يتهلل وجه الفلاح لمطلع القطن لأنه يرى فيه القدير على كل شيء، وحلال كل عقدة.. منه يأتيه قرشه فيعمل ما يشاء، ويتم من شأن نفسه وعائلته ما يريد. وكم من معضلة تسير الأيام وهي واقفة تنتظر بيع القطن. كذلك كم من نابتة تبدأ حياتها مع النبات وتنمو وتكبر وتقوى معه ثم يحين جناها متى حان أن يعطي ذلك الشجر جناه. وقل أن يثبت على الوجود أمر يريد أن يقوم بذاته ويقف بعيدا عن سلطان هذا المستبد القاهر فوق عباده من سكان مصر.
سمعت زينب من جديد ما يقال عن زواجها بحسن. سمعته الآن من أهلها والقريبين منها. وكأن هذا النبأ قد بقي مختفيا طول الشتاء حيث لا خصب ولا نماء، فلما قدم الربيع استعاد حياته وظهر وانتشر في الهواء. ومهما يكن من تناسيها إياه في وحدتها، ومن ذكرها الدائم لإبراهيم، ومن تشعشع الحب في نفسها، فلقد كان يملك عليها ساعات يدس فيها سمومه ويفسد عليها طعمها. ثم لا تلبث أن تروح بأحلامها إلى جو مملوء بالحب يسرح فيه خيالها كما يحلو له. وتسير إذ ذاك بين المزارع فرحة بكل ما حولها من جمال الوجود ، وتهيم بالنبات البديع والأشجار الكبيرة قد اتخذها الطير سكنا، فهو يقف على فروعها المورقة هادئا مطمئنا، ويصب من رفعته أغاريده الحلوة كلها الهيام والحب. حينذاك يخيل إلى زينب في سعادتها أن الخليقة إنما وجدت لتطير مع ملاك الحب على جناحيه، وكأنها ما عملت أن يد الإنسان قد غيرت بالقرون ما أبدعت يد الخالق.
وبقيت في هاته الأحلام اللذيذة حتى أزعجها عنها تكرار ما يقال وسماعها إياه كل يوم ومن كل الناس، فداخلها الأسى، وأصبح ذكر إبراهيم يضيف مع مخاوفه آلاما إلى آلامها. ولازمها الوجل، ولم تجد ما تحتمي به إلا الوحدة، لكن الوحدة أشد عذابا للمحزون وتحيي فيه كل جروحه.
وانطلقت في أيام إلى أسى قاتل، وكاد يبلغ منها اليأس، وتطاولت أمامها الساعات السود حتى أصبحت لا ترى إلا مطرقة الرأس كأن قد فقدت أعز عزيز تحب.
فلما كانت في بعض الأيام، وقد سئمت الناس وحديثهم ووجوههم وكل شيء فيهم، وتاقت للوحدة والابتعاد عنهم وعن شرورهم وسموم جمعيتهم، خرجت بعد الظهر هائمة على وجهها تريد الانفراد في أية مزرعة كائنة ما كانت، فلم يبق لها بين بني آدم أنيس.
وقابلتها الحقول لأول ما خرجت قد نما فوقها القطن ولا يزال شجره صغيرا ضئيلا، والأرض مكشوفة قد كستها شمس الربيع ترسل شعاعها وسط الجو الساكن الهادئ، والسماء زرقاء صافية يلمع على سطحها العظيم النور الممتد على الوجود. وعلى مرامي النظر تقوم الأشجار تحف بالمزارع وقد ابتدأت ريح الأصيل تهز أوراقها. فسلكت بينها سكة مدقوقة تركها النور بيضاء سمراء. ولم تك إلا سويعة حتى ابتدأ كل ما يحيط بها تدخله الحياة ويستفيق من غفوة الظهيرة. وابتدأ يقطع صمت الجو الأخرس جماعة الطير تفر من فروع الشجر بعد مقيلها وتصدح بنغماتها العذبة، فتضيف إلى الحياة الوليدة معنى السرور والبهجة، ويحمل الهواء أغاريدها يوقظ بها الخليقة النائمة المحرورة. وهكذا تنبعث الحياة في أجزاء الكون وتسري السعادة في جميعه؛ أرضه، وسمائه، وشجره، وطيره، وهوائه، ولا يبقى تحت السماء مما تحيط به دائرة الأفق بائس محزون إلا قلب تلك السائرة في وحدتها.
وبعثت بخيالاتها في وسط تلك الوحدة.
واتخذت مقعدها إلى ظل جميزة كبيرة استندت عليها، وبعثت بخيالاتها في وسط تلك الوحدة، وهذا الصمت لا يشوبه إلا حفيف الريح بأوراق الشجر، وقد انسحب الماء إلى جانبها مصقولة صفحته ويحدث فيه الهواء موجات صغيرة تتتابع واحدتها وراء الأخرى، ثم تنساب مع التيار حتى تتلاشى أو تموت بين الأعشاب النامية على جرف الترعة. ومن ساعة لساعة يسقط من أعلى الشجرة عصفور يصفر في الجو حتى يقع على مقربة منها فينط ما شاء ثم يطير إلى البر الثاني أو يعتلي الشجرة من جديد.
جلست في مكانها زمنا ليس بالقصير، وذهبت بأحلامها إلى مستقبل لمست بيدها سواده: أحلام داهمة لا تفسير لها حلت من نفسها مكان العقيدة لا تعرف لها معنى ولا سببا، ولكنها تؤمن بها ولا يداخلها فيها الشك ولا الريب. تؤمن بالسوء تحمله معها الأيام الآتية إيمانها بالنار وعذابها، وكأنما دار ذلك الزوج الذي يريدون لها قبر تحتله زبانية الجحيم، وكلهم ينتظرها بعيون براقة يقدها خط من النار ذات اللهب. •••
في تلك الساعة المملوءة بالحزن والألم رفعت زينب رأسها إلى السماء كأنما تريد أن تشكو إلى عدالتها ظلم الكون والإنسانية، أو تبرأ إلى الله من جمعيتها الغاشمة التي تريدها على ما لا تحب. حتى أبوها الذي كانت تعتقده رجل الخير والصلاح يلوح عليه أنه يبتسم لهذه الإشاعة المنكودة. رفعت طرفها وعيناها ممتلئتان بالدمع، وقلبها يجف، وبدنها يرتعد، فإذا الشمس غشتها سحب المغرب بعثت على ما حولها حمرة قانية وهي تنحدر إلى مغيبها كما تنحدر إليه كل يوم تنذرها بإمساء الوقت ووجوب الرجوع إلى الدار. فقامت، وبيد سائبة خائرة نفضت ثوبها الأسود الذي انسدل عليها مستقيما من كتفها إلى كعبها. فبينما هي تهم بالانصراف إذا بوقع حوافر مسرعة تدل على أن الراكب يستحث مطيته قد أحس هو الآخر بمساء الوقت. ولم تكن إلا لحظة حتى تبينته السيد محمود رب هذه الضياع الواسعة يمر بها ليرى ما عمل الزمان بأقطانه وأقطان مستأجريه. فلما رآها وحيدة منفردة في هذا المكان تريث في سيره، وألقى عليها تحية المساء، ردتها مكلفة نفسها إخفاء كل أثر يظهر عليها، ثم سألها عن حالها، فأجابت طبعا أنه طيب. وهكذا سار الحديث يجر بعضه بعضا. وما بين حين وحين يضحك لها المالك المتصرف في أرزاق أهل القرية وأقواتهم، فينسيها ذلك كله بعض أحزانها التي أثقلت صدرها. وسارا يقطعان الطريق يأنس كل واحد منهما بصاحبه. وبعد حديث طويل سألها: ولا اشتغلتيش النهارده؟
صفحه نامشخص