ولم يكن طريق الكورنيش جذاب المنظر، فكان لا يعدو كونه مساحة عريضة مرصوفة، أصابها البلى وانتشرت فيها المهملات، شاهدا على فتور محاولات اجتذاب السياح. وكان معظم سكان أروض لا يكترثون كثيرا إن جاءهم زوار أو لا؛ إذ كانت الجزيرة موطنا وحسب، ومكانا يظهرون فيه الجد والاجتهاد، فكانوا يصيدون الأسماك، وينظفونها، ويحملونها إلى البر الرئيس في سوريا، ويصنعون السفن، وهي سفن شراعية قوية من الخشب قد تكون بها صارية واحدة أو اثنتان أو ثلاث، بأساليب بلغت حد الكمال في الجزيرة على مر القرون.
وكانت أروض تعتبر موقعا حربيا استراتيجيا امتلكته سلسلة متتابعة الحلقات التي لا تكاد تنتهي من الدول البحرية: الفينيقيون، والأشوريون، والفرس الأخمينيون، واليونان في عهد الإسكندر، والرومان، والصليبيون، والمغول، والأتراك، والفرنسيون، والبريطانيون. وكانت تنتشر في الجزيرة شتى الجدران وسطوح القلاع، في صورة أطلال كادت تبلى، وكلها ينبئ عن حصون الماضي. وكانت تبرز في وسط الجزيرة قلعتان صغيرتان، لم تكادا تتغيران منذ العصور الوسطى، وربما ارتادهما الصغار المحبون للاستطلاع حتى يستكشفوا ما بهما. وكان عبد الرحمن وأحمد كثيرا ما يتسلقان الدرج الحجري الأملس في برج المراقبة المجاور لمنزلهما، ويتظاهران بأنهما يترصدان الغزاة، ويدقان أجراس الإنذار، ويرسمان خطط الدفاع عن الموقع.
ولكن ألعابهما كانت تقع عادة في الماء. لم يكونا يبتعدان عن المياه الباردة في البحر المتوسط أكثر من خطوات معدودة، وكان عبد الرحمن يتبع أحمد إلى الشاطئ، صاعدين الأحجار الفينيقية الضخمة. كانا ينظران أولا من أعلى الجدار فيشاهدان داخل نوافذ المباني السامقة في البلدة، ثم ييممان وجهيهما إلى البحر ويغطسان فيه، وبعد أن يسبحا ساعات متوالية وقد كاد الخدر يصيب سواعدهما يستلقيان على الجدار الحجري، بسطحه الذي صقلته الأمواج المتكسرة عليه وأقدام ما لا يحصى من الأطفال. كانا يستدفئان بحرارة الأحجار والشمس من فوقهما، ويتحدثان عن الأبطال الذين دافعوا عن الجزيرة، وعن الجيوش والقديسين الذين مروا بها. كما كانا يتحدثان عن خططهما للمستقبل، عن فعالهما العظمى ومكتشفاتهما.
وسرعان ما يهدأ كلاهما، ويصبحان على شفا النعاس، يهدهدهما صوت الأمواج المتكسرة على الجدران الخارجية للجزيرة، وهسيس البحر الذي لا يتوقف. ولكن صوت البحر لم يبد صحيحا في ذهن زيتون شبه الحالم، فلقد كان أشد هدوءا وأقل انتظاما، فلم يكن صوت مد وجزر، بل الهمس المنتظم الدائم لنهر من الأنهار.
وأيقظه النشاز.
الفصل الثاني
الثلاثاء 30 من أغسطس
فتح زيتون عينيه من جديد، كان في بيته، في غرفة ابنته نديمة، تحت أغطيتها، يتطلع إلى سماء غبراء شهباء. واستمر الصوت، صوت شيء يشبه الماء الجاري، ولكن المطر توقف، ولم يعد الماء يتسرب من أي شقوق. قال في نفسه: لعل أنبوبا قد انكسر، ولكن ذلك محال، فالصوت لا يصدر عن أنبوب مكسور. كان هذا الصوت أقرب ما يكون إلى صوت نهر جار، جريان كميات ضخمة من المياه.
واعتدل في جلسته وألقى نظرة من النافذة التي تطل على الفناء الخلفي فشاهد الماء، بحرا زاخرا تحته. كان الماء مقبلا من الشمال، ويتدفق داخل الفناء، تحت المنزل، ويرتفع مستواه بسرعة.
لم يستطع تفسير ذلك ؛ إذ انحسرت المياه في اليوم السابق كما توقع، لكنها الآن تعود، بقوة أشد كثيرا. وكانت هذه المياه تختلف عن مياه المطر العكرة في اليوم الفائت. كانت هذه خضراء صافية، كانت هذه مياه بحيرة.
صفحه نامشخص