الفصل العاشر
وبعد مضي يومين على سفر زوجي راعول كنت جالسة في غرفتي نحو الساعة السادسة مساء أمام إحدى النوافذ التي تطل على حديقة بيت يجاور دارنا، وكانت الشمس وقتئذ على وشك الغروب، فتركت آثارها الذهبية على رءوس الزهور والأشجار، وقد هب نسيم المساء العليل يحمل إلى النفوس عوامل الانتعاش والسرور، أما أنا فلم تكن هذه المناظر الجميلة إلا لتزيدني حزنا وانقباضا؛ لأنها كانت تذكرني بأيام الصبا، وأويقات البشر والهناء؛ فوضعت رأسي بين يدي وغرقت في بحار التخيلات والأوهام، وقد أزرفت عيني الدموع رغما عن إرادتي لما تذكرت ما حل بي مع حبيبي موريس وصديقي إميل، وقلت: يا لله، كيف يعيش العاشقون إذا كان هذا حالهم، وكيف ترضى الطبيعة لهم بهذا الذل والشقاء وتجود على غيرهم بالسرور والهناء، وبينما أنا على هذا الحال لم أشعر إلا وقد سمعت وقع أقدام تحت النافذة التي كنت جالسة بجانبها، فانتبهت من أحلامي وانتصبت واقفة على قدمي، وإذا بي أرى أمامي رجلا قد تسلق على جدران الدار وصعد إليها على سلم حتى وصل إلى نافذة غرفتي.
فعند ذلك تقهقرت إلى الوراء وناديته بصوت جهير قائلة: من تكون أنت يا هذا؟
فأجابني صوت مملوء من الحنو واللطف قائلا: لا تخافي يا مادلين فأنا هو «إميل» جئت إليك متنكرا تحت جنح الظلام.
قال ذلك ثم دنا من النافذة؛ فدخل إلى الغرفة وترك وراءه السلم معلقا على شجرة عالية، أما أنا فدهشت من هذه الجسارة الغريبة، ونظرت إلى إميل نظرة الحنق والذهول وقلت له بلهجة شديدة: ما هذا الحال يا إميل، وكيف سولت لك نفسك الإقدام على هذا العمل الفظيع، وقد عهدتك أكثر ذكاء وتبصرا؟ قال: عفوا يا سيدتي، فإنما فعلت ذلك رغما عن إرادتي؛ لأني كنت مدفوعا بعامل لم أستطع مقاومته، والحر يعفو إذا قدر، ثم انطرح على قدمي وطفق يبكي بحرقة شديدة ولهفة زايدة.
فهاجت في قلبي حينذاك بواعث الشفقة والحنان، غير أني تمالكت إحساساتي وتغلبت على عواطفي، وقلت له بهيئة الغضب: ولكن ما معنى هذا التسلق والدخول إلى البيوت من غير أبوابها تحت جنح هذا الظلام؟
قال: آه يا سيدتي لو تعلمين كم أنا تعيس ومسكين، فناشدتك المروءة والحنان أن لا تجعلي جزاء أسير حبك وهواك الطرد والإبعاد، ودعيني أمتع النظر وأشرح الفؤاد برؤية محياك الجميل ولو دقيقة واحدة؛ فإن هذا هو منتهى سعادتي وهنائي.
نظرتك يا سيدتي فأحببتك وحاولت أن أكتم هذا الحب فلم أستطع إلى ذلك سبيلا، واجتهدت أن أنساك وأسلو هواك، ولكن عواطفي أبت إلا مقاومتي، فظلك يتبعني أينما ذهبت وحيثما توجهت، وقد طفت البلاد وجلت في مشارق الأرض ومغاربها أرجو النسيان أو السلوان؛ فذهبت أتعابي كلها أدراج الرياح، إذ كانت صورتك الجميلة تتمثل دائما أمام عيني في أقصى أرجاء المسكونة، ولم تكن هذه السياحة لتحجب شخصك الجميل عن نظري أو تزيل تأثير صوتك الرخيم ورشاقتك العجيبة عن قلبي؛ فأنت معي في كل حين وفي كل مكان، فكيف أسلوك أو أنسى حبك! وكيف تسأليني بعد ذلك: لماذا أتسلق الجدران وأدخل البيوت من غير أبوابها! فرحماك يا مولاتي رحماك؛ فأنا عبدك وأسير هواك؛ فإما أن تجودي علي بنظرة الرضا، أو تدعيني أموت تحت قدميك؛ فلست أول من مات شهيد الحب، وذهب ضحية الإخلاص والوفاء.
قال ذلك، ثم قبض على يدي؛ فأخذ يقبلها بحرقة وحرارة، وقد بللها بدموعه السخينة؛ فزاد انعطافي إليه ولم أستطع أن أملك عواطفي أو أتغلب على إحساسي أكثر من ذلك، فقلت له والدمع ملء جفوني: إني أسامحك يا إميل على ما صدر منك، بشرط أن لا تعود إلي بعد الآن، لئلا توقع علي وعليك الشبهة؛ فحذار من الوقوع في هذا الخطأ مرة أخرى.
قال: إنك يا سيدتي تريدين إذن أن أموت شهيد الحب والوجد؟
صفحه نامشخص