الماء وهو يغطي الأرضيات ويصعد إلى الجدران، ولم تمض ساعة أخرى حتى أصبح ارتفاع الماء داخل المنزل ثلاث أقدام. وكان منزله يرتفع على مستوى الشارع بثلاث أقدام.
ولكن المياه كانت نظيفة، كانت شفافة، ذات لون يضرب إلى الخضرة، وشاهدها وهي تملأ حجرة الطعام بمنزله، وأذهله جمال المشهد لحظة قصيرة، إذ أعادت إلى خياله ذكرى غير واضحة المعالم لعاصفة في جزيرة أروض، وكان غلاما صغيرا؛ إذ ارتفع موج البحر المتوسط وابتلع المنازل المقامة على أراض منخفضة، وغمرت مياه البحر الخضراء الزرقاء حجرات الجلوس والنوم والمطبخ، ولم تجد المياه أدنى صعوبة في أن تكسر أو تتفادى الأحجار الفينيقية المحيطة بالجزيرة.
في تلك اللحظة خطر لزيتون خاطر. كان يعرف أن أسماك الزينة التي يحتفظ بها في حوض خاص لن تكتب لها النجاة من دون تجديد للماء ودون غذاء؛ فدس يده في الحوض وأطلقها. ألقى بها في الماء الذي يغمر المنزل، وكانت تلك أفضل فرصة أتيحت لها فسبحت في الماء وابتعدت.
وكان يستخدم تليفونه الخلوي في الحديث إلى كاثي على مدار اليوم. واستعرضا معا ما لا يمكن إنقاذه: قطع الأثاث الضخمة التي كان من المحال نقلها إلى الطابق العلوي. أما خزانات أدوات المائدة وصوانات الملابس فقد خلع منها كل ما يستطيع من أدراج، وحمل إلى الطابق العلوي كل ما استطاع خلعه وحمله.
وابتلعت المياه الخزانات والنوافذ. وظل زيتون يراقب المياه في فزع وهي ترتفع إلى أربع ثم خمس وست أقدام في المنزل، فتغطي صندوق الكهرباء وصندوق التليفون، ومعنى ذلك الحرمان من الكهرباء ومن خطوط التليفون الأرضية أسابيع متوالية.
وعندما حل الليل كان الحي قد غمرته المياه إلى ارتفاع تسع أقدام. ولم يعد زيتون يستطيع أن يهبط إلى الطابق الأرضي. وعندما حلت الساعة السابعة مساء كان قد فعل كل ما يستطيع. فاستلقى على فراش نديمة في الطابق الثاني واتصل بكاثي، وكانت تتجول بالسيارة مع الأطفال، خائفة من العودة إلى المنزل في باتون روج.
وقال لها: «أنقذت كل ما استطعت إنقاذه.»
فقالت: «يسرني أنك بقيت بالمنزل.» وكانت تعني ما تقول. فلو لم يكن بالمنزل لفقدت الأسرة كل شيء.
وتحدثا عما يمكن أن يحدث للمنزل وللمدينة. كان واثقين بأنه لا بد من تفريغ أحشاء المنزل، واستبدال البطانات العازلة للجدران وأسلاك الكهرباء، والبلاستر والألواح المجصصة والطلاء والكساء الورقي للحوائط. لقد ذهب كل شيء، حتى أصغر مسامير التثبيت. وإذا كانت المياه قد ارتفعت إلى هذا الحد في المنطقة العالية من البلدة، فلا شك في أنها ازدادت في الأحياء الأخرى. وطافت بذهنه صورتها، صورة المنازل القريبة من البحيرة والمنازل القريبة من السدود. لم تكن تلوح لها فرصة واحدة للنجاة.
ولاحظ زيتون وهو يتحدث معها أن بطارية تليفونه بدأت تفرغ شحنتها. وكانا يعرفان أن عدم توافر الكهرباء يعني أن نفاد شحنة البطارية سوف يقطع سبل الاتصال الموثوق بها.
وقال: «الأفضل إنهاء المكالمة.»
وقالت: «أرجوك أن ترحل، غدا.»
وقال: «لا لا!» ولكنه حتى وهو يقول ذلك كان يعيد النظر في الموقف. لم يكن يتوقع أن يحبس في منزله فترة طويلة، كان يعرف أن بالمنزل طعاما يكفيه أسبوعا أو أكثر، ولكن الموقف كان به من التوتر ما لم يعمل حسابا له.
وقال: «خبري الأطفال أنني أقرئهم تحية المساء.»
وقالت إنها ستفعل ذلك.
وأغلق تليفونه للحفاظ على ما بقي من شحنة البطارية.
كانت كاثي لا تزال تقود السيارة، كانت قد استنفدت جميع وسائل تزجية الوقت وتوشك أن تعود إلى منزل أخيها عندما دق تليفونها من جديد. كان المتحدث عدنان. بدأ بالاعتذار والإعراب عن الخجل، ولكنه كان مع زوجته عبير في باتون روج بلا مأوى يئويهما.
وسألته كاثي: «أين قضيت الليلة البارحة؟»
فقال: «في السيارة.»
وقالت: «يا ربي! فلأنظر ما أستطيع أن أفعله.»
كانت تعتزم أن تسأل ماري آن وباتي بمجرد عودتها إلى المنزل. لا شك في أن المنزل سيكون مزدحما، ولكنه لم يكن يصح أن تنام امرأة حامل في السيارة وفي بيت أسرتها متسع لها. •••
وعندما عادت كاثي إلى منزل آندي، كانت الساعة قد بلغت العاشرة وغرف المنزل مظلمة. وكان الأطفال جميعا نائمين في السيارة باستثناء نديمة، فأيقظتهم وسارت معهم بهدوء إلى داخل المنزل، وبعد أن استقر الأطفال في أكياس الرقاد، ظهرت ماري آن وواجهت كاثي: «أين كنت طول النهار؟»
وقالت كاثي: «في الخارج. أحاول أن أبتعد فلا أعترض حياتكم.»
وقالت ماري آن: «هل تعرفين كم أصبح سعر البنزين؟»
وردت كاثي: «عفوا؟ لم أكن أعرف أنك تدفعين ثمن بنزين سيارتي.»
كانت كاثي تشعر بنفاد صبرها، وبأنها مقهورة، ففي المنزل كان أهلها يشعرونها بأنها تمثل مع أطفالها عبئا ثقيلا، وإذا بأختها تؤنبها الآن على مغادرة المنزل. وأقسمت في نفسها أن تقضي هذه الليلة، ثم تفكر في خطة جديدة لتنفيذها في اليوم التالي، وقالت في نفسها إنها قد تتجه بالسيارة إلى مدينة فينيكس للإقامة مع يوكو. كانت فكرة مضحكة، أي أن تسافر مسافة تبلغ ألفا وخمسمائة ميل، وأقاربها يعيشون على بعد خمسين ميلا من نيو أورلينز، ولكنها كانت تهرب من قبل وتلجأ إلى منزل يوكو، وفي يدها أن تعيد الكرة.
كان التوتر قد ازداد بالفعل، ولكن كاثي كانت تشعر بأنها ملزمة، من أجل عدنان وعبير، أن تسأل ماري آن. وعلى أي حال فإن ماري آن كانت تعرفهما؛ إذ قابلت عدنان وعبير عدة مرات، وهكذا ذكرت كاثي لماري آن أنهما قضيا البارحة نائمين في السيارة، وسألتها: «ألا يمكنهما البقاء هنا ليلة واحدة؟»
وقالت ماري آن: «قطعا لا يمكن!»
في الطابق الثاني المظلم، كان زيتون يضع الكشاف اليدوي بين أسنانه، وهو يتفحص كومة من الأمتعة الشخصية التي أنقذها، فوضع على الرفوف ما استطاع وضعه من الكتب، وحفظ الشهادات والصور في صندوق خاص. وجد صورا لأطفاله عندما كانوا صغارا، وصورا من رحلة كانت الأسرة كلها قد قامت بها إلى إسبانيا، وصورا من رحلتهم إلى سوريا، فنظمها وأتى بكيس من البلاستيك فحفظها فيه وأعادها إلى الصندوق.
وفي صندوق آخر، أقدم عهدا، عثر على صورة غلب عليها اللون البني في إفريز متخلع، فتوقف عندها. لم يكن قد رآها من سنين. كانت صورته مع أخيه لؤي وأخته زكية وهم يلعبون مع أخيهم محمد، الذي كان يكبر زيتون بثماني عشرة سنة، كانوا يلعبون المصارعة معه في غرفة النوم التي كان يشترك فيها زيتون وأحمد وجميع الصبية الصغار في جبلة، وكان عبد الرحمن الصغير واقفا إلى أقصى اليمين، وربما لم تكن سنه تتجاوز الخامسة، وقد غاصت أصابعه الصغيرة في يد محمد الضخمة.
وحدق زيتون في بسمة أخيه الساحرة، كان لدى محمد كل شيء آنذاك، وكان كل شيء، أشهر بطل رياضي متمرس في تاريخ سوريا. كان من سباحي المسافات الطويلة، من أفضل من عرفهم العالم على الإطلاق، ولما لم يكن ينتمي إلى بلد يشتهر بسواحله فقد زادت الدهشة من منجزاته، كان قد فاز بسباقات في سوريا ولبنان وإيطاليا، وكان في طوقه أن يسبح ثلاثين ميلا دون توقف، وبأسرع مما يستطيعه أي شخص سواه، أسرع من أي إيطالي أو إنجليزي أو فرنسي أو يوناني.
وفحص زيتون الصورة فحصا أدق، وقال في نفسه: «مسكين محمد!» كل إخوته وأخواته تكأكئوا عليه. وكان هذا دأبهم كلما عاد إلى بيته. كانت سباقات السباحة، في اليونان وفي إيطاليا والولايات المتحدة، تبعده عنهم مدة أطول مما ينبغي، كان يقابل بالحفاوة والترحاب من رؤساء الدول، وكانت صورته تظهر في الصحف والمجلات في شتى أرجاء العالم. كانوا يسمونه الطوربيد البشري، وتمساح النيل، والمعجزة، وهكذا، فعندما يعود إلى المنزل كان أشقاؤه يجنون فرحا، ويطنون حوله كالذباب.
وعند ذلك، عندما كان في الرابعة والعشرين، رحل عن الدنيا، قتل في حادثة سيارة في مصر، قبيل الاشتراك في سباق سباحة في قناة السويس. وكان زيتون لا يزال يفتقده بشدة، على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز السادسة وقت تلك الحادثة، وبعد ذلك لم يكن زيتون يعرف أخاه محمدا إلا من خلال القصص والصور والمدائح، ومن النصب التذكاري المقام تكريما له على شط البحر في جلبة، على مسافة قريبة من الشارع الموصل إلى منزل الأسرة، وكان الأطفال وهم يكبرون يمرون بهذا النصب كل يوم؛ وهو ما جعل من المحال نسيانه ولو للحظة واحدة.
وجلس زيتون وجعل يحدق في الصورة دقيقة أو نحوها قبل أن يعيدها إلى الصندوق. •••
لم يستطع النوم داخل المنزل. كانت حرارة الجو قد ازدادت تلك الليلة، ولم يكن يستطيع أن يتحمل في نيو أورلينز مثل هذه الحرارة من دون جهاز التكييف، وأثناء رقاده فوق الملاءات التي بللها العرق خطرت له فكرة. قام فبحث في أحد الخزانات بالطابق العلوي عن خيمة كان قد اشتراها منذ سنوات بعيدة. وفي الصيف الماضي، أقام الخيمة في الفناء الخلفي للمنزل، وبات الأطفال فيها خارج المنزل عدة مرات، عندما انخفضت الحرارة فأتاحت ذلك.
أخرج الخيمة وزحف من نافذة غرفة نوم نديمة إلى السقف، كان الجو أقل حرارة، والنسائم تهب فتحرك الهواء الساكن، وكان سطح الجراج مستويا، فأقام الخيمة فوقه، وثبتها بالكتب وبعض قوالب الفحم، وسحب إحدى الحشايا التي ينام عليها الأطفال وحشرها حشرا من باب الخيمة ... كان الفارق شاسعا بين داخل المنزل وخارجه.
رقد على الحشية وجعل يصغي إلى صوت حركة المياه، هل كانت لا تزال ترتفع؟ لم يكن ليدهش من ذلك. ولن يشعر بأي صدمة لو طلع الصبح فوجد أن مستواها قد وصل إلى اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة قدما بحيث تغمر الحي كله.
كان الظلام حوله تاما، والليل ساكنا باستثناء نباح الكلاب. كان يسمع النباح مقبلا من كل ركن من أركان الحي؛ إذ كان ذلك الحي حافلا بالكلاب وكان قد اعتاد نباحها في أثناء الليل، فقد يحدث في إحدى الليالي أن يصيب الهياج أحدها نتيجة شيء ما فيدفع الآخرين إلى النباح، في نوبات غير منتظمة من الدعوة والاستجابة، وقد يستمر ذلك ساعات متصلة حتى تهدأ الكلاب، كلبا كلبا، وتخلد إلى الصمت، ولكن هذه الليلة كانت مختلفة؛ إذ كان أصحاب هذه الكلاب قد خلفوها وراءهم، والآن تدرك الكلاب ذلك. كانت صيحات الكلاب تنم عن حيرة وعن غضب، وكانت تمزق الليل إربا إربا!
الأربعاء 31 من أغسطس
واستيقظ زيتون مع الشمس وزحف خارجا من خيمته، كان النهار مشرق الضياء، وحيثما نظر وفي أي اتجاه كان الماء يغمر المدينة، وعلى الرغم من أن كل ساكن في نيو أورليانز قد رسم في خياله صورة الطوفان العظيم، وكان يعرف أن مثل ذلك يمكن أن يقع في مدينة تحيط بها المياه وسدود سيئة التصميم، فإن ذلك المشهد في ضوء النهار كان يتجاوز أي شيء تخيله من قبل. لم يكن يستطيع أن يفكر إلا في يوم الحساب، وفي النبي نوح، وأيام المطر الأربعين. ومع ذلك فقد كان الصمت العميق والسكون الكامل في كل مكان. لم يكن شيء يتحرك قط. جلس على السقف وجعل يفحص الأفق؛ عله يشهد حركة من أي شخص، أو أي حيوان أو آلة. لا شيء.
وبينما كان يصلي الصبح، قطع الصمت صوت طائرة عمودية تنطلق فوق قمم الأشجار متجهة نحو وسط المدينة.
وألقى زيتون نظرة من السقف على الماء فوجده في المستوى الذي كان عليه في الليلة السابقة، وأحس ببعض الراحة حين أدرك أنه يحتمل أن يظل المستوى ثابتا بل أن ينخفض بمقدار قدم كاملة حين يصل إلى التوازن مع مستوى بحيرة بونشارتران.
وجلس زيتون خارج خيمته فتناول طعام الإفطار من بعض ما أنقذه من مخزون المطبخ، وكان يعرف - وإن لم تعد المياه الآن إلى الارتفاع - أنه لم يكن يستطيع أن يفعل شيئا في المنزل، لقد أنقذ ما استطاع إنقاذه، ولم يكن أمامه ما يمكن أن يفعله هنا حتى تنحسر المياه.
وبعد الإفطار أحس بالقلق، أو بأنه قد وقع في فخ، كانت المياه أعمق أن يخوضها على قدميه، وما تخفيه مريب يحول دون السباحة فيها، ولكنه كان يملك قاربا، وتطلع فرآه طافيا فوق ماء الفناء، مربوطا بالمنزل، وأحس زيتون بما يشبه الإلهام وسط الخراب الذي حل بالمدينة، أثناء وقوفه على سقف منزله الغارق، وتخيل نفسه وهو يطفو وحده على وجه الماء خلال شوارع مدينته. كانت هذه، من زاوية معينة، تمثل عالما جديدا، لم تطأه قدم. يمكن أن يغدو مكتشفا، وأن يشاهد بعض الأمور للمرة الأولى.
فهبط نازلا على جانب المنزل، وركب القارب وفك الحبل وانطلق.
جعل يجدف في شارع «دارت»، في مياه صافية ذات سطح مستو، ومن الغريب أن يشعر، من فوره تقريبا، بالطمأنينة، كان الضرر الذي لحق بالحي شديدا، ولكن كانت في قلبه سكينة عجيبة. لقد ضاع الكثير حقا، ولكن السكون الذي ساد المدينة كان ذا قوة تشبه التنويم المغناطيسي.
وأبحر بالقارب بعيدا عن منزله، فمر بعجلات وسيارات ذات هوائيات للراديو تلمس قاع قاربه، وكانت جميع المركبات، قديمها وجديدها، قد اختفت ومن المحال إنقاذها، وكانت الأرقام تملأ رأسه؛ مائة ألف سيارة فقدت في الطوفان! وربما عدد أكبر. ما الذي سيحدث لها؟ من ذا الذي يقبلها بعد انحسار المياه؟ وفي أي حفرة يمكن دفنها كلها؟
كان كل من يعرفهم تقريبا قد خرجوا لقضاء يوم أو يومين خارج المدينة، مر على منازلهم، وكان قد تولى طلاء عدد كبير منها بل ساعد على بنائها أيضا، وأخذ يحسب مقدار ما فقد داخلها، وأحس بغصة حين تذكر الألم الذي سوف ينجم عن ذلك الفقدان. كان يعرف أنه لم يكن أحد قد استعد بما فيه الكفاية لهذا، أو لم يكن قد استعد على الإطلاق.
ثم خطر بباله مصير الحيوانات، السناجب والفئران والجرذان والضفادع والسحالي والأبوسوم، لقد ذهبت جميعا. غرقت ملايين الحيوانات. لن ينجو من هذه الطامة الكبرى إلا الطيور؛ الطيور وبعض الثعابين، وأي حيوان يمكنه الاعتصام بأرض مرتفعة قبل ارتفاع الماء، وبحثت عيناه عن الأسماك، فإذا كان يطفو فوق ماء متصل بمياه البحيرة فلا بد أن الأسماك قد سبحت ودخلت المدينة. وكأنما سمعت الأسماك ذكرها، إذا به يشاهد في هذه اللحظة شبح سمكة تقفز في الماء بين أغصان الأشجار المغمورة في الماء. •••
وتذكر الكلاب، فوضع مجدافه على ركبتيه، وترك القارب يطفو دون صوت، محاولا تحديد مصدر النباح الذي سمعه في الظلام.
لكنه لم يسمع شيئا.
وتضاربت في نفسه صور ما يشهد؛ إذ لاحت لعينه لوحة انكسر فيها الضوء، حتى ظهرت أنصاف المنازل والأشجار منعكسة في هذه المرآة التي تشكلت على سطح هذا الماء الذي ساده هدوء غريب، وأيقظت جدة هذا العالم القشيب نزعة المغامرة في نفسه، فشعر بأنه يريد أن يرى كل شيء، بل المدينة كلها، وما أصبحت عليه، ولكن حرفة رجل المعمار داخله جعلته يفكر في الأضرار، وفي الزمن الذي سوف يستغرقه إصلاحها. سنوات، وربما عقد كامل. وتساءل إن كان العالم كله قد شاهد ما يشاهد، كارثة ذات أبعاد أسطورية من حيث الحجم والشدة.
كان الحي الذي يقيم فيه يبعد أميالا طويلة عن أقرب سد من السدود، وكانت المياه ترتفع ببطء جعله يدرك أنه من غير المحتمل أن يؤدي الطوفان إلى وفاة أحد. ولكنه ارتعد حين خطر له ما يكون من أمر المقيمين قريبا من مواقع انفجار تلك السدود. لم يكن يعرف مواقع تلك الانفجارات، لكنه كان واثقا بأن الماء الدافق سرعان ما يجرف المقيمين بجوارها.
وحول اتجاهه إلى شارع فانسين ومضى جنوبا، وسمع من يناديه باسمه، فرفع بصره وشاهد أحد عملائه، ويدعى فرانك نولاند، وكان رجلا قوي البنية محافظا على لياقته وفي الستين من عمره. كان يطل منحنيا من نافذة بالطابق الثاني، كان زيتون قد قام بأعمال طلبها في منزله منذ بضع سنوات. وكان زيتون وكاثي أحيانا ما يشاهدان فرانك وزوجته في الحي، وكانوا دائما ما يتبادلون التحية.
ولوح زيتون بيده واتجه بالقارب إلى منزل فرانك.
وسأله فرانك وهو يطل من عل: «هل معك سجائر؟»
وهز زيتون رأسه نفيا، وزاد اقترابا من النافذة التي ظهر فيها فرانك. كان يخامره إحساس غريب وهو يجدف فوق فناء منزل الرجل، وكان الحاجز المعتاد الذي يرشد راكب السيارة إلى طريق الدخول للمنزل قد زال. وهكذا استطاع أن ينزلق مباشرة من الشارع مخترقا الفناء بزاوية حادة فيصل بالقرب من إحدى نوافذ الطابق الثاني، لا تفصله عنها سوى أقدام معدودة. كان زيتون يحاول أن يعتاد التضاريس الجديدة لهذا العالم.
لم يكن فرانك يرتدي قميصا، مكتفيا بسروال التنس القصير، وكانت زوجته واقفة خلفه، وكانت لديهما ضيفة في المنزل، امرأة أخرى من عمريهما ذاتهما، وكانت كلتاهما ترتدي تي شيرت وسراويل قصيرة وتعانيان من الحرارة، كان النهار ما زال في أوله، ولكن الرطوبة كانت قد وصلت إلى حد خانق.
وسأل فرانك: «هل يمكن أن تأخذني إلى مكان أشتري منه سجائر؟»
وأخبره زيتون أنه لا يظن أن أي محال قد فتحت أبوابها وتبيع السجائر هذا اليوم.
وتأوه فرانك، ثم أشار إلى مدخل المنزل المجاور قائلا: «هل ترى ما حدث لدراجتي النارية؟»
وتذكر زيتون حديث فرانك عن دراجته النارية، كانت تعد تحفة عريقة اشتراها وأصلحها وأغدق عليها رعايته. وأصبحت الآن غارقة في مياه عمقها ست أقدام. وعندما ارتفع سطح الماء في اليوم السابق، رفعها فرانك من مدخل منزله إلى شرفة المدخل ثم إلى شرفة مدخل المنزل المجاور الذي كان أكثر ارتفاعا، ولكنها انتهت الآن، كانا يستطيعان إلى الآن مشاهدة شبح مطموس غير واضح المعالم يشبه الدراجة النارية كأنما يشاهدان أثرا من آثار حضارة من العصور الغابرة.
وتحدث الرجلان عدة دقائق عن العاصفة، والطوفان، وكيف كان فرانك يتوقعها، ثم لم يعد يتوقعها على الإطلاق.
وسأل فرانك: «هل يمكنك توصيلي إلى شاحنتي حتى أطمئن عليها؟» ووافق زيتون، لكنه أخبر فرانك أن عليه أن يظل معه فترة أطول؛ إذ كان زيتون يعتزم زيارة أحد عقاراته المؤجرة في موقع على بعد ميلين تقريبا.
ووافق فرانك على مرافقته في هذه الرحلة، فهبط من النافذة وجلس في القارب، وأعطاه زيتون المجداف الآخر وانطلقا.
قال فرانك: «شاحنة جديدة تماما.» كان قد أوقفها في «فونتانبلو»، ظانا أن الشاحنة سوف تنجو لأن سطح الطريق أعلى بنحو قدم منه في «فانسين»، وشقا طريقهما فعبرا ستة مربعات سكنية إلى حيث أوقف فرانك الشاحنة، وعندها سمع زيتون شهقة فرانك اللاهثة، كانت الشاحنة تغمرها المياه على عمق خمس أقدام، وانتقلت من مكانها مسافة نصف مربع سكني، وكما كان شأن دراجته النارية، كانت الشاحنة قد انتهت وغدت أثرا بعد عين.
وسأل زيتون: «هل تريد أن تأخذ شيئا منها؟»
وهز فرانك رأسه، وقال: «لا أريد أن أراها. فلنذهب.»
وواصلا التقدم، وسرعان ما شاهدا رجلا أكبر سنا، وكان طبيبا يعرفه زيتون، في شرفة الطابق الثاني بمنزل أبيض، وجدفا حتى دخلا الفناء، وسألا الطبيب إن كان يحتاج إلى مساعدة، وأجاب الطبيب: «لا، إني أنتظر وصول البعض.» وأضاف قائلا إن مدبرة المنزل معه، وإن أحوالهما مستقرة في الوقت الراهن.
وبعد بضعة منازل صادف زيتون وفرانك منزلا ترفرف فيه قطعة قماش بيضاء من نافذة بالطابق الثاني. وعندما زاد اقترابهما شاهدا شخصين، زوجا وزوجته في السبعينيات من عمريهما، يطلان من النافذة.
وسألهما فرانك: «هل تستسلمان؟»
وابتسم الرجل.
وسألهما زيتون: «هل تريدان الخروج؟»
وقال الرجل : «نعم، نريد ذلك .»
لم يكن زيتون وفرانك يستطيعان السماح بركوب أي شخص آخر في القارب، فوعدا الرجل بأن يرسلا أحدا إلى المنزل بمجرد أن يجدا العون في «كليبورن». كانا يتصوران وجود بعض الحركة في ذلك المكان، وأنه إذا كان من الممكن أن توجد الشرطة أو الجيش في أي مكان قريب، فلا بد أن يكون ذلك في كليبورن، الشارع الرئيس القريب.
وقال زيتون: «سنعود بسرعة.»
وأثناء ابتعادهما عن منزل الزوجين سمعا صوتا أنثويا خافتا. كان صوتا أقرب إلى الأنين، ضعيفا مرتعدا.
وسأل زيتون: «هل تسمع ذلك؟»
وأومأ فرانك، ثم قال: «إنه قادم من هذا الاتجاه.»
وظلا يجدفان في اتجاه الصوت فسمعاه من جديد: «النجدة!»
كان مصدر الصوت منزلا من طابق واحد في شارع «ناشفيل».
واتجها إلى الباب الأمامي، وسمعا الصوت من جديد: «ساعدوني!»
وترك زيتون المجداف وقفز في الماء. حبس أنفاسه وسبح حتى وصل إلى المدخل. كان الدرج أقرب مما كان يتصور، واصطدمت ركبته بالجدار الحجري فتأوه ألما، وعندما وقف على قدميه كان ارتفاع الماء يصل إلى رقبته.
وسأله فرانك: «أنت بخير؟»
وأومأ زيتون وصعد الدرج.
وسمع الصوت يقول وقد شاع فيه الأمل: «مرحبا!»
حاول أن يفتح الباب الأمامي ولكنه لم ينفتح، وركله زيتون فلم يتحرك، فركله من جديد. لم يتحرك. كان ارتفاع الماء يصل الآن إلى صدره، فاندفع بجسمه كله ضاربا الباب، وكرر ذلك مرة أخرى، وأخرى، وأخيرا انفتح. •••
وفي داخل المنزل وجد عجوزا تحوم حوله، كانت في السبعينيات من عمرها وذات جسم ضخم، ويزيد وزنها على 90 كيلوجراما. كان ثوبها المزركش منشورا على صفحة الماء مثل زهرة ضخمة طافية، ورجلاها تتدليان تحتها. كانت تتعلق برف كتب خشبي.
وقالت: «ساعدني.»
وتحدث زيتون برقة إلى المرأة، مؤكدا لها أنها سوف تلقى الرعاية. كان يعرف أنها ظلت على الأرجح في ذلك المكان ممسكة بالأثاث أربعا وعشرين ساعة أو أكثر. لم تكن أمام عجوز كهذه أدنى فرصة للسباحة حتى تصل إلى بر الأمان، ناهيك بالقوة اللازمة لإحداث خرق في السقف. وحمد الله على أن المياه كانت دافئة ، وإلا ما كتبت لها النجاة.
وجرها زيتون إلى الباب الأمامي ولمح فرانك في القارب، كان مذهولا لا يصدق ما تشاهده عيناه.
لم يكن أحد يدري الخطوة التالية، كان من العسير أن تركب امرأة بهذا الحجم ذلك القارب الصغير في الظروف العادية، كما أن رفعها لإدخالها القارب يتطلب أكثر من رجلين، وحتى لو نجحا في إدخالها القارب فلن يستطيعا قطعا أن يدخلا معها. لا بد أن ينقلب القارب دون أدنى شك.
وتبادل زيتون وفرانك حديثا هامسا مسرعا، واتفقا على أنه ليس أمامهما سوى أن يتركاها وأن يأتيا بالغوث لها، وقررا أن يمضيا مسرعين إلى كليبورن، فهو شارع فسيح كانا واثقين بأنه سوف يستخدم لسفن الإنقاذ، وهناك يستدعيان إحداها، وذكرا ما فكرا فيه للمرأة، كان يشقيها أن تترك وحدها مرة أخرى ولكنه كان الخيار الوحيد.
ووصلا إلى كليبورن بعد بضع دقائق وشاهدا فورا ما كانا يطلبانه، ألا وهو سفينة مروحية. لم يكن زيتون قد شاهد إحداها شخصيا، ولكنه كان يعرفها من السينما، وكانت تلك من النوع العسكري، عالية الصوت، تدفعها مروحة عظيمة مثبتة عموديا في مؤخرتها، وكانت تتجه مباشرة نحوهما.
وقال زيتون في نفسه إنه سعيد الحظ بالعثور على الغوث بهذه السرعة، وأفعم قلبه شعور يشبه الفخر؛ إذ أدرك أنه وعد بالمساعدة ويستطيع تقديمها الآن.
ووضع زيتون وفرانك قاربهما في طريق السفينة مباشرة ولوحا بذراعيهما، وجاءت السفينة المروحية مباشرة إليهما، وعندما اقتربت استطاع زيتون أن يشاهد أربعة ضباط أو خمسة يرتدون الزي الرسمي فيها، وإن لم يتأكد إن كانوا من الشرطة أو الجيش، ولكنه كان بالغ السعادة لمرآهم. ولوح زيتون، ولوح فرانك، وكل منهما يصيح: «قفوا!» و«النجدة!»
ولكن السفينة المروحية لم تقف، بل انحرفت حول قارب زيتون وفرانك، ولم تبطئ، ثم واصلت مسارها نحو كليبورن، ولم يلتفت إليهما رجالها.
كانت الموجة التي خلفتها السفينة المروحية عالية كادت تقلب قاربهما، فظل زيتون وفرانك ثابتين في جلستهما قابضين على جانبي القارب حتى هدأت الموجة. ولم يكادا يتبادلان نظرات التعبير عن تكذيب ما شاهداه ، حتى مرت بهما سفينة أخرى، كانت هذه أيضا سفينة مروحية، وبها أربعة ضباط في الجيش، وعاد زيتون وفرانك إلى التلويح وطلب العون، ومرة أخرى انحرفت السفينة المروحية حولهما وواصلت مسيرها دون كلمة واحدة.
وتكرر حدوث ذلك في الدقائق العشرين التالية. مرت عشرات من هذه المراكب، وفي كل منها ضباط في الجيش أو الشرطة، وتجاهلت قاربهما، ونداءاتهما طلبا للعون. إلى أين كانت تلك السفن ذاهبة؟! وما الذي كانت تبحث عنه، إن لم يكن سكان المدينة الذين يطلبون المساعدة؟ كان أمرا يستعصي على التصديق.
وأخيرا اقتربت سفينة من نوع مختلف. كانت سفينة صيد صغيرة، فيها رجلان، وعلى الرغم مما كان زيتون وفرانك يعانيانه من تثبيط الهمة والتشكك في إمكان توقف أحد عاودا المحاولة. وقفا في القارب ولوحا وصرخا. ووقف هذا القارب.
وقال فرانك: «نريد مساعدة!»
وقال الشابان في السفينة: «لا بأس. فلنذهب!»
وألقى الشابان حبلا إلى زيتون ربطه بالقارب، وأدارا محرك سفينتهما بحيث تجر خلفها قارب زيتون وفرانك إلى منزل المرأة، وما إن اقترب الجميع حتى أوقف الشابان المحرك ووجها السفينة إلى مدخل المنزل.
ووثب زيتون في الماء مرة أخرى وسبح إلى الباب، وكانت المرأة لا تزال حيث تركاها تماما، في بهو منزلها، تطفو على سطح الماء بالقرب من السقف.
كل ما كان عليهم الآن هو إيجاد طريقة لنقلها إلى سفينة الصيد، لم تكن تستطيع أن ترفع نفسها لركوب السفينة؛ كان ذلك محالا. ولم يكن في طوقها أن تهبط في الماء حتى يحملها وحده؛ فالماء بالغ العمق ولم تكن تستطيع السباحة.
وسألها أحد الشابين: «ألديك سلم خشبي يا سيدتي؟»
وكان لديها سلم، وأرشدتهم إلى الجراج المنفصل في آخر الممر، فوثب زيتون في الماء وسبح حتى وصل إلى الجراج وأحضر السلم.
وعندما عاد به وضعه على الأرضية مستندا إلى السفينة. كانت الخطة تقضي بأن تترك المرأة الرف الخشبي الذي تتعلق به وتمسك بالسلم، وتضع قدميها عليه، ثم تصعد درجاته إلى السفينة وتدخلها.
وأمسك زيتون بالسلم، بينما عمل الشابان على تثبيته في مكانه مستندا إلى السفينة استعدادا لصعودها عليه. كانت تبدو خطة حاذقة.
ولكن المرأة لم تستطع أن تصعد السلم. قالت إن لها ساقا موجوعة لا تستطيع الضغط عليها. كان ذلك يتطلب درجة من الرشاقة، وكانت في الثمانين من عمرها، منهكة بسبب الحرمان من النوم أربعا وعشرين ساعة أثناء طفوها بالقرب من السقف، لا يشغل بالها إلا احتمال غرقها في منزلها نفسه.
وقالت: «آسفة.»
وقر رأي الجميع على أنه لم يعد أمامهم سوى خيار أوحد، أي أن يستخدموا السلم كنقالة متحركة، وذلك بأن يجعلوا أحد طرفيه يستند إلى السفينة، ثم يقف أحد الشابين في مدخل المنزل ممسكا بالطرف الآخر، وعليهم بعد ذلك أن يرفعوه إلى المستوى الذي يجعله يرتكن إلى حافة السفينة ثم يدخلوه فيها إلى المسافة التي تتيح للمرأة أن تركبه فيدحرجوها إلى داخلها.
وأدرك زيتون أنه لو وقف رجلان على جانبي السلم فلن يستطيعا وحدهما رفع امرأة يزيد وزنها على 90 كيلوجراما، وكان واثقا بأن عليه أن يدفعها من أسفل إلى أعلى. وهكذا فعندما اتخذ الرجلان موقعيهما على جانبي السلم، ممسكين بطرفيه، وتجهزت المرأة للصعود فوقه، أخذ زيتون نفسا عميقا وغطس في الماء، وكان يستطيع تحت السطح أن يشاهد المرأة وهي تترك الرف الخشبي وتتعلق بجانب السلم. لم تكن حركتها رشيقة ولكنها تمكنت من الصعود فوقه وركوبه كأنما كان طوفا من نوع ما.
وعندما استقر جسمها بثقله على السلم، وضع زيتون طرفيه على كتفيه وجعل ساقيه في وضع مستقيم ودفعه إلى أعلى، كانت الحركة أشبه بآلة تدريب الكتفين على الرفع التي جربها زيتون ذات يوم في صالة الألعاب الرياضية، فعندما جعل ساقيه في وضع مستقيم ارتفع السلم فوق سطح الماء حتى شاهد الضوء فوق السطح، ثم أحس بالهواء على وجهه فاستطاع أخيرا الزفير.
وتدحرجت المرأة إلى حوض السفينة، لم يكن دخولها رشيقا ولكنها تمكنت من الجلوس، ولم تكن قد أصيبت بأي أذى على الرغم من بللها وأنفاسها اللاهثة.
وارتعد زيتون إشفاقا وهو يشهد تعافيها، لا يجوز لأحد أن يرقب امرأة في سنها تعاني على هذا النحو، كان الموقف قد سلبها كرامتها، وكان يتألم وهو يشهد ذلك بعيني رأسه.
وعاد زيتون إلى القارب، ومد فرانك يده إليه من سفينة الصيد مصافحا ومبتسما وهز رأسه قائلا: «كان ذلك رائعا!»
وصافحه زيتون وابتسم.
وجلس الرجلان في صمت، ينتظران أن تقرر المرأة موعد الرحيل، كانا يعرفان أنه كان أمرا في عداد المحال، أي أن ترى منزلها على هذه الحال، وقد أصابته أضرار لا تحصى وخسائر فادحة، ونظرا إلى كبر سنها، ونظرا إلى السنوات العديدة التي يستغرقها إصلاح المنزل، كان من المحتمل ألا تعود إليه أبدا. صبرا لحظة. وأخيرا أومأت، فقاموا بترتيب مسارهم، كان فرانك الآن في سفينة الصيد، وزيتون وحده في القارب الذي جعلت السفينة تجره خلفها، كان يعاني البلل الشديد والإرهاق.
تولى فرانك مهمة مرشد سفينة الصيد، فتوجه الجميع إلى الزوجين اللذين كانا قد رفعا الراية البيضاء، وفي طريقهم إليهما سمعا صوت استغاثة أخرى.
كانت صادرة من زوجين هرمين آخرين في السبعينيات يلوحان بأيديهما من نافذة في الطابق الثاني بمنزلهما.
وسألهما فرانك: «مستعدان للرحيل؟»
وقال الرجل من النافذة: «نعم.»
وأحضر الصيادان الشابان مركبهما إلى النافذة، فبدأ الزوجان اللذان كانا يتمتعان باللياقة البدنية والنشاط، في الهبوط إلى داخل السفينة.
كان عدد الركاب قد أصبح الآن ستة، ومن ثم اتجهوا إلى منزل صاحبي الراية البيضاء، وهبط الزوجان المقيمان فيه إلى سفينة الصيد، فارتفع عدد الركاب إلى ثمانية، وكان الشابان قد شاهدا منصة طبية أنشئت بصفة مؤقتة عند تقاطع شارعي نابليون وسانت تشارلز، واتفق الجميع على توصيل الركاب إليها، كان الوقت قد حان لزيتون وفرانك حتى يفترقا عن سفينة الصيد، فقاما بفك الحبل الذي يربط القارب بها وودعاهم.
وقال أحد الشابين: «حظا حسنا في كل شيء.»
وقال زيتون: «ولكما أيضا.»
ولم يعرف أحد منهم أسماء سواه قط. •••
في باتون روج كانت كاثي لا تزال تسير بالسيارة لقتل الوقت، وقد امتلأت سيارتها بالأطفال، وابتغاء التسرية والابتعاد عن الأخبار التي يذيعها الراديو - إذ كانت الأحوال تزداد سوءا كل ساعة - كانت تتوقف بين الحين والآخر عند أي حوانيت أو مطاعم مفتوحة، كان صوت زيتون يبدو بالغ الهدوء على التليفون في الليلة السابقة، قبل نفاد بطارية تليفونه، ولكن الأحوال تطورت في المدينة منذ ذلك الحين؛ إذ كانت تسمع أنباء عن أحداث عنف لا ضابط لها ولا رابط، عن انتشار الفوضى، عن الآلاف في عداد الموتى. ما عسى زوجها المخبول أن يفعل هناك؟ حاولت الاتصال به المرة بعد المرة، آملة أن يكون قد نجح بطريقة ما في شحن بطارية تليفونه. حاولت الاتصال به على تليفون المنزل، قائلة في نفسها: لعل المياه انخفضت بمعجزة إلى ما دون مستوى جهاز التليفون، ولعل الأسلاك لم تتضرر. لم تجد شيئا؛ إذ كانت خطوط الاتصال مقطوعة.
كان المذيعون يقولون في الراديو إن الحكومة قد أرسلت إلى المنطقة مجموعة أخرى من رجال الحرس الوطني يبلغ عددها عشرة آلاف، وإن نحو ثلث هذا العدد كان مكلفا بالحفاظ على النظام، وعرفت أنه سرعان ما يبلغ عدد جنود الحرس الوطني في المنطقة واحدا وعشرين ألفا، قادمين من شتى أرجاء البلد؛ من فرجينيا الغربية، وأوتاه، ونيو مكسيكو، وميسوري. كيف يتسنى لزوجها أن يهدأ وكل فروع القوات المسلحة تهرع إلى المدينة؟
وأغلقت الراديو وحاولت الاتصال بزيتون مرة أخرى. لا شيء. كانت تعرف أن أوان القلق لم يحن بعد، ولكن الأفكار السوداء كانت تتزاحم في رأسها. إذا كانت صلتها قد انقطعت بزوجها الآن، فكيف تعرف إن كان قد حل به مكروه؟ كيف تعرف إن كان حيا أو في خطر أو مات؟ وقالت في نفسها إنها تشطح، فليس في خطر، ما دامت الرياح العاصفة قد مضت، ولم يعد الآن سوى الماء. كما أن الجنود في طريقهم إلى المدينة، لا يوجد ما يبرر القلق.
وعندما عادت إلى منزل أسرتها في باتون روج، وجدت أمها هناك، كانت قد أتت لإحضار الثلج، فألقت التحية على الأطفال جميعا ثم نظرت إلى كاثي.
وقالت: «لم لا تخلعين هذا الشيء وتنعمين بالاسترخاء؟» مشيرة إلى حجاب كاثي. وأضافت: «ليس موجودا هنا ، كوني نفسك!»
وكتمت كاثي في صدرها ما كانت تريد أن تقوله وهو كثير، وأفرغت ضيقها وغضبها في إعداد حقائبها للرحيل، قررت أن تصحب الأطفال إلى موتيل، أو إلى مأوى ما، أي شيء في أي مكان. ربما إلى أريزونا. لم يحالفها التوفيق في باتون روج. وكان جهلها بمكان زيتون يزيد الأمر سوءا. لماذا أصر هذا الرجل على البقاء؟ كان ذلك قاسيا، فعلا. كان يريد الاطمئنان على سلامة أسرته، ولكنه حرم كاثي زوجته من هذه اللفتة الكريمة! وقررت أنها حين تحادثه مرة أخرى فسوف تصر على إخراجه من المدينة. لم يعد يعنيها سبب رغبته في البقاء. فلينس المنزل والعقارات، لا يمكن أن يكون في الدنيا ما يستحق.
وفي نيو أورلينز، كان زيتون يشعر بنشاط جم، لم يحدث قط أن شعر من قبل بمثل هذه العجلة ومثل هذا الوضوح للهدف، ففي أول يوم يقضيه في مدينته التي يغمرها الطوفان، ساعد فعلا على إنقاذ خمسة من السكان المسنين. كان واثقا الآن بأن بقاءه في المدينة كان له ما يبرره، ويشعر بقوة لا يدري كنهها ترغمه على البقاء، وبأن وجوده كان مطلوبا.
وكانت المحطة التالية لزيتون وفرانك عند العقار الذي يملكه زيتون، رقم 5010 شارع كليبورن، وكان زيتون قد اشتراه مع كاثي منذ خمس سنوات، وهو مبنى سكني من طابقين، وكان الناس يسكنونه بالإيجار، ويقيم فيه من أربعة إلى ستة أشخاص في أي وقت من أوقات السنة.
وعندما وصلا وجدا «تود جامبينو»، وهو أحد المستأجرين لدى زيتون، في المدخل الأمامي، ممسكا في يده بزجاجة جعة. كان تود رجلا قوي البنية في أواخر الثلاثينيات، وقد أقام في المبنى طوال الفترة التي امتلكته فيها أسرة زيتون، كان يعمل ميكانيكيا في ورشة «سبيديل» لتغيير زيت السيارة وضبط محركها معظم أيام الأسبوع، إلى جانب العمل بعض الوقت بتسليم الحقائب المفقودة لأصحابها في المطار. كان مستأجرا صالحا فلم يتأخر في إرسال الإيجار قط أو يسبب أي مشاكل لأسرة زيتون يوما ما.
ونهض ناظرا نظرة من يكذب عينيه عندما شاهد زيتون مقبلا .
قال: «ماذا تفعل هنا؟»
وقال زيتون مبتسما: «حقا؟ جئت للاطمئنان على المبنى.» كان يعرف كم كانت العبارة مضحكة، وأضاف: «أردت الاطمئنان عليكم.»
لم يستطع تود تصديق ما يسمع.
وخرج زيتون وفرانك من القارب وربطاه في مدخل المنزل، كان كلاهما سعيدا بالوقوف على الأرض الصلبة من جديد.
وعرض تود عليهما الجعة فرفض زيتون وقبل فرانك ثم جلس الأخير على درج المدخل، بينما انطلق زيتون إلى داخل المنزل.
كان تود يقيم في شقة بالطابق الأول، وكان قد نقل كل منقولاته إلى الطابق الثاني، فالغرف الأمامية وبهو المنزل جميعا تغص بالأثاث، بالكراسي والمكاتب المكومة فوق المناضد والأرائك، وشتى الأجهزة الإلكترونية التي أنقذها من الطوفان تستقر الآن فوق منضدة غرفة الطعام، كان المنظر يوحي بصالة بيع عشوائية.
كانت الأضرار التي أصابت المنزل شاسعة ولكنها لا تستعصي على الإصلاح. كان زيتون واثقا بأنه قد خسر بدروم المنزل، وربما لن يتمكن أحد من الإقامة فيه ردحا من الزمن، ولكن الطابقين الأول والثاني لم يتعرضا لأضرار خطيرة، وهو ما أراح بال زيتون، كان بالمنزل تراب كثير وطين ولطخ، وكان جانب كبير من ذلك يرجع إلى قيام تود بنقل الأشياء من الطابق الأول والخروج والدخول من المنزل، ولكن الأضرار لم تكن خطيرة.
وعلم زيتون من تود أنه لما كان صندوق التليفون الخاص بالمنزل في مكان مرتفع يعلو على مستوى الماء، فإن الخط الأرضي لم يتعطل، فأسرع من فوره بطلب كاثي على تليفونها الخلوي.
قال: «ألو! أنا هنا.»
وكادت تصرخ. لم تكن تدرك مبلغ قلقها الشديد. قالت: «الحمد لله» بالعربية، وأضافت: «اخرج الآن إذن!»
وقال لها إنه لن يرحل، وحكى لها قصة العجوز ذات الرداء الطافي في بهو منزلها، وكيف حمل السلم الخشبي حتى ينقذها، وقص عليها قصة الصيادين وفرانك والأزواج المسنين. وكان يتكلم بسرعة كبيرة جعلتها تضحك.
وسألته: «متى تعتزم الرحيل إذن؟»
وقال لها: «لا أعتزم ذلك.»
وحاول أن يشرح لها أنه إذا رحل فما عسى أن يفعل؟ سيقيم في منزل مليء بالنساء، من دون عمل يشغله. بل سيقتصر على تناول الطعام ومشاهدة التليفزيون والقلق بعيدا عن داره، أما هنا في المدينة فسوف يبقى ويرصد التطورات. يستطيع أن يمد يد العون حيثما تدعو الحاجة. وذكرها بأنهما يملكان نصف دستة عقارات لا بد من رعايتها. قال لها إنه في أمان ولديه طعام، ويستطيع رعاية نفسه، ويحول دون وقوع المزيد من الأضرار.
قال: «حقا! أريد أن أرى ذلك.»
كان يريد أن يرى ذلك، كل ما حدث وما سوف يحدث، بعيني رأسه. كان يحب هذه المدينة ويعتقد في أعماق قلبه أنه يمكن أن يفيدها.
وسألته: «هل تحس إذن بالأمان؟»
وقال: «طبعا. هذا جميل!»
كانت كاثي تعرف أنها لن تستطيع إقناعه بتغيير رأيه، ولكن كيف تشرح لأطفالها وهم يشاهدون صور المدينة الغارقة أن أباهم يقيم فيها مختارا، مبحرا في أرجائها في قارب مستعمل؟ حاولت استخدام المنطق معه، مشيرة إلى أن أنباء التليفزيون كانت تقول إن الأحوال لن تزداد إلا سوءا، وإن المياه سرعان ما تصاب بشتي ضروب التلوث - كالزيت والقمامة ورفات الحيوان - وإن ذلك سرعان ما ينشر الأمراض.
وعد زيتون بأن يكون حريصا، ووعدها بأن يعاود اتصاله ظهرا في اليوم التالي، من المنزل في شارع كليبورن.
وقالت: «اتصل بي كل يوم ساعة الظهر.»
وقال إنه سوف يفعل.
فقالت: «بل لا بد أن تفعل.»
وقطعا المكالمة، وأدارت كاثي جهاز التليفزيون، كان في مقدمة نشرة الأنباء أن المدينة يسودها خرق القانون وينتشر فيها الموت، وكانت أجهزة الإعلام تجمع على أن نيو أورلينز قد تدهورت إلى مستوى دول «العالم الثالث». وكان هذا التشبيه كثيرا ما يستخدم في وصف تدهور الأحوال، عندما تكون المستشفيات مغلقة، وينقطع توافر المياه النظيفة وغيرها من المرافق الأساسية. وفي حالات أخرى، كان التعبير يستخدم عند عرض التليفزيون صور السكان الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية وقد أضناهم الحر خارج مركز موريال للمؤتمرات، أو الواقفين على أسطح المنازل يلوحون بأيديهم طلبا للغوث، وكانت أنباء غير مؤكدة ترد عن وجود عصابات من المسلحين تتجول في المدينة، وعن إطلاق النار على الطائرات المروحية التي تحاول إنقاذ المرضى من فوق سطح أحد المستشفيات، وكان يشار إلى السكان باسم اللاجئين.
كانت كاثي واثقة بأن زيتون لم يكن يدرك مستوى الخطر الذي تنقله الأنباء، ربما يشعر بالأمان حيث يقيم في الضاحية السكانية، ولكن ماذا عسى أن يحدث إذا كانت الفوضى قد انتشرت فعلا، وأنها كانت تشق طريقها إليه وحسب؟ لم تكن تريد تصديق التغطية الإعلامية المبالغ فيها والمشحونة بالتعصب العنصري، ولكن الأمور كانت ولا شك تتطور، وكان معظم الذين بقوا في المدينة يحاولون باستماتة أن يرحلوا. لم تعد تطيق تلك الحال، فطلبت المنزل في شارع كليبورن مرة أخرى، ولكن لم يجب أحد.
كان زيتون قد انصرف، كان بصحبة فرانك في القارب يجدفان في طريق منزل زيتون في شارع دارت. وفي طريق عودتهما للبيت، وأثناء مرور بضع سفن مروحية بهما، خطر لزيتون أنهما سمعا الذين ساعداهم، خصوصا العجوز الطافية داخل منزلها؛ لأنهما كانا يركبان قاربا، ولو كانا في سفينة مروحية تحدث ضجيجا يصم الآذان، لما سمعا شيئا، كانا سيمران بها دون أن يسمعاها، ومن المحتمل أن تعجز المرأة عن الصمود ليلة أخرى، كان الفضل يرجع إلى طبيعة هذه المركبة الصغيرة الصامتة نفسها، فلولا صمتها ما سمعا أشد الأصوات خفوتا. القارب إذن صالح والصمت ذو أهمية جوهرية.
وأوصل زيتون رفيقه فرانك إلى منزله، ثم اتجه إلى طريق العودة، وكان مجدافه يقبل المياه النظيفة، وكتفاه تعملان بإيقاع محكم، كان زيتون قد قطع مسافة خمسة أميال أو ستة في ذلك اليوم، لكنه لم يكن مرهقا. كان الليل يهبط، وكان يعرف أن عليه أن يعود إلى المنزل، سالما فوق سقف المنزل، لكنه حزن لانتهاء النهار.
ربط القارب في المدخل الخلفي وتسلق داخلا المنزل. أحضر شواية محمولة إلى السقف. وأوقد شعلة صغيرة ووضع على النار بعض صدور الدجاج والخضراوات التي كانت مجمدة فأخرجها في الصباح حتى تكون جاهزة للطهي، وأعد لنفسه الطعام، وأثناء تناوله هبط الليل، وسرعان ما أمست السماء أظلم من أي ليلة عرفها في نيو أورلينز، كان الضوء الوحيد ضوء طائرة مروحية تحلق فوق وسط المدينة ، وقد بدت ضئيلة لا حول لها ولا قوة على البعد.
واستخدم زيتون الماء المعبأ في زجاجات في الوضوء وأدى الصلاة فوق السطح، وزحف إلى داخل الخيمة موجع الجسد وإن كان ذهنه لا يزال يقظا، فاسترجع أحداث اليوم. لقد اشترك مع فرانك حقا في إنقاذ تلك المرأة، ألم يحدث ذلك؟ بل حدث. كانت تلك حقيقة. كما ساعدا أربعة آخرين على الوصول إلى بر النجاة، ولا بد أن تكون أمامه مهام أخرى غدا. كيف يستطيع أن يشرح لكاثي ولأخيه أحمد أنه يحمد الله كثيرا على بقائه في المدينة؟ كان واثقا بأنه قد دعي للبقاء وأن الله كان يعلم أنه سيخدم الآخرين إذا بقي. كان اختياره البقاء في المدينة مشيئة ربانية.
كانت مشاعره فائرة إلى الحد الذي أذهب النوم عن عينيه، فعاد من خلال النافذة إلى داخل المنزل، وكان يريد أن يعثر على صورة محمد مرة أخرى. كان قد نسي من كان معه في الصورة - هل كان أحمد؟ - وأراد أن يشاهد التعبير على وجه محمد، تلك البسمة التي تأسر الدنيا. وعثر على صندوق الصور، وأثناء بحثه عن تلك الصورة، وجد صورة أخرى.
كان قد نسي هذه الصورة. ها هو ذا، محمد مع نائب رئيس لبنان. لم يكن زيتون قد رآها منذ بضع سنين. لم يكن محمد قد بلغ العشرين بعد، وكان قد فاز ببطولة سباق سباحة يبدأ في صيدا وينتهي في بيروت، أي لمسافة 26 ميلا. كان الجمهور مذهولا. كان قد ظهر من حيث لا يتوقع أحد، محمد زيتون، ابن بحار من جزيرة أروض الصغيرة، وأذهل الجميع بقوته وقدرته على التحمل. كان زيتون يعرف أن والده محمودا موجود في مكان ما في هذه الصورة بين أفراد الجمهور. لم يكن يفوته سباق قط، ولكن الأمر لم يكن كذلك دائما.
كان محمود يريد أن يعمل ابنه محمد، بل كل أبنائه، على اليابسة لا في البحر، وهكذا قضى محمد سنوات مراهقته الأولى عاملا بحرف مختلفة، مثل البناء والتدريب على أعمال الحدادة وأشغال الحديد. كان فتى قوي البنية له صدر عريض وساقان قويتان، ولم يستمر في المدرسة بعد عامه الرابع عشر. وفي الثامنة عشرة كان يبدو أكبر سنا بشارب كث وفك مربع، وكان يجمع بين التفاني في العمل وسحر الشخصية، فكان يحظى بإعجاب من هم أكبر منه وإعجاب الفتيات في البلدة.
ووافق والد محمد على مضض بأن يعمل ابنه ضمن طاقم سفن الصيد المحلية في العصر والمساء. وكان وهو لا يزال في الرابعة عشرة، وبعد يوم كامل من صيد السمك بعيدا عن الأرض بأميال، يصر على أن يقطع المسافة كلها سباحة، فما إن يرفع الصيادون آخر شباكهم من الماء حتى يسمعوا صوت «الطشة» في الماء، ويروا محمدا منطلقا يشق عباب البحر مهرعا إلى الشاطئ.
ولم يكن محمد يخبر أباه بأمثال هذه المنجزات، وأخفى عنه بكل تأكيد ما قرره بعد سنوات معدودة من أنه قد كتب له أن يكون أعظم سباحي المسافات الطويلة في العالم.
كان ذلك عام 1958، وإزاء عدد من العوامل السياسية، من بينها ازدياد النفوذ الأمريكي في المنطقة، أعلنت مصر وسوريا الوحدة الاندماجية، فنشأت دولة جديدة هي الجمهورية العربية المتحدة. وكان المعتزم أن تؤدي الوحدة إلى قيام كتلة أشد قوة، بحيث يمكن أن تنمو لتضم الأردن والمملكة العربية السعودية وغيرهما. وكانت الوحدة تتمتع بتأييد شعبي واسع النطاق، ورنات الفخار تتفجر في الشوارع والنوافذ في سوريا ومصر؛ إذ كان مواطنو الدولتين يرون في الوحدة خطوة نحو تحقيق تكاتف وتضافر أوسع نطاقا بين الدول العربية، وانطلقت الاحتفالات والاستعراضات من الإسكندرية حتى اللاذقية.
وكان من بين مظاهر الاحتفال إجراء سباق بين جبلة واللاذقية، يشارك فيه سباحون من شتى أرجاء الوطن العربي؛ لقطع مسافة ثلاثين كيلومترا على طول ساحل البحر المتوسط. كان ذلك أول سباق يجري من نوعه على الساحل السوري، وتابع محمد الذي كان في الثامنة عشرة كل خطوة فيه، من الإعداد له حتى السباق نفسه. كان يراقب السباحين أثناء التمرين، ويدرس ضرباتهم ونظامهم، مشتاقا إلى المشاركة في ذلك بنفسه، وتمكن من الحصول على عمل في طاقم قارب الإرشاد لأحد السباحين المتسابقين، واسمه منير ديب، وتمكن من مصاحبته بالسرعة نفسها على طول مسافة السباق.
وفي أثناء الطريق، لم يستطع محمد الصبر فقفز وجعل يسبح بجوار ديب وغيره من المتسابقين، ولم يقتصر محمد على مجاراة المحترفين، بل بهر أحد حكام السباق الذي قال: «هذا الولد ممتاز، وسوف يصبح بطلا!» ومنذ ذلك اليوم ومحمد لا يكاد يفكر إلا في تحقيق هذه النبوءة.
لم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة لكنه كان يعمل صباحا بحرفتي البناء وأشغال الحديد، وعصرا بصيد السمك، وليلا بدأ يتدرب استعدادا لسباق العام التالي، وأبقى تدريبه سرا لم يخبر والده به، حتى عندما خاض اختبارين لسباحة المسافات الطويلة، أحدهما بين اللاذقية وجبلة، والآخر بين جبلة وبانياس. ولكن محمودا ما لبث أن عرف بطموحات ابنه، ولما كان يخشى أن يفقد ابنه في البحر الذي لا يرحم، والذي كاد يسلبه روحه يوما ما، منع ابنه من سباحة المسافات الطويلة، كان يريده أن يترك الصيد، ويبتعد عن البحر. كان يريد لولده أن يعيش.
ولكن محمدا لم يستطع التوقف، وعلى صعوبة عصيان والده، واصل التدريب، ودون أن يخبر أحدا من أفراد الأسرة دخل محمد سباق العام التالي. وعندما خرج من الماء في اللاذقية، كان التهليل يصم الآذان. كان قد فاز بلا عناء.
وقبل أن يتمكن محمد من العودة إلى بلده، قام أحد أصدقاء محمود القدامى، وكان أيضا من أبطال السباحة، بزيارة منزل زيتون وتهنئة محمود بفوز ولده. وهكذا عرف محمود أن محمد زيتون كان أفضل سباح في سوريا.
وعندما وصل محمد عائدا إلى منزله في تلك الليلة، كان محمود قد كف عن المقاومة. قال في نفسه إذا كان ابنه يريد هذا، وإن كان قدر ابنه أن يصير سباحا - إذا كان الله قد خلقه سباحا - فلن يقف هو في طريقه. وهكذا اشترى لابنه تذكرة في الأوتوبيس إلى دمشق حتى يتدرب ويتنافس مع أفضل سباحي المنطقة.
ووجد زيتون صورة أخرى. كانت صورة أول انتصار كبير يحرزه محمد في السنة نفسها، أي في عام 1959، وكان ذلك في سباق لبناني. كان المضمار مزدحما وحافلا بأسماء شهيرة، ولم يفز محمد بالمركز الأول فقط بل حقق زمنا قياسيا فيه؛ تسع ساعات وخمسا وخمسين دقيقة. كان زيتون شبه واثق بأن هذه الصورة التقطت أثناء الاحتفالات في أعقاب الفوز؛ إذ حضر الآلاف لتحية أخيه.
كم كان عمر زيتون آنذاك؟ أجرى حساباته في ذهنه. إنه عام واحد. ربما لم تكن سنه تزيد على عام واحد. لم يكن يذكر شيئا عن تلك الانتصارات الأولى.
وفي العام التالي دخل محمد السباق الشهير بين كابري ونابولي، وهو السباق الذي اجتذب أفضل سباحي العالم. كانت التوقعات ترجح كفة ألفريدو كاماريرو، وهو أرجنتيني كان قد فاز بالمركز الأول أو الثاني خمس سنوات متتالية، وكان محمد مجهولا عندما بدأ السباق في السادسة صباحا، وعندما اقترب من الشاطئ بعد ثماني ساعات لم يجل بخاطره أنه الفائز، ولم يدرك أنه قد فاز إلا عندما خرج من البحر وسمع صرخات الدهشة وترديد اسمه في الهتاف. كانوا يرددون: «زيتون العربي فاز!» لم يكن أحد قادرا على تصديق ذلك. سوري يفوز بأعظم سباق لسباحة المسافات الطويلة في العالم؟! وقال كاماريرو للجميع إن محمدا أقوى سباح شاهده في حياته.
وأهدى محمد الفوز إلى الرئيس عبد الناصر، وردا على ذلك أضفى عبد الناصر رتبة الملازم الفخرية في البحرية على محمد الذي كان في العشرين من عمره. وكان أمير الكويت قد شهد السباق واحتفل بمحمد في عشاء أقيم على شرفه في نابولي. وفي العام التالي فاز محمد مرة أخرى بسباق كابري-نابولي، وفي هذه المرة حطم الرقم القياسي الذي كان كاماريرو قد حققه بمدة خمس عشرة دقيقة. كان قد أصبح آنذاك أشهر سباح للمحيطات في العالم.
كان عبد الرحمن في طفولته مبهورا، وفخورا فخرا لا حدود له؛ إذ نشأ وترعرع في منزل كهذا، وله مثل هذا الأخ، مزهوا في كل يوم بالمجد الذي اكتسبه أخوه للأسرة، كان اعتزاز أشقاء محمد به يوقد مشاعرهم عندما يستيقظون في صباح كل يوم، ويحدد أساليب سيرهم وكلامهم ورؤية الناس لهم في جبلة وأروض وفي كل مكان آخر في سوريا. لقد أدى ذلك إلى تغيير نظرتهم إلى العالم إلى الأبد. كانت منجزات محمد توحي - بل تثبت في الواقع - أن أسرة زيتون أسرة فذة. وقد فرض ذلك على كل طفل، منذ تلك اللحظة، أن يثبت جدارته بتلك التركة.
لقد مضت إحدى وأربعون سنة على وفاة محمد. كان بزوغ نجمه ووفاته المبكرة بصورة لا تكاد تصدق قد حددا مسار أسرة زيتون بصفة عامة ومسار حياة عبد الرحمن بصفة خاصة، ولكنه لم يكن يحب أن يطيل تأمل ما حدث. اللحظات التي يحس فيها الظلم كان يقول إن أخاه قد سرق منه، وإن الظلم المتمثل في انتزاع مثل هذا الرجل الجميل من الدنيا يثير الشكوك في أشياء كثيرة. ولكنه كان يدرك الخطأ الكامن في هذا التفكير، ولم يكن ذلك مثمرا على أي حال. كل ما كان يستطيعه أن يشرف ذكرى أخيه، بأن يكون قويا وشجاعا وصادقا، وأن يتحمل ويصبر. وليكن صالحا مثل محمد.
واستقر زيتون في الخيمة ونام نوما متقطعا. وعلى امتداد الحي كله كانت الكلاب قد أذهب الجوع صوابها، كان نباحها وحشيا طليقا متصاعدا.
الخميس أول سبتمبر
في السادسة صباحا كانت كاثي قد انتهت من وضع الأمتعة في سيارتها الأوديسية، وربطت أحزمة الأمان حول أطفالها فيها. كانت أختاها لا تزالان نائمتين عندما بدأت هي والأطفال السير بالسيارة، مغادرين باتون روج. كانت المسافة إلى مدينة فينكس تبلغ ألف ميل وخمسمائة.
وسألت نديمة: «هل نترك كلبتنا ميكاي حقا؟»
لم تكن كاثي نفسها تصدق ذلك، ولكن ما كان بيدها أن تفعل سوى ذلك؟ إذ طلبت كاثي من أختها باتي أن تسمح لها بترك الكلبة لديها أسبوعا، وأعطت بعض علب طعام الكلاب المحفوظ والنقود إلى أحد المراهقين من أبناء باتي حتى يرعى ميكاي المسكينة. كان ذلك أفضل من وضعها في مأوى للكلاب، وأفضل كثيرا من حملها في الشاحنة كل هذه المسافة إلى فينيكس والعودة بها. لم تكن أعصاب كاثي تتحمل ذلك وتكفيها صعوبة الرحلة مع أربعة أطفال صغار.
كانوا يشرعون في قطع مسافة تستغرق ثلاثة أيام على الأقل بالسيارة، والأرجح أن تستغرق أربعة أو خمسة. ما الذي كانت تفعله؟ كان من قبيل الجنون قيادة السيارة أربعة أيام وقد امتلأت بالأطفال، واتخاذها ذلك القرار في غيبة زوجها! لم يحدث أن مرت بهذا الموقف منذ زمن بعيد، ولكن لم يكن لديها خيار آخر. لم تكن تستطيع البقاء في باتون روج طيلة المدة التي قد تمتد لأسابيع يعلم الله عددها قبل أن تصبح نيو أورلينز صالحة للسكنى من جديد. لم تكن حتى بدأت في التفكير في المدرسة، أو في الملابس؛ إذ لم تصحب معها سوى ما يكفي يومين، أو فيما عساهم أن يفعلوا لكسب المال والعمل متوقف.
وأثناء اتجاهها غربا في الطريق رقم أ-10 شعرت ببعض الراحة إذ أدركت أنها تستطيع، على الأقل، أن تجد الوقت الكافي للتفكير أثناء انطلاقها في ذلك الطريق الفسيح.
وعندما خرجت من المدينة إلى الطريق الرئيس أدارت رقم تليفون منزل شارع كليبورن. لم يكن الموعد الذي اتفقت مع زيتون عليه قد حان، بل كان أمامه ساعات، ولكنها ضربت الرقم آملة أن يكون زيتون قد وصل إليها أولا وينتظر أن يتصل بها. ورن التليفون ثلاث مرات، وقال رجل: «مرحبا؟» كان الصوت صوت أمريكي، ولم يكن صوت زوجها، كما كان فظ النبرات نافد الصبر.
وسألت: «هل عبد الرحمن زيتون موجود؟» - «ماذا؟ من؟»
وكررت ذكر اسم زوجها. - «لا! لا يوجد أحد هنا بهذا الاسم.»
وسألت: «هل هذا رقم 5010 كليبورن؟»
وقال الرجل: «لا أعرف. أظن ذلك.»
وسألت: «من المتحدث؟»
ومرت فترة صمت، ثم انقطع الخط. •••
سارت كاثي بالسيارة نحو ميل قبل أن تبدأ حتى في استيعاب ما حدث الآن. من كان صاحب هذا الصوت؟ لم يكن صوت أحد المستأجرين؛ إذ كانت تعرفهم جميعا. كان رجلا غريبا، رجلا دخل المنزل بطريقة ما ويجيب الآن على التليفون. ومن جديد بدأت الأفكار السوداء تغزو ذهنها بسرعة. ألا يمكن أن يكون المتحدث في التليفون قد قتل زوجها وسطا على المنزل واحتله؟
وأوقفت السيارة عند مطعم ماكدونالدز واستقرت في مكان انتظار السيارات، وأدارت الراديو وفي اللحظة نفسها تقريبا جاءت الأخبار من نيو أورلينز. كانت تعرف أنها ينبغي ألا تصغي، ولكنها لم تستطع المقاومة، كانت أنباء خرق القانون أسوأ مما سمعته من قبل! وخرجت بلانكو، حاكمة الولاية، ببيان موجه إلى من يعتزم ارتكاب الجرائم، تحذرهم فيه بأن الجنود الأمريكيين الذين عركتهم الحروب في طريقهم إلى نيو أورلينز حتى يعيدوا النظام بأي ثمن. وقالت: «عندي رسالة واحدة لهؤلاء المخربين: هؤلاء الجنود يعرفون كيف يطلقون النار ويقتلون، وهم أكثر من راغبين في أن يفعلوا ذلك إذا اقتضى الأمر، وأتوقع أن يفعلوا!»
كانت كاثي تعرف أن عليها تحويل مؤشر الراديو قبل أن يسمع الأطفال شيئا من هذا، ولكنها تأخرت أكثر مما ينبغي. «هل يقولون إن المدينة غرقت يا ماما؟» «هل غمرت المياه منزلنا؟» «هل يطلقون النار على الناس يا ماما؟»
وأسكتت كاثي صوت الراديو قائلة: «أرجوكم يا حبايبي، لا تسألوني أي سؤال!»
واستعادت رباطة جأشها وعادت للانطلاق في الطريق الرئيس، وقد عقدت العزم على عدم التوقف حتى تبلغ فينيكس. قالت في نفسها إن كل ما عليها هو أن تصل إلى يوكو فتهدأ، وإن يوكو سوف تبث في قلبها الاطمئنان، وإن زيتون لا بد أن يكون بخير، وقد يكون من حادثته من الناس شخصا عاديا، فليس من المستغرب أن يشترك الناس في استخدام التليفون ما دامت معظم خطوط التليفون الأرضية في المدينة معطلة.
وعادها الهدوء عدة دقائق. ولكن الأطفال عاودوا الأسئلة: «ماذا حدث لمنزلنا يا ماما؟» «أين بابا؟»
وأدى ذلك إلى إعادة انشغال ذهن كاثي. ألا يمكن أن يكون ذلك الرجل قاتل زوجها؟ ألا يحتمل أنها كانت قد تحدثت لتوها مع من قتل زوجها؟ كانت تحس كأنما كانت تشهد من عل تكالب القوى على زوجها. كانت وحدها تعرف ما يحدث في المدينة: الجنون، والمعاناة، واليأس. لم يكن لديه تليفزيون، ولم يكن يستطيع أن يعرف مدى الفوضى. كانت قد شاهدت الصور المأخوذة من الطائرات المروحية، والمؤتمرات الصحفية، وسمعت الإحصاءات ، وقصص العصابات وتفشي الجرائم. وعضت كاثي شفتيها: «يا حبايبي لا تسألوني الآن! لا تسألوني!» «متى نعود إلى البيت؟»
وصرخت كاثي: «أرجوكم! اتركوا هذا الموضوع لحظة. دعوني أفكر!» لم تكن تستطيع مواصلة الصبر. كانت ترى الطريق بصعوبة والحدود تختفي. كانت تحس أنها تقتحمها وتشدها، والدموع تعمي بصرها فمسحت أنفها بظهر يدها، ورأسها على عجلة القيادة. «ما بك يا ماما؟»
كان الطريق يطير بجانبها.
وبعد بضع دقائق نجحت في استجماع القوة الكافية للتوقف في إحدى الاستراحات على الطريق، وطلبت يوكو بالتليفون.
قالت يوكو: «لا تسيري بالسيارة قدما أخرى.»
وفي غضون عشرين دقيقة كانت الخطة قد اكتملت. ظلت كاثي في مكانها أثناء قيام أحمد، زوج يوكو، بالنظر في جدول مواعيد الطائرات. لم يكن على كاثي إلا أن تصل إلى هيوستن، وسوف تتخذ يوكو الترتيبات لمبيت كاثي والأطفال في منزل أحد الأصدقاء هناك. وسوف يسافر أحمد بالطائرة فورا إلى هيوستن، ويقابلها في الصباح هناك ويتولى قيادة السيارة وفيها أفراد الأسرة إلى مدينة فينيكس.
وسألت كاثي: «أنت متأكدة؟»
وقالت يوكو: «أنا أختك، وأنت أختي، لم يعد لي في الدنيا غيرك!» كانت والدتها كاميكو قد توفيت ذلك العام، وكان فقدانها فاجعة ليوكو وكاثي معا.
وعادت كاثي تبكي من جديد.
واستيقظ زيتون ذلك الصباح بعد التاسعة مرهقا من عواء الكلاب. كان قد عقد العزم على أن يعثر اليوم عليها.
وبعد أن أدى الصلاة، انطلق يجدف في القارب فوق الفناء الغارق. كان صوت النباح يدل على أن الكلاب في مكان قريب جدا، فعبر الشارع واتجه يسارا في شارع دارت، وبعد أن تخطى بضعة منازل وجد مصدر الأصوات.
كانت الأصوات صادرة من منزل يعرفه خير المعرفة، فزاد اقترابا منه فإذا بالنباح يغدو محموما، ونبرات النباح المستيئسة صادرة من داخل المنزل، وكان عليه الآن أن يجد وسيلة لدخول المنزل. كان الطابق الأول تغمره المياه، فحدس أن به كلبين محبوسين في الطابق الثاني. وكان بالقرب من المنزل شجرة كثيرة الأغصان، فجدف حتى وصل إليها وربط القارب في جذعها.
ورفع نفسه ممسكا بأحد أغصان الشجرة ، وتسلقها حتى استطاع أن ينظر من نافذة بالطابق الثاني، لكنه لم يشاهد كلابا، وإن استمر يسمع النباح. كانا في ذلك المنزل، وكانا يعرفان أنه قريب منهما. كانت الشجرة التي يقف عليها تبعد عشر أقدام عن النافذة، وكان من المحال أن يقفز لبعد المسافة.
في تلك اللحظة لمح لوحا من الخشب، عرضه قدم وطوله نحو ست عشرة قدما، طافيا في الفناء الجانبي، فهبط وجدف حتى وصل إليه وأحضره إلى المنزل وجعله يستند إلى الشجرة، ثم صعد الشجرة مرة أخرى ورفع اللوح حتى ينشئ قنطرة بين الشجرة وبين السطح، كان يرتفع عن الأرض بنحو ست عشرة قدما، ونحو ثماني أقدام فوق مستوى المياه.
لم تكن القنطرة التي أنشأها تختلف كثيرا عن السقالة التي كان يستخدمها كل يوم في عمله، وهكذا فبعد أن فحصه بسرعة واقفا عليه نصف وقفة على قدم واحدة، سار فوقه ووصل إلى السطح.
ومن مكانه فوق السطح عالج شباكا حتى فتحه وانسل داخلا المنزل. وأصبح صوت النباح أعلى وأشد إلحاحا، فعبر غرفة النوم التي وصل إليها، وهو يسمع أصوات الكلبين التي يزداد طابعها الهيستيري، وأثناء سيره في ردهة الطابق الثاني لمحهما؛ كانا كلبين كما حدس، أحدهما من فصيلة اللابرادور الضخمة، أسود اللون، والآخر أصغر من سلالة مهجنة في قفص. لم يكن لديهما طعام، وكان إناء الماء في القفص خاليا. كان يبدو أنهما في حالة من التشويش يحتمل فيها أن يعضاه ولكنه لم يتردد، ففتح القفص وأخرجهما، فجرى اللابرادور وتخطاه خارجا من الغرفة، وأما الصغير فظل كما كان، يقعي في القفص، وتراجع زيتون حتى يتيح له أن يخرج ولكنه ظل في مكانه.
ولم يكن أمام اللابرادور مكان يقصده، فحاول نزول الدرج وشاهد المياه قد وصلت إلى ما قبل الطابق الثاني ببوصات معدودة، فعاد إلى زيتون الذي خطرت له فكرة.
قال لهما: «انتظرا هنا.»
سار عائدا عبر القنطرة التي أقامها باللوح الخشبي، وهبط من الشجرة إلى قاربه، وجدف عائدا إلى منزله، وصعد إلى السطح وانسل من نافذته ونزل الدرجات القليلة التي لم تكن المياه قد غمرتها، وكان يعرف أن كاثي تملأ الفريزر بأكداس من الأطعمة المجمدة، من اللحوم والخضراوات، فانحنى وأخذ قطعتين من اللحم، وأسرع بإغلاق الباب حتى يحول دون تسريب الحرارة إليه. وعاد إلى السطح فحمل زجاجتي بلاستيك من الماء ووضع ذلك كله في القارب، وهرع هابطا وعاد إلى المنزل حيث كان الكلبان.
وأحسا من جديد بمقدمه ولكنهما كانا هذه المرة بجوار النافذة ورأساهما يطلان من حافتها، وعندما شما رائحة اللحم، وإن كان مجمدا، عادا للنباح المحموم، وذيلاهما يهتزان، فأعاد زيتون ملء إناء الماء فانقضا عليه، وبعد أن شربا كفايتهما عادا لمعالجة اللحم، فظلا يعضانه حتى زال تجمده، وظل زيتون ينظر عدة دقائق، متعبا وراضيا، حتى سمع المزيد من النباح، كانت في الحي كلاب أخرى، وكان لديه فريزر غاص بالطعام، فعاد إلى المنزل ليستعد.
وضع المزيد من اللحم في قاربه وذهب يبحث عن الحيوانات الأخرى التي خلفها وراءه، ولم تكد لحظة تمر على خروجه من منزله حتى سمع صوت نباح واضح، وإن كان مكتوما، صادرا من الموقع نفسه تقريبا حيث وجد الكلبين.
وزاد من اقترابه متسائلا إن كان بالمنزل نفسه كلب ثالث، فأرسى القارب بربطه في الشجرة من جديد، وصعد حاملا قطعتين من اللحم، ونظر هذه المرة من منتصف الغصن إلى المنزل المجاور، من ناحية اليسار، فشاهد كلبين آخرين يتواثبان أمام زجاج النافذة.
فنقل اللوح الخشبي من مكانه الموصل إلى المنزل الأول ومده حتى وصل إلى المنزل الآخر. وعندما رآه الكلبان انطلقا في خبال يثبان في مكانهما.
وما لبث أن فتح النافذة ودخل حتى قفز الكلبان نحوه، ألقى بقطعتي اللحم فانقض الكلبان عليهما وقد نسياه تماما، كان يريد أن يأتيهما بالماء أيضا فعاد بالقارب من جديد إلى المنزل وأحضر المزيد من زجاجات المياه المعبأة وإناء يشرب منه الكلبان.
وترك زيتون بالنافذة فتحة تكفي استنشاق الكلبين للهواء الطلق، ثم سار على اللوح الخشبي مرة أخرى وهبط الشجرة ودخل قاربه، وبدأ التجديف وهو يقول في نفسه إن الوقت قد حان للاتصال بكاثي تليفونيا. •••
وأثناء تجديفه لاحظ أن المياه ازداد تلوثها، فازداد لونها قتمة وزالت شفافيتها، وأصبح يخالطها الزيت والبنزين ويشوبها بعض الحطام والطعام والقمامة والملابس وركام من المنازل، ولكن زيتون كان يتمتع بروح معنوية عالية، ويشعر بالانتعاش بسبب ما استطاع أن يفعله من أجل الكلاب، وبأنه بقي من أجل هذه الحيوانات؛ إذ كان يمكن أن تموت أربعة كلاب جوعا وتستطيع أن تعيش الآن لأنه لم يترك المدينة؛ ولأنه اشترى القارب القديم. كان يتلهف على الاتصال بكاثي.
وعند الظهر عاد إلى المنزل في شارع كليبورن، لم يكن تود موجودا اليوم وكان البيت خاليا. دخل المنزل واتصل بكاثي.
وقالت كاثي: «الحمد لله! الحمد لله الحمد لله الحمد لله! أين كنت؟» كانت لا تزال مع الأطفال في السيارة في الطريق إلى هيوستن، فوقفت على جانب الطريق.
وسألها زيتون: «ماذا يقلقك؟ قلت سأتصل في الظهيرة، ونحن الآن في الظهيرة.»
وسألته: «من كان ذلك الرجل؟»
وسأل بدوره: «أي رجل؟»
أوضحت له أنها عندما اتصلت من قبل رد على التليفون شخص آخر. أقلق ذلك زيتون، فأخذ أثناء المكالمة ينظر في أرجاء المنزل، لم يلاحظ ما يدل على وقوع سرقة أو جريمة من أي لون، لم يشاهد أقفالا مخلوعة ولا نوافذ مكسورة، ربما كان ذلك الرجل من أصدقاء تود؟ وأكد لكاثي أن ذلك لم يكن مما يدعو إلى القلق على الإطلاق، وأنه سوف يكشف حقيقة ما حدث.
وأبدت كاثي، بعد أن هدأ بالها، سرورها بأنه استطاع مساعدة الكلاب، وبأنه كان نافعا، لكنها لم تكن تريده أن يبقى في نيو أورلينز بعد الآن، مهما يكن عدد الكلاب التي يطعمها، أو عدد الأشخاص الذين يعثر عليهم وينقذهم.
وقالت: «أريدك حقا أن ترحل، الأنباء القادمة من المدينة بالغة السوء؛ إذ يقع فيها السلب والنهب والقتل، وسوف يصيبك مكروه.»
كان زيتون يدرك من نبراتها مدى قلقها، ولكنه لم يشهد أي شيء يشبه الفوضى التي تصفها، فلو كانت بالمدينة أي فوضى - وكانت تعرف طابع أجهزة الإعلام - فسوف تكون في وسط المدينة . وقال: إن المكان الذي يتنقل فيه بالغ السكون والهدوء والغرابة كأنما ينتمي لعالم آخر، إلى الحد الذي يستحيل معه أن يعرضه للخطر. وقال لها إنه ربما كان من وراء بقائه منطق ما، سبب خفي لشرائه القارب، ووجوده في هذا الموقف المحدد وهذا الوقت المحدد.
وقال: «أشعر كأنما كان من الواجب أن أكون هنا.»
ولم ترد كاثي.
وقال: «إنها مشيئة الله.»
ولم تكن لديها إجابة لذلك.
وانتقلا في الحديث إلى الشئون العملية، قالت إن تليفونها الخلوي كثيرا ما يتعطل في منزل يوكو في مدينة فينيكس، فأعطت زيتون رقم التليفون الأرضي هناك، فكتبه على قصاصة من الورق وتركها بجوار تليفون منزل شارع كليبورن.
وقال: «أدخلي الأطفال المدرسة عندما تصلين إلى فينيكس.»
وبرقت عينا كاثي.
وقالت: «طبعا!»
وقال: «أحبك وأحبهم!» وأنهيا المكالمة.
وانطلق من جديد، ومن فوره شاهد تشارلي راي، الذي كان يقيم في منزل إلى يمين منزل شارع كليبورن، كان نجارا أزرق العينين، في الخمسينيات من عمره، مواطنا ودودا لطيف المعشر، يعرفه زيتون منذ سنين. كان يجلس هادئا في شرفة مدخل منزله كأنما كان اليوم مثل أي يوم آخر.
وقال زيتون: «بقيت أنت أيضا؟» «هذا صحيح.» «هل تريد أي شيء؟ ماء؟»
وقال تشارلي إنه لا يحتاج الآن، ولكن ربما يحتاج بعد وقت قصير، ووعده زيتون بأن يمر عليه من جديد للاطمئنان وانطلق يجدف مبتعدا، ويتطلع إلى أن يعرف كم من الناس ظلوا في المدينة، فما دام فرانك قد بقي، وما دام تود وتشارلي قد ثبتا في وجه العاصفة، فلا بد أن تكون بالمدينة عشرات آلاف أخرى. لم يكن وحده صاحب التحدي.
وواصل طريقه، مدركا أنه لا بد أن يشعر بالتعب، ولكنه لم يكن يشعر بأدنى تعب، بل ما أحس يوما ما يحسه الآن من قوة.
وفي هذا اليوم انطلق فاقترب من وسط المدينة، وكان يمر بأسر يخوض أفرادها في الماء، ويدفعون أمامهم الأوعية التي تستخدم في الغسيل وقد ملئوها بمنقولاتهم، ومر بجوار امرأتين تدفعان أمامهما حمام سباحة بلاستيكي ينفخ ويوضع فيه الماء للأطفال، وقد وضعوا فيه الملابس والطعام، وفي كل مرة كان زيتون يسأل إن كان يستطيع المساعدة، وأحيانا كان يطلب منه زجاجة أو زجاجتان من الماء، فيقدم لهم ما لديه، كان يعثر على أشياء بالغة الكثرة - مياه معبأة، ووجبات جاهزة، وأغذية معلبة - وحيثما صادف أحدا أعطاه ما كان لديه في القارب. كان لديه المخزون الكافي في البيت، ولم يكن يريد أي أثقال أخرى تبطئ سير القارب.
ووصل بقاربه إلى المنصة رقم أ-10 عند تقاطع شارعي كليبورن وبويدراس، وهي هيكل من الخرسانة يعلو على سطح الماء بنحو عشر أقدام، وكان فوقها العشرات الذين ينتظرون الإنقاذ، كانت إحدى الطائرات العمودية قد أسقطت زجاجات الماء والطعام، وكان يبدو أن لديهم المؤن الكافية، وسألوا زيتون إن كان يريد أي ماء فقال إن لديه الكفاية، ولكنه يحمل الماء إلى من يحتاجون إليه، فأعطوه صندوقا، وعندما أدار قاربه رأى نصف دستة كلاب مع المجموعة، معظمها من الجراء الصغيرة، كانت تبدو في صحة جيدة وتتناول ما يكفي من الطعام، كانت تجلس في ظل السيارات هربا من حرارة الجو.
ولما كان زيتون يفترض أن كل ما أصاب المدينة أشد وطأة على الأرجح في وسطها، اختار ألا يقترب من المركز إلى أكثر من هذا الحد، فحول وجهة القارب، وعاد أدراجه إلى شارع دارت.
وبينما كانت كاثي تقود السيارة إلى هيوستن، كانت يوكو تتخذ الترتيبات اللازمة حتى تقضي الأسرة ليلتها في منزل صديقة قديمة لهما كانت تسميها ماري، وكانت ماري هذه، مثل يوكو وكاثي، أمريكية ولدت لأسرة مسيحية واعتنقت الإسلام بعد أن كبرت، وقد أصبح منزلها الآن ملجأ تحتمي فيه الأسر الهاربة من وجه العاصفة، وعندما توقفت الأوديسية، سيارة كاثي، عند مدخل المنزل وجدت فيه أكثر من عشرة أشخاص، وكانوا كلهم من المسلمين من نيو أورلينز وغيرها من مناطق لويزيانا ومسيسيبي.
وكانت ماري امرأة براقة العينين في الأربعينيات، وقد خرجت لاستقبال كاثي والأطفال عند مدخل البيت، وحملت حقائبهم، واحتضنت كاثي بشدة جعلت الدموع تنساب من عينيها مرة أخرى، وصحبتهم ماري إلى الداخل، وأرشدت الأطفال إلى حمام السباحة خلف المنزل، وفي غضون دقائق كان الأربعة يسبحون في سعادة، وانهارت كاثي على الأريكة وحاولت ألا تفكر في أي شيء.
وعندما عاد زيتون إلى منزله في شارع دارت، وجد خيمته في الماء أسفل المنزل، كانت الريح قد أطارتها عن السقف، وحدس زيتون أن ذلك كان على الأرجح بسبب طائرة عمودية، فانتزعها من الماء ونصبها من جديد، وجفف داخلها بالفوط، ثم دخل المنزل ليبحث عن أثقال يثبتها بها، فأحضر أكواما من الكتب، وكانت هذه المرة أثقل ما وجد، ووضعها في أركان الخيمة.
وبينما كان يعمل داخل الخيمة على تثبيتها، سمع صوت طائرة عمودية أخرى تقترب منه، كان الصوت يصم الآذان، وتوقع أن تمر من فوق منزله في طريقها إلى مكان آخر، ولكنه عندما أخرج رأسه من الخيمة ونظر وجد أنها تحلق فوق منزله، بل فوقه، وكان بها رجلان يرسلان الإشارات إليه.
وأشار إليهما إشارة من يطلب ذهابهما، مؤكدا أنه بخير، ولكن ذلك فيما يبدو زاد من حيرتهما؛ إذ بدأ الرجل الثاني في الطائرة العمودية يدلي قفصا إليه، وعندها رأى زيتون أن يرسل إلى الرجل إشارة برفع إبهامه دليلا على أنه بخير، ومشيرا إلى خيمته، وكرر الإشارة بالإبهام المرفوع وإشارات تفيد أنه بخير. وأخيرا أدرك أحد الرجلين اعتزام زيتون البقاء، وقرر إلقاء صندوق من المياه المعبأة له، وحاول زيتون من جديد عبثا، صرف الرجلين عنه، وهبط الصندوق فوثب زيتون متنحيا عن طريقه، ولكن الصندوق هبط على الخيمة فأوقعها وجعلت زجاجات الماء تتواثب في كل مكان، ورضي الرجلان عما فعلا فحولا وجهة الطائرة وانطلقت.
وعاد زيتون لتثبيت خيمته من جديد، وبدأ الاستعداد للرقاد، ولكنه كان قلقا مثلما كان في الليلة السابقة وذهنه تموج فيه أحداث النهار المنصرم، فجلس على السقف يرقب حركة الطائرات العمودية التي تحلق وتنقض فوق باقي منازل المدينة، ثم وضع خطة لليوم التالي؛ سوف يغامر بقطع مسافة أكبر نحو وسط البلد، ويزور مرة أخرى الجسر رقم أ-10، ويستطلع ما حدث لمكتب شركته ومخزنها في شارع دبلن، كانت الشركة تحتفظ في الطابق الأول من المخزن بالمعدات الإضافية، مثل الأدوات والدهانات والفراجين والستائر المقواة وغيرها، وتتخذ من الطابق الثاني مكانا للمكاتب التي تضم أجهزة الكمبيوتر، والملفات، والخرائط، والفواتير، وعقود أملاك العقارات، وبدا الألم في وجهه حين خطر له ما يمكن أن يكون قد أصاب المبنى، وهو متهالك أصلا.
وكانت الطائرات العمودية تحوم طول الليل، وفيما عدا ذلك كان السكون يلف المكان، ولم يسمع أصوات الكلاب، وبعد أن أدى صلاته، أوى إلى النوم تحت سماء مضطربة.
الجمعة 2 من سبتمبر
استيقظ زيتون مبكرا ذلك الصباح وهبط إلى قاربه وانطلق يجدف حتى عبر الشارع قاصدا إطعام الكلاب، وعند اقترابه منها، سمعها تصدر أصواتا خافتة كالنشيج فسرها على أنها تعبير عن الراحة والامتنان، وصعد الشجرة ومشى بحرص على اللوح الخشبي إلى المنزل على اليمين وزحف من الشباك، وألقى شريحتين كبيرتين من اللحم للكلاب وملأ إناء شرب الماء لهما، وأثناء انهماكهما في الطعام خرج من النافذة وسار بحرص إلى سقف المنزل المجاور ثم دخله، لإطعام الكلبين الآخرين. كانا ينبحان ويهزان الذيل فألقى قطعتين من لحم الضأن لهما وملأ الإناء بالماء، وخرج من النافذة وهبط إلى قاربه وانطلق.
قال في نفسه إن الوقت حان ليرى ما حدث لمبنى مكتبه، كان يقع على مسافة نصف ميل تقريبا، في شارع متفرع من طريق كارولتون، وهو طريق قريب تصطف على جانبيه المخازن، والمحال التجارية، ومحطات البنزين. كان الماء قد غدا قذرا، تشوبه قطرات الزيت وينتشر فيه الركام. وكان واثقا بأن كل من يخرج ليخوض فيه سيمرض وإن لم يكن رأى حتى هذه الساعة من النهار أي شخص في الماء، كانت المدينة يزداد خلوها من السكان، ويقل عدد الخائضين في الماء يوما بعد يوم، وكذلك عدد الوجوه المطلة من النوافذ، وعدد القوارب الخاصة التي تشبه قاربه.
كان الرذاذ يتساقط طول الصباح، ولكن هطول المطر اشتد الآن، وبدأت الرياح في الهبوب وساءت حالة الجو، واستمر زيتون يجدف عكس اتجاه الريح، مكافحا للتحكم في القارب، والرياح تثير الموج على سطح المياه الزرقاء البنية.
وتخطى شارع إيرهارت حتى دخل طريق كارولتون، وعبر طريق كارولتون في اتجاه الجنوب الغربي إلى شارع دبلن. كان يتوقع أن يجد بعض الناس في طريق كارولتون، مثل طريقي نابليون وسانت تشارلز، ما دام ذلك هو الطريق التجاري الذي يقصده، كما يقضي المنطق، طالبو سفن الإنقاذ أو السفن الحربية، ولكنه عندما اقترب منه لم يجد فيه أي فرد ذي صفة رسمية على الإطلاق.
لكنه شاهد مجموعة من الرجال في محطة بنزين «شل»، وهي تقع عبر الشارع في مواجهة مكتبه، كانت المحطة تقع على ربوة ولم يكن ارتفاع الماء فيها يزيد على أقدام معدودة، وكان الرجال الثمانية أو التسعة يحملون أكياس القمامة التي ملئوها بأشياء من مكتب المحطة ويضعونها في قارب معهم، كانت تلك أول حادثة يشهد فيها السلب والنهب منذ هبوب العاصفة، وكان ينطبق على هؤلاء الرجال وصف الذين حذرته كاثي منهم، وكانت هذه جماعة منظمة من المجرمين الذين استغلوا الفرصة، ولم يكونوا يأخذون فقط ما يحتاجونه للبقاء في قيد الحياة، كانوا يسطون على المال والبضائع من محطة البنزين، وقد احتشد منهم عدد كبير كان القصد منه، فيما يبدو، إخافة أي شخص، مثل زيتون، قد يشاهدهم أو يحاول إعاقتهم.
كان زيتون يبتعد عنهم بمسافة تكفي لمراقبته لهم دون خوف من الوصول إليه، أو من الوصول بسرعة إليه، على الأقل. ومع ذلك فقد أبطأ تقدم قاربه، محاولا أن يجد طريقة تمكنه من الذهاب إلى مكتبه دون المرور مباشرة بهم.
ولكن أحد الرجال كان قد لمحه، كان شابا يرتدي شورتا طويلا من الجينز، وقميصا أبيض دون أكمام، وبسط كتفيه تجاه زيتون قاصدا أن يريه مقبض مسدس كان يحمله في حزامه.
وأسرع زيتون بتحويل بصره عنه؛ إذ لم يكن يريد دعوته لمواجهة معه، وأدار وجهة القارب إلى الناحية الأخرى وبدأ انطلاقه إلى المنزل في شارع كليبورن؛ فقد قرر ألا يزور مكتبه اليوم للاطمئنان عليه.
وصل قبل الظهر إلى المنزل واتصل بكاثي. كانت لا تزال في منزل ماري بمدينة هيوستن .
وقال: «لن أتمكن من الاطمئنان على المكتب اليوم.»
وسألته: «لماذا؟»
لم يكن يريدها أن تقلق، كان يعرف أن عليه أن يكذب.
قال: «إنه المطر.»
قالت له إن بعض الأصدقاء قد اتصلوا بها، ليعرفوا مكان وجودها هي وزيتون، والاطمئنان على سلامتهما، وكانت عندما تذكر لهم أن زوجها لا يزال في المدينة تتلقى دائما استجابة من ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى هي الصدمة، والثانية إدراكهم أنهم يتحدثون عن زيتون - وهو رجل لا يثير القلق في أي موقف - وأخيرا كانوا يقولون ليته وهو يتجول في قاربه يطمئن على منازلهم!
كان يسعد زيتون غاية السعادة أن يكلف بمهمة من المهام، ولم تتأخر كاثي في تكليفه، كانت قد تلقت مكالمة لتوها من أسرة بورميديان الذين تربطهم بهما صداقة عمرها ثلاثة عشر عاما، كان علي بورميديان أستاذا لعلوم الكمبيوتر في جامعة تولين، وكان يدير مسجد الرحمة، وهي رابطة للطلاب المسلمين في الحرم الجامعي، كانت الأسرة تملك مبنى في شارع بورث يضم مركزا للمعدات والكتب، ومكانا لمبيت الطلاب الزائرين من العالم العربي.
وكانت دليلة بورميديان قد اتصلت لتوها بكاثي، راجية من زيتون الاطمئنان على المبنى، وتفقد ما حل به من أضرار، وقال زيتون إنه لا توجد مشكلة في ذلك، وإنه سوف يتحقق مما حدث له. كان يعرفه خير المعرفة؛ إذ قام بعدة أشغال فيه على مر السنين، وكان يعرف كيف يصل إليه، وكان في الواقع يتطلع لمعرفة ما حل بالحرم الجامعي، ما دام يقوم على ربوة.
قالت له: «اتصل مرة أخرى ظهرا.»
وقال لها زيتون: «طبعا.»
وقبل أن ينصرف زيتون اتصل بأخيه أحمد، وبعد أن عبر أحمد عن ارتياحه الشديد لسماع صوت أخيه بدأ حديثه الجاد.
قال أحمد: «لا بد أن ترحل!»
وقال زيتون: «لا لا! أنا بخير. كل شيء على ما يرام.»
وحاول أحمد أن يؤدي دور الأخ الأكبر فقال: «اذهب إلى أسرتك. أريدك فعلا أن ترحل، أسرتك تحتاج إليك.»
وقال زيتون، وهو يحاول ألا يبدو مبالغا في التعبير: «حاجة الناس هنا أكبر. هؤلاء أفراد أسرتي أيضا .»
ولم يكن أحمد يعرف كيف يعارض مثل هذه العبارة.
وقال زيتون: «هذه مكالمة أجرها باهظ. سأطلبك غدا بالتليفون.»
عندما وصل إلى جامعة تولين، كان مستوى الماء قد انخفض إلى الحد الذي سمح له بأن يهبط من القارب إلى اليابسة، وسار في الفناء الذي يكسوه البلاط والذي أقيم فيه مسجد الرحمة، وجال ببصره في المكان. كانت الأرضية تغطيها خطوط متقاطعة من الأغصان التي سقطت من الأشجار، ولكن - باستثناء ذلك - لم يكن المبنى قد أصيب بأضرار. كان يوشك أن ينظر في داخل المبنى عندما شاهد رجلا خارجا من الباب الجانبي له.
قال: «ناصر؟»
كان ذلك ناصر ديوب، من سوريا أيضا، وكان قد غادر بلده في عام 1995، بعد أن سافر أولا إلى لبنان، ومن بيروت تسلل فركب إحدى ناقلات البترول خفية من دون أن يعرف مقصدها، واتضح بعد ذلك أنها كانت تتجه إلى الولايات المتحدة، وعندما وصلت إلى الميناء وثب ناصر منها وطلب فورا حق اللجوء، ومنح بعد فترة الحق في الاحتماء بالولايات المتحدة، وكان حينذاك قد انتقل إلى نيو أورلينز، وكان يقيم في مسجد الرحمة أثناء الإجراءات القانونية الخاصة بقضيته. «عبد الرحمن!»
وتصافحا وتبادلا القصص عما مر به كل منهما أثناء العاصفة، كان منزل ناصر يقع في حي برودمور، متاخما لوسط المدينة، وكانت قد غمرته مياه الطوفان، فجاء إلى رابطة الطلبة ينشد المأوى؛ إذ كان يعرف أن المكان يقع فوق ربوة.
وسأله زيتون: «أتود البقاء هنا أم مصاحبتي؟»
كان ناصر يعرف أنه سيكون سالما في الحرم الجامعي؛ لانتفاء تعرض المكان للغمر بالماء أو للجرائم، ولكنه صاحب زيتون على الرغم من ذلك؛ لأنه كان يريد أيضا أن يرى ما حدث للمدينة ومنزله.
هرع ناصر إلى المبنى ليحضر حقيبته الخفيفة ثم دخل القارب، وأعطاه زيتون المجداف الآخر وانطلقا.
كان ناصر في الخامسة والثلاثين من عمره، فارع الطول، على بشرته نمش، وشعر رأسه أحمر غزير، كان هادئ الطبع، وإن كانت به عصبية طفيفة، وعندما شاهدته كاثي أول مرة ظنت أنه ضعيف البنية، وكان قد عمل يوما ما بطلاء المنازل، وعمل لحساب زيتون في بعض الأوقات، لم يكونا صديقين حميمين، ولكن مقابلة ناصر مصادفة هنا بعد الطوفان أدت إلى التسرية عن زيتون بعض الشيء؛ إذ كانا يشتركان في جانب كبير من الخلفية، مثل النشأة في سوريا، والهجرة إلى أمريكا ونيو أورلينز، والعمل بالحرف اليدوية.
وأثناء التجديف في القارب تحدثا عما شاهداه حتى الآن، وعما كانا يأكلانه، وكيف كانا ينامان، كان كلاهما قد سمع الكلاب تنبح، كانت الكلاب تنبح دائما بالليل، وكان ناصر أيضا قد قام بإطعام الكلاب في المنازل الخالية، وفي الشوارع، حيثما كان يصادفها، كان ذلك جانبا من أغرب جوانب هذه الفترة الواقعة بين عهدين - أي بعد العاصفة، ولكن قبل عودة أي أحد إلى المدينة - أي وجود هذه الآلاف من الحيوانات التي خلفها أصحابها وراءهم.
زادت قوة الرياح الآن، فظلا يكافحان المطر الغاضب الذي ينهمر في خطوط أفقية وهما يجدفان حتى تجاوزا مكتب البريد بالقرب من مكان انتظار السيارات في شارع جيفرسون عند تقاطعه مع شارع لافيت. كانت ساحة الانتظار قد أصبحت موقعا لإجلاء السكان، فالمقيمون الذين يريدون الانتقال من المدينة جوا يأتون إلى مكتب البريد حتى تنقلهم الطائرات العمودية إلى بر النجاة المفترض.
وعندما اقتربا من ذلك الموقع سأل زيتون ناصرا إن كان يرغب في الرحيل، وقال ناصر إن الوقت لم يحن بعد؛ إذ إنه كان يسمع عن أهالي نيو أورلينز الذين تقطعت بهم السبل تحت الجسور العلوية الرابطة ما بين الطرق، ولم يكن يريد أن يكون واحدا منهم، وهكذا قرر ناصر أنه سوف يظل في المدينة حتى يسمع أنباء موثوقا بها عن نجاح حالات الإجلاء من المدينة، وقال له زيتون إنه يرحب بنزوله في منزله بشارع دارت أو في المنزل الآخر بشارع كليبورن، وكان ذلك بمثابة نعمة من السماء لم يتوقعها ناصر الذي كان يريد الاتصال بعدد من أقاربه لإطلاعهم على أنه لا يزال حيا.
واستمرا يجدفان في طريق العودة إلى شارع كليبورن، ومرا بصندوق كامل من زجاجات المياه المعلبة تتراقص وسط المجرى المائي، فأخذاه ووضعاه في القارب، وواصلا المسير.
وعندما وصلا إلى المنزل خرج ناصر من القارب وبدأ يربطه في المرسى، وكان زيتون يخطو خارجا منه حين سمع صوتا يدعوه باسمه. «زيتون!»
كان يظن أنه تشارلي راي يناديه من المنزل المجاور، ولكن الصوت كان قادما من المنزل الواقع خلف منزل تشارلي، في شارع روبرت. «نحن هنا!»
كان من يناديه الزوجان ويليامز، رجلا يدعى ألفين ومعه بيولا زوجته، وكانا في السبعينيات من العمر، كان الزوج ألفين يعمل راعيا لكنيسة معمدانية تسمى كنيسة بيت لحم الجديدة، وكان قعيدا في كرسي ذي عجلات، وكانت بيولا قد تزوجته منذ خمس وأربعين سنة، وكان زيتون وكاثي يعرفانهما منذ أن بدآ يقطنان نيو أورلينز تقريبا، وعندما كان زيتون وزوجته يعيشان في منزل قريب كانت أخت ويليامز راعي الكنيسة تزور كاثي وتتناول معها بعض الوجبات. ولا تذكر كاثي إطلاقا كيف بدأ ذلك، ولكن تلك الأخت كانت عجوزا، وتحب أسلوب كاثي في الطهي، وهكذا كانت كاثي عندما يحين موعد العشاء تعد لها مكانا على المائدة، واستمرت الحال على ذلك شهورا عديدة، وكان يسعد كاثي، أن تعلم أن شخصا ما كان يكلف نفسه عناء تناول الطعام الذي تعده بنفسها.
ونادى زيتون: «مرحبا!» وانطلق نحو المنزل بقاربه.
وسأله ألفين: «أتظن أنك تستطيع مساعدتنا على الخروج من هنا؟»
كان راعي الكنيسة وبيولا قد صمدا في وجه العاصفة، ولكنهما كانا قد استنفدا الآن مخزونهما من الطعام والماء، ولا يذكر زيتون أنه رآهمها من قبل بمثل هذا الإرهاق.
وقال ألفين: «آن أوان الرحيل.»
وإزاء المطر المنهمر والريح العاصف، كان من المحال إجلاؤهما في القارب، فقال لهما زيتون إنه سوف يأتيهما بمن يساعدهما.
وانطلق في شارع كليبورن، والريح والمطر يحاربانه، حتى وصل إلى المركز الطبي التذكاري حيث كان يعرف بوجود الشرطة ومرابطة جنود الحرس الوطني هناك، ورأى وهو يقترب جنودا في الحارات وفوق السطوح وعلى المنصات وفي الشرفات. كان المكان أشبه بقاعدة حربية محصنة تحصينا شديدا، وعندما اقترب إلى الحد الذي يتيح له مشاهدة وجوه الجنود رفع اثنان منهم مسدسيهما، وأصدرا إليه الأمر صائحين: «لا تقترب أكثر من هذا!»
أبطأ زيتون السير بالقارب، وزادت شدة الريح، كان من المحال المكوث في مكان واحد، كما كان من الصعب سماعهما صوته.
وصرخ زيتون: «أبحث وحسب عن مساعدة.»
وخفض أحد الجنديين مسدسه، وظل الآخر يوجه مسدسه إلى زيتون.
وقال الجندي: «لا نستطيع مساعدتك. اذهب إلى شارع سانت تشارلز.»
وتصور زيتون أن الجندي لم يحسن سماعه؛ إذ كانت الريح تدير قاربه وتحجب ألفاظه، فعاد يقول موضحا وبصوت أعلى هذه المرة: «في آخر الشارع زوجان عجوزان يريدان الجلاء.»
فقال الجندي: «ليست تلك مشكلتنا. اذهب إلى شارع سانت تشارلز.»
وعندها انخفض المسدسان.
وسألهما زيتون: «لم لا نستدعي أحدا؟» هل كان الجنديان يقصدان فعلا أن يقطع زيتون الطريق كله بقاربه إلى تقاطع شارعي نابليون وسانت تشارلز، بدلا من أن يستدعي أحدهما وحدة أخرى على جهاز اللاسلكي الذي يحمله؟ وماذا كان الجنود يفعلون في المدينة إن لم يكونوا يساعدون على إجلاء الناس؟
وقال الجندي الآخر: «لا نستطيع استدعاء أحد.»
وتساءل زيتون: «ما أغرب ذلك! لديكم كل هذه التكنولوجيا ولا تستطيعون استدعاء أحد؟»
وهنا بدا أن الجندي خائف، ولم تكن سنه تزيد إلا عدة أعوام عن زخاري، ابن زوجة زيتون. لم يجد أي إجابة، وبدا غير واثق من الخطوة التالية، وأخيرا استدار وانصرف، واستمر الجنود يحدقون في زيتون ممسكين بأسلحتهم.
وانطلق زيتون يجدف في قاربه متجها إلى تقاطع شارعي نابليون وسانت تشارلز، وكتفاه تؤلمانه، وكانت الريح تضاعف من صعوبة العمل، وأصبحت المياه ضحلة أثناء اقترابه من التقاطع، وشاهد خياما ومركبات حربية، وأكثر من عشرة ضباط وجنود بالشرطة، فخرج من قاربه وسار حتى أتى أحدهم، وكان جنديا يقف على الكلأ في المنطقة الوسطى، وهي التي كان سكان نيو أورلينز يسمونها «الأرض المحايدة».
وقال زيتون: «لدي حالة حرجة. لدي رجل معوق يحتاج إلى المساعدة والمعونة الطبية. وهو يحتاجها الآن.»
وقال الرجل: «وهو كذلك. سنتولى أمره.»
وسأله زيتون: «ألا تريد العنوان؟»
وقال الرجل: «طبعا، أعطه لي.» وفتح مفكرة صغيرة في يده .
وأعطاه زيتون العنوان بدقة.
وكتبه الرجل وأعاد المفكرة إلى جيبه.
وسأله زيتون: «إذن ستذهبون إليه؟»
وقال الرجل: «نعم.»
وسأل زيتون: «متى؟»
وأجاب الرجل: «ساعة تقريبا.»
عاد زيتون للزوجين ويليامز وطمأنهما: «لا بأس عليكما، إنهم في الطريق، قالوا ساعة واحدة.» فشكر راعي الكنيسة وزوجته زيتون، وعاد هو إلى منزل كليبورن، فاصطحب ناصرا، وانطلقا للنظر فيما يمكن أن يفعلاه، كانت الساعة قد تخطت الواحدة بقليل.
وعلى مسافة ألف ميل تقريبا، كان أحمد زوج يوكو يقود سيارة كاثي الأوديسية، بينما تستريح كاثي، وكان الأطفال على المقعد الخلفي أثناء انطلاق الجميع بسرعة كبيرة خلال ولاية نيومكسيكو. وكان أحمد قد قضى سبع ساعات وهو يقود السيارة دون توقف، ولو واصل هذه السرعة لوصلوا إلى مدينة فينيكس عصر يوم السبت.
كان أحمد يحث كاثي على الامتناع عن الإصغاء إلى الأنباء في الإذاعة، ولكن حتى المحطات التي تذيع موسيقى الروك والموسيقى الشعبية الريفية كانت تتسرب منها شذرات من المعلومات؛ كان الرئيس بوش يقوم بزيارة نيو أورلينز في ذلك اليوم، وقد نعى لتوه فقدان المنزل الصيفي في «ترينت لوت» على ساحل المسيسيبي، وكان رجال الحرس الوطني المدججون بالسلاح قد دخلوا مركز المؤتمرات لتوهم، وعلى الرغم مما كان يدفعهم إلى أن يتصوروا أن دخولهم سوف يواجه بما يشبه حرب العصابات، فإنهم لم يواجهوا أي مقاومة على الإطلاق، ولم يجدوا إلا أناسا منهكين جوعى يريدون الرحيل من المدينة، واستراحت كاثي لسماع ذلك، قائلة لنفسها إنه ربما بدأ التحكم في أحوال المدينة، وكان أحد المعلقين يقول إن الوجود العسكري «سرعان ما يغدو مهيمنا.»
وأثناء جولات زيتون وناصر، وجدا عربة جيب حربية مهجورة وبداخلها صندوق من الوجبات الجاهزة للأكل، وبعد ذلك بقليل قابلا أسرة من خمسة أفراد فوق معبر علوي، فقدما إليهم بعض الماء وصندوق الوجبات. كانت مصادفة عجيبة، فلم يكن زيتون يحب أن يحمل أي شيء ذا قيمة على الإطلاق، ويرحب بأي فرصة للتخفف مما يعثر عليه.
كانت الساعة تشير إلى الخامسة تقريبا، وقد بدأ الظلام يكتنف السماء ، عندما شرع زيتون في العودة إلى منزل شارع كليبورن.
وكان زيتون واثقا بأن راعي الكنيسة وزوجته قد أنقذا بعد مرور هذا الوقت الطويل، ولكنه أراد التأكد، فقام مع ناصر بتحويل مسار القارب إلى شارع روبرت.
كان ألtين وبيولا لا يزالان بالمنزل، جالسين في المدخل، وحقائبهما جاهزة، والمطر الخفيف يتساقط عليهما. كانا قد قضيا أربع ساعات ينتظران.
وشعر زيتون بالحنق، وبأنه لا حيلة له، وبأنه تعرض للخيانة. كان قد وعد راعي الكنيسة وزوجته بالنجدة، ولكنه لم يف بوعده لأنه وقع ضحية الكذب.
واعتذر للزوجين موضحا أنه حاول طلب الغوث أولا من المستشفى فطرد منها تحت تهديد السلاح، ثم ذهب إلى شارع سانت تشارلز لإخبار الجنود ورجال الإغاثة بما هما فيه من محنة، وعبر راعي الكنيسة عن ثقته بأن العون لا بد قادم، ولكن زيتون لم يكن يريد المجازفة.
قال لهما: «سأدبر شيئا ما.»
وعندما عاد زيتون مع ناصر إلى المنزل في شارع كليبورن، شاهدا قاربا صغيرا له محرك مربوطا في مدخل المنزل الأمامي، ووجدا داخل المنزل تود جامبينو جالسا مع كلب جديد، واتضح أنه استطاع بهذا القارب - الذي وجده طافيا تحت جراج مهدم وفكر في الاستفادة منه - أن يقوم بجولاته الخاصة في المدينة، فينقل الناس من مداخل بيوتهم وسطوحها إلى المعابر العلوية وغيرها من أماكن الإنقاذ. بل إنه وجد هذا الكلب الذي يأكل الآن طعامه سعيدا تحت قدمي تود فوق أحد السطوح وأخذه معه.
ومرة أخرى شعر زيتون بوجود قوة ربانية من لون ما؛ إذ كان راعي الكنيسة وزوجته يريدان العون فورا، وهو الذي عجز عن تقديمه لهما، وها هو ذا تود ومعه المركبة التي يحتاجانها بالضبط وفي اللحظة المناسبة تماما.
ولم يتردد تود، ووافق زيتون على أن يرعى الكلب أثناء غيابه، فانطلق تود، أخذ ألفين وبيولا، حاملا كلا على انفراد إلى داخل القارب، ثم أسرع بهما إلى المحطة عند تقاطع شارعي نابليون وسانت تشارلز.
واستغرقت المهمة عشرين دقيقة كاملة، وسرعان ما عاد تود، فجلس في المدخل يشرب الجعة ويسترخي من جديد في مدخل المنزل ، ويده تربت الفراء المجعد للكلب الذي أنقذه.
وقال مبتسما: «بعض المهام لا بد أن يؤديها المرء بنفسه.»
كان زيتون يعرف أن تود ساكن صالح، لكنه لم يكن يعرف ذلك الجانب في شخصيته، فتحادثا وقتا ما في مدخل المنزل؛ إذ قص عليه تود قصص حالات الإنقاذ التي قام بها بنفسه، وكيف قام بنقل العشرات فعلا، وكيف كان يوصلهم إلى المستشفيات ومحطات الإغاثة، وكيف كان ذلك الأمر يسيرا لوجود القارب ذي المحرك، كانت صورة تود في ذهن زيتون دائما صورة المغرم بالتجوال، المحب للهو واللعب، كان يحب الاستمتاع بوقته، وكان يكره التقيد بالقواعد والمسئوليات، فكان يدخن ويشرب ولا يلتزم بجداول زمنية منتظمة، ولكن ها هو ذا تتوهج عيناه ويتحدث عن نقل الناس إلى بر الأمان، ويحكي كيف يقابل بالتهليل والشكر كلما وصل إلى منزل أو معبر علوي. كان زيتون واثقا بأن مثل هذه الأوقات قادرة على تغيير طبع الإنسان، وكان يسعده أن يشهد حدوث ذلك هنا، ومرور تود أيضا بها، فهو رجل صالح زاد صلاحه.
في تلك الليلة عاد ناصر مع زيتون إلى منزله في شارع دارت، فأخرجا ما بقي من لحم الضأن من الفريزر وشوياه على سقف المنزل، وكل منهما يحكي ما رأى وما سمع، ولكن ناصرا كان مرهقا، وسرعان ما خبت طاقته فزحف داخلا الخيمة، وراح من فوره في نوم عميق.
وعاد لزيتون القلق من جديد، كان لا يزال غاضبا مما حدث لراعي الكنيسة وزوجته، لم يكن يكدره شيء أكثر من نكث شخص لوعده. من كان ذلك الرجل الذي قابله في المحطة القائمة عند تقاطع شارعي نابليون وسانت تشارلز، والذي قال إنه سوف يرسل العون إلى الزوجين المذكورين؟ ولماذا قال إنه سوف يأتي ما دام لا يعتزم المجيء؟ وحاول زيتون أن يكون حسن الظن، فقال في نفسه ربما استدعي الرجل لحالة طارئة أخرى، وربما كان الرجل قد ضل الطريق، ولكن محاولته ذهبت عبثا. لم يجد عذرا كافيا، فالرجل قد نقض عهدا بسيطا. كان قد وعد بالمساعدة ولم يف بوعده.
ولما عجز زيتون عن النوم عاد فدخل المنزل وجلس على الأرض في غرفة نديمة، كانت رائحتها، رائحة بناته، قد خبت وحل محلها المطر وبدايات عفن الرطوبة، كان يفتقد البنات فعلا، وهو لا يذكر أنه افترق عنهن مثل هذه المدة الطويلة أكثر من مرات معدودة، كان الأمر يجري دائما على هذا المنوال؛ كان يشعر في اليوم الأول للفراق شعورا لطيفا بالهدوء والسكينة، ثم يبدأ ببطء إحساسه بالشوق إليهن. كان يشتاق إلى أصواتهن، إلى عيونهن السوداء البراقة، وضجيج أقدامهن الصاعدة والهابطة على الدرج، وصراخهن وغنائهن الدائم.
وفتح أحد ألبومات الصور التي احتفظ بها واستلقى على فراش نديمة، وهو يشم رائحة الفراولة في الشامبو الذي تستخدمه. وجد صورة ترجع إلى أول عام قضاه في البحر، على متن سفينة كان أحمد ربانها، وتعجب من شعره الذي سقط كثير منه، ومن مدى زهوه. كان وزنه آنذاك أقل بما يقرب من 14 كيلوجراما، والبسمة لا تفارق شفتيه، رجل يتذوق متعة الشباب الكاملة، كان أخوه أحمد قد أنقذه وأخذ يفتح أمامه عالما من بعد عالم.
غادر أحمد البيت بعد وفاة والده بعام؛ إذ ذهب إلى تركيا لدراسة الطب، كان ذلك هو المفترض في الأسرة، على الأقل. وعلى الرغم من أن محمودا كان قد منع أبناءه من الحياة في البحر، فلم يكن أحمد يريد غير ذلك، وهكذا ركب الأوتوبيس إلى إسطنبول قائلا لوالدته إن مقصده أن يصبح طبيبا، وانهمك فعلا في دراسة الطب فترة من الزمن، ولكنه سرعان ما ترك الكلية والتحق بأكاديمية الضباط البحريين، وعندما علمت أمه أن أحمد سوف يصبح ربان سفينة، دهشت، ولكنها لم تقف في طريقه، وبعد عامين تخرج أحمد وانطلق يعبر البحر المتوسط والبحر الأسود في جميع الاتجاهات.
ووجد زيتون صورة من صور أحمد، كان لديه من صور أحمد ما يزيد على صوره الشخصية، كان مما يكاد يبعث على الضحك كثرة الصور التي كان أخوه يلتقطها ويحتفظ بها ويوزعها على أفراد الأسرة، كان يوثق كل ميناء وكل سفينة. في هذه الصورة ، كان يشترك مع أفراد الطاقم في شواء شيء ما، حيوان من نوع ما، وحدق زيتون في الصورة، كان الحيوان أشبه بكلاب السباق: «هل هذا محتمل؟» لا! كان زيتون يرجو ألا يكون ذلك كلبا، وكان الكلام المكتوب فوق الصورة يقول: «عيد الفصح 1978». وفي صورة أخرى كان أحمد يقف في منتصف وسط مدينة نيو أورلينز. وحين كان زيتون يشاهد هذه الصورة، وصورا أخرى كثيرة لأحمد وهو يقف أمام هذه المدينة أو ذلك الموقع الأثري، كان دائما يفكر في الناس الذين كان أحمد يطلب منهم التقاط الصور، لا بد أن أحمد قابل ألف شخص في هذه الرحلات، وكان دافعه الأول أن يعثر على من يساعده على تسجيل حقيقة تقول: «أحمد زيتون، ابن مدينة جبلة في سوريا، كان هنا.» هنا في طوكيو. هنا في أمريكا. هنا في الهند.
مدينة نيو أورلينز، الولايات المتحدة الأمريكية، عام 1978.
عيد الفصح اليوناني، ألتامار، سفينة «إم في جليفادا»، عام 1978.
مدينة تسكومي، اليابان، عام 1976.
دبي، عام 1978.
وبينما كان أحمد يشاهد كل ركن من أركان الأرض بسرعة ركنا بعد ركن، كان زيتون ما زال في دياره، في جبلة، ويريد الخروج. كان زيتون يشعر بأن حياته خاوية في هذه الديار، ولم يعد يطيقها، وفي الأيام التي كان يعمل فيها في حانوت أخيه لطفي لبيع مواد البناء، كان يسمع القصص عن مغامرات أحمد المتواصلة، وعن رحلاته إلى الصين، وأستراليا، وجنوب أفريقيا، وهولندا، وكان زيتون يعرف أن أباه لم يكن ليوافق لو كان حيا، ولكنه رحل الآن، ورحل محمد أيضا. لم يكن زيتون يريد أن يتسمر في مكانه في جبلة.
كانت والدته تدرك مشاعره، كانت قد سمعت وقع خطاه في الطابق العلوي وهو يغدو ويروح كالحبيس، وشاهدت الشوق في عينيه عندما كان يحادث أحمد تليفونيا، وهكذا بادرت بنفسها ذات يوم فاتصلت بأحمد وطلبت منه أن يصطحب أخاه الأصغر، وقالت إن الوقت قد حان لعبد الرحمن لكي يغادر جبلة وينطلق، ولو لفترة محدودة، تاركا داره التي أصبح الحزن يغمرها.
واتصل أحمد تليفونيا بأخيه الأصغر وأخبره أنه سوف يبحر بعد أسابيع معدودة، وانعقد لسان زيتون. قبل سماعة التليفون، وقبل أمه وأخواته، وعندما حان الوقت، جمع عدة أشياء في حقيبة ولحق بأحمد في اليونان.
وفي أول رحلة لزيتون، كان مجرد عامل على ظهر السفينة، أصغر رجل فيها، وحياه أعضاء طاقم السفينة الذين ينتمون إلى شتى البلدان - جنوب أفريقيا وتركيا ونيجيريا - ورحبوا به أصدق ترحيب، وكان زيتون يعتقد في قرارة نفسه أن أخاه أحمد يعامله معاملة أقسى من معاملته الآخرين، كيما ينفي أي اشتباه في المحاباة، ولكنه لم يأبه بذلك، فاستغرق في عمله الذي يتضمن الغسيل والطلاء والنقل، كان يؤدي الأعمال التي يعزف الآخرون عن أدائها.
وأبحروا ما بين بيراوس وناخوس ذهابا وإيابا، وكان زيتون مولعا بذلك كله عاشقا له، فأطلق شعر رأسه، وكان يقضي وقت فراغه على ظهر السفينة في التطلع إلى ما حوله ومشاهدة الماء مقبلا على السفينة ومختفيا وراءها. وعلى الرغم من قسوة جدول العمل - أربع ساعات في الخدمة وأربع ساعات للراحة - ليلا ونهارا، فلم يكترث لذلك، ولم يكن في حاجة إلى النوم، أو لم يكن وقت حاجته إلى النوم قد حان بعد.
لم يكن يدرك قبل الآن مدى حاجته الماسة إلى هذا اللون من الحرية، كان يشعر بأن قوته تضاعفت ضعفين، وطوله ازداد ثلاثة أضعاف، وأخيرا عرف زيتون سر أحمد، سر رغبته في أن يصبح بحارا، ولماذا خاطر بالكثير حتى يصبح ربانا، وعندما كانا يتقابلان مصادفة على ظهر السفينة أو الطريق إلى مقر كل منهما، كان زيتون وأحمد يتبادلان نظرات ذات معنى، وبسمات يعروها الخجل. لم يكن زيتون يدرك قبل الآن معنى التحرر؛ كانت الحرية تعني كل شيء له، وكان أحمد يدرك أن أخاه الأصغر لن يعود إلى جبلة في وقت قريب.
كانا يعيشان في البحر، معا أو كلا على حدة، وهما ينتقلان من العشرينيات إلى أوائل الثلاثينيات، وعملا في سفن لنقل البضائع، وسفن للركاب، وسفن تجمع بين البضائع والركاب، كانا ينقلان القمح من ولاية نبراسكا الأمريكية إلى طوكيو، والموز البرازيلي إلى لندن، والحديد الخردة الأمريكي إلى الهند ، والأسمنت الروماني إلى نيجيريا، وعند الرحيل من نيجيريا كان دائما ما يتسلل إلى الباخرة ركاب دون دفع الأجرة، وفي كل مرة يغادران لاجوس كانا يعثران على رجلين أو ثلاثة مختبئين، وكانا دائما يتبعان الترتيبات نفسها، اعمل على ظهر السفينة عملا تسدد به أجرة الرحلة، وعندما نصل إلى الميناء التالي سوف نطلق سراحك وتتمتع بالاستقلال.
كان العمل الذي يحظى بأكبر تقدير هو العمل على متن سفن البضائع؛ إذ كانت هذه السفن تقضي في العادة أسبوعا أو أسبوعين في الميناء، وهو ما كان يتيح للطاقم الوقت الكافي لاستكشاف المنطقة. واستكشف زيتون عشرات المدن، وكان دائما يرسو وجيبه عامر بالنقود ولا يتحمل التزامات لأحد، وكان يستأجر سيارة، وينطلق بها فيلتهم المدن المجاورة للميناء، ويستكشف الساحل، ويزور المساجد الشهيرة، ويقابل نساء يطلبن منه أن يبقى.
ولكنه كان رجلا جادا، وربما أشد جدا مما ينبغي في بعض الأحيان، لم يكن سرا أن البحارة يحبون لعب الورق ويستمتعون بشراب عارض، ولكن زيتون لم يلعب الميسر ولم يذق قطرة من الكحول طول حياته. وهكذا، فعندما تنتهي ورديته كان يعود للعمل؛ كي يساعد كل من يطلب المساعدة، فإذا لم يتوافر أي عمل، يبدأ زملاؤه في طاقم السفينة شرب الخمر، ويأخذ بعضهم نقود البعض بلعب الورق. كان يجد تسرية مختلفة؛ كان يذهب إلى حمام السباحة الصغير على ظهر السفينة، ويربط حبلا حول وسطه، ويربط الطرف الآخر في الحائط، ثم يبدأ السباحة، ثلاث ساعات متواصلة، حتى يقوي ذراعيه وظهره، ويختبر مدى قوته، كان دائما يختبر نفسه؛ حتى يتبين ما يستطيعه جسده.
وفي النهاية، كان زيتون قد قضى عشر سنوات في العمل بحارا، وشاهد وهو يعمل على متن سفينة تدعى «ستار كاستور» الخليج العربي، واليابان، وأستراليا، وبلتيمور، وعلى متن سفينة تدعى «كابيتان إلياس» شاهد هولندا والنرويج. شاهد قطعانا من الحيتان الحدباء، والحيتان الرمادية، وأسراب الدولفين وهي ترشد السفن إلى الموانئ. شاهد الشفق القطبي، والنيازك المنهمرة على الأمواج السوداء التي يتهاوى بعضها فوق بعض، وسماء الليل الصافية حيث تكاد النجوم تبدو لصفائها في متناول الأيدي، كأنها تتدلى من السقف في خيط شص لصيد السمك، عمل فوق متن السفينة «نيتسا»، والسفينة «أندروميدا»، وظل يبحر في السفن حتى عام 1988، العام الذي رست فيه سفينته في هيوستن، فقرر استكشاف الداخل، وكان ذلك ما أتى به إلى باتون روج، وجاءت به باتون روج إلى كاثي، وجاءته كاثي بزخاري، ونديمة، وصفية، وعائشة. •••
أدى زيتون الصلاة على أرضية منزله ثم رقد في فراش نديمة، وأخذ يتساءل في نفسه عن المكان الذي أوت إليه زوجته وبناته هذه الليلة، وما إذا كن وصلن إلى فينيكس أم لا، وحمد الله على سلامتهن، وعلى سلامته، وعلى أن الجميع سوف يلتقون عما قريب.
السبت 3 من سبتمبر
استيقظ زيتون في الصباح مع الشمس، فصلى ثم ذهب يستطلع حال الفريزر، لم يكن قد تبقى فيه الكثير، وما كان مجمدا أصبح يوشك أن ينصهر، فإذا بقي إلى اليوم التالي فسد، وقرر أنه لا بد أن يؤكل ذلك اليوم، فأخرج بعض الهامبورجر للكلاب وقرر شواء الباقي في المساء، وقال في نفسه إنه سيدعو تود وناصرا وأي شخص آخر يعثر عليه، فيطهون كل ما بقي من اللحم ويقيمون ما يشبه الحفل - على كآبته - فوق السطح.
وسار بقاربه عبر الشارع لإطعام الكلاب.
وسأل الكلبين الأولين: «كيف أنتما يا أولاد اليوم؟»
فغمغما والتهما الطعام وجعلا يلعقان ساقيه، وكان يبهجه مدى امتنانهما ومدى دهشتهما كل يوم.
وقال: «عليكما ببعض الإيمان.»
وانتقل على اللوح المتأرجح إلى الكلبين الآخرين، فأصدرا أصوات همهمة أثناء دخوله من النافذة.
وسألهما: «ما الداعي للقلق؟» وأضاف: «إنني آتي كل يوم في الموعد نفسه. لا تقلقا.»
كان أحمد زوج يوكو قد استمر في قيادة السيارة طول الليل، ولم يتوقف إلا مرة واحدة، حتى وصل الجميع أخيرا إلى أريزونا وقت الظهيرة يوم السبت، كان كلاهما قد ناله من الذهول والشد العصبي ما نفى النوم عن عينيه، كما كان ذلك اليوم الأول في منزل يوكو وأحمد حافلا بالتسرية التي حظيت بالترحيب، وسرعان ما أظهر أطفال يوكو وأحمد الخمسة حبهم لأطفال أسرة زيتون، وأحبوا - خصوصا الصبيان منهم - الخالة كاثي، فاستحالت دون أدنى جهد واحدة منهم، وغدوا يعاملونها معاملة الأقران، وانهمك الجميع يلعبون ألعاب الفيديو ويشاهدون التليفزيون، وحاولت كاثي أن تمتنع عن التفكير فيما حدث لمنزلهم، وأين عسى زيتون أن يكون في تلك اللحظة. •••
كان زيتون ما زال يخشى الاقتراب من منزله في شارع دبلن - فالرجال المسلحون لا يزالون على الأرجح بالقرب منه - وهكذا لم يكن لديه هو وناصر خط سير محدد في ذلك النهار، فقررا أن يتحققا بدقة من حال الضاحية؛ حتى يعرفا إن كان أحد الجيران قد رحل، ويريا إن كان أحد يحتاج إلى مساعدة.
ولاحظ زيتون أثناء اتجاههما جنوبا في شارع أوكتافيا أن قوة تجديف الرجلين، وخصوصا بعد توقف المطر والريح، وهبتهما سرعة كبيرة فانطلقا يتخطيان المنازل، فوق السيارات وحول الركام الطافي.
كان زيتون قد قام بأشغال في أكثر من عشرة منازل في هذا الشارع، وكان يعرف أنه سيعود إليها عندما تزاح المياه عنها. وكانت المياه الساكنة تتغلغل إلى عمق أكبر في المنازل يوما بعد يوم، وهو ما كان يقلل من احتمال بقاء ما يمكن إنقاذه فيها.
شاهد ناصر الطائرة العمودية أولا.
كانت الطائرات العمودية في كل مكان، ولكنها لم تكن في العادة تحلق منخفضة إلى هذا الحد، أو تظل تحلق مثل هذه المدة، ونادرا ما كان ذلك يحدث في حي سكني مزدحم مثل هذا الحي. واستطاع زيتون أن يلمح هذه الطائرة من خلال الأشجار وفوق أسطح المنازل قبل أن يشاهد سطح الماء من تحتها، وجدف زيتون وناصر مندفعين إليها لرؤية ما يحدث، وعندما اقتربا شاهدا بقعة دكناء في الماء، تشبه قطعة من الخشب أو الركام، وواصلا التقدم فشعرا بالهواء المندفع من مراوح الطائرة والأمواج تنداح إلى الخارج.
كان الشيء الطافي في الماء يشبه إطار عجلة السيارة، براقا ومنتفخا.
كان جثة شخص. تيقنا من ذلك حين استدارت في الماء فبرز الرأس، كان لرجل متوسط الحجم، يلبس تي شيرت وجينز، ويبدو نصف مغمور، ومقلوبا على وجهه.
ورفع زيتون بصره إلى الطائرة العمودية، هل كانت تحاول الآن إنقاذه؟ وأنعم النظر. كلا. كان في الطائرة رجل يوجه آلة تصوير إلى الجثة، وكرر ذلك عدة دقائق، ثم ارتفعت الطائرة ومالت وانطلقت مبتعدة.
حافظ زيتون وناصر على المسافة التي تفصلهما عن الجثة، كان زيتون يعرف كثيرين من أبناء الحي، فإن كان هذا جارا أو صديقا فإن زيتون لم يكن يريد أن يراه على هذه الحال.
كان كلاهما مضطربا، فانطلقا يجدفان في صمت متجهين إلى المنزل في شارع كليبورن، لم يكن زيتون يتصور قط أن يأتي اليوم الذي يشهد فيه مثل هذا المشهد، جثة طافية في مياه قذرة، على مسافة تقل عن ميل من منزله، ولم يستطع أن يجد مكانا للمشهد في سياق ما يألفه ذهنه، فالصورة تنتمي لزمان آخر، لعالم يختلف اختلافا جذريا عن هذا العالم؛ إذ استدعت لخياله صور الحرب، صور الجثث التي تتعفن في ميادين قتال منسية، وتساءل في نفسه: من كان هذا الرجل؟ هل كان يمكننا إنقاذه؟ لم يستطع زيتون أن يتصور إلا أن الجثة ربما أقبلت من مكان بعيد، وأن الرجل قد جرفته المياه من مكان قريب من البحيرة إلى هذه الضاحية، لم يكن يبدو أن لديه تفسيرا آخر، ولم يكن يريد أن يتخيل إمكان حاجة الرجل إلى المعونة وحرمانه منها.
وبينما كان زيتون يربط القارب في مدخل المنزل في شارع كليبورن سمع رنين التليفون، فالتقطه ووجد أخاه أحمد على الخط.
قال أحمد: «ليتك ترحل!»
وقال زيتون: «أنا بخير، يزداد أماني كل يوم.» ولم يكن يعتزم إخبار أحمد بالجثة التي شاهدها.
وقال أحمد: «أطفالي في قلق عليك.» كان لطفي ابن أحمد وليلى ابنته يشاهدان محطة «سي إن إن» منذ بداية العاصفة، وشاهدا صور الخراب واليأس، ولم يصدقا أن عمهما كان يعيش وسط ذلك كله.
وقال زيتون: «قل لهما ألا يقلقا. وأبلغهما سلامي.»
كان زيتون يشعر بالامتنان لاستمرار قلق أخيه عليه. كان الأشقاء في أسرة زيتون يرتبطون بعلاقة وثيقة، ولكن أحمد كان أشدهم قلقا وقضاء للوقت في جمع العناوين وأرقام التليفونات والصور وإضافة ما يستجد منها. ربما كان السبب إحساسه بانقطاع الرابطة معهم لأنه يعيش في إسبانيا، لكنه كان، على أي حال، يريد أن يعرف مكان وجود أشقائه وما يفعلون، وكان يركز على عبد الرحمن بصفة خاصة، إلى الحد الذي جعله يتصل به منذ سنوات ذات يوم، في الظهيرة في نيو أورلينز، ويقترح عليه اقتراحا بالغ الغرابة.
سأله أحمد: «ماذا تفعل اليوم؟»
كان ذلك يوم السبت، وكان زيتون يتأهب للخروج إلى البحيرة مع كاثي والأطفال.
وقال أحمد: «هل تعرف ركن تقاطع شارع بوربون وسانت بيتر؟»
وقال زيتون إنه يعرفه.
فرد أحمد قائلا: «عندي فكرة.» ثم أوضح له أنه وجد موقعا على الإنترنت يمكنه فيه الاتصال به بالصوت والصورة في ذلك الركن، فإذا ذهب زيتون إليه استطاع أحمد أن يراه في الواقع وأحمد جالس أمام الكمبيوتر في إسبانيا.
وسأله أحمد: «هل تود ذلك؟»
فقال زيتون: «بالتأكيد، ولم لا؟»
وأخذ زيتون الأطفال في شاحنته وسار بها الأميال القليلة التي تفصله عن الحي الفرنسي، وبحث عن ركن تقاطع شارعي بوربون وسانت بيتر، وعندما وصل بحث عن الكاميرا فلم يجدها، لكنه قال في نفسه إن عليه أن يقف برهة هناك على الأقل. بل إنه وقف مع الأطفال في ركن من أركان التقاطع من باب الحيطة. وعندما عاد إلى البيت اتصل بأحمد الذي كان يوشك أن يتواثب فرحا في التليفون.
قال أحمد: «شاهدتك! شاهدتكم جميعا! بجوار محل السجق الساخن!»
وظل يشاهدهم خمس دقائق، والبسمة العريضة على شفتيه طول الوقت، ثم سجل المشهد وأرسله بالإيميل إلى زيتون.
وعندما رأى زيتون المشهد المسجل ضحك واندهش. كان يبدو فيه مع الأربعة الأطفال جميعا، كانت نديمة تحت مصباح الشارع مباشرة، وزخاري يحمل صفية، وزيتون يحمل عائشة. كان أحمد مولعا بالتكنولوجيا ويضمر مشاعر عميقة لأشقائه تدفعه إلى حمايتهم، وكان يرعى - بالمعنى الحقيقي للكلمة - أخاه زيتون طول الوقت.
وعلى السطح ذلك المساء قام زيتون وتود وناصر بشواء ما بقي من اللحم، مشيرين إلى أن هذه كانت أول مرة منذ بداية العاصفة يشهد أي منهم حفلا من أي نوع. كانت محادثاتهم مرتبكة، وفكاهاتهم تكتنفها ظلال سواد، تحدثوا عن الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، وصالة الألعاب المغطاة، ومركز المؤتمرات. كانوا قد سمعوا أنباء فردية من الراديو ومن الآخرين الذين بقوا في المدينة، في الصالة أو المركز، وكانوا جميعا سعداء لأنهم لم يلجئوا لأيهما؛ إذ كانوا يعرفون سوء الاحتماء بأيهما، ولم يكن أحد منهم يود أن يحبس في مثل ذلك القفص.
وتحدثوا عما تئول المدينة إليه بعد انحسار المياه. ستكون الأشجار والقمامة منتشرة في كل مكان، وسوف تبدو الأرض مثل قاع بحيرة جرفت منها المياه، وسوف يتعذر المرور في الطرق أمام السيارات والعجلات، بل أي نوع من أنواع المركبات.
وقال زيتون: «الحصان يحل المشكلة. سنأتي ببعض الخيول. أمر يسير.»
وضحك الجميع.
وعندما زاد الظلام في السماء شاهد زيتون ضوءا برتقالي اللون من خلال الأشجار، على مسافة تقل عن ميل واحد، وسرعان ما انهمك الثلاثة في مشاهدة ازدياد الضوء، وألسنة اللهب تتلوى وتعلو في الفضاء. كان زيتون واثقا بأنها اكتسحت مبنيين أو ثلاثة مبان على الأقل، ثم ركز بصره فأدرك أن الحريق قريب جدا من ...
صاح: «مكتبي!»
كانت في المكتب مقادير كبيرة من الطلاء، مئات الجالونات، ومواد تقليل كثافة الطلاء، والأخشاب، وأشياء كثيرة سامة وقابلة للاشتعال.
وقال: «لا بد أن نذهب.»
وهبط زيتون وتود على جانب المنزل، وركبا قارب تود ذا المحرك، وأسرعا نحو الحريق حتى شاهدا النار وهي تتوهج باللونين الأبيض والبرتقالي بين المباني وفوق قمم الأشجار. وعندما اقتربا منها، أدركا أن الحريق قد التهم عمارة كاملة، كانت الحرائق مشتعلة في خمسة منازل، وألسنة اللهيب تحاول الإمساك بالسادس، لم تكن معهما أدوات لصد الحريق، ولم يكونا يعرفان على الإطلاق ما يمكنهما أن يفعلا لإطفاء جحيم كيميائي.
لم يكن مكتب زيتون قد أصيب بأي أضرار، ولكنه لم يكن يبعد عن الحرائق بأكثر من عشرين قدما، واختبرا قوة الرياح واتجاهها، كانت ليلة ساكنة، ذات رطوبة عالية. كان من المحال التنبؤ بمسار النار، ولكن المؤكد أنه كان يتعذر إيقاف مسارها ، كانت على مقربة منهما محطة مطافئ لا تبعد إلا بمقدار أربعة مربعات سكنية، ولكنها كانت خالية وتغمرها المياه. ولم يكونا يستطيعان رؤية رجال المطافئ في أي مكان، ولما كانت خطوط التليفون مقطوعة، ورقم الطوارئ 911 لا يعمل، فلم تكن لديهما وسيلة لتنبيه أحد، لم يكن في طوقهما إلا المشاهدة.
وجلس زيتون وتود في قاربهما، وحرارة النار تلفحهما في موجات منتظمة، وكانت للنار رائحة كالمسك لاذعة وألسنة اللهب تزدرد المنازل بسرعة عجيبة، وكان بين هذه المنازل قصر فكتوري طالما أبدى زيتون إعجابه به، وبعده بقليل منزل كان زيتون ينظر في شرائه عندما عرض للبيع منذ سنوات معدودة، وقد ابتلعت الحرائق المنزل في بضع دقائق، واختفت الأطلال في المياه الدكناء، فلم يبق منها شيء.
واشتدت الريح من جديد، ولكنها كانت تهب في عكس اتجاه مكتب زيتون، ولو كانت قد هبت مرة واحدة في الاتجاه الآخر لاستسلم مبنى المكتب أيضا. وحمد الله على رحمته به.
وبينما استغرقا في المشاهدة، لمحا عددا محدودا من الناس يشاهدون معهم. كانت وجوها يكسوها اللون البرتقالي ويلفها الصمت. وباستثناء قعقعة النار والأصوات العارضة لانهيار جدار أو أرضية منزل، كان الليل ساكنا. لم تتردد أصوات سرينات سيارات الإسعاف أو الشرطة، ولم يشعر أحد بوجود أي سلطة من أي نوع؛ لا شيء سوى كتلة من البيوت التي تحترق وتغوص في البحر الأسود الذي ازدرد المدينة.
وعندما عاد زيتون وتود إلى المنزل في شارع دارت، كانا صامتين، وظهرت النجوم في السماء، وكان تود يقود القارب كأنما كان ربانا ليخت عظيم. أوصل زيتون إلى منزله، وتبادلا تحية المساء، وعندما صعد زيتون إلى السطح كان ناصر قد نام في الخيمة.
وقف زيتون على سطح المنزل وشاهد النار وهي تعلو وتهبط. الطوفان، ثم الحريق؛ كان من الصعب عدم ذكر الآيات القرآنية التي تحكي طوفان نوح، دليلا على غضب الله. ولكن، على الرغم من الدمار الذي حل بمدينة نيو أورلينز، فإن لونا من النظام كان لا يزال يسود الليل، كان زيتون سالما فوق سطح منزله، والمدينة صامتة ساكنة، والنجوم في مواقعها. •••
كان ذات يوم على ظهر ناقلة بترول تبحر من خلال جزر الفلبين، ربما منذ عشرين عاما، كان الوقت قد تأخر؛ إذ تجاوز منتصف الليل، وكان زيتون يصاحب الربان في برج القيادة.
وكان الربان يونانيا في منتصف العمر، وكان يحب مناقشة موضوعات مثيرة حتى يظل يقظا منتبها، كان يعرف أن زيتون مسلم، وأنه رجل سديد التفكير، فقرر الربان أن يبدأ مناقشة حول وجود الله مستهلا إياها بالتعبير عن اقتناعه التام بعدم وجود الله، أو بعدم وجود إله في السماء يرقب دنيا البشر.
كان زيتون في تلك اللحظة قد قضى مع الربان ساعة في برج القيادة يتابع إرشاده للسفينة خلال الجزر الكثيرة؛ بحيث يتجنب الرفارف الصخرية والحواجز الرملية العالية تحت سطح الماء، وكذلك السفن الأخرى وغير ذلك من الأخطار الخفية، وكانت الفلبين التي تتكون من أكثر من سبع آلاف جزيرة وليس بها سوى خمسمائة منار بحري، مشهورة بكثرة الحوادث البحرية.
وسأل زيتون الربان: «ماذا يحدث لو أنك هبطت معي تاركا ظهر السفينة، ثم ذهبنا إلى غرف نومنا ونمنا؟»
ونظر إليه الربان نظرة استفهام، وأجاب قائلا إن السفينة لا بد وبكل تأكيد أن تصطدم بشيء، أو تجنح أو ترتطم بدبر مرجاني. وعلى أي حال فالنتيجة كارثة.
فقال زيتون: «إذن من دون ربان لا تستطيع السفينة الإبحار.»
وقال الربان: «نعم. ما مغزى سؤالك؟»
وابتسم زيتون، وقال: «انظر فوقك، انظر إلى النجوم والقمر. كيف تحتفظ النجوم بمواقعها في السماء؟ وكيف يدور القمر حول الأرض، والأرض حول الشمس؟ من الذي يرشدها؟»
وابتسم الربان لزيتون؛ إذ يشعر بأنه أوقع في فخ.
وأكمل زيتون عبارته قائلا: «من دون أن يرشدنا أحد، ألا تسقط النجوم والقمر على الأرض؟ ألا تطغى المحيطات على اليابسة؟ كل مركبة وكل ناقلة للبشر تحتاج إلى قائد. صحيح؟»
كان الربان مأخوذا بجمال الاستعارة، فاكتفى بالصمت تعبيرا عن استسلامه. •••
وعلى سقف منزله، زحف زيتون داخلا خيمته، محاولا ألا يوقظ ناصرا، أدار ظهره للحريق ونام نوما متقطعا، وهو يفكر في الحريق وفي الطوفان وفي قدرة الله.
الأحد 4 من سبتمبر
نهض زيتون مبكرا في الصباح، فهبط إلى قاربه، وعبر به الشارع لإطعام الكلاب، وتسلق الشجرة من النافذة وأطعمها ما بقي من اللحم.
سألها: «هل تحبين الشواء؟»
كانت الكلاب تحبه.
وقال: «أراكم في الغد.» وهو يذكر نفسه بإحضار بعض الطعام من تود.
عاد فاصطحب ناصرا، ونقله إلى المنزل في شارع كليبورن، ثم انطلق وحده. لم يكن واثقا أين يذهب اليوم، وهكذا اختار طريقا جديدا، يقضي بعودته أولا إلى شارع دارت، ثم الاتجاه شرقا إلى إيرهارت، قاصدا طريق جيفرسون دافيز.
كان هذا النهار يزيد هدوءه عن اليوم المنصرم، لم تكن في السماء طائرات عمودية، ولا زوارق حربية في الماء، وقل من رآهم يخوضون في الماء الذي اكتسى الآن لونا رماديا ضاربا إلى الخضرة، وعلى صفحته في كل مكان بقع من الزيت، وكانت رائحته تشي بقذارة تزداد يوما بعد يوم، بمزيج تعس من السمك والطين والمواد الكيميائية.
وعندما اقترب من مفترق طرق إيرهارت، وجيفرسون دافيز، وواشنطن، رأى ارتفاع الأرض قليلا حتى إنه شاهد الكلأ الجاف، مساحة شاسعة عند التقاطع يمتزج فيها اللون الأخضر باللون البني في الوسط، وفوق الكلأ رأى مشهدا مدهشا، خصوصا في إطار ما كان يتحدث عنه مع ضيوفه في الليلة السابقة، رأى ثلاثة أحصنة تمضغ الطعام في سعادة، كانت تتمتع بالحرية، فلم يكن يركبها أحد، ولم تكن عليها سروج.
كان المشهد ينتمي لدنيا الشعر وعالم الوهم في آن واحد، فاقترب في قاربه منها، ورفع حصان من بينها رأسه حين أبصر زيتون. كان حيوانا جميلا، أبيض اللون وذا نظافة كاملة. ولما أدرك أن زيتون لا يمثل خطرا عاد الحصان إلى وجبته، واستمر الآخران يأكلان، وكان أحدهما أسود والآخر رماديا، أما كيف أتت الخيل إلى هنا فكان يتجاوز قدرة مخيلة زيتون، ولكنها كانت هانئة، فيما يبدو، برضا سماوي، تستمتع بحريتها.
وظل زيتون يرقبها بضع دقائق ثم استأنف رحلته.
وسار زيتون بقاربه إلى شارع جيفرسون دافيز، وعندما وصل إلى الجسر على شارع أ-10 حمل القارب حتى تخطاه ثم استأنف التجديف، حتى وصل إلى القسم السكني في الطريق. وبالقرب من ناصية شارع بانكس، سمع صوت امرأة. «أنت يا من هناك؟»
رفع بصره فشاهد امرأة بشرفة الطابق الثاني بأحد المنازل، فأبطأ سيره واتجه نحوها.
وسألته: «هل تسمح بتوصيلي؟»
كانت المرأة ترتدي بلوزة زرقاء براقة، وأخبرها زيتون أنه يسعده مساعدتها، ثم وجه القارب إلى درج منزلها، وعندما نزلت من الشرفة، لاحظ زيتون قصر إزارها وحذاءها ذا الكعب العالي، والألوان الصارخة على وجهها، وحقيبتها الصغيرة المتلألئة، وأخيرا أدرك ما كان يمكن أن يراه الجميع بوضوح، كانت مومسا. لم يكن واثقا من صحة إقدامه على التجول في قارب تركبه مومس، ولكنه لم يجد من الوقت ما يسمح له برفض توصيلها الآن.
كانت توشك أن تركب القارب حين أوقفها زيتون.
سألها: «هل يمكنك خلع حذائك؟»
كان يخشى أن يخرق سن الكعب العالي هيكل القارب المصنوع من الألومنيوم الرقيق، وأطاعت رجاءه قائلة إنها تريد الذهاب إلى شارع قنال، فهل يسمح بتوصيلها إليه؟ وقال زيتون إنه لا مانع لديه.
جلست قبالته واضعة يديها على جانب القارب، وكان زيتون يشعر بأنه مثل سائق الجندول فجعل يجدف بانتظام دون أن يتكلم. وتساءل إن كانت تتوافر، ولما تمض على العاصفة سوى أيام قليلة، سوق تقدم فيها «خدماتها»، هل كان يمكنها أن تعمل في المنزل الذي وجدها فيه؟
وسألها: «إلى أين أنت ذاهبة؟» إذ لم يكن يستطيع أن يقمع فضوله.
وقالت: «إلى العمل.»
وعند تقاطع شارع جيفرسون دافيز وشارع قنال أشارت إلى مبنى الكنيسة المعمدانية المتحدة الأولى.
وقالت: «أنزلني هنا.»
فجدف في القارب حتى وصل إلى المبنى الذي يكسوه الآجر الأحمر، حيث تلتقي المياه بالدرجات المرتفعة في مدخل الكنيسة، وهناك نهضت وغادرت القارب.
قالت: «شكرا يا حبيبي!»
وأومأ برأسه واستأنف تجديفه مبتعدا.
ووصل زيتون مرة أخرى إلى المعبر العلوي عند تقاطع شارع كليبورن وطريق أ-10، وكان يستطيع حتى على مبعدة منه أن يدرك أن الأشخاص الذين رآهم من قبل ينتظرون الإنقاذ منذ أيام قليلة قد نقلوا من ذلك المكان. كانت السيارة لا تزال في مكانها، مثل أكوام القمامة والنفايات البشرية، وعندما زاد اقتراب القارب، لفت انتباهه شيء؛ بقعة من الفراء. ولم تمض لحظة حتى اقترب إلى الحد الذي أتاح له أن يدرك أنه كان كلبا راقدا على جنبه، وتذكر أنه عندما كان هنا آخر مرة، كان في ذلك المكان نحو ستة كلاب صغيرة، معظمها جراء، تحتمي بظل السيارات. وعندما لمس قاربه المعبر العلوي استطاع أن يرى أن عدد الحيوانات يبلغ عشرة أو أكثر، وكانت هي التي رآها من قبل مع عدد آخر غير كبير، في أوضاع شتى فوق الطريق. فأرسى قاربه على المعبر العلوي وصعد على الرصيف، وعقد المشهد لسانه. كانت الكلاب ميتة، كانت قد قتلت، برصاصة في رأس كل منها، وكان بعضها قد أطلقت عليه النار عدة مرات، على الرأس والجسم والأرجل.
وأسرع في تجديفه عائدا إلى منزل شارع كليبورن، وهو مضطرب، واتصل بكاثي في التليفون. كان يريد أن يسمع صوتها.
قال: «رأيت شيئا من أفظع ما يمكن.» وقص عليها ما حدث للكلاب. لم يكن يستطيع أن يفهم ذلك.
وقالت: «آسفة أشد الأسف.» - «لا أعرف من يمكنه أن يفعل ذلك.» - «ولا أنا يا حبيبي.» - «ولماذا يقتلهم جميعا؟»
وحاولا أن يفهما منطق ما حدث، فحتى لو كانوا يساعدون الكلاب على الموت راحة لها من العذاب، لم يكن ذلك مقبولا. كانت في المدينة قوارب بالغة الكثرة، ولم يكن نقلها وإطلاقها في أي مكان بعيد يستغرق زمنا طويلا، ولكن ربما كان شيء ما قد تغير دونما أمل في تصحيحه. أما أن يعتبر هذا الحادث اختيارا عاقلا أو حتى اختيارا رحيما؛ فإن ذلك معناه أن كل صورة من صور العقل قد غادرت هذا المكان.
وسألها: «كيف حال الأطفال؟»
قالت: «بخير. يفتقدونك.»
وسألها: «هل تدخلين الأطفال المدرسة غدا؟»
قالت: «سأحاول.»
حاول أن يفهم، لكنه كان محبطا، كان لا بد للأطفال من المدرسة، لكنه لم يكن في حالة نفسية تسمح بالمناقشة.
وتحدثا عما كان يعتزم أن يفعله عصر ذلك اليوم، كان دائما يرى في كل يوم أكثر مما ينبغي وأقل مما ينبغي في آن واحد. كان عدد الأشخاص الباقين في المدينة أقل، حتى في وسط البلد، ولكن انظر إلى الخيول، والمومس، والكلاب! كانت العلامات المنذرة بالكوارث تزداد، ويزداد معها بروز عالم الوهم، وقال لها إنه ربما استطاع أن يستجم اليوم، ويتأمل ما حدث كله.
وقالت له: «بل عليك الاستجمام.» كان كل وقت يقضيه في المنزل يزيد من اطمئنانها على سلامته، فأضافت: «امكث في المنزل اليوم.»
وقرر فعلا أن يمكث في المنزل.
وحاول ذلك، على الأقل. فاستلقى على فراش نديمة، محاولا الاسترخاء، لكنه لم يكن يستطيع التوقف عن التفكير في الكلاب. من ذا الذي يمكنه أن يطلق النار على كلب؟ كل هذه الحيوانات التي تحتاج إلينا وتثق بنا. وحاول كعادته التماس الأعذار لمن فعل ذلك، لكنهم إن كانوا استطاعوا الوصول إلى الكلاب بالمسدسات والطلقات، أفلم يكونوا بالسهولة نفسها قادرين على إطعامها؟!
غادر فراشه وبحث عن القرآن. كان يفكر في سورة «الحاقة». أخذ المصحف من فوق رف نديمة ووجد الصفحة، وكانت آياتها مثلما كان يذكرها:
الحاقة * ما الحاقة * وما أدراك ما الحاقة * كذبت ثمود وعاد بالقارعة * فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية * وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية * وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية * إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية (الحاقة: 1-12).
وزحف زيتون إلى السطح من خلال النافذة، كانت السماء ملبدة بالغيوم والرياح باردة، جلس وجعل ينظر إلى المدينة على البعد.
وخطر له خاطر مقلق، وهو ألا يكون قاتلو الكلاب من رجال الشرطة أو الجيش على الإطلاق. وقال زيتون في نفسه ربما كانت كاثي محقة، وكانت في المدينة عصابات مسلحة تقتل ما تشاء أن تقتله.
ونظر فيما يملكه شخصيا من إمكانات الدفاع عن نفسه؛ إذ ماذا عساه أن يفعل لو جاء الرجال هنا إليه ؟ لم يكن قد شهد حوادث سطو في هذا الحي حتى الآن. ولكن فلنفترض أنهم جاءوا إلى هنا؟
وعندما اشتدت ظلمة الليل، تمنى زيتون لو لم يكن وحيدا. وخطر له أن يعود إلى المنزل الآخر ليحدث تود وناصرا عما رآه.
ولكنه لم يذهب، بل ظل جالسا على سطح المنزل، محاولا إقصاء التفكير في الكلاب على المعبر العلوي، ربما كان به ضعف من هذه الزاوية فلقد كان دائما حنونا على الحيوانات، وكان لديه في طفولته عدد كبير منها، فلقد اقتنص السحالي والسرطانات البحرية، بل آوى حمارا شريدا في زقاق خلفي عدة أيام، وكان يعتزم امتلاكه ورعايته. وقد وبخه والده على ذلك، وعلى مشروع تربية الحمام الذي كان يشارك أخاه أحمد القيام به، والواقع أن ذلك كان من بنات أفكار أحمد، أحد المشروعات التي أغرى أخاه الأصغر بتنفيذها.
قال له أحمد ذات يوم: «تريد أن ترى شيئا؟» كان أحمد في السادسة عشرة، وكان عبد الرحمن يتبعه أينما ذهب.
وبعد أن جعل أحمد أخاه عبد الرحمن يقسم على كتمان السر، اصطحبه أحمد إلى السطح وأراه قفصا صنعه من الأخشاب المهملة والشباك السلكية، وكان في داخله عش من القش وورق الصحف، وفي داخل العش طائر، قال عبد الرحمن في نفسه إنه ما بين الحمامة واليمامة، وكان أحمد يعتزم صنع عشرات مثل هذا القفص ووضعها على السطح، وأن يطعم الحمام ويرعاه، ويدربه على نقل الرسائل. وسأل أحمد أخاه عبد الرحمن إن كان يحب مساعدته. وكان عبد الرحمن يحب ذلك حقا فاتفقا على رعاية الطيور معا، وكان عبد الرحمن، باعتباره الأصغر، مكلفا بتنظيف الأقفاص إذا دعت الضرورة، وأحمد باعتباره الأكبر والأكثر خبرة بهذه الأمور، مكلفا بالعثور على طيور جديدة، وإطعام الطيور الموجودة، وتدريبها عندما يحين الوقت.
وهكذا كانا يقضيان هناك ساعات طويلة، يراقبان الطيور تأتي وتذهب، ويقومان بإطعامها من راحة اليد، مستمتعين بالألفة التي تتيح للطيور أن تحط على أذرعهما وأكتافهما.
وسرعان ما أصبح لديهما ثلاثون طائرا أو أكثر تعيش فوق سطح منزلهما ، وبنى أحمد وعبد الرحمن مساكن أخرى لها، حتى غدا لديهما مجمع لم يكن يختلف عن أبراج الحمام المبنية من الحجر واللبن في الحي الذي يقيمان فيه، بيوت يتكوم بعضها فوق بعض، وتعلو من المحيط، وتتقاطع مثل الفسيفساء البسيطة، وتمتد داخل اليابسة.
وكان كل شيء يسير على ما يرام حتى اكتشف محمود والدهما، تلك الهواية، وكان يرى أن الاحتفاظ بالطيور مضيعة فظيعة وغير صحية للوقت، وكان محمود منذ وفاة ابنه محمد، نافد الصبر، ضيق الصدر، فكان الأطفال ينشدون التسرية خارج المنزل الذى تكتنفه الأحزان، كان الوالد محمود يصر على أن هذه الهواية كانت تشغلهما عن واجباتهما المدرسية، وإذا ضحى هذان الاثنان بتعليمهما في سبيل الحمام فلن يبقى له سوى الحمام وولدين أميين.
أمرهما بإطلاق الحمام وهدم الأقفاص، فاكتأب الغلامان، ودافعا عن قضيتهما أمام والدتهما، فأحالتهما إلى زوجها الذي أصر على موقفه، ورفض عبد الرحمن وأحمد تنفيذ ذلك الأمر بأيديهما، وذات يوم عندما كان الغلامان ذاهبين إلى المدرسة، قال محمود إنه سيقوم بذلك أثناء غيابهما.
وعندما عاد الغلامان في عصر ذلك اليوم هرعا إلى السطح مباشرة ليريا ما فعل، فوجدا الطيور في أماكنها والأقفاص لم يمسسها سوء. أدهشهما ذلك، فهبطا مسرعين واتجها إلى المطبخ حيث وجدا أمهما منفرجة الأسارير، واتضح أن محمودا اتجه إلى السطح، فأوت الطيور إليه مرحبة ووقفت على كتفيه وذراعيه، وسحره ما حدث إلى الحد الذي منعه من طردها، وهكذا سمح للطيور بالبقاء.
وتوفي محمود بعد بضع سنوات، كان السبب مرض القلب، ولكن جبلة كانت تقول إنه الكرب والأسى العميق؛ لم يستطع الوالد قط أن يقهر حزنه على ابنه الذهبي، فخر الأسرة وسوريا جمعاء، محمد.
وافترض زيتون أن ناصرا سيقيم في المنزل الآخر، وإذا أراد الحضور إلى هنا استطاع ذلك، فإن تود لديه زورق، وهكذا استقر زيتون في الخيمة ونام وحده.
الإثنين 5 من سبتمبر
استيقظ زيتون مبكرا في الصباح، فصلى الصبح، وانطلق يجدف في قاربه حتى عبر الشارع لإطعام الكلاب. كان قد حصل على بعض طعام الكلاب من تود .
قال للكلبين: «نفد اللحم يا أصدقاء. لم تعد عندي لحوم!»
ولم يبد أنهما اكترثا، فالتهما ما قدمه لهما، وكان يبدو أنهما الآن بخير ولم يعودا يكابدان الصدمة التي اعترتهما منذ بضعة أيام.
وقال: «رأيتما؟ آتيكما كل يوم. آتي دائما.»
ثم هبط من السطح وانطلق بالقارب.
واتجه إلى منزل شارع كليبورن فوجد ناصرا وتود جالسين في مدخل المنزل يتناولان طعام الإفطار، فدخل المنزل واتصل بكاثي.
قالت كاثي: «أفراد الشرطة ينتحرون!»
كان شرطيان مختلفان قد انهارا أمام العاصفة وما نجم عنها فانتحرا؛ إذ عثر على الجاويش بول أكاردو، أحد كبار المتحدثين باسم جهاز الشرطة قتيلا في سيارة الشرطة في بلدة لولينج القريبة، بعد أن انتحر. أما الشرطي لورنس سيليستين فقد انتحر يوم الجمعة أمام شرطي آخر.
وشعر زيتون بألم عميق من جراء ذلك، فقد كانت علاقته طيبة على الدوام مع شرطة المدينة، كان يعرف وجه الجاويش أكاردو خير المعرفة؛ إذ كان كثير الظهور في التليفزيون وكان يوحي بالتعقل والهدوء.
وذكرت كاثي العصابات الجوالة، والمواد الكيميائية السامة، والأمراض التي تكتشف وتنتشر. كانت تحاول من جديد إقناع زوجها بالرحيل.
قال لها: «سأتصل بك فيما بعد.» •••
واتصل روب، رفيق والت، بكاثي للاطمئنان على أسرة زيتون، ليعرف أين تقيم، وإن كانت تحتاج إلى مساعدة، وعندما قالت له إن زيتون ما زال في نيو أورلينز، لم يصدق روب ما يسمع.
سألها: «ماذا يفعل هناك؟»
فقالت كاثي: «لديه زورقه الصغير، ويتجول به في المدينة.» وحاولت كاثي إبداء عدم الاكتراث.
فقال روب: «لا بد أن يخرج منها.»
وقالت كاثي: «أنا أعرف. ذلك ما أقوله يوميا له.»
وفي غضون حديثه ذكر روب أنه ورفيقه والت قد تركا قطتهما عندما فرا من العاصفة. كانا قد حاولا العثور عليها قبل المغادرة ولكنها لم تكن قطة منزلية، بل تهوى التجول خارج المنزل، ولم تأت إلى المنزل أو تقترب منه آنذاك. وقال إنه يأمل أن يبحث زيتون عن أي أثر لها إذا وجد نفسه في الحي الذي يقيمان فيه، وإن لديه في الجراج مولدا كهربائيا، ويرحب باستخدام زيتون له إذا احتاج إليه واستطاع أن يصل إلى ذلك المنزل.
واتصلت كاثي بمنزل شارع كليبورن، وكان زيتون لا يزال موجودا، يوشك أن ينصرف، فأخبرته بما يرجوه روب من اطمئنان على منزله. كان المنزل يقع على مسافة ثلاثة أميال على الأقل، ولا بد للوصول إليه من نقل القارب إلى اليابسة في الطريق الرئيس، ولكن زيتون أسعده أن يكلف بمهمة محددة. وعندما ذكرت كاثي إمكان استخدام مولد الكهرباء نبذ زيتون الفكرة؛ إذ كان يفضل ألا يحمل أي منقولات على الإطلاق في تجواله، فإلى جانب تشككه في إمكان نقل المولد إلى القارب، كان يحرص على ألا يحمل فيه أي شيء له قيمة؛ إذ كان يعرف أن الشرطة تبحث عمن يقومون بالسلب والنهب.
وانطلق مع ناصر إلى منزل والت وروب. كان النهار دافئا، والسحاب أبيض، فقررا المرور على منزل ناصر في طريقهما للاطمئنان عليه، فسلكا شارع فونتابلو إلى شارع نابليون، وكان منزل ناصر على ناصية شارعي نابليون وجالفيز، وكان يريد أن يرى إن كان يمكنه إنقاذ أي شيء.
وعندما وصلا إلى هناك، وجدا أن الماء قد وصل إلى حواف السقف، ولم يجدا سبيلا لدخول المنزل، ومن المستبعد أن يكون فيه ما يستحق الإنقاذ. وكان ناصر قد استعد لهذا المشهد، وكان مثلما توقع تماما.
قال: «هيا بنا.»
وسارا في طريق جيفرسون دافيز إلى منزل والت وروب. كان ارتفاع المياه أقل كثيرا، ثماني عشرة بوصة وحسب. فخرج زيتون من القارب وسار إلى الباب الأمامي، واتضح له أن المنزل بخير، لكنه لم يجد أثرا للقطة، وخطر له إمكان القفز فوق السور للوصول إلى الفناء الخلفي، ولكن هذا النوع من السلوك المريب هو الذي يبحث رجال الشرطة والجيران عنه.
وأدارا وجهة القارب إلى اليسار، وفي طريق عودتهما إلى المنزل مرا بمكتب البريد عند تقاطع شارعي جيفرسون دافيز ولافيت، وكانت تلك البقعة مكان إنقاذ الأفراد بالطائرات العمودية. لم يشاهدا أي طائرات عمودية ولكن عمال الإنقاذ يتجمهرون في ساحة انتظار السيارات.
وسأل زيتون ناصرا: «هل تريد الرحيل؟»
فقال ناصر: «ليس اليوم.» •••
وفي ذلك المساء أدي زيتون وناصر الصلاة جماعة على سطح المنزل في شارع دارت، وتناولا الهمبرجر المشوي، كانت الرطوبة عالية، والهدوء سائدا في تلك الليلة، لا يقطعه إلا صوت عارض لزجاج ينكسر، أو زمجرة طائرة عمودية تطير قريبا من سطح الأرض، ولكن المدينة كانت فيما يبدو وصلت إلى نوع من التوازن الجديد بشكل عام. وأوى زيتون إلى الرقاد وهو يشعر كم يفتقد كاثي والأطفال، ويتساءل في نفسه إن كان الوقت قد حان للرحيل.
الثلاثاء 6 من سبتمبر
وفي الصباح، وبعد الصلاة، ذهب زيتون لإطعام الكلاب عبر الشارع، من طعام الكلاب الذي أعطاه تود إياه، وكان يطعم منه الحيوان المدلل الذي أنقذه، وعندما عاد إلى المنزل لتوصيل ناصر، لاحظ أن ناصرا كان يحمل حقيبة المعدات الرياضية السوداء الخاصة به.
وقال زيتون مومئا إليها: «تأهبت للرحيل؟»
وقال ناصر إنه استعد، كان يتأهب للجلاء عن المدينة، وشعر زيتون بالحزن لفراقه، وإن أسعده أن يعرف أن صديقه ستكتب له السلامة، بل ما هو أفضل، أي ألا يضطر زيتون بعد الآن إلى مشاركة أحد له في الخيمة، وركب ناصر القارب وانطلقا.
واتجها صوب ساحة انتظار السيارات عند مكتب البريد. كانا قد مرا بها مرات عديدة وكان زيتون يسأل ناصرا في كل مرة إن كان مستعدا للرحيل، ولكنه لم يكن مستعدا حتى الآن.
وقال زيتون: «سوف تركب هذه.» مشيرا إلى طائرة عمودية برتقالية اللون جاثمة فوق الأرض بعيدة عنهما.
وازداد اقترابهما فأدركا ما بدا لهما غريبا في تلك الطائرة؛ كانت جاثمة على جنبها.
وقال ناصر: «غير معقول!»
كانت مروحتها مكسورة، والكلأ أسود اللون حولها.
وقال زيتون في رهبة: «لقد تحطمت!»
وكرر ناصر الكلمات همسا: «لقد تحطمت!»
وزادا اقترابهما منها. لم يكن بقربها أحد، ولا أثر لأي إصابة بشرية، أو دخان أو فريق إنقاذ. لا بد أنها سقطت فتحطمت في اليوم السابق، ولم يبق منها سوى كومة من الفولاذ البرتقالي اللون. لن يرحل ناصر بالطائرة هذا اليوم.
وعادا إلى منزل شارع كليبورن في ذهول، واتصل زيتون بكاثي . لم يكن يستطيع أن يقرر إن كان ينبغي أن يخبرها بأمر الطائرة العمودية، كان واثقا بأن الخبر سوف يزعجها فقرر تحاشيه. «هل نجحت في إدخال الأطفال إحدى المدارس؟»
وقالت كاثي إنها تحاول وإن لم يكن ذلك يسيرا.
وزفر زيتون بصوت مرتفع.
فقالت كاثي: «إنك مثل من فقد جمله فخرج يبحث عن الحبل!» وكان ذلك من تعبيراته المفضلة، وكانت تتلذذ باستخدامه ضده. كان دائما يقوله حين يشعر بأن كاثي تركز على التفاصيل غير المهمة وتتجاهل لب المشكلة.
لم يبد أن التعبير أضحكه.
فقالت: «لا تحزن يا حبيبي!»
لم تكن المدرسة الهم الأول الذي يشغل بال كاثي، كانت قد صممت طيلة البارحة وصباح هذا اليوم، على إقناع زوجها بمغادرة المدينة. كان العمدة ناجين قد أمر بإجلاء جميع من بقي في المدينة بالقوة.
وكررت ذلك قائلة: «الإخلاء قسرا.»
كان المسئولون قلقين خشية انتشار بعض الأمراض التي تنقلها الأميبا كولاي، وحمى التيفود، والكوليرا، والدوسنطاريا. فالأحوال غير الصحية خطر على صحة كل من في المنطقة.
وقال: «أنا لا أشرب المياه.»
فقالت: «والنفايات السامة؟ تعرف الأوساخ المدفونة تحت الأرض هناك.» وذكرته بأن بعض مناطق المدينة مبنية فوق أنواع القمامة التي تحتوي على الزرنيخ، والرصاص، والزئبق، والباريوم وغيرها من العناصر المسرطنة. «ما تكون عليه الحال لو أن التربة نضحت بهذه العناصر؟»
ولم يعرف زيتون ما يقول ردا على ذلك.
لكنه قال: «سأكون حريصا.»
وأما الذي لم يقله فهو أنه كان يفكر في الرحيل. كان كل شيء يزداد صعوبة، وكانت المهام التي يستطيع القيام بها تقل عما سبق؛ إذ تناقص عدد الباقين في المدينة، وتناقص إلى درجة أكبر من عدد الذين يحتاجون إلى المساعدة، لم تكن أمامه إلا عقاراته ورعايتها، إلى جانب الكلاب بطبيعة الحال. من تراه سيطعم الكلاب إن لم يطعمها بنفسه؟ وأما الآن، فقد أخبرها أنه بخير وأنه سيكون حريصا، وأنه يحبها وسوف يتصل بها في غضون ساعات معدودة.
وانطلق وحده بعض الوقت. وبعد قليل، عند تقاطع شارعي قنال وسكوط، صادف زورقا صغيرا. كانت سفينة عسكرية على متنها ثلاثة رجال: جندي، ورجل يحمل آلة التصوير بالفيديو، وآخر يحمل ميكروفونا ومذكرة، وأشاروا لزيتون بالتوقف، وقال أحدهم لزيتون إنه صحفي.
وسأله الصحفي: «ماذا تفعل؟»
قال زيتون: «أطمئن على منازل الأصدقاء وحسب، محاولا المساعدة.»
فسأله الصحفي: «ومن تعمل معه؟»
فقال زيتون: «أي أحد. أعمل مع أي أحد.»
وعندما جدف بالقارب عائدا إلى كليبورن، برق خاطر في ذهن زيتون: أفلا يحتمل أن يشاهده أشقاؤه في التليفزيون؟ لربما شاهدوا ما يفعله، وأدركوا أنه يفعل الخير بالبقاء في المدينة التي اتخذها وطنا. كان أفراد أسرة زيتون يعتزون بأنفسهم، وكان التنافس الكبير بين الأشقاء دافعا لهم على تحقيق شتى المنجزات؛ إذ كان كل منهم يقيس نفسه بمعيار ما حققه محمد. لم يحقق أحد منهم قط مثل ما حققه، ولا وصلت منجزات أحد منهم إلى مستوى إنجازه، ولكن زيتون كان يقول في نفسه من جديد إنه ربما كانت هذه رسالته، وربما انتظر الله فوضعه هنا وقضت مشيئته أن يبلوه الآن على هذا النحو. وهكذا كان يأمل، على حمق هذا الأمل فيما يبدو، أن يشاهده أشقاؤه على هذه الحال، على صفحة الماء، بحارا مرة أخرى، يفعل ما ينفع الناس، في سبيل الله تعالى.
وعندما عاد زيتون إلى المنزل رقم 5010 شارع كليبورن، شاهد زورقا بمحرك، يجمع بين اللونين الأزرق والأبيض، مربوطا في المدخل.
وعندما دخل المنزل وجد فيه رجلا، رجلا لم يسبق أن شاهده في حياته.
وسأله زيتون: «من أنت؟»
فسأله الرجل: «بل من تكون أنت؟»
فقال زيتون: «هذا منزلي.»
واعتذر الرجل، وعرف زيتون بنفسه، قال إن اسمه «روني»، وإنه مر بالمنزل ذات يوم باحثا عن منزل قد يكون فيه تليفون يعمل، وشاهد صندوق التليفون فوق مستوى سطح الماء فدخل المنزل، ومنذ ذلك اليوم وهو يأتي بانتظام إلى المنزل للاتصال تليفونيا بأخيه الذي يعمل قائدا لطائرة عمودية. وكان روني أبيض البشرة، في نحو الخامسة والثلاثين، وطوله 180سم ووزنه 90كجم. وقال لزيتون إنه يعمل في شركة خاصة لتشذيب الأشجار.
ولم يجد زيتون سببا وجيها يدفعه إلى طلب الرحيل من روني، والواقع أن زيتون كان سعيدا برؤية أي فرد في قيد الحياة وفي خير حال في المدينة، فترك روني في المنزل، وصعد إلى الطابق الثاني ليرى إن كانت بالمنزل مياه جارية، فوجد ناصرا في الطابق الثاني.
وسأله زيتون: «هل رأيت روني هذا؟»
وقال ناصر إنه قابله ووجده لطيفا، وأحس الاثنان أن للجماعة قوة، وأن الرجل إذا كان يريد استخدام التليفون من وقت لآخر، فمن كانا حتى يمنعاه من الاتصال بالعالم الخارجي؟
وعلى نحو ما بدا من المحال، كانت في الحمام مياه جارية. كان ذلك بمثابة معجزة، ولم يكن زيتون قد خطر له من قبل أن يتحقق من هذا قبل الآن، فقال لناصر إنه سوف يستحم، فقال ناصر: «لا تغب، فسوف أتبعك.»
لم يستمتع زيتون بالحمام في حياته استمتاعه به هذه المرة، فأزال بالماء والصابون آثار العرق والتراب وما بدا له زيتا ومياه صرف، وبعدها هبط إلى الطابق الأول.
وقال لناصر: «تفضل!»
ورفع السماعة وطلب أخاه في إسبانيا، كان يريد طمأنته على حاله بسرعة قبل أن يتصل بكاثي.
وحاول أحمد من جديد إقناعه بالرحيل.
وسأله: «هل تعرف الصور التي نشاهدها في التليفزيون؟»
وأكد له زيتون أنه كان بعيدا تماما عن أي لون من ألوان الفوضى. فباستثناء المسلحين الذين شاهدهم في محطة شل للبنزين، لم يصادف زيتون أي أخطار تقريبا في الوقت الذي قضاه في التنقل بالقارب في المدينة.
وصاح زيتون في ابتهاج: «اسمع! ربما أظهر في التليفزيون! لقد أجرى أحدهم معي مقابلة لتوه. انتظر ظهوري، وقل لكاثي.»
وتنهد أحمد قائلا: «لن ترحل إذن؟!» «لم يحن الوقت بعد.»
وكان أحمد يعرف أنه لا فائدة من المناقشة، لكنه كان يريد فعلا تذكير أخيه بأنه حتى لو كان يشعر بالأمان الآن، فإن الخطر قد يأتي في أي لحظة. قال له إن في المدينة عصابات متجولة من المسلحين، وكان ذلك ما تتحدث عنه جميع أجهزة الإعلام، قائلة: إن المنطقة أصبحت كالغرب الأمريكي في أيامه الوحشية الأولى. كان أحمد يشعر بعجزه ويكره هذا الشعور، ويعرف أن أخاه الأصغر يعتبره أشد حذرا مما ينبغي، فأضاف قائلا: «أفلن تفكر إذن في الرحيل، من أجل أسرتك الجميلة، قبل أن يحدث شيء؟!»
كان زيتون ممسكا بالورقة التي كتب عليها رقم تليفون كاثي في مدينة فينيكس؛ كان يريد أن يتصل بها قبل أن تبدأ في القلق. وكان قد تأخر عن موعده معها عشر دقائق. وكان يوشك أن ينهي مكالمته مع أحمد حين سمع صوت ناصر من مدخل المنزل وهو يتحدث مع شخص خارج المنزل.
ونادي ناصر: «زيتون!»
وقال زيتون: «ماذا؟»
وقال ناصر: «تعال هنا. يريد هؤلاء أن يعرفوا إن كنا نريد ماء.»
وتصور زيتون أنهم كانوا رجالا مثله ومثل ناصر، أي إنهم يطوفون في زوارق، ويحاولون تقديم العون.
وعند وضع سماعة التليفون نظر في اتجاه مدخل المنزل فشاهد مجموعة من الرجال، كانوا جميعا يحملون السلاح، ويقتحمون المنزل، فأعاد زيتون التليفون إلى مكانه وسار إلى الباب.
الفصل الثالث
الأربعاء 7 من سبتمبر
عندما استيقظت كاثي كانت متوترة، انتهت من إفطار الأطفال وإلباسهم ملابسهم، محاولة ألا تذكر أن زوجها لم يتصل بها في عصر اليوم السابق، كان قد وعدها بالاتصال، ونصحتها يوكو بألا تقلق؛ فالقلق حماقة، ولم ينقطع زيتون عن الاتصال يوما كاملا بعد، بل إن انتظامه في الاتصال بها إلى الآن كان أمرا رائعا، ووافقتها كاثي، ولكنها كانت تعرف أن القلق سيساورها حتى يتصل بها مرة أخرى.
وبعد أن أخذت يوكو أطفالها إلى المدرسة، ساعدت على توفير ما يشغل أطفال كاثي، بينما ظلت كاثي تذرع المكان جيئة وذهابا حاملة تليفونها.
وفي التاسعة اتصل أحمد بها من إسبانيا.
وسألها: «هل اتصل عبد الرحمن اليوم بك؟» - «لا. وأنت؟» - «لم يتصل منذ الأمس.»
فسألته: «إذن فقد تكلمت معه؟» - «نعم.» - «اتصل بك ولم يتصل بي!» - «كان يوشك أن يتصل بك. ولكنه وضع سماعة التليفون بسرعة. كان لدى باب المنزل زائر.»
وسألته كاثي: «من؟» وقد أحست بالهلع. - «لا أعرف.»
وأدارت رقم تليفون المنزل بشارع كليبورن وظل الرنين يتردد عشر مرات قبل أن يتوقف.
كانت تحس أنها محطمة. وقالت في نفسها: «لا بد أن يتصل اليوم. سأقتله إن لم يتصل في الظهيرة.»
عندما بلغت الساعة العاشرة بتوقيت فينيكس، كانت الثانية عشرة بتوقيت نيو أورلينز. وانتظرت كاثي. ولم يرن التليفون في العاشرة، أو العاشرة والنصف، أو الحادية عشرة، أي الواحدة بتوقيت نيو أورلينز، وعندما انتصف النهار في فينيكس كانت تشعر بالخبل.
وطلبت رقم منزل كليبورن من جديد. لم يرد أحد.
وحاولت يوكو أن تضع الأحداث في سياقها الصحيح. قالت: إن استمرار عمل التليفون في منزل كليبورن يمثل معجزة، ومن المحتمل أنه انهار وتعطل، وأكدت لها أن زيتون سوف يجد طريقة أخرى للاتصال ويتصل، فالمدينة غارقة، وعليها ألا تؤاخذه بهذه الشدة.
وهدأت كاثي الآن، ولكنها استمرت تذرع غرفة الجلوس رائحة غادية.
واصطحبت يوكو الأطفال إلى المركز التجاري. لم تكن تريد أن تترك كاثي وحدها، ولكن حركتها في الغرفة كانت تقلق الأطفال. كانت يوكو واثقة بأن زيتون سوف يتصل في غيابهم، فلم لا تتيح للأطفال فرصة الترويح عن أنفسهم؟ كانت في المركز التجاري قاعة للأغذية، وكان زخاري يحب مثل تلك القاعة المسقوفة، وكانوا يعتزمون العودة في الثالثة.
واتصلت كاثي بمنزل شارع كليبورن من جديد. لم يرد أحد.
واتصل بها والت: «هل سمعت شيئا من زيتون؟»
ونفت كاثي ذلك.
وطلبت عدنان، قريب زيتون.
قالت له: «ما زلت أشعر بالخجل منك!» إذ إن كاثي اضطرت إلى إخباره في آخر مكالمة بينهما أن أختها رفضت السماح لعدنان وعبير بالبقاء في منزلها. كان الأمر مؤلما.
وقال عدنان: «لا تقلقي. نحن بخير.»
كان لا يزال في باتون روج مع عبير ووالديه، وبعد أن قضوا ليلتين في السيارة، عادوا إلى المسجد، وكانوا ينامون على الأرض طيلة الأسبوع الماضي.
وسألها: «كيف حال عبد الرحمن؟» - «لم أسمع منه شيئا. فهل سمعت أنت؟»
فقال عدنان إنه لم يسمع.
كانت كاثي وحدها تنشد التسرية فأدارت جهاز التليفزيون، وتحاشت نشرات الأخبار، فعثرت على برنامج المقابلات التليفزيونية الذي تقدمه المذيعة أوبرا وينفري. كانت تظن أن ما وجدته هو ذلك البرنامج، ولكنها أدركت أنه تحقيق إخباري يتضمن فقرات من برنامج اليوم السابق، وتستضيف فيه المذيعة المذكورة رئيس شرطة نيو أورلينز إدي كامباس، وعمدة المدينة ناجين.
كان كامباس ينعى المدى الذي وصلت إليه الجريمة في القبة الكبيرة، قال وهو يبكي: «كان لدينا أطفال هناك. أطفال صغار تعرضوا للاغتصاب.» وقال العمدة ناجين: «منذ ثلاثة أيام بدأنا توزيع الطعام بنظام الحصص، والناس يتقاتلون. وهذا في رأيي سبب انحدار الناس إلى هذه الحالة التي تكاد تكون حيوانية، أي افتقارهم إلى الموارد. كانوا محاصرين. ويستعد المرء لمشاهدة شيء ليس قطعا مستعدا لمشاهدته. لدينا أناس ظلوا واقفين في القبة الكبيرة الملعونة خمسة أيام وهم يشاهدون جثث الموتى، والبلطجية وهم يقتلون الأشخاص، ويغتصبونهم. هذه هي المأساة. الناس يحاولون أن يتركوا لنا أطفالا على شفا الموت.»
وأطفأت كاثي جهاز التليفزيون من جديد، وهذه المرة إلى الأبد. واتصلت بتليفون المنزل في شارع كليبورن، وظل الرنين يتردد ويتردد، وظلت تسير في الغرفة، ثم خرجت من المنزل إلى الحر الخانق في مدينة فينيكس، ثم عادت للدخول، واتصلت من جديد، وكان صوت الرنات يبدو أجوف، موحشا. •••
بلغت الساعة الرابعة ولم يتصل.
واتصلت بأحمد من جديد في إسبانيا. لم يكن زيتون قد اتصل به هو الآخر، وقد ظل يتصل بمنزل شارع كليبورن طول النهار، عبثا.
وفي آخر ساعات العصر عاد الأطفال.
وسألت نديمة: «هل اتصل بابا؟»
وقالت كاثي: «لم يتصل إلى الآن، وما زلنا ننتظر.»
وظلت متماسكة ثواني معدودة ثم انفجرت المشاعر في أعماقها. واستأذنت في الانصراف، وهرعت إلى غرفة الضيوف. لم تكن تريد أن تراها بناتها في تلك الحالة.
ودخلت يوكو عليها وجلست معها على السرير، قالت لها: «لم يمر سوى يوم واحد. يوم واحد في حياة رجل يعيش في مدينة بلا مرافق، ولسوف يتصل غدا.» وتماسكت كاثي وقامت للصلاة جماعة مع يوكو، وقالت في نفسها إن يوكو على حق، لم يكن غير يوم واحد، وسوف يتصل طبعا غدا.
الخميس 8 من سبتمبر
واستيقظت كاثي وهي تتوقع شيئا أفضل، ربما لم يكن زوجها يدرك أنه نسي أن يتصل بها. ومن المحتمل أنه يقوم بإنقاذ عدد آخر من الناس والحيوانات والمنازل، وفي غمرة انهماكه انشغل عنها، وعلى أي حال، كانت كاثي تعتزم أن تتظاهر برباطة الجأش أمام الأطفال، فقامت بإعداد طعام الإفطار لهم، وتظاهرت بأنها تحتفظ برشدها، راضية بحالها، ولعبت بعض الألعاب مع زخاري، وأمضت الصباح في ألوان التسرية.
وكانت بين الحين والآخر تعيد الاتصال بتليفون منزل شارع كليبورن من تليفون يوكو، وكان الرنين يتواصل بلا نهاية.
وحل وقت الظهيرة ومضى.
وعادت كاثي إلى فقدان رباطة جأشها.
قالت ليوكو: «لا بد أن أذهب إلى نيو أورلينز.»
وردت يوكو قائلة: «بل ليس ذلك ممكنا.» وأمطرت كاثي بوابل الأسئلة الخاصة بإمكان الوصول والحصول على المؤن. كيف تدخل المدينة؟ هل تعتزم شراء سفينة، وتراوغ السلطات وتبحث عن زوجها وحدها حتى تجده؟ واستبعدت يوكو تلك الفكرة. «لا نريد أن نضطر إلى القلق عليك أنت أيضا.»
واتصل أحمد بكاثي، كانت نبراته محايدة في اليوم السابق، لكن النبرات اليوم يشوبها القلق، وهو ما أفقد كاثي أعصابها. قالت في نفسها إن كان أحمد الذي يشارك زوجها في طباعه - ويشارك الاثنان والدهما محمودا في طبعه، وهو الذي استطاع الصمود يومين في البحر مربوطا إلى برميل - يشعر بأن الموقف الحالي عصيب، فإن ردود أفعال كاثي لم تكن على المستوى المتوقع.
وقال أحمد إنه سوف يحاول الاتصال بمحطة التليفزيون التي أجرت المقابلة مع زيتون. وسوف يتصل بجميع الهيئات التي تبحث عن الأشخاص المفقودين في نيو أورلينز، ويتصل بخفر السواحل. واتفق الاثنان على معاودة الاتصال حالما يصل أحدهما أي أنباء.
التاريخ: الخميس 8 من سبتمبر 2005، الساعة: 0200 + 04 : 08 : 19
إلى:
الموضوع:
Ref.AMER-6G2TNL
السادة الأعزاء
شكرا جزيلا على ردكم.
أرجوكم بذل قصارى جهدكم لإبلاغنا أنباء طيبة عنه.
إنه أخي، ويعيش منذ سنوات عديدة في نيو أورلينز، وعنوانه:
4649 شارع دارت، نيو أورلينز.
نيو أورلينز، لوس أنجلوس.
70125-2716.
والواقع أنني في إسبانيا، ولكن زوجته وأطفاله غادروا المدينة قبل هبوب كاترينا بيوم واحد إلى أريزونا، وزوجته هي السيدة كاثي زيتون، وعنوانها الفعلي الآن 408 - (الرقم محذوف).
معلومات أخرى:
ظل في المنزل دون تليفون، ولكن لديه قاربا صغيرا، ويذهب يوميا إلى السيد «تود» في:
5010 س. شارع كليبورن 70125-4941 نيو أورلينز.
كان آخر اتصال به يوم 6 من سبتمبر في الساعة 30 : 14 بالتوقيت المحلي، ومنذ ذلك الحين إلى الآن توقفت الاتصالات وانقطعت الأخبار، والتليفون الذي كان يستخدمه يرن ولا يجيب عليه أحد. وأرفق مع هذا صوره الشخصية فربما تساعدكم.
شكرا جزيلا.
المخلص
أحمد زيتون
وبدأت أسرة زيتون تتصل تليفونيا في العصر من سوريا. كان أول اتصال من فايزة، وهي معلمة بالمدرسة الثانوية في جبلة، وتتكلم الإنجليزية بطلاقة. «هل سمعتم شيئا من عبد الرحمن؟»
وقالت لها كاثي إنه لم يتصل بها منذ يومين.
ومرت فترة صمت طويل في التليفون. «لم يتصل عبد الرحمن بك قط؟»
وأوضحت كاثي أن الاتصالات التليفونية كانت مقطوعة، ومن المحتمل أن زوجها كان يحاول وحسب العثور على تليفون يعمل. ولم تتقبل فايزة ذلك بسهولة. «قولي مرة أخرى، ألم تسمعي شيئا من عبد الرحمن؟»
كانت كاثي تحب أسرة زيتون في سوريا، ولكنها لم تكن في حاجة إلى هذا العبء الإضافي. فالتمست لنفسها الأعذار وأنهت المكالمة.
ولم تحاول كاثي الجلوس إلى مائدة العشاء، بل ظلت تسير في الغرف ولا يفارق التليفون يدها. واستعرضت في ذهنها كل الاحتمالات؛ من كانت تعرفهم، وما يستطيعون أن يفعلوه لمساعدتها. وتذكرت أنها لم تكن تعرف أحدا قط في المدينة. كان الموقف يؤدي إلى الشلل، بدا لها مستحيلا أن توجد مدينة كاملة معزولة عن أي اتصالات أو سبل اتصال في عام 2005، وفي الولايات المتحدة.
وفي وقت لاحق كانت تمر بجوار إحدى غرف نوم الأطفال؛ ظانة أنهم ناموا، حين سمعت عائشة تتحدث مع أحد أطفال يوكو.
قالت عائشة: «منزلنا تغمره المياه بعمق عشر أقدام!»
وحبست كاثي أنفاسها لدى الباب. «ولا نستطيع العثور على أبي.»
ودخلت كاثي الحمام وغطت وجهها بفوطة وصرخت. وأحست بجسدها يتشنج لكنها حاولت ألا تصدر أي صوت.
الجمعة 9 من سبتمبر
لم يكن أمام كاثي سوى أن تكذب، لم تلجأ في حياتها قط إلى الكذب الصريح على أطفالها، ولكن ذلك يبدو الآن لازما، وإلا انفلتت أعصابهم جميعا. كانت تعتزم إلحاقهم بالمدرسة يوم الإثنين، وإذا كان لأطفالها أن يتسلحوا بالقوة اللازمة لمواجهة هذا الموقف فلا بد أن يعتقدوا أن والدهم بصحة جيدة وعلى اتصال بهم. وهكذا أثناء الإفطار عندما سألتها عائشة إن كانت قد سمعت من أبيها، لم تتردد كاثي.
قالت: «نعم. اتصل بي ليلة أمس.»
وسألتها نديمة: «على أي تليفون؟» لم يكن الأطفال قد سمعوا أي رنين.
وقالت كاثي: «تليفون يوكو. أدركته من أول رنة.»
وقالت نديمة: «هو في المنزل إذن؟»
وأومأت كاثي. وعلى الرغم من ذكاء الأطفال وتشككهم في كل شيء، فإنهم صدقوها، وخصوصا نديمة وزخاري. وسواء كانا يحسان الكذبة أو لا، فقد كانا يريدان تصديقها، وكان إدراك موقف صفية وعائشة أصعب، ولكن كاثي كانت قد نجحت مؤقتا في تهدئة مخاوف أطفالها، ولم يعد عليها سوى مكابدة قلقها ومخاوفها الشخصية.
وبمجرد انتهاء الإفطار رن جرس التليفون، فوثبت كاثي إليه.
كانت عائشة، إحدى أخوات زيتون الأخرى. كانت تعمل مديرة لمدرسة ابتدائية في جبلة، وتتحدث الإنجليزية كذلك.
وسألت: «أين عبد الرحمن؟»
وأجابت كاثي في هدوء: «في نيو أورلينز.»
وأوضحت عائشة أنه لم يتصل بأحد منذ عدة أيام، وقالت إنه اتصل عدة مرات بعد العاصفة، ثم توقف تماما، وإنها تتصل نيابة عن جميع أشقائه، وإنها قلقة عليه.
وقالت كاثي: «إنه بخير.»
وسألتها عائشة: «كيف عرفت ذلك؟»
ولم تحر كاثي جوابا.
وفتحت كاثي الإنترنت، ومن فورها غمرتها الأنباء المفزعة من المدينة، كان المسئولون يقولون إن عدد الموتى في نيو أورلينز وما حولها قد بلغ 118. ولكن العمدة ناجين يقول إن تقديراته تشير إلى احتمال ارتفاع الرقم النهائي إلى عشرة آلاف، وفتحت بريدها الإلكتروني. لم يرسل زوجها خطابا بالإيميل قط في حياته، ولكنها لم تكن تستبعد ذلك. وجدت إيميل من أحمد أخي زيتون، كان قد وصل إلى بريدها الإلكتروني عن طريق هيئة مساعدة أخرى، كان يقول:
من: الربان زيتون
التاريخ: الجمعة 9 من سبتمبر 2005 الساعة 0200 + 05 : 12 : 22
إلى: @arcno.org (محذوف الاسم)
الموضوع: البحث عن أخي، عبد الرحمن زيتون
السادة الأعزاء
أرجوكم، لو سمحتم، لو كان ممكنا أن أعرف منكم أخبار الذين أرغموا على ترك منازلهم في نيو أورلينز يوم الثلاثاء الماضي 6 من سبتمبر، أين هم الآن؟
أود أن أعرف أي أنباء عن أخي الذي انقطعت الاتصالات به منذ الثلاثاء الموافق 6 من سبتمبر بعد الساعة 30 : 14 أثناء وجوده في المنزل رقم 5010 شارع س. كليبورن 70125-4941 نيو أورلينز، وكان يستخدم قاربا صغيرا، في الانتقال إلى المنزل رقم 4649 شارع دارت حيث يقيم.
التفاصيل الخاصة بأخي:
الاسم: عبد الرحمن زيتون.
السن: 47 سنة.
العنوان: 4649 شارع دارت، نيو أورلينز، 70125-2716 لوس أنجلوس.
منذ ذلك الوقت وإلى الآن لم نتلق أي أخبار عنه.
أرجو التعطف وبذل قصارى جهدكم لمساعدتنا.
شكرا جزيلا لكم.
أحمد زيتون
مالقة، إسبانيا
وعندما حل وقت الظهر في نيو أورلينز، اتصلت كاثي بالمنزل في شارع س. كليبورن، وتركت التليفون يرن، راجية أن يتوقف، بعد أن يقاطعه صوت زوجها، واستمرت تتصل طوال اليوم، ولكن الرنين لم تكن له نهاية.
واتصل والت وروب، وأخبرتهما كاثي أنها لم تتلق أي اتصال من زيتون، وسألت والت إن كان يعرف أي شخص يمكنه مد يد العون. كان يبدو أن والت يعرف الجميع، وكان دائما ما يأتي بالحل، فقال إنه سيتصل بأحد أصدقائه الذي كان يعمل مأمورا في شرطة الولايات المتحدة، وكان يعرف أنه في مكان قريب من المدينة؛ فربما استطاع دخول المدينة والوصول إلى المنزل في شارع كليبورن.
وعندما وضعت كاثي الأطفال في الفراش للرقاد في تلك الليلة أرغمت نفسها على أن ينطق وجهها بالثقة. سألوها إن كان منزلهم قد غمرته المياه، فأقرت كاثي بذلك وبأن المنزل أصابته بعض الأضرار، ولكن والدهم لحسن حظهم، مقاول، وسوف يتمكن بسرعة من إصلاح أي أضرار.
وأضافت: «وعندي مفاجأة! سوف تحصلون جميعا على أثاث جديد في غرف النوم!»
السبت 10 من سبتمبر
واتصل والت، قال إنه تكلم مع صديقه مأمور الشرطة الفيدرالي، وإن المأمور سار بسيارته نحو المنزل في شارع دارت، لكنه لم يستطع الاقتراب؛ بسبب ارتفاع الماء أكثر مما كان يتوقع.
وقال والت إنه سوف يتصل بصديق يعرفه لديه طائرة عمودية. ولم يكن قد أوضح من التفاصيل ما يتجاوز ذلك - أين تذهب الطائرة أو كيف يبحثون عن زيتون - لكنه قال إنه سوف يجري المزيد من الاتصالات ويعود إلى الاتصال بكاثي قريبا.
وعلى نحو ما فعلت في اليوم السابق، عندما حان وقت الظهيرة في نيو أورلينز اتصلت بالمنزل في شارع كليبورن، ومرة أخرى استمر الرنين بلا نهاية.
واتصلت أسرة زيتون.
كان الصوت يقول: «كاثي، أين عبد الرحمن؟!» كانت المتحدثة لوسي، إحدى بنات إخوته. كان جميع أبناء إخوته وأخواته وبناتهم يتحدثون الإنجليزية بطلاقة، ويتولون مهام الترجمة لسائر الأسرة.
وقالت كاثي: «لا أعرف!»
واتصلت قريبة أخرى.
وقالت بإصرار: «لا بد أن تذهبي للبحث عنه.»
وطيلة الصباح استمر إخوة زيتون وأخواته يتصلون من اللاذقية، ومن المملكة العربية السعودية. كانوا يستفسرون إن كانت كاثي قد تلقت أي اتصال منه، ولماذا لم تذهب إلى مدينة نيو أورلينز للبحث عنه؟ ألم تشاهد التليفزيون؟
وقالت لهم إنها لم تكن تشاهده؛ لأنها لم تعد تستطيع الاحتمال.
وزودوها بالأخبار؛ لقد وقعت أحداث نهب وسلب، واغتصاب، وقتل، والمدينة في حالة فوضى عارمة، وكرروا تأكيد العمدة ناجين بأن المدينة قد تدهورت إلى «حالة حيوانية». وبهذا الأسلوب استطاعت مشاهدة الصورة التي رسمتها أجهزة الإعلام للمدينة، التي تشبه سرداب المفاجآت في مدينة الملاهي عن طريق أقارب زوجها من مسافة تبلغ نصف طول العالم. وقالت في نفسها: يعلم الله أي انحراف عن الواقع تقوم به أجهزة الإعلام لتضخيم الحالة هناك.
كان أقاربها يقولون: لقد أحضر المسئولون خمسة وعشرين ألفا من حقائب الجثث إلى المنطقة، وتساءلوا: كيف يمكنك أن تعيشي في بلد كهذا؟ عليك أن تعودي إلى هنا؛ فسوريا آمن وأسلم.
لم تستطع كاثي أن تصمد للأسئلة وللضغوط. كانت تشعر بالقهر والعجز وترتعد. وهكذا أنهت المكالمة بأشد ما تستطيعه من التأدب.
وذهبت إلى الحمام، ولأول مرة منذ أيام تطلعت إلى وجهها. كانت حول عينيها حلقات زرقاء، فخلعت حجابها وزفرت زفرة سريعة. شعرها! لم يكن فيه سوى عشر شعرات بيضاء قبل هذا كله. وقد بدا الآن شريط من الشعر الأبيض صاعدا من جبينها، بحجم يدها.
ومنعت يوكو كاثي أن ترد على التليفون عندما كان أحد من سوريا يتصل بها. وكانت يوكو تتلقى الاتصالات وتقول لأهلها إن كاثي كانت تفعل كل ما في طوقها، كل ما يستطيعه بنو البشر.
وقامت يوكو مع زوجها أحمد باصطحاب كاثي والأطفال إلى مبنى المحاربين التذكاري؛ حيث كان الصليب الأحمر قد أنشأ ملجأ ووحدة معونة لأهالي نيو أورلينز. وكانت عدة وكالات للبحث عن المفقودين قد بدأت في جمع المعلومات ومحاولة مساعدة أفراد الأسر على الاتصال بالذين انفصلوا عنهم من ذويهم، فأحضرت كاثي صورة فوتوغرافية لزيتون وكل ذرة من المعلومات استطاعت العثور عليها عنه.
وفي صالة الألعاب الرياضية كان المشهد كئيبا، كان المكان غاصا بالعشرات من أهالي نيو أورلينز، وكان منظرهم يوحي بأنهم فروا من المدينة في ذلك اليوم نفسه. كانت الجراح تعالج، والأسر تنام على سرر أطفال، وأكوام الملابس في كل مكان. وتعلقت بنات كاثي بها.
وسجل الصليب الأحمر عشرات المعلومات، وسجل بالكمبيوتر الصورة التي أحضرتها كاثي، كان العاملون فيه يبدون الكفاءة، ويغدقون الحنان، وقالوا لكاثي إنهم استطاعوا تحديد أماكن وجود الآلاف، وإن هؤلاء منتشرون في طول البلاد وعرضها، وإن كل قصة كانت أغرب من سابقتها، وقالوا لكاثي ألا تقلق، وإن النظام يعود باطراد كل يوم في كل مكان.
وغادرت كاثي المكان وقد تجدد الأمل في صدرها إلى حد ما. لربما كان قد جرح. ربما كان في مستشفى في مكان لا تعرفه، تحت تأثير مخدر قوي. ربما عثر عليه في مكان ما، غائبا عن الوعي، ولا يحمل ما يثبت هويته، لن يمضي وقت طويل حتى ينظر الأطباء والممرضات في قاعدة بيانات المفقودين فيعثروا عليه.
ولكن ذهن الأطفال غدا مشوشا. هل كان والدهم سالما أو لا؟ كانت المؤشرات متضاربة؛ إذ قالت لهم أمهم إنه كان بخير، سالما في قاربه، لكن إن كان الأمر كذلك، فلماذا أبلغت عنه الصليب الأحمر؟ ولماذا أدرج اسمه في سجلات المفقودين؟ ولماذا ذكرت الشرطة وخفر السواحل؟ حاولت كاثي أن تحميهم من كل هذا، فاستحال إخفاء الأمر. لم تكن تشعر بالقوة الكافية، بل كانت تشعر بأنها كيان واهن مليء بالثقوب.
وعندما عادوا إلى المنزل اتصلت من جديد بالمنزل في شارع كليبورن. واستمر التليفون يرن دون توقف، كانت تقول لنفسها حتى الآن إن التليفون ربما كان معطلا، لكنها اليوم اتصلت بشركة التليفونات، فقالوا لها: لو لم يكن التليفون يعمل على الإطلاق لسمعت صوتا يشبه الإشارة إلى أن الخط مشغول، صوتا معينا يشير إلى تعطل الخطوط، ولكن الرنين استمر، وكان الرنين يعني أن التليفون يعمل، ولكن لم يكن هناك أحد للرد عليه. •••
كانت عائشة أشد الأطفال تأثرا، وكانت فيما تبدو تتأرجح بين القلق والاستسلام القدري، كانت ضيقة الصدر، لا تستطيع التركيز، وكانت تنزوي وتبكي وحدها.
وفي تلك الليلة، بعد أن خلد الأطفال الآخرون إلى النوم، جلست كاثي خلف عائشة على سريرها، فتناولت شعرها الأسود الغزير بإحدى يديها وجعلت تمشطه باليد الأخرى. وكانت قد فعلت ذلك من قبل مع نديمة لتهدئتها قبل النوم، وكانت والدة يوكو تفعل ذلك نفسه مع كاثي بعد كل حمام، كان ذلك مريحا للأعصاب وفرصة للتفكير عند الأم والبنت معا، وفي هذه الحالة كانت كاثي تدندن بنغمة أغنية لا تستطيع حتى أن تذكر اسمها، وكانت عائشة جالسة في توتر، ولكن في تقبل للموقف. كانت كاثي واثقة بأن هذا من شأنه أن يريحها من القلق، وأن ينتهي باستلقاء عائشة من جديد في حجر كاثي راضية، وقد غلبها النعاس.
وسألتها عائشة: «هل اتصل بك؟» - «لا يا حبيبتي، لم يتصل بعد.» - «هل مات؟» - «لا يا حبيبتي! لم يمت.» - «هل غرق؟» - «لا.» - «هل وجدوا جثته؟» - «حبيبتي. اسكتي.»
ولكن بعد أن مرت بالفرشاة عدة مرات في شعر عائشة، شهقت كاثي شهقة سريعة. كان شعر عائشة قد تلبد في الفرشاة التي امتلأت به.
واغرورقت عينا عائشة بالدموع، وصرخت كاثي.
وقالت كاثي في نفسها: «لا يوجد أسوأ من هذا! محال أن يوجد ما هو أسوأ.»
الأحد 11 من سبتمبر
مرت ستة أيام منذ أن تكلمت كاثي مع زيتون. لم تعد قادرة على تفسير غيابه، لم يكن للأمر معنى، كان رجال المعونة قد «استولوا» على المدينة، والحرس الوطني في كل مكان، والمسئولون يصرون على أن المدنية قد خلت تقريبا من أهلها.
واستعرضت الاحتمالات كلها في ذهنها من جديد. لو كان لا يزال في قاربه يتنقل في أرجاء نيو أورلينز لعاود الاتصال بها من المنزل في شارع كليبورن. ولو كان ذلك التليفون قد تعطل لكان قد نجح - بعد كل هذا الوقت - في العثور على تليفون آخر يعمل. أو كان قد قابل أحد الجنود وطلب منه المساعدة في الاتصال بكاثي. واستبعدت تماما إمكان وجوده في المدينة وعجزه عن الاتصال بها.
وكان ذلك يعني أنه ترك المدينة. ربما كان قد نقص ما لديه من ماء وطعام. ربما كان قد قبل عرضا بالجلاء عن المدينة قدمته إحدى الطائرات العمودية أو زوارق الإنقاذ، لكنه لو كان قد غادر المدينة، لكان قد وصل إلى أحد الملاجئ، ولاتصل بها منه من فوره.
كانت قد سمعت بنبأ العثور على جثث طافية لم يظهر لأصحابها أهل، واكتشف وجودها مصادفة في الماء، وقالت لنفسها: «ربما مات. ربما رحل زوجك.» كانت تعرف بوقوع جرائم قتل، لم تكن تصدق في الواقع ما يروى عن المجازر الطليقة، ولكنها كانت تعرف أن بعض جرائم القتل قد وقعت، وقالت في نفسها: «ربما كانت حادثة سطو. ربما اقتحم أحدهم أحد العقارات التي نملكها، وكان فيها، وتصدى لقتالهم ثم ...»
من المحال أن يكون قد غرق، ومن المحال أن يكون قد راح ضحية أي كارثة أخرى؛ إذ كانت تعرف زوجها من خير المعرفة، لم تكن تستطيع أن تتصور أي حادثة «تلتهمه»، كان أشد ذكاء وأشد حذرا من أن يسمح بذلك، وحتى لو كان قد تعرض لحادثة ما، فقد كان متين البنيان، شديد الاحتمال، كان الأرجح في هذه الحالة أن يصمد وأن ينشد العون.
وعندما حل وقت الظهيرة في نيو أورلينز اتصلت كاثي بمنزل شارع كليبورن، وتركت التليفون يرن، وقد شعرت بالحاجة إلى سماع صوت زوجها، ولكن الرنين استمر بلا نهاية.
كان عليها أن تنظر في مسألة التأمين على الحياة، وفي وسائل إعالة نفسها وأطفالها الأربعة. هل تتمكن من إدارة العمل بنفسها؟ لن تستطيع، بطبيعة الحال. فهل تقوم إذن بما يشبه الإدارة؟ سيكون عليها أن تبيع العقارات المؤجرة، أو ربما استطاعت إدارة هذه العقارات بنفسها. أسئلة بالغة الكثرة. لا، سوف تبيع شركة الطلاء والمقاولات وتحتفظ بالمساكن المؤجرة، أو ربما باعت بعض تلك المباني؛ حتى يقتصر العدد على ما تستطيع أن تديره بنفسها. هل عليها أن تبقى في نيو أورلينز أو تنقل الأسرة إلى باتون روج؟ إلى فينيكس؟ إذا انتقلت فلا بد أن يكون ذلك إلى فينيكس.
وإلى متى عليها أن تنتظر قبل أن تفترض وقوع أسوأ ما تتوقع؟ أسبوع، أسبوعان، ثلاثة؟
عادت إلى الإنترنت فوجدت «إيميل» آخر من أحمد، كان هذا قد أرسل إلى محطة التليفزيون التي أذاعت المقابلة القصيرة مع زيتون، وكان أحمد قد اكتشف وهو في مكتبه في إسبانيا اسم المحطة واسم أحد منتجي البرنامج، كان الإيميل يقول:
من: الربان زيتون
التاريخ: الأحد 11 من سبتمبر 2005 الساعة 0200 + 34 : 01 : 02
إلي: @wafb.com (الاسم محذوف)
الموضوع: المناطق المتضررة من الإعصار في نيو أورلينز
السادة الأعزاء
وفق ما علمت من بعض الأصدقاء في باتون روج، كنتم قد أجريتم مقابلة مع أخي يوم 5 من سبتمبر.
اسمه: عبد الرحمن زيتون، وعمره 47 سنة، ويقيم في المنطقة المتضررة من الإعصار في نيو أورلينز، في المنزل رقم 4649 شارع دارت 70125-2716 لوس أنجلوس، وصديقنا شاهده في التليفزيون في محطتكم
TV WAFB CH9
يوم 6 من سبتمبر.
ومنذ ذلك الوقت إلى هذه اللحظة ونحن لا نستطيع الاتصال به. أرجوكم هل تسمحون وتتكرمون بإعطائي أي معلومات عن اليوم والموعد الذي قابلتموه فيه؟ ترى هل لديكم أي معلومات أخرى؟
مع الشكر الجزيل.
أحمد زيتون
مالقة، إسبانيا
ووجدت كاثي موقعا على الإنترنت به صور حديثة التقطت من الجو لمدينة نيو أورلينز. وظلت تبحث حتى وصلت إلى الضاحية التي تقيم فيها، وكبرت الصورة حتى رأت ما تبقى من منزلها والحي الذي يوجد فيه. كانت قذارة المياه أشد مما تتخيل. بدا لها كأنما كانت المدينة كلها مغمورة بالزيت والقار.
اتصلت بكل رقم لكل شخص تعرفه، وربما لم يكن قد غادر نيو أورلينز. لا شيء.
وحاول أحمد ويوكو التسرية عنها.
قال أحمد: «إنه من المدرسة القديمة.» وأضاف أنه من الطبيعي لرجل مثل زيتون، يتمتع بقوة الشكيمة والاستقلال، أن ينقطع الاتصال به بضعة أيام. «لم تعد الطبيعة تجود برجال مثله.»
وحرصت يوكو على إبعاد كاثي عن التليفزيونات ونشرات الأخبار، ومع ذلك فقد كانت كاثي تلتقط شذرات منها في السيارة. فعلى راديو سيارتها الأوديسية سمعت الرئيس بوش يلقي خطابه الأسبوعي في الإذاعة، كان الرئيس يشبه العاصفة بأحداث 11 من سبتمبر والحرب على الإرهاب. قال «إن أمريكا تواجه كارثة أخرى أحدثت الدمار وفقدان الأرواح.» وأضاف قائلا: «ولسوف تتغلب أمريكا على هذه المحنة، ولسوف تضيف قوة إلى قوتنا.»
الإثنين 12 من سبتمبر
حان الوقت لذهاب البنات إلى المدرسة. كن قد انقطعن عنها أسبوعين تقريبا، ومهما تكن صعوبة بداية الدراسة في منتصف سبتمبر، كان لا بد من اتباع ما يشبه العادة المنتظمة.
وأجرت كاثي مكالماتها، كانت أقرب مدرسة عامة هي مدرسة الدكتور هوارد ك. كونلي الإلزامية. قيل لكاثي: «أحضريهن من فورك.» أما زخاري الذي كان في مرحلة الدراسة الثانوية، فسوف يكون إلحاقه بالمدرسة أصعب.
كانت الفتيات متوترات، لم يكن يسعدهن دخول مدرسة جديدة؛ حيث لا يعرفن أحدا ويوصمن بأنهن لاجئات، لم لا ينتظرن حتى يعدن إلى نيو أورلينز؟ ماذا عساهن أن يدرسن؟ لسوف تختلف الكتب والمقررات الدراسية. وما الغاية من ذلك؟ قالت كاثي إن والدهن يريد إلحاقهن بالمدرسة، وذلك يكفي.
وقام أحمد ويوكو بشراء ما تحتاج إليه الفتيات من المعدات المدرسية، كالدوسيهات والكراسات والأقلام الحبر والأقلام الرصاص، وحقائب ماركة بوكيمون وهالو كيتي؛ لحمل كل ذلك فيها، وأشاع هذا بعض الراحة في نفوس الفتيات، ولكن عندما أوصلتهن كاثي إلى المدرسة، وتركتهن جميعا في مكتب مدير مدرسة كونلي، شعرت بالانهيار. لم تكن قادرة على النظر إلى عائشة والتي كانت عيناها السوداوان المغرورقتان تنطقان بكل شيء ، بكل قلق تشاركها كاثي فيه؛ أي إن هذه كانت أول أيام حياتهن الجديدة معا، في فينيكس، وفي غيبة والدهن.
وأثناء عودتها بالسيارة من المدرسة، أصغت كاثي إلى الأنباء في الراديو. كان عدد الموتى رسميا في نيو أورلينز قد وصل إلى 279. كان يبدو أن الرقم يزداد مائة كل يوم، والبحث عن الجثث كان في بدايته وحسب.
هل كان عليها أن تتخذ الاستعدادات اللازمة للجنازة؟ لقد انقضت الآن سبعة أيام. إلام تستطيع تبرير غيابه؟ لقد حضر الرئيس بوش مرتين أو ثلاثا إلى نيو أورلينز حتى الآن. فإذا كان الرئيس يستطيع الحضور إلى ميدان جاكسون لعقد مؤتمر صحفي، فإن زوجها، إن كان في قيد الحياة، يستطيع العثور على تليفون والاتصال بها.
الثلاثاء 13 من سبتمبر
وبوجود الأطفال في المدرسة نهارا، أحست كاثي بتسارع انهيار روحها المعنوية؛ إذ أتيح لها قضاء المزيد من الوقت لكي تقلقه، والمزيد من الوقت لتخطيط حياتها التعيسة الجديدة.
كانت تتصل بالمنزل في شارع كليبورن كل ساعة، وتتصل بزيتون على تليفونه الخلوي، آملة أن يكون قد وجد وسيلة لشحن البطارية.
وقفز عدد الموتى إلى 423.
عثرت على رقم تليفون صاحبة تود جامبينو واتصلت بها. كانت في مسيسيبي، ولم تتلق أي اتصال من تود منذ أسبوع، كان لهذا معنى، ربما حدث شيء ما لكليهما؟ كانت هذه أخبارا طيبة. لا بد أن تكون كذلك، واتفقت المرأتان على مداومة الاتصال.
ومن إسبانيا، كان أحمد يتصل بكاثي كل يوم. قال إنه اتصل بخفر السواحل والبحرية، وكتب إلى السفارة السورية في واشنطن، ولم يأته شيء من أي أحد، وجعل يفحص مواعيد الطائرات الذاهبة إلى نيو أورلينز. ما الضرر في أن يتولى البحث عن أخيه ميدانيا؟ كان قلقا لأن أشقاءه كانوا يتوقعون منه الذهاب، ما دام الوحيد الذي تتاح له فرصة دخول الولايات المتحدة، وأما الحصول على تأشيرة دخول من سوريا فكان ميئوسا منه، واستبعدت زوجته الفكرة، ولكن الفكرة ظلت تنخر في عظامه.
الأربعاء 14 من سبتمبر
أصبح عدد الموتى 648، ويتصاعد.
وكانت كاثي تسأل الصليب الأحمر كل يوم. وسرعان ما سجلت اسم زيتون في ست هيئات مختصة بالبحث عن المفقودين، وأصبحت صورته في كل مكان. •••
ذهبت البنات إلى المدرسة وعدن إلى المنزل وشاهدن التليفزيون، كن يجدن تسرية مؤقتة مع أطفال يوكو وأحمد، ولكن عيونهن كانت تبدو جوفاء؛ إذ كن يحاولن رسم مسار حياتهن من دون والدهن. هل كن يردن الانتقال إلى فينيكس؟ هل تكون له جنازة؟ متى يعلمن حقيقة ما حدث؟
وفي غمار الأفكار التي تشتد حلكتها على امتداد ساعات لا تحصى عادت كاثي لتخيل مكان إقامتها في المستقبل. تراها تعيش في أريزونا؟ لا بد لها في هذه الحالة أن تجد منزلا بالقرب من منزل يوكو، ولا بد أن يصبح أحمد صورة للوالد، ولكن كاثي كانت قد اعتمدت من قبل اعتمادا شديد الوطأة على يوكو وأحمد، ولم تستطع أن تتصور تحميلهما عبء الأسرة كلها بصفة مستمرة.
وخطرت ببالها صورة أسرة زيتون في سوريا؛ صورة شبكة تكافل متينة، نسيج شاسع متماسك الخيوط من العلاقات الأسرية. كانت قد اصطحبت الأطفال، هي وزيتون، إلى هناك في عام 2003 في زيارة لمدة أسبوعين، وكان البلد يختلف عن كل ما توقعت. كان أول ما شد انتباهها سقوط الثلج. الثلج في دمشق! واستقلوا الأتوبيس إلى جبلة في الشمال، وعلى طول الطريق صعقت مما شاهدت، وأقرت فيما بعد أنها كانت لديها صورة قديمة بالية لسوريا. كانت تتوقع مشاهدة الصحارى والحمير وعربات اليد، لا أن تشاهد هذا العدد الكبير من المدن الزاخرة بالحركة والأجناس المختلفة، وهذا العدد الكبير من محال بيع السيارات المرسيدس والبي إم دبليو مصطفة على الطريق الرئيس المتجه شمالا، وهذا العدد الكبير من النساء اللاتي يلبسن ملابس ضيقة، عاريات الشعر، ولكنها شاهدت آثارا لحياة أقل حداثة من تلك أيضا، مثل من يبيعون السردين والكرنب على جانبي الطريق، وبعض المنازل المبنية من الآجر والطين.
وأثناء السفر شمالا إلى جبلة سرعان ما التقى الطريق بالشريط الساحلي، فإذا بهم يسافرون إلى منطقة ساحلية جميلة، تطل التلال فيها على البحر، وتقوم المساجد فوق الطريق جنبا إلى جنب مع الكنائس ، وعشرات منها، كانت تفترض أن سوريا ليس فيها غير المسلمين، لكنها كانت مخطئة، في هذا، وفي كثير من غير هذا. وأحبت شعورها بالدهشة حين تبينت أن سوريا في جوهرها بلد من بلدان البحر المتوسط، ترتبط بالبحر، وتحب الأطعمة والأفكار الجديدة، ويتجلى فيها تأثير اليونان وإيطاليا وثقافات كثيرة. وكانت كاثي تلتهم ذلك كله: الخضراوات والأسماك الطازجة، واللبن الزبادي، ولحم الضأن. كان لحم الضأن هنا أفضل مما ذاقته في أي مكان آخر، وكانت تأكله كلما سنحت لها الفرصة.
وفي بلدة جبلة الجميلة على ساحل البحر شاهدت المنازل التي بناها أجداد زيتون، والنصب التذكاري المقام لأخيه محمد. وكانت أسرتها قد أقامت عند قصي، أخي عبد الرحمن، وهو رجل اجتماعي يحب الحياة بصورة رائعة، وكان لا يزال يقيم في منزل طفولته. كان المنزل عتيقا ساحرا على الساحل، يتميز بالسقوف العالية والنوافذ المفتوحة دائما أمام نسمات البحر. كانت تجد أفراد الأسرة الكبيرة في كل مكان على مسيرة خطوات، في عدد كبير من الأقارب، وتاريخ حافل عريق. وبينما كان زيتون منطلقا في أرجاء البلدة يعيد ربط ما انقطع من صلات مع أصدقائه القدامى، كانت كاثي قد قضت ساعة العصر في الطهي مع فايزة، أخت زيتون، وأخطأت في استخدام غاز البروبين وكادت أن تتسبب في احتراق المطبخ. كان الحادث مخيفا آنذاك، لكنه أثار كثيرا من التندر والتفكه في الأيام التالية.
كان أهل زوجها كراما صالحين، وقد تلقى كل منهم تعليما عاليا، ويتميزون بالصراحة والأريحية، ولا تتوقف الضحكات الغامرة في منزل كل منهم. هل كان من المحال أن تصطحب كاثي الأطفال وتذهب للعيش معهم هناك في جبلة؟ كانت الفكرة تمثل تغييرا جذريا في حياتها، ولكنها كانت تضمن لها الراحة في ذلك المكان حيث تحتضنها الأسرة، وحيث يحيط بالأطفال كثيرون من الأقارب، وربما خفف ذلك من لوعة فقدان أبيهم.
كان اكتئاب أسرة زيتون في سوريا وتقبلها لفقدان عبد الرحمن في تزايد مطرد. كان عدد الجثث التي عثر عليها كبيرا إلى حد بعيد؛ إذ كان يبلغ سبعمائة في نيو أورلينز ، وقال إخوته إنه لا بد أن يكون واحدا من هؤلاء، قطعا، ومن الحمق الظن بغير ذلك. ولم يكونوا يريدون الآن سوى الاطمئنان بمعرفة أسلوب وفاته. كانوا يريدون الجثة لتغسيلها ودفنها.
السبت 17من سبتمبر
كانت يوكو قد منعت كاثي من مشاهدة التليفزيون أو استخدام الإنترنت، ولكن كاثي لم تستطع المقاومة، جعلت تبحث عن اسم زوجها، بحثت عن عنوان شركتهما. وبحثت في أي مكان يكون قد عثر عليه فيه.
لم تعثر على أي شيء خاص به، بل وجدت أشياء أخرى مرعبة. ففي كل مكان في الإنترنت كانت تجد أنباء عن العنف وأدلة على المبالغة فيها، ففي إحدى الصفحات تقرأ عن مئات حالات القتل العمد، وظهور التماسيح في المياه، وعصابات الرجال المنهمكين في السلب والنهب. وفي صفحة أخرى تقرأ نفيا لتعرض الأطفال للاغتصاب، أو نفي وقوع جرائم القتل المتعمد في القبة الكبيرة، أو وفاة أحد في مركز المؤتمرات، لم تكن تبدو نهاية لضروب الخوف والتشويش، والتصورات العنصرية، ونشر الشائعات.
لم يكن أحد يجادل في أن المدينة وقعت في هوة الفوضى، ولكن الجدال أصبح يدور حول مصدر تلك الفوضى. هل كان المصدر هو السكان أم الذين أرسلوا لإحلال النظام؟ ودار عقل كاثي في ذهول وهي تقرأ عن التركيز غير المسبوق على المسلحين رجالا ونساء في المدينة.
قرأت أولا عن المرتزقة؛ إذ سارع رجال الأعمال الأغنياء، والشركات ذات الثراء، بمجرد انتهاء العاصفة باستدعاء شركات الأمن الخاصة من شتى أرجاء العالم، فقام ما لا يقل عن خمس منظمات مختلفة بإرسال الجنود المأجورين إلى المدينة، بما في ذلك المرتزقة الإسرائيليون من شركة اسمها «الشركة الدولية لإطلاق النار بالغريزة»، وتسارعت أنفاس كاثي، رجال العصابات الإسرائيليون في نيو أورلينز؟ وأدركت أن ذلك كان ما حدث، كان زوجها عربيا، وكانت فرقة إسرائيلية شبه عسكرية على الأرض في المدينة، وهكذا استنتجت ما هو منطقي.
وجنود منظمة بلاكووتر. كانت شركة بلاكووتر الأمريكية شركة الأمن الخاصة التي يعمل فيها الجنود السابقون في الجيش الأمريكي وغيره، قد أرسلت مئات الأفراد إلى المنطقة. كانوا موجودين بصفة رسمية؛ إذ استأجرتهم مصلحة الأمن الداخلي للمساعدة في الحفاظ على النظام، كانوا يصلون مرتدين ملابس الميدان الكاملة، وكان بعضهم يحمل شارات نواب حكمدار الشرطة في ولاية لويزيانا.
وتسلطت صور جميع الأسلحة النارية على تفكير كاثي، كان أخوها في الحرس الوطني، وكانت تعلم ضروب الأسلحة التي يحملونها، وبدأت تجري العمليات الحسابية، لو كان كل رجل من مرتزقي بلاكووتر يحمل ما لا يقل عن سلاحين ناريين، فإن معنى ذلك مئات المسدسات المحمولة على الجنبين، من عيار 9 ملليمترات، من طراز هيكلر وكوخ، إلى جانب مئات من البنادق من طراز إم-16ورشاشات من طراز إم-4.
وأحست كأنما عثرت مصادفة على إجابة عن تساؤلها عن اختفاء زوجها، لم يكن أي تفسير آخر مقبولا، كان ذلك يبدو أقرب الأشياء إلى المنطق، لا بد أن أحد هؤلاء المرتزقة الذين لا يسألهم أحد عما يفعلون قد أطلق النار على زيتون فقتله، والسلطات الآن تتكتم الأمر، ولهذا لم تسمع شيئا، لا بد أن العملية كلها متكتم عليها.
أضف إلى ذلك وجود كثير من الجنود الأمريكيين، لا بد أنهم سيطروا على الموقف، وفي حدود ما استطاعت أن تحدس، كان في نيو أورلينز ما لا يقل عن عشرين ألف جندي من الحرس الوطني، إلى جانب الذين يصلون في كل يوم، لكنها عادت للتفكير في الأسلحة النارية، لو كان مع كل واحد من هؤلاء بندقية واحدة من طراز إم-16 الهجومي، فلا بد أن بالمدينة نحو عشرين ألف بندقية آلية. ذلك أكثر مما ينبغي. وإذا كانت الحاكمة بلانكو على حق حين قالت إن هؤلاء قد أقبلوا مباشرة من أفغانستان والعراق، فلن يبشر ذلك بأي خير لزوجها.
وبحثت في مواقع أخرى على الإنترنت، وتعمقت، كان عدد جنود الجيش في منطقة نيو أورلينز يبلغ 5750، وما يقرب من ألف رجل من رجال شرطة الولاية، وكثيرون من بينهم من فرق مكافحة الشغب المسلحة للاشتباك مع الناس داخل المدن، كما منح أربعمائة من مفتشي الجمارك ورجال حماية الحدود سلطة الضبطية القضائية فأصبحوا نوابا عن مأموري الشرطة المحلية. وكان من بين هؤلاء أكثر من مائة رجل من الوحدات التكتيكية لورديات الحدود، وكانوا في العادة مسلحين بأجهزة قذف القنابل اليدوية، وبنادق الخرطوش، وكباش دك الأسوار، والبنادق الهجومية، كما كانت في المنطقة أربع من فرق الأمن والسلامة البحرية، وهي الوحدات التكتيكية الجديدة التي شكلتها مصلحة الأمن الداخلي في إطار الحرب على الإرهاب، وكل من هذه الوحدات مزود بالبنادق من طراز إم-16، وبنادق الخرطوش، وقنابل يدوية من عيار 0,45، إلى جانب خمسمائة من العملاء الخصوصيين لمكتب التحقيقات الفيدرالي، وفريق من شرطة العمليات الخاصة الفيدرالية، والقناصين. كانوا قد قرروا إرسال القناصين إلى المدينة لإطلاق النار على مرتكبي النهب المسلحين. وأجرت كاثي عملية الجمع الحسابية، وانتهت إلى وجود ما لا يقل عن ثمانية وعشرين ألف سلاح ناري في نيو أورلينز. وذلك هو الحد الأدنى الذي يحسب عدد البنادق والمسدسات وبنادق الخرطوش.
لم تستطع مواصلة النظر، فأطفأت الكمبيوتر، وجعلت تمشي في الغرفة، واستلقت على السرير وهي تحدق في الحائط، ونهضت وذهبت إلى الحمام لتتأمل الشريط الجديد من الشعر الأبيض فوق رأسها.
ثم عادت فأدارت الكمبيوتر بحثا عن زوجها. كانت غاضبة كل الغضب منه، من عناده. لو أنه ركب معهم السيارة وحسب! لم لم يخضع للمنطق نفسه الذي أدركه مئات الآلاف من الناس؟ كان لا بد أن يختلف؛ كان لا بد أن يفعل المزيد؛ كان لا بد أن يفعل شيئا آخر.
ووجدت الإيميل الذي أرسله أحمد إلى هيئات البحث عن المفقودين، أصبحت الصور التي أرفقها هي صور زوجها الوحيدة التي بقيت لها، أو الصور الوحيدة التي كانت لديها في فينيكس على أي حال. كانت قد التقطت قبل عام واحد، في مالقة. كان قد ذهب أفراد الأسرة جميعا إلى مالقة وأخذت الصورة على الشاطئ بالقرب من منزل أحمد، وعندما شاهدت كاثي ذلك الشاطئ لم تستطع أن تفكر إلا في النزهة، تلك النزهة الجنونية التي أصر زوجها على قيامهما بها. ولو كانت ذاكرتها تحمل ما يرمز إلى ذلك الرجل، فإنها ذكرى ذلك اليوم. •••
كانت الأسرة قد أمضت عدة أيام في مالقة عندما شعر الأطفال الأكبر سنا بالراحة في منزل أحمد وأنطونيا، وأسعدهم البقاء في المنزل في الصباح، وكان زيتون يريد أن يصحب كاثي وصفية للتريض على الشاطئ، وقضاء بعض الوقت على انفراد، وأما زخاري ونديمة وعائشة، فكانوا يتسامرون مع لطفي وليلى، ويلهون في حمام السباحة خلف المنزل، ولم يكادوا يلحظون مغادرة والديهم مع صفية.
وسار زيتون مع كاثي على الشاطئ، وزيتون يحمل صفية، وقطعا نحو ميل على رمال الشاطئ، والماء بارد وهادئ، وكانت كاثي تشعر برضى لم تشعر به منذ سنوات، كانت النزهة تبدو عطلة حقيقية، وزوجها يبدو فعلا هادئ البال، مثل الفرد السوي الذي يقضي عطلة فعلية، كانت مشاهدته على هذه الحال، ماشيا على الشاطئ دون أي سبب حقيقي، لمجرد الإحساس بالمياه بين أصابع قدمه، قد كشفت لها عن جانب منه نادرا ما كانت تراه.
ولكن ذلك لم يدم طويلا؛ إذ ما كادت تلحظ طمأنينته وإحساسه بالفراغ، حتى رأته يركز بصيرته على شيء ما في الأفق.
وسألها: «ترين ذلك؟»
وهزت رأسها، لم تكن تريد أن تبصر ما أبصر. «تلك الصخرة. هل ترينها؟»
كان قد لاحظ وجود تكوين صخري صغير في الأفق، داخل في البحر بعد عدة أميال على امتداد الساحل، وحبست كاثي أنفاسها؛ خوفا من أي أفكار قد تتشكل في ذهنه.
قال لها: «فلنذهب إليها!» وقد أشرق وجهه وبرقت عيناه.
لم تكن كاثي تريد أن تقصد مكانا معينا بل أن تتنزه. كانت تريد نزهة تجلس بعدها على الشاطئ، وتلعب مع ابنتها، ثم تعود إلى منزل أحمد. كانت تريد عطلة، ألا تفعل شيئا، بل أن تلهو وتلعب.
قال: «هيا بنا! الجو صحو وليست الصخرة بعيدة.»
سارا تجاه الصخرة، كانت المياه ممتعة، والشمس حانية، ولكنهما لم يكونا قد اقتربا اقترابا ملموسا بعد السير ثلاثين دقيقة. كما مرا بلسان منخفض ممتد في البحر يفصل قسما من الشاطئ عن القسم التالي. بدا لها ذلك خير موقع يبدآن عنده العودة، واقترحت كاثي ذلك، لكن زيتون استبعده دون مناقشة.
قال: «لقد اقتربنا كثيرا!»
لم يكونا قد اقتربا كثيرا، لكنها اقتفت آثار زوجها وهو يصعد الصخر، حاملا صفية بإحدى يديه، ثم يهبط من حافة النتوء الوعر إلى القسم التالي من الشاطئ.
وقال عندما هبطا إلى الرمال المبللة: «أرأيت؟ لقد اقتربنا كثيرا!»
وواصلا المسير، بعد أن نقل صفية إلى كتفيه، وسارا ميلا آخر؛ وإذ بالشاطئ يعترضه نتوء صخري آخر، فصعدا فوقه أيضا، وعندما هبطا إلى الأرض المنبسطة لم تكن الصخرة عند الأفق تبدو أقرب مما كانت عند بداية السير، ولكن زيتون لم يقلق.
كانا قد قضيا ساعتين في هذه المسيرة عندما اعترض الشاطئ لسان أرضي أطول، وكان ضخما، أتاح للناس أن يقيموا فوقه المنازل والحوانيت. كان عليهما أن يصعدا درجا خلال طرق هذه البلدة الصغيرة، وأصرت كاثي على التوقف لشرب الماء أو تناول المثلجات، فشربت كفايتها، ولكنهما لم يتوقفا طويلا؛ إذ سرعان ما استأنف المسير، ولم يكن لديها خيار إلا أن تتبعه، وهرولا هابطين على الدرج إلى الجانب الآخر لمواصلة السير على الشاطئ، ولم يخفض زيتون من سرعته قط، ولم يكن يبدو أنه يتفصد عرقا.
قال: «لقد اقتربنا كثيرا!» مشيرا إلى الصخرة عند الأفق، وهي التي لم تكن تبدو أقرب مما كانت.
وقالت: «الواجب أن نعود، ما الغاية؟»
وقال: «لا لا يا كاثي! لا يمكن أن نرجع حتى نلمسها.» وكانت تعرف أنه سوف يصر على أن تفعل ما يفعل. كان دائما يريد مصاحبة أسرته له فيما ينشد.
لم يكن يبدو على زيتون أي من علامات الإرهاق، بل كان ينقل صفية من ذراع إلى ذراع، وقد غلبها النعاس، ويواصل السير.
كانا قد صارا لمدة أربع ساعات كاملة، وصعدا فمرا من خلال ثلاث بلدات بنيت على التلال ثم هبطا، وقطعا مسافة خمسة عشر ميلا على الشاطئ قبل اقترابهما أخيرا من الصخرة إلى الحد الذي يتيح لهما لمسها.
لم يكن منظرها باهرا، بل كانت مجرد جلمود صخري ناتئ في البحر. وعندما وصلا أخيرا إليها ضحكت كاثي، وضحك زيتون أيضا، وبرقت عينا كاثي ، وابتسم زيتون لها ابتسامة شقاوة طفولية، كان يعرف أن ما يفعلانه عبث.
قال: «هيا يا كاثي! فلنلمس الصخرة!»
فسارا إليها وصعدا بسرعة إلى قمتها، وجلسا هناك عدة دقائق يستريحان، وهما يشاهدان الأمواج تتكسر على الصخور تحتهما. وعلى الرغم مما كانت تشعر به كاثي من سخف الجهد المبذول وهما في الطريق إليها، فقد أحست كاثي الآن بالسعادة. كانت قد تزوجت رجلا صلب الإرادة، وقد يكون أحيانا عنيدا إلى حد يثير الضحك. وقد يدفعها أحيانا إيمانه بالقدر إلى الحيرة ونفاد الصبر. كانت تعرف أنه إذا عقد العزم على تحقيق شيء ما، ولو كان فكرة مجنونة، مثل لمس صخرة ما تبعد عنه أميالا كثيرة، فلن يستريح حتى يحققه، كان أمرا يذهب العقل، بل غريبا، ولكنها كانت تقول في نفسها إنه يمنح زواجهما نطاقا ملحميا معينا، وكانت تعرف أنه من البلاهة التفكير بهذا الأسلوب، ولكنهما يقومان برحلة معا تبدو لعينها أحيانا ذات جلال، فلقد نشأت وترعرعت في بيت صغير في باتون روج، مع تسعة أشقاء، وأصبح لها الآن، مع زوجها أربعة أطفال ينعمون بحياتهم، وزارت إسبانيا وسوريا، وتستطيع فيما يبدو تحقيق أي الأهداف التي يحلمان بها.
وقال من جديد: «هيا! المسيها!»
كانا يجلسان فوقها، لكنها لم تكن «رسميا» قد لمستها.
فلمستها وابتسم وأمسك بيدها.
وسألها: «أليست لطيفة الملمس؟!»
وبعد ذلك غدت هذه فكاهة بينهما، فكلما بدا لكاثي أن أمرا ما عسير، وكانت على شفا اليأس، كان زيتون يقول: «المسي الصخرة يا كاثي! المسي الصخرة!»
فيضحكان، وعندها تجد القوة اللازمة للاستمرار، وكانت تعتمد في ذلك، إلى حد ما، على منطق غريب إذ تسأل نفسها: أليس اليأس أشد عبثا؟ أليس الاستمرار أقل عبثا من الفشل، من النكوص؟
الإثنين 19 من سبتمبر
استيقظت كاثي وهي تشعر بأنها حققت نوعا جديدا من السكينة، كانت تحس أنها قوية، وأنها على استعداد للشروع في التخطيط، كانت تشعر بأنها ظلت مشلولة على مدى أسبوعين في انتظار خبر عن زوجها، ولكن ذلك كان حمقا، وأحست بالحاجة إلى أن تعود إلى بيتها، إلى المنزل في شارع دارت، وداهمتها ثقة مفاجئة بأنها سوف تجد زوجها هناك. كانت أسرته في سوريا على حق، لم يكن ثمة أخطر من تلك العصابات الجوالة، كان ذلك أعقل ما قيل، فعندما خلت المدينة من سكانها ازداد السلب والنهب وقاحة، على الأرجح، واجتاح أحياء أخرى في الضواحي، لا بد أن اللصوص أتوا إلى المنزل في شارع دارت، ولم يكونوا يتوقعون وجود أحد فيه فقتلوا زوجها.
كانت تحتاج إلى العودة إلى نيو أورلينز، واستئجار زورق من نوع ما، كي تعود إلى المنزل في شارع دارت، كانت تحتاج إلى رؤيته، في أي مكان كان، كانت تحتاج إلى أن تعثر عليه وتدفنه، كانت تريد أن ينتهي كل ذلك.
كانت تشعر طيلة الصباح بأمن من نوع جديد، كانت تقول في نفسها: إن الوقت حان للجد، للتوقف عن الأمل، وللشروع في العمل استعدادا لأي شيء يأتي به المستقبل. •••
وعند الظهيرة سمعت كاثي أن إعصارا آخر، وكان يدعى «ريتا» هذه المرة، يتجه إلى نيو أورلينز. وهكذا ألغى العمدة ناجين الخطط التي كان قد وضعها لإعادة فتح المدينة، وكانت العاصفة قد رصد مسارها فوق الخليج وتتجاوز سرعة الرياح فيها 150 ميلا في الساعة، وكان المتوقع وصولها يوم 21 من سبتمبر. وقالت كاثي في نفسها إنها حتى لو تمكنت من الوصول إلى مقربة من نيو أورلينز فسوف تردها الرياح على أعقابها.
ودخلت نديمة غرفة الجلوس.
وسألت: «أينبغي أن نصلي؟»
وكادت كاثي أن تقول: لا - فلم تفعل غير الصلاة - لكنها لم ترد أن تخيب رجاء ابنتها.
فقالت: «قطعا. هيا بنا.»
وأقامتا الصلاة على أرضية غرفة الجلوس، وبعدها قبلت جبين نديمة، واحتضنتها، وقالت في نفسها: «سوف أعتمد كثيرا عليك. مسكينة يا نديمة! فأنت لا تعرفين.»
ثم رن تليفون كاثي الخلوي، فالتقطته وقالت: «مرحبا.»
وسألها صوت رجل: «هل هذه مدام زيتون؟» كان يبدو متوترا، وأخطأ في نطق اسم «زيتون»، وشعرت كاثي بالهلع لكنها تمكنت من أن تقول: نعم.
وقال الرجل: «شاهدت زوجك!»
وجلست كاثي، كانت صورة جثة زيتون طافية في المياه القذرة ...
وقال الصوت : «إنه بخير، وهو في السجن، أنا أعمل بالتبشير . كنت في «هنت»، السجن الموجود في سانت جابريل. وهو هناك. وأعطاني رقم تليفونك.»
وسألته كاثي عشرة أسئلة مرة واحدة. «آسف، ذلك كل ما أعرفه. لا أستطيع أن أخبرك بأي شيء آخر.»
وسألته كيف يمكنها الوصول إلى زيتون، وإذا كان يلقى الرعاية اللازمة. «اسمعي! لا أستطيع أن أحادثك بعد هذا. وإلا واجهت المتاعب. إنه بخير، وهو هناك. هذا كل شيء. لا بد أن أذهب.»
وقطع المكالمة.
الفصل الرابع
الثلاثاء 6 من سبتمبر
كان زيتون يستمتع بالماء البارد في أول مرة يستحم فيها منذ أكثر من أسبوع. كان يعرف أن المياه يمكن أن تنقطع إلى الأبد في أي لحظة، فتمهل عدة ثوان أخرى بعد انتهاء الحمام.
لكنه كان متأهبا للرحيل. كان السكان يخلون الأحياء من حوله، ولن ينقضي وقت طويل حتى لا يجد من يطلب المساعدة، ولا يكاد يبقى شيء يشاهده. جعل يتساءل متى، وكيف يرحل. ربما بعد أيام معدودة يستطيع أن يتجه إلى نقطة الغوث عند تقاطع شارعي نابليون وسانت تشارلز، ويسأل الموظفين وعمال الإغاثة هناك عن وسيلة الخروج من المدينة. كل ما يحتاج إليه هو الذهاب إلى المطار في نيو أورلينز أو باتون روج، ثم يستقل الطائرة إلى فينيكس. لم يعد لديه ما يشغله في هذه المدينة؛ فمخزونه في الطعام تناقص، وكان يفتقد كاثي والأطفال. كان الوقت قد حان.
وهبط إلى الطابق السفلي.
وقال لناصر: «الحمام جاهز لك.»
واتصل زيتون بأخيه أحمد في إسبانيا.
وسأله أحمد: «هل تدرك أي صور نراها في التليفزيون؟!»
وبينما كانا يتحدثان، سمع صوت ناصر من مدخل المنزل، كان يحادث شخصا ما خارج المنزل.
ونادي ناصر: «زيتون!»
وقال زيتون: «ماذا؟»
فقال ناصر: «تعال هنا. هؤلاء يسألون إن كنا بحاجة إلى الماء.»
وأنهى زيتون المكالمة وسار نحو الباب.
وقابل الرجال زيتون في بهو المدخل. كانوا يرتدون أزياء رسمية مختلطة من الشرطة والجيش. أردية المهام الصعبة، وصديريات واقية من الرصاص، وكان معظمهم يلبسون نظارات شمسية، ولدى كل منهم بندقية من الطراز إم-16 ومسدسات. وسرعان ما ملئوا البهو، كان عدد الأسلحة النارية البارزة لا يقل عن عشرة.
سأله أحدهم: «من أنت؟»
فقال زيتون: «أنا المالك. أمتلك هذا المنزل.»
واتضح لزيتون الآن أنهم ستة أشخاص، خمسة منهم من ذوي البشرة البيضاء، وامرأة أمريكية من أصول أفريقية. كان من الصعب التحقق من أزيائهم الرسمية تحت واقي الرصاص. هل كانوا من الشرطة المحلية؟ كانت المرأة الفارعة الطول ترتدي الزي العسكري المخصص للتمويه، كانت على الأرجح من الحرس الوطني، وكانوا جميعا يتطلعون إلى شتى أرجاء المنزل كأنما استطاعوا أخيرا أن يشاهدوا ما بداخل منزل كانوا يراقبونه من مسافة بعيدة. كانوا متوترين، وإصبع كل منهم على زناد سلاحه. وفي المدخل، كان أحدهم يفتش روني، وأرغم آخر ناصرا على الوقوف أمام الحائط.
وقال أحدهم لزيتون: «أعطني بطاقتك الشخصية.»
فأعطاها زيتون له، وتناول الرجل البطاقة وأعادها إلى زيتون دون أن ينظر فيها.
وقال: «اركب القارب!»
واحتج زيتون قائلا: «لم تفحص البطاقة!»
وصرخ رجل آخر: «تحرك!» •••
ودفع زيتون نحو الباب الأمامي، وكان الرجال الآخرون قد ساقوا روني وناصرا إلى سفينة مروحية هائلة الحجم. كانت سفينة حربية أكبر من أي سفينة أخري شاهدها زيتون أثناء العاصفة، وكان رجلان على الأقل يصوبان البنادق الأتوماتيكية إليهما.
وفي هذه اللحظة وصل زورق آخر. وكان تود يقوده، بعد انتهائه من جولات الإنقاذ.
وسأل: «ماذا يحدث هنا؟»
وقال أحد الرجال: «من أنت؟»
وأجاب تود: «إني أقيم هنا، ولدي البرهان، إنه داخل المنزل.»
وقال الرجل: «اركب السفينة!»
ولم يكن زيتون مذعورا؛ إذ كان يعرف أن المسئولين يقومون بإخلاء المدينة بالقوة، وتصور أن ما يحدث له علاقة بذلك. وكان يعرف أن المسألة سوف تسوى مهما يكن المكان الذي كانوا يساقون إليه، لم يكن يحتاج إلا إلى الاتصال بكاثي حتى تقوم بتوكيل أحد المحامين.
ولكن رقم تليفون يوكو في المنزل، وكان بجوار التليفون على منضدة البهو، وإن لم يحصل عليه الآن، فلن يستطيع الاتصال بكاثي. ولم يكن قد حفظ الرقم.
وقال لأحد الجنود: «لا تؤاخذني. لقد تركت قصاصة ورق على هذه المنضدة. إن بها رقم تليفون زوجتي . وهي في أريزونا. وهو الوسيلة الوحيدة ...» وتقدم تجاه المنزل، مبتسما في أدب. كان ذلك الرقم كل شيء، كانت تلك القصاصة تبعد عنه خمس عشرة قدما.
وصرخ الجندي: «لا!» وقبض على ظهر قميص زيتون، وأداره ودفعه إلى السفينة.
وظل الأسرى الأربعة واقفين في السفينة، محاطين بستة أفراد عسكريين، وحاول زيتون أن يحدس من كانوا، ولكن الأدلة كانت قليلة. كان اثنان أو ثلاثة منهم يلبسون ملابس سوداء، لا تعلوها أي بطاقات ظاهرة أو شارات واضحة.
لم يتكلم أحد، وكان زيتون يعرف أن عليه ألا يتسبب في تفاقم الموقف، وتصور أنه حين تجري مقابلتهم مع أحد رؤساء هؤلاء، فسوف تنجلي الحقيقة، لا بد أنهم سوف يوبخون بسبب بقائهم في المدينة بعد أن بدأ تنفيذ أمر الإخلاء الإجباري لها، ثم يرسلون إلى الشمال في أتوبيس أو طائرة عمودية. وقال في نفسه: إن كاثي سوف يهدأ خاطرها حين تسمع أنه بدأ خطوات الرحيل من المدينة، أخيرا.
وأسرعت السفينة في شارع كليبورن ثم نابليون حتى غدت المياه ضحلة عند تقاطع شارع نابليون وسانت تشارلز.
وأوقف الربان محرك السفينة، وتركها تبطئ حتى ترسو ناحية التقاطع. كان في ذلك المكان اثنا عشر رجلا يرتدون الأزياء الرسمية للحرس الوطني. وانتبهوا جميعا لما يحدث، وتطلع عدد قليل من رجال آخرين يلبسون صديريات واقية من الرصاص، ونظارات شمسية، وقبعات سوداء إلى القادمين. كانوا ينتظرونهم.
وفي اللحظة التي سيق زيتون والثلاثة الذين معه فيها خارج السفينة، انقض عليهم أكثر من عشرة جنود، فوثب رجلان يلبسان واقي الرصاص على زيتون وطرحاه أرضا، فدفن وجهه في الكلأ المبتل، واضطر إلى بصق ما دخله من الطين، وكانت ركبة أحدهما فوق ظهره، ويداه فوق ساقي زيتون. وشعر كأن من فوقه ما لا يقل عن ثلاثة رجال يرغمونه بكل قوتهم على الثبات على الأرض، على الرغم من أنه لم يتحرك ولم يقاوم، ثم شد ذراعاه خلف ظهره، وقيدتا بأربطة من البلاستيك، وربطت ساقاه معا، وفي غضون ذلك كله كان الرجال يصدرون الأوامر بصوت مرتفع قائلين: «اثبت في مكانك!» «ابق كما أنت يا ابن الداعرة!» «لا تتحرك أيها القذر!» ومن طرف عينيه كان يرى الثلاثة الآخرين - ناصرا وتود وروني - منطرحين على الأرض ووجوههم في الرغام، وركب الرجال فوق ظهورهم، وأيدي الرجال فوق أعناقهم. كان المصورون يلتقطون الصور، والجنود يرقبون ما يجري، وقد وضع كل منهم إصبعه على زناد سلاحه. •••
وكافح الرجال الأربعة لاستعادة توازنهم وأرجلهم مقيدة أثناء رفعهم، ودفعهم في شاحنة ضخمة بيضاء. جلسوا على مقعدين خشبيين داخلها يواجه بعضهم بعضا، لم يتكلم أحد، ودخل أحد الجنود فجلس في مقعد السائق، وبدا أن وجهه منشرح، فجازف زيتون بسؤاله.
قال زيتون: «ما الذي يحدث هنا؟»
قال الجندي: «لا أدري. فأنا من إنديانا.»
وانتظروا ثلاثين دقيقة في الشاحنة، كان زيتون يستطيع متابعة ما يجري خارجها؛ جنود يتحدثون بنبرات توحي بالعجلة بعضهم مع بعض وفي أجهزة اللاسلكي. كان ذلك الموقع تقاطعا حافلا بالحركة يمر به في كل يوم. واستطاع أن يرى مطعم كوبلاند، الذي كثيرا ما تناول الطعام فيه مع أسرته على ناصية الشارع، أصبح الآن موقعا عسكريا، وكان زيتون أسيرا، وتبادل النظرات مع تود، كان تود يحب التفكه، وسبق له أن خرق القانون مرة أو مرتين، وهكذا فقد كان، حتى في المقعد الخلفي لشاحنة عسكرية، يبدو كمن يجد فيما حدث ترفيها، فكان يهز رأسه ويدير عينيه دهشة.
وتذكر زيتون الكلاب التي كان يطعمها، ولفت إلى ذلك نظر أحد الجنود الذين يمرون وراء ظهر الشاحنة المفتوحة.
قال زيتون: «كنت أطعم الكلاب. هل أعطيك العنوان فتخرجها وتنقلها إلى مكان؟»
فقال الجندي: «قطعا. سوف نعتني بها.»
فسأله زيتون: «هل أعطيك العنوان؟»
فقال الجندي: «لا، أعرف مكانها!» ومضى في طريقه.
وانطلقت الشاحنة في اتجاه وسط المدينة.
وتساءل تود بصوت عال: «نحن ذاهبون إلى القبة الكبيرة؟»
وعلى بعد شوارع معدودة من الاستاد، وقفت الشاحنة في مدخل للسيارات على شكل هلال بمحطة المسافرين الاتحادية في نيو أورلينز، ملتقى قطارات شركة أمتراك، الداخلة والخارجة، موقف الأتوبيسات السريعة التي تربط المدن. وبدا لزيتون أنه كان على حق في تصور أنهم كانوا يجلون بالقوة من المدينة، وأحس بالارتياح فاضطجع في مقعده، قال في نفسه إنهم أخطئوا حين لم يسمحوا له باصطحاب أي منقولات يملكها، وأحس أن معاملة جنود الشرطة والجيش كانت تتسم بالخشونة، وإن كانت النتيجة سوف تكون بسيطة ومنصفة، ظانا أنهم ينقلون بالأتوبيس أو بالقطار إلى خارج المدينة.
كان زيتون سبق له أن استقبل أصدقاءه وأقاربه وأوصلهم إلى المحطة بضع مرات على مر السنين. وكانت تلك المحطة تتميز بفناء أمامي يكسوه الكلأ ويعلو فيه النخيل، كانت قد افتتحت في عام 1954، وكانت آنذاك مبنى من طراز «آرت-ديكو» يطمح إلى الإيحاء بالجلال، ولكن إرهاق روتين المحليات لها صبغها على مر السنين بلون أغبر. وكان يقوم في الفناء الأمامي تمثال بلون «غزل البنات» يفصح عن نزوة نحات طارئة؛ إذ كان يشبه مجموعة من لعب الأطفال ألصقت معا دون مبرر ودون نظام. وعلى مبعدة بضعة شوارع كانت تلوح القبة الكبيرة.
وحين تباطأت شاحنتهم بجانب المبنى، شاهد زيتون سيارات الشرطة والعربات العسكرية، كان رجال الحرس الوطني يذرعون المنطقة في دوريات منتظمة. لقد أصبحت المحطة قاعدة عسكرية من لون ما، وشاهد بعض الأفراد غير عابئين، يتحدثون بلا غاية بجوار عربة جيب، يدخنون. ولكن أفرادا آخرين كانوا يقومون بالحراسة كأنما يتوقعون وقوع حصار في أي لحظة.
وتوقفت الشاحنة عند باب المحطة الجانبي، وأخرج الأسرى من الشاحنة وسيقوا إلى داخل المحطة. وعندما دخل زيتون والآخرون الحجرة الرئيسة للمحطة، تطلعت خمسون زوجا من العيون إليهم فورا، عيون الجنود ورجال الشرطة وأفراد الجيش، لم يكن بداخلها من المدنيين غيرهم، كان يبدو كأنما دبرت هذه العمليات كلها - أي تحويل محطة الأتوبيس إلى قاعدة عسكرية - من أجلهم.
كان قلب زيتون يدق بعنف. لم يشاهدوا أي مدنيين أو عاملين بالمستشفى، أو رجال تقديم المساعدة الإنسانية على نحو ما كان شائعا في مواقع انطلاق المسافرين، مثل موقع تقاطع شارعي نابليون وسانت تشارلز. كان هذا الموقع مختلفا، كان عسكريا تماما، والتوتر سائدا.
وقال تود : «هل يسخرون منا؟ ماذا يحدث بحق الشيطان؟»
وأجلس الرجال الأربعة على مقاعد من النوع الذي يطوي بالقرب من شباك تذاكر شركة أتوبيس المدن، ومع كل دقيقة تمضي كان كل من في محطة الأتوبيس يزداد اهتماما، فيما يبدو، بزيتون وناصر وتود وروني.
وحولهم في كل مكان كان رجال يرتدون الزي الرسمي من شرطة نيو أورلينز، وجنود الحرس الوطني، وحراس السجن الذين ألصقت شارات تحمل عبارة مصلحة سجون لويزيانا على أزيائهم، وأحصى زيتون ما يقرب من ثمانين فردا، وما لا يقل عن اثتني عشرة بندقية هجومية من مساحة نصف قطرها ثلاثون قدما. وكان شرطيان يحرسان المكان ومعهما كلبان، وكان كل منهما يقبض بإحكام على المقود.
ورفع تود من مقعده وسيق إلى مكان شباك تذاكر القطارات على الجدار. وأحاط شرطيان به من الجانبين، وبدأ شرطي ثالث من الناحية الأخرى من شباك التذاكر يستجوبه. وظل الرجال الثلاثة الآخرون جالسين، ولم يستطع زيتون أن يستمع إلى الاستجواب.
كان الجنود والحراس القريبون منهم متوترين. وعندما تململ ناصر في مقعده سمع عبارات التقريع من فوره: «اجلس ساكنا. عد إلى وضعك الأول.»
وقاوم ناصر أول الأمر.
قالوا: «لا تتحرك! ضع يديك حيث أراهما.»
وتفحص زيتون ما يحيط به، كانت المحطة لا تزال كما هي من عدة زوايا جوهرية؛ فكان حانوت محطة المترو لا يزال قائما، وشتى أماكن قطع التذاكر، وكشك الاستعلامات، ولكن المحطة لم يكن بها مسافرون، لم يكن بها سوى رجال ونساء مسلحين، مئات من صناديق زجاجات الماء، وغيرها من المؤن مكدسة في الأبهاء، إلى جانب زيتون وزملائه السجناء.
كان تود يجادل الذين يحققون معه، كانت تصل إلى مسامع زيتون شذرات عالية من الجدل أثناء استمرار الاستجواب عند شباك التذاكر. كان تود دائم الحماسة في الأيام العادية؛ ولذلك لم يدهش زيتون حين بلغت إثارته ذروة جديدة أثناء التحقيق.
سأل تود: «هل تتاح لنا فرصة مكالمة تليفونية؟»
وقال الشرطي: «لا.» «لا بد أن تتيحوا لنا مكالمة تليفونية.»
ولم يجب الشرطي.
ورفع تود صوته، ودارت عيناه غيظا، فاقترب منه الجنود المحيطون به، وهم يصرخون محذرين مهددين.
وسأل أحد الجنود الذين مروا به: «ما سبب وجودنا هنا؟»
وقال الجندي: «أنتم أيها الرجال من القاعدة!»
وضحك تود ساخرا ولكن زيتون أصابه الذعر. من المحال أنه سمع ما سمع!
لطالما كان زيتون يخشى قدوم هذا اليوم، وفي كل مرة كان رجال الشرطة يستوقفونه بسبب مخالفة مرورية، كان يعرف أنه قد يتعرض للمضايقات، وسوء الفهم، والاشتباه في قيامه بمعاملات مريبة، وهي الأفكار التي قد تونع في مخيلة أي رجل من رجال الشرطة. كان يعرف هو وكاثي أن مخيلات الكثيرين تشطح بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 شطحات لا حد لها، وأن الزعم بوجود «خلايا نائمة» - أي وجود من سوف يصبحون إرهابيين، ويقيمون في الولايات المتحدة ينتظرون الانقضاض أعواما أو عقودا - معناه أن كل شخص في مسجدهم، أو المسجد كله نفسه، ربما كان ينتظر وصول التعليمات من زعماء مفترضين في تلال أفغانستان أو باكستان.
كان القلق يساوره هو وكاثي من نطاق عمل وزارة الأمن الداخلي، واستعدادها للاتصال بأي فرد ولد في الشرق الأوسط أو له صلة بالشرق الأوسط، فلقد تعرض كثير من أصدقائهما المسلمين للاستجواب، وأرغموا على إرسال الوثائق الشخصية وتوكيل المحامين. ولكن حظ زيتون كان حسنا حتى الآن، فلم يتعرض يوما ما لرصد سيرته وأحواله، ولم يتعرض للاشتباه في قيامه بأي شيء، من جانب أي شخص يتمتع بسلطة حقيقية. كان أحيانا ما يتعرض للنظر إليه شزرا بطبيعة الحال، وألوان السخرية من الذين يسمعون لهجته في نطق الإنجليزية. وهكذا قال في نفسه ربما كان هذا مجرد جندي واحد، جاهل أو قاس، يريد إثارة المتاعب. وقرر زيتون تجاهل ما قاله الجندي.
ومع ذلك فقد استيقظت حواس زيتون، فأخذ يفحص الغرفة بعينيه باحثا عن دلائل أخرى، كان لا يزال يخضع مع الثلاثة الآخرين لمراقبة العشرات من الجنود ورجال الشرطة، كان يشعر كأنه حيوان غريب، قنيصة صياد!
وبعد لحظات مر جندي آخر، نظر إلى زيتون، وغمغم قائلا: «طالبان!»
وعلى الرغم من رغبته الشديدة في تجاهل هذين التعليقين، فإنه لم يستطع ذلك، فقد تأكد له الآن وجود سوء تفاهم خطير، وأن فك خيوطه وإثبات خطئه سوف يستغرقان أياما كثيرة. كان تود يصيح ويصخب، ولكن زيتون كان يعرف أن ذلك لن يأتي بخير، وأما مسألة براءتهم أو إدانتهم فلن يبت فيها في هذه الغرفة، ولا في أي وقت قريب.
واعتدل في جلسته وانتظر.
كانت أمامه قبوة في الجدار اصطفت فيها آلات بيع بعض الأشياء وألعاب الفيديو، وكانت فوق الآلات لوحة جدارية تمتد داخل المحطة كلها، وتشغل أقسامها الطويلة الأربعة النصف العلوي كله من الجدران الرئيسة للمحطة.
كان طول اللوحة الكلي يبلغ نحو 120 قدما، وكانت تحاول تصوير تاريخ ولاية لويزيانا بصفة خاصة، وتاريخ الولايات المتحدة بصفة عامة. وتطلع زيتون إليها، وعلى الرغم من أنه جاء إلى المحطة من قبل، فلم يكن قد شاهد هذه اللوحة قط من قبل، وأدرك وهو يبصرها الآن أنها لوحة مثيرة، سجل حالك من إخضاع الآخرين وكفاحهم. كانت الألوان كالكوابيس، والخطوط مسننة، والصور مقلقة. شاهد أغطية رءوس جماعة «كو كلوكس كلان» والهياكل العظمية التي لديهم، وأشكال مهرجيهم بألوان صارخة، ووجوها طليت بألوان شتى، وشاهد فوقه مباشرة أسدا يهاجمه عقاب عملاق من الذهب، إلى جانب صور لجنود في أردية زرقاء زاحفين إلى الحرب بجوار مقابر جماعية. وكانت اللوحة تضم كذلك صورا كثيرة لإخضاع الشعوب أو إبادتها - مثل الأمريكيين الأصليين، والعبيد، والمهاجرين - وكانت دائما بالقرب منها صور الذين يحضون على ذلك: الأرستقراطيين الأغنياء الذين يلبسون شعرا مستعارا نثرت فوقه البودرة، والجنرالات بأزيائهم الرسمية البراقة، ورجال الأعمال حاملين أكياسا من النقود. وفي أحد أقسام اللوحة برزت منصة استخراج بترول بحرية، ومن فوقها أرض غمرها الفيضان، ومدينة اكتسحتها المياه.
وجرى التحقيق مع ناصر بعد ذلك، فاقتيد إلى مكتب التذاكر، واستطاع زيتون أن يرى أنهم يسجلون بصمات أصابعه ويصورون كل بصمة.
وبعدها بدأ استجواب ناصر فورا، وأثارت الحقيبة الرياضية التي يحملها ضجة؛ إذ جعلت شرطية تخرج منها رزما من النقود الأمريكية.
وقالت: «ليست هذه من هنا!»
واشتبك ناصر معها في مجادلة لم تنجح إلا في زيادة استثارة من في المبنى.
عادت تقول : «هذه ليست قطعا من هنا!» وقد ازداد يقينها.
ووضعت النقود على منضدة قريبة وسرعان ما اجتذبت حشدا حولها، وقام أحدهم بعدها. كانت عشرة آلاف دولار.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يعرف زيتون فيها ما كان في الحقيبة، فعندما أتى بها ناصر إلى القارب، كان زيتون يتصور أن بها ملابس وبضعة أشياء ثمينة. كان من المحال أن يحدس أن فيها 10000 دولار نقدا. •••
وسرعان ما تلت ذلك اكتشافات أخرى؛ إذ كان تود يحمل 2400 دولار يملكها، قام رجال الشرطة برصها على المنضدة في كومة تجاور نقود ناصر، وفي جيب تود وجدوا صورا لبعض الخرائط.
وحاول تود أن يفسر وجودها قائلا: «إنها تساعدني في توصيل الأمتعة.»
ولكن ذلك التفسير لم يرض رجال الشرطة.
وفي أحد جيوب تود وجدوا شريحة ذاكرة صغيرة، من النوع المستخدم في آلات التصوير الرقمية. وضحك تود موضحا أن عليها صورا ملتقطة للأضرار التي أحدثها الطوفان، ولكن السلطات وجدت لها دلالات أبعد من ذلك.
ولما شاهد زيتون تكاثر الأدلة فوق المنضدة، انكمش في جلسته، كانت معظم الأجهزة المحلية قد توقفت عن العمل، ولم يكن في المحطة محامون ولا قضاة، وشعر زيتون بأنهم لن يستطيعوا الخروج من هذه الأزمة مهما قالوا. كان الجنود ورجال الشرطة في الحجرة مهتاجين اهتياجا لا تهدئه الألفاظ، والأدلة تثير علامات استفهام تستعصي على الإجابة، ووطن زيتون نفسه على انتظار لا بد أن يطول.
وأما تود فكان ضيق صدره يشتد؛ إذ يهدأ لحظة ثم يعود إلى الانفجار، وأخيرا رفع أحد الجنود ذراعه كأنما ليلطمه بظاهر يده، فصمت تود.
وبعدها جاء دور التحقيق مع زيتون، سيق إلى شباك تذاكر القطار وسجلت بصماته، ثم دفع إلى جدار قريب رسمت عليه علامات الطول بخط اليد، من خمس أقدام إلى سبع. كان زيتون قد وقف في هذا المكان من قبل ينتظر شراء تذاكر القطارات لأصدقائه أو موظفيه، أما الآن فكانت يداه مقيدتين، ويحرسه جنديان يحملان بندقيتين من طراز إم-16، وكانت صورته تلتقط.
وعند شباك التذاكر سلمهم حافظة نقوده، ثم تعرض للتفتيش بحثا عن أي ممتلكات أخرى، وطرحت عليه أسئلة أساسية عن اسمه وعنوانه وعمله وبلده الأصلي. ولم يخبره أحد بأي تهم موجهة إليه.
ثم سيق أخيرا إلى صف المقاعد وأجلس من جديد إلى جوار تود وناصر؛ ريثما يجري التحقيق مع روني.
وبعد لحظات قبض جندي بشدة على ذراعه من إبطه صائحا: «انهض!»
ونهض زيتون، وساقه ثلاثة جنود إلى غرفة صغيرة، كأنها دولاب لتخزين الأمتعة، ولم يكن فيها غير منضدة صغيرة من النوع الذي يطوى، وجدرانها عارية.
وأغلق الباب من خلفه، فأصبح وحده مع جنديين.
قال أحدهما: «اخلع ملابسك.»
فسأله زيتون: «هنا؟»
فأومأ الجندي موافقا.
لم يكن زيتون حتى هذه اللحظة قد اتهم بارتكاب أي جريمة، ولم يقرأ عليه أحد حقوقه، ولم يكن يعرف سبب احتجازه. وها هو ذا الآن في غرفة صغيرة بيضاء، ويأمره جنديان بخلع ملابسه، وكل منهم يرتدي حلة التمويه الحربي، ويحمل بندقية أتوماتيكية.
وصرخ أحدهما: «الآن!»
فخلع زيتون ال «تي شيرت» والشورت، وبعد لحظة خلع صندله.
وقال الجندي نفسه: «واللباس الداخلي!»
وتوقف زيتون. لو فعل ذلك فلن ينسى ذلك أبدا، ولن يتخلى العار عنه ما عاش، ولكنه لم يجد بديلا، يمكنه أن يرفض، لكنه لو رفض وقعت مشاجرة، وأتى المزيد من الجنود، وتعرض للانتقام بصورة ما.
وأمره الجندي: «هيا!»
وفعل زيتون ما طلب منه.
ودار حوله أحد الجنديين، وأخذ يرفع ذراعي زيتون أثناء الدوران، وكانت في يد الجندي عصا قصيرة، وعندما وصل إلى ظهر زيتون مر بها على داخل فخذ زيتون.
وقال الجندي: «أفسح ما بين ساقيك.»
وفعل زيتون ذلك. «المرفقان على المنضدة.»
ولم يستطع زيتون أن يفهم معنى الألفاظ.
وكرر الجندي تعليماته، وقد تهدج صوته صائحا: «ضع مرفقيك على المنضدة!»
لم يكن لدى زيتون خيار، كان زيتون يعرف أن الجنديين سيفعلان ما يريدان، كانا على الأرجح يبحثان عن أي سلع مهربة، لكنه كان يعرف أيضا أن كل شيء ممكن. لم يحدث في هذا اليوم شيء يتفق مع ما حدث من قبل.
وانحنى زيتون، وسمع أصوات ارتداء الجندي قفازا من البلاستيك، وأحس بأصابع الجندي تستكشف المستقيم بسرعة، كان الألم شديدا لكنه لم يلبث غير برهة قصيرة.
وقال الجندي: «قف!» ثم أردف وهو يخلع القفاز بصوت كالفرقعة: «البس ملابسك.»
وارتدى زيتون الشورت وال «تي شيرت»، ثم سيق إلى خارج الحجرة حيث شاهد تود. كان تود قد انخرط فعلا في مجادلات يتهدد الجميع فيها برفع القضايا عليهم وفقدانهم كل وظائفهم، وسرعان ما دفع الجنود تود إلى داخل الحجرة، وأغلق بابها، فكتم الباب الفولاذي أصوات اعتراضاته.
وعند اكتمال تفتيش تود، سيقا معا إلى محطة الأوتوبيس، وكان زيتون واثقا بأنه شاهد نظرات في بعض الوجوه تنم عن معرفة ما وقع، وجوه جنود ورجال شرطة يدركون ما حدث في الغرفة.
وسيق زيتون وتود إلى القسم الخلفي من المحطة في اتجاه الأبواب المؤدية إلى الأوتوبيسات والقطارات، واختلطت الأفكار في رأس زيتون. هل يمكن بعد كل هذا أن يكون القصد فعلا إجلاءهما من المدينة؟ ربما كان القصد من تجريدهما من الملابس ضمان عدم سرقتهما أي شيء، وبعد أن تأكدت براءتهما يساقان الآن إلى الأوتوبيس. كانت الفكرة غريبة، لكنها لم تكن خارج نطاق الاحتمال. •••
ولكن عندما فتح الحراس الأبواب شهق زيتون شهقة سريعة، كانت ساحة الانتظار التي يوضع فيها عادة أكثر من عشرة أوتوبيسات قد تحولت إلى سجن شاسع في الهواء الطلق.
كانت قد أقيمت أسوار من السلاسل التي تعلوها الأسلاك الشائكة، بحيث أصبحت تشكل قفصا طويلا يزيد ارتفاع أسواره على خمسة أمتار، ويمتد إلى مسافة تصل إلى نحو مائة متر داخل ساحة الانتظار. وكان للقفص سقف ناقص مثل الظلة التي تقام في محطات البنزين، وكانت الأسلاك الشائكة تعلو حتى تلتقي بذلك السقف.
وسيق زيتون وتود إلى مقدمة القفص التي لم تكن تبعد عن مؤخرة محطة الأتوبيس إلا ببضع أقدام، وفتح حارس آخر باب القفص، ودفعا إلى داخلها. وأغلق القفص ثم وضع له رتاج من السلاسل التي ربطت بقفل، وعلى مبعدة منها كان سجينان آخران، كل منهما في قفص مستقل.
وقال تود: «شيء لا يعقل!»
ولم يصدق زيتون ما يرى، لقد شهد سلسلة تذهب العقل من الأحداث؛ إذ قبض عليه تحت تهديد السلاح في منزل يملكه، وأحضر إلى قاعدة عسكرية مرتجلة أنشئت داخل محطة أوتوبيسات، واتهم بالإرهاب، وحبس في قفص في الهواء الطلق. لقد كان ذلك يتجاوز أقصى الروايات السيريالية التي سمعها عن تنفيذ القوانين في العالم الثالث.
وانطلق تود يسب ويلعن داخل القفص، لم يكن يستطيع تصديق ما حدث، لكنه تذكر أن ذلك كانت له سوابق، فأثناء احتفالات ثلاثاء المرفع، وامتلاء السجون المحلية بالسجناء، كان رجال شرطة نيو أورلينز كثيرا ما يحبسون السكارى واللصوص في سجون مؤقتة أقيمت داخل الخيام.
ولكن هذا السجن كان أكثر تنظيما، ولم ينشأ إلا بعد العاصفة، وعندما تفحصه زيتون اتضح له أنه لم يكن قفصا واحدا طويلا، بل سلسلة من الأقفاص الصغيرة المنفصلة. وكان قد شاهد أمثالها من قبل في عقارات العملاء الذين يربون الكلاب. وكان هذا القفص يشبهها؛ فهو حظيرة ذات سور واحد، مقسمة إلى حظائر أصغر. وعدها فوجدها تبلغ ست عشرة حظيرة. كانت تشبه بيتا ضخما من بيوت الكلاب، ولكنها تستدعي صورا أقرب وأشد ألفة في الذهن.
كانت تشبه بدقة الصور التي شاهدها لمعتقل خليج جوانتانامو، فعلى غرار ذلك المجمع، كان هذا السجن شبكة هائلة من الأسوار المنشأة من السلاسل التي لا تتضمن جدرانا كثيرة؛ الأمر الذي يتيح مشاهدة السجناء للحراس وبعضهم البعض، كما كانت في الهواء الطلق مثل جوانتانامو، ولم يكن يبدو أن بها أماكن للجلوس أو للنوم، كانت أقفاصا وحسب والأرضية المرصوفة بالأسفلت من تحتها.
وكانت مساحة القفص الذي وضع فيه زيتون وتود نحو خمسة أمتار في خمسة، وكانت خاوية إلا من مرحاض يمكن نقله من مكان لمكان، ولا باب له. وكان الشيء الآخر الوحيد في القفص عمودا من الفولاذ على شكل حرف «يو» (
U ) المقلوب، مثبتا بالأسمنت في الأرض المرصوفة مثل الأماكن التي تربط فيها الدراجات، وكان يستخدم عادة في إرشاد الأوتوبيسات المنتظرة في الساحة والركاب الواقفين صفوفا ، كان ارتفاعه يبلغ نحو 75سم، وعرضه نحو ثمانين سنتيمترا .
وفي مقابل قفص زيتون كان يوجد مبنى من طابقين، يوحي بأنه مكاتب شركة السكك الحديد. وكان الجنود يشغلونه الآن. وفوق سطحه كان يقف جنديان يمسكان ببنادق من طراز إم-16 ويحدقان في زيتون وتود في أسفل المبنى.
كان تود ثائرا غاضبا يرغي ويزبد محتجا. ولكن الحراس لم يكونوا يسمعون شيئا يذكر من ألفاظه. بل إن زيتون نفسه الذي يقف قريبا منه لم يكن يسمع إلا شذرات غير واضحة. لم يكن زيتون يدرك قبل هذه اللحظة وجود صوت ما، طنين آلة ضخمة، يلف الهواء حولها. كان الصوت منتظما لا يتغير إلى الحد الذي جعله لا يدرك وجوده من قبل.
واستدار زيتون فتبين له مصدر الضجيج، كانت مؤخرة قفصهما تكاد تتاخم قضبان السكك الحديد، وكانت تقف فوق القضبان من خلفهما مباشرة آلة جر قطارات الشركة، القاطرة ذات المحرك، كان المحرك يعمل بكامل طاقته بوقود الديزل، وأدرك زيتون فورا أنه كان يولد الكهرباء كلها التي تستخدمها المحطة ويستخدمها السجن المؤقت. ورفع بصره إلى الآلة الرمادية الهائلة التي تزن ما لا يقل عن مائة طن، والتي زينت بشعار صغير يضم الألوان الثلاثة: الأحمر والأبيض والأزرق، وعرف أنها لن تتركهما، بصوتها العالي المتصل ما داما محتجزين في ذلك المكان.
وكان أحد الحراس مكلفا بهما، كان يجلس على كرسي من النوع الذي يطوى، على مسافة تزيد قليلا على ثلاثة أمتار أمام القفص، كان يحدق في زيتون وتود، وعلى وجهه أمارات الفضول والاحتقار.
وكان زيتون مصمما على إجراء مكالمة تليفونية، فمد يده إلى السلسلة التي تشكل جانب السور أمامهما حتى يلفت نظر رجل شرطة شاهده بالقرب من الباب الخلفي للمحطة. وفعل تود ذلك أيضا، وفورا تلقيا التوبيخ من الحارس المكلف بهما.
صاح الحارس بلهجة قاطعة: «لا تلمسا السور!»
وسأله تود: «لا تلمسا السور؟ هل تهزل؟»
ولكن الجندي لم يكن يهزل؛ إذ صرخ قائلا: «إذا لمست هذا السور فسوف أذبحك!»
وسأله تود أين يتوقع منهما الوقوف. فقيل له إن لهما أن يقفا في منتصف القفص، ولهما أن يجلسا على الهيكل الفولاذي، ولهما أن يجلسا على الأرض، ولكنهما إن لمسا السور من جديد فستكون العاقبة وخيمة.
كان أكثر من عشرة حراس آخرين يتجولون خلف المحطة، ومر بهما أحدهم، يجر كلبا من نوع وولف، أو الكلب البوليسي، وتعمد الوقوف وقفة لها دلالة بجوار قفصهما، مرسلا إلى زيتون وتود نظرة تحذير قبل أن يواصل سيره.
كان زيتون لا يكاد يقوى على الوقوف، كان يشعر في قدمه بألم صارخ لم يأبه به حتى الآن، فخلع حذاءه فوجد لون باطن قدمه قد تغير. كان شيء ما قد دخل تحت بشرته، وقال لنفسه إنها شظية معدنية من نوع ما، وإن لم يستطع أن يتذكر أين ومتى دخلت قدمه. كان لون المنطقة أرجوانيا في المنتصف وحولها بياض، وكان من الضروري إخراج الشظية بسرعة وإلا ساءت حالة القدم.
وتناوب زيتون وتود الجلوس على الهيكل الحديدي؛ إذ لم يكن يتسع إلا لفرد واحد، وهكذا كانت نوباتهما تقتصر كل منها على عشر دقائق.
وبعد ساعة فتحت فجأة أبواب المحطة، وظهر ناصر وروني، مخفورين بثلاثة من رجال الشرطة، وفتح قفص زيتون وتود ودفع داخله بناصر وروني، وأغلق باب القفص مرة أخرى، والتأم شمل الأربعة من جديد.
وفي ظل صخب الآلة أخذ الرجال يقارنون ما مر به كل منهم حتى الآن، كان الجميع قد تعرضوا للتفتيش الذاتي، ولم يعلم إلا تود سبب احتجازهم، وكانت حيازة بضائع مسروقة هي التهمة الوحيدة التي ذكرت له، ولكن أحدا منهم لم تقرأ عليه حقوقه، ولم يسمح لأي منهم بإجراء اتصال تليفوني.
وحاول ناصر تفسير وجود النقود في حقيبته، قال إن الشرطة والجنود كانوا في المدينة لمنع انتشار ما سمع الجميع عنه من سلب ونهب، ولما كان ذلك يقلقه أيضا فقد قرر الاحتفاظ بنقوده التي ادخرها على مر السنين معه.
ولم يقبل المحققون منه هذا، ولم يوفق ناصر في إيضاح أن كثيرين من المهاجرين كانوا يحتفظون بأموالهم نقدا، وأن الثقة في البنوك لم تكن كبيرة، وأوضح لهم أحد الأسباب التي تدفع شخصا في موقفه إلى الاحتفاظ بماله نقدا وهو إمكان استيقافه واستجوابه واحتجازه أو ترحيله، مهما يكن ذلك بعيد الاحتمال، فإذا كان يحمل النقود استطاع إخفاءها، والاحتفاظ بها، أو توجيهها إلى حيث يستطيع استردادها إذا استبعد من البلد.
وكان الرجال الأربعة يجهلون ما سوف يحدث لهم، لكنهم كانوا واثقين بأنهم سيقضون الليلة في القفص.
كان اللقبان السوريان لزيتون وديوب، ونبرات نطقهما الشرق أوسطية للغة الإنجليزية، والدولارات العشرة الآلاف - نقدا - والنقد والخريطة في حوزة تود، كان كل ذلك أدلة كافية لإقناعهم بأن محنتهم لن تزول بيسر في المستقبل القريب.
وقال تود: «لقد خربت بيوتنا أيها الأصدقاء.»
لم تكن لدى الرجال في القفص خيارات كثيرة، كانوا يستطيعون الوقوف في وسطه، أو الجلوس على الأسفلت في الأرض، أو الاستناد إلى الهيكل الفولاذي، لم يكن أحدهم يريد أن يجلس على الأرض؛ إذ كان الأسفلت قذرا يعلوه التراب والزيت، وإذا تحرك أحدهم في اتجاه السور صاح الحراس بالبذاءات وهددوا بالعقاب.
في الساعات الأولى في القفص، كان الهدف الأول لزيتون أن يسمح له بمكالمة تليفونية، وقدم الرجال هذا الطلب عدة مرات وقيل لهم: إن التليفونات جميعا معطلة.
وبدا لهم أن ذلك هو الواقع، فلم يشاهدوا أحدا يتكلم في تليفونات خلوية أو خطوط أرضية، وترددت شائعة تقول: إن التليفونات الفضائية تعمل، وإن المكتب في الطابق الثاني من محطة الأتوبيس به تليفون وبه خط للفاكس.
وكلما مر بهم حارس توسلوا إليه أن يستعملوا ذلك التليفون أو غيره، وكان رد الفعل في أحسن الأحوال هز الأكتاف وإجابات لبقة.
وقال لهم أحد الحراس: «التليفونات معطلة. أنتم إرهابيون. أنتم من طالبان!»
كان ضوء النهار يخبو؛ إذ استغرق التحقيق ثلاث ساعات، وظل الرجال الأربعة في القفص ثلاث ساعات أخرى. وأعطي لكل منهم صندوق صغير من الورق المقوى طبعت على جانبه الكلمات «ضلوع مشوية من لحم الخنزير». وكانت في داخله شوكة وسكين من البلاستيك، وقطعة من الجبن المطبوخ، وبسكوتتان، وعلبة من عصير البرتقال، وعلبة من الضلوع المشوية من لحم الخنزير ، كانت الوجبة من النوع العسكري، جاهزة للأكل.
وقال زيتون للحارس إنه هو وناصر مسلمان ولا يستطيعان أكل لحم الخنزير.
وهز الحارس كتفيه قائلا: «لا تأكلاه إذن.»
فأكل زيتون وناصر البسكوتتين والجبن، وأعطيا الباقي لتود وروني.
ومع حلول الظلام كان الصوت الهادر من خلفهم يتضخم في آذانهم، كان زيتون قد أصابه الإرهاق ولكنه كان واثقا بأن ذلك المحرك سوف يكفل نفي النوم عن عيون الجميع، كان قد سبق له العمل في السفن من قبل، وفي غرف المحركات، ولكن هذا الصوت كان أعلى، كان أعلى من أي شيء عرفه في حياته، وفي وهج الضوء الغامر من الأضواء الكاشفة كان يشبه أتونا عظيما يصدر الأنين وذا شهية لا تشبع.
وقال زيتون لناصر: «نستطيع أن نصلي.»
ولمح عين ناصر وأدرك ما يدور بخاطره، كان لا بد لهما من إقامة الصلاة، بل إنها كانت فرضا عليهما القيام به خمس مرات كل يوم، ولكن ناصرا كان متوترا. ترى هل تثير صلاتهما مزيدا من الريبة؟ هل يكون جزاؤهما السخرية أو العقاب على الصلاة؟
ولم يجد زيتون منطقا يمنعه من الصلاة، حتى وهو حبيس قفص في الهواء الطلق، فقال لناصر: «لا بد لنا من ذلك.» وقال في نفسه: إن الواقع يقضي بحاجتهما إلى صلوات أكثر، وبإخلاص أكبر.
وسأله ناصر: «والوضوء؟»
زيتون كان يعرف أن القرآن يقول إنه إذا لم يجد المسلمون ماء للوضوء فعليهم أن يتيمموا صعيدا طيبا، فيتطهروا ولو رمزيا. وهكذا قرر ناصر وزيتون التيمم، فأخذا الحصى من الأرض ومسا به أيديهما وسواعدهما، ورأسيهما وأقدامهما، ثم قاما فصليا. كان زيتون يعرف أن صلاتهما تثير اهتمام الحراس، لكنهما لم يتوقفا.
وعندما هبط الليل بسواده أضيئت الأنوار: مصابيح الأضواء الكاشفة من فوقهم ومن المبنى المقابل، وازداد الليل حلكة وبردا، ولكن الأضواء استمرت، فزاد نورها من نور النهار، ولم توزع على الرجال ملاءات ولا بطانيات ولا وسائد، وسرعان ما أتى حارس جديد، جلس على الكرسي الذي يواجههم، فسألاه عن المكان الذي يفترض أن يناموا فيه، فقال إنه لا يأبه أين ينامون ما داموا سوف يظلون فوق «الرصيف» حيث يستطيع أن يراهم.
ولم يكن زيتون حريصا على النوم هذه الليلة، بل أراد أن يظل يقظا، عسى أن يمر أحد المشرفين من نوع ما، أو المحامين، أو أحد المدنيين مهما يكن، وحاول الآخرون الرقود على الرصيف واضعين رءوسهم بين أذرعهم، ولكن النوم تعذر على الجميع، وحتى حين كان أحدهم يستقر في مكان يتيح له الراحة، كان صوت المحرك وما يحدثه من ذبذبات في الأرض، يطرد النوم من عينيه. لن يستطيعوا النوم في هذا المكان.
وفي إحدى ساعات الهزيع الثاني حاول زيتون الاستلقاء على الهيكل الفولاذي ببطنه وتمكن أن يستريح دقيقة أو نحوها بهذا الأسلوب، ولكن الحفاظ على هذا الوضع كان مستحيلا، فحاول أن يستند بظهره إليه، وقد عقد ذراعيه أمامه، ولكنه لم يستطع.
وكان حراس آخرون يمرون بكلابهم البوليسية، ولكن الليل لم يشهد أي أحداث باستثناء ذلك. لم يكن في تلك الليلة شيء يذكر سوى وجه الحارس الذي يحمل في جنبه بندقيته من طراز إم-16، والأضواء الكشافة مسلطة من جميع الزوايا، ساطعة على وجوه زملاء زيتون من السجناء، وقد شحب لونها وبدا عليها الإرهاق، وقاربت الخبل من الإنهاك والتشوش.
الأربعاء 7 من سبتمبر
وعندما بدت في السماء أول خيوط الفجر، أدرك زيتون أنه لم ينم على الإطلاق، كان يغمض أجفانه عدة دقائق في كل مرة، لكنه لم يجد النوم، كان قد رفض النوم على الأرض، ولكنه حتى لو أرغم نفسه على ذلك، لو تمكن من قهر الذعر الذي انتابه من هذه الحال، فقد نفى النوم عن عينيه التفكير في أهله وبيته وطنين المحرك الذي لم يتوقف.
وشاهد رحيل الحارس الليلي وحلول رجل جديد محله، كان التعبير على وجه الحارس الجديد مماثلا للتعبير على وجه الحارس السابق؛ إذ كان مثله يسلم، فيما يبدو، بأن الرجال داخل القفص مذنبون.
وتيمم زيتون وناصر وصليا، ثم جعلا يحدقان في الحارس الذي كان يحدق فيهما.
وبسطوع ضوء الصبح في السماء ازدادت حواس زيتون انتباها، بل إنه ازداد تفاؤلا ، كان يفترض أن كل يوم ينقضي على انتهاء الإعصار يقرب المدينة من الاستقرار، ويبشر بقرب إرسال الحكومة للعون، فإذا حل ذلك العون انتهت الفوضى التي أتت به إلى هذا القفص، وخفت حدة سوء التفاهم الذي يتجلى هنا.
أقنع زيتون نفسه بأن اليوم المنصرم كان يمثل شذوذا، وأن هذا اليوم سوف يأتي بالعودة إلى العقل والإجراءات القانونية، وأخذ يقول في نفسه إنه سوف يسمح له بمكالمة تليفونية وبمعرفة التهم الموجهة إليه، بل قد ينجح في مقابلة محام أو أحد القضاة، وسوف يتصل بكاثي فتقوم بتوكيل أفضل محام تجده، فتنتهي هذه الحال في غضون ساعات. •••
وأما الرجال الآخرون في القفص، الذين حظي كل منهم آخر الأمر بقسط من الراحة أثناء الليل، فقد استيقظوا، الواحد بعد الآخر، ووقفوا يتمطون، وأحضر طعام الإفطار، وكان أيضا يتكون من وجبات جاهزة، وكانت الوجبة هذه المرة شرائح من لحم فخذ الخنزير، وأكل زيتون وناصر ما أحل لهما من الوجبة وأعطيا الباقي لتود وروني.
وعندما استيقظ السجن، بدأ زيتون يفحص بدقة هيكل السلاسل من حوله، كان طوله نحو خمسين مترا، وكانت الأسلاك الشائكة جديدة، وكذلك المراحيض التي يمكن نقلها، كان السور جديدا ومن نوع ممتاز، وكان واثقا بأن ذلك كله لم يكن موجودا قبل العاصفة؛ إذ لم تستخدم محطة نيو أورلينز الاتحادية للركاب سجنا من قبل قط، وبدأ يجري حسابات تقريبية في ذهنه.
ربما كان لا بد من استعمال ست شاحنات أو نحوها لنقل مكونات هذه الأسوار كلها إلى المحطة. ولما لم يشهد أثرا للشوكات الرافعة أو الآلات الثقيلة، فقد انتهى إلى أن الأقفاص قد أنشئت بالعمل اليدوي. لا شك في أنه إنجاز باهر؛ إذ اكتمل تنفيذ هذا المشروع الإنشائي بهذه السرعة بعد العاصفة. ولكن متى نفذوه؟
أحضر زيتون إلى المحطة يوم 6 من سبتمبر، أي بعد خروج العاصفة من المدينة بسبعة أيام ونصف اليوم، وحتى في أفضل الظروف، فإن بناء سجن كهذا يتطلب أربعة أيام أو خمسة. كان معنى هذا أن المسئولين كانوا - في غضون يوم واحد على مرور «مركز» العاصفة بالمنطقة - قد وضعوا الخطط اللازمة لبناء سجن مؤقت في الهواء الطلق، وكان لا بد من إحضار أو طلب سلاسل السور وأسلاكه الشائكة، وأما المراحيض والكشافات وغيرها من المعدات فكان لا بد من استعارتها أو الاستيلاء عليها لصالح الجيش.
كان الأمر يقتضي جهدا كبيرا في التخطيط والتنفيذ، ولو كلف به مقاول عادي لطلب مهلة أسابيع متوالية لتنفيذ المهمة، ولاستخدم الآلات الثقيلة، فمن دون الآلات، لا بد من تشغيل عشرات الرجال، وتنفيذه بهذه السرعة كان يحتاج إلى خمسين رجلا، وربما أكثر. ترى من كان هؤلاء؟ ومن الذي أنجز هذا العمل؟ هل كانوا مقاولين وعمالا يعملون ليلا ونهارا على بناء سجن بعد هدوء العاصفة بأيام معدودة؟ إنه أمر يحير الألباب. ومما يزيد من إبهاره أنه في الوقت الذي كان إنشاء السجن يجري فيه على قدم وساق، في اليوم الثاني والثالث والرابع من سبتمبر، كان الآلاف من السكان ينقلون جوا من أسطح المنازل، ويكتشف بعضهم أحياء وأمواتا في غرف السطوح.
وعند الظهيرة سمع زيتون شيئا غريبا؛ صوت الأوتوبيسات في المحطة. تطلع إلى مصدر الصوت فوجد أوتوبيسا مدرسيا يتمهل للوقوف في الطرف الأقصى لساحة الانتظار، ثم هبط منه ثلاثون سجينا أو أكثر، من بينهم امرأة، في أوفرولات برتقالية اللون.
كان هؤلاء هم السجناء المنقولين من سجني جيفرسون باريش وكينر، أي الذين كانوا محبوسين قبل العاصفة. وفي غضون ساعة واحدة بدأ الصف الطويل من الأقفاص يمتلئ. ومن جديد، كان الوضع يشبه معتقل جوانتانامو تماما؛ إذ كان من الممكن مشاهدة السجناء جميعا للناظرين ومن أي زاوية. وكانت الأزياء البرتقالية الموحدة تستكمل الصورة الآن، فأصبحت مظاهر التماثل مع جوانتانامو أقوى من أن تتجاهل.
وكان الحراس كلما حبسوا مجموعة في أحد الأقفاص أسرعوا بتحذيرها من لمس السور؛ فأي لمس للسور يؤدي إلى عواقب وخيمة. وهكذا أصبح أفراد كل مجموعة يعرفون القواعد الغريبة لمحبسهم: سيصبح أسفلت الأرض فراشا لهم، والمرحاض الذي لا باب له دورة مياههم، والهيكل الفولاذي مقعدا يتناوبون الجلوس فوقه. ولكن في الساعة الأولى - أثناء تعريف السجناء الجدد بزنزاناتهم الجديدة - ترددت صرخات كثيرة من الحراس الذين كانوا يحددون للسجناء أين وكيف يجلسون ويقفون، وما لا ينبغي أن يلمسوه.
كان رجل وامرأة ينزلان على مبعدة قفص واحد من زيتون، وسرعان ما ترددت شائعة تقول إن الرجل كان قناصا، وإنه الشخص الذي كان يطلق النار على الطائرات العمودية التي كانت تحاول أن تحط على سطح أحد المستشفيات.
كان الغداء مختلفا عن الوجبات السابقة، ففي هذه المرة أحضر الحراس سندويتشات من لحم الخنزير إلى الأقفاص، ثم حشروها من الفتحات في الأسلاك.
ومرة أخرى لم يتناول زيتون وناصر أي طعام.
كانت الكلاب موجودة بصفة دائمة، وكان اثنان منها يظهران باستمرار؛ إذ كان الحارسان اللذان يصحبانهما يصران على عرضهما وتقريبهما من الأقفاص كثيرا، وأحيانا كان أحدهما ينفجر نابحا أحد السجناء، وذكر أحد المحبوسين في قفص زيتون سجن «أبو غريب» في العراق، وتساءل متى يطلب منهم أن يخلعوا ملابسهم ويتخذوا شكل الهرم العمودي؟ ومن من الحراس سوف يميل بجذعه في الصورة ضاحك السن؟
وبحلول الساعة الثانية، كان عدد السجناء في محطة الأوتوبيس قد بلغ نحو خمسين، ولكن قفص زيتون ظل القفص الوحيد الذي خصص له حارس لا يبرحه.
وسأل ناصر: «أتظن حقا أنهم يعتبروننا إرهابيين؟»
ودارت عينا تود في محجريهما وقال: «قطعا وإلا فلم يحبسوننا وحدنا في هذه الزنزانة بينما يحشرون الجميع معا؟ نحن الحيتان الكبرى هنا. نحن الصيد الثمين.»
وعلى امتداد النهار، وصل نحو ستة سجناء آخرين إلى المحطة وأدخلوا الأقفاص. وكان هؤلاء يرتدون ثيابهم المدنية؛ ولا بد أنهم اعتقلوا بعد انتهاء العاصفة، على نحو ما حدث لزيتون ورفاقه. واتضح النسق المتبع الآن: كان السجناء المنقولون من سجون أخرى يأتون بالأوتوبيس ولا يخضعون للتحقيق معهم، وأما الذين قبض عليهم بعد العاصفة فكان التحقيق معهم يجرى داخل المحطة ثم يدخلون السجن من باب المحطة الخلفي.
وأثناء استماع زيتون عرضا إلى الأحاديث التي يتبادلها الحراس والسجناء، أدرك أن الحراس والجنود كانوا يشيرون إلى السجن ببعض أسماء التدليل، أو باسمين على الأقل منها ؛ إذ كان البعض يسمونه جنوب أنجولا، ولكن عددا أكبر كان يسميه معسكر جراي هاوند.
وفي العصر جاء أحد الحراس إلى رجل في قفص مجاور لقفص زيتون، وتحدث مع سجين يرتدي رداء برتقاليا عدة دقائق وأعطاه سيجارة، ثم عاد إلى محطة الأوتوبيس.
وبعد لحظات عاد الحارس على رأس طاقم صغير من رجال التليفزيون، وقادهم الحارس مباشرة إلى الرجل الذي كان قد أعطاه السيجارة، وقام المذيع بإجراء مقابلة تليفزيونية مع ذلك السجين، وكان قد اتضح لزيتون أن طاقم التليفزيون إسباني، وبعد عدة دقائق، اقترب المذيع من زيتون وفي يده الميكروفون وبدأ يطرح سؤالا.
فصرخ الحارس بأعلى صوته: «لا! ليس مع هذا الرجل!»
وأخذ طاقم التصوير إلى محطة الأوتوبيس.
وقال تود: «مصيبة! لقد رشوا ذلك الرجل!»
وأثناء خروج طاقم التليفزيون، مر المصور بعدسته على السجن المفتوح كله، بما في ذلك زيتون، وكان في آلة التصوير مصباح يشع ضوءا ساطعا، وشعر زيتون بأن تسليط هذا الضوء عليه وإظهاره للعالم في صورة مجرم في قفص، أمر مهين أثار حنقه الشديد. كانت تلك تهمة زائفة.
ولكن زيتون راوده أمل مفاجئ، فما دام طاقم التليفزيون إسباني، فإنه من المحتمل أن يذاع البرنامج فيراه أخوه في مالقة. لا شك في أن أحمد سوف يشاهد البرنامج - لم تكن تفوته مشاهدة شيء - وسوف يخبر كاثي، فتعلم كاثي مكان وجوده.
وفي الوقت نفسه، لم يكن زيتون قادرا على تحمل ما خطر بباله، أي أن تعرف أسرته في سوريا أنه محبوس على هذه الصورة. وعلى أي حال ومهما حدث فلن يسمح لأسرته إذا أطلق سراحه أو حين يطلق سراحه، أن يتاح لها أن تعرف أنه تعرض لهذه الحادثة. ليس هذا مكانه. ولم يكن «ذلك» الرجل. كان في قفص، يراه الناس فيفغرون أفواههم دهشة، ويعرض على الناس مثلما تعرض الحيوانات الغريبة على الزوار في حديقة الحيوان، مثل الكنغر والقرداح. كان العار أكبر من أي شيء عرفته أسرته يوما ما.
وفي أواخر ساعات العصر جاء الحراس بسجين جديد، ودخلوا به من أبواب محطة الأوتوبيسات . كان أبيض اللون، في نحو الخمسين من عمره، نحيلا متوسط الطول، ذا شعر أدكن وبشرة لوحتها الشمس، ولم يوله زيتون اهتماما يذكر حتى فتح الحراس باب قفصه ودفعوا بالرجل إلى داخله. وأصبح عدد السجناء الآن خمسة في القفص، دون أن يعرف أحد سر ذلك.
كان الرجل يلبس سروالا من الجينز وقميصا قصير الأكمام، وكان يبدو أنه استطاع الحفاظ على نظافته أثناء العاصفة وبعدها. كان ظاهر يديه ووجهه وملابسه جميعا خالية من أي تراب أو بقع، وكان موقفه كذلك لا يحمل أدنى ظل من ظلال ما كابدته المدينة كلها.
وقام بتعريف زيتون والثلاثة الآخرين بنفسه، مصافحا كلا منهم مصافحة من يلتقي بالمشاركين في أحد المؤتمرات. قال إن اسمه جيري. كان اجتماعيا، عامرا بالنشاط، ساخرا من محنته. كان الرجال الأربعة قد قضوا ليلة بلا نوم في قفص في الهواء الطلق، ولم يكن لديهم من الطاقة ما يتيح لهم الانخراط في أي محادثات، ولكن هذا السجين الجديد سد فجوة الصمت سدا!
كان يضحك على فكاهاته، وعلى الموقف الغريب الذي يجدون أنفسهم فيه، وقص عليهم، دون أن يطلب أحد منه ذلك، قصة القبض عليه، قال جيري إنه ظل في المدينة أثناء العاصفة، كدأبه في كل إعصار. كان يريد أن يحمي منزله، وبعد انقضاء كاترينا تبين أنه يحتاج إلى الطعام، ولم يكن يستطيع السير إلى أي حانوت قريب. كانت سيارته على مرتفع من الأرض ولم يصبها أي ضرر، ولكن وقودها كان قد نفد. وهكذا أحضر خرطوما من جراج منزله، وكان منهمكا في سحب بعض البنزين بالمماص من سيارة أحد جيرانه - وقال إنه كان يعتزم إخبار جاره وإن ذلك الجار سوف يتفهم الموقف - حين لمحته سفينة من سفن الحرس الوطني، وألقي القبض عليه بتهمة السرقة، وقال إن ذلك سوء تفاهم يتسم بحسن النية، ومن المحتمل تسويته بالسرعة اللازمة.
وجعل زيتون يتأمل الجوانب المحيرة لوجود جيري بينهم؛ إذ كان يبدو، أولا أنه السجين الوحيد في المجمع الذي يجد تسرية ما في وضعه الحالي؛ أي وجوده في معسكر جراي هاوند، وثانيا ما سبب وضعه في قفصهم؟ كان بالسجن خمسة عشر قفصا أخرى، ومن بينها أقفاص خالية كثيرة. لم يبد له وجود أي منطق في القبض على رجل بتهمة ضخ البنزين، وحبسه مع أربعة رجال يشتبه في أنهم يعملون معا على ارتكاب جرائم، تتراوح ما بين النهب والإرهاب.
وسأل جيري عن سبب الإتيان بهم إلى معسكر جراي هاوند، وقص عليه تود قصة الأربعة معا. وقال جيري شيئا يعبر به عن استيائه من المحنة التي يتعرض لها الأربعة. وكان الحديث حتى هذه اللحظة من نوع «الدردشة» العادية، ولكن زيتون أعرض عن الإصغاء عندما غير جيري «نغمته» واتجاه أسئلته.
بدأ بتوجيه جهوده إلى زيتون وناصر، فطرح أسئلة لا تنبع من عناصر المحادثات التي بدأها، فأدلى بملاحظات تحط من قدر الولايات المتحدة، وقال فكاهات عن جورج دبليو. بوش، وعن عجز الإدارة الأمريكية عن التصدي الناجع حتى الآن للكارثة، وأبدى تشككه في مقدرة العسكرية الأمريكية، وحكمة السياسة الخارجية للولايات المتحدة في أرجاء العالم، وفي الشرق الأوسط خصوصا.
واشتبك تود في جدال معه، ولكن زيتون وناصرا اختارا التزام الصمت، كان زيتون يرتاب ريبة عميقة فيما يحدث، ولا يزال يحاول أن يفهم كيف انتهى الأمر بهذا الرجل إلى هذا القفص تحديدا، وما عسى نواياه أن تكون. «كن لطيفا مع ماما!»
أثناء حديث جيري، التفت زيتون ليشاهد سجينا يبعد عنه بعدة أقفاص، كان ذا بشرة بيضاء، في منتصف العشرينيات، نحيلا، ذا شعر بني طويل، كان يجلس على الأرض، وقد ضم ركبتيه إلى صدره، وكان ينطق تلك العبارة كأنما كانت ترنيمة، ولكن بصوت مرتفع. «كن لطيفا مع ماما! عاملها بحنان!»
وكان المحتجزون الثلاثة الآخرون في قفص هذا الشاب تبدو عليهم أمارات الضيق منه، والظاهر أنه ظل يكرر هذه التعليمات الغريبة مدة طويلة، وإن لم يبدأ زيتون يسمعها إلا الآن.
وقال وهو يتأرجح إلى الأمام والخلف: «لا تلعب بالكبريت! النار خطرة!»
كان الرجل يعاني من عجز ما وأخذ زيتون يراقبه بدقة، لم يكن عقله سليما، ويبدو أنه أصيب بصدمة نفسية قبل أن يتجاوز عامه الخامس أو السادس . كان يكرر بعض القواعد والتحذيرات الأساسية التي قد يطلب من طفل بالغ الصغر أن يحفظها في روضة الأطفال. «لا تؤذ ماما! كن لطيفا مع ماما!»
واستمر على هذا المنوال، وكان زملاؤه في القفص يحاولون إسكاته، بل ينخسونه بأقدامهم لكنه لم يعبأ بهم؛ إذ كان في حالة تشبه الغيبوبة.
ولما كان صوت محرك القاطرة بالغ الارتفاع، لم تكن ترانيم الشاب مصدر ضيق لأحد آخر، ولكن عقله الطفولي لم يكن، فيما يبدو، يدرك المكان الذي كان فيه وسبب وجوده فيه.
وكان الحارس الذي يجلس على مبعدة أمتار قليلة من قفص الرجل يصر بإلحاح على أن يظل في منتصف «الحظيرة» حتى تتاح رؤيته بسهولة، كانت أي حركة إلى اليسار أو اليمين ممنوعة، ولكن الرجل في داخل القفص لم يفهم ذلك، فكان بكل بساطة ينهض وينتقل إلى الناحية الأخرى، ولم يتضح ما كان يحفز الرجل إلى أن يقرر أن الوقت قد حان للانتقال من مكان لمكان، ولكن انتقاله الذي لم يكن له مبرر، بل كان ممنوعا، أثار غضب الحارس.
فصاح قائلا: «عد إلى مكانك! حيث أستطيع أن أراك!»
ولم يدرك الرجل أن الخطاب كان موجها إليه، فعاد يقول: «نظف أسنانك بالفرشاة قبل أن تنام! اغسل ذراعيك ويديك. اذهب فتبول الآن حتى لا تبلل فراشك!»
ووقف الحارس وقال: «عد إلى مكانك وإلا فسوف أعاقبك أيها الحقير!»
وظل الرجل حيث كان، في منطقة محظورة من القفص، واستمر يتأرجح في جلسته، مركزا بصره على المساحة التي بين قدميه.
وصرخ الحارس: «سأعد من واحد إلى ثلاثة.»
ولكن الرجل قام بما كان يقترب من الاستفزاز المتعمد؛ إذ مد يده ولمس السور.
وكانت تلك هي الحركة الفاصلة، فقد نهض الحارس ثم عاد بعد ثوان معدودة مع حارس آخر، وكان هذا الأخير يحمل في يده جهازا يشبه جهاز إطفاء الحرائق.
وفتحا القفص، وأثناء ذلك رفع الرجل بصره إليهما وقد غلبه الخوف فجأة، واتسعت حدقتا عينيه عجبا ودهشة، وهما يرفعانه ويوقفانه على قدميه ، ثم يجرانه إلى خارج القفص.
وعلى مبعدة أقدام قليلة أخرى ألقياه على الأرض، وساعدهما حارسان آخران في تقييد يديه وقدميه بقيود من البلاستيك، ولم يبد أي مقاومة.
ثم ابتعد الجميع عنه، وتقدم الحارس الأول، الذي كان قد حذره، فوجه فوهة الخرطوم إليه وقام برشه من رأسه إلى أخمص قدمه بمادة لم يستطع زيتون تمييزها من فوره.
وقال تود: «رذاذ الفلفل!»
واختفى الرجل في الضباب الذي تشكل من الرذاذ المرشوش، وجعل يصرخ مثل الطفل المعاقب، وعندما انقشع الضباب كان قد تكور في مكانه كالجنين، وجعل يئن كالحيوان، محاولا لمس عينيه بيديه.
وصاح الحارس: «أحضر الدلو!»
وجاء حارس آخر وصب دلوا من الماء فوق الرجل الصارخ، لم يفه أحدهما بكلمة أخرى، بل تركوه يصدر الصراخ الذي تحول بعد قليل إلى أنين، وقد بلله الماء وخدره الغاز على الأرض خلف محطة الأوتوبيس، وبعد بضع دقائق جروه حتى أوقفوه على قدميه وأعادوه إلى القفص.
وأوضح تود ما ينبغي القيام به قائلا: «لا بد أن تغتسل لإزالة آثار الرش برذاذ الفلفل، وإلا أصبت بحروق وتقرحات.»
كانت الوجبة الجاهزة هذه الليلة من اللحم البقري، فأكل زيتون، وكانت رائحة رذاذ الفلفل لا تزال تملأ الهواء.
كانت الليلة السابقة هادئة إن قورنت بالنهار، ولكن هذه الليلة أتت بمزيد من سورات الغضب والمزيد من العنف، فعلى امتداد المساء أضيف مسجونون آخرون إلى الأقفاص، فأمسى في معسكر جراي هاوند ما يزيد على سبعين منهم، وكانوا غضابا، كان المكان يضيق بهم، وفورانهم يزداد، وازدادت احتجاجات السجناء على الحراس، وازدادت بذلك حالات الرش برذاذ الفلفل.
لم تكن الإجراءات تتغير قط؛ إذ ينقل السجين من قفصه ويجر إلى بقعة مجاورة، على مرأى كامل من باقي السجناء، ثم تقيد يداه وقدماه وبعدها، وركبة الحارس فوق ظهره أحيانا، يتعرض للرش في وجهه مباشرة، فإذا اعترض السجين ازداد ضغط ركبة الحارس في ظهره، ويستمر الرش حتى تنكسر روحه المعنوية، ثم يصب عليه الماء لإفاقته ويعاد إلى قفصه.
وكان زيتون قد شاهد الأفيال وهو صبي، عندما كان السيرك اللبناني يمر ببلدة جبلة، وكان مدربوها يستخدمون خطاطيف فولاذية طويلة لتوجيه هذه الحيوانات إلى الجهة المطلوبة، أو لحفزها أو عقابها، وكان الخطاف يشبه الحربة الطويلة أو العتلة ذات السنان التي تستخدم في نقل ألواح الثلج، وكان المدربون يمسكون بالأفيال من بين ثنيات جلدها ثم يدفعونها أو يلوونها، وخطر ببال زيتون الآن هؤلاء المدربون، وكيف تلقى هؤلاء الحراس أيضا تدريبا على التعامل مع نوع معين من الحيوانات، كانوا قد اعتادوا العمل مع نزلاء السجون ذات الحراسة المشددة، وهم نزلاء أشداء. وهكذا، كانت أدوات الحراس ذات قسوة أكبر من أن تلائم هؤلاء الرجال، والكثرة الغالبة فيهم من مرتكبي أهون الجرائم، مثل خرق منع التجول، أو دخول أملاك الغير دون استئذان، أو السكر علنا.
وامتد الليل طويلا، وكانت تقطعه نوبات مفاجئة من الصراخ والولولة، وكانت المشاجرات تنشب بين السجناء، والحراس يتواثبون، فيخرجون رجلا ويضعونه في قفص جديد، ولكن التشاجر كان يستمر؛ إذ كان السجناء الليلة متوترين ثائرين. •••
وتيمم زيتون وناصر كيفما استطاعا، بدلا من الوضوء، وصليا.
كان إحساس زيتون بالذنب الآن عميقا متزايدا، كانت كاثي على صواب، كان ينبغي ألا يمكث في المدينة، وكان عليه قطعا ألا يبقى فيها عندما كانت تطالبه في كل يوم من الأيام التي تلت العاصفة بالرحيل، وقال في نفسه: «أنا في غاية الأسف يا كاثي.» لم يكن يستطيع أن يتخيل المعاناة التي تتعرض لها كاثي الآن. كانت تردد كل يوم إن حادث سوء يمكن أن يقع على غير انتظار. وها هي ذي قد أثبتت صحة أقوالها، لم تكن الآن تعرف إن كان حيا أو ميتا، وجميع الدلائل تشير إلى الاحتمال الأخير.
كان يمكن أن يكون أي شيء في هذا السجن محتملا لو استطاع أن يتصل بها وحسب، لم يكن يريد أن يتخيل ما كانت تقوله للأطفال، وأي نوع من الأسئلة كانوا يسألونها.
ولكن لماذا لا يسمح للسجناء بحقهم في إجراء مكالمة تليفونية؟ من أي زاوية عالج هذه المسألة لم يستطع إدراك منطق حظر المكالمات، ربما كان من المرهق أن يصاحب الحراس السجناء إلى داخل المحطة لإجراء المكالمات، ولكن ألن تؤدي المكالمات في النهاية إلى تخليص السجن من بعض السجناء على الأقل؟ وقال في نفسه إن أي سجن تابع للبلدية يتوقع مغادرة كثير من نزلائه في غضون يوم أو يومين، إما بأخذ تعهد من السجين، وإما بإسقاط التهمة الموجهة إليه، وإما بسبب أي نتيجة تنتهي إليها المكالمات التي يجريها مرتكبو الجرائم الطفيفة.
إذن فإن حظر المكالمات التليفونية كان عقابا محضا، تماما مثل رش الرجل الطفل برذاذ الفلفل؛ إذ كان ذلك ثمرة لمزيج من الفرصة المتاحة، والقسوة، والغموض، واللهو. لم يكن يرى فائدة في ذلك، مثلما لم ير فائدة في منع جميع السجناء من الاتصال بالعالم الخارجي.
وقال في نفسه: «أوه يا كاثي! أنا في غاية الأسف! ويا زخاري ونديمة وعائشة وصفية كم أشعر بالحزن هذه الليلة لعدم وجودي معكم!»
كان معظم السجناء نائمين بحلول الساعة الثانية أو الثالثة صباحا، وكان الساهرون مع زيتون صامتين. ورفض زيتون من جديد أن ينام على الأرض، ولم يقتنص إلا لحظات عابرة من الراحة بالاستلقاء فوق الهيكل الفولاذي.
كان يعرف أن تلك الظروف قد بدأت تضر بحالته النفسية أضرارا حقيقية، لم يكن يشعر حتى الآن إلا بالغضب، ولكن تفكيره كان صافيا، وأما الآن فقد أصبحت الروابط المنطقية هزيلة إلى حد أكبر؛ إذ بدأت تعتاده أفكار شاردة عن الفرار، وبدأ يتساءل إن كان من الممكن أن يتعرض لأمر بالغ السوء هنا، وظل طول الليل يفكر في الرجل الطفل ويسمع صرخاته، وكان لا بد أن يهب في أي ظروف عادية للدفاع عن رجل تعرض لمثل ما تعرض له ذلك الشاب من الظلم، ولكن إرغامه على أن يشهد، بلا حول ولا طول، ما يحدث، مدركا ما في ذلك من خسة، كان يعتبر عقابا له ولغيره من السجناء أيضا، كان ذلك ينتقص من إنسانيتهم كلهم.
الخميس 8 من سبتمبر
استيقظ زيتون على صرخات وشتائم، كان قد تمكن بطريقة ما من النعاس في الهزيع الأخير من الليل، أثناء استلقائه على الهيكل الفولاذي، ووقف فشاهد الحراس منهمكين في رش عدد أكبر من السجناء برذاذ الفلفل على امتداد صف الأقفاص كله.
ولكن الحراس كانوا يرشون رذاذ الفلفل الآن بخراطيمهم من خلال السور، لم يعودوا يبذلون الجهد اللازم لإخراج السجناء من أقفاصهم، فانخفضت الجرعة التي تصيب كل فرد، ولكن الرذاذ انتشر في أرجاء المجمع كله. وهكذا، فبعد أن صلى زيتون وناصر، شاركا باقي السجناء في حماية عيونهم وأفواههم من الرذاذ بقمصانهم، مع السعال المستمر لإخراج ذلك السم من حلوقهم.
وأصبح الجرح الذي أحدثته الشظية في قدم زيتون ملوثا، وكان لونه قد تغير أثناء الليل فغدا ذا زرقة دكناء، ولم يستطع تحميل أي ثقل عليه، كان قد رأى كيف يتجاهل الذين يعملون لديه مثل هذه الجروح؛ إذ كان معظمهم غير مشترك في التأمينات الاجتماعية ويخشى التسجيل في أي مستشفى، كانت كسور الأصابع لا تجبر والجروح الفظيعة لا تعالج، وهو ما كان يؤدي إلى الإصابة بشتى الأمراض، ولم يكن زيتون يعلم نوع الشظية التي دخلت تحت بشرته، لكنه كان متأكدا من ضرورة إخراجها بأسرع وقت ممكن، لم يكن يحتاج إلا إلى لحظة من الرعاية، وإلى إبرة معقمة، أو حتى إلى سكين، كان في حاجة إلى أداة يحفر بها باطن القدم لإخراج ما دخل فيه، مهما يكن.
كان الألم مبرحا، وحاول رفقاء زيتون في القفص مساعدته والتوصل إلى حل ما، أي إلى أي شيء ذي طرف حاد يمكن استخدامه، ولكن لم يكن لدى أي أحد شيء ولو كان مجموعة مفاتيح.
وبعد دقائق ظهر رجل من المحطة وأتى نحوه، كان يرتدي حلة المستشفى المعقمة ذات اللون الأخضر، ويضع سماعة طبية حول رقبته، كان خفيف الحركة، ذا وجه حنون، ومشية تشبه مشية البط، كانت الراحة التي أحس بها زيتون في الثواني التي رآه يقترب فيها لا حدود لها.
وهتف زيتون: «دكتور!»
ولكن الرجل لم يتوقف قط، بل قال وهو يواصل المسير: «لست طبيبا!» •••
وكان الإفطار يتكون أيضا من وجبات جاهزة، من العجة التي وضعت فيها شرائح لحم الخنزير، ومن جديد أعطى زيتون وناصر لحم الخنزير لتود وروني. ولكن الإفطار تضمن شيئا جديدا اليوم، زجاجة صغيرة من الصلصة الحريفة، فخطرت لزيتون فكرة؛ إذ تناول الزجاجة الصغيرة، وقرعها على الأرض فانكسرت، وتحولت إلى شظايا ونصال، فالتقط أحد نصل فيها وقطع به قطعا في الجزء المتورم من قدمه، مخرجا قدرا من السوائل يزيد عما تخيله، كان شفافا في البداية ثم تحول إلى اللون الأبيض فالأحمر، وظل يحفر حتى وصل إلى الشظية الدكناء الكامنة تحت الجلد، وبعد أن أغرق الدم قدمه، أخرجها، كانت كسرة معدنية رقيقة في حجم خلة الأسنان.
ثم ربط قدمه بجميع المناديل الورقية الفائضة في القفص، فانقطع الألم فورا.
وعلى امتداد النهار تكرر الرش برذاذ الفلفل، سواء كان ذلك للأفراد أو دون تمييز، وفي أواخر وقت العصر أحضر أحد الحراس بندقية ذات ماسورة ضخمة، وأطلق منها مقذوفا على أحد الأقفاص، وظن زيتون أن رجلا قد قتل ولكنه أدرك أن البندقية لم تكن تطلق الرصاص، بل أكياس حبات الفول الجاف، وجعل الرجل يتلوى على الأرض ألما قابضا على بطنه، ومنذ تلك اللحظة أصبحت هذه البندقية السلاح المفضل المستخدم في إخضاع السجناء، وكان الحراس يستخدمونها جنبا إلى جنب مع رذاذ الفلفل، ويطلقونها على الرجال والنساء في الأقفاص.
واستمر جيري في إجراء محادثاته مع زيتون وناصر، كان من الواضح أنه غير مهتم بتود وروني، وطرح على زيتون أسئلة كثرا عن تراثه، وعن سوريا، وعن حياته العملية، وعن مرات عودته لزيارة وطنه، وطرح الأسئلة نفسها على ناصر، وكان دائما ما يغلفها بغلالة من الود الظاهر وبراءة حب الاستطلاع. وكان ناصر متحفظا بطبعه، فتقوقع في ذاته بصورة شبه كاملة، وحاول زيتون أن يتفادى الأسئلة مدعيا الإرهاق، وتحول وجود جيري إلى مصدر للقلق المتزايد يوما بعد يوم.
من كان جيري؟ ما سبب وجوده في هذا القفص وفي المجمع نحو مائة سجين آخر؟ وقد أصر تود في وقت لاحق على أنه كان جاسوسا، مخبرا متنكرا، وأن الهدف من وجوده كان جمع المعلومات عن الرجلين السوريين في القفص. وقال تود إنه متنكر بطبيعة الحال، وقال زيتون في نفسه: لو كان ذلك صحيحا، فإنه كان موظفا عموميا متفانيا إلى أبعد حد في عمله. كان يتناول طعامه في الهواء الطلق في القفص، وعندما يحل الليل ويبرد الهواء ينام حيث ينام رفقاء زيتون في القفص، من دون بطاطين أو وسائد، على الأرض القذرة.
وفي تلك الليلة، عندما حان دور زيتون في الرقاد على الهيكل الفولاذي في القفص، حاول أن يستلقي بأسلوب مريح فلم يستطع. كان يشعر في جانبه بألم جديد، نابع من منطقة الكلية اليمنى، كان الألم حادا حين حاول الاستلقاء على السور الحديدي، لكنه خف قليلا عندما وقف دون أن يختفي تماما، كان يمثل مصدرا جديدا للقلق، وسببا آخر لعدم راحته في هذه الليلة.
الجمعة 9 من سبتمبر
عندما انتصف النهار قيل لزيتون ورفقائه في القفص إنهم سوف ينقلون من معسكر جراي هاوند إلى مكان آخر. ووصل عدد من أوتوبيسات المدارس التي وقفت في الركن الأقصى من الساحة.
وأخرج زيتون من قفصه، ووضعت يداه في القيود، ودفع به إلى أحد هذه الأوتوبيسات، وأوقف السجناء صفا واحدا، ثم قيدت إحدى يديه إلى يد سجين آخر في الستينيات من عمره. كان ذلك أوتوبيس مدرسة عاديا، مرت عليه عقود وعقود، وأمر زيتون ورفاقه بالركوب، فانطلقوا فصعدوا الدرجات القليلة مارين بالسائق الذي يحمل السلاح وحفنة من الحراس المسلحين، ثم جلسوا، وصعد إلى الأوتوبيس تود وناصر وروني، وقد قيدت يد كل منهم إلى يد سجين جديد، ولم يخبر أي من السجناء الخمسين الذين ركبوا الأوتوبيس بالمكان الذي يتجهون إليه. وجال بصر زيتون بحثا عن جيري، لكنه لم يكن معهم، كان قد رحل.
وانطلق الأوتوبيس خارجا من المدينة في اتجاه الشمال، ولم يتحدث زيتون والرجل الذي قيدت يده إلى يده، بل لم يتكلم من المسجونين عدد يذكر. كان بعضهم يعرف، فيما يبدو، مقصد الأوتوبيس، وبعضهم لا يستطيع أن يتخيل ما سوف يحدث، والبعض الآخر يبدو سعيدا بالخروج أخيرا من محطة الأوتوبيسات، واثقا بأنه لن يشاهد أسوأ منها.
غادروا المدينة فشاهد زيتون أول مساحة خضراء منبسطة من اليابسة يشاهدها منذ العاصفة، وذكره المشهد بالوصول إلى المرفأ بعد رحلة بحرية طويلة، وكان الإغراء شديدا آنذاك بأن يقفز من السفينة ويرقص ويجري فوق الأرض الصلبة التي لا حدود لها.
وبعد أربعين ميلا شاهد زيتون لافتة في الطريق العام تشير إلى أنهم يقتربون من بلدة سانت جابريل، ورأى زيتون فيها أمارة إيجابية أو إشارة ذات نبرة ضاحكة مريرة؛ إذ يعتقد المسلمون أن الملاك جبريل، وهو نفسه غبريال الذي يقول الكتاب المقدس إنه حمل البشارة إلى مريم البتول وتنبأ لها بمولد يسوع المسيح، وهو الوحي الذي أنزل القرآن من عند الله على النبي محمد، وهم يصفونه بأن له ستمائة جناح، ويقول القرآن إنه صاحب محمدا في معراجه إلى السماوات.
وأبطأ الأوتوبيس عند مكان كان يشبه أولا النوادي الريفية؛ إذ كان المكان مساحة شاسعة مغطاة بالكلأ الأخضر وحولها سور أبيض، من النوع الذي يحيط في العادة بمزارع تربية الخيول في الريف. واستدار الأوتوبيس ومر من خلال بوابة بنيت من الطوب الأحمر، وعند المدخل شاهد زيتون لافتة تؤكد أين كانوا إذ تقول: مركز إلين هنت الإصلاحي. كان من السجون المشددة الحراسة، ولم تبد الدهشة على معظم ركاب الأوتوبيس، وكان الصمت مطلقا.
وانطلقوا في مدخل السيارات الطويل الذي تصطف الأشجار على جانبيه بانتظام، وطار سرب من الطيور فزعا عندما اقتربوا من بوابة أخرى، وكانت هذه تشبه بوابة دفع الرسوم في الطرق الطويلة. وأشار أحد الحراس للأوتوبيس بالدخول، وسرعان ما أصبحوا داخل أراضي السجن.
كان مركز هنت الإصلاحي مجمعا من المباني ذوات الطابق الواحد المشيدة بالطوب الأحمر، والمقامة وسط مساحة خضراء لا تشوبها شائبة. كان كل شيء مرتبا في شبكات منتظمة، وكانت الأسوار والأسلاك الشائكة التي تعلوها تلمع في وهج الشمس، وكان الكلأ ذا لون زاه، وقد شذب منذ فترة قصيرة، وكانت آلات الري بالرش تدور على البعد بأصواتها المميزة.
وبدأت إجراءات استقبال السجناء واحدا واحدا، عند مناضد وضعت خارج المباني، وكانت المقابلة الشخصية الخاصة بدخول زيتون موجزة ومستجوبوه مهذبين. سألته امرأتان عن صحته، وعن أي أدوية يتناولها، وأي قيود على طعامه، وأذهله ما لمسه فيهما من حذق للمهنة وما أبدياه من احترام له، وخطر له أن هذا المستوى المهني العالي قد يعني مراعاة الإجراءات القانونية المعتمدة - ومن بينها السماح للمتهم بإجراء مكالمة تليفونية - وهو ما يعني إطلاق سراحه بعد يوم أو يومين. وفي أقل القليل سوف تعرف كاثي أنه على قيد الحياة؛ إذ لم يكن يهمه غير ذلك.
وسيقوا إلى غرفة تغيير الملابس وأمروا بخلع ملابسهم كلها، ففعل زيتون ذلك، في حضور أكثر من عشرة رجال، ولم يكن يخشى في وجود هذا الحشد أي تفتيش ذاتي أو عنف، فخلع القميص والشورت واللباس الداخلي، ثم اقتادهم موظفو السجن إلى الخارج.
وأعطي له ولكل سجين آخر أوفرول برتقالي اللون، بأكمام قصيرة، من دون ملابس داخلية، ولبس زيتون الأوفرول وربط السوستة، وعاد فلبس حذاءه. •••
وأعيدوا إلى الأوتوبيس الذي سار بهم في طرقات مجمع السجن الذي كان يتكون من مبان ذوات أشكال هندسية منتظمة لها أسقف زرقاء، وتوقف الأوتوبيس عند مبنى كان فيما يبدو آخر مباني السجن، وكان الواضح أنه يتميز بأقصى درجات الحراسة.
واقتيد زيتون والآخرون من رفقاء الرحلة إلى داخل أحد المباني الطويلة ذات الزنزانات. وسيق في بهو طويل من الخرسانة ثم دفع به في زنزانة، لم تكن مساحتها تزيد على مترين في أقل من ثلاثة أمتار، أعدت لسجين واحد، فوجد أن ناصرا قد سبقه إليها، وأغلق الباب، وكانت القضبان مطلية باللون الأزرق الفاقع.
كانت الزنزانة مبنية بصورة كاملة من الأسمنت، وكان المرحاض كذلك من الأسمنت مبنيا في وسط الزنزانة، وكان السرير في جانبها مبنيا من الأسمنت أيضا، وعليه فراش من المطاط، وفي الجدار الخلفي كانت تلوح نافذة صغيرة مغطاة بلوح سميك من البلاستيك الشفاف، وكان يظهر فيه مربع أبيض غائم، ربما كان السماء.
ولم يتفوه زيتون وناصر بألفاظ تذكر. لم يكن لديهما ما يقال. كانا يعرفان أن محنتهما قد بدأت تسير في اتجاه أخطر كثيرا مما سبق، لقد عزل الأمريكيان السوريان الآن عن الجميع، فعندما كانا في صحبة تود وروني، بدا لهما أن التهمة الموجهة إليهما - مهما يكن الوقت الذي توجه فيه تلك التهمة - مقصورة على السلب والنهب، ولكن السوريين الآن قد فصلا عن الأمريكيين، وما عاد من الممكن التنبؤ بمسار هذه الأحداث.
ظل زيتون متأكدا من أن إجراء مكالمة تليفونية واحدة سوف يحرره، كان رجلا ناجحا ومشهورا، وكان اسمه معروفا في شتى أرجاء نيو أورلينز، لم يكن يحتاج إلا إلى إجراء مكالمة مع كاثى وسوف تهدم كاثي جميع الأسوار حتى تصل إليه.
وطيلة النهار قرر زيتون الجلوس بجوار القضبان ملوحا بمنديل السفرة، متوسلا إلى الحراس أن يمنحوه مكالمة تليفونية، وكان يبدو أن الحراس يتلذذون بطبخ صنوف من الإنكار والنفي.
كانوا يقولون: «التليفون عطلان.» «ليس اليوم.» «الخطوط مقطوعة.» «ربما غدا.» «وماذا أنال منك مقابل هذا؟» «ليست مشكلتي. لست سجينا عندنا.»
لم تكن هذه هي المرة الأولى أو الأخيرة التي يسمع زيتون فيها ذلك، لم يكن قد مر بالإجراءات التقليدية، ولم يكن قد خصص له سجن هنت في الأجل الطويل، ومن ثم فلم يكن من الناحية الإجرائية من نزلاء سجن هنت، ومن ثم لم تكن تنطبق عليه الإجراءات المعتمدة في تلك المؤسسة. وكان ذلك ما قاله الحراس له عدة مرات: «أنت من مشاكل الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ.»
كانت تلك الوكالة هي التي تتحمل تكاليف حبسه، فيما قاله الحراس، وكذلك تكاليف جميع سجناء نيو أورلينز. أما مركز إلين هنت الإصلاحي فكان مكانا مؤجرا ل «تخزين» هؤلاء الرجال، وباستثناء ذلك لم يكن المركز مطالبا برعايتهم ولا بتلبية حقوقهم.
وأقبل الليل ولكنه لم يكد يختلف عن النهار. أطفئت الأضواء الساعة العاشرة، ولكن السجن كان غاصا بالأصوات، كان السجناء يتكلمون ويضحكون ويصرخون، وكانت تتردد أصوات شتى يصعب تحديد كنهها، قادمة من كل مكان، أصوات الضرب والشخير، وبدا أن الدخان ازداد على امتداد ساعات الليل، وكانت الروائح عفنة من السجائر، والماريجوانا، والطعام الفاسد، والعرق، والتحلل.
وكان الألم في جنب زيتون قد اشتد، أصبح وجعا ينبض، كأنما كانت كليته ملتهبة . لم يسبق له أن بالغ في القلق على مثل تلك المشاكل، ولكن ترى هل كانت كاثي على حق حين قالت إن السموم التي انتشرت في نيو أورلينز بعد العاصفة قد تسربت إلى جسده؟ وربما كان ذلك من تأثير الرش برذاذ الفلفل في معسكر جراي هاوند، ولا شك في أنه استنشق قدرا من ذلك الغاز لم يلبث أن أضر بأحشائه.
لكنه تجاهل الألم. لم يكن يستطيع التفكير إلا في كاثي، لم تمض سوى أربعة أيام منذ أن سمعت صوته آخر مرة، لم يكن يستطيع أن يتخيل مقدار معاناتها، وأين يكون عقله لو أنها تاهت عنه أربعة أيام؟ كان يأمل ألا تكون قد أخبرت الأطفال، كان يأمل ألا تكون قد أخبرت أي أحد، كان يأمل أن تكون قد وجدت ما يريحها ويسري عنها عند الله؛ إذ كان واثقا بأن الله له غاية من هذا.
وفي الساعات الأولى من الفجر، شعر زيتون بالوهن نتيجة قلة النوم والطعام، وجو العدم الكئيب من حوله، فتذكر سورة التكوير في القرآن الكريم:
إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سيرت * وإذا العشار عطلت * وإذا الوحوش حشرت * وإذا البحار سجرت * وإذا النفوس زوجت * وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت * وإذا الصحف نشرت * وإذا السماء كشطت * وإذا الجحيم سعرت * وإذا الجنة أزلفت * علمت نفس ما أحضرت * فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون (التكوير: 1-22).
السبت 10 من سبتمبر
عاد زيتون إلى الأرق طول الليل، كانت الأضواء الفلورسنت في السقف قد أطفئت في الساعة العاشرة مساء، ثم أضيئت من جديد في الثالثة صباحا. كانت الساعة الثالثة تعتبر بداية النهار في هذا السجن.
وبعد أن أدى زيتون وناصر الصلاة، حاول زيتون أن يتريض داخل الزنزانة، كان الجرح في قدمه لم يلتئم بعد، ولكنه قام بتدريبات الجري في مكانه، وأجرى تدريب الضغط باليدين على الأرض ورفع الصدر، والقفز في المكان نفسه، ولكن الألم في جنبه ازداد بسبب هذا النشاط، فكف عنه.
كان الإفطار من السجق، وهو ما لم يستطع أن يأكله، وبيضا مخفوقا في اللبن، وهو ما لا يكاد يكون له طعم مقبول، فتناول قليلا منه وشرب العصير الذي قدم إليه. وجلس مع ناصر على السرير، جنبا إلى جنب، لا يكادان يتحادثان. كان الخاطر الوحيد الذي يشغل بال زيتون إجراء مكالمة تليفونية، لم يكن في الدنيا غير ذلك.
وسمع خطوات الحارس الذي كان مقبلا في الردهة ليجمع صواني الإفطار، وما إن اقتربت الخطوات حتى وثب زيتون إلى مقدمة الباب وتراجع الحارس خطوة واحدة، وقد أفزعه ظهور زيتون المباغت.
وهتف زيتون: «أرجوك، هل لي في مكالمة تليفونية واحدة؟»
وتجاهل الحارس السؤال لكنه تطلع إلى ناصر الذي كان ما زال جالسا على السرير، وألقى الحارس نظرة متسائلة على زيتون ثم انتقل إلى الزنزانة التالية.
وبعد ساعة سمع زيتون وقع أقدام الحارس مرة أخرى، فنهض زيتون ليقابله عندما يمر بالباب، وسأله: «من فضلك هل أستطيع إجراء مكالمة واحدة؟ لزوجتي فقط.»
في هذه المرة هز الحارس رأسه هزة عارضة، ثم تطلع من وراء زيتون لرؤية ناصر الذي كان أيضا جالسا على السرير، ولكن هذه النظرة التي حدج الحارس زيتون بها كانت تضمر إيحاءات معينة، بل ذات بذاءة؛ إذ رفع حاجبيه وأومأ مشيرا إلى ناصر، كان المعنى الذي يوحي به هو أن زيتون وناصرا كانا على علاقة غرامية، وأن زيتون كان يخشى اكتشافها، فوثب مبتعدا عن السرير عندما سمع الحارس يقترب منه!
وعندما أدرك زيتون المعنى الذي كان الحارس يضمره كان وقت المناقشة قد فات؛ إذ اختفى الحارس في مساره بآخر الردهة، ولكن ذلك المعنى الموحى به، أي إن زيتون كان ثنائي النزعة الجنسية، وإنه يخون زوجته، أغضبه إلى الحد الذي لم يستطع معه أن يتمالك نفسه.
وفي الظهيرة أخرج زيتون من زنزانته، واقتيد إلى مكتب صغير، يقف فيه أحد حراس السجن ومعه آلة تصوير رقمية، وأمر زيتون أن يجلس على كرسي من البلاستيك، وبينا كان زيتون ينتظر الأمر التالي نظر المصور شزرا إليه ورفع رأسه.
وصاح قائلا: «هل تحدق في وجهي؟»
ولم يقل زيتون شيئا.
وصرخ المصور: «لماذا تحملق في وجهي؟»
وواصل صياحه مشيرا إلى قدرته على أن يذيق زيتون المهانة والذل في هذا المكان، وإلى أن شخصا لديه هذا التحدي لن يصمد طويلا. ولم يكن زيتون يدري ما فعل فاستفز الرجل إلى هذا الحد، بل كان الرجل ما زال يسب ويلعن عندما أخرج زيتون من الغرفة وأعيد إلى زنزانته.
وفي آخر ساعات العصر، سمع زيتون من جديد خطوات شخص قادم في الردهة، فذهب إلى مقدمة الزنزانة وشاهد الحارس نفسه.
وسأله الحارس: «ماذا تفعلان أنتما الاثنان؟»
وقال زيتون بصوت كالفحيح: «ماذا تقول؟!» لم يعرف في حياته غضبا كهذا الغضب.
وقال الحارس: «لا يسمح لك بفعل هذه الأشياء في الزنزانة يا أخ! كنت أظنه محرما في دينكما على أي حال.»
وهنا انفجر غضب زيتون، فأمطر الحارس وابلا من الشتائم والتهديدات، غير عابئ بما قد يحدث.
وبدا أن الحارس قد صدم: «هل تتحدث إلي حقا بتلك اللهجة؟ هل تعرف ما أستطيع أن أفعله بك؟»
كان زيتون قد انتهى، فذهب إلى ركن زنزانتهما القصي وطوى ذراعيه على صدره، لو كان في بقعة أقرب إلى الباب لما قاوم إغراء إلقاء نفسه على القضبان والإمساك بأي جزء تصل إليه يده من جسد الحارس.
الأحد 11 من سبتمبر
وفي الصباح فتح الباب وأضيف أربعة رجال إلى زنزانتهما. كان الأربعة أمريكيين من أصول أفريقية، تتراوح أعمارهم ما بين الثلاثين والخامسة والأربعين. وأومأ زيتون وناصر لهم بالتحية، وبعد تبادل المواقع بحركات سريعة وجد النزلاء الجدد أماكن في الزنزانة الصغيرة؛ إذ جلس ثلاثة رجال على السرير، وثلاثة على الأرض، متكئين على الجدار. وكانوا يتبادلون هذه الأماكن مرة كل ساعة، والعرق يتفصد منهم في ذلك المكان الخانق. •••
لم يعد زيتون يتوقع أن يمنحه أحد الحراس الذين شاهدهم حتى الآن فرصة إجراء مكالمة تليفونية، بل كان يأمل في أن يرى حارسا جديدا، أو موظفا جديدا في السجن أو زائرا للسجن.
لم يكن يعرف أسلوب عمل السجن، أو أسلوب عمل أي سجن، ولكنه شاهد أفلاما يسير فيها المحامون داخل عنابر السجن، ويسير فيها الزوار أيضا، كان يحتاج إلى مقابلة شخص كهذا، أي شخص من العالم خارج السجن، أي شخص يتعطف ويبدي بعض الرحمة.
وأخبر الرجال في الزنزانة بعضهم بعضا كيف انتهى الأمر بهم إلى سجن هنت. كانوا جميعا قد قبض عليهم في نيو أورلينز بعد العاصفة، قالوا: إن هذا الجناح كله من السجن يئوي سجناء كاترينا. قال أحدهم: «كلنا تابعون للوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ.» كان اثنان قد قبض عليهما بتهمة نقل الأثاث، في ظروف لا تختلف عن ظروف زيتون.
قال أحدهم إنه من عمال المرافق الصحية من مدينة هيوستن، وكانت الشركة التي يعمل فيها قد أبرمت عقدا في أعقاب العاصفة مباشرة للحضور إلى نيو أورلينز والشروع في تنظيف المدينة، وكان يسير صباح ذات يوم من فندقه إلى شاحنته عندما توقفت بجواره شاحنة تابعة للحرس الوطني، وقبض عليه فورا، ووضعت يداه في القيود الحديدية وأحضر إلى معسكر جراي هاوند.
كانت تلك أول مرة يقبض فيها عليه، وكان أشد الموجودين حيرة وبلبلة، وكان هؤلاء السجناء يعتبرون أنهم يقضون «عقوبات كاترينا»، وهو التعبير الذي ابتكروه، فهو لم يحضر إلى نيو أورلينز إلا بناء على أوامر شركته، وكان عمله الأصلي جمع القمامة في هيوستن، ولكن حدث بعد الإعصار أن قال المشرف على عمله في الشركة إنهم قد وقعوا عقدا للعمل في نيو أورلينز، وقال هذا السجين في نفسه: قد يكون من الطريف مشاهدة ما آلت إليه المدينة، كما كان يريد المساعدة في تنظيفها، فذهب إليها طائعا مختارا. كان عند القبض عليه يلبس الزي الرسمي، ومعه بطاقته الشخصية، ومفاتيح شاحنته، وكل شيء، ولكنه لم يفلح في إقناع أحد؛ إذ وجهت إليه تهمة السلب والنهب، ووضع في الأقفاص خلف محطة الأوتوبيس.
وقال أحد زملاء الزنزانة إنه كان من عمال المطافى في نيو أورلينز، وإنه ظل في المدينة لأن الإدارة طلبت منه البقاء، وكان في فناء إدارة المطافئ عندما مرت به سيارة جيب وألقى من فيها القبض عليه، متهمين إياه بالسلب والنهب، ووضعوه في خلفية السيارة وأحضروه إلى معسكر جراي هاوند.
وعرف زيتون أن معظم الذين أحضروا إلى معسكر جراي هاوند قد وجهت إليهم التهم بأسلوب نمطي، لا يكاد يختلف؛ إذ أحضرت غالبيتهم إلى محطة الأوتوبيسات في صباح اليوم التالي للقبض عليهم، وكانت محكمة مؤقتة قد أنشئت في مكتب بالطابق الثاني، وكان فيها قاض ومحام واحد على الأقل، وقرئ على المقبوض عليهم نص التهمة، وعرضت على معظمهم صفقة، فإذا لم ينكروا التهمة حكم عليهم بارتكاب مخالفة وعقوبة لا تزيد على أداء بضع ساعات في خدمة المجتمع، تبدأ فورا. وكان بعض الذين قبلوا أن يعقدوا الصفقة - بحيث أصبحت لهم صفحة سوابق دائمة - يساقون مباشرة إلى قسم الشرطة في وسط المدينة؛ حيث يشرعون في إصلاح المكاتب التي أصيبت بأضرار ويعيدون طلاءها.
كان الألم الحاد الذي يخز زيتون في جنبه وأحس به أول الأمر في معسكر جراي هاوند، قد تضاعف الآن عشرة أضعاف، كان يشعر كأن مفكا طويلا يدار ببطء مخترقا كليته، كان يصعب عليه الجلوس والوقوف والرقاد، وكلما غير وضعه كان يحس الراحة خمس دقائق قبل أن يعود الألم، لم يكن من الذين تقلقهم هذه الأمور، ولكن إحساسه بهذا كان مختلفا. خطرت بباله ألوان العدوى، أي الأمراض الكثيرة التي ذكرتها كاثي أثناء محاولتها إقناعه بمغادرة المدينة، كان يحتاج إلى المساعدة. •••
لاحظ أن إحدى الممرضات تمر داخل العنبر مرة واحدة في اليوم، وتدفع أمامها عربة زاخرة بالأدوية، وتقدم حبوب الدواء للسجناء.
وأوقفها زيتون حالما مرت أمام زنزانته، وأخبرها بما يكابده من ألم.
وسألته: «هل معك روشتة؟»
ونفى ذلك موضحا أن الألم استجد عليه.
وقالت: «إذن لا بد أن يفحصك طبيب.»
فسألها عن السبيل إلى ذلك.
قالت إن عليه أن يملأ استمارة يشرح فيها مرضه، وعندما يفحصها الطبيب سوف يقرر إن كان يحتاج إلى العلاج أو لا. وأعطته الممرضة الاستمارة وتابعت سيرها في العنبر.
وملأ زيتون الاستمارة، وعندما عادت في طريق الخروج سلمها إليها.
وبعد العشاء تبادل زملاء زيتون في الزنزانة قص ما سمعوه من غيرهم من السجناء الذين قابلوهم، كان السجناء الذين وصلوا إلى سجن هنت في الأيام التي تلت العاصفة قد كابدوا أحوالا تستعصي على الفهم.
كان الآلاف منقولين من سجن نيو أورلينز العمومي، وكان من بينهم المحبوسون بتهمة السكر العلني، وبتهمة سرقة بعض السلع من المتاجر الكبرى، وغير ذلك من الجنح، وكانوا قد تركوا ثلاثة أيام فوق الجسر البري العلوي المقام فوق شارع «برود» في المدينة، كما نقل التليفزيون صورهم، بحر من الناس بحلل السجن البرتقالية جالسين فوق نهر الطريق المتسخ بالفضلات الآدمية والقمامة، ويحيط بهم الحراس حاملين بنادق أوتوماتيكية.
وعندما وصلت الأوتوبيسات أخيرا، نقل السجناء إلى سجن هنت، وبدلا من نزولهم داخل مباني السجن، سيقوا إلى استاد كرة القدم الملحق بالمبنى، واحتجزوا هناك ثلاثة أيام أخرى خارج المباني، دون أي مأوى يئويهم، وهكذا جمع آلاف السجناء معا، من القتلة والمغتصبين إلى المتهمين بقيادة السيارة تحت تأثير الخمر وصغار اللصوص، على أرض الاستاد المغطاة بالكلأ.
ولم تكن لديهم مراحيض، فكان السجناء يتبولون ويتبرزون حيثما استطاعوا، لم تقدم إليهم وسائد ولا ملاءات ولا أكياس للرقاد فيها ولا ملابس جافة، بل أعطي كل رجل بطانية واحدة خفيفة. ولما كانت المنطقة التي بني فيها سجن هنت مستنقعا قبل بناء السجن، فإن التربة كانت تنضح بالماء أثناء الليل، وأصبح الرجال ينامون على الطين، من دون ما يحميهم من قسوة الطبيعة، والحشرات، ومن بعضهم البعض؛ إذ وقعت حوادث طعن مضاعف، أثناء منازعات الرجال حول البطاطين.
وكانوا يحصلون على الماء من أنبوبين صغيرين خارجين من الكلأ، ويضطر الرجال إلى انتظار دورهم ويشربون في كفوفهم، وأما الطعام، فكان حراس السجن يتناولون السندويتشات فيعجنونها في شكل كرات يلقونها فوق سور الاستاد حتى تقع وسط السجناء، ومن استطاع منهم أن يلقف إحدى الكرات أكل، ومن استطاع الدفاع عن نفسه أكل، وكان كثيرون منهم لا يتناولون أي طعام .
ولم يكن أحد من نزلاء زنزانة زيتون يعرف إن كان هؤلاء السجناء لا يزالون في ملعب كرة القدم أو لا، أو ما حدث لهم بعد ذلك.
الإثنين 12 من سبتمبر
في الصباح، أخرج الرجال الأربعة من الزنزانة فأصبح زيتون وناصر وحدهما مرة أخرى. لم يكن لديهما ما يفعلانه غير انتظار أي وجه جديد، أي شخص قد تؤدي مخاطبته إلى إدراك العالم الخارجي لوجودهما هنا.
كان الملل شديدا، لم تقدم إليهما كتب ولا صحف ولا جهاز للراديو، لم يكن في طوق الرجلين سوى التحديق في الجدران الرمادية، أو الأرضية السوداء، أو القضبان ذات اللون الأزرق الفاقع، أو وجه كل منهما. لكنهما كانا يخافان الكلام خوفا شديدا. كانا يفترضان أنهما يخضعان للمراقبة هنا بأسلوب ما، وإذا كان جيري جاسوسا فالمحتمل أن يكون قد دس به لمراقبتهما في قفص خارجي، ولن يكون من المدهش أن تسجل محادثاتهما هنا، في السجن ذي الحراسة المشددة.
جلس زيتون على السرير وأغمض عينيه، لم يكن يريد إلا أن تمر هذه الأيام.
واستعرض في ذهنه ظروف القبض عليهم، والساعات والأيام السابقة على ذلك، مرات لا تحصى، محاولا أن يدرك سبب لفت الأنظار إليهم. هل كان السبب ينحصر في وجود أربعة رجال في منزل واحد؟ كان يسلم بأن أمرا كهذا، بعد الإعصار وإخلاء معظم المدينة من سكانها، كان جديرا بالتحقيق فيه. ولكن التحقيق لم يحدث، ولم توجه أي أسئلة، ولم يعثر على أي أدلة، ولم توجه أي تهم.
كانت كاثي كثيرا ما تبدي قلقها من وجود الحرس الوطني وجنود آخرين عادوا إلى الولايات المتحدة من الخدمة في العراق أو أفغانستان. وكانت تحذره من المرور بجماعات الجنود في المطارات، ومن السير بجوار مكاتب الحرس الوطني. كانت تقول لزيتون، شبه متفكهة: «إنهم مدربون على قتل رجال مثلك.» لم تكن تريد لأسرتها أن تصبح من الخسائر الثانوية في حرب ليست لها جبهات يمكن تمييزها، وليس لها شكل حقيقي، ولا قواعد.
قبل ما يقرب من عشرين عاما، كان يعمل على ظهر ناقلة بترول تسمى «أندروميدا»، وكان الرجال قد انتهوا لتوهم من نقل البترول الكويتي إلى اليابان، وفي طريق عودتهم إلى الكويت لنقل المزيد. كان ذلك عام 1987، وكانت إيران والعراق تخوضان حربهما الطويلة المنهكة للطرفين، وكانت معظم مصافي البترول عندهما قد دمرت أثناء القتال، فأصبحت الدولتان تعتمدان على الواردات البترولية، وكانتا تحاولان بانتظام اعتراض أي سفن تنقل البترول إلى العدو من خلال مضيق هرمز، أو إحداث الأضرار بها، وكان زيتون ورفاقه في السفينة يعرفون أن دخول خليج عمان، تمهيدا لدخول الخليج العربي، كان يعني إثارة غضب الغواصات والسفن الحربية التابعة للعراق أو لإيران، وكان البحارة يحصلون على أجر إضافي لتعويضهم عن المخاطر.
وكان مرقد زيتون في السفينة فوق خزانات الوقود فيها مباشرة، وكان نائما ذات صباح حين انتفض نتيجة انفجار وقع أسفل مرقده. لم يكن يعرف إن كان أحد الخزانات قد انفجر أم أن السفينة قد ارتطمت بشيء ما. وسرعان ما أدرك أنه لو كان الخزان قد انفجر لكان في عداد الأموات، ومن ثم فلا بد أن السفينة ارتطمت بشيء، أو صدمها شيء. وكان في طريقه مسرعا إلى برج القيادة حين وقع انفجار آخر هز السفينة هزا.
كانت الطوربيدات الإيرانية قد أصابت السفينة مرتين، وأدى اصطدامها إلى إحداث فجوة كبيرة تكفي لدخول زورق بمحرك فيها! ولكن كان من الواضح أن الإيرانيين لم يكونوا يقصدون إغراق الناقلة ولو أرادوا ذلك لكان يسيرا حقا، كانوا يريدون إرسال تحذير، وجعل السفينة عاجزة عن مواصلة السير.
وتمكن البحارة من الوصول إلى عدن؛ حيث استغرق إصلاح العطب في هيكل السفينة شهرا. وأثناء انتظار الإبحار من جديد قرر زيتون أن والده محمودا ربما كان على حق، وأن الوقت قد حان للاستقرار في مكان ما، ولبناء أسرة، وللبقاء سليما مخلصا على اليابسة، وبعد شهور معدودة، خرج من «أندروميدا» في هيوستن وبدأ البحث عن كاثي.
الثلاثاء 13 من سبتمبر
لم يناقش زيتون وناصر إمكان بقائهما في هذا السجن شهورا عديدة، بل أعواما. ولكن ذلك كان يجول بخاطرهما، كانا يقولان إن الناس يجهلون مكان وجودهما ، وإن ذلك يتيح للمسئولين - أيا كان المسئول الذي يريد إبقاءهما هنا - سلطة كاملة لا راد لها في مواصلة احتجازهما وإخفائهما إلى الأبد.
لم يستطع ذهن زيتون أن يلمح حتى الآن بارقة إجراء ما قد يستطيع اتخاذه دفاعا عن قضيته. لم يكن مسموحا له بإجراء اتصال تليفوني، ولم يكن أمامه أدنى دليل على أنه سوف يسمح له بذلك. لم يستطع الاتصال بأي شخص في العالم الخارجي، لقد تحدث مع الممرضة، ولكنها من الموظفين الدائمين في السجن. لم يكن لتأكيد براءته لها أي جدوى، فمن الأرجح أنها لا تسمع طول النهار سوى تأكيدات البراءة. بل إنه كان يعرف أن وجوده في سجن مشدد الحراسة من شأنه أن يثبت إدانته في أذهان جميع العاملين فيه، وكان الحراس قد اعتادوا الإشراف على الرجال الذين كانوا يدانون في المحاكم.
ويضاف إلى هذا أن السجن كان معزولا إلى الحد الذي يحول دون خضوعه لإشراف من أي نوع، ويمنع وصول أي مدنيين إليه للتحقق من أحواله، ولم يكن قد سمح لزيتون بمغادرة مبنى السجن الذي يقيم فيه قط، ولم يسمح له بمغادرة الزنزانة إلا للاستحمام. وكان الحمام نفسه محاطا بالقضبان. وما داموا قد رفضوا السماح له بمكالمة تليفونية لمدة سبعة أيام، فلماذا يغيرون سياستهم في المستقبل؟
كان لديه أمل واحد ألا وهو تقديم اسمه والإعلان عن براءته لكل سجين قد يقابله، عسى أن يطلق سراح أحدهم يوما ما وربما لم يكتف بتذكر اسمه، بل تكفل بالاتصال بكاثي أو بإخبار أي فرد بمكان وجوده، ولكن من تراه بين هؤلاء سوف يصدق أنه من الأبرياء حقا في السجن؟ وكم من الأسماء الأخرى قد عرفوها؟ وكم من الوعود قد قطعوها على أنفسهم؟
عندما قبض على زيتون أصلا، لم يكن واثقا بأن بلده الأصلي كانت له علاقة بذلك؛ إذ كان اثنان من المجموعة التي قبض عليها أمريكيين من أصحاب البشرة البيضاء، ولدا في نيو أورلينز، ولكن الاعتقال تغير مساره تماما عندما أحضر الجميع إلى معسكر جراي هاوند، وعلى الرغم من كراهية هذه النقلة في تفكيره، فإنه تساءل في نفسه: أليس من المحتمل على الإطلاق أن ينقل، مثل العديد من الآخرين، إلى مكان خفي؛ إلى أحد السجون السرية خارج البلاد؟ إلى خليج جوانتانامو؟
لم يكن زيتون من النوع الذي يخاف مثل هذه الأمور. لم يكن من أصحاب نظريات المؤامرة أو الاعتقاد بأن حكومة الولايات المتحدة ترتكب انتهاكات حقوق الإنسان عمدا، ولكن كل شهر كانت تنشر فيما يبدو قصة جديدة عن إطلاق سراح أحد مواطني إيران أو المملكة العربية السعودية أو ليبيا أو سوريا، أو أي بلد من عدد من البلدان الإسلامية الأخرى، بعد قضاء شهور أو سنوات في أحد المعتقلات، وكانت القصص متشابهة في العادة، كانت الحكومة الأمريكية تشتبه في أحد المسلمين، وكان يسمح للعاملين بهذه الحكومة بموجب السلطات المخولة حاليا لرئيس الجمهورية أن يقبضوا على الرجل في أي مكان في العالم، وأن ينقلوه إلى أي مكان في العالم، من دون الحاجة إلى اتهامه بارتكاب أي جريمة.
كيف كانت حالة زيتون الراهنة تختلف عن ذلك؟ كان حبيسا ممنوعا من الاتصال بأحد، ودون اتهام، أو كفالة أو محاكمة، أفلن تلتزم وزارة الأمن الداخلي بإضافة اسم جديد إلى قائمة الأشخاص الخطرين لديها؟ إن مجرد تصور انطلاق اثنين سوريين في قارب يجوب مدينة نيو أورلينز بعد الإعصار كفيل بإثارة الريبة في قلوب بعض الأمريكيين، وحتى لو كان رجل الدعاية من الهواة المبتدئين لاستطاع أن يجد في هذه الصورة إيحاءات شر مضمرة.
لم يكن من اليسير على زيتون أن يقبل هذه الأفكار؛ إذ كانت تناقض كل ما عرفه وآمن به عن البلد الذي اتخذه موطنا، ولكنه كان مع ذلك قد سمع تلك القصص. كان بعض الأساتذة والأطباء والمهندسين قد قبض عليهم واختفوا شهورا وسنوات تحقيقا للأمن القومي.
لم لا يحدث هذا لرجل عمله طلاء المنازل؟
الأربعاء 14 من سبتمبر
كان الألم في جنب زيتون قاهرا، وسواء كان واقفا أو جالسا في أوضاع معينة، كان يجد التنفس عسيرا. كان عليه طلب المساعدة.
وعندما سمع صوت عربة الممرضة تسير في بهو العنبر هب واقفا ليلقاها عند القضبان.
وسألها : «هل أعطيت استمارتي للطبيب؟»
قالت إنها أعطتها له، وإنه سوف يأتيه الرد بسرعة.
قال ناصر: «تبدو مريضا.»
وقال زيتون: «أعرف ذلك.» - «فقدت كثيرا من وزنك.» - «إنه الألم. لقد اشتد الآن كثيرا.»
وخطرت لزيتون فكرة غريبة مباغتة، ألا وهي أن الألم في جنبه قد لا يكون ناجما عن العدوى أو الإصابة، بل من الحزن. ربما لم يكن له سبب طبي، ربما كان مجرد أمارة من أمارات غضبه وتأسيه وعجزه. لم يكن يريد أن يكون أي من ذلك صحيحا. لم يكن يريد أن يصدق أن بيته ومدينته مغموران بالماء. لم يكن يريد أن يصدق أن زوجته وأطفاله في مكان يبعد عنه ألفا وخمسمائة ميل، وربما كانوا يفترضون الآن أنه مات، لم يكن يريد أن يصدق أنه أصبح الآن رجلا في قفص، وربما ظل إلى الأبد رجلا في قفص، خفيا خبيئا، أو أنه لم يعد جزءا من هذه الدنيا.
الخميس 15 من سبتمبر
غدا زيتون الآن يعرف دقات عربة الممرضة مثلما يعرف دقات قلبه، فوثب إلى القضبان ليلقاها.
سألها: «ماذا قال الطبيب؟»
فقالت: «عن أي شيء؟»
فقال: «عن حالتي. ألم تعطيه الاستمارة؟»
فقالت: «أوه! أنت تعرف، لا أظن أنه أخذها. الأفضل أن تملأ استمارة أخرى.» وقدمت إليه استمارة أخرى.
ولم يرها من جديد في ذلك اليوم أو اليوم التالي. •••
بدأ زيتون يشعر بأنه سوف يغمى عليه حين نهض على قدميه. لم يكن يتناول ما يكفي من الطعام، وكان يبدو أن كل وجبة عمادها لحم الخنزير. وحتى حين كان يستطيع أن يأكل ما يقدم له، كان كثيرا ما يغلبه القلق أو الاكتئاب فيمنعه عن الأكل.
وبعد الغداء وصل ثلاثة حراس. فتحوا باب الزنزانة ودخلوا. ووضعوا القيود الحديدية في يدي زيتون وقدميه، ثم اقتادوه خارج الزنزانة، وساروا به إلى مبنى آخر ووضعوه في زنزانة أخرى خالية. أصبح الآن وحده.
لم يكن يتحادث كثيرا مع ناصر، ولكن التناقض بين حاله معه ووحدته الآن كان شديدا.
وحاول زيتون أن يتذكر قيمة بوليصة التأمين على حياته، كان ينبغي أن يشتري بوليصة أكبر، والواقع أنه لم يكن قد فكر التفكير الجاد اللازم في الأمر. كانت المرأة في شركة أولستيت للتأمين قد حاولت إقناعه بتأمين حياته بأكثر من مليون دولار، ما دام لديه أربعة أطفال، وما دام العمل يعتمد اعتمادا كبيرا على وجوده، ولكنه لم يكن يتخيل الموت آنذاك؛ إذ لم يكن قد تجاوز السابعة والأربعين، وظن أن الوقت لم يكن قد حان للتفكير في التأمين على الحياة. ولكنه كان واثقا بأن كاثي كانت الآن تتحقق من قيمة بوليصة التأمين، ولا بد أنها بدأت تتخيل الحياة دون وجوده.
كان حين يتصور قيام زوجته بوضع أمثال تلك الخطط، مفترضة وفاته، كان قلبه يغلي غضبا. كانت تراوده أفكار حانقة عن رجال الشرطة الذين قبضوا عليه، والسجانين الذين يحبسونه هنا، والنظام الذي يسمح بهذا. كان يلوم روني، الغريب الذي أتى إلى المنزل في شارع كليبورن، ولم يكن يعرفه ولم يستطع تبرير وجوده، فربما كان وجوده سببا في إثارة الاشتباه فيهم جميعا، ربما «كان» روني مذنبا فعلا، ربما «كان» قد ارتكب فعلا جريمة ما، وأخذ يلعن حقيبة النقود التي كان ناصر يحملها. يا له من أحمق! ما كان ينبغي له أن يتنقل بمثل هذا المقدار من مكان لمكان.
كاثي، زخاري، الفتيات، قد تكبر الفتيات من دون والد يرعاهن. فلو نقل زيتون إلى سجن سري فلسوف تنقلب حياتهن رأسا على عقب؛ إذ سوف يتحولن من بنات رجل أعمال ناجح وموسر إلى بنات يتحملن عار رجل يفترض أنه العقل المدبر لخلية إرهابية كامنة.
وحتى لو خرج من السجن غدا أو في الأسبوع القادم، فلسوف يكون والد الأطفال قد دخل السجن. كانت الندوب محتومة، كيف يعيشون في خوف من وفاة والدهم ثم يكتشفون أنه أدخل السجن تحت تهديد السلاح، وأصبح سجينا، وأرغم على أن يعيش مثل الفأر؟
وأطبق بيديه على جنبه، ضاغطا على مصدر الألم، محاولا السيطرة عليه.
الجمعة 16 من سبتمبر
أبلغ السجناء بأنهم سوف يسمح لهم بعد الغداء بالخروج من الزنزانات، ولم يكن زيتون قد شاهد الشمس أسبوعا كاملا.
وخلال الساعة التي سمح لهم فيها بالتنزه في الفناء حاول زيتون ممارسة رياضة الهرولة، ولكنه كان يشعر بدوار، فاكتفى بالمشي حول الفناء، وكان يصغي عرضا لقصص متوالية تعبر عن الحيرة والبلبلة.
قابل رجلا قال إنه كان ينقل قطع الأثاث داخل منزله بعد انقضاض العاصفة مباشرة، ولمحه رجال الشرطة واقتحموا المنزل، وعندما أوضح لهم براءته ضربوه وخرجوا، وبعد أيام أتى إلى محطة كلاب السباق لتقديم شكوى، فقبضوا عليه وأرسلوه إلى سجن هنت.
لم تكن هذه قصة تفوق في طابعها العبثي قصة ميرلين ماتين. كان أحد السجناء قد شاهد قصتها في التليفزيون، وكانت محتجزة في المبنى المجاور، في سجن هنت للنساء.
كانت ماتين في الثالثة والسبعين من عمرها، وتعاني من مرض السكر، وتشغل وظيفة شماسة في كنيسة رسالة البعث المعمدانية. كانت قبل العاصفة قد نزلت مع زوجها الذي كان في الثمانين من عمره في فندق بوسط البلد، واثقين بأنهما سيكونان هناك وسط غيرهم من المقيمين والضيوف، وأنهما سوف يجدان العون إذا احتاجا إليه، وأن المكان أسلم لأنه مبني فوق ربوة، وصلا إلى الفندق في سيارتهما ودفعا أجرة الغرفة ببطاقة الائتمان.
كانا قد قضيا ثلاثة أيام في الفندق حين هبطت ماتين إلى الطابق السفلي لكي تحضر بعض الطعام من سيارتهما. كان العمدة ناجين قد طلب إلى كل من في المدينة أن يجهز طعاما يكفي ثلاثة أيام، وكانت قد خزنت في السيارة قدرا كافيا، حسبما قال العمدة. وكانت السيارة واقفة في ساحة الانتظار المجاورة للفندق، وكانت ماتين قد وضعت في السيارة ثلاجة صغيرة زاخرة بالأطعمة التي يحبها زوجها. أخذت من الثلاجة بعض السجق وكانت عائدة إلى الفندق حين سمعت صراخا وأصوات أقدام، كانوا رجال الشرطة الذين اتهموها بنهب ما في يدها من متجر قريب.
كان محل بيع الأطعمة الشهية القريب، واسمه «ادخل واخرج»، قد تعرض منذ قليل للسلب والنهب، وكان رجال الشرطة يبحثون عن أي شخص يكون قد شارك في ذلك، فوجدوا ماتين ، وضعوا يديها في القيود الحديدية واتهموها بالسطو على مواد غذائية قيمتها 63,50 دولارا، وحدد أحد القضاة تليفونيا مبلغ كفالتها بمقدار 50000 دولار، وأما الكفالة المعتادة في أمثال هذه الجنح فكانت 500 دولار.
وجيء بها إلى معسكر جراي هاوند حيث نامت على الأسفلت. ثم نقلت إلى معهد لويزيانا الإصلاحي للنساء، وهو السجن الشقيق لسجن هنت، حيث ظلت فيه أكثر من أسبوعين، ثم أطلق سراحها أخيرا بمعاونة من الجمعية الأمريكية للمتقاعدين، والمحامين الذين تطوعوا للدفاع عنها، ومحام ترافع عنها بصفة شخصية، ومقال عن محنتها نشرته وكالة أسوشي تد برس.
وتمكن المحامون أخيرا من إقناع أحد القضاة بأن امرأة في السبعينيات من عمرها وتنزل في أحد الفنادق لن تحتاج إلى نهب السجق من أحد الدكاكين، وأثبتوا أن الدكان المذكور لم يكن يبيع نوع السجق الذي كانت تحمله. ولم تكن ماتين قد دخلت ذلك الدكان قط، أضف إلى ذلك أن مجرد دخول الدكان المحطم، الذي تتناثر فيه الأنقاض والزجاج المكسور، كان يقتضي من خفة الحركة ما لا يتوافر عند العجوز.
وفي أواخر عصر ذلك اليوم سمع زيتون مجموعة من الحراس تدخل العنبر، لم يكن يستطيع أن يراهم ولكن الأصوات كانت توحي بأربعة رجال أو خمسة على الأقل، وسمع ضجة انفتاح زنزانة في العنبر، وتعالت صيحات الحراس وشتائمهم، وأصوات تنم عن مشاجرة من نوع ما. ثم ساد الصمت بضع دقائق، وأغلقت الزنزانة من جديد، وتكرر وقوع ذلك نحو ست مرات.
ثم جاء دوره. رأى وجوههم أولا، خمسة رجال على الناحية الأخرى من القضبان الزرقاء، كان قد شاهد أحد الحراس من قبل، ولكن الأربعة الآخرين كانوا غرباء. كانوا جميعا يلبسون أردية مكافحة الشغب السوداء، كانوا يحملون دروعا، ويرتدون بطانات، ويمسكون عصيا قصيرة، ويلبسون خوذات، وكانوا ينتظرون في وضع الاستعداد لفتح الباب.
واعتزم زيتون ألا يبدي مقاومة، وألا يظهر بأي مظهر يوحي بالمعارضة، وعندما فتح الباب كان يقف في منتصف الزنزانة، رافعا يديه في الهواء، وعيناه تنظران في مستوى النظر العادي.
ولكن الرجال اقتحموا الزنزانة على الرغم من ذلك كأنه كان بصدد ارتكاب جريمة قتل، وبدأ ثلاثة منهم يسبونه ويستخدمون دروعهم في دفعه إلى الجدار، وأثناء ضغط وجهه في القرميد الخفيف الذي بني منه الجدار، وضعوا يديه في القيود الحديدية والأصفاد في قدميه.
وأخرجوه إلى البهو، وأمسك به ثلاثة حراس، بينما انقض الآخران يفتشان الزنزانة، بعثرا ما كان على السرير، وقلبا الفراش، ومشطا الغرفة الصغيرة.
وفك حارسان قيود زيتون وأصفاده.
وقال أحدهما: «اخلع ملابسك.»
وتردد. لم يكن قد أعطي أي ملابس داخلية عندما وصل إلى سجن هنت، فإذا خلع الأوفرول أصبح عاريا تماما.
وقال الحارس: «الآن!»
وفك زيتون السوستة وخلع القسم العلوي من الأوفرول الذي هبط إلى وسطه، ثم دفع به إلى الأرض. كان يحيط به ثلاثة رجال يرتدون الزي الأسود الكامل لمكافحة الشغب، حاول أن يغطي سوءته.
قال أحد الحراس: «قم بالانحناء.»
وتردد من جديد. «هيا!»
فأطاع زيتون الأمر.
فقال الحارس: «زد انحناءك. المس كعبيك.»
لم يستطع زيتون أن يعرف من كان يفتشه، أو كيف يقوم بالتفتيش. وتوقع إدخال شيء من فتحة المستقيم في أي لحظة.
وقال الحارس: «كفى. انهض.»
لقد أعفوه من هذه الإهانة اليوم.
ووقف زيتون، ودفع أحد الجنود بقدمه الأوفرول الذي كان زيتون يرتديه داخل الزنزانة، ثم دفع زيتون فيها كذلك، وبينما كان زيتون يرتدي ثيابه تراجع الحراس عنه رافعين دروعهم، ثم خرجوا من الزنزانة.
وأغلق باب زيتون، وتجمع الحراس عند الزنزانة التالية، استعدادا للسجين التالي.
وعرف زيتون من السجناء الآخرين أن هذا التفتيش كان شائعا، وأن الحراس كانوا يبحثون عن المخدرات والأسلحة وغيرها من الممنوعات، وقالوا إن عليه أن يتوقع التفتيش مرة كل أسبوع.
السبت 17 من سبتمبر
قضى زيتون في الفراش جانبا كبيرا من النهار مرهقا منهكا؛ إذ لم يكن قد نام، وظل يستعرض التفتيش الذاتي في ذهنه معظم ساعات الليل، محاولا أن يمحو كل ذكرى له، لكنه ما إن يغلق جفنيه حتى يرى الرجال في زي مكافحة الشغب، على الجانب الآخر من باب الزنزانة، ينتظرون اقتحامها واقتناصه.
كان يبدو لزيتون أنه ظل على امتداد أسابيع يختلس ساعات نعاس بالنهار وسويعات بالليل، ولا يذكر آخر مرة استطاع أن يحظى فيه براحة تزيد على ثلاث ساعات متوالية.
لماذا فعل هذا بأسرته؟ لقد انكسر شيء ما في البلد، لا شك في هذا، ولكنه كان هو الذي بدأ كل هذا؛ إذ رفض مغادرة المدينة، ومكث فيها لرعاية ممتلكاته، ولحراسة عمله. ولكن شيئا آخر غلبه، إحساس قدري من لون ما. إحساس بأن الله قد وضعه هناك لينفذ مشيئة الله، وليسبح بحمده بالأعمال الصالحة.
بدا له هذا الآن مدعاة للسخرية. كيف سمح لنفسه بارتكاب هذا الذنب، ذنب الكبر والصلف؟ لقد ألقى بنفسه في التهلكة، وبذلك عرض أسرته للخطر. كيف فاته أن يدرك أن البقاء في نيو أورلينز المدينة التي تخضع لما يشبه الأحكام العرفية، سوف يعرضه للخطر؟ لم تكن حكمته تقضي بهذا، ولقد أبدى الحرص فعلا سنوات طويلة؛ إذ حافظ على تواضعه، وكان المواطن المثالي. لكنه في أعقاب العاصفة اعتقد أنه مرسل لمساعدة المشردين، واعتقد أن ذلك القارب الملعون قد منحه الحق في القيام بدور الراعي والمخلص، لقد فقد النظرة الصحيحة للواقع!
كان يتوقع أكثر مما ينبغي ويرجو أكثر مما ينبغي.
كان البلد الذي تركه منذ ثلاثين عاما مكانا واقعيا، كانت فيه وما زالت، حقائق سياسية تمنع الثقة العمياء، وتمنع الفرد من الظن بأن كل شيء سوف ينتهي دائما على خير وجه من العدل والإنصاف. ولكنه غدا يؤمن بذلك في الولايات المتحدة، فلقد وفق في مسعاه وتغلب على المصاعب، اجتهد في عمله فأحرز النجاح، فالجهاز الحكومي يعمل بكفاءة، وحتى لو كان هذا الجهاز يميل أحيانا إلى البطء في نيو أورلينز، أو يتسم أحيانا بضعف الإدارة فإنه بصفة عامة يعمل بكفاءة.
ولكن ما عاد اليوم شيء يعمل بكفاءة، أو قل إن كل جزء من أجزاء هذا الجهاز - الشرطة، والجيش، والسجون - التي قصد بها حماية أشخاص مثله أصبح يلتهم كل من يقترب منه. لطالما اعتقد أن الشرطة تستهدف تحقيق مصالح الناس الذين تخدمهم بأفضل صورة، وأن الجيش يتحلى بالمسئولية، والتعقل، والانضباط؛ بفضل دوائر متحدة المركز يزداد اتساعها، وهي دوائر النظم والقوانين والمنطق السليم وحسن المعاملة.
ولكن هذه الآمال يمكن أن تودع الآن مثواها الأخير.
ولم يكن هذا البلد فريدا في هذا، وليس معصوما من الخطأ؛ إذ ارتكبت بعض الأخطاء، وكان هو أحدها، ففي الإطار الكبير للكفاح الأعمى الجشع الذي يخوضه البلد ضد الأخطار المرئية والخفية، لا بد أن تقع أخطاء؛ إذ يصبح الأبرياء قيد الاشتباه، ويزج بالأبرياء في السجون.
وخطر بباله مصطلح «الصيد غير المقصود»، وهو مصطلح خاص بصيد الأسماك، كانوا يستخدمونه في صباه أثناء صيد السردين على ضوء المصباح الذي يحاكون به ضوء القمر؛ إذ إنهم كانوا عندما يسحبون الشباك يجدون آلاف السردين، بطبيعة الحال، ولكنهم كانوا يجدون مخلوقات أخرى، كائنات حية، لم يقصدوا صيدها ولا نفع لها عندهم.
وكانوا كثيرا ما لا يدركون هذا إلا بعد فوات الوقت، كانوا يجيئون بصيدهم إلى الشاطئ - جبل من الفضة - أعداد هائلة من السردين الذي ينفق تدريجيا، وكان زيتون المنهك يستريح في مقدمة السفينة، ناظرا إلى الأسماك التي يتوقف كفاحها تدريجيا، وعندما تصل السفينة إلى الشاطئ، ويفرغ الصيادون شباكهم، قد يجدون شيئا آخر. وذات مرة وجدوا دولفينا. لم ينس قط ذلك الدولفين؛ إذ كان حيوانا رائعا ذا لون أبيض عاجي يبرق في المرفأ مثل الخزف الصيني. وحاول الصيادون تحريكه بأقدامهم لكنه كان قد مات، كان قد وقع في الشباك ولم يستطع تخليص نفسه للوصول إلى السطح للتنفس فمات داخل الماء، لو كانوا قد لاحظوا وجوده في الوقت المناسب لأطلقوه، لكن لم يكن في طوقهم الآن إلا الإلقاء به من جديد في البحر المتوسط؛ حيث يغدو طعاما لكائنات القاع.
كان الألم في جنب زيتون يشتد، ناشرا موجاته في جسمه، لن يكون في مقدوره أن يمكث هنا أسبوعا آخر، لن يستطيع أن ينجو من انفطار فؤاده، من إدراكه للخطأ المرتكب.
كان من المحال أن يتحسن حاله قبل الخروج من هذا السجن. وليس بالأسلوب الذي يعامل به، لقد شاهد بعض مناطق من سجن هنت تتميز، فيما يبدو ، بحسن الإدارة، والنظافة، والكفاءة، فعندما وصل أول الأمر وأجريت له مراسم الدخول، شاهد بعض السجناء يتنقلون في حرية في الفناء الشاسع الذي يكسوه الكلأ، ولكنه كان محبوسا في زنزانته ثلاثا وعشرين ساعة في اليوم من دون تسرية أو صحبة أو جمال. وكان هذا المكان كفيلا بأن يصيب العاقل بالجنون، الجدران الرمادية، القضبان الزرقاء، ومرات التفتيش الذاتي، والاستحمام خلف القضبان تحت أعين الحراس وآلات التصوير، وافتقاد أي شيء قادر على تنبيه الذهن، ولما كان عاجزا عن العمل، أو القراءة، أو البناء، أو تنشيط ذهنه، فلسوف يذوي في هذا المكان.
لقد خاطر بالكثير أملا في أن ينجز شيئا يضارع منجزات أخيه محمد. لا، لم يكن ذلك جزءا من دوافعه الواعية، بل لقد فعل ما يستطيع في المدينة الغارقة لأنه كان موجودا فيها، وكان لا بد من فعل ما فعل؛ إذ كان قادرا عليه. ولكن، ألم يكن يستشعر في باطنه أملا في أن يتمكن هو الآخر من فعل ما تفخر به أسرته، والإخلاص لخالقه بأن يبذل كل ما في وسعه، بأن يطوف بالمدينة باحثا عما يلوح من فرص لفعل الخير؟ وهل كان هذا السجن أسلوب الخالق في وضع حد لكبريائه، والحد من أحلام فخره واعتزازه؟ •••
وبينما كان السجناء يستيقظون، وتعلو جعجعتهم وتهديداتهم، كان زيتون يصلي، ودعا الله أن يهب أسرته الصحة والعافية، وأن يبث في قلوب أفرادها الطمأنينة، ثم دعا الله أن يرسل رسولا، لم يكن يحتاج إلا إلى رسول، شخص يبلغ زوجته أنه على قيد الحياة، شخص يربطه بذلك الجانب الذي لم يتعطل في هذا العالم.
الأحد 18 من سبتمبر
كان زيتون قد قضى الصباح في نعاس متقطع، يغلبه الدوار والتراخي بسبب الحر الشديد، وكان عرقه يبلل الأفرول البرتقالي الذي ينضح به، وسمع إعلانا بأنهم سوف يسمح لهم بالخروج للمشي قليلا بعد الغداء، ولكنه لم يكن متأكدا من أنه قادر على الوقوف ناهيك بالمشي.
كان يشعر بخيبة أمل في نفسه، كان جانب من ذاته قد استسلم، والجانب الذي لا يزال مؤمنا يبدو منفصلا عن النصف المنكسر في ذاته، لا يكاد يصدق انكساره .
وترددت أصداء عجلات عربة الممرضة في البهو، لم يكن لديه ما يجعله يتصور أنها سوف تساعده، لكنه وقف وتأهب لاستعطافها من جديد، لكنه عندما نظر إلى البهو لم يجد الممرضة، بل رأى رجلا لم يره من قبل قط.
كان الرجل يدفع عربة عليها كتب سوداء، وكان قد وقف على مبعدة عدة زنزانات من زنزانة زيتون. كان يتحدث إلى أي سجين يجده، وظل زيتون يراقبه، غير قادر على سماع المحادثة، كان الرجل أسود البشرة، في الستينيات من عمره، وكانت مشاهدته وهو يتفاهم مع السجناء على امتداد صف الزنزانات تقطع بأنه من رجال الدين، وكانت الكتب التي يجرها في العربة نسخا من الكتاب المقدس.
وعندما انتهى من محادثته ومر بزنزانة زيتون، استوقفه زيتون قائلا: «من فضلك! مرحبا بك!»
ورد رجل التبشير قائلا: «مرحبا!» كانت عيناه لوزيتين، وله بسمة عريضة، ثم قال: «هل تود أن تسمع شيئا عن يسوع المسيح؟»
واعتذر زيتون قائلا: «من فضلك يا سيدي، من فضلك، أنا لا ينبغي أن أكون هنا؛ إذ لم أرتكب أي جرائم، ولكن لا يعرف أحد أنني هنا. لم يسمح لي بإجراء مكالمة تليفونية. وتظن زوجتي أنني ميت. هل يمكنك الاتصال بها؟»
وأغلق رجل التبشير عينيه، كان من الواضح أنه كان كثيرا ما يسمع أقوالا كهذه.
قال زيتون: «أرجوك. أعرف صعوبة تصديق رجل في قفص، ولكن أرجوك. هل تسمح لي بأن أعطيك رقم تليفونها وحسب.» لم يكن زيتون يتذكر غير رقم تليفونها الخلوي، وكان يأمل أن تنجح المحاولة. ونظر رجل التبشير في أرجاء البهو ثم أومأ قائلا: «أسرع.»
وقال زيتون: «شكرا، اسمها كاثي، وهي زوجتي، ولدينا أربعة أطفال.»
لم يكن لدى زيتون قلم ولا ورق.
وقال رجل التبشير: «هذا ضد القواعد!» وهو يلتقط قلما من عربته، لم تكن معه أوراق، وظهر التوتر على كليهما آنذاك؛ إذ كان رجل التبشير قد قضى وقتا أطول مما ينبغي أمام زنزانته، ففتح نسخة من نسخ الكتاب المقدس وانتزع ورقة من آخرها، وأملاه زيتون الرقم، ودس رجل التبشير الورقة في جيبه، ودفع عربته بسرعة في بهو العنبر.
وأشرق الأمل في نفس زيتون. لم يستطع الجلوس ساعات متوالية، بل ظل يسير رائحا غاديا ويتواثب في مكانه، وقد غمره الفرح، ورسم في خياله صورة رجل التبشير وهو يغادر السجن ويذهب إلى سيارته ويأخذ الرقم من جيبه ويطلب كاثي في الطريق. وربما انتظر حتى يعود إلى المنزل. كم يستغرق ذلك من الزمن؟ كان يعد الدقائق التي ستمضي قبل أن تعرف كاثي. لسوف تعرف! حاول أن يحسب الساعات التي ستستغرقها كاثي حتى تصل هنا لتطلق سراحه. لو عرفت أنه حي لاستطاع الانتظار. كان يدرك أن هذه الخطوات قد تتطلب أياما، لكنه يستطيع الانتظار ما دام سوف يراها، لن تكون في ذلك مشكلة. وصور لنفسه كل شيء، لسوف يطلق سراحه في غضون يوم واحد.
وحاول زيتون أن ينام تلك الليلة. إن رجلا واحدا في هذه الدنيا يعرف أنه على قيد الحياة، لقد وجد الرسول الذي كان ينشده.
الإثنين 19 من سبتمبر
بعد الإفطار أتى حارسان إلى زنزانة زيتون وقالا له إن حضوره مطلوب.
وسأل زيتون: «أين؟ مع من؟» وقال في نفسه: «لقد بدأنا بالفعل!»
لم يخبره الحارسان بشيء، فتحا زنزانته ووضعا يديه في القيود وقدميه في الأصفاد، واقتاداه إلى خارج الزنزانة وسارا به في البهو. وبعد بضع دقائق وصلا إلى زنزانة أخرى أدخلا زيتون فيها حيث انتظر خمس دقائق حتى فتح الباب مرة أخرى.
وقال الحارس: «الشاحنة هنا.» ثم سلمه إلى حارس آخر سار معه فى بهو آخر حتى وصلا إلى بوابة أخيرة، وفتحت البوابة واقتيد زيتون إلى شاحنة بيضاء واقفة خارجها، وأغشى عينيه ضوء النهار الساطع، وأدخل الشاحنة والحارس يركب معه، وسارت بهما الشاحنة في أرجاء المجمع حتى وصلا إلى المكاتب الرئيسة في مقدمة المجمع.
أخرج زيتون من الشاحنة وتسلمه حارس آخر اقتاده إلى داخل المبنى؛ حيث سارا في بهو رائع حتى وصلا إلى مكتب رمادي الجدران ملحق بالمجمع.
وشاهد خارج المكتب ناصرا وتود وروني جالسين على كراسي من النوع الذي يطوى في البهو، فاندهش لمشاهدتهم مجتمعين، وتبادل معهم نظرات الحيرة، وسيق زيتون أمامهم حتى أدخل غرفة صغيرة.
كان في الغرفة رجلان يرتديان الحلل، فجلسا وأومآ إلى زيتون أن يجلس. قالا إنهما يعملان في وزارة الأمن الداخلي، وابتسما ابتسامة ودودة لزيتون، وقالا إنهما يريدان أن يطرحا عليه بعض الأسئلة البسيطة. سألاه عن عمله الذي يعيش منه، فقال إنه يعمل بالمقاولات وطلاء المنازل. ثم سألاه عما حدا به إلى البقاء في المدينة بينما أجلي الجميع منها، فقال إنه لم يرحل قط عن نيو أورلينز في أثناء العواصف، وإنه يمتلك عددا من العقارات يريد أن يرعاها. وسألاه عن تود وناصر وروني، وكيف عرفهم، فأوضح علاقته بكل منهم، وسألاه عن سبب عدم حمله أي نقود.
وقال زيتون: «وماذا عسى أن أفعل بالنقود في قارب أثناء الفيضان؟!»
فقال أحدهما: «ولكن ناصرا كان يحمل نقودا.»
وهز زيتون كتفيه؛ لم يكن يستطيع إيضاح سبب حمل ناصر للمال.
واستغرقت المقابلة أقل من ثلاثين دقيقة، وراع زيتون ما لمسه من ود الرجلين ومن سهولة الأسئلة. لم يسألاه عن الإرهاب، ولم يتهماه بالتآمر ضد الولايات المتحدة. وفي نهاية المقابلة اعتذرا لزيتون عما حدث له، وسألاه إن كان يريدهما أن يفعلا شيئا من أجله.
قال زيتون: «أرجوكما اتصلا بكاثي!»
فقالا إنهما سوف يتصلان.
الإثنين 19 من سبتمبر
كانت كاثي بالغة التوتر، لم يكن قد مضى على مكالمة رجل التبشير غير ساعات معدودة، وها هو ذا التليفون يرن من جديد. وأما يوكو التي ظلت تتلقى المكالمات أياما متوالية فلم تعد تعرف ما ينبغي أن تفعل، والتقطت كاثي التليفون.
كان الصوت صوت رجل يقول إنه ينتمي إلى وزارة الأمن الداخلي. وأكد لكاثي أن «زيتون» في سجن إلين هنت. - «إنه بخير يا سيدتي. لم يعد يهمنا أمره!» - «لم يعد يهمكم أمره؟ أذلك حسن أم سيئ؟» - «حسن يا سيدتي.» - «إذن بأي تهمة دخل السجن؟» - «لدينا تهمة «السلب والنهب» على بيان القبض عليه. ولكن هذه التهم سوف تسقط.»
كانت المكالمة قصيرة ويغلب عليها الطابع العملي. وعندما أقفلت كاثي التليفون، أخذت تحمد الله وتشكره على رحمته، وجعلت يوكو تصرخ وتتواثب مع كاثي في أرجاء المنزل.
وقالت يوكو: «كنت أعرف أنه حي، كنت واثقة.»
وظلتا ترددان: «ربنا كريم! ربنا كريم!»
واتصلتا بزوج يوكو، واعتزمتا إخراج الأطفال مبكرا من المدرسة. كان لا بد أن يحتفل الجميع، ولا بد من تحديد الخطوات التالية. كانت أمامهما مهام كثيرة.
كان على كاثي أولا أن تذهب. كانت تعرف أن عليها أن تذهب إلى السجن في ذلك اليوم نفسه، لم تكن تعرف موقعه إلى الآن ولكن عليها أن تذهب. أين كان ذلك السجن؟ وبحثت عنه في الإنترنت، حتى وجدته. سانت جابريل، على مسيرة أقل من ساعة من باتون روج.
واتصلت بسجن هنت وظلت تتنقل ما بين الخطوط الأتوماتيكية حتى جاءها صوت بشري. أحست بأنها لا تكاد تقوى على الكلام. كانت تريد أن تطير في التليفون حتى تكون إلى جانبه. «أحاول الاتصال بزوجي. إنه لديكم.»
وسألتها المرأة: «ما اسم السجين؟»
واضطرت كاثي إلى التقاط أنفاسها، فلم تكن تسيغ الإشارة إلى زوجها بلفظ السجين، وإذا ذكرت اسمه فإنها سوف توسع نطاق هذه الأكذوبة، تلك التي يرددها كل من تسبب في حبسه إلى هذه اللحظة.
قالت كاثي: «عبد الرحمن زيتون.» وأملت الحروف حرفا حرفا.
وسمعت كاثي صوت الضرب على مفاتيح الكمبيوتر.
ثم قالت المرأة: «ليس هنا!»
فأعادت كاثي هجاء الاسم.
وسمعت من جديد صوت مفاتيح الكمبيوتر.
وقالت المرأة من جديد: «ليس لدينا أحد بهذا الاسم!»
وحاولت كاثي الاحتفاظ بهدوئها، فقالت للمرأة إنها تلقت لتوها مكالمة من أحد العاملين بوزارة الأمن الداخلي، وإن ذلك الرجل أخبرها أن عبد الرحمن زيتون موجود في ذلك السجن نفسه.
وقالت المرأة: «ليس اسمه في سجلاتنا.» ثم أضافت قائلة: إن سجلات سجن هنت تخلو من جميع أسماء الذين دخلوه بسبب الإعصار، كما لا تتضمن نظم الكمبيوتر في هذا السجن أسماء سجناء من نيو أورلينز، واختتمت إيضاحها قائلة: «جميع هذه السجلات ورقية، وليست لدينا هذه الأوراق، ليست لدينا أي سجلات لهؤلاء الأشخاص، فهم تابعون للوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ.»
كادت كاثي تنهار؛ إذ أحست بالدنيا تدور من حولها، وبأنها لا حول لها ولا قوة، لم يكن لديها رقم تليفون الرجل الذي اتصل بها من وزارة الأمن الداخلي، وشتمت نفسها لأنها لم تطلب منه أن يبين لها سبيل الاتصال به. وها هي ذي تسمع أن زوجها ليس في المؤسسة التي قال رجل الوزارة ورجل التبشير إنهما شاهداه فيها. هل كان ذلك نوعا من التلاعب؟ هل دخل زوجها السجن أصلا؟ ربما دخل ثم نقل، أي إنه كان سجينا في سجن هنت ثم طلبته هيئة أخرى بعد ذلك، وعندها نقلوه في الخفاء إلى سجن سري في مكان ما.
قالت لنفسها إن عليها أن تذهب، أن تقصد سجن هنت وتصر على مقابلته؛ إذ كان من حقها أن تقابله، فإن لم يكن هناك فسوف تطالبهم بإخبارها بالمكان الذي نقل إليه. لم يكن أمامها سوى ذلك.
ذكرت ليوكو وأحمد أنها ذاهبة.
وسألاها: «إلى أين؟»
قالت: «إلى هنت. السجن.»
سألاها إن كانت واثقة من وجوده فيه، فقالت إنها ليست واثقة، سألاها إن كانت واثقة بأنه سوف يسمح لها بالزيارة، فقالت إنها ليست واثقة، فسألاها عن المكان الذي سوف تقيم فيه، وقالت إنها لا تعرف، وعادت إلى البكاء من جديد، لم تكن تعرف الخطوة التي كان عليها أن تخطوها.
نجحا في إقناعها بالبقاء في فينيكس مؤقتا حتى تتأكد من مكان وجود زيتون، وكيف تستطيع في الواقع مساعدته، وقالا إن عليها أن تتحلى بالذكاء، فلم يكونا يريدان القلق عليها هي الأخرى.
واتصلت كاثي بالمحامي رالي أولماير، الذي سبق لهما التعامل معه؛ إذ ساعد رالي بعض عمال زيتون على توفيق أوضاعهم بعد التعرض لمتاعب قانونية. وكان والد رالي من مشاهير المحامين ذوي النفوذ في نيو أورلينز، ولكن رالي اختار، على الرغم من بقائه في مكتب الأسرة، أن ينفصل عنه، على الأقل في مظهره، فكان يطيل شعر رأسه البني، وعادة ما يعقده خلف رأسه في شكل ذيل حصان. وكان يعمل في وسط المدينة ويترافع في شتى القضايا، من مخالفات المرور إلى القضايا الجنائية، وكانت كاثي واثقة بأنه يعرف كيف يسوي موضوع سجن هنت هذا.
ولم يرد أحد على التليفون فتركت رسالة.
واتصلت كاثي بأحمد في إسبانيا وأيقظته من النوم. لم يقلقه ذلك.
قالت: «إنه حي يرزق!»
وانطلقت تردد عبارات: الحمد لله والشكر لله بأعلى صوت.
وسألها: «وأين هو الآن؟ معك؟»
قالت كاثي: «لا، إنه في السجن. ولكن لا بأس. أعرف مكانه وسوف نخرجه منه.»
وصمت أحمد، واستطاعت كاثي أن تسمع أنفاسه.
وسألها: «كيف؟ كيف تخرجونه من السجن؟»
لم تكن كاثي قد وضعت بعد أي خطة، ولكن كان لديها ذلك المحامي، واتصلت به، فقال أحمد: «لا بد أن تذهبي إليه. لا بد أن تقابليه وتخرجيه. لا بد من ذلك!»
وشعرت كاثي بالقلق من نبرات أحمد، كان يبدو أن سجن زيتون أقلقه مثلما أقلقه اختفاؤه سواء بسواء.
واتصلت فايزة، أخت زيتون في جبلة، بعد وقت قصير.
وأخبرتها كاثي بالأخبار الطيبة: «نعرف مكان وجوده. إنه في السجن. وهو بخير.»
ومرت فترة صمت طويلة أخرى.
سألتها فايزة: «هل قابلته؟»
وقالت كاثي إنها لم تقابله، ولكنها كانت واثقة بأنها سرعان ما تقابله.
وقالت فايزة: «لا بد أن تقابليه. لا بد أن تعثري عليه.»
واتصل رالي أولماير بعد الظهر بكاثي، قال إنه فر من المدينة قبيل العاصفة، وإنه يقيم الآن في باتون روج، وإن منزله في نيو أورلينز تغمره المياه إلى ارتفاع ست أقدام.
وأخبرته كاثي بما حدث لزيتون.
وقال رالي: «ماذا؟ لقد شاهدته منذ قليل في التليفزيون.» كان قد شاهد نشرة الأخبار المحلية التي ظهر فيها زيتون في قاربه.
أخبرته كاثي بالمكالمتين اللتين تلقتهما من رجل التبشير والمسئولين بوزارة الأمن الداخلي، وكيف قابلاه في سجن هنت.
وطمأنها رالي لأنه كان يعرف من قبل قصة ما حدث في سجن هنت؛ إذ كان قد أنشأ بعد العاصفة مكتبا مؤقتا في باتون روج، وكان يعمل فعلا مع السجناء الذين جيء بهم إلى ذلك السجن.
قال إن النظام القضائي انهار؛ فلم تكن أمامه وسيلة للإفراج عنه بكفالة، وإن إصلاح الخطأ سوف يستغرق بعض الوقت، ووعدها رالي بأنه سوف يخرج زيتون من السجن، وإن لم يستطع أن يتنبأ ولا أن يضمن حدا زمنيا معينا بسبب الأحوال الراهنة للمحاكم، إن كانت لديهم محاكم تذكر.
الثلاثاء 20 من سبتمبر
في الصباح اتصل أحمد بكاثي.
سألها: «هل قلت لفايزة إن عبد الرحمن في السجن؟»
كانت نبراته تدل على التوتر الشديد.
قالت كاثي: «نعم. سألتني وأنا ...»
فقال: «لا لا!» ثم تلطف قائلا: «ينبغي ألا نقول ذلك. لا تثيري قلقهم. لا نستطيع أن نقول لهم إنه في السجن. لا نستطيع ذلك.»
فقالت: «لا بأس ولكني كنت أظن ...» - «سوف نتصل بهم ونقول لهم إنه بخير، وإنه في بيته، وإنها كانت غلطة. موافقة؟ علينا أن نقول لهم ذلك. أنت لا تفهمين مقدار القلق لديهم لو تصوروا أنه في السجن!» - «لا بأس. هل ينبغي لي أن ...» - «بل سوف أتصل أنا بهم وأقول لهم إنه بخير. وإذا اتصلوا بك فقولي لهم هذا نفسه. إنه في بيته، ينعم بالسلامة، وكل شيء على ما يرام. قولي إنك أخطأت. موافقة؟ هذا هو ما سوف نقوله لهم. موافقة؟»
وردت كاثي: «حسنا.»
وكان أحمد يريد أن يعرف اسم السجن الذي نزل فيه أخوه، قالت له كاثي إنه في سانت جابريل، ولكن لما كان النظام منهارا فلا بد من مرور بعض الوقت قبل أن يراودهم مجرد الأمل في إخراجه، وإن كانت قد اتصلت بأحد المحامين وكلفته بأن يتولى القضية، وأن المسألة كانت مسألة وقت لا أكثر.
ولكن تفكير أحمد كان يتجاوز المسائل البسيطة الخاصة بالمحامين والإفراج بكفالة؛ إذ لم يكن يريد أن يكون أخوه في السجن على الإطلاق، سوري في سجن أمريكي في عام 2005؟ لم تكن هذه مسألة يستهان بها. كان لا بد من مقابلة عبد الرحمن، ولا بد من إطلاق سراحه فورا!
وفي المرة التالية التي فحصت فيها كاثي بريدها الإلكتروني وجدت رسالة من أحمد، نقلت إليها أيضا، كان أحمد يحاول العثور على زيتون، لكنه لم يجد المدينة الصحيحة. كان قد أجرى بحثا بالإنترنت عن سانت جابريل في الولايات المتحدة، ووجد مكانا بهذا الاسم، وكتب ما يلي:
من: الربان زيتون
إلى: أكوستا، أليكس
الموضوع: عاجل من إسبانيا
إدارة شرطة سانت جابريل، كاليفورنيا
أيها السادة
اسمي: أحمد زيتون، من إسبانيا.
السبب: أبحث عن أخي (الذي أجلي من نيو أورلينز بسبب إعصار كاترينا). في 7 من سبتمبر، فقدت الاتصال بأخي، بعد أن كنا نتكلم كل يوم بالتليفون بعد إعصار كاترينا. وسألت في كل مكان للحصول على أخبار عنه، وأخيرا علمت أن الشرطة أخذته من منزله يوم 6 من سبتمبر في نيو أورلينز، وأودعته في سانت جابريل، وهو لا يزال فعلا مقبوضا عليه في سانت جابريل.
أرجوكم أن تتكرموا بإخباري إن كان بخير، وإن كان من الممكن أن أحادثه، أو اتصلوا بي في مكالمة على حسابي بتليفون رقم [الرقم محذوف].
تفاصيل بيانات أخي هي:
الاسم: عبد الرحمن زيتون.
تاريخ الميلاد: 24 / 10 / 1957.
العنوان: 4649 شارع دارت. نيو أورلينز. لوس أنجلوس.
سأكون بالغ الامتنان لكم لو تكرمتم وأخبرتموني أنه بخير.
مع جزيل الشكر.
أحمد زيتون
مالقة، إسبانيا
وبدأت كاثي تنظر إلى الوضع من عيني أحمد. ماذا تكون عليه الحال لو أن وكلاء النيابة حاولوا، أملا في تبرير حبس زيتون، بناء تهمة ضده؟ كأن تكون له صلة ما مهما تكن هزيلة ببعض الأنشطة الإرهابية؟ إن أي صلة، بغض النظر عن زيفها، قد تستخدم لتبرير حبسه وإطالة مدته.
لم تكن كاثي تريد أن يسير تفكيرها في هذا الاتجاه.
الخميس 22 من سبتمبر
اتصلت بالمحامي رالي أولماير مرة أخرى. كان قد اتصل لتوه بسجن هنت، وأكدوا له صحة وجود زيتون فيه.
اتصلت كاثي بأحمد وأبلغته بالخبر.
وسألها: «نعم، ولكن هل شاهده أحد بعد؟»
قالت: «لا.»
قال: «إذن لا نستطيع التأكد.» «اسمع يا أحمد. أنا واثقة بأن ...»
فقال: «لا بد أن تذهبي. أرجوك يا كاثي.»
واعتذر لها؛ إذ كان يعرف أنه يضغط عليها بشدة، وأنه يتصل بكاثي مرات أكثر مما ينبغي، ولكن ذهنه كان حافلا بصورة أخيه، راكعا على ركبتيه في أوفرول برتقالي، داخل قفص في الهواء الطلق. كانت كل ساعة تمر على زيتون في محبسه تزيد من احتمال وقوع ما يزيد الحال سوءا.
قال: «سأركب الطائرة إلى نيو أورلينز.»
فسألته كاثي: «وماذا تفعل؟»
قال لها: «سوف أبحث عنه.»
فقالت: «لا لا أرجوك. سيدخلونك السجن أنت أيضا!»
الجمعة 23 من سبتمبر
كان رالي قد أصبح الآن يعرف بعض القضاة والإداريين الذين ينظرون في حالات السجناء الذين اعتقلوا بعد العاصفة وغدوا محتجزين في سجن هنت. كان رالي يطمح في إسقاط تهمة زيتون، فقال لكاثي إن الوقت قد حان لها كي تذهب إلى باتون روج، وقال إنها يمكن أن تذهب بالطائرة إلى تلك المدينة وتتهيأ للذهاب إلى السجن في أي لحظة، ومن المحتمل أن تستطيع مقابلته يوم الإثنين، وحجزت كاثي مقعدا لها على الطائرة، واتصلت بعدنان قريب زيتون.
وسألها في تردد: «عبد الرحمن؟»
قالت: «إنه بخير.»
وتنفس الصعداء، وأخبرته بقصة حبس زوجها، وبأنها قادمة لإخراجه من السجن.
قال عدنان: «ستقيمين معنا!» كان قد قضى مع زوجته ذلك الأسبوع الأول وهما ينامان على الأرض في أحد مساجد باتون روج، ثم استأجرا شقة لمدة شهر ويقيمان فيها الآن.
وقال عدنان إنه سوف يقابلها في المطار، ويتولى توصيلها إلى السجن.
الأحد 25 من سبتمبر
كانت كاثي تشعر بأن الطائرة في مشكلة من نوع ما؛ إذ كانت تطير على ارتفاع جد منخفض وتهبط بسرعة أكبر مما ينبغي، بل إنها كانت واثقة بأنها سوف تصطدم بالأرض وتتحطم، ما عادت تثق في شيء يتعلق بنيو أورلينز، ولو في السماء من فوقها. وقبضت بشدة على مساند الكرسي، وجالت ببصرها لترى إن كان أحد غيرها أفزعه ما يجري؛ وإذ بصوت قائد الطائرة يأتيها على الإنتركوم، قائلا إنهم يطيرون على ارتفاع منخفض فوق المدينة، حتى يتمكن الركاب من مشاهدة ما أصابها من أضرار، ولكن كاثي لم تستطع أن تنظر!
وعندما هبطت الطائرة، كان المطار مقفرا. كان فيه رجال أمن المطار، وبعض رجال شرطة نيو أورلينز، ورجال الحرس الوطني، وعدد محدود من المدنيين. كان يبدو أن ركاب الطائرة مع كاثي كانوا الأشخاص الوحيدين في المبنى. كانت جميع المحال التجارية مغلقة، والأضواء خافتة. وكانت الأنقاض متناثرة فوق الأرض في كل مكان، من القمامة، إلى الأوراق، والأربطة، وغيرها من المعدات الطبية.
واستقبلها عدنان وأوصلها بالسيارة إلى الشقة التي استأجرها هو وعبير في باتون روج. وكانت كاثي قد غلبها التعب والإرهاق فنامت حتى دون أن تخلع حذاءها.
الإثنين 26 من سبتمبر
لم يكن زيتون يدري بشيء عن الجهود التي كانت كاثي تبذلها مع رالي؛ إذ لم يكن قد سمح له بعد بإجراء مكالمات تليفونية، كل ما كان يدريه هو أن رجل التبشير ورجال وزارة الأمن الداخلي قد أكدوا له أنهم سوف يتصلون بزوجته، ولكنه لم يسمع منذ ذلك الحين ما يؤكد وقوع الاتصال فعلا.
وبعد الغداء، أخرج زيتون من زنزانته وقيدت يداه مرة أخرى، واقتيد إلى المبنى نفسه بالقرب من بوابة السجن الأمامية. وعندما دخل المبنى سيق إلى غرفة رمادية صغيرة وضعت فيها منضدة ورتبت فيها بضعة كراسي. وكان يجلس على أحد جانبي المنضدة رجل في أواخر الخمسينيات من عمره، ويلبس حلة كاملة، وعلى الجانب الآخر يجلس رجلان يرتديان معاطف وأربطة عنق. وكان ثلاثة من السجناء الآخرين يجلسون على بعض المقاعد في مؤخرة الغرفة. كانت قاعة محكمة من نوع ما.
وتقدم شاب إلى زيتون قائلا إنه المحامي العام، وإنه موكل للدفاع عن زيتون في ذلك اليوم. وبدأ زيتون في شرح قضيته، والأخطاء التي أفضت به إلى السجن، مطالبا بإجراء اتصال تليفوني بزوجته. وأغلق المحامي العام عينيه للإشارة إلى وجوب التزام الصمت من جانب زيتون.
قال المحامي: «لست هنا لمحاكمتك، فليست هذه سوى جلسة استماع لتحديد الكفالة!» - «لكن ألا تريد أن ...»
وقال الشاب: «أرجوك. التزم الصمت وحسب، دعني أتولى عنك الكلام. اجلس وحسب هادئا إن استطعت. لا تتفوه بكلمة واحدة.»
وقرئت التهم الموجهة إلى زيتون: حيازة مسروقات قيمتها 500 دولار. واقترح وكيل النيابة تحديد الكفالة بمبلغ 150000 دولار.
ورد المحامي عليه قائلا: إن زيتون ليست له سوابق، وإن مقدار الكفالة يجب أن يكون أقل كثيرا، واقترح أن يكون 35000 دولار.
وقرر القاضي أن تكون الكفالة 75000 دولار، وكان هذا آخر ما سمعه زيتون؛ إذ مد المحامي يده إليه فصافحها زيتون. واقتيد إلى خارج الغرفة أثناء قيام المحامي بفتح ملف السجين التالي. وفي طريق الخروج، طلب زيتون مرة أخرى إجراء مكالمة تليفونية، وهز المحامي كتفيه.
وسأل زيتون: «ولماذا يحددون الكفالة وأنا لا أستطيع أن أقول لأحد إني في السجن؟»
ولكنه لم يتلق إجابة من القاضي أو وكيل النيابة أو المحامي. وأعيد زيتون من جديد إلى زنزانته.
الثلاثاء 27 من سبتمبر
اتصل رالي بكاثي.
قال: «اطمئني. نجحوا أخيرا في تشغيل أحد النظم، وحددوا لنا موعدا في المحكمة. فهم يريدون إخلاء سجل المحكمة من القضايا بقدر ما نريده نحن أن يخرج من السجن. وعليك إذن أن تجمعي أكبر قدر تستطيعين جمعه من الناس حتى يحضروا إلى المحكمة للشهادة في صالحه. وهو ما يسمى «الشهود على الشخصية».»
رأت كاثي أن ذلك أمر معقول، وكانت المهمة واضحة؛ فشرعت في تنفيذها فورا، ولكنها أدركت أثناء إعداد قائمة الأصدقاء أنها نسيت أن تسأل رالي عن مكان المحكمة، أعادت الاتصال به لكنها سمعت الرسالة المسجلة.
واتصلت بمكتب وكيل نيابة نيو أورلينز، فجاءها صوت مسجل أعطاها رقما في باتون روج، فاتصلت بذلك الرقم متوقعة أن تسمع رسالة مسجلة، ولكن امرأة ردت على التليفون بعد الرنة الثانية؛ مما أدهش كاثي. وسألتها كاثي عن عنوان المحكمة.
قالت المرأة: «ليس لدينا الآن هذا العنوان.»
وقالت كاثي: «ماذا؟ كل ما أريده هو عنوان المحكمة التي تعقد فيها الجلسات، الجلسات الخاصة بنزلاء سجن هنت؟ لا أريد إلا عنوان المحكمة.»
فقالت المرأة: «ليس لدينا إحدى هذه.» - «تعنين إحدى المحاكم؟» - «نعم.» - «وأين يدفع الناس غرامة المخالفات؟»
فقالت المرأة: «لا أحد يدفع غرامات مخالفات الآن.»
وطلبت كاثي أن تتحدث مع أحد رؤسائها.
فقامت المرأة بتحويل المكالمة، ورفع السماعة رجل هذه المرة. وأوضحت كاثي أنها قد سمعت لتوها نبأ القبض على زوجها، وأنه قد حدد له موعد في المحكمة، وأنها كانت تريد أن تعرف وحسب مكان عقد جلسات تلك المحكمة.
وقال الرجل : «آه! لا نستطيع إطلاعك على هذا.» - «ماذا؟ لا تستطيع إطلاعي!»
وقال: «نعم. إنها معلومات لأصحاب الامتياز.» - «ومن أصحاب الامتياز؟ إنني زوجته!» - «آسف! إنها معلومات خاصة.»
وصرخت كاثي قائلة: «ليست خاصة بل عامة! هذه هي المسألة! إنها محكمة علنية عامة!» وطلبت أن تتحدث مع شخص آخر لديه مزيد من المعلومات، وتأوه الرجل وطلب منها الانتظار.
وأخيرا جاء الشخص الآخر، وكان امرأة هذه المرة، للرد على التليفون.
وسألتها: «ماذا تريدين؟»
وتماسكت كاثي، وكانت تأمل أن يكون المسئولان الأولان قد أساءا الاستماع إليها. قالت: «أريد أن أعرف مكان المحكمة. المحكمة التي سوف تصدر فيها الأحكام وتعقد جلسات تحديد قيمة الكفالة.»
وجاءت نبرات المرأة منتظمة حازمة: «هذه معلومات خاصة.»
وانهارت كاثي. أخذت تولول وتصرخ. ما بال هؤلاء؟ كيف تكون واثقة من قرب زوجها منها إلى هذا الحد، ثم تتسبب الطبقات المتراكمة من البيروقراطية وضعف الأداء في فصلها عنه؟ كان ذلك أكبر مما تحتمل. وأخذت تبكي إحباطا وغضبا. كانت تشعر كأنما تشهد طفلا يغرق دون أن تتمكن من أن تفعل أي شيء لإنقاذه.
وعندما تمالكت نفسها اتصلت بقناة «سي إن إن» التليفزيونية.
وتمكنت من الحديث مع أحد المخرجين وقصت عليه قصة حبس زوجها، والمكالمة التي تلقتها من وزارة الأمن الداخلي، والعرقلة التي تتعرض لها، والمحاكم التي تكاد تكون وهمية. وقال المخرج إنه سوف يقوم بالتحقيق، وحصل على رقم تليفون كاثي.
وعاد رالي للاتصال، واعتذر، قال إنه أصبح يعرف مكان انعقاد الجلسة في سجن هنت نفسه، وقال لكاثي أن تتصل بكل من تستطيع الاتصال به، وتطلب منهم الحضور إلى سجن هنت في اليوم التالي، في التاسعة صباحا.
وقال: «سأحاول أن أقابل زيتون اليوم.»
ودعت الله كاثي أن يتمكن من ذلك.
وبدأت كاثي الاتصال بالأصدقاء والجيران والعملاء، وفي غضون ساعتين كانت قد ضمنت حضور ما لا يقل عن سبعة أشخاص أكدوا اعتزامهم ذلك، وكان من بينهم مدير مدرسة بناتها.
واستدعي زيتون مرة أخرى من زنزانته لحضور اجتماع. وضعت يداه في القيود وقدماه في الأصفاد وسيق به من جديد إلى الشاحنة البيضاء. وسارت به الشاحنة إلى مقدمة مجمع السجن، ثم اقتيد إلى غرفة رمادية صغيرة أخرى، شاهد فيها رالي المحامي، أول ممثل للعالم الخارجي يقابله منذ القبض عليه.
وابتسم، وتصافحا بحرارة.
وقال زيتون: «أريد أن أخرج.»
فقال رالي: «عليك أن تدفع حتى تخرج.» ثم تنهد رالي زافرا زفرة عميقة وقال: «لدينا مشكلة في دفع الكفالة.»
كان أمام زيتون خياران: كان عليه إما أن يجد ويدفع مبلغ 75000 دولار، فإذا كسب القضية آخر الأمر أعيد إليه المبلغ كاملا، وإما أن يدفع نسبة ثلاثة عشر في المائة من مقدار الكفالة إلى المحاكم، وثلاثة في المائة إلى الكفيل - أي ما يبلغ مجموعه 10000 دولار - ثم يضيع عليه هذا المبلغ بغض النظر عن نتيجة قضيته.
وسأل زيتون: «أليس مبلغ 75 ألف دولار أكبر مما ينبغي لسرقة طفيفة؟»
وقال رالي إنه كذلك فعلا؛ إذ كان أكبر من المبلغ اللازم بنحو مائة مرة. كان زيتون يستطيع أن يأتي بعشرة آلاف دولار، لكنه بدا له من البلاهة أن يذهب هذا المبلغ أدراج الرياح، وإن دفعه كان يدفع للحكومة في الواقع في مقابل حبسه شهرا.
وسأله زيتون: «هل تستطيع تخفيضه؟»
وقال رالي: «ذلك يقتضي الكفاح في سبيله.»
فقال زيتون: «إذن فكافح في سبيله.»
وسأله رالي: «ولنفرض أنني لم أنجح؟»
فقال زيتون: «إذن فانظر إن كنا نستطيع استخدام أملاكي كفالة.» - «لا تريد أن تدفع النسبة التي ستضيع عليك؟»
فقال زيتون: «نعم، لا أريد».
قال زيتون في نفسه إنه لو دفع تلك النسبة التي ستضيع عليه مقابل الإفراج عنه، فما عساه أن يفعل؟ لن يستطيع العمل. لم يكن لديه ما يستطيع أن يفعله في نيو أورلينز، ليس في هذه اللحظة، وكان يوقن الآن أن كاثي والأطفال يعرفون أنه حي يرزق. ويوقن أنه سوف يطلق سراحه. أي إنه سوف يدفع 10000 دولار كي ينعم بالحرية بضعة أيام أخرى، وسوف يقضي ذلك الوقت رائحا غاديا في غرفة المعيشة بشقة يوكو وأحمد، لسوف يرى بناته قطعا ، ولكنهن يعرفن أنه قد سلم، والأفضل أن يدفع تلك النقود في حساب الأمانة الذي يكفل تعليمهن العالي، مثلا. لقد قضى في المحبس إلى الآن أسبوعين ونصف أسبوع، ويستطيع الانتظار بضعة أيام أخرى.
وقال رالي: «سأتحقق من إمكان استخدام أملاكك ضمانا.»
فقال زيتون: «كلم كاثي.»
الأربعاء 28 من سبتمبر
دخلت كاثي بسيارتها سجن هنت، وقد أمسكت أنفاسها. كان منظره مثل اللوحات السيريالية: الأسوار البيضاء المنمقة، والأرض المشرقة بالكلأ الأخضر الزاهي. كانت تشبه ملعبا للجولف. وكانت الطيور البيضاء تفزع وتتفرق طائرة أثناء سير كاثي في مدخل السيارات الطويل حتى تصل إلى البوابة.
ووقفت في الخارج تنتظر في ساحة انتظار السيارات. كان ذلك في الثامنة والنصف صباحا، وكانت تحتاج إلى جميع من لديهما من أصدقاء، وبدأ هؤلاء يصلون بعد بضع دقائق. كان روب ووالت قد جاءا بالسيارة من لافاييت. ووصلت جنيفر كالندر التي كانت تعمل مع والت والتي كان زيتون قد تولى تجديد منزلها مع زوجها ووالدها، ووصل توم بيتشاتش وزوجته سيليست، وهما من جيرانهما في شارع كليبورن، بالسيارة من هيوستن. كما وصل نبيل أبو خضر مدير مدرسة الفتيات، من الحي الفرنسي.
وتعانق الجميع، ولم يكن أيهم قد ذاق للنوم طعما، وكان منظرهم مزريا، ويشعرون بالصدمة لأنهم يتلاقون بسبب حدوث ما حدث. ولكن روحهم المعنوية كانت عالية، بصورة ما؛ لإدراكهم أنهم سوف يتحدثون عن شخصية عبد الرحمن زيتون وأخلاقه، وكانوا واثقين بأن القاضي حين يستمع إليهم جميعا ويتبين أن الشرطة حبست رجل أعمال شهيرا، فربما - بل الأرجح - أن يأمر القاضي بإطلاق سراحه في اليوم نفسه، وربما استطاعوا الاحتفال بذلك معا.
لم تكن كاثي تملك أن تكف عن شكرهم. كانت حطاما من الدموع والامتنان والترقب.
وعندما وصل رالي انبهر بعدد الحضور. فدعا الجميع إلى اجتماع وشرح لهم باختصار سير الإجراءات. لم يكن يعرف على وجه اليقين مكان جلسة الاستماع، أو حتى موعد انعقادها، لكنه كان واثقا بأنه إزاء سمعة زيتون الطيبة، وخلو سجله من أي مخالفة سابقة، ووجود هذا الحشد الباهر من الشهود على شخصيته وخلقه - فهم شريحة عريضة من أبناء نيو أورلينز ذوي المكانة الرفيعة - سوف يأمر القاضي بإطلاق سراح عبد الرحمن زيتون، مع فيض زاخر من الاعتذارات.
وانتظر الجميع طيلة الصباح، بلا أنباء. وأخيرا ذهب رالي لاستطلاع ما يحدث، ثم خرج من المبنى إليهم وقد غشيت وجهه سحابة.
قال: «لن يقابلوا أحدا منكم اليوم!»
كانت جلسة الاستماع قد ألغيت، دون إبداء الأسباب.
وأصبحت الفرصة الوحيدة الآن هي الكفالة. كان على كاثي أن تعود إلى دخول المدينة وإحضار الأوراق التي تثبت ملكيتهما لمبنى المكاتب؛ بحيث يستخدمان المبنى نفسه كفالة.
وأصر عدنان على توصيل كاثي بالسيارة إلى داخل المدينة.
وسلكا الطريق أ-10، وخرجا منه في مخرج شارع كارولتون، وفورا صدمتهما الرائحة. كانت خليطا من عدة روائح، وتجمع بين ما هو لاذع المذاق وما هو منتن، بل أيضا - بسبب الأغصان والأشجار الملقاة في الشمس - ما هو حلو المذاق، ولكن أكثر ما راعهما هو قوة الرائحة؛ كانت نفاذة للغاية، فغطت كاثي وجهها بلفاعها كي تكسر من شوكتها.
كانت المدينة تبدو كأنما هجرها أهلها منذ عقود طويلة، كانت السيارات قد ذابت ألوانها بسبب السموم التي تغشى المياه، فبدت ذات لون رمادي باهت، وكانت مبعثرة في كل مكان مثل اللعب. وسلكا طريق كارولتون إلى شارع إيرهارت، واضطرا في إحدى المناطق إلى العبور إلى الحارة ذات الاتجاه العكسي لتحاشي الأشجار التي اقتلعت فغدت تعترض الطريق. كان الحطام في كل مكان، وغريب الشأن: من أطر عجلات السيارات، إلى الثلاجات، إلى عجلات الأطفال الثلاثية، إلى الأرائك، إلى قبعة من القش.
كانت الشوارع مهجورة. لم يشاهدا أحدا - لا بشرا ولا عربات - حتى وصلت سيارة من سيارات الشرطة فتوقفت خلفهما على مسافة لا تبتعد عن مبنى المكاتب إلا بشوارع معدودة. وطلبت كاثي من عدنان أن يدعها تقوم بالحديث، وكانت تلك استراتيجية طال عليها الأمد ما بينها وبين زيتون. كان قيامها بالحديث دائما أيسر وأسرع، فلن تؤدي لهجة أبناء الشرق الأوسط إلى إثارة المزيد من الأسئلة.
وجاء شرطيان من سيارتهما، وقد وضع كل منهما يده على المسدس في جانبه، واقترب الشرطي الذي كان يقود السيارة منهما وسأل عدنان عما يفعله في المدينة. فمالت كاثي برأسها للإيضاح وقدمت للشرطي رخصة قيادتها من النافذة.
قالت: «إنني أقيم في منزلي في آخر الشارع، ولم أعد إلا لتقدير الأضرار، وأخذ أي شيء لم يصبه الضرر.»
وأصغى إلى كاثي، لكنه عاد إلى سؤال عدنان: «ما الذي تفعله هنا؟»
واستبقت كاثي الإجابة قائلة: «نحن مقاولون.» وقدمت إلى الشرطي بطاقة الشركة.
وعاد الشرطي بالبطاقة إلى سيارة الشرطة، وقضى مع زميله نحو عشر دقائق قبل أن يعود إلى نافذة عدنان.
قال الشرطي: «لا بأس.» وتركهما يمضيان.
وقررا التوجه بالسيارة مباشرة إلى المكتب؛ خشية ألا يبتسم لهما الحظ كما حدث هذه المرة إذا استوقفا من جديد.
وعندما وصلا إلى المبنى في شارع دبلن، شاهدت كاثي أنقاض المباني التي احترقت عن آخرها، وبدا لها أن توقف الحريق على بعد أمتار قليلة من المكتب معجزة من المعجزات. وكان ظاهر المبنى قد أصابته الأضرار، لم تكن تشي بما سوف يجدانه في داخله. وذهبت كاثي إلى الباب، ولكن مفتاحها لم يفلح في فتحه؛ إذ كان الصدأ قد أصاب القفل من داخله ومن خارجه.
ولمح عدنان شيئا ما في الناحية المقابلة من الشارع، فهرول إلى بيت الجيران، وعاد يحمل سلما قديما باليا.
قال: «سوف أصعد أنا، وابقي أنت هنا!»
ووضع السلم على جانب المبنى وبدأ يصعد. كانت درجاته ملتوية وبعضها مكسورا، ولكنه صعد بحرص، حتى وصل إلى نافذة الطابق الثاني فدخلها، وسرعان ما اختفى بالداخل.
وسمعت كاثي بعض أصوات الارتطام والاحتكاك، ثم ساد الصمت، وسرعان ما جاءها صوت من الجانب الآخر من الباب.
قال عدنان: «ابتعدي. سوف افتح الباب بالقوة.»
وركل عدنان الباب أربع مرات حتى انخلع الباب وسقط.
وقال عدنان: «خذي الحذر وأنت تصعدين الدرج.»
كان داخل المنزل خرابا، وبدا وكأنما لم يسكنه أحد منذ عقود وعقود؛ إذ كان السقف شبه محطم، تنتشر فيه فجوات ذات أشكال غير منتظمة، وكانت الأسلاك قد تعرت وبدت مع الأوراق المتناثرة في كل مكان. وكانت الأرضيات يكسوها غثاء رمادي اللون، والرائحة نفاذة، تجمع بين روائح العفن والمطر ومياه المجاري.
وصعد كل من كاثي وعدنان الدرج بحرص حتى وصلا إلى المكتب. كان شكله قد اختلف تماما، كانت أقدامهما تغوص في السجادة في كل خطوة، وكانت رائحة الحيوانات تصل إلى أنفهما، وتسمع أصوات جريها أثناء سيرهما في المكتب، فتحت باب إحدى الخزائن فوقعت عشرة صراصير على يديها، وصرخت. وتولى عدنان تهدئتها.
قال: «فلنأخذ الأوراق وحسب وننصرف.»
ولكنها لم تجد أي شيء في المكان الذي تذكره. كانت دواليب الملفات قد تزحزحت عن مكانها، وكراسات جداول العمل التي كانت فوق المكاتب متناثرة في كل مكان، فجعلت تبحث في الدواليب وأدراج المكاتب، وهي تنظف الملفات السليمة مما علاها من حشرات، وكانت بعض الملفات قد أصابها من البلل والطين ما أفقدها كل نفع لها. فجمعت كومة من الملفات التي يتعذر قراءة ما فيها، آملة أن تجد في البعض الذي تعرفه برهانا على ملكيتهما للمبنى. كان الوضع عبثيا؛ إذ كانت تفتش في المبنى الذي تملكه، وهو الذي يعرف الجميع أنه المقر الرئيس لشركتهما المشهورة، باحثة عن قطعة متسخة من الورق تقبلها محكمة مؤقتة في مقابل الإفراج عن زوجها. وماذا تكون الحال لو لم تجدها؟ هل يواصل زوجها سقوطه في هذه الهوة الشاسعة الناجمة عن انهيار النظام القضائي بسبب غياب هذه القطعة من الورق؟!
وسألت عدنان بصوت مخنوق: «ساعدني أرجوك.»
وظلا يفتشان ساعة كاملة، فتحا كل درج وكل ملف، حتى تصورت أنها تعيد فحص الملفات القليلة السليمة نفسها التي سبقت لها قراءتها، ولكنها وجدت بغيتها أخيرا في درج كانت واثقة بأنه لا يحتوي على شيء ذي قيمة. كان عقد البيع للمبنى رقم 3015 بشارع دبلن. كانت راكعة على ركبتيها، وقد اتسخت عباءتها، وقبضت على الورقة في يدها، وغلبها البكاء، ثم اعتدلت في جلستها ولا تزال ترتعد.
وقالت: «أرجو أن تنجح هذه وإلا ...»
ونهضا والأوراق في أيديهما فعادا إلى مكتب المحامي رالي في باتون روج، وقام رالي بإعداد أوراق الإفراج، وأرسلها بالفاكس إلى مسئول الكفالات، ورد المسئول قائلا إنه تسلم الأوراق وإن الكفالة قد دفعت، واتصل رالي بسجن هنت مؤكدا أن جميع الأوراق اكتملت وأن الكفالة دفعت، وقيل له إنهم تسلموا الأوراق، ولكن المكتب أغلق أبوابه مبكرا في ذلك اليوم. كان ذلك في الثالثة عصرا.
كان على زيتون أن يقضي ليلة أخرى في سجن هنت.
الخميس 29 من سبتمبر
وعندما أصبح الصبح اتجهت كاثي في صحبة عدنان بالسيارة إلى السجن، فوصلا قبل الساعة الثامنة، ودخلا المكتب فقيل لهما إن «زيتون» سوف يطلق سراحه في ذلك اليوم نفسه، وانتظرا في الغرفة نفسها التي اجتمع فيها أصدقاء زيتون منذ يومين.
وظلا ينتظران حتى الحادية عشرة دون أن يسمعا شيئا. وحلت الثانية عشرة، لا شيء. وفي الساعة الواحدة قيل لهما إن زيتون سوف يطلق سراحه الآن - في أي لحظة - وقيل لكاثي أن تنتظره في الخارج، فسوف ينقل بالأوتوبيس إلى خارج البوابة.
وكان زيتون في زنزانته يصلي:
بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين ... «زيتون!»
كان أحد الحراس يناديه.
وقال زيتون في نفسه: «فلينتظر الحارس.» لم يكن يعرف أن كاثي كانت عند مدخل السجن، وأن الإفراج عنه وشيك.
وواصل صلاته:
إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
آمين. «زيتون!» كان الحارس قد وصل الآن إلى الزنزانة، وجعل يصيح من خلال القضبان: «استعد!»
واستمر زيتون في صلاته حتى أنهاها. وانتظر الحارس في صمت، وعندما نهض زيتون، أومأ الحارس إليه قائلا: «اجمع أشياءك. سوف تخرج اليوم!»
وصاح زيتون: «ماذا؟» - «أسرع!»
وتهاوى زيتون على الجدار، كانت رجلاه تعجزان عن حمله. •••
كانت كاثي تنتظر خارج السجن مع عدنان.
ووصل أوتوبيس أبيض، وكان فيه شبح يسير من اليسار إلى اليمين، ثم نزل من الأوتوبيس إلى الرصيف. كان عبد الرحمن زوجها. كان قد فقد تسعة كيلو جرامات من وزنه، كان يبدو رجلا مختلفا، رجلا أصغر حجما، وقد طال شعره، وكسا الشيب معظمه، وبللت الدموع وجهها. قالت في نفسها : «ما أصغر ما يبدو!» وغلبتها موجة غضب شديدة: «لعن الله هؤلاء الناس! أنتم جميعا، كل مسئول عن حدوث هذا.»
وشاهدها زيتون، فابتسم، وذهبت إليه. كانت الدموع تغطي وجهها كله، فلم تكد تستطيع الإبصار. هرعت إليه، كانت تريد أن تحميه، أن تحتضنه بين ذراعيها، وتشفيه. «عودي إلى مكانك!»
وشعرت بيد ثقيلة على كتفها، كان أحد الحراس قد استوقفها.
وصرخ الحارس: «ظلي هنا!»
كانت كاثي قد تخطت أحد الحواجز. لم يكن الحاجز واضحا لعينيها، ولكن الحراس كانوا قد حددوا منطقة لا يسمح لأقارب السجناء بدخولها.
وظلت تنتظر، واقفة على مبعدة أمتار قليلة من زوجها، وظل كل منهما يحدق في الآخر، ويبتسم ابتسامة جهمة. كان يبدو شيخا حزينا. كان يرتدي سروالا من قماش الجينز، وقميصا من القماش نفسه، وصندلا مفتوحا برتقالي اللون. كانت هذه أردية السجن، وكانت تبدو فضفاضة عليه؛ إذ كانت تزيد بدرجتين على مقاس جسمه.
وبعد عدة دقائق أطلق سراحه. سار إليها وهرولت نحوه. وظلا متعانقين برهة طويلة. كانت تحس بعظام كتفيه البارزة وضلوع صدره. وبدت رقبته نحيلة هشة إلى حد بعيد، وذراعاه معروقتين. وابتعدت عنه، وأبصرت عينيه اللتين لم تتغيرا - كانتا لا تزالان خضراوين، أهدابهما طويلة، ويشيع فيهما اللون العسلي - ولكنهما كانتا تفصحان عن الإرهاق، عن الهزيمة. لم يسبق لها أن أبصرت ذلك فيه قط. كان كسير الجناح.
واحتضن زيتون عدنان، ثم ابتعد بسرعة.
وقال زيتون: «لا بد أن نمضي!»
وركب ثلاثتهم السيارة، لم يكونوا يريدون المسئول عن ذلك، مهما يكن، أن يغير رأيه، ولو غير رأيه لما أدهشهم ذلك. ما عادوا يدهشون الآن لأي شيء.
غادروا السجن بأسرع ما في طوقهم، وشعروا بالارتياح عندما خرجوا من البوابة الرئيسة، وبمزيد من الارتياح عندما تجاوزوا مدخل السيارات الطويل ذا الأسوار البيضاء ووصلوا إلى الطريق العام. وكان زيتون يلتفت خلفه من آن لآخر حتى يطمئن إلى عدم وجود من يقتفي آثارهم. وكان عدنان ينظر باستمرار في المرآة التي تعكس صورة ما يخلفه وراءه أثناء انطلاق السيارة المسرعة في الطريق الريفي، محاولا أن يبتعد إلى أقصى حد ممكن عن السجن. ومرت بهم السيارة في ممر تظلله الأشجار الباسقة، وكان كل ميل يقطعانه يزيد إحساسهم بالثقة في أن زيتون يتمتع بالحرية المطلقة.
كانت كاثي تجلس في المقعد الخلفي، وتمر بيدها على رأس زوجها ملاطفة له، ولكنها كانت تريد أن تكون أقرب إليه، أن تحتضنه بين ذراعيها، وأن تضمه إلى صدرها وتشفيه.
لم يكونوا قد قضوا أكثر من عشر دقائق منذ مغادرتهم السجن حين اتصل أحمد بكاثي على تليفونها الخلوي.
قالت له: «إنه معنا!» - «ماذا؟ فعلا؟»
فأعطت التليفون إلى زيتون.
قال: «مرحبا يا أخي!»
وسأله أحمد: «أهذا أنت؟!»
قال زيتون: «هذا أنا». - «الحمد لله! الحمد لله! كيف حالك؟!»
كان صوت أحمد يرتعد.
قال زيتون: «بخير! أنا بخير! هل كنت قلقا؟» وحاول أن يضحك.
وكان أحمد الآن يبكي: «الحمد لله! الحمد لله!»
الفصل الخامس
خريف عام 2008
فقدت كاثي ذاكرتها، أصبحت الذاكرة مهلهلة لا يعتمد عليها. كانت الأسلاك في ذهنها قد تقطعت في أماكن حيوية، وحدثت أحداث من أغرب ما يمكن.
كانت في البنك في شهر نوفمبر، لمجرد إيداع الشيكات التي تسلمتها من العملاء وسحب مبلغ نقدي يكفيها أسبوعا، وكانت لكثرة ترددها على هذا البنك، واسمه بنك كابيتال ون، معروفة لدى جميع العاملين فيه، وحياها الموظفون في صباح هذا اليوم، مثلما كانوا يحيونها في صباح كل يوم آخر عند دخولها.
وهتف الجميع: «مرحبا يا مدام زيتون!» ولوحت لهم بيدها وابتسمت.
وسارت إلى أحد الصرافين، وأخرجت دفتر شيكاتها والتقطت قلما، كان عليها أن تكتب شيكين، الأول بسحب نقدي، والآخر لتحويل بعض المال إلى حساب رواتب الشركة.
كتبت الشيك الأول وأعطته إلى الصراف، وعندما التفتت من جديد إلى دفتر شيكاتها تمهلت وتوقفت. لم تكن تعرف ما سوف تفعل بعد ذلك. لم تستطع أن تتذكر ما يجب على يدها أن تفعل. لم تكن تعرف كيف تكتب، أو ماذا تكتب، أو أين تكتب ذلك، وظلت تحدق وتحدق في دفتر الشيكات، وكانت غرابته تزداد في عينيها في كل لحظة. لم تستطع تحديد الغرض من دفتر الشيكات على الرف المقابل أو القلم في يدها.
ونظرت حولها، راجية أن ترى أحدا يمسك بهذه الأدوات في يده، وأن ترى كيف يستعملها. شاهدت بعض الأشخاص، ولكنهم لم يدلوها على شيء، فشعرت بالضياع.
قالت الصرافة شيئا، لكن كاثي لم تفهم الكلمات، نظرت إلى الصرافة الشابة، ولكن الأصوات الصادرة من فمها كانت مشوشة، كأنما تنطق معكوسة الحروف.
لم تكن كاثي قادرة على الكلام. كانت تدرك في أعماقها أنها بدأت تقلق الصرافة، وقالت لنفسها: «ركزي، ركزي، ركزي، ركزي يا كاثي!»
وتكلمت الصرافة من جديد، ولكن الصوت بدا الآن أبعد مما كان، كأنما كان يصدر من تحت الماء أو من مكان بعيد.
واستقرت عيناها على الحاجز الخشبي المنزلق الذي يفصل هذه الصرافة عن الأخريات. وانحصر وعيها في تأمل عروق الخشب الصفراء، منزلقا في الخطوط شبه الدائرية التي رسمها الزمن على سطح الخشب، ثم أدركت ما كانت تفعله، وهي تحدق في تعريق الخشب، وحثت نفسها على الخروج من ذلك المأزق.
قالت في نفسها: «ركزي! هيا.»
شعرت بالخدر في يديها، وكان بصرها مشوشا. «عودي أدراجك! عودي!»
وببطء عادت. كانت الصرافة تتكلم، ونطقت كاثي بألفاظ قليلة. وأحست كاثي بذاتها تعود فتدخل في جسمها مرة أخرى. وفجأة عاد كل شيء إلى مكانه في وعيها.
وسألتها الصرافة من جديد: «هل أنت بخير يا مدام زيتون؟»
وابتسمت كاثي، ولوحت بيدها إشارة إلى استهانتها بما حدث.
قالت: «سرحت لحظة وحسب. يوم عصيب!»
وابتسمت الصرافة وقد هدأ بالها.
وقالت كاثي: «أنا بخير.» ثم كتبت الشيك الثاني.
غدت كاثي تنسى بعض الأرقام والأسماء والتواريخ، كما يصعب اليوم عليها التركيز، وهي تقول لأصدقائها إنها سوف يصيبها الجنون، هازئة بذلك ضاحكة منه، فهي واثقة مثلما هم واثقون بأنها ليست على شفا الجنون، وأنها لا تزال كاثي نفسها طول الوقت تقريبا، وهي قطعا كذلك في عيون من يعرفونها، ولكن مرات الذهول - كالتي وقعت لها في البنك - تتراكم، ولم تعد كاثي تتمتع بحدة الذكاء التي كانت تتمتع بها يوما ما، ولم تعد تثق بقدرتها على أداء بعض ما كانت تؤديه في الماضي ، ويوما ما لن تستطيع أن تتذكر اسم أحد العمال الذين تعرفهم منذ عشر سنوات، وقد يأتي اليوم الذي تجد نفسها ممسكة بالتليفون، والطرف الآخر على الخط يرن، ولن تعرف من المتحدث ولا سبب الاتصال.
كان ذلك في خريف عام 2008 وأسرة زيتون منهمكة في الانتقال إلى منزل جديد، كان المنزل نفسه في الواقع - في شارع دارت نفسه - ولكنه قد أخرجت أحشاؤه، واكتمل توسيعه فأصبح ثلاثة أمثال حجمه السابق؛ إذ وضع زيتون تصميما لبناء ملحق به يهيئ لكل طفل غرفته الخاصة، وسوف يسمح لكاثي أيضا أن تدير العمل من المنزل. وأصبح للمنزل الجديد شرفات، وأسقف هرمية، ومطبخ كبير، وأربعة حمامات وغرفتان للجلوس. إنه أقرب ما يكون إلى منزل الأحلام الذي يمكن أن يسكنوه يوما ما.
أما المكتب في شارع دبلن فكان يمثل خسارة كاملة. زاراه بعد خروج زيتون من السجن بأيام معدودة فلم يجدا غير الطين والحشرات. كان السقف قد سقط، وكل شيء داخل المبنى مغطى بالطين الرمادي نفسه، وقامت كاثي مع زيتون بجمع كل ما استطاعا إنقاذه، وهو قليل، ثم باعا المبنى آخر الأمر. وقررا نقل مكتبهما إلى منزلهما. وأصبح لمنزلهما الآن مدخل من شارع دارت - عنوان المسكن - ومدخل آخر من طريق إيرهارت.
وكانت أسرة زيتون قد أقامت في سبعة مساكن، ما بين شقق ومنازل، منذ العاصفة. وأما مكتبهما في شارع دبلن فقد هدم وأنشئت مكانه ساحة انتظار للسيارات. ولم يكن المنزل في شارع دارت قد اكتمل إعداده.
وهما يشعران بالإرهاق.
عندما عادا من سجن هنت أقاما يومين في شقة عدنان في باتون روج، وكانا يفترشان فيها الأرض، ثم انتقلا إلى الشقة الاستوديو في المبنى الذي يؤجرانه في شارع تيتا على الضفة الغربية من نيو أورلينز. لم يكن في الشقة أثاث ولكنها لم تصب بأضرار في العاصفة. وفي الليالي الأولى فيها، كانت كاثي تنام مع زيتون على الأرض، ملتحفين ببطانيات مستعارة، ولا يكادان يتكلمان. لم يكن يريد أن يتحدث عن السجن. لم يكن يريد أن يتحدث عن معسكر كلب السباحة. كان يشعر بالعار؛ العار لأن صلفه، إن صح أن ذلك كان صلفا، هو الذي تسبب في هذا كله، والعار لوضع يديه في القيود، وإرغامه على التعري، وحبسه في قفص ومعاملته معاملة الحيوان. كان يريد لهذا كله أن ينمحي من حياتهما.
وفي تلك الليلة، وفي ليال كثيرة تالية، كانا يفترشان الأرض متعانقين، شاعرين بالمرارة والامتنان والإحباط، دون أن يقولا أي شيء. •••
كانت كاثي تقدم له أكبر قدر من الطعام تستطيعه كل يوم. وفي اليوم التالي لإطلاق سراح زيتون، اصطحبته كاثي مع عدنان إلى المركز الطبي الإقليمي حيث فحصه الأطباء ولم يجدوا أنه أصيب بأي إصابة خطيرة، ولم يجدوا سببا للألم الحاد في جنبه، ولكن وزنه كان قد نقص بما يقرب من عشرة كيلوجرامات، وقالوا إنه لن يعود لوزنه الطبيعي قبل مرور عام كامل. كان قد فقد بعض شعر رأسه، وما بقي فيه خطه الشيب. كان خداه ممصوصين وعيناه قد فقدتا البريق، واستعاد سابق عهده ببطء، وزادت قوته، وتلاشى الألم في جنبه، وهو ما أقنع زيتون بأنه لم يكن ناجما عن شيء تظهره الأشعة السينية، بل عن اللوعة، عن الحزن. •••
وبعد الإفراج عن زيتون، أعارهما صديقهما والت سيارة من عند تاجر السيارات الفاخرة الذي يتعامل معه، وكانت من طراز ليكساس، واستقلتها كاثي مع زيتون في طريق العودة إلى المدينة، وإلى المنزل في شارع دارت.
كانت الرائحة نفاذة: كانت مزيجا من العفن، ومياه المجاري، والحيوانات الميتة. واضطرت كاثي إلى إنزال جزء من لفاعها إلى فمها لتصد تلك الرائحة، حاول زيتون شد السيفون في أحد المراحيض فإذا بالصرف الصحي يتدفق، كان المزيد من المياه قد وصل إلى الطابق الثاني، وبلل رفا كاملا من الكتب فأفسدها، وكذلك معظم الأجهزة الإلكترونية.
ولولا أن زيتون كان موجودا آنئذ لسد الفجوات كلما ظهرت إحداها، لكان مصير المنزل الدمار الكامل. وتطلع إلى الثغرات الناشئة في السقف وتنهد.
واستندت كاثي إلى الجدار القائم في البهو، لم تعد تحتمل. كان كل شيء يملكانه تعلوه القذارة، وهالها ما ترى، وقالت في نفسها: «وبعد أن نظفت هذا المنزل ألف مرة!»
وسألها: «أنت بخير؟»
وأومأت وقالت: «أريد أن أرحل. شاهدت ما يكفي!»
وأخذا الكمبيوتر وبعض ملابس الأطفال ووضعاها في السيارة، وأدار زيتون المحرك ثم توقف وأهرع عائدا إلى المنزل، وبحث عن صندوق الصور، وعاد به ووضعه في شنطة السيارة. وتراجع بالسيارة في مدخل السيارات، ثم حول اتجاهه إلى شارع دارت، ثم تذكر شيئا آخر.
قال: «انتظري!» وهتف قائلا: «أوه لا!» ووثب خارجا من السيارة تاركا بابها مفتوحا. «الكلاب». كم مضى من الزمن عليها؟ وجرى عبر الشارع، ثم بحذاء المربع السكني، وصدره يعلو ويهبط. «الكلاب! الكلاب!»
وقرع البابين الأماميين للمنزلين اللذين كان يطعم الكلاب فيهما، فلم يجبه أحد، ونظر من خلال شبابيك الدور الأول، فلم يجد أحدا ... لم يكن أصحاب المنزلين قد عادوا.
وعاد زيتون إلى الشجرة، كان لوح الخشب لا يزال حيث وضعه، فجعله يستند إلى جذع الشجرة، ومد اللوح إلى داخل المنزل، إلى يمين الشجرة وسار على السطح. كان عادة ما يسمع نباح الكلاب مرحبة به في هذه اللحظة، لكنه اليوم لم يسمع شيئا.
وقال في نفسه: «يا رب! يا رب! يا رب!»
ورفع النافذة ودخل منها، وداهمت رائحة العفن أنفه فورا؛ فعرف أن الكلاب قد نفقت قبل أن يراها، وشاهد الكلبين معا في إحدى غرف النوم.
غادر السطح وعاد إلى الشجرة وعدل من وضع لوح الخشب حتى يصل إلى المنزل الثاني. كان الكلبان تحت شراعة النافذة مباشرة، كتلة من الأطراف المختلطة، ورأساهما متوجهان إلى السماء، كأنما ظلا ينتظرانه أسابيع متوالية.
وبعد أسبوعين كان زيتون وكاثي لا يزالان في الشقة الاستوديو، وكان الأطفال قد تجهزوا للعودة إلى نيو أورلينز. كان زيتون متوترا، وسأل كاثي: «هل أبدو كما كنت؟» كان يخشى أن يخيفهم بعد أن فقد ما فقد من وزنه وشعره. ولم تعرف كاثي ماذا تقول. لم يكن يبدو كما كان، أو لم يعد إلى الآن إلى ما كان عليه، ولكن الأطفال لا بد لهم من مقابلة أبيهم. وهكذا ركب زيتون الطائرة مع كاثي إلى مدينة فينيكس. ووسط موجات البكاء والأحضان المتلاحقة، التأم شمل أسرة زيتون. وعاد الجميع بالسيارة إلى نيو أورلينز، واستقروا في الشقة الاستوديو بشارع تيتا، وعلى مدى شهر كامل كانوا ينامون معا مفترشين الأرض.
وذات يوم فتحت كاثي خطابا من الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ التي كانت تعرض على أسرة زيتون مقطورة مجانية، وحدة متنقلة تتكون من غرفتي نوم، على أن تسلم إليهم إذا رغبوا في ذلك.
وملأت كاثي الاستمارات الصحيحة وأعادتها بالبريد، ولو تكن تتوقع الكثير مما فعلته، ولهذا فوجئت ذات يوم من أيام ديسمبر عام 2005 عندما توقفت أمام شقتهما سيارة ضخمة ذات ثماني عشرة عجلة، ومن ورائها مقطورة ذات لون أبيض ساطع.
كان زيتون يقوم بجولاته فلم ير العمال وهم يقيمونها، فأصابته الحيرة عندما شاهدها. لم تكن المقطورة ذات وصلات بأنابيب المياه الجارية أو بالكهرباء، كما أنها أقيمت فوق مصطبة مزعزعة من الطوب الأسمنتي لا يقل ارتفاعها عن 120سم فوق سطح الأرض، ولم تكن أمام الباب درجات يصعد عليها من يريد الدخول، وكان السبيل الوحيد إلى دخولها - بسبب ارتفاعها الشديد - هو الصعود على سلم، بل إنك إن وصلت إلى الباب فلن تستطيع دخول المقطورة؛ لأن الرجال الذين جاءوا بها لم يتركوا مفاتيح لها.
واتصلت كاثي بالوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ وأطلعتهم على هذه المسائل، فقال المسئولون فيها إنهم يفعلون كل ما في طوقهم، وسوف يلتفتون إليها في أقرب وقت ممكن، ومرت أسابيع دون أن تأتي المفاتيح، وكانت أسرة زيتون تترقب في كل يوم ما يدل على حضور أفراد الوكالة، ولكن المقطورة ظلت في مكانها، لا يستعملها أحد، وغير موصولة بالمرافق، ومغلقة.
وبعد شهر وصلت شاحنة صغيرة تابعة للوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ وتركت درجا يبلغ ارتفاعه نحو متر، ولكن رجالها لم يتركوا وسيلة لربط الدرج بالمقطورة، وظلت الفجوة قائمة ما بين الدرج والباب، وتكاد تبلغ قدما. وهو ما يعني أن دخولها يقتضي الوثوب داخلها، ولكن الباب لا يمكن فتحه؛ إذ لم تكن الوكالة قد أرسلت أي مفاتيح.
وبعد ستة أسابيع أخرى أو نحوها، حضر مفتش من الوكالة وسلم كاثي مفتاحا للمقطورة. ولكنه عندما شاهد المقطورة لاحظ أنها مائلة، وأن استعمالها ليس مأمونا، وانصرف بعد أن قال لكاثي إنه سوف يرسل من يتولى إصلاحها. •••
وبدأ زيتون وكاثي يشتريان منازل في الحي الذي يقيمان فيه، كانت مالكة المنزل المجاور لمنزلهما قد فرت من وجه العاصفة ولم تعد، ثم عرضت المنزل للبيع، وعرض عليها زيتون ثمنا له، كان الثمن يمثل نصف قيمة المنزل قبل العاصفة ولكنها قبلت. وكانت تلك الصفقة أهنأ صفقة عقداها. وكانا قد اشتريا أيضا قبل العاصفة المنزل المواجه لمنزلهما. وسرعان ما انتقلت الأسرة إلى الإقامة في هذا المنزل، وكانت في أثناء ذلك تقوم بتجديد منزلها الأصلي في شارع دارت، وتأجير المنزل الآخر المجاور لمنزلهما.
وفي غضون ذلك كله، كانت المقطورة التابعة للوكالة المذكورة لا تزال قابعة أمام المنزل في شارع تيتا، كان قد مرت عليها ثمانية أشهر دون أن يقوم أحد بتوصيل المياه أو الكهرباء إليها، ولم يستطع أحد قط إيجاد السبيل العملي لدخولها، ولم تعد أسرة زيتون في حاجة إليها الآن. كانت بمثابة قذى في العين، وكان زيتون قد أصلح جميع الأضرار في منزل شارع تيتا، وكانت الأسرة تحاول أن تبيعه، ولكن المقطورة كانت تحجب مرأى المنزل، ولم يكن أحد على استعداد لشراء منزل تقبع أمامه مقطورة مائلة لا تتحرك.
ولكن الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ لا تريد أن تأخذها. كانت كاثي تتصل بها كل أسبوع، وتقول للمسئولين فيها إن المقطورة لم تستخدم قط، وإنها الآن تتسبب في تخفيض قيمة عقارهما. وكان يقال لها في كل مرة إن المقطورة سوف تنقل في المستقبل القريب، وإن آلاف الأشخاص يتمنون الحصول على مثل تلك المقطورة، فلماذا تحاول أسرة زيتون التخلص منها؟
وفي يونيو عام 2006، جاء مندوب من الوكالة المذكورة ليأخذ المفاتيح، وقال إنه سوف يعود لنقل المقطورة. ومرت شهور، دون أن تلوح بادرة على وصول أحد من الوكالة، وعادت كاثي إلى الاتصال بها، فقالت الوكالة إنها لا سجل عندها لأي شخص أخذ المفاتيح.
وأخيرا، في إبريل عام 2007، أرسلت كاثي خطابا إلى صحيفة ال «تايمز - بيكايون» تروي فيه ملحمة المقطورة. وفي تلك الآونة، كانت المقطورة قد قبعت دون استخدام، ودون أن تكون صالحة للاستخدام مدة تزيد على أربعة عشر شهرا. وفي صباح اليوم الذي نشر فيه الخطاب، اتصل أحد مسئولي الوكالة بكاثي.
وسألها: «ما عنوانكم؟»
وأزال رجال الوكالة المقطورة في اليوم نفسه. •••
وأدت مشكلات الذاكرة عند كاثي إلى صعوبات أخرى، يصعب تفسيرها هي الأخرى، بدأت تصاب بمشكلات في المعدة، فقد تأكل أي شيء صغير، قطعة من الفطير مثلا، فإذا بمعدتها تتضخم إلى ضعف حجمها الأصلي، وسرعان ما أصبح من المتعذر عليها ابتلاع أي طعام تحاول تناوله، ولم تكن في بعض الأيام تستطيع هضم الطعام، فإن استطاعت كان عليها أولا أن تكافح في سبيل ذلك.
وأصبحت تتعثر فيما تفعله، فغدت تكسر الأكواب والأطباق، وكسرت أحد المصابيح، وكان التليفون يقع من يدها باستمرار، وكانت عندما تسير في بعض الأيام تشعر بأنها كالسكارى، فتترنح في مشيتها وتضطر إلى أن تستريح بالاستناد إلى جدار ما، كأنما أصابها الدوار، وفي بعض الأحيان كانت تشعر بالخدر في يديها أو قدميها أثناء قيامها بالأشغال اليومية المعتادة، مثل قيادة السيارة، أو مساعدة الأطفال في واجباتهم المدرسية.
وسألت زوجها: «ماذا يحدث لي يا حبيبي؟»
ودخلت المستشفى لإجراء الاختبارات، وقال أحد الأطباء إنها ربما كانت تعاني من تصلب الأنسجة المضاعف، وإن عددا كبيرا من أعراضها يوحي بمرض ما من أمراض التدهور، فأجري لها اختبار بالمنظار، وبالتصوير بالرنين المغناطيسي، وبالباريوم لاختبار القناة الهضمية كلها عندها، وعقد الأطباء لها اختبارات للمهارات المعرفية، وكانت نتائجها ضعيفة في اختبارات الذاكرة والتعرف، وكانت الاختبارات بصفة عامة تشير إلى ما يسمى مجموعة أعراض التوتر الناجمة عن التعرض لصدمة نفسية، وإن لم تكن كاثي قد استقرت على الاستراتيجية اللازمة لمعالجتها.
ولم يكن زيتون وكاثي يعتزمان مقاضاة أحد بسبب القبض عليه، بل كانا يريدان أن يجعلاه نسيا منسيا، ولكن أصدقاءهما وأقاربهما ألهبوا غضبهما وأقنعوهما بضرورة محاسبة المسئولين عما حدث. وهكذا قاما بتوكيل محام يدعي لويس كيرنر لرفع قضية مدنية على المدينة، والولاية، والسجون، والشرطة، وحفنة أخرى من الهيئات والأفراد. وحددا أسماء كل من جال بخاطرهما، ابتداء من العمدة إلى وكيل النيابة إدي جوردان، وكل من يعمل في الحلقات الوسطى للسلطة بينهما. وقال لهم كل من يعرف أي شيء عن محاكم نيو أورلينز إن عليهما أخذ دورهما؛ إذ كانت قد رفعت مئات القضايا، وربما آلاف القضايا على المدينة، والحكومة الفيدرالية والوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، ورجال الشرطة، وسلاح المهندسين بالجيش. وبعد انقضاء ثلاث سنوات على العاصفة، لم يكن قد تحرك عدد يذكر من هذه القضايا.
وبعد بضعة أشهر على إطلاق سراح زيتون، عثر المحامي لويس كيرنر على تقرير القبض عليه، وأذهل كاثي أن تعرف بوجود مثل هذا التقرير، أو بوجود أي سجلات أو الاحتفاظ بها، وكان اكتشاف أسماء الذين قبضوا على زوجها مرضيا لها أول الأمر، ولكن ذلك لم يفلح إلا في إذكاء حنقها؛ إذ غدت تنشد الإنصاف. كانت تريد أن تقابل هؤلاء الرجال وأن تواجههم وتعاقبهم. كان الشرطي الذي ألقى القبض على زيتون يدعى دونالد ليما، وكان هذا الاسم، دونالد ليما، يكوي ذهنها كيا، وكان الشرطي الآخر الذي ورد ذكره في التقرير هو رالف جونزاليس. وقال التقرير إن ليما كان تابعا لشرطة نيو أورلينز، وإن جونزاليس من شرطة ألبوكيرك، نيو مكسيكو.
واكتشفت كاثي أن رجال الشرطة من خارج الولاية لا يملكون سلطة القبض على أحد! وهكذا فعند إلقاء القبض لا بد من وجود شرطي محلي إلى جانب رجال الحرس الوطني أو رجال الأمن المتعاقد معهم. وقررت كاثي هي وزيتون ذكر اسم دونالد ليما، الشرطي الذي ورد اسمه في تقرير القبض على زيتون في القضية التي رفعاها. واتصل محامي أسرة زيتون بمقر شرطة نيو أورلينز فاكتشف أن ليما لم يعد يعمل لديهم. كان قد استقال في عام 2005 بعد العاصفة بأشهر معدودة، ولم يكن لدى هيئة الشرطة عنوان يمكن الاتصال به فيه.
وكان من اليسير العثور على جونزاليس ، كان تقرير القبض يقول إنه شرطي من ألبوكيرك، وإنه كان لا يزال في الخدمة في خريف عام 2008، وعندما اتصل به تليفونيا قص القصة من وجهة نظره.
قال جونزاليس إنه كان قد قضى إحدى وعشرين سنة في خدمة الشرطة عندما اقترح رئيسه في أغسطس 2005 إرسال فريق إلى نيو أولينز، وكانت هيئة شرطة نيو أورلينز قد أرسلت إلى جميع الولايات تطلب المساعدة بتوفير رجال تنفيذ القانون، فوافق جونزاليس على أن يذهب مع نحو ثلاثين شرطيا آخر من ألبوكيرك.
ووصل فريق نيو مكسيكو بعد هبوب العاصفة ببضعة أيام، وحلف أفراده اليمين اللازمة لتأهيلهم نوابا للمأمور، وبدءوا في إجراء عمليات البحث والإنقاذ، وكان جونزاليس ورفاقه قد سمعوا قبل وصولهم إلى نيو أورلينز أنباء كثيرة عن الأحوال في المدينة، وكانوا متوترين. كانوا قد سمعوا عن أحداث إطلاق النار، والاغتصاب، ووجود عصابات من المدججين بالسلاح الذين لا يعرفون الخوف. ولم يجدوا في المدينة أمثال هذه الجرائم، بل وجدوا كثيرا من حالات الوفاة، وكان هذا الفريق من بين الوحدات الأولى التي حققت في أحوال أحد المستشفيات. ولم يكن جونزاليس يذكر اسم المستشفى، لكنه يذكر أنهم وجدوا عشرات الجثث، وكانت الرائحة لا توصف.
كانت الأحوال تزداد سوءا كل يوم، ولم يكن يخرج مع رفاقه ليلا. وكانوا يسمعون أصوات كسر النوافذ وإطلاق الأعيرة النارية بعد حلول الظلام. كانت رائحة الموت والعفن تفوح من المدينة كلها، وقال عن زملائه من الشرطة: «إن كل واحد كان يأخذ حذره، حتى ظننا أننا في أحد بلدان العالم الثالث.»
وفي يوم 6 من سبتمبر، كان جونزاليس في ساحة الإعداد عند ملتقى طريقي نابليون وسانت تشارلز، وكان رجال الشرطة والجنود وأفراد الخدمات الطبية يجتمعون هناك كل يوم ليتبادلوا المعلومات ويتلقوا الأوامر بالمهمات الجديدة، وسمع جونزاليس أنهم سوف يقومون بتفتيش منزل في آخر الطريق يشغله عدد لا يقل عن أربعة أشخاص من المشتبه فيهم، والمفترض أنهم كانوا يقومون بالسلب والنهب والتعامل في المخدرات. وقيل له: إن المهمة قد تكون بالغة الخطورة، وإنها تحتاج إلى أكبر عدد من رجال الشرطة والجنود، وكانت تلك أولى مهمات الحفاظ على القانون والنظام التي يشارك فيها منذ وصوله.
وركب القارب وهو يرتدي قميصا لا يخترقه الرصاص، ويحمل معه مسدسا وبندقية من طراز إم-16، وكان واحدا من بين ستة من رجال الشرطة وجنود الحرس الوطني والجنود المأجورين في ذلك القارب. وعندما وصلوا، كان جونزاليس من بين أول من دخلوا، وشاهد كومة من مكونات الكمبيوتر ومعدات الاستريو على المنضدة في غرفة الطعام، وشاهد الرجال الأربعة، وقال في نفسه: إن شيئا ما في موقفهم كان يوحي «بأنهم لا يقصدون فعل الخير».
وقبضوا على الرجال الأربعة، وأحضروهم إلى ساحة الإعداد، وسلموهم إلى السلطات هناك. وكان الفريق قد انتهى من مهمته في خمس عشرة دقيقة، وأكد جونزاليس أن واجباتهم لم تجاوز هذا الحد، قائلا إنه لم يذهب قط إلى معسكر جراي هاوند، ولم يكن يدري دراية مؤكدة بأن سجنا قد أقيم في ذلك المكان، وأضاف أنه لم يقم، لا هو ولا أحد أفراد فريق الاعتقال، بتأمين المنزل أو جمع الأدلة. والواقع أنه لم يعد أحد منهم قط، ولو مرة واحدة، إلى المنزل في شارع كليبورن.
وقال إن القبض على زيتون والرجال الثلاثة الآخرين في شارع كليبورن كان أحد حادثي الاعتقال اللذين قام بهما جونزاليس أثناء وجوده في نيو أورلينز، وكانت جميع المهمات الأخرى التي قام بها تتعلق بالبحث والإنقاذ. ولم تمض عشر دقائق على إحضاره الرجال الأربعة إلى ساحة الإعداد حتى كان في قارب آخر، يبحث عمن يحتاج إلى العون.
وسئل جونزاليس عما شعر به حين علم أن عبد الرحمن زيتون، وهو رجل أعمال في منتصف العمر ووالد لأربعة أطفال، قد حبس شهرا كاملا في سجن مشدد الحراسة.
وبدا الأسف على جونزاليس قائلا: «إن كان بريئا أحسست بالمرارة الشديدة. وخلاصة القول: إنني لا أريد أن يحدث لي شخصيا ما حدث له.»
وتحدث جونزاليس عن الأسلوب الذي ينبغي أن يعمل به النظام قائلا: إن رجال الشرطة يجرون التحقيقات، ويتولون القبض على الأشخاص، ثم يسلمون الأمر إلى النظام القضائي . وقال: إن كان الرجال أبرياء كان ينبغي أن يسمح لهم في الظروف العادية بإجراء مكالمة تليفونية وإتاحة فرصة الإفراج عنهم بكفالة.
وقال: «كان الواجب يقضي بالسماح لهم بمكالمة تليفونية.» •••
كان اقتفاء أثر ليما أصعب، ولكنه لم يكن قد ابتعد كثيرا، كان قد ترك هيئة شرطة نيو أورلينز في عام 2005 ويقيم في شريفبورت، في ولاية لويزيانا.
قال إنه يعرف أن زيتون والآخرين قد حبسوا مدة ما. وكان قد اطلع على قضية زيتون؛ لأنه تسلم المذكرات عندما تولى المحامي المرافعة في القضية، وقال إنه يجهل كم قضى الرجال الآخرون في محبسهم، ولكنه أسرع بالإشارة إلى أنه لم يكن السبب في حبسهم؛ إذ اقتصرت مهمته على القبض عليهم.
قال إنه في الوقت الذي هب فيه إعصار كاترينا كان يقيم في منزل مقام على مساحة تبلغ نحو 400م
2
في شارع نابليون، وإنه ظل في المدينة أثناء العاصفة وبعدها مع أفراد أسرته لحماية منزله. كان لديه مولدان للكهرباء، وما يكفي من الطعام والماء لمدة ثلاثة أسابيع، كما كان لديه ما يربو على أربعين مسدسا وبندقية أوتوماتيكية. وكان أثناء النهار يتجول في المدينة مع غيره من رجال الشرطة وجنود الحرس الوطني لإنقاذ من يحتاج إلى الإنقاذ. وكان في كل يوم يقابل غيره من أفراد تنفيذ القانون لوضع خطط العمل؛ فيتقاسمون المهام والمناطق فيما بينهم.
وقال إن رجال الحرس الوطني في المدينة كانت لديهم مقادير كبيرة من البنزين، ولكن مؤنهم الأخرى كانت محدودة. وهكذا، كان ليما وغيره من رجال شرطة نيو أورلينز يقتحمون الحوانيت الصغيرة ويأخذون منها السجائر وتبغ المضغ حتى يستبدلوا بذلك البنزين، وأضاف ليما أن أغلب رجال الحرس الوطني كانوا يحبون مضغ التبغ وتدخين السجائر من ماركة مارلبورو، وأدى ذلك إلى توفير ما يحتاج إليه الطرفان. وقال ليما إنه كان يعتبر النهب والسلب عنصرا مهما من المهمة؛ إذ كان البنزين يساعدهم على إنقاذ من أنقذوهم، كما أنه كان يحتاج إليه لتشغيل المولدين الكهربائيين لديه. وأما إن تعذر عليه العثور على رجال الحرس الوطني الذين لديهم بنزين، فإنه كان يحصل على البنزين بالمماص من السيارات والشاحنات. وقال إن حلقه التهب من كثرة استخدامه المماص بعد العاصفة.
وقال: «كانت الفوضى تشيع في المكان كله.»
وقال ليما إنه بينما كان يتجول في زورقه ذي المحرك ذات يوم، لمح أربعة رجال يغادرون أحد فروع محلات «والجرينز» التجارية حاملين بضائع مسروقة. وبعد أن تركوا المحل وضعوا البضائع في زورق ذي محرك يجمع بين اللونين الأزرق والأبيض. وكان مع ليما شخصان أنقذهما في ذلك اليوم فلم يستطع مطاردة اللصوص حينذاك، ولكنه سجل الحادثة في ذاكرته، وواصل جولاته فشاهد كثيرا من الجثث، وواجه بعض سكان المدينة الغاضبين، وكان عدد كبير منهم يحملون السلاح.
وقال: «كان ذهني مضطربا.»
وأضاف قائلا إنه مر بعد يومين بمنزل في شارع كليبورن، وشاهد الزورق ذا اللونين الأزرق والأبيض نفسه مربوطا في مدخل المنزل، فأهرع عائدا إلى ساحة الإعداد عند تقاطع شارعي نابليون وسانت تشارلز، وجمع طاقما من رجال الشرطة وأفراد الجيش. وكانوا «مدججين بالأسلحة»، بالمسدسات والبنادق من طراز إم-16، ولم يكن يعرف الرجال الأربعة الآخرين ولا المرأة من أفراد الطاقم، وركبوا جميعا زورقا مسطحا إلى المنزل، وكان ليما الشرطي الرئيس عند القبض على من بالمنزل.
وقال ليما إنهم عندما دخلوا المنزل شاهدوا ما تصوروا أنه بضائع مسروقة فوق المنضدة في غرفة الطعام، ووجدوا الرجال الأربعة داخل المنزل، وكان يبدو من منظرهم ومن المشهد كله أن مخالفة ما قد وقعت. وأضاف: إنه كان واثقا بأن هؤلاء هم الرجال الأربعة أنفسهم الذين شاهدهم يغادرون محل «والجرينز»، فألقوا القبض عليهم وجاءوا بهم إلى ساحة الإعداد.
وقال: «كانت إجراءات القبض عادية إلى حد كبير، وكان الرجال الأربعة جميعا في منتهى الهدوء.»
وسلموا الرجال إلى أفراد الحرس الوطني الذين وضعوهم في شاحنة بيضاء. وقام ليما بإعداد الأوراق الخاصة بالقبض عليهم وسلمها إلى الحرس الوطني الذي نقلهم بالشاحنة إلى معسكر جراي هاوند. وعاد ليما في وقت لاحق إلى ذلك المعسكر حيث شاهد ممتلكات الأشخاص مرصوصة على المنضدة؛ شاهد خرائط تود، والنقد الذي كان يحمله ناصر، وشرائح الذاكرة، وقال: «كانوا يدبرون أمرا ما.»
وقال ليما إنه لم يكن واثقا ما نوع البضائع التي شاهد الرجال الأربعة يسرقونها. ولم يشاهد أيا من البضائع التي تباع عادة في محلات «والجرينز» في منزل شارع كليبورن. ولم يفرض الحراسة على منزل شارع كليبورن باعتباره مكان الجريمة. ولم يستعد أي بضائع سرقت من محل والجرينز، ولكنه كان واثقا بأن الرجال الذين كانوا في المنزل قد ارتكبوا مخالفة ما، وإن كانت الظروف الاستثنائية في نيو أورلينز في أعقاب العاصفة لم تسمح بتوخي الدقة في التحري إلى الحد الذي كان يرجوه.
وقال: إن الإجراءات التي اتخذت بعد الاعتقال لم تكن هي الأخرى معتادة ولا منصفة. وأوضح ليما ما يعنيه قائلا: لو كانت الظروف عادية لوجهت السلطات الاتهام إلى الرجال على الوجه الصحيح، وسمحت لهم بإجراء مكالمة تليفونية وتوكيل أحد المحامين، وأفرجت عنهم بكفالة في غضون أيام معدودة، وأضاف قائلا: إنه عندما كان يعمل في الشرطة، كان يشعر بالإحباط بسبب طبيعة عمل النظام القضائي الذي يشبه الباب الدوار، فقد يقبض على شخص في الصباح فإذا به حر طليق في الشارع في عصر اليوم نفسه. كان ذلك يدفع رجل الشرطة إلى الجنون، ولكنه أقر بأنه لو توافر عنصر الضبط والربط المذكور لكان مفيدا في هذه الحالة.
وقال: «كان الواجب أن يسمحوا لهم بإجراء مكالمة تليفونية.»
وترك ليما العمل في شرطة نيو أورلينز في نوفمبر عام 2005، وانتقل مع زوجته وابنته إلى مدينة شريفبورت. وظل يعمل في شرطة تلك المدينة بعض الوقت، ولكنه كان يتلقى معاملة «كأنه مواطن من الدرجة الثانية»، قائلا: إن رجال الشرطة فيها يعتبرون جميع رجال الشرطة من نيو أورلينز فاسدين. وهكذا استقال، وهو يبحث الآن عن عمل جديد، كان يعمل سمسارا قبل أن يلتحق بالشرطة وغدا ينظر في إمكان استئنافه عمله السابق. •••
وأحس زيتون وكاثي بتضارب مشاعرهما إزاء ما سمعاه من ليما وجونزاليس. فمن زاوية معينة، وجدا بعض الراحة حين علما أن هذين الشرطيين لم يتعمدا مطاردة رجل والقبض عليه لأنه من الشرق الأوسط، ولكنهما أحسا بالقلق عندما أدركا أن محنة زيتون قد نشأت نتيجة الجهل وسوء الأداء داخل النظام نفسه، وربما أيضا نتيجة لعقدة الشعور بالعظمة من جانب الحرس الوطني وغيره من الهيئات المشاركة في هذا، مهما تكن. كان ذلك يعني، بوضوح وجلاء، أنها لم تكن قضية وجود تفاحة فاسدة أو تفاحتين فاسدتين في البرميل، بل إن البرميل نفسه فاسد.
وبعد قليل تلقت كاثي رسالة بالبريد الإلكتروني تتضمن وثيقة تلقي الضوء، فيما يبدو، على الحالة النفسية للجنود، وهيئات تنفيذ القانون التي كانت تعمل في نيو أورلينز آنذاك.
كانت الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ هيئة مستقلة على امتداد عقود طويلة، ولكنها ضمت إلى وزارة الأمن الداخلي بعد أحداث 11 من سبتمبر عام 2001. وكانت تلك الوكالة على مر التاريخ تمنح سلطات واسعة في أعقاب كل حالة طوارئ فيدرالية؛ إذ كانت تتولى قيادة جميع عمليات الشرطة، وإطفاء الحرائق وإنقاذ الأشخاص، وكان ذلك ما حدث بعد إعصار كاترينا، إذ كان لا بد لهذه الوكالة من أن تتولى المسئولية عن جميع السجناء الذين يجري إجلاؤهم من نيو أورلينز، وهكذا كانت وزارة الأمن الداخلي هي التي تشرف على جميع السجناء، ومن بينهم زيتون.
وعندما اتجه كاترينا إلى ساحل الخليج، أرسلت بالفاكس، وبالبريد الإلكتروني أيضا، فيما يبدو، وثيقة من أربع صفحات إلى هيئات تنفيذ القانون في المنطقة، وإلى وحدات الحرس الوطني المتوجهة إلى منطقة الخليج، وكانت الوثيقة التي أصدرتها وزارة الأمن الداخلي في عام 2003 قد كتبها فريق «الخلية الحمراء» الذي يضم ممثلين من وزارة الأمن الداخلي، ووكالة الاستخبارات المركزية، وجنود البحرية الأمريكية، وشركات الأمن الخاصة، ومعامل «سانديا» الوطنية.
وكان قد طلب من اللجنة التي كتبت الوثيقة أن «تنظر في إمكان استغلال الإرهابيين لإعصار مرتفع الدرجة». وعلى الرغم من أن مؤلفي الوثيقة قد أقروا بأنه لم يكن من المحتمل أن ينشط الإرهابيون للعمل خلال الإعصار أو بعده، فقد عددوا السبل التي قد يقومون فيها بالعمل، قالوا: «من الممكن أن تقع عدة أنماط من الاستغلال للإعصار أو العدوان في أي مرحلة من مراحل دورته، مثل احتجاز الرهائن، أو الهجوم على الملاجئ، أو الهجمات بالكمبيوتر، أو التنكر في أزياء المسئولين عن التصدي للطوارئ واستخدام معداتهم في الدخول حيث يريدون.» كما قالوا إن هؤلاء الإرهابيين «قد يراودهم الأمل أيضا في أن تكون وحدات الحرس الوطني وغيرها من الوحدات أقل كفاءة وغير مزودة بالعتاد اللازم للرد عليهم لوجود الكثير منهم في مهمات خارج أمريكا.»
وبعد ذلك أوردوا تصنيفا للنتائج التي توصلوا إليها، يحدد لها ثلاث فئات: الفئة الأولى هي ما قبل الحدث، والثانية أثناءه، والثالثة ما يعقبه، وكتب أعضاء اللجنة يقولون: على الأرجح سوف يلجأ الإرهابيون قبل العاصفة إلى استغلال الفرصة «لاتخاذ تدابير احتياطية لقياس مدى كفاءة استجابة الموارد المتاحة لحالة الطوارئ، ومدى إمكان استمرار تنفيذ خطط العمل في هياكل البنية الأساسية الحساسة.» وأدرج مؤلفو الوثيقة تحذيرا يقول إن الإرهابيين قد ينقضون على طرق جلاء المواطنين، فيثيرون «الذعر الجماعي» و«فقدان ثقة الجماهير بالحكومة». وقالت اللجنة إن نشاط الإرهابيين في أثناء العاصفة «أقل احتمالا؛ بسبب سوء حالة الجو، واستحالة التنبؤ بمسار العاصفة، وصعوبة حشد الموارد». وأما بعد العاصفة فكانت خيارات الإرهابيين محدودة، وإن كانت فعالة؛ إذ قد يلجئون إلى «الاستناد إلى ذعر الجماهير في زيادة قلقلة النظام وزعزعته بنشر الشائعات»، ومن ثم «يزيدون من التغطية الإعلامية» وبذلك «يرهقون نظام الصحة العامة».
وقدمت اللجنة عدة توصيات لتقليل الخطر الذي يمثله أمثال هؤلاء الإرهابيين، وكان من بينها «اتخاذ المزيد من إجراءات الأمن (مثل التفتيش على الهوية) في مراكز الإجلاء والملاجئ»، و«التنبيه على الصف الأول من أفراد أجهزة التصدي للإعصار، والعاملين بالمواصلات السلكية واللاسلكية، والمسئولين عن إعادة الطاقة الكهربائية عند انقطاعها، بأن يشددوا من التحقق من الهويات حتى يمنعوا المحتالين من الدخول دون وجه حق إلى الهدف الذي يقصدونه»، و«زيادة الورديات، ورفع مستوى يقظة العاملين في المحطات الرئيسة لنقل السكان وإجلائهم (مثل الجسور والأنفاق) بما في ذلك مراقبة أي مركبة مهجورة في هذه المواقع وتصيدها.»
وانتهى رأي لجنة «الخلية الحمراء» إلى استبعاد قيام جماعة إرهابية ثابتة بالعمل في الولايات المتحدة أثناء هبوب أحد الأعاصير. وإن اتجه رأي أعضائها إلى «ترجيح قيام خلية إرهابية من فصائل تلك الجماعة، أو إرهابي فرد، باستغلال الإعصار في موقع هبوبه، وتضم هذه الفئة من لهم برامج سياسية محددة، أو المتطرفين الدينيين، أو غيرهم من الأفراد المتذمرين.»
ليست كاثي واثقة إن كان سماع أمور مثل هذه مفيدا أو لا. لقد ابتعدت عن إعصار كاترينا ابتعادا ذا وجوه عديدة، ولكن الآثار المترسبة منه تصل إليها في أوقات غير متوقعة. قد تمر بها أيام عادية كثيرة، فهي تأخذ الأطفال بالسيارة إلى المدرسة وتعود بهم، وتقوم في أثناء وجودهم في المدرسة بإدارة شئون شركة المقاولات والطلاء. وعندما يعود الأطفال من المدرسة تقوم بإعداد وجبات خفيفة، ويشاهدون التليفزيون، ويؤدون واجباتهم المدرسية.
ولكن حدث منذ يومين أن طلبت كاثي من نديمة أن تساعدها. كانت تحاول دخول الإنترنت، ولكنها لم تستطع تشغيل الجهاز. نظرت خلف الكمبيوتر فوجدت الأسلاك متشابكة بصورة استعصت على إدراكها.
قالت لابنتها: «هل تساعدينني على الاتصال يا نديمة؟»
وهبت نديمة لمساعدتها، كانت كاثي هي التي جهزت كل كمبيوتر في المنزل، كما ذكرتها نديمة الآن بذلك، وكانت كاثي هي التي علمت نديمة كيف تستخدم هذه الأجهزة. كانت كاثي تعرف ذلك، ولكنها الآن لم تستطع أن تتذكر مواضع الأسلاك ووظائف الأزرار وأساليب توصيل كل شيء. •••
وأصبح معسكر جراي هاوند موضوعا للتحقيقات الصحفية، ومنبع إثارة لدهشة المدينة كلها، بل إن موظفي المحطة المشتركة للأوتوبيس والقطارات ما زالوا يعجبون مما حدث للمحطة بعد العاصفة، ويسعد شاغلي الوظائف الكتابية في محطة القطارات أن يطلعوا الزوار اليوم على المكان الذي كانت تسجل فيه بصمات أصابع السجناء وتقاس أطوالهم. ولا يزال مقياس الأطوال قائما، ولا تزال العلامات المرقومة بخط اليد واضحة تحت إحدى اللوحات الجدارية المجاورة لمكان قطع التذاكر، وكل ما عليك أن تزيح اللوحة، فتراها كما كانت في أيام معسكر جراي هاوند.
وكما حدس زيتون، كان السجن قد بني بالجهود اليدوية إلى حد كبير، وأثناء حبسه فيه لم يكن يستطيع أن يتخيل من من العمال كان متاحا ومستعدا للعمل ساعات طويلة كل يوم بعد الإعصار، ولكن الإجابة التي تلقاها معقولة إلى درجة ما؛ إذ قيل له إن العمل قد قام به سجناء من سجن ديكسون لويزيانا، ومن سجن ولاية لويزيانا، أنجولا.
كان سجن أنجولا أكبر سجن في البلد، وكان قد بني على مساحة ثمانية عشر ألف فدان، كانت فيما مضى مزرعة تستخدم لتربية العبيد، وكان المقصود من بنائه أن يضم المدانين بارتكاب أخطر الجرائم، وكان يعتبر منذ عهد بعيد أخطر سجن في الولايات المتحدة، ولم يكن من يدخله يأمل في الخروج منه، وكان عدد سجنائه يبلغ خمسة آلاف، ومتوسط المدة المحكوم بها على كل منهم يبلغ 89,9 سنة. وعلى مر التاريخ كان يفرض على النزلاء القيام بأعمال تقصم الظهور، وكان من بينها جني محصول القطن بأجر لا يزيد على أربعة سنتات في الساعة. ونظم النزلاء مظاهرة احتجاج جماعية منذ عدة عقود، قام فيها واحد وثلاثون سجينا بقطع أوتار عراقيبهم كيلا يفرض عليهم العمل من جديد.
وفي وقت الإعصار، كان مارلين جوسمان، مأمور أبرشية أورليانز، يعرف أن سجن أبرشية جوسمان الذي كان ينزل فيه معظم المتهمين الذين ينتظرون المحاكمة، من المحتمل أن تغمره مياه الفيضان، فاتصل بمحافظ سجن أنجولا بيرل كاين، واتفق معه على بناء سجن مرتجل فوق ربوة في نيو أورلينز، فقام المحافظ كاين بتجميع الأسوار والمراحيض المحمولة التي كانت متوافرة في سجن أنجولا، وأرسلها مع غيرها من المواد في الشاحنات إلى نيو أورلينز، فوصلت بعد هبوب الإعصار على المدينة بيومين.
كما أرسل كاين أيضا عشرات السجناء، وكثير منهم مدان بارتكاب القتل العمد والاغتصاب، وكلفهم ببناء أقفاص للسجناء الجدد وللسجناء الذين اضطروا إلى مغادرة سجن أبرشية أورليانز، وتمكن سجناء أنجولا من إتمام إقامة شبكة السجون الخارجية في يومين، وكانوا ينامون ليلا في المبنى المجاور لمحطة جراي هاوند. وأرسل كاين أيضا بعض الحراس، وعندما اكتملت الأقفاص أرسل سجناء أنجولا مرة أخرى إلى الشمال، وبقي الحراس. وكان هؤلاء هم الرجال الذين تولوا حراسة قفص زيتون.
وعندما اكتمل السجن قال كاين إنه كان «بداية حقيقية لإعادة بناء» نيو أورلينز. وفي الأسابيع التالية كان عدد الرجال والنساء السجناء في معسكر جراي هاوند يزيد على 1200.
وقد اكتمل هذا المجمع، واكتملت هذه العملية الحكومية ذات الكفاءة الفائقة، أثناء انحصار سكان نيو أورلينز في غرف السقف يتسولون الإنقاذ من فوق أسطح المنازل وكباري الطرق العلوية، وكانت المراحيض المحمولة متاحة وتعمل في معسكر جراي هاوند، بينما كانت حمامات قاعة المؤتمرات والصالة الرياضية المغطاة عاطلة على بعد شوارع معدودة، وكانت مئات صناديق المياه المعبأة في الزجاجات والوجبات الجاهزة متاحة لمن يطلبها من الحراس والسجناء، بينما كان المشردون بالقرب منهم يكافحون للحصول على الطعام والماء. •••
كان يحدث أحيانا أن يكلم شخص ما كاثي بالإنجليزية فلا تفهم ما يقوله. حدث ذلك منذ يومين مع أمباتا، وهي امرأة استأجرتها أسرة زيتون للمساعدة في أعمال المكتب. كان الأطفال قد عادوا لتوهم من المدرسة، والتليفزيون مفتوحا، والموسيقى تصدر من جهاز الاستريو، والضجيج يملأ المنزل. وكانت كاثي وأمباتا ترسلان الفواتير، عندما قالت أمباتا شيئا لم تستطع كاثي أن تفهمه، شاهدت فم أمباتا يتحرك لكن الكلمات لم تحمل أي معنى إليها.
سألتها: «هل يمكنك تكرار ذلك؟»
فكررت أمباتا ما قالته.
لم يكن للكلمات معنى.
فقالت كاثي: «آسفة. لا أفهم ما تقولينه.» وداهمها الخوف، فهبت من مجلسها في شبه لوثة وأغلقت التليفزيون، وجهاز الاستريو والكمبيوتر، كانت تريد استبعاد كل المتغيرات. وجلست مرة أخرى مع أمباتا وطلبت منها تكرار ما قالته.
وكررت أمباتا ما قالته، ولكن كاثي لم تستطع فهم الكلمات. •••
وفي يوم من أيام 2006، كان زيتون يزور قريبه عدنان في المطعم الذي يملكه في محطة المترو بوسط المدينة. وكان زيتون أحيانا ما يتوقف هناك لتناول الغداء، وكان في ذلك اليوم يتناول وجبته حين دخلت المطعم أمريكية من أصل أفريقي فارعة الطول. كانت تلبس الزي العسكري ذا اللونين البني والأخضر، وكان من الواضح أنها من جنود الحرس الوطني. كان وجهها مألوفا إلى حد بعيد.
وأدرك زيتون سبب تعرفه عليها ، كان شبه واثق بأنها كانت من بين الأشخاص الذين ألقوا القبض عليه، كانت عيناها هما اللتان شاهدهما، وشعرها القصير كما شاهده، وحدق فيها بضع لحظات طويلة، وحاول استجماع أعصابه ليقول لها شيئا، ولكنه لم يستطع أن يعثر على ما ينبغي له أن يقوله، وسرعان ما انصرفت.
وسأل عدنان فيما بعد عنها: «هل سبق لك أن شاهدتها؟» - «لست واثقا. لا أظن ذلك.» - «لو جاءت مرة أخرى، فعليك أن تسألها بعض الأسئلة. سلها إن كانت موجودة في نيو أورلينز بعد العاصفة.»
وقضى زيتون يومه في محاولة استرجاع حادثة القبض عليه والأسابيع التي تلته. ولم يكن يتذكر الحادثة في كل يوم، ولكنه كان أحيانا ما يصعب عليه إقصاء غضبه في أوقات متأخرة من الليل.
وكان يعرف أنه لن يستطيع العيش في المدينة إذا أحس أنه سوف يواصل مقابلة أشخاص مثل هذه الجندية. كان يكفيه ما يشعر به من ألم حين يمر بمحطة جراي هاوند. وإن كان ذلك محتوما بسبب موقعها المركزي في المدينة، بل إنها كانت على مرأى من مستودع الأدوات واللوازم المنزلية. كان قد عدل عاداته بصور محدودة كثيرة؛ إذ كان حريصا حرصا خاصا على عدم ارتكاب أي مخالفة مرورية طفيفة. كان يخشى ذلك لأن من شأن القضية أن تجعل منه هدفا للشرطة؛ فقد يلفقون تهما ضده، أو يحاولون تبرير القبض عليه. ولكن هذه لم تكن سوى خواطر عابرة، وكان يكافحها في كل يوم.
ولكن المواجهة كانت محتومة.
فبعد أربعة أيام من إطلاق سراحه، تسنى لزيتون الوقت اللازم للنوم ولتناول بعض الطعام، وشعر بأنه أصبح أقوى. ولم يكن يريد أن يعود إلى معسكر جراي هاوند، ولكن كاثي أصرت، وكان يعرف أنها على حق؛ إذ كان لا بد له أن يسترجع حافظته، لأنها كانت تضم رخصة قيادته، وإن لم يحملها كانت البطاقة الشخصية الوحيدة التي يحملها هي بطاقة الهوية الخاصة بالسجن، وهي التي أعطيت له في سجن هنت. وكان عليه أن يصطحب كاثي بالطائرة إلى فينيكس لإحضار الأطفال وإعادتهم بالسيارة إلى المنزل، ولم يكن أمامه إلا أن يستعيد رخصة قيادته حتى يتمكن من ذلك . وناقشا الأمر من جميع الزوايا ولم يجدا خيرا من ذلك. كان عليهما أن يعودا إلى محطة جراي هاوند ويستعيدا الحافظة.
وتوقفت سيارتهما في مدخل السيارات الذي رصف على شكل هلال، ولم يكن حولهما غير سيارات الشرطة، والمركبات وعربات الجيب العسكرية، وغيرها من سيارات الجيش.
وسألته كاثي: «بم تشعر؟»
وقال زيتون: «لست على ما يرام!»
وأوقفا السيارة في مكان الانتظار، ومكثا فيها برهة.
وقالت كاثي: «جاهز؟» كانت قد تهيأت للكفاح.
وفتح زيتون بابه، وسارا نحو المحطة، وكان خارج المدخل جنديان.
وقال زيتون لكاثي: «أرجوك لا تقولي أي شيء.»
وقالت كاثي: «لن أنطق.» وإن كانت لا تكاد تعرف كيف تتحكم في حنقها.
وكرر طلبه: «أرجوك لا تتكلمي.» وكان قد حذرها عدة مرات من أنهما قد يلقى بهما معا في السجن، أو يعاد به إلى السجن، وقد يحدث شيء ما. كان «شيء ما» قد حدث معه فعلا.
وأثناء اقترابهما من محطة الأوتوبيس، شعر زيتون بأنه كان يرتعد.
قال لها: «اهدئي أرجوك. لا تزيدي الأمر سوءا.»
وقالت كاثي: «وهو كذلك. وهو كذلك.»
ومرا في طريقهما بأكثر من عشرة أفراد عسكريين ثم دخلا المبنى. لم يكن منظره يختلف عما كان زيتون يذكره عنه. ولأول مرة في حياته حاول أن ينكمش. حاول أن يخفي وجهه، فقد يكون الأشخاص الذين وضعوه في القفص أنفسهم في ذلك المكان، واقتفى خطوات كاثي عبر الأبواب المتوالية.
واستوقفهما جنديان، مر أحدهما بيديه على ملابس زيتون للتثبت من عدم حمله سلاحا وفتش الآخر حقيبة كاثي. وطلبا منهما المرور من بوابة الكشف عن المعادن، وعينا زيتون تجوبان المبنى بحثا عن أي وجه رآه قبل ذلك.
وطلب من زيتون وكاثي الجلوس في صف من الكراسي، وكانت الكراسي نفسها التي كان يجلس عليها زيتون أثناء التحقيق معه، وقيل لهما أن ينتظرا فرصة مقابلة وكيل النيابة المساعد. وكان زيتون في حاجة ماسة إلى الخروج بأقصى سرعة؛ فقد كان الموقف مألوفا إلى حد أبعد مما ينبغي ، ولم يكن واثقا بأنه سوف يخرج مرة أخرى.
وأثناء انتظارهما اقترب منهما رجل يحمل جهاز تسجيل صوتي. قال إنه صحفي من هولندا وإن له صديقا كان قد احتجز ليلة في أحد الأقفاص، وأفرج عنه منذ قليل.
وبدأ بسؤال زيتون وكاثي عن سبب وجودهما في ذلك المكان، فلم تتردد كاثي وقالت له إن زوجها قبض عليه ظلما وأدخل سجنا مشدد الحراسة، وحبس فيه ثلاثة وعشرين يوما، وإنهما الآن يحاولان استرجاع ممتلكاته. «ابتعد عنهما!»
رفعت كاثي بصرها فشاهدت شرطية في الخمسينيات من عمرها تلبس ملابس التخفي العسكرية كاملة، تنظر إليهما في غضب وتصرخ في الصحفي الهولندي، صاحت قائلة له: «اخرج من هنا! انتهت المقابلة.» ثم التفتت إلى اثنين من رجال الحرس الوطني وقالت لهما: «إذا شوهد هذا الرجل مرة أخرى، فاقبضا عليه وضعاه في قفص.» فاقترب الرجلان من الصحفي.
ونهضت كاثي واتجهت نحو المرأة وقالت لها: «هل تحرمينني الآن من حرية الكلام؟ أخذتم زوجي ولم تسمحوا لي بأن أكلمه أو أراه، ثم تحرمونني الآن من قدرتي على الكلام بحرية؟ لا أظن هذا! هل تعرفين شيئا عن حرية الكلام؟»
واستدارت الشرطية مبتعدة عن كاثي وأمرت بإخراج الصحفي، فاصطحبه جنديان إلى الباب الأمامي، وقاما بإخراجه.
واقترب منهما وكيل النيابة المساعد، وكان رجلا أبيض ممتلئ الجسم، وسألهما عما يريدان. وقالت كاثي من جديد إنهما في حاجة إلى حافظة زوجها، فسار معهما الرجل إلى محل بيع الهدايا الذي تحول إلى مكتب، كان صندوقا زجاجيا في منتصف المحطة حافلا بهدايا ثلاثاء المرفع من تي شيرتات ومثقلات الأوراق. وشرح زيتون وكاثي موقفهما.
وقال وكيل النيابة المساعد إنه يأسف لعدم تلبية طلبهما؛ لأن الحافظة لا تزال تستخدم ضمن الأدلة، وانفجرت كاثي: «أدلة؟ كيف يمكن استخدام بطاقة الهوية دليلا؟ فأنتم تعرفون اسمه، ولماذا تحتاجون إلى البطاقة؟ إنه لم يرتكب جريمة بحافظته!»
وتأوه الرجل وقال: «أنا متعاطف معكما، لكنكما لا تستطيعان استرداد البطاقة إلا بإذن وكيل النيابة.»
فسألته كاثي: «هل تعني إيدي جوردان؟ أين هو؟»
قال: «ليس هنا.»
فسألت كاثي: «ومتى يعود؟»
قال وكيل النيابة المساعد إنه لا يعرف.
وسارت كاثي مع زيتون فدخلا بهو المحطة، غير متأكدين من خطوتهما التالية. ولكن سرعان ما لمحت من خلال النافذة الأمامية للمحطة إيدي جوردان، كان واقفا في المقدمة، محاطا بكتيبة من الصحفيين.
وانطلقت كاثي من الباب لمواجهة جورادن، وكان يرتدي حلة من ثلاث قطع.
سألته: «لماذا لا نستطيع الحصول على حافظته؟»
فقال جوردان: «أفندم؟»
وأوضحت كاثي له بإيجاز موقف زيتون، وكررت طلبها إعادة حافظته.
وقال جوردان إنه لا يملك أن يفعل شيئا في هذا الصدد، واستدار عنها، واستأنف حديثه مع الصحفيين!
ولمحت كاثي الصحفي الهولندي بالقرب منهم، وكانت تريد أن يعرف، هو وغيره من الصحفيين ما يجري، فتكلمت بأعلى صوت ممكن: «ألقيتم القبض على زوجي في منزله، والآن لا تريدون إعادة حافظته؟ ما الذي يجري هنا؟ أي بلاء أصاب هذه المدينة؟!»
وهز جوردان كتفيه وانصرف.
وقالت كاثي لزيتون: «سنعود للدخول.»
لم يكن زيتون يدرك السبب، ولكن اللهيب في عيني كاثي لم يكن يشجع على المناقشة. فعادا للدخول وذهبا مباشرة إلى وكيل النيابة المساعد، كانت كاثي مصممة على ألا تجعل بطاقة هوية السجن اللعينة هي التي تحدد شخصية زوجها، أي أن تصبح المستند الحكومي الوحيد في يده للدلالة على هويته.
وقالت لوكيل النيابة المساعد: «لا بد أن تفعل شيئا!» كانت قد غدت على وشك البكاء، وقد هدها الإحباط والغضب.
وأغلق وكيل النيابة المساعد عينيه، ثم قال: «دعيني أرى ما يمكن أن أتوصل إليه.» وغادر المكتب، وبعد عشر دقائق عاد ممسكا بالحافظة وسلمها إلى زيتون!
كانت فيها رخصة القيادة، وبطاقة الإقامة الدائمة، ولكن الحافظة لم يكن بها أي نقود، أو بطاقات عمل أو بطاقات ائتمان.
وسأل زيتون: «أين الأشياء الأخرى؟»
وقال الرجل إنه لا يعرف، مضيفا: «لم يكن فيها غير ذلك.»
لم تكترث كاثي لذلك، لم تكن تريد في هذه اللحظة غير ما يثبت اعتراف بلدها بأن زيتون من مواطنيه.
قالت: «شكرا يا سيدي، شكرا لك!» وأحست بأنها تريد أن تحتضنه. كان أول شخص يمثل حكومة المدينة أو حكومة الولاية يبدي أدنى بادرة إنسانية. بل إن هذه المهمة التي نفذها بيسر - أي استعادة حافظة رجل حبس في قفص لا يبعد إلا أمتارا قليلة - بدت في هذا السياق عملا يدل على شجاعة كبرى وتعاطف عميق.
ورحلا وهما يشعران بأنهما حصلا على أهم شيء، رخصة القيادة. وإزاء طابع النظام القضائي للمدينة، كان مجرد بقاء الحافظة من قبيل المعجزات. كانت كاثي قد سبق لها إلغاء بطاقات الائتمان، وأما ما عدا ذلك فيستطيعان تعويضه. •••
كانت هذه آخر مرة تشعر فيها كاثي بالقدرة على التركيز والغضب إلى هذا الحد، وأما الآن فقد تلاشى التركيز، وإذا كانت لا تزال تغضب فإن حالات الغضب قد قلت، ولم تعد تستطيع الغضب كما كان العهد بها ذات يوم. وحيثما كانت تبدو جاهزة وراغبة في خوض أي معركة، أصبحت الآن تفضل التراجع، وتدعيم وسائل دفاعها، ومضاعفة الأقفال على الأبواب. ودائما ما تجد أنها توجس خيفة من أن يحدث لأسرتها شيء ما، فهي لا تحب أن يلعب أطفالها في الحي، بل تريدهم أن يكونوا حيث تراهم، حتى نديمة نفسها، التي بلغت الثالثة عشرة الآن وكادت تصبح طول كاثي نفسها. وهي ترعاهم حين ينامون ولم يسبق لها قط أن فعلت ذلك. وهي تطمئن عليهم عدة مرات أثناء الليل، وتستيقظ ثم يصعب عليها العودة إلى النوم.
وغدت نديمة التي تتميز على الدوام بتحمل المسئولية وباللماحية الفائقة تشارك في السهر على أخواتها. وأما زخاري الذي بلغ الثامنة عشرة فيقيم مع بعض أصدقائه في نيو أورلينز، ويعمل في أحد مطاعم عدنان في محطات المترو. وأما صفية وعائشة فهما كالعهد بهما دائما، مرحتان، حافلتان بالبهجة، تفاجئان من حولهما بالغناء. وجميع الأطفال ييسرون الحياة إلى حد بعيد لأحمد الصغير، المولود في 10 من نوفمبر عام 2006، في مستشفى شرق جيفرسون.
وتجمع الآراء على أن أحمد طفل سعيد إلى درجة خارقة، فهو لا يحرم أبدا من الاهتمام والرعاية؛ إذ تتناوب أخواته في حمله، وإخراج كل ما هو خطر عليه من فمه، والقراءة له، وإلباسه ملابسهن القديمة.
وقد أسعد زيتون كثيرا أن رزق بغلام، ولم يكن اختيار اسم له موضع نقاش قط؛ إذ كان «أحمد» الاسم الأول والأوحد.
وأما أحمد، أخو زيتون، فلا يزال يقيم في إسبانيا، ويعمل الآن مفتشا للسفن، وهو ينتظر من أخيه أن يأتي بالطفل الجديد إلى مالقة؛ إذ حان وقت رؤية ابن أخيه المسمى على اسمه.
لم تعد كاثي تعمل كثيرا هذه الأيام، فعليها أن ترعى الطفل، ولم يعد ذهنها يتسم بالذكاء اللازم - في الفترة الأخيرة - للقيام بالأعمال المكتبية كلها بنفسها. والشركة تستعين الآن بمن يساعد كاثي، مثل أمباتا وغيرها، وهو ما يتيح لكاثي الوقت الكافي للراحة، وللقيام بواجبات الأمومة، ولمحاولة فهم ما جرى من أحداث في الثلاث السنوات الأخيرة.
أضف إلى ذلك مواعيد الأطباء، فالأطباء يحاولون أن يعرفوا أسباب الخدر الذي يصيب يديها فجأة، وغيرهم من الأطباء يدرسون مشكلات الهضم عندها، ومشكلات الذاكرة.
طلب الأطباء من كاثي أن تحدد لهم أقسى صدمة نفسية تعرضت لها في كل ما وقع بعد إعصار كاترينا. وكانت دهشتها الشخصية ودهشة الأطباء كبيرة عندما تبينت أن ذلك كان بعد أن عرفت أن زيتون حي يرزق، وبعد أن قيل لها إنه في سجن هنت، من دون أن يسمح لها برؤيته أو حتى بمعرفة مكان انعقاد جلسة المحاكمة. كانت أقسى الصدمات وأشدها إيلاما صدمتها عندما قالت المرأة لها بالتليفون إن مكان الجلسة: «معلومات خاصة.»
وتقول كاثي: «أحسست بأنني شطرت شطرين.»
كيف يتأتى لهذه المرأة، وهي غريبة، أن تنكر حق كاثي بهذه البساطة بعد أن عرفت مدى يأسها واستماتتها؟ كيف يمكن إجراء محاكمات بلا شهود، وأن تجعل حكومة بلدها بعض الأشخاص يختفون؟
قالت: «لقد حطمني ذلك!»
والآن، وفي ساعات الصباح الأولى أو الهزيع الأخير من الليل، بل أحيانا وكاثي جالسة وأحمد الصغير ينام في حجرها، تجد أنها تتساءل قائلة: «هل حدث ذلك كله حقا؟ هل حدث في الولايات المتحدة؟ هل حدث لنا نحن؟» وتعتقد أنه كان يمكن تجنبه، كان من الممكن اتخاذ إجراءات صغيرة كثيرة جدا. لقد شارك عدد بالغ الكثرة في حدوث ما حدث. وما أكثر من غضوا الطرف عما يحدث. ولم يكن يتطلب الأمر إلا أن ينبري للعمل شخص واحد، وأن تتخذ خطوة واحدة للخروج من الظلام إلى النور.
كانت تريد أن تعرف هوية رجل التبشير، ذلك الرجل الذي قابل زوجها في السجن وأخذ منه رقم تليفونها - الرسول - الرجل الذي خاطر بشيء ما باسم الرحمة.
ولكن ترى هل خاطر بالكثير؟ لم يخاطر بالكثير حقا، فالمعتاد ألا تحتاج إلى المخاطرة بالكثير لتصحيح أحد الأخطاء. وليس الأمر على هذه الدرجة من التعقيد، بل إنه نقيض التعقيد. أن تتصل برقم أعطاه لك رجل في قفص، وأن تقول للصوت في الطرف الآخر: «شاهدته.» هل هذا معقد؟ هل أصبح ذلك عملا يتسم ببطولة عظمى في الولايات المتحدة الأمريكية؟
الواجب ألا يكون كذلك. •••
ومن دواعي قلق كاثي أن زوجها يجهد نفسه في العمل، الآن، إلى حد الإنهاك؛ إذ يعمل كل يوم، حتى في أيام الأحد. وهو يعود إلى المنزل لتناول الطعام والرقاد، ولكنه يعمل كلما استطاع، وهي لا تستطيع أن تفهم كيف يتأتى له ذلك وهو يصوم يومي الإثنين والجمعة - إذ ازداد تدينه - كما يبدو أنه يأكل أقل مما كان يأكل، ويعمل بجد أكبر مما عرف عنه في يوم من الأيام.
والأصدقاء الذين يعرفون ما حدث لزيتون بعد العاصفة يتساءلون: لماذا لم يرحل؟! لم لم يذهب إلى مدينة أخرى، إلى بلد آخر - حتى إلى سوريا - أو إلى أي مكان بعيد عن الذكريات المخطوطة في ثنايا نيو أورلينز. ولا شك في أنه يتعرض لمشاعر مدلهمة عندما يمر بمحطة جراي هاوند، وعندما يمر بالسيارة على المنزل في شارع كليبورن حيث اعتقل مع صديقين وأحد الأغراب، وعندما يمر بسيارته على منزل ألفين ويليامز وزوجته بيولا، وهما راعي الكنيسة وقرينته، يدعو لهما بالرحمة؛ إذ توفيت بيولا ويليامز في عام 2007 ومات القس ألفين ويليامز في عام 2008.
وعندما يمر بمنزل تشارلي راي، جاره في شارع كليبورن، يلوح بيده محييا إن كان تشارلي جالسا في شرفة المدخل، وهو كثيرا ما يكون جالسا فيها. وقد حدث في اليوم التالي للعاصفة، أن زار الحرس الوطني تشارلي، وقالوا له إن عليه مغادرة المدينة، وإنهم سوف يساعدونه على ذلك. وانتظروه حتى حزم حقائبه، ثم نقلوا حقائبه إلى قاربهم، ونقلوه إلى إحدى نقاط الإخلاء؛ حيث حملته طائرة عمودية إلى المطار، وأعطي تذكرة مجانية على الطائرة المسافرة إلى نيويورك.
وكان إنقاذ تشارلي في يوم القبض على زيتون. وبعد مضي عدة أشهر على العاصفة عاد تشارلي إلى نيو أورلينز، ولا يزال يقيم في شارع كليبورن.
وأما تود جامبينو فيقيم الآن في مسيسيبي، وكان قد قضى أكثر من خمسة أشهر في سجن هنت، وأطلق سراحه يوم 14 من فبراير عام 2006، بعد إسقاط جميع التهم الموجهة إليه. وكان المبلغ الذي يحمله عند القبض عليه يزيد على 2400 دولار، وصودر هذا المبلغ أثناء التحقيق معه في معسكر جراي هاوند، وحاول مرارا بعد الإفراج عنه أن يستعيده فلم يوفق، ولم يحصل على أي تعويض عن الأشهر الخمسة التي قضاها في سجن مشدد الحراسة.
وبعد الإفراج عنه ذهب للعمل في منصة لاستخراج البترول في خليج المكسيك، ولكنه فقد عمله في خريف عام 2008.
وقضى ناصر ديوب ستة أشهر في سجن هنت، وأسقطت آخر الأمر جميع التهم التي وجهت إليه، وعندما أطلق سراحه حاول أن يستعيد مبلغ عشرة الآلاف دولار الذي كان معه عند القبض عليه، لكن السلطات أنكرت معرفتها به، ولم يكن المبلغ مسجلا لدى إحداها، ولم يستطع استعادة نقوده - (تحويشة عمره) - قط. وفي عام 2008 عاد إلى سوريا.
وأما روني فقضى ثمانية أشهر في سجن هنت، ولم يبلغ أسرة زيتون أي نبأ عنه منذ الإفراج عنه في ربيع عام 2006.
وانتقل فرانك نولاند وزوجته للإقامة في مكان آخر. كان جميع جيران زيتون تقريبا في هذا الحي قد انتقلوا لأماكن أخرى، كما اختفت أيضا المرأة التي وجدها زيتون في بهو منزلها - المرأة التي سمع صوتها لأنه كان يجدف دون صوت - ولم يكن الساكن الجديد في منزلها يعرف أين ذهبت، ولكنه كان قد سمع قصة إنقاذ زيتون لها .
وتلوح لذهن زيتون عظمة قاربه البسيط، ومزايا السير بهدوء والإصغاء بدقة . وعندما أطلق سراحه أخذ مع كاثي يبحث عن القارب حيث شاهده آخر مرة، في منزل شارع كليبورن، ولكنه كان قد اختفى. كما كان المنزل قد سطا عليه اللصوص أيضا، وسرقوا كل شيء؛ لأن الجنود ورجال الشرطة الذين قبضوا على زيتون تركوا المنزل دون إغلاق ومن دون حراسة. وهكذا استطاع اللصوص أن يدخلوه دون عائق، ويفروا حاملين جميع أمتعة السكان، بل كل ما كان تود قد أتى به إلى الغرف الأمامية كي لا تصيبه المياه.
وقد استعاض عن كل ما ضاع، لكنه يفتقد القارب، وهو يفتش بعينيه في كل مكان عنه، آملا أن يراه في واحد من مبيعات «الكراكيب» في فناء أحد المنازل، وهو على استعداد لشرائه من جديد، وخطر له أنه ربما احتاج إلى شراء قارب جديد. وربما ازداد حب بناته للقارب اليوم، وربما أحس أحمد الصغير بجاذبية البحر مثل عمه وأبيه وجده وما لا يحصى من أفراد أسرة زيتون من قبلهم.
في بعض الليالي يكافح زيتون حتى ينام، وفي ليال أخرى تطوف بخياله الوجوه، وجوه الذين قبضوا عليه، والذين سجنوه، والذين كانوا ينقلونه ما بين الأقفاص كالحيوان، والذين نقلوه نقل المتاع. ويخطر بباله أولئك الذين عجزوا عن اعتباره جارا لهم، مواطنا من مواطنيهم، وإنسانا مثلهم.
وأخيرا يأتيه النوم، ويصحو في الصباح على أصوات أطفاله - أربعة صغار في المنزل الآن - وأصوات بالغة الكثرة في المنزل الذي كبر حجمه الآن، ورائحة الطلاء الحديث تملأ البيت بالإمكانات. إن الأطفال يخافون الماء ولا شك، وعندما انفجرت إحدى الأنابيب في العام الماضي امتلأ البيت بصراخهم وكوابيسهم، ولكنهم يكتسبون القوة تدريجيا وببطء. ومن أجلهم يجب أن يتحلى بالقوة. وعليه أن ينظر إلى المستقبل، عليه أن يوفر لهم الطعام، وأن يحتضنهم، وأن يبين لهم أن لله غاية فيما مروا به من محن، وهو يقول لهم ربما كان الله عندما سمح بدخوله السجن قد أنقذه مما هو أسوأ.
وهو يقول لهم: «كل حادث له سبب؛ وعليك أن تقوم بواجبك، وأن تفعل ما هو صواب، والباقي في يد الله.» •••
وتابع زيتون مسار إعادة بناء المدينة، كانت السنوات الأولى غاصة بالإحباط؛ إذ ظل رجال التشريع والتخطيط يتشاجرون حول التمويل وحول البرامج. إن موطنه نيو أورلينز لا يحتاج إلى خطب، ولا مهاترات، ولا مناورات سياسية، بل يحتاج إلى أرضيات جديدة، وأسقف جديدة، ونوافذ وأبواب وسلالم جديدة.
وقضى عدد كبير من عملائه وقتا طويلا في انتظار تلقي أموال التأمين، أو أي أموال من الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ؛ بسبب ضرورة التغلب على عدد يصعب حصره من التعقيدات. ولكن العجلة بدأت تدور اليوم، وبدأت المدينة تنهض على قدميها، وتمكنت شركة زيتون للمقاولات والطلاء، منذ إعصار كاترينا، من إعادة 114 منزلا إلى ما كانت عليها جميعا، أو حتى تحسين أحوال بعض هذه المنازل.
واشتري زيتون شاحنة جديدة، ويسير بها اليوم في المدينة، في الضواحي، وحي الحدائق، والحي الفرنسي، وحي ليكفيو، والضفة الغربية، وشوارع برودمور، وميتاري، وجنتيلي، والحي التاسع، وحدائق ميرابو، وكلما شاهد منزلا يبنى، بغض النظر عمن يقوم بالإنشاء، ابتسم وجالت بخاطره كلمة واحدة هي: «البناء! إلى البناء! البناء! البناء!»
وهكذا يقوم بجولاته، للاطمئنان على ما يقوم به عماله، فهم منهمكون في تنفيذ بعض المشروعات الرائعة المهمة، وعلى الرغم من تباطؤ النشاط الاقتصادي، فإن العمل كثير.
فهم يعملون مثلا في ترميم المبنى رقم 28 في شارع مكدونوه، وهو مبنى مدرسة عليا للصغار في حي إسبلاناد. وكانت المدرسة قد أغلقت منذ العاصفة، ولكنها يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه؛ إذ يتولى زيتون إصلاح الهيكل الخشبي وسد الفجوات بالتيل والمعجون، وطلاء الجدران الداخلية بألوان رمادية وخضراء وبيضاء، ولن يستغرق ذلك زمنا طويلا، وما أجمل أن نشهد افتتاح المدرسة مرة أخرى!
وهو يعلم أنه الأيسر له، سواء فيما يتعلق بهذا المبنى أو بكثير غيره، أن يهدم المبنى ويبدأ من جديد، فالأسهل قطعا، من وجهة نظر المهندس الإنشائي، أن تبدأ بقطعة أرض مسطحة خالية. ولكنك في هذه الحالة سوف تفقد الكثير. وهكذا، فعلى امتداد السنوات الثلاث التي عمل فيها بإعادة البناء، لم يتوقف عن طرح هذا السؤال في البداية : «ما الذي يمكن إنقاذه؟»
خذ مثلا مبنى مخبز «لايدنهايمر» في شارع سيمون بوليفار: إنه بناء رائع من الطوب الأحمر، يزيد عمره على مائة عام، ولا يزال يدير المخبز أحفاد جورج لايدنهايمر، المهاجر الألماني. وكان زيتون يعتز بإسناد العمل إليه، كشأنه بالنسبة إلى كل مبنى يتمتع بأهمية خاصة؛ إذ كان يكره هدم تلك المباني. ولقد تحمل الهيكل الحجري العاصفة ونجا تماما، ولكن النوافذ وكل ما صنع من الخشب في حاجة إلى إعادة الصقل أو استبدال غيرها بها. وهذا ما يتولاه زيتون الآن مع عماله، إلى جانب إعادة تصميم ديكور المكتب الداخلي، بإنشاء بعض الخزانات فيه وطلاء الفتحات.
وخذ أيضا كنيسة الأبرشية، واسمها كنيسة سانت كليمنت في روما، في تقاطع حي إسبلاناد الغربي مع حي ريتشلاند؛ فالأبنية الخشبية في داخلها تحتاج إلى التشذيب وإعادة الصقل، وأصيب ظاهر المبنى ببعض الأضرار، ولا بد لهم أن ينظفوه بالماء المندفع بضغط عال، ثم يصنفروه ويسدوا فجواته بالمعجون، ثم يعيدوا طلاء كل جدار ونافذة. وزيتون يعتزم الإشراف على ذلك المشروع بأكبر قدر من الحرص والرعاية، فهكذا شأنه دائما عندما يطلب لترميم أي بيت من بيوت العبادة، واثقا بأن الله يشهد العمل الذي يؤديه هو وكاثي ورجاله، وهكذا فلا بد من أدائه بأكبر قدر من العناية والدقة، بل - كما يقول لعماله - بروحه وقلبه.
ولا يسعد «زيتون» شيء أكثر مما يسعده مجرد إحساسه بالحرية، وبأنه في مدينته. فهي مدينة أحلامه، المكان الذي تزوج فيه، وولد فيه أطفاله، وحيث منحه الجيران ثقتهم. وهكذا فإنه يركب كل يوم شاحنته البيضاء، التي ما زالت تحمل شعار قوس قزح، وينطلق شاقا طريقه في المدينة، ويشهدها وهي تنهض من جديد.
ويقول زيتون في نفسه: إن ذلك كان ابتلاء لنا. من ذا الذي ينكر أننا ابتلينا أو اختبرنا؟ ويقول: ولكن انظر إلينا الآن؛ لقد غدا كل شخص أقوى مما كان، وعلا صوت كل من ظن أن الله نسيه أو أن وطنه نسيه، وازداد قدرة على التحدي، وازداد عزما وتصميما، كان هؤلاء يعيشون من قبل ، وهم يعيشون الآن من جديد، في مدينة نيو أورلينز، وفي الولايات المتحدة الأمريكية. وكان عبد الرحمن زيتون موجودا من قبل، ويوجد الآن من جديد في مدينة نيو أورلينز، وفي الولايات المتحدة الأمريكية. وليس أمامه الآن إلا أن يؤمن بأنه لن يتعرض أبدا بعد الآن للنسيان، أو لإنكار وجوده، أو لمن يدعوه بأي اسم آخر غير اسمه. عليه أن يتسلح بالثقة وبالإيمان. وهكذا، فهو يمارس مهنة البناء؛ لأن البناء وإعادة البناء، ثم إعادته من جديد، عمل يقوم على الإيمان، وهل هو غير ذلك؟ لا يوجد إيمان مثل إيمان من يبني المساكن في ساحل لويزيانا، ولا توجد طريقة أفضل من البناء تكفل لك أن تثبت لله وللجيران أنك كنت موجودا في ذلك المكان، وأنك موجود فيه، وأنك إنسان. من ذا الذي يمكنه أن ينكر مرة أخرى أنه ينتمي إلى ذلك المكان؟ ولو احتاج الأمر إلى ترميم كل بيت في هذه المدينة، فسوف يقوم بذلك، حتى يثبت أنه جزء من ذلك المكان.
وأثناء قيادته للسيارة في المدينة أثناء النهار، وأثناء أحلامه بها في الليل، يحلق ذهنه في أحلام يقظة رائعة؛ إذ يرسم لهذه المدينة صورة لا تقف عند حدود ما كانت عليه، بل صورة أفضل، وأفضل بمراحل. وذلك يمكن تحقيقه. نعم، لقد مر زمن حالك بهذا البلد، وأما الآن فنشهد شيئا يشبه النور. فالتقدم يتحقق، لقد أزلنا العفن، وندعم الآن الأساسات، وما زال أمامنا عمل كثير، وكلنا يعرف ما لا بد من عمله، وهو يقول لكاثي، ولأطفاله، ولعماله، ولأصدقائه، ولكل من يقابله: ليس علينا إلا أن نقوم بالعمل. وإذن فعلينا أن ننهض مبكرا ولا نأوي إلى الفراش إلا في وقت متأخر، وعلينا أن ننجز العمل، طوبة طوبة، ومبنى من بعد مبنى. وما دام يستطيع تصور ذلك فهو ممكن التحقيق. لقد كان هذا نسق حياته كلها؛ أحلام مضحكة تعقبها ساعات وأيام وسنوات من العمل، وبعدها تبرز حقيقة تتجاوز أقصى شطحات آماله وتوقعاته.
وإذن لماذا تختلف الحال الآن هنا؟
مؤسسة زيتون
تذهب جميع عوائد المؤلف من هذا الكتاب إلى مؤسسة زيتون، التي أنشأتها أسرة زيتون مع المؤلف ودار نشر ماكسويني في عام 2009. والغرض من هذه المؤسسة المعاونة في إعادة بناء نيو أورلينز، وتعزيز احترام حقوق الإنسان في الولايات المتحدة وفي شتى أرجاء العالم. وسوف تقوم مؤسسة زيتون بتقديم منح مالية من عوائد هذا الكتاب، ومن بين أوائل الجهات المستفيدة المنظمات التالية التي لا تستهدف الربح:
إعادة البناء معا
تركز عمليات منظمة «إعادة البناء معا» في ساحل خليج المكسيك على إصلاح ألف مسكن والحفاظ عليها، وهي المساكن التي يمتلكها ذوو الدخل المنخفض، وأصابتها الأضرار في أعقاب إعصار كاترينا وإعصار ريتا.
www.rebuildingtogether.org
المشروع الأخضر
تشتري منظمة المشروع الأخضر وتعيد بيع مواد البناء التي أنقذت في منطقة نيو أورلينز، والغرض من ذلك تشجيع إعادة تدوير هذه المواد، وبذلك تقل نسبة الإهدار، وتمكين سكان نيو أورلينز من شراء مواد زهيدة السعر، والحفاظ على التاريخ المعماري للمنطقة.
www.thegreenproject.org
مركز المساعدة الرأسمالية بولاية لويزيانا
في أعقاب إعصار كاترينا أصبح هذا المركز قوة رائدة في تحديد أماكن آلاف السكان النازحين، وإلقاء الضوء على محنة السجناء الذين أخرجوا من ديارهم فتعرضوا لظروف بشعة، وضمان الإفراج عن مئات السكان الذين حبسوا ظلما، ويهدف هذا المركز حاليا إلى توكيل المحامين عن المتهمين في ولاية لويزيانا الذين يواجهون عقوبة الإعدام، ويسعى إلى التصدي للتعصب العنصري في نظام العدالة الجنائية.
www.thejusticecenter.org/lcac
مشروع البراءة في نيو أورلينز
هذه المنظمة مقرها نيو أورلينز، وهي تقدم المعونة القانونية للذين أدينوا ظلما، وتساعدهم في الانتقال من الحبس إلى الحرية. ويركز أفراد المنظمة على الولايتين اللتين تتسمان بأعلى معدلات الحبس (ومعدلات الإدانة ظلما) وهما ولايتا: لويزيانا، ومسيسيبي.
www.ip-no.org
مجلة ميناء
ميناء مجلة أدبية تصدر بلغتين في المدينتين الساحليتين وهما: نيو أورلينز، والإسكندرية في مصر، وكل منهما ميناء. وتنشر المجلة الشعر والقصص والمقالات وأدب الرحلات، والفنون الإعلامية المتداخلة، والرسوم. وتهدف مجلة ميناء إلى أن تكون ميناء يصل ما بين العالمين الغربي والعربي من خلال تبادل الأفكار حول الثقافة واللغة، والصراع والسلم عن طريق الكتابة والحوار.
www.meenamag.com
منظمة مدخل الحي السابع الثقافية
تلتزم هذه المنظمة بالحي السابع في نيو أورلينز، والمدخل هو مكان التجمع والمشاركة الثقافية والاجتماعية. ويهدف المدخل إلى تعزيز ثقافات الحي والمدينة والمنطقة واستمرارها، وتبني التبادل بين الجماعات الثقافية.
www.ny2no.net/theporch
الجمعيات الخيرية الكاثوليكية، في مطرانية رئيس أساقفة نيو أورلينز
تعمل هذه الجمعيات الخيرية الكاثوليكية مع مجتمع نيو أورلينز كله على توفير احترام كرامة كل إنسان. وهي تدير حاليا أحد عشر مركزا اجتماعيا في منطقة نيو أورلينز الكبرى؛ للمساعدة على التغلب على آثار الإعصار. وتقدم هذه المراكز خدمات خاصة لكل حالة على حدة، إلى جانب المساعدات المباشرة، وغير ذلك من الخدمات وفق ما تدعو الحاجة إليه.
www.ccano.org
منظمة الغوث الإسلامي بالولايات المتحدة الأمريكية
تجتهد منظمة الغوث الإسلامي للتخفيف من حدة المعاناة والجوع والأمية والمرض في شتى أرجاء العالم، بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العقيدة. وفي حالة الكوارث التي يتسبب فيها الإنسان أو الكوارث الطبيعية، تهدف إلى تقديم الإغاثة العاجلة. وهي تعمل مع برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة ووزارة التنمية الدولية على إنشاء مشروعات إنمائية في المناطق المعوزة للمساعدة على قهر الفقر على المستوى المحلي.
www.irw.org
جمعية المسلمين الأمريكية
هذه منظمة خيرية ودينية واجتماعية وثقافية وتربوية لا تهدف للربح. ورسالتها إنشاء جهاز متكامل لتدعيم مجتمع المسلمين الأمريكيين من خلال التعليم المدني، والتدريب على قيادة المجتمع المحلي، والامتداد المجتمعي محليا، وبناء الائتلافات. كما تجتهد المنظمة لإقامة علاقات إيجابية مع المؤسسات الأخرى خارج مجتمعها المحلي، في سبيل تيسير حماية الحقوق والحريات المدنية للمسلمين الأمريكيين وجميع الأمريكيين.
www.masnet.org
معهد نيو أورلينز
معهد نيو أورلينز مكرس لمواطني المدينة الملتزمين، وهو مصمم على تشجيع إيجاد الحلول المحلية. وهو تحالف يمثل شبكة من المواطنين ذوي الاهتمامات المشتركة، والالتزام بتبني تدعيم صلابة نيو أورلينز ومرونتها من خلال التجديد.
www.theneworleansinstitute.org
شكر وتقدير
تود أسرة زيتون أن تعرب عن شكرها وتقديرها ل:
أحمد زيتون، السيدة تروفانت، يوكو وأحمد ألاكوم على تحملهما لنا في أحلك ساعات حياتنا، ماري أماروني، كريستال وكين كيلي، سيليست وتوم بيتشاتش، أسرة كو لندر، توم ولوقا، ونبيل أبو خضر، ومحمد سلام، وروب فلورنس، وجميع من ساعدونا.
يود المؤلف أن يعرب عن شكره وتقديره للعمل الذي قام به من يلي من الصحفيين والباحثين:
جوين فيلوسا، روب نيلسون، بروس نولان، إيميت ماير الثالث، مارك شلايفشتاين، جون ماكوسكر، صحيفة «تايمز-بيكايون في نيو أورلينز»، الدكتور دانيل ل. هاولمان، بهيئة البحوث التاريخية بالقوات الجوية، الرقيب الفني مارك دياموند، بهيئة الأنباء الشهرية بالخدمات الطبية للقوات الجوية، جيني كارشمان، وميشيل فراري، وستيفن آيفز، ولينزي ميجرو، وأماندا بولاك، ومارك ساملز، بصحيفة ذي أميريكان إكسبيريانس، دونا مايلز، ورودي ويليامز، بالجهاز الصحفي للقوات الأمريكية، مارينا سيديريس، بالفريق العامل من أجل العفو، بيتي ريد، بصحيفة أريزونا ريببليك، جوزيف تشينيلي، بصحيفة آرمي تايمز، كريج أليا، بصحيفة آرمي ماجازين، لوليتا س. بولدور، ووندي بنجامينسون، وريك باومر، وألن ج. بريد، وميلندا ديزلاته، ولندا كلايندنست، ومارلين مارشيون، وبريت مارتل، وجانيت ماكونوي، وكيفن ماكجيل، وآدام نوسيتر، وجون سولومون، من وكالة أسوشي تدبرس، وكيلي برادلي، والمقدم تيم دونوفان، ولاري سومرز، من مجلة آت إيز، ميكي نوح، من دار نشر بابتيست برس، أولنكا فرينكيل، من محطة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، إيمي جودمان، من مجلة الديموقراطية الآن، براندون ل. جاريث، وتانيا تتلو، من مجلة ديوك لو جورنال، تشارلي سفدج، من صحيفة بوسطن جلوب، باتريك جونسون، من صحيفة ذا كريستيان سيانس مونيتور، جيمس ويسلون، من صحيفة الجارديان، جيسون كارول، أندرسون كوبر، جاكي جيراس، كريس لورنس، إد لافاندرا، روب مارشيانو، إد زاريلا، جين ميسيرف، بيتي نجوين، من محطة سي إن إن، تمارا أودي، من صحيفة ديترويت فري بريس، نيل دي موس، ستيف راندول، من صحيفة إكسترا، تود ستابينج، من وكالة أنباء فورت مايرز، ديف رينولدز، من صحيفة إنكلوجن ديلي بريس، عدنان بوني، من جمعية غرفة إيران، جاي سيبولد، من مجلة علم الاجتماع السياسي والحربي، ستيسي باركر، وستيسي باركر آب، من مشروع التاريخ الشفوي لتجربة كاترينا، وألان زارمبو، من صحيفة لوس أنجلوس تايمز، النقيب ديفيد نيفرز، من مجلة جنود البحرية، وجيريمي سكاهيل، من صحيفة ذا نيشن، والرقيب جون سوسي، من مكتب الحرس الوطني، ودانيل ب. براون، وريتشارد د. ناب. وجيمي ر. روم، من المركز الوطني للأعاصير، وجون بيرنيت، وجيف بريدي، من محطة ناشيونال ببليك راديو، وكين منسون، من مجلة مذكرات بحرية، وديان أ. ديز، من مذر جونز، وكيرتيس أ. أوتز، من المركز التاريخي البحري، وروث بيرجرين، من المجلة الطبية في نيوإنجلند، ولو دولينار، من مجلة نيويورك بوست، وديفيد كار، وميليسا كلارك، ون. ر. كلاينفيلد، وميريل بيرلمان، وشادي رحيمي، وجوزيف ب. تريستر، وريتشارد و. ستيفينسون، وأليكس بيرنسون، وسيويل تشان، وبول فون زيلباور، من صحيفة نيويورك تايمز، وساريتا سارفاتي، من وكالة أنباء المحيط الهادئ، وكيفين كالان، من بادلنج دوت نت، وإيفون حداد، وفاريبورتز هاجشيناس، من مجلة مراقبة السياسات، وبيتر هندرسون، ومايكل كريستي، وجين ساتون، من وكالة رويترز، وريتشارد بيرجس، من مجلة القوة البحرية، وجوردان فلايرتي، من مجلة دراسات جنوبية: مجلة مشتركة بين التخصصات للجنوب، وموريس ميريل، من مجلة الجنوب الفصلية، وفريد كابلان، من مجلة سليت، وإنجي ولينج، من مجلة أنباء صحراء سولت سيتي، وكين كاي، وروبرت نولين، من مجلة ساوث فلوريدا صن سنتنيل، وجيف شوجول، من مجلة ستارز آند سترايبس، وهاري ماونت، من صحيفة التلغراف، وأمير ماكلوين، من صحيفة التايمز اللندنية، وماثيو فان دوسن، من صحيفة التايمز لشمال غربي إنديانا، وجويل ستاين، من مجلة تايم، وأنا مولرين، ودان جيلجوف، من مجلة يو. إس. نيوز وورلد ريبورت، ودجلاس برنكلي، من مجلة فانيتي فير، ورينيه ميرلي، وجاي جوليوتا، وبيتر هوريسكي، ويوجين روبنسون، من مجلة واشنطن بوست، ومايكل بوب، وكريستيانا هالسي، من مجلة الجمارك وحماية الحدود اليوم، مركز حقوق الإنسان والعدالة العالمية، وتشارلز جندا، من
Chucksphotospot.com ، وجوردان فليرتي، من كالر لاينز، ويوجن تارنو، الدكتور من
Cogprints.org ، وإيمي بلاسكو، وستيف بومان، ولورنس كاب، من وزارة الدفاع، والرائد مارك برادي، والنقيب ليزا كويجنسكي، والرقيب ليز نيوبورت، من مجلة أخبار الجيش الأمريكي الأول، وجاري ميسون، من صحيفة جلوب أند ميل، وهيو هيوويت، من برنامج هيو هيوويت، وقناة إندي، وجامعة إنديانا، بلومنجتون، ومشروع البراءة، والعاملون في صحيفة كيلين ديلي هيرالد، وجيسون براون، من صحيفة لافاييت ديلى أدفيرتايزر، وجيمي داوارد، من صحيفة الأوبزيرفر اللندنية، وروزا بروكس، من صحيفة لوس أنجلوس تايمز، وكريس كيلي، من
MichelleMalkin.com ، مايكل روبنز، من التاريخ الحربي، والعاملون في صحيفة أخبار نابولي اليومية، والعاملون بمجلة ملاحظات
NGAUS ، والمقدم ديدرا تومبلسون، من الحرس الوطني، وإريك ستودينيكا، من مكتب الحرس الوطني، ومن المكتب الإعلامي للقوات البحرية، وكارل كوينتانيلا، وتوني زومبادو، من محطة أنباء
NBC ، ونيو أورلينز كوبواتش، وجين هكربي، من مركز جامعة نيويورك لحقوق الإنسان والعدالة العالمية، والدكتور الطبيب جريجوري سميث، والدكتور الطبيب وودهول ستوبفورد، من المجلة الطبية ولاية نورث كارولاينا، وموقع
، وكيث وودز، من مؤسسة بوينتر، وإريك بار، وتايلور رانكين، وجون بيرد، من
Think Quest ، وديفيد كروسلاند، من صحيفة التايمز اللندنية، وحرس السواحل للولايات المتحدة، ومارينا سيديريس، من كلية الحقوق بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وجيري سيبر، من صحيفة واشنطن تايمز
Wrongful-Convictions.Blogspot.com ، وكيلي ليوسيس، وكاثرين يوريكا، من
yuricareport.com, Neworleans.indymedia.org .
وكانت الكتب والتقارير التالية ذات أهمية حاسمة في كتابة «زيتون»
الطوفان العظيم: إعصار كاترينا، نيو أورلينز، وساحل خليج المسيسيبي، بقلم دجلاس برنكلي (ويليام مورو، 2006)، الجو السيئ والخطر، بقلم بوب راوبر، وجون والش، ودونا شارلفوا (نشر دار كندول هنت، 2005)، عن المخاطر والكوارث: دروس من إعصار كاترينا، تحرير رونالد ج. دانيالز، دونالد ف. كيتل وهوارد كونرويئر (دار نشر جامعة بنسلفانيا، 2006)، إعصار كاترينا: الكارثة الأمريكية غير الطبيعية، بقلم جيرمي أ. ليفيت وماثيو. ويتاكر (دار نشر جامعة نبراسكا، 2009)، سواء أتى الجحيم أو الطوفان، بقلم مايكل إريك دايسون (باسيك سيفيتاس، 2006)، الكارثة: إعصار كاترينا وفشل الأمن الداخلي، بقلم روبرت بلوك وكريستوفر كوبر (سلسلة كتب هنري هولت، 2006)، في ربوع نيو أورلينز: تأملات من مدينة غارقة، بقلم بيلي سذرن ونيكي بيج (دار نشر جامعة كاليفورنيا، 2007)، جوهر القرآن من ترجمة وتقديم توماس كليري (الناشر هاربر كولينز، 1993)، تاريخ سوريا الحديث بقلم أ. ل. طيباوي (دار نشر سانت مارتن، 1969)، خمسون عاما من حياة سوريا ولبنان الحديثتين بقلم جورج حداد (دار الحياة، 1950)، سوريا الحديثة، من الحكم العثماني حتى الدور المحوري في الشرق الأوسط، من تحرير موشي ماعوز، وجوزيف جينات، وعون وينكلر (دار نشر ساسيكس، 1999)، مساندة قوة المستقبل الشاملة، بقلم جون ج. درو، وكريستين ف. لينش، وجيمس ماسترز، وسالي سليبر، ووليم وليامز (راند، 2007)، من خلال الأرقام: نتائج مشروع الإساءة إلى المحتجزين والمساءلة، إعداد هيومان رايتس ووتش (هيومان رايتس ووتش، 2006)، عواقب من المحال تصحيحها: جمع المعلومات الشخصية على أساس عنصري واستخدام القوة القاتلة في الحرب ضد الإرهاب، من إعداد مركز حقوق الإنسان والعدالة العالمية (كلية الحقوق بجامعة نيويورك، 2006)، السلامة العامة، والإنفاق العام: التنبؤ بنزلاء السجون الأمريكية في الفترة 2007-2011، إعداد معهد
JFA ، ومشروع تنفيذ السلامة العامة، وصناديق بيو الخيرية (صناديق بيو الخيرية، 2007)، ضحايا الإهمال والإساءة: سجناء أبرشية أورلينز في أعقاب إعصار كاترينا، من إعداد المشروع الوطني للسجون التابع لاتحاد الحريات المدنية الأمريكية، واتحاد الحريات المدنية الأمريكية بولاية لويزيانا، وبرنامج العدالة العنصرية التابع لاتحاد الحريات المدنية الأمريكية، وهيومان رايتس ووتش، ومشروع العدالة للأحداث بولاية لويزيانا، وصندوق الدفاع القانوني والتربوي التابع للاتحاد الوطني لتقدم الملونين، وسلامة مجتمعات الشوارع-مجتمعات القوة (اتحاد الحريات المدنية الأمريكية والمشروع الوطني للسجون، 2006)، جعل التعذيب ممكنا: القانون الدولي الذي ينطبق على مشاركة الدولة في الأنشطة غير المشروعة للدول الأخرى، من إعداد مركز حقوق الإنسان والعدالة العالمية (من نشر كلية الحقوق بجامعة نيويورك، 2006)، ما بعد جوانتانامو: نقل الأشخاص إلى حيث يلقون التعذيب بعد عام من نظر قضية رسول ضد بوش، إعداد مركز حقوق الإنسان والعدالة العالمية، (من نشر كلية الحقوق بجامعة نيويورك، 2005)، رصد الحرس الوطني للويزيانا للأحداث المهمة: إعصار كاترينا، إعداد الحرس الوطني للويزيانا (الحرس الوطني للويزيانا، 2005)، التعذيب بالوكالة: القانون الدولي الذي ينطبق على «الحالات الاستثنائية لاعتقال الأشخاص ونقلهم»، إعداد نقابة المحامين في مدينة نيويورك ومركز حقوق الإنسان والعدالة العالمية (نشر النقابة المذكورة وكلية الحقوق بجامعة نيويورك، 2004)، استعمال القوة، وسياسات مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية، وعمليات التدريب والمراجعة تماثل أعمال إدارة إنفاذ القواعد الخاصة بالمخدرات، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، إعداد مكتب المحاسبة العامة للولايات المتحدة (من نشر مكتب المحاسبة العامة للولايات المتحدة، 1996).
الهيئات والمنظمات التالية قدمت معلومات أساسية
قسم الشئون العامة باللواء الطبي رقم 44، جناح الإنقاذ رقم 920 في الفرع الجوي للحرس الوطني، اتحاد الحريات المدنية الأمريكية، شركة بلاكووتر بالولايات المتحدة الأمريكية، مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية، قسم الشئون العامة في كامب بندلتون، مركز مكافحة الأمراض، منظمة دينكورب الدولية، مركز الإمداد الدفاعي بهيئة اللوجستيات الدفاعية، الهيئة الفيدرالية لإدارة الطوارئ، قسم الشئون العامة بالجيش الأول، قسم الشئون العامة بهيئة فورت هود، قسم العلاقات الإعلامية بهيئة فورت هود، قسم الشئون العامة بهيئة فورت كارسون، قسم الشئون العامة بفرقة المشاة الرابعة، قسم الشئون العامة بمصلحة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك، قسم الشئون العامة بالحرس الوطني بولاية لويزيانا، شرطة ولاية لويزيانا، الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء، اتحاد الحرس الوطني للولايات المتحدة، الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، الهيئة الوطنية للأرصاد الجوية، المركز الوطني للأعاصير، مكتب النائب العام
SOPAKCO ، قسم الشئون العسكرية وقدامى المحاربين بولاية ميشيجان، قسم الشئون العسكرية بولاية ويسكونسن، قسم العلاقات المجتمعية بالحرس الوطني لولاية تكساس، قسم الشئون العامة بالجيش الأمريكي، شرطة مبنى الكونجرس الأمريكي (الكابيتول)، قسم الشئون العامة بوزارة الأمن الداخلي في الولايات المتحدة، قسم الشئون العامة في القوات البحرية الأمريكية، هيئة الضباط الفيدراليين الأمريكية.
ملاحظات حول الآيات القرآنية في الأصل الإنجليزي
وقد رجعنا إلى العديد من ترجمات القرآن المتاحة إلى الإنجليزية، والترجمة التي اقتطفت بعض سورها في هذا الكتاب بقلم «لاله بختيار»، وهي منشورة عام 2007، ونشرتها دار نشر كازي، تحت عنوان القرآن العظيم، وكما يتضح من المقتطفات الواردة في هذا الكتاب، فإن لغة القرآن بالغة القوة وذات جمال فائق، والطبعة الإنجليزية الحالية يتجلى فيها هذا الجمال إلى حد بعيد.
ملاحظات المؤلف على خطوات العمل ومنهجيته
بدأت خطوات العمل في هذا الكتاب في عام 2005، وقام بها فريق من المتطوعين، بعد هبوب إعصار كاترينا على نيو أورلينز، وهم من جماعة صوت الشهود، وهي الجماعة التي تشرف على سلسلة «كتبنا» التي تستخدم التاريخ الشفاهي لإلقاء الضوء على أزمات حقوق الإنسان؛ إذ انتشر أفراد هذا الفريق في شتى أرجاء الجنوب الشرقي لجمع الشهادات، وقاموا بإجراء مقابلات شخصية، من هيوستن إلى فلوريدا، مع سكان نيو أورلينز ومن كانوا من سكانها، عن حياتهم قبل العاصفة وفي أثنائها وبعدها، وكانت النتيجة إصدار كتاب أصوات من العاصفة من تحرير كريس ينج ولولا فولن، ونشرته دار ماكسويني-صوت الشهود في عام 2005، وكان الكتاب يضم قصصا تتمتع بالحيوية الدافقة، ورواها العشرات من أبناء نيو أورلينز، وكان من بينهم عبد الرحمن زيتون وزوجته كاثي زيتون، والتصقت قصته في ذاكرتي، وهكذا عندما قمت بزيارة نيو أورلينز بعد ذلك، للحديث إلى الطلاب في مركز نيو أورلينز للفنون الإبداعية (وهو برنامج «فنون رائع» في المدرسة العليا)، زرت أسرة زيتون، واتضح لي من أول حديث أجريته مع أفرادها أن قصتهم تتضمن المزيد مما استطعنا إدراجه في كتاب أصوات من العاصفة، وهكذا بدأت خطوات العمل الذي استمر زهاء ثلاث سنوات، وكان يتكون من المقابلات الشخصية والبحوث التي استندت إليها رواية زيتون، وتمكنت في خلال تلك الفترة من معرفة عبد الرحمن وكاثي، وكذلك أسرتيهما الجميلة هنا وفي سوريا.
ملاحظات إضافية
تشاهد جميع الأحداث من خلال عيني إما عبد الرحمن زيتون وإما كاثي زيتون ... وهكذا، فإن منظور الأحداث يعكس ما يتذكرانه، وكان تود جامبينو مشاركا كذلك في كتابة هذا الكتاب وفي التحقق من وقائعه، وجميع المحادثات أعيد بناؤها استنادا إلى ذكريات المشاركين فيها.
وأما المقابلات الشخصية مع الشرطيين دونالد ليما ورالف جونزاليس فقد أجراها المؤلف في عام 2008.
قمت بزيارة سجن إلين هنت الإصلاحي في عام 2008، وبدا لي سجنا يتمتع بإدارة ممتازة، فهو مكان تقدمي وعقلاني ويحرص في نظرته على إعادة تأهيل النزلاء، وإعدادهم للانخراط في الحياة من جديد، ويرمي إلى إتاحة الفرصة للسجناء كي يواصلوا تعليمهم ويتقدموا فيه، سواء كان أكاديميا أو مهنيا، ومع ذلك فإن ما حدث لعبد الرحمن فيه لم يكن مقبولا، ولا أعتزم إدانة أسلوب عمل ذلك السجن، فربما كانت تلك المؤسسة قد تعرضت وحسب لضغوط أكبر من طاقتها في أعقاب إعصار كاترينا، فلم تحقق مستوياتها الرفيعة المعهودة.
ويعرب المؤلف عن شكره إلى
كريس ينج، ولولا فولين اللذين أرسيا الأساس لهذا الكتاب، وهما يستحقان الشكر البالغ على تشجيعي لمتابعة فصول هذه القصة إلى آخرها، وبيلي شذرن، المحامي ابن نيو أورلينز، والمؤلف، الذي أجرى المقابلات الشخصية الأولية مع عبد الرحمن زيتون وزوجته كاثي من أجل إعداد كتاب أصوات من العاصفة، فهو جدير بالشكر العميق، فلقد كان مرشدا وموجها دائما خلال كتابة زيتون، إلى جانب كتابه في ربوع نيو أورلينز، فكان ملهما وخريطة طريق، وباعتباره نائبا لمدير المشروع الرئيس لاستئناف الأحكام، يواصل الكفاح اليومي دفاعا عن الذين تعرضوا لنقاط ضعف النظام القضائي وكل ما يغفل عنه. وقدمت آني بريزيوسي، الباحثة في مشروع مركز المساعدة الرئيس بولاية لويزيانا بحوثا قائمة على الخبرة في أوقات حاسمة، كما قدمت جولي كيلبورن، زميلتها في ذلك المركز مساعدة قيمة، بتحديدها سياق القبض على السجناء ومعاملتهم بعد إعصار كاترينا. والمؤلف مدين بالشكر كذلك إلى بام متزجر من كلية الحقوق بجامعة تولين، وإلى نيكي بيج؛ إذ كانت حفاوتهما ودفء مشاعرهما قيد تقديره الدائم، وأما آن جيسلسون، بنت نيو أورلينز ذات المكانة الفذة في الكتابة والتعليم والنضال، فقد قدمت إرشادا وتشجيعا لا يقدران بمال، إلى جانب قراءة المخطوط قراءة الخبير. وقام تود جامبينو الشجاع بالتأكد من صحة الوقائع والسياق والتفاصيل المهمة، وكانت إليسا باسيست قد ساهمت ببحوث أساسية وهائلة في المراحل الأولى. وقدم يوسف منير ومحمد خليل إرشادا كريما في مسائل اللغة العربية والدين الإسلامي. وقدم ناعور بن-يهويادا مشورة خبير في تاريخ صيد الأسماك بأسلوب لامبارا وممارسته. وترجم فرح الدباغ كتابا نادرا عن محمد زيتون من العربية إلى الإنجليزية في الوقت المناسب وبأسلوب الخبير. وقدم بيتر أورنر وستيفن إليوت مذكرات بالغة الدقة وتشجيعا نقدره أعمق تقدير. أما مراجعة تجارب الطبع وتحرير المخطوط فقد تولاه كل من لينزي كويلا، وجوليت ليتان، وتس تاكارا، وإميلي ستاكهاوس، وهنري جونز. والشكر واجب لجميع العاملين في دار نشر ماكسويني-جوردان باص، وهايدي ميريديث وأنجيلا بيتريلا، وإيلي هوروفيتز، وميمي لوك، وخصوصا إلى أندرو ليلاند، الذي كانت قراءته المبكرة للمخطوط ذات أهمية حاسمة، كما قام كريس بنز، الذي لا ينضب له معين، بالتحقق من صحة الوقائع بأسلوب فذ وإصرار رائع. وكانت ميشيل كوينت، المحررة المساعدة بدار نشر ماكسويني، مديرة البحوث اليومية اللازمة لهذا الكتاب، ولن ننسى أبدا إخلاصها ودقتها وذكاءها وكفاءتها، فلولا هذه الصفات لاستحال وضع هذا الكتاب ... وبطبيعة الحال، كان يمكن أن تصبح الحياة، بصفة عامة، مستحيلة من دون زوجتي فنديلا، وأطفالنا، وأخوي بيل وتوف.
وأتوجه بالشكر العميق أخيرا إلى أسرات زيتون في أمريكا وإسبانيا وسوريا، فلقد أبدى الربان أحمد زتون - يمكن هجاء اسمه بعدة طرق - وأسرته في مالقة، بإسبانيا (ليلى ولطفي وأنطونيا) كرم ضيافة كبيرا إلى جانب ما قدموه من ذكريات بالغة الأهمية، ولم يكن أحمد يقتصر على مناصرة هذا المشروع منذ البداية، بل أثبت أنه ذو خبرة ودقة في الاحتفاظ بالسجلات، وكانت صوره وإيميلاته ومكالماته التليفونية من قبل العاصفة وبعدها لا تقدر بثمن، ويعرب المؤلف عن شكره الحار، وتحياته الصادقة إلى أسرة زيتون في سوريا، وإلى قصي، والصغير محمود في جبلة بصفة خاصة. لم يكن كرم ضيافة جميع أفراد أسرة زيتون يعرف أي حدود، وكانت سمات الجمال والضحك ودفء المشاعر الذي يغشى كل جانب من جوانب هذه العشيرة الفذة مصدرا للإلهام، وإثراء لهذا الكتاب، وهذا المؤلف بما يتجاوز جميع المقاييس. وقبل هذا كله يتوجه المؤلف بالشكر إلى عبد الرحمن وكاثي، وأطفالهما الرائعين، على الكرم الشخصي المذهل، وعلى الالتزام الراسخ بكتابة هذا الكتاب. كانت عملية إصدار قصتهم في صورة كتاب مطبوع تتطلب منهم جهدا بالغا، لكنهم كافحوا وخاضوا غمار ذكريات غير سارة على أمل إخراج شيء بناء من أيام نضالهم الشخصي ... إن شجاعتهم لا تعرف الحدود، وإيمانهم بالأسرة وبهذا البلد يجدد إيماننا نحن جميعا.
صفحه نامشخص