يمكن التعريف بتونس هكذا: قطر غني وسكان فقراء؛ لأن الخيرات والثروات كلها بأيدي الجالية الفرنسية.»
لم تتفطن حكومة فرنسا ولم ترد أن تتفطن إلى تقدم تونس، وإلى عزمها على نيل حقوقها، واستعدادها للتضحية في سبيل أهدافها الوطنية، فلم تسع لمعرفة الحالة بالضبط، بل تهاونت وتبعت أسهل الحلول وهي حلول القوة؛ لأن الجالية الفرنسية كانت سدا منيعا بينها وبين الحقيقة، ولكن الأجانب الذين عرفوا تونس معرفة دقيقة تنبئوا بالحوادث قبل وقوعها وبحثوا أسبابها، وقال الكاتب
Santa Maria :
3 «فإن كانت تلك التحويرات لا تحتمل بالنسبة للمستعمرين الفرنسيين الذين يريدون المحافظة على السلطان المطلق الكامل والامتيازات، فإنها لا تذكر بالنسبة للوطنيين التونسيين الذين يرون بأعينهم خيرات بلادهم تجر جرا إلى الفرنسيين وتملأ جيوبهم، وكنوز تونس تستثمر كلها لفائدة جالية أجنبية، وهم بأنفسهم يستخدمون كآلات مسخرة لها، حتى أصبحوا يعتقدون أن تحسين حالهم والوصول إلى حياة البشر الحقيقية معلق على نيل الاستقلال التام.
وإن الثورة المنتظرة لم تمل بفرنسا إلى اتباع سياسة تسير بالبلاد والعباد نحو تحسين حالة المعيشة والتطور نحو التقدم والرقي، ولكنها مالت كعادتها إلى أعمال الغالب المحتل لبلاد غيره المسيطر عليه بقوة الحديد والنار الذي لا يعرف إلا الاضطهاد والقمع.»
وقد ظهر خطر تلك السياسة الفرنسية على دول البحر الأبيض المتوسط كلها؛ لأنها لا تنتج إلا الاضطراب وعدم الاستقرار في مواقع استراتيجية حيوية بالنسبة لتلك الدول حتى قال كاتبهم:
4 «إن السياسة الاستعمارية تعزل عن الدنيا جميع الشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط وأن تلك السيطرة القاهرة للشعوب لا تثمر إلا الريبة والشكوك، ثم الثورات المتتالية، وتكون عدم الاستقرار، وكأن القوات الأطلسية تعيش على بركان لا تدري متى ينفجر.»
كانت الأعصاب متوترة في تونس، والشعب مصمما على عدم الاستسلام للقوة وعدم الرضوخ لما تريد فرنسا له من محو ذاتيته وإدماج ترابه، وكان جو الانتظار خانقا رهيبا، والسكون السابق للعاصفة يخيم على البلاد، وإذا بفرنسا تتبع أحد مبادئها القديمة البالية التي كانت نجحت في القرون الماضية لاستنامة الشعوب المغلوبة على أمرها؛ لأن فرنسا كانت من أقوى دول العالم المتحكمة في مصيره، فأظهرت قوات عتيدة ونشرتها في البلاد بمناسبة قدوم المقيم العام «دي هوتكلوك» فدخل تونس يوم 13 / 1 / 1952 كالغازي المتهجم والغالب القاهر والعدو المنتصر معلنا هكذا عن نواياه ونوايا بلاده وإرادتها القمع والاعتداء المسلح، فوصل إلى ميناء تونس صباح ذلك اليوم على ظهر بارجة حربية مارسو
Marceau
وكان يصحبه منذ حل بالمياه التونسية بواخر حربية أخرى من بينها الطرادة إيلان
صفحه نامشخص