فلما كان في بعض الأيام - وقد عيل صبرها ولم تستطع الاستمرار على كتمان ما في نفسها - صممت على أن تفتح لإبراهيم قلبها حالما تراه وحده. وترقبت الفرصة حتى إذا كانت الظهيرة ولم يبق على كل إلا أن ينتهي من الخط الذي في يده ليخرجوا لمقيلهم، أسرعت هي جهدها وفرغت منه قبلهم جميعا، وراحت مسرعة نحو إبراهيم الذي ابتعد عن العمال لبعض أمره، ولكنها كانت تحس لكل خطوة تقترب بها منه بحياء شديد يداخلها ويدفعها القهقري حتى لم تعد تدري أتسير إليه أم تعرج إلى مكان آخر.
ثم أحست برعشة تستولي عليها، ولم تعد ترى ما أمامها، وتلون الجو بالألوان السبعة، ودارت بها الأرض، فوقفت مكانها، وجعلت تلتفت يمينا ويسارا فلا ترى شيئا. وأخيرا - وقد راجعها صوابها - رأت إبراهيم قائما من بين العمال الجالسين تحت الشجرة مقبلا عليها وقد تبعته أختها، فلما كان عندها وسألها عما أصابها رأى من مآقيها دمعة تنحدر على خدودها، فأخذها من يدها وسار إلى جهة الغدير وأشار إلى أختها أن ترجع، وبقيا كل إلى جانب صاحبه صامتا. فلما كانا إلى جانب الماء سألها من جديد: ماذا أصابها؟ ومن جديد تحدرت دمعة من مآقيها، وكاد يغمى عليها لولا أن أسرع بالماء فوضع يديها فيه. ثم قال: - عايزة إيه يا زينب؟ ... كل اللي عايزاه أنا أعمله.
والعمال هناك لا يعلمون ماذا حل بزينب، ويطيعون أمر إبراهيم أن يبقوا في أماكنهم، وقد استولى عليهم القلق وطال بهم الانتظار. وكلما همت أخت زينب بالقيام أجلسها الباقون. وقطعا للوقت جعلوا يحضرون طعامهم ويضعونه كعادتهم بعضه إلى جانب بعض، ليتناولوه معا جميعا محققين في ذلك أكمل معاني الاشتراكية.
ثابت زينب إلى نفسها بعض الشيء. ولكنها لم تكن تلبث حين ترى إبراهيم أن تنتابها رعشة تردها إلى غيبوبتها. فأمسكها هو بين يديه، وأسندها لكتفه، ورش من ماء الغدير على وجهها، وجعل يحدق بعينيه إلى عينيها المغمضتين. وأخيرا وكأنها قائمة من حلم طويل فتحتهما، فرأت عيني صاحبها الناظر لها وكله الحنان والعطف، فلم تتمالك أن طوقت عنقه بذراعيها، فضمها هو الآخر، وغاب رشدها ثانيا، وبقيا كذلك حتى سمع إبراهيم من يناديه من بين أصحابه الذين ملوا انتظاره، فنبه صاحبته ما استطاع، وقام بها حتى وصل إليهم، وأجلسها إلى جانب شجرة، فالتف الأولاد حولها. غير أن الوقت محدود، والعمل لا يحب إمهالا، فناداهم هو أن يتركوها إلى طعامهم: فرجعوا وبقيت أختها إلى جانبها.
أما زينب فقد أخذتها سنة استغرقت مدة ما تناول الآخرون طعامهم، ثم قامت هادئة، وراجعها الروع فطعمت بعض الشيء مع أختها، ثم قامت مع بقية العمال إلى العمل ولا يزال فؤادها مشتتا، ترسل بنظراتها إلى خضرة الزرع وتسير في عملها سيرا آليا.
من هذا اليوم خرجت زينب من خيالاتها الأولى المطلقة، ورجعت نفسها من جولاتها الواسعة، وأصبحت ترى في إبراهيم كل آمالها وكل جمال الوجود. لم يبق أمامها شمس ولا قمر ولا كواكب ولا مزروعات تنظر إليها وتناجيها، ولكن بقي إبراهيم، تجده وترى صورته في كل هذه الأشياء. فإذا ما رأته هو جاءها حياء المرأة الطبيعي، فأسبلت عينيها، وتمتعت في نفسها بلذة أشبه شيء بالسكر، لذة تتخدر معها الأعصاب، فلا يهتم الإنسان لما حوله ويبقى مستسلما لسرور لا يقدر على تكييفه، وتكون كبرى أمانيه أن يظل كذلك طول حياته.
أما إبراهيم فقد أحس من ساعة أن أمسكها بيده ذاهبا إلى الغدير، ثم أسندها إليه بجوار الماء كأن رعشة تسري منها إليه. فلما شاهدها حين ذهولها، وناجاه وجهها الجميل وقد ذبل لونه لما أصابها، لم يستطع حين طوقت عنقه بيدها إلا أن يضمها إليه شاعرا مع ذلك بأكبر لذة شعر بها في حياته. وكلما رآها بعد ذلك تمثل السعادة منتظرة إلى جوارها، وإنما ينالها إذا هو حل في ذلك الجوار. •••
في هذه الأيام ابتدأت زينب تسمع ما يقال عن أمر تزويجها من حسن، فلم تحفل بما سمعت.. إن الهناء الذي يحيط بها ويفيض عنها لا يدع لها وقتا أن تفكر في شيء آخر غير إبراهيم. هي اليوم في أسعد أيامها، تسعدها الموجودات كلها، وترنو إليها الطبيعة الناضرة بعين العاشق. سماؤها صافية تتلألأ فيها نجوم الأمل، وأحلامها مملوءة لذة وسرورا.. وجدت في كل شيء جمالا أحبته وأحبها، تنتقل من الليل إلى النهار، ومن النهار إلى الليل، وكلها الهناء بمرأى إبراهيم أو بذكراه، وتنتظر الغد باسمة لمقدمه، ويفتح كل منهما ذراعيه يريد أن يضم صاحبه إلى أحضانه. ولكن للغد منافسا من بعده يدفعه إلى الماضي ويأخذ هذا الآخر حظه ثم ينقضي. وزينب تضحك لكلها، وكلها تضحك لزينب، ولا شيء يستطيع أن ينقص من مقدار سعادتها وسرورها.
سمعت ما يقال عن تزويجها من حسن، والخريف يسلم الوجود للشتاء، والليل يقص من أطراف النهار، والعالم كله مستسلم ساكن، وقد انتهت أيام العمل الدائم، وجاء الوقت الذي يسمح للفلاح فيه أن يرجع لنفسه يمتعها بتلك الراحة، ويشغل بآماله المحدودة شيئا من وقته: يفكر الصغير في جلابيبه، والشاب في عرسه، ويمتع الأب نظره بمن حوله من بنيه وقد تجمعوا بعد أن كانوا مشتتين على حصيرة الصيف، فلم تحفل زينب بما سمعت، بل استسلمت بكلها للعاطفة القوية التي امتلكت فؤادها. وهل كان الحب يقبل إلى جانبه شريكا أو منافسا؟ أو أنه لا يهبنا من السعادة ما ننسى معه كل شيء غير المحبوب الجميل؟
وجعلت أيام الشتاء القصيرة تطوى وتنشر، وأحس الناس أن قد ابتدأ النهار يأخذ من الليل بحقه المهضوم كأنما عجز عن احتمال استبداده، فثارت ثائرته شأن كل موجود يطمع في الحياة شريفا. ثم ابتدأت الحركة في المزارع من جديد فقام الفلاح لخدمة القطن، ونادى بدوابه من مراتعها وإن لم يحرمها عليها، وحرث البرسيم، فانقلبت أمامه الأرض ظهرا لبطن، وجعلت بقايا ذلك النبت الأخضر الزاهي مما لم يقض عليه القضاء الأخير تتطلع للشمس مكتئبة كاسفة، ويذوي لونها كل يوم ، وتنحدر الحياة منها كل ساعة حتى تسود أسى ولا تكاد تنتظر «الوش» الثاني للمحراث، بل تموت دونه وكلها الحزن أن ترى ما حولها من بنات جنسها أبقاها الزارع للحصاد والربة، وليأخذ منها تقاويه بعد أن تهرم ويأتي عليها المشيب. وانتهى بذلك وجود اللا نهايات الواسعة من وجه الأرض الأخضر بزروع الشتاء وعريت الجرداء كاشرة كأن بها هما من عريها، أو كأنها حانقة على هذا الإنسان الذي يدوس جمالها سعيا وراء الدرهم يأتيه من أطراف الكون المتنائية، لكن كشرتها لا تبرح أن تزول وتمتد على وجهها قنايات القطن ومصاطبه ثم يتخللها ماء الحياة، وفي أيام تظهر على سطحها الترابي وريقات النبت الجديد، فتتهلل وجوه الملاك والمستأجرين، ويضحك معهم الكون أو منهم. تلك عملية تحدث كل سنة كلما جاء أوانها، ابتدأت قبل أن نعرف الوجود، وسنتركه ونذرها معه.
صفحه نامشخص