واحات العمر: سیره ذاتیه: الجزء الأول
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
ژانرها
وفي العيد زارنا خالي عبد الحليم بدر الدين، وكان قد استقر في تجارة الأجهزة العلمية وأدوات المعامل في القاهرة، وانفرد بإدارة الشركة وملكيتها بعد عودة «هيلشر» شريكه الألماني إلى برلين الغربية. وكان خالي قد تخرج في مدرسة المعلمين العليا (التي توازي كليات التربية حاليا) وعمل بالتدريس فترة في الثلاثينيات قبل أن يشارك هيلشر التاجر الألماني الذي كان قد أوكل إليه إدارة فرع الشركة في القاهرة، ثم افتتحا فرعا في الإسكندرية وآخر في الخرطوم، وكلها تتبع الفرع الرئيسي في برلين. فلما نشبت الحرب جاء إلى القاهرة وتولى إدارة فرع القاهرة بنفسه، وحالت الحرب دون عودته، فلما انتهت الحرب أعاد خالي إلى إدارة الفروع المحلية، ثم نقل إليه ملكية الشركة وعاد هو لبنائها من جديد في ألمانيا. وكانت أحوال التجارة قد تدهورت أثناء الحرب، ولكن لم تمض ثلاثة أعوام حتى عادت للانتعاش، وأذكر مناقشة مستفيضة لتلك الأحوال ذات مساء على ضوء الكلوب (الجلوب)، وأذكر أن خالي عرض على والدي المشاركة في رأس مال الشركة بألف جنيه، سرعان ما بارك الله فيها، وكانت آخر ما بقي له من التركة التي كان ينفق منها بسخاء على الكتب وعلى «الأرض».
وكان ثمة عامل مشترك يجمع بين والدي وخالي؛ وهو حبهما للصيد. ففي الشتاء كانا يذهبان لصيد البط البري المهاجر من أوروبا في بحيرة إدكو، وكانا مع رفقائهما من أعضاء «نادي الصيد الملكي» يقضيان جزءا من الليل في استراحة يملكها السيوفي بك، الأمين الثاني للملك فاروق في مكان يسمى «المعدية» وهو مكان التقاء البحيرة بالبحر المتوسط، ثم ينهضان في الفجر للصيد في براميل خاصة وضعت وسط أعشاب البحيرة الطويلة، بينما يحضر الصبيان لهما ولزملائهما الطيور التي صيدت وسقطت في ماء البحيرة، بقوارب مسطحة صغيرة. أما في سبتمبر، فكان موسم صيد الطيور المهاجرة من أوروبا لقضاء فصل الشتاء في السودان. وكان والدي يهتم بجمال الطيور وألوانها أكثر من اهتمامه بأكل لحومها، وكثيرا ما كنت أشاهده في أثناء قيامه بتحنيط بعض تلك الطيور أو رسم صورها بألوانه الخاصة.
وحل في العام التالي (1949م) حدث كبير؛ هو المعرض الصناعي الزراعي في مدينة القاهرة، فاصطحبني والدي لزيارته، ونزلت أنا ضيفا عند خالي، بينما أقام والدي عند أحد أقاربه. وكان يأتي كل يوم لاصطحابي إلى المعرض، وكانت تلك أول مرة أشاهد فيها تلك المدينة الشاسعة، وكان والدي من عشاق الخديوي إسماعيل، فكان يتعمد بعد كل زيارة لمتحف أو لنصب أو لمكتبة أن يعدد لي مناقبه، وما زلت أذكر أول مرة أشاهد فيها دار الأوبرا القديمة، وميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا )، وأرى ثكنات الجيش البريطاني قائمة بلون برتقالي فاتح ظننته أحمر، في مكان مبنى جامعة الدول العربية وفندق هيلتون النيل. كانت المشاهد مثل الأحلام لطفل في العاشرة، وأذكر أننا عبرنا كوبري قصر النيل سيرا على الأقدام، ودخلنا المعرض بينما كان والدي منهمكا في رواية التاريخ القريب لي، وكفاح المصريين من أجل الاستقلال.
وتركني والدي في المعرض ذات يوم خارج مكان لبيع الأسطوانات، وغاب طويلا لكنني لم أقلق؛ فقد كانت الرؤى مثل عالم جديد جميل، وكان الرائحون والغادون يرتدون الحلل الزاهية، والنساء والفتيات يرتدين الملابس الأوروبية، حاسرات ضاحكات عابثات، وكانت فنون العرض باهرة، وبائعو المشروبات يبالغون في أسعارها، ولا يمكن شراء شيء بمليمين أو ثلاثة مثل رشيد، ثم عاد والدي ومعه أسطوانة مسجلة بصوته. كان صاحب الشركة قد أعجب بصوته وطلب منه تسجيل بعض أسطوانات القرآن، وأعطاه هدية هي تسجيل صوته هو وهو يقرأ سورة طه. وكان يحاكي فيها أسلوب الشيخ السعدني في القراءة وهو الذي كنا نسمعه في محطة الشرق الأدنى. وما زلت أحفظ هذا الأسلوب، وكان الوجه الأول ينتهي بالآية
الرحمن على العرش استوى . وعندما عدنا إلى رشيد كان والدي قد أعد لي مفاجأة إذ أتى لي ببعض أسطوانات أم كلثوم كنت أديرها على الحاكي (الجراموفون) ذي البوق الضخم، الذي يملأ باليد (زنبرك) وكانت لدينا أسطوانات قديمة لمنيرة المهدية وعبد الحي حلمي ومحمد عثمان وصالح عبد الحي.
ويبدو أن خالي قد اتفق مع والدي على أن يتولى هو إدارة مكتب الإسكندرية مقابل مرتب شهري، على أن تنتقل الأسرة إلى الإقامة في الإسكندرية؛ حتى لا يضطر إلى السفر كل يوم (المسافة ستون كيلومترا). وفعلا انتقل الجميع في سبتمبر 1949م؛ أنا وأخواي حسن ومصطفى ووالدتي للإقامة في شارع جرين في حي محرم بك. والتحقت أنا بمدرسة العباسية الثانوية الواقعة في الشارع نفسه، والتحق أخواي بمدرستين قريبتين. كانت الإسكندرية صورة من القاهرة، ولكن أهم ما يميزها هو وجود أعمامي وعماتي فيها، ووجود أقرب الناس إلى قلبي؛ خالي الدكتور مصطفى كمال بدر الدين، الذي كان قد حصل لتوه على الدكتوراه في طب الأطفال، وعين مدرسا في كلية الطب بجامعة فاروق الأول (الإسكندرية).
3
كانت العباسية الثانوية بالنسبة لي مدينة غريبة. كان أول إحساس لي هو أنني غريب. لم يكن أحد يعرفني، بينما كان الجميع في رشيد يعرفونني نسبا ونشأة. لم أكن بلغت الحادية عشرة بعد، ولكنني كنت أشعر دائما أنني أكبر ممن حولي. كان يشاركني في المقعد تلميذ يسمى محمد البحر، وهو من أحفاد سيد درويش، وكان في آخر الفصل تلميذ يسمى خميس عبيد جاد، اشتهر بإجادته الخطوط العربية، وبأنه «حلنجي» أي بارع في التحايل والمراوغة. وكنت أجلس إلى جوار النافذة، مما جعلني أسرح الطرف فيما حولي، أسمع نداءات البائعين من نغم البيات، وأرقب السيارات (لم يكن في رشيد سيارات)، وأصغي إلى الدروس في الوقت نفسه. كنت تائها معظم الوقت، حتى جاء أستاذ اللغة العربية «عباس القاضي» وطلب منا كتابة موضوع إنشاء في المنزل. وعندما أعاد لنا الكراسات لم يعطني درجة بل كتب «إن كان هذا كلامك فهو حسن.» ولم يرق لي الشك في أمانتي فاعترضت، فقال لي «أعرب لفظة كلامك، فإن أصبت قبلت الموضوع»، فقلت له إنها خبر كان مضاف، ولا بد أن تفتح! فطرح السؤال على باقي الطلبة فاختلفوا ثم قرروا التضامن ضد الرشيدي الغريب فقالوا إنني أخطأت، ولا بد أن ترفع، ويبدو أن المدرس كان يخشى بأس التلاميذ فقال إنها مسألة خلافية يجوز فيها الرفع والنصب، ولكنني اعترضت وقلت إن التقدير هنا لا لزوم له، فكيف نتصور أنه اسم كان مؤخر مع أنك إذا قلبت الجملة وأخرت اسم الإشارة؛ أصبح نوعا من التوكيد وضاع منا الخبر! وكأنما صدمته الإجابة فقال لي أفصح! فقلت نصب الكلمة لا يقتضي تقديرا؛ فاسم الإشارة مبتدأ لا يحتاج إلى بدل لوجود الكلام نفسه أما في حالة التقدير فسوف تكون الجملة معقدة: إن كان كلامك هذا [هو كلامك] - بل إن المعنى سوف يتغير! وتفكر لحظة وقال: عندك حق! وعندها هاج الطلبة وماجوا، وكنت سعيدا بانتصاري، ولكن الأستاذ عاد فقال: «لا لا! الكلام مستواه أعلى من سنة أولى! عموما ننتظر ونرى!» وفرح الطلبة وسكتوا.
في ذلك اليوم خرجت مهموما. وظللت أقلب الجملة في رأسي. ربما كنت مخطئا. هل يصح الرفع؟ ولم أبح بالسر لأحد. ولم أعد إلى المنزل في ساعة الغداء، بل اشتريت «شقة فول» بنصف قرش، واكتشفت أن البائع باعني ثلث رغيف فقط ليزيد من مكسبه، ولكنه كان لذيذا على أية حال، وانتهيت منه بسرعة وذهبت إلى ملعب الجمباز، فرأيت طالبين (محسن والمصري) يتدربان على جهاز «المتوازي» وجهاز «العقلة» وذهلت! وألهاني الاستمتاع بفنونهما عن الخبر المنصوب، وبعد الفسحة لم يكن في ذهني سوى الرياضة! كانا «يتشقلبان» في الهواء مثل البهلوانات، وكان المنافسون لهما يقعون ولا يفلحون! وقررت أن أحاول الالتحاق برياضة ما في المدرسة، فقالوا لي عليك بالملاكمة لأنها تحتاج إلى «النفس الطويل»، ومن ثم أقلعت عن عادة العودة إلى المنزل في الفسحة وصرت أقضي الوقت في التدريب، ومن بعده الحمام البارد، دون أن أخبر أحدا.
ويبدو أنني كنت أتقدم في التدريب، إذ جاءني الأستاذ «فضالي» ذات يوم، مدرس الألعاب، وقال لي إنك مطلوب للبقاء في المدرسة ثلاثة أيام في الأسبوع للاستعداد للبطولة. ولم أعلق. ولكنني عندما أخبرت والدي رفض رفضا حاسما، وقال إن الرياضة يجب ألا تطغى على الدراسة، وإن علي أن أهتم بدروسي أولا. وأيدته والدتي. وانتهى حلم الملاكمة.
صفحه نامشخص