هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
فبينما كان إميل يمرح في بحبوحة العز والرخاء، رزئ فجأة بوفاة والديه، وهو في عنفوان الصبا وريعان الشباب؛ فاحتمل هذا المصاب الأليم بجأش قوي، وجنان ثابت، ولكن الدهر لم يقنع بتجريعه هذه الكأس المرة، بل ابتدره بعد ذلك بفاجعة ثانية كانت على قلبه أعظم وقعا وأشد وطأة من الأولى.
ذلك بأن إميل كان يحب فتاة تبادل وإياها عبارات الإخلاص والولاء؛ فخانت وعده ونكثت عهد محبته، وتزوجت بشاب آخر من أرباب الخلاعة والمجون؛ فشق عليه هذا الأمر، ومن ثم انقطع عن العمل وهجر الشغل؛ لأنه وجد في نفسه انقباضا عظيما واضطرابا زائدا، والرأس - في الغالب - إذا امتلأت بالهموم والأكدار لا تستطيع العمل أو التفكير على الإطلاق.
وعليه أخذ إميل يجول في طول البلاد وعرضها؛ طلبا للنزهة والرياضة حتى يزيل غصته ويفرج كربته، وكان يرى في زيارتنا من وقت إلى آخر بعض التعزية والسلوى.
أما أنا فلم يكن ميلي إلى مجالسته ومحادثته بأقل من ميله إلى زيارتنا؛ لأني كنت أرى في مبادئنا ومشاربنا توافقا تاما وائتلافا عجيبا ولا غرو في ذلك؛ فقد كابد كل منا من مصاعب الحياة ومتاعب العيش ما من شأنه أن يقرب القلوب ويستميل الأفئدة ويجتذب العواطف والأميال، فكنت إذا اختليت بإميل يقص علي تاريخ حياته الماضية وحوادثه السالفة؛ فأجدها كلها مفعمة بالحكم والعبر، وأرى في نفسي عند سماعها راحة عظمى، ولذة لا توصف.
وكلما كثر تردد إميل علينا قويت محبتنا وازدادت ألفتنا، حتى أصبح يشق علي فراقه، وأود لو أن يكون قريبا مني وجالسا بجانبي طول العمر؛ لأن أعظم ما تجده فتاة حزينة مسكينة مثلي من أنواع التعزية والسلوان هو أن ترى بجانبها شابا جميلا لطيف المعاشرة مثل إميل يقاسمها الهموم ويشاطرها في مصائبها وأحزانها.
ولكني لم أكن أعلم ما خبأته لنا يد الأقدار، من النوائب والأكدار، إذ بينما كنت أنا وإميل نذوق لذة العزاء، ونتمتع بهذه المعاشرة الخالية من شوائب الغش والخداع، كانت خادمتي «دانيز» تدبر لنا المكائد والدسائس ونحن لا نشعر ولا ندري؛ لأنها هي أيضا كانت تحب «إميل» وتميل إليه كل الميل، وقد حسدتني على حبه لي وانعطافه إلي، وظنت أن وراء هذا الحب الخالص شيئا من المآرب الدنيئة أو الشهوات البهيمية، وإني أريد مزاحمتها في حب هذا الشاب الجميل فاحتدمت غيظا واستشاطت غضبا، ولا سيما لأنها وجدت من إميل كل النفور والهجر، فأخذت تثير عوامل الغيرة في قلب زوجي وتوغر صدره على إميل، حتى أوقعت في نفسه الشك والارتياب من جهتنا فأصدر أمره حالا بطرد إميل من دارنا وحرمانه من زيارتنا، وقد تم ذلك فعلا بلا معارضة ولا نزاع، وجرت هذه الحوادث كلها على إثر زيارة الموسيو فوستير المعهودة ببضعة أسابيع، وبعد ذلك عزم زوجي على السفر وغادر القرية متوجها إلى مدينة نانت كما مر الكلام.
صفحه نامشخص