فلم يغير ذلك من جد الفتاة شيئا، بل انسابت مع صويحباتها تنظر أمامها بعيون ثابتة يلمع حدقها الأسود تحت قوس حواجبها الجميلة. ولكن حامدا الذي لم يعلم من أمر زينب شيئا، والذي يريد أن يقف على كل شيء، لم يسكت أن سأل صاحبه: وزينب حاتتجوز؟ - بيقولوا إن عمي خليل عايز يخطبها لابنه حسن، وأظن ده صحيح. وإن كنت عايز الحق ده من بختها.
ولم يستمروا في الكلام، فقد مروا بجماعة حيوهم وجلسوا ليشربوا القهوة معهم. جلسوا جميعا على حصير مفروش على مصطبة قليلة الارتفاع عن الأرض جللها شعاع الشمس التي طلعت ذلك اليوم تزيد الوجوه جمالا وفرحا، وينطرح ضوءها على هدوم الفلاحين البيضاء ادخروها لعيدهم يخرجون فيها من الرق والأسى والنصب الدائم ساعات معدودة من الزمان. وبعد أن أخذوا حظهم من مجلسهم قاموا يكملون دورتهم ليرجعوا إلى بيتهم ساعة النزول، يستريحون قبل أن يجيء العصر، فيجيء معه بزيارات جديدة.
سر حامد بيومه كله حيث رجع إلى حريته بعد قيود أيام الصوم ، ورجع بذلك إلى حياته المرتبة المعتادة، ينام الليل ويقوم النهار. وسر كذلك أن عرف أن زينب ستصل قريبا إلى هناء لا يدركه أمثالها إلا قليلا. وما دامت هذه الطائفة لا يهمها أكثر من السعة النسبية فإن ما ستناله زينب منها فوق ما تتمنى. وكأنه نسي أنه ما دام في النفس الإنسانية ميول وأهواء، وما دام بين الرجل والمرأة هاته العاطفة الأنانية التي يسمونها الحب، فليس ببعيد أن نكون أشقياء وسط السعة!
4
كان لإبراهيم من المكانة في نفوس من يعرفونه، ومن الأثر الحسن وما هو معروف عنه من الجد ما قربه من السيد محمود وإخوته وأبنائه، وجعله عندهم محبوبا يرعونه ويقدمونه على غيره. ونال بذلك ثقة المالك فلم يك عمل إلا أعطاه قياده، وترك له فيه من الحرية ما يجعله أشد احتفاظا به. فبالرغم مما كان يعامل به الأولاد والبنات من اللطف والحسنى، وما كان يمضيه من الوقت في الضحك والمزاح معهم، لم يكن يرضى بالزمن يضيع هدرا، وقد أسلم له المالك مفتاحه، بل كان يحرض من معه ويساعدهم إن أحوجت الحال مساعدة، ويدخل معهم في العمل أحيانا ليكون لهم مثلا. فإذا دعا الأمر ولم يكن بد ظهر على وجهه الهادئ الساكن من أثر القطوب ما لا يحبه جماعة العمال.
وكانت زينب تجد من السعادة في كلام حامد ومحادثاته ما يدخل إلى قلبها الهناء الجم. لكن تلك الحاجة عندها لشخص تعطيه نفسها - ذلك الحب التائه بين الناس وعوامل الخليقة والذي يريد أن يستريح ويريح معه روحها الثائرة بلقيا روح أخرى تختص بها وتهبها حياتها - كانت أبعد الأشياء عن حامد وعن التفكير فيه، فإذا مر بخاطرها في ساعات هيامها كان كأي غريب عن روحها لا يثير من نفسها أقل التفات. وكأن النفس تطمح دائما في بحثها عن محبوبها إلى شخص يعدلها في المكانة، لتجد من الحرية معه ما يضمن لها سعادتها، أو كأنه ذلك الحنين بين أضلعنا إلى النصف الذي نفصل عنا في الأزل يوم خرجت حواء من ضلع آدم يجعلنا ننظر إلى بني طبقتنا وطائفتنا دائما كأنهم إخوان، وبينهم وبيننا من الرابطة ما لا نعرفه قبل الطبقات الأخرى، فنحن لهم وهم لنا، وبين قلوبهم وقلوبنا من أواصر الود ما يدفعنا نحوهم، فمنهم نطلب الصديق والشريك والمحب والزوج؛ لأنهم قبل غيرهم موضع حبنا وثقتنا.
لذلك كان من بين جماعة العمال أمثالها ذلك المحب الذي تريد زينب، وفي صفوفهم كانت تريد أن تقع عليه. ولقد بدأت تحس من زمان أنها عثرت على صاحبها في إبراهيم الذي تراه كل يوم، والذي كان يلحظها من بين جميع العاملات بعين طيبة، لأنها أجملهن وأكثرهن جدا وأولاهن في العمل إتقانا. وصارت إذا ما رأته في الصباح وألقى عليها «صباح الخير» في ابتسامته شعرت بسعادة تحتل وجودها، وبهزة تصيبها من رأسها إلى أخمص قدمها. لكن سرعان ما كانت تفر منه وتذهب إلى أبعد الخطوط عنه، وكأنها في اللحظة التي تريد أن ترتمي بين يديه أشد الناس خوفا منه وحذرا من الوقوع تحت حكمه.
وكل يوم يمر يقر نفس زينب على ذلك الحب الوليد، ويجعلها إذا نظرت إلى إبراهيم لم تحدق إليه تحديقنا إلى جميل يعجبنا، ولكنها تغض جفونها لترى في أعماق قلبها الصورة المرسومة منه - لترى ذلك الخيال الذي خلقته لنفسها، فتهيم به وتهم لترمي بنفسها بين أحضانه. ولكن ذلك الحياء الطبيعي في نفوس الأنثى يوقفها ويصدها عن غرضها.
تجلس أحيانا وحدها تناجي قلبها بسعادتها الجديدة، ثم تسائل نفسها: أهو حقا إبراهيم صاحب ذلك الخيال عندها؟ أهو ملاك الهناء الذي يرفرف بأجنحته فوقها.. إذا كان..
وامتلأ وجودها به، ولم تعد تفكر في أحد سواه. فلم تك ساعة إلا شغل قلبها، وتمثل أمام عينيها وهو يرنو لها باسما يفتح أحضانه يريد أن يضمها إليه، فيعلو الدم إلى خدودها، وتستحي من نفسها أمام خيالاتها. ثم تحس بهزة تسري إلى كل وجودها، وينقلب تورد وجهها احمرارا شديدا، وتدفعها رغبة فظيعة للذهاب إليه وضمه لأحضانها وامتلاكه كله، وتنسى إذ ذاك كل ما حولها وكل ما سوى إبراهيم.. فإذا ما كانت في المزارع تشتغل تحت إمرته أمضت وقتها ساكتة صامتة تجد في عملها منتظرة ساعة الغداء حين تجلس وإياه والآخرين تحت ظل الشجر يتكلمون جميعا من غير كلفة، وترفع نحوه نظراتها من حين لحين، ثم تلقي بها إلى الأرض لترجع إلى عالم أحلامها.
صفحه نامشخص