الغرض من وضع هذا الكتاب
المستعمرون وسلوكهم
الحركة الوطنية
النظم التونسية قبل الحماية وبعدها
المفاوضات بين تونس وفرنسا
العدوان الفرنسي المسلح
الفظائع
الدموع والدماء والخراب
الاعتداء على الوزارة التونسية
محاولة اغتيال الملك
الإصلاحات المرفوضة
اغتيال فرحات حشاد
اغتيال الهادي شاكر
الغرض من وضع هذا الكتاب
المستعمرون وسلوكهم
الحركة الوطنية
النظم التونسية قبل الحماية وبعدها
المفاوضات بين تونس وفرنسا
العدوان الفرنسي المسلح
الفظائع
الدموع والدماء والخراب
الاعتداء على الوزارة التونسية
محاولة اغتيال الملك
الإصلاحات المرفوضة
اغتيال فرحات حشاد
اغتيال الهادي شاكر
تونس الثائرة
تونس الثائرة
تأليف
علي البلهوان
الغرض من وضع هذا الكتاب
يسطر هذا الكتاب صفحة ناصعة من الكفاح الرائع، وصفحة سوداء من تاريخ الاستعمار.
فليس هذا الكتاب إذن بحثا جغرافيا عن تونس العربية الإسلامية التي يسكنها ثلاثة ملايين ونصف مليون من العرب المسلمين، وقد أضيف إليهم بعد الاحتلال الفرنسي 140 ألفا من الفرنسيين ومائة ألف من الإيطاليين. وهي على صغر رقعتها (125 ألف كيلومتر مربع) تحتوي على أراض خصبة متسعة في الشمال، وعلى غابات شاسعة تمتد إلى الجزائر، وعلى بساتين تجعل من جهات كاملة - كجهة الدخلة - تعبق بالرياحين في فصل الربيع، ونمت غابة زياتينها خاصة في الساحل الشرقي إلى أن بلغت أكثر من عشرين مليون شجرة. وتونس غنية أيضا بمعادنها من فوسفات وحديد ورصاص وزنك وزئبق وفحم وغيرها، وأخيرا عثر على البترول في غالب جهاتها.
أما موقعها الاستراتيجي، فهي تفصل البحر الأبيض المتوسط إلى حوض شرقي، وحوض غربي، وتتحكم في المضيق الرابط بينهما بميناها الحربي بنزرت ومطاراتها.
ومن البديهي أن أسطورة الاستعمار الذي جاء بنوايا حسنة طيبة، ورسالة تمدينية افتضحت، حتى أصبح لا يصدقها أحد وخاصة مروجوها. إنما الاستعمار في كنهه استثمار اقتصادي كامل يتبع ضربا من القانون الحديدي الذي لا يرحم؛ ولذا رأينا المستعمرين الفرنسيين استحوذوا استحواذا كليا على جميع الثروة المعدنية، وعلى أخصب الأراضي وعلى غالب منابع الثروة، واستثمروا أيضا جهود التونسيين استثمارا فظيعا؛ إذ جعلوهم عمالا يتقاضون أجورا طفيفة لا تسد رمقهم ولا تغني عائلتهم من الجوع، بل اتخذت منهم فرنسا أيضا جنودا يريقون دماءهم للدفاع عنها وعن استعمارها.
والاستعمار مفسدة بشرية، لا يدوم إلا بانحطاط الأخلاق، فينزل بالمغلوب إلى حضيض الخنوع والخسة والذل والحيوانية بما يصبه عليه من فقر وجهل ومرض، فيدنس إنسانيته المقدسة، ويفسد الغالب أيضا، فيولد فيه التعصب الأعمى والتفوق العنصري والمطامع والشره والميل إلى الأرباح والمصالح الشخصية، ويميت فيه الضمير وروح العدالة والأخوة البشرية، ويقضي على كل اعتلاء فكري فيه.
ومما أكسب الوطنيين التونسيين قوة وألبس كفاحهم ضربا من القداسة، شعورهم بالدفاع عن القيم البشرية العليا؛ عن الحرية وعن العدالة: عدالة القانون والمحاكم، وعدالة المجتمع، وعدالة الاقتصاد والثروة، ودفاعهم فعلا عن كرامة الإنسان وقداسة حياته.
وقد اقتصر هذا الكتاب على تسجيل فترة (من 1949 إلى 1954) من الصراع بين ذلك الاستعمار وبين شعب تونس الذي لا يريد أن يموت كشعب وأن يفنى، وأن يصبح أبناؤه كأوراق الخريف تذروهم كل ريح وعاصفة، أو كحبات الرمل تبددهم كل موجة من أمواج البحر.
والقضية التونسية في وضوحها ونصوعها كالبلور، لا تحتاج إلى تزييف وتلفيق ولا إلى المبالغة، بل الحقيقة نفسها تخدمها دائما؛ ولذا كان جميع ما قدمته في كتابي هذا مستندا إلى وثائق رسمية أو إلى قول خصومنا أنفسهم، وأخذت قصة الحوادث عن الذين شاركوا فيها أحيانا أو عن عدة شهود عيان، وحذفت الكثير مما سمعت، وأغفلت أيضا الكثير من الفظائع. واحتطت لكيلا أذكر حادثا إلا بعد البحث والتمحيص، فجمعت كمية من الوثائق والأحداث تمكن كل إنسان من أن يبدي حكمه، وقد يكون رأيه مخالفا لرأي فيجد ما يسند عليه فكرته. ففي هذا الكتاب يجد القارئ الحوادث والوثائق مضبوطة بتواريخها وأسماء مكانها ومرجعها، وما لم أسجل مرجعه فقد أخذته عن عشرات الشهود.
ولأمكن القارئ من فهم الحوادث وأسبابها البعيدة والقريبة، لخصت في فصول ثلاثة الوضع الحالي، وأبنت عن سياسة فرنسا الاستعمارية وسلوك جاليتها، وعن قوة الحركة الوطنية ونظامها، وعن النظم التي فرضها الاستعمار على الدولة التونسية، ثم تحدثت عن «التجربة التونسية» عندما دخلت تونس في مفاوضات رسمية مع فرنسا لتحقيق استقلالها، وعن نكث حكومة فرنسا تعهداتها، وعن العدوان المسلح ضد شعب تونس الأعزل. فكانت الثورة الدامية المستمرة، وتطور الكفاح التونسي تطوره الطبيعي، وكانت الأدوار السياسية تماشي الثورة الدامية.
وليس لشعب تونس جيش مسلح يقف أمام الجيش الفرنسي، ولكن له إيمانا بحقه في الحياة وحقه في أرضه ووطنه، فرفض في وحدة قوية شاملة كل تعاون مع السلطات الاستعمارية، إلى أن استحال على الحكومة الفرنسية أن تجد من بين التونسيين من يقبل تشكيل الوزارة بعد أن استقالت الوزارة التونسية (15 يونيو 1954) وبقيت تونس من غير حكومة أصلا.
ولقد وجدت تونس من يقودها في كفاحها المرير، أمثال صالح بن يوسف والمنجي سليم، وعلى رأسهم الحبيب بورقيبة رئيس الحزب الحر الدستوري التونسي الذي كان خارج تونس عندما شرع الاستعمار الفرنسي في عدوانه، فلم يقبل نصائح الأصدقاء الذين حذروه من الخطر على حريته وحياته، فرجع إلى وطنه إبان محنته ليقاسم الشعب آلامه وتضحياته.
وكانت رسائله تأتيني من منفاه بجزيرة جالطة، ثم من جزيرة «جروا» بفرنسا تحمل إيمانا وآمالا، فقد كتب لي بتاريخ 1 / 10 / 1951 قال:
أخي العزيز ورفيقي الأمين وعضدي المتين الأستاذ علي البلهوان
أخذ الله بيده وأعانه على أمره وجعل التوفيق حليفه.
وبعد، فقد استلمت رسالتك اللطيفة المؤثرة التي ما أتيت على آخر سطر منها حتى اغرورقت عيناي بالدموع؛ دموع السرور والفخر والامتنان؛ الامتنان إلى الله - عز وجل - الذي أحاط هذه الحركة المباركة النزيهة المخلصة برجال يعترفون بالحق لذويه، يعملون آناء الليل وأطراف النهار بكل ما أتوا من حكمة وخبرة وإخلاص لإعلاء دين الله وإعزاز عباده وإنقاذ دار من ديار الإسلام من هوة الذل والاستعباد، صابرين على المكروه صامدين في وجه العدوان، حتى يدركهم الله بنصره الذي وعد به عباده الصالحين.
وقد اخترت من رسائله واحدة؛ لأنها تبين قيمة الزعيم المعنوية، وتبلور عواطف وأفكار شعب كامل حول شخصه. فكتب لي من جزيرة «جالطة»:
الحمد لله وحده
جزيرة جالطة، يوم الجمعة 11 يوليو 1952
عزيزي علي
لشد ما تأثرت ببرقية الطيب والرشيد، وكذلك ببرقية صالح ومحمد وعلال، وكنت أود أن أجيب بنفس اللهجة، ولكن لم يكن ذلك في إمكاني، وحملت إلي برقية من مراد نفحة من الآمال ... وأتتني برقيات جميلة من الطلبة التونسيين من باريس ودمشق تحمل معاني التكتل الوطني وعزم الشبيبة الناشئة الثابت؛ أي ضمان الدوام والاستمرار الذي لا يبلغ الإنسان من دونه غاية. وهل أحدثك عن مئات ومئات البرقيات والرسائل والبطاقات من جميع السجون، ومن جميع المعسكرات، ومن أبعد جهات تونس؛ كلها تتدفق وطنية وتنبئ عن حالة أدبية أشد ما تكون ارتفاعا وقوة وإيمانا لا يتزعزع بالنصر النهائي. فإن كان جسمي مقيدا محكوما عليه بالعزلة، وكانت القوة القاسية فرقتني عن إخواني؛ فقد عجزت عن منع قلوب شعب كامل وأفكار أبنائه أجمعين من مؤانستي في غربتي والاتجاه نحو منفاي فوق صخرتي. وتلك أجمل تسلية وأعظم جائزة كنت أؤملها في محنتي، وهو انتصار جبار من الناحية الأدبية لا يلبث أن يتجسم - وهو لا محالة سيتجسم طال الزمان أو قصر - في الميدان السياسي.
وكانت رسالتك - بتاريخ 27 يونيو - أشد وقعا على نفسي وأعمق تأثيرا، فاهتززت لها اهتزازا؛ لإيجازها وصراحتها وما حملته من عواطف.
فقرأتها عشر مرات، بل مائة مرة من غير ملل، وهي أمامي الآن وسأحملها معي دائما؛ لأنها أصدق مثال لأجمل وأعظم وألطف وأشرف وأصفى وأنقى ما يشعر به قلب بشري. حقا لم أعش من أجل نفسي وما تحمل كلمة نفس من أثرة، وقد كنت منذ بداية نشأتي أتبع كلمة خالدة قرأتها وأنا صغير: «عش للغير، لا لنفسك.» وعندما عشت لفائدة الغير وجدت أني اخترت أحسن طريقة لأحيا لنفسي، ولكنني لم أكن الوحيد الذي اختار ذلك الطريق في الحياة، ولو كنت الوحيد لما أمكن لي أن أبني بناء صحيحا يدوم ويبقى، وكان من حسن حظي - بل من حسن حظ الشعب التونسي - أني جمعت حولي جماعة من الشباب من ذوي الحزم والعزم، استأثروا بنكران الذات والمقدرة، واعتقدوا اعتقادي بأن الحياة لا تستحق أن يحياها الإنسان إن لم ينرها بنور التضحية الكاملة في سبيل مثال أعلى من الحرية والعدالة والأخوة البشرية.
وإن في ذلك لآية لقوم يفقهون، وشاهدا لا يرد على أن شعب تونس شعب نبيل لم تفقده عشرات السنين من العبودية والرق الشعور بالكرامة والشرف، وتلك هي الحقيقة الناصعة، فيمكن لي الآن أن أموت مطمئنا وأنا أعلم أن الكفاح سيستمر سواء كنت موجودا أو معدوما ... وأنه لن يتوقف إلا يوم تصبح تونس وليس فيها غالب ومغلوب وقاهر ومقهور، يوم يفتك شعبها حقه الطبيعي في الحرية وفي الحد الأدنى من الكرامة، الذي من دونه يسقط البشر إلى مصاف الحيوانات العجم.
وأن الكفاح سيستمر حتى بعد ذلك اليوم، ولكنه سيكون كفاحا ضد الجهل والفاقة لرفع مستوى الشعب الأدبي والمادي، إلى أن يصبح عائلة كبرى حرة قوية سعيدة قادرة على القيام بدورها في تقدم البشرية وصعودها إلى نحو مصيرها النير. وأن انتصارنا في الميدان السياسي وإن كان غاية في نفسه من الناحية الأدبية، إلا أنه الوسيلة أيضا التي تمكننا من معالجة المشكلة الاجتماعية معالجة حاسمة.
وليخرج المتطوعون آلافا من صميم ذلك الشعب الذي أقام الدليل للعالم على حيويته وقيمته لتحقيق تلك الغاية العظيمة الشريفة.
المستعمرون وسلوكهم
(1) المشكلة التونسية عند الاحتلال الفرنسي
نلاحظ أن المشكلة التونسية قد وضعت دائما في ميادين ثلاثة: الميدان الدولي، والميدان الفرنسي، والميداني الداخلي التونسي.
تكونت المشكلة التونسية يوم احتلت فرنسا الجزائر في أواسط القرن التاسع عشر، فأخذت فرنسا تتدخل في شئون تونس شيئا فشيئا تمهيدا للاستيلاء عليها، ولم يتيسر لها احتلالها عام 1881 إلا بعد مناورات دولية دامت أكثر من ثلاثين سنة، وكانت تخشى مزاحمة بريطانيا العظمى لها ومطامع إيطاليا المكشوفة، إلى أن تم الاتفاق مع الإنجليز بمساعدة رجل ألمانيا المحنك «بسمارك» على أن تكون بريطانيا مطلقة اليد في مصر وتكون فرنسا حرة التصرف بتونس، أما إيطاليا فوقع إبعادها بإعطاء بعض الترضيات لجاليتها بتونس.
وهكذا كانت نتيجة وضع المشكلة التونسية في الميدان الدولي، احتلال الجيوش الفرنسية للبلاد وفرض الحماية عليها؛ لأن الدولة الاستعمارية قد اقتسمت العالم في ذلك الحين وتصرفت في الأقطار كما شاءت لها مطامعها؛ إذ القوة بيدها والمال في قبضتها والسياسية العالمية في حوزتها.
وبمجرد استيلاء فرنسا على تونس أصبحت المشكلة التونسية تحتل مكانا ممتازا في السياسية الفرنسية البحتة التي لم تكن واضحة جلية في أول أمرها؛ لأن معاهدة «باردو» لم تحتو على لفظة الحماية، بل أبقت السيادة التونسية كاملة غير منقوصة، وكان المستعمرون ينادون بوجوب القضاء على الدولة التونسية وإلحاق البلاد التونسية بفرنسا مثل ما تم فيما يتعلق بالجزائر. وكان الأحرار الفرنسيون مثل «كليمنصو» ينددون بالعدوان على شعب صديق، ويطالبون بإجلاء الجيوش الفرنسية عن تونس، فاتخذ رئيس الحكومة الفرنسية إذ ذاك «جول فيري» موقفا وسطا وقال: إن فرنسا لا تريد استعمار تونس ولا ترمي إلى إدماج ترابها في التراب الفرنسي، وإن احتلالها لها إنما هو ضمان لبقائنا بالجزائر. فسياسة فرنسا نحو تونس تتلخص حسب عباراته في كلمتين: «لا إلحاق ولا انسحاب.»
أما داخل البلاد التونسية، فقد كانت السياسة الفرنسية تناقض ما قررته الحكومة الفرنسية، وكان أكبر عامل في تبديلها وقلبها هو المقيم العام «بول كامبون» الذي اشتهر بمهارته الإدارية بفرنسا، ففرض على تونس اتفاقية جديدة (اتفاقية المرسى)، واستدرج الحكومة الفرنسية إلى الموافقة عليها، ثم اتخذها أداة للاستيلاء على السيادة الداخلية التونسية وإنشاء إدارة حديثة تكون آلة في قبضته؛ ليتمكن من حكم البلاد حكما فرنسيا مباشرا، فيتصرف في الميزانية لتنفيذ أغراضه، ويشرع في سياسة تنمية الجالية الفرنسية بتشجيع الهجرة ومنحهم الوظائف العامة والأراضي الخصبة، ويسرع إلى تقسيم الثروة المعدنية على الشركات الفرنسية.
فإذا كان «جول فيري» بطل احتلال تونس، فإن «بول كامبون» هو مستعمرها الأول وواضع أساس جميع المشاكل الكبرى التي صيرت القضية التونسية معقدة متشعبة استعصى حلها على الحكومات الفرنسية المتوالية وحيرتها وأفسدت سمعة فرنسا ونزلت بها إلى الحضيض. (2) المشكلة التونسية في الميدان العالمي
بقي التناقض والاضطراب بينا في السياسة الفرنسية نحو تونس، فطورا تسير إلى تطبيق معاهدة الحماية والوقوف عندها، ومرة تنتهج السنة الاستعمارية التي سنها «بول كامبون»، وهي في تناقضها واضطرابها لم تلتفت إلى العالم وإلى الواقع، كأنها ذاهلة بنفسها عن غيرها، وإذا ما وعدت الحكومة الفرنسية وعدا، فسرعان ما تتراجع فيه تحت تأثير جاليتها الاستعمارية بتونس، غافلة عما طرأ على العالم كله من تغيير عميق وعما أحدثته الحروب العالمية فيه من تبديل. عواصف هبت على الدنيا، فزعزعت قوات أوروبا الاستعمارية وأضعفتها حربيا واقتصاديا، حتى أصبح مركزها اليوم أقل أهمية من ذي قبل، وأضاعت الدول الاستعمارية الكبرى هيبتها في القلوب، ورأى كل سياسي أن العصر الذي كانت دول أوروبا تقتسم فيه العالم إلى مناطق نفوذ بينها تفرض فيها سيطرتها واستعمارها وحمايتها وانتدابها قد انقضى وفات، فلم تبق في قبضتها دفة السياسة العالمية، بل أفلتت منها إلى غيرها، وقام إثر الحرب العالمية الثانية عملاقان كبيران هما أمريكا ودولة السوفييت، وأصبحت الدول الأوروبية بأسرها إما تحت النفوذ السوفياتي المباشر، وإما تحت رحمة أمريكا التي تغدق عليهم من مالها الوافر ليعيشوا ويحافظوا على كيانهم ووجودهم. وكأن فرنسا لم تعلم بعد أن كل دولة تأخذ من الدنيا على قدر قواها، وأن المحافظة على إمبراطورية كبرى ممتدة في أطراف العالم تتطلب من الجيوش والأساطيل والطيران والقوات الاقتصادية والمالية ما يكفي للوقوف أمام أكبر الدول المنافسة، وكأن فرنسا لم تعلم أيضا أنها لا تملك هذه القوة اللازمة.
والأعجب أن فرنسا التي كانت طيلة قرون تسير في مقدمة البشرية في بث الآراء الحية الجديدة والدفاع عن حرية الأفراد والمجتمعات، صارت اليوم كأنها في عزلة عن التيارات الفكرية الكبرى التي تسير بالعالم نحو مصيره، فقد تجبرها الظروف أحيانا على مسايرة غيرها، ولكن سرعان ما تتراجع إلى الوراء وتتشبث ببعض المبادئ البالية.
وقد انتصرت أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها مبادئ اعتنقتها غالب الشعوب والدول، واهتز لها كل مظلوم وكل مغلوب على أمره. وكانت أمريكا حاملة لرايتها داعية لها ساعية في تحقيقها، فظهرت في الميثاق الأطلنطي الذي جعله الحلفاء دستورا عالميا لجلب الأمم إلى جانبهم، والذي امتاز بإعلان حق كل شعب في اختيار نظام الحكم الذي يريده، ثم سجلت مبادئه في ميثاق سان فرانسيسكو الذي أسست بمقتضاه هيئة الأمم المتحدة، فالتفتت إليها جميع الأنظار وعلقت عليها الآمال، مع أن الدول الاستعمارية احتاطت لنفسها في ميثاق تلك الهيئة، فضيقت ميدانه وجعلته لا يطالبها إلا بتقديم بعض التقارير فيما يتعلق بالشعوب الخاضعة لها. ولكن تلك الدول لم تتمكن من التملص من توقيع ذلك الميثاق الذي جعل مهمتها في الأقطار التابعة لها تقتصر على إعدادها لحكم نفسها بنفسها، وكانت فرنسا في الواقع لم تغير من سياستها الاستعمارية التقليدية شيئا، ثم إنها وقعت أيضا على ميثاق حقوق الإنسان وخالفته حالا وخرقته بسرعة عجيبة واعتدت على الحريات الفردية والحريات العامة، وقتلت ونكلت وسجنت وعذبت في أكثر مستعمراتها وخصوصا في تونس، فلم تقم وزنا لتلك المواثيق كلها ولم تعترف بها عند التطبيق ولم تحترم توقيعها لها أصلا.
وأعظم ظاهرة للعصر الحديث مقت الاستعمار في العالم بأسره، واعتباره عبودية ورقا والحكم عليه نهائيا بالإزالة، وقد عزز تلك الظاهرة إرادة الشعوب المغلوبة على أمرها في التخلص منه، وإن أدى ذلك بها إلى تضحيات جسيمة، وإن أخل بالأمن العالمي، وإن اكتسح الاضطراب والحرب قسما كبيرا من المعمورة؛ لأن المستضعفين في الأرض والمقهورين والمظلومين والجائعين رأوا في الاستعمار والتسلط الأجنبي بأنواعه أقوى أركان النظام السائد في بلادهم القائم على الفساد والارتشاء وخدمة مصالح بعض الأشخاص أو الجاليات الأجنبية، فتحركت الجماهير الغفيرة التي تعد مئات الملايين بين آسيا وأفريقيا، واستيقظت وتفطنت إلى أسباب دائها وعزمت عزما كليا على جثها من أصولها، وتقدمت لفك الأغلال من رقبتها والتخلص من النير الأجنبي أولا، ومن ذلك النظام البالي ثانيا، ودوى صوت الحرية الهائل في أرجاء الدنيا، وتجاوبت أصداؤه من جزر إندونيسيا وسهول الهند إلى جبال الأطلس بالمغرب الأقصى، فتقطعت السلاسل وتحررت الشعوب وتكونت دول فتية وفتحت أمامها أبواب المستقبل على مصراعيها، وكأن دولة أوروبا قد دالت فتقلص ظلها عن بلد بعد بلد، وكلما ولد مولود جديد من تلك الشعوب التي كانت ترزح تحت الاستعمار، تعزز به جانب الحرية في العالم، وازدادت الدول الاستعمارية ضعفا، وتقهقرت الروح الاستعمارية، وأحرزت هكذا غالب أمم الأرض استقلالها: الهند وباكستان وبورما وسيلان وإندونيسيا وسوريا ولبنان وليبيا والحبشة. وقد حصلت شعوب أخرى على حكمها الذاتي في سيرها نحو استقلالها.
وهل يمكن أن تقف موجة الحرية التي اكتسحت العالم عند حدود تونس؟ أم توهم الفرنسيون أن هذا التيار البشري الجبار سيتعطل أمام ما وضعوه من سدود وضربوه من حصار شديد حول المغرب العربي خاصة وبقية الإمبراطورية الفرنسية عامة؟
أولم يعلموا أن النطاق الحديدي الذي أرادوا به عزل تونس عن بقية الدنيا لا يمكن أن يوقف حركة شعب ونهضة أمة أرادت إرادة فعالة أن تحيا من جديد حياة العزة والكرامة، بل لم يزدها ذلك النطاق المفروض إلا شوقا إلى الاتصال بالشعوب الشقيقة وإلى الخروج إلى الهواء الطلق الحر، فخرق التونسيون الوطنيون السد الفرنسي المنيع من كل جهة، وخرجوا بقضيتهم إلى الميدان العالمي، ووجدوا جميع تلك القوات الفتية المعادية للاستعمار تناصرهم وتشد أزرهم، فقد أصبحت تلك الدول الجديدة تشارك مشاركة حقيقية في سياسة العالم. وينبغي هنا ألا ننسى أن عددا وافرا من شعوب الدنيا قد ذاق في السابق مرارة الاستعمار، وبقيت آثارها في فمه إلى يوم الناس هذا؛ ولذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ودول أمريكا الجنوبية (الأرجنتين، والبرازيل، والشيلي، وبوليفيا وغيرها ...) تبغض الاستعمار طبيعة وجبلة؛ ولذا كان من المتوقع أن تقف تلك الدول التي حصلت على استقلالها في القرن الماضي أو في أوائل هذا القرن لجانب الدول الآسيوية الأفريقية التي رفعت لواء مكافحة الاستعمار. فلا غرابة إذن في أن تجد تونس أعظم قوات العالم - الأدبية والمادية - تعطف عليها وتميل إلى مساعدتها على التخلص من ذلك الاستعمار البغيض، فأصبحت المعركة في كنهها بين الماضي والمستقبل، ففرنسا وقواها تسعى للمحافظة على النظام القديم البالي، وتسعى تونس وأنصارها إلى تحقيق نظام أساسه العدل والحرية والمساواة بين الأمم الصغيرة والكبيرة يضمن للبشرية سلامتها ورفاهيتها، ولا يكون الانتصار إلا للمستقبل.
وقد دهشت فرنسا لأنها تعيش في برجها العاجي فيما يتعلق بالاستعمار، عندما رأت الكتلة الآسيوية الأفريقية تتكون للدفاع عن تونس، وزادت دهشتها لما سجلت القضية التونسية في جدول أعمال هيئة الأمم، وأخيرا لم تحر جوابا، فانسحبت من الجلسة العامة التي أثيرت فيها القضية، ولم تحتمل أن تجلس على كرسي الاتهام، ولفرط استغرابها وبعدها عن الواقع العالمي المحسوس قررت حكومتها عدم الاعتراف بهيئة الأمم في هذه القضية وكأنها نسيت - أو تناست - أنها وقعت ميثاق هيئة الأمم، وأن عملها هو تهديم لتلك المنظمة العالمية. وقد أصرت على موقفها حتى رأينا رئيس وزرائها «بيني» يصرح في «كواليس» مجلس النواب الفرنسي «أن فرنسا لن تقيم وزنا لأي قرار تتخذه الأمم المتحدة في القضية التونسية»، و«أن فرنسا سترفض رفضا باتا السماح بالدخول إلى تونس لأي لجنة تعينها هيئة الأمم» (أكتوبر 1952).
ورأينا أيضا فرنسا تثور وتبرق وترعد ضد كل دولة وكل شعب نصحها بحل الأزمة التونسية حلا عادلا، فكانت صحفها تشن الحملات المسمومة ضد شعوب آسيا وأفريقيا وتشكو باكية من موقف الرأي العام الأمريكي من استعمارها؛ لأن القسم الأكبر من الصحف والمجلات الأمريكية كانت واقفة بجانب تونس تدافع عن الحق والعدل، وقد طالبت بعضها الحكومة الأمريكية ألا تخون الحرية وألا تعزز الاستعمار في العالم، فنشرت مثلا جريدة «وشنجطن بوست» المعروفة بتأييدها للسياسة الخارجية الأمريكية مقالا افتتاحيا في 2 / 4 / 1952 قالت فيه:
إن قرار الحكومة الأمريكية الخاص بالامتناع عن التصويت عند نظر شكوى تونس ضد فرنسا في مجلس الأمن قرار يدل على الجبن، وإن الدبلوماسية الأمريكية تلقت الصفعة التي تستحقها من يد مندوب الباكستان، إن اشتراك الولايات المتحدة في منظمة حلف شمال الأطلنطي يجب ألا يكبل حريتنا في ميدان الشئون الخارجية.
وإذا كانت الدبلوماسية الأمريكية مهتمة بحماية مصالح دول أوروبا الاستعمارية، فما علينا إلا تغيير موقفنا كدولة عالمية وإعادة النظر فيما يتعلق بمصالحنا والسير طبق سياسة خارجية مختلفة تمام الاختلاف عن السياسة التي نسير عليها.
وإن أمريكا وإن لم تؤيد في أول أمرها تسجيل القضية التونسية في جدول أعمال الجلسة العامة لهيئة الأمم المنعقدة بباريس عام 1951-1952 ولا مناقشتها في مجلس الأمن بنيويورك، إلا أنها نصحت فرنسا المرة تلو المرة بوجوب تغيير سياستها بتونس والبر بوعودها لها. ولما رأت تعنت فرنسا سلمت لحكومتها مذكرة رسمية تطالبها بذلك، فقامت قيامة فرنسا إذ ذاك، واجتمع مجلس وزرائها بعد أن رفض «بيني» قبول تلك المذكرة أصلا، ونشر بلاغا باسم الحكومة الفرنسية في 6 / 10 / 1952 جاء فيه: «تقرر أننا لن نقبل أي تدخل في المسائل التي هي في جوهرها من اختصاص السيادة الفرنسية.»
وتوترت العلاقات بين الولايات المتحدة وفرنسا؛ إذ علم كل واحد أن الحكومة الفرنسية تقصد بالتدخل الأجنبي تدخل أمريكا نفسها، ويعتبر الرأي العام الفرنسي كل مناقشة لقضية تونس في هيئة الأمم إنما تقع بإرادة أمريكا أيضا.
فبدلا من أن تنظر فرنسا إلى الحقيقة وتعترف بالواقع وتغير سلوكها فتجلب لنفسها العطف والتقدير، ألصقت التهم بغيرها ظنا منها أن تعنتها وتمسكها باستعمارها ووقوفها لأجله ضد العدو والصديق والخصم والحليف، سيضمن لها بقاء إمبراطوريتها كما هي. فإذا بالرأي العام العالمي ينقلب ضدها في هذه القضية ويعرفها بالحقائق المرة التي أرادت تجاهلها.
وإننا نختار من بين مئات المقالات التي كتبت في هذا الصدد في أمريكا الجنوبية وألمانيا والنمسا وسويسرا وإيطاليا وبلجيكا والدانيمرك والنرويج والسويد كلمة نشرها الكاتب السويدي الحر جونار مولليرن
Gunnar mullern
في جريدة أفطون بلادت الصادرة باستكهولم بتاريخ 1 / 4 / 52 قال:
مسكين مسيو بيني! الرئيس المؤقت للحكومة الفرنسية الممثل لفرنسا الضعيفة الهرمة البعيدة عن كل بعث وازدهار، ولقد أصبحت فرنسا المثال الأول لما للترميم من عيوب مضحكة وعجز.
وإن فرنسا - كبريطانيا العظمى - عرضة لأزمة التناقص، ولكننا بينما نرى الإنجليز يتبعون سياسة رشيدة يكذبون بها «سالوست» المؤرخ الروماني الذي يقول إن المحافظة على الإمبراطورية لا تكون إلا بالطرق التي كونتها، ويقيمون الدليل على أنه يمكن أن تقام الإمبراطورية على أساس المحبة المتبادلة واحترام التقاليد المتغايرة؛ نرى الفرنسيين يتبعون بتونس سياسة مبناها العنف كأن فرنسا ما زالت دولة قوية عسكريا واقتصاديا وأدبيا.
وبما أن أساس أعمالها هو الظلم، فمن الصعب أن نظن أن الخاتمة ستكون لمصلحتها، وأن الفرنسيين يكونون على جانب من الذكاء لو أنهم قلدوا الإنجليز المتيقظين، لكي يجدوا حلا للنزاع القائم مع المكافحين لتحرير تونس.
ومن الغريب أن الفرنسيين الذين أظهروا تفانيهم في حب الحرية مدة الاحتلال الألماني لبلادهم، هم نفس الفرنسيين الذين لا يحترمون ذلك الحب عند غيرهم.
ولو أن فرنسا تصل إلى فرض شروطها باستخدام جنود «اللفيف الأجنبي»، ولو أنها ترمي في المعركة بجميع القوات التي لديها فتقهر مؤقتا المقاومة الوطنية التونسية؛ فإن ذلك الحل لا يكون إلا إلى حين، لأن ما يقع اليوم في تونس ليس بالأمر الخاص بها فحسب، بل هو أمر يشبه نشوب الحريق في مزرعة حبوب، وأن اللهيب سيلتهم لا محالة جميع ما اسمه إمبراطورية استعمارية أو نصف استعمارية.
عبثا تحاول فرنسا تعطيل سير البشرية، فالقوات الطبيعية لا ترد ونواميس الكون لا تغلب، وتونس تسير مع البشرية في تطورها؛ ولذا رأينا قضيتها تتقدم في الميدان العالمي بخطى ثابتة وتعزز في كل يوم بقوات جديدة.
ورأينا أخيرا هيئة الأمم تبحث المشكلة التونسية في جمعيتها العامة بنيويورك (ديسمبر1952) وتتخذ في شأنها قرارا، فتجزم هكذا خلافا للرأي الفرنسي أن من اختصاصها النظر في المشكلة التونسية ومن حقها إصدار القرارات في شأنها واتخاذ الوسائل اللازمة لحلها. (3) المشكلة التونسية في الميدان الفرنسي
إن المشكلة التونسية احتلت مكانا ممتازا في سياسة حكومات فرنسا المتوالية ولدى الرأي العام الفرنسي وفي مناقشات البرلمان، وانكب عدد وافر من ساسة فرنسا ومفكريها بالبحث والتحليل على السياسة الفرنسية بتونس، فرأوها غامضة مبهمة المعالم مضطربة في سيرها متناقضة في أهدافها، حتى قال فيها «ميتران» ص86:
إن ضروريات الحرب في الشرق تفرض علينا متناقضات عجيبة. إننا نطالب بالمساعدة الأمريكية في الهند الصينية، ولكننا نحتج على تدخل الولايات المتحدة في شمال أفريقيا. إننا نخدم بكل حماسة القضية الوطنية الفيتنامية، ولكننا نبعث ب «بورقيبة» إلى المنفى. إننا نتوجه إلى هيئة الأمم لو تحركت الصين، ولكننا نزعم عدم اختصاص الهيئة في قضيتي مراكش وتونس. إن السياسة ليست هي المنطق، بيد أن الوحدة الفرنسية لن تتحمل مثل هذه المتناقضات البالغة.
وكأن ساسة فرنسا لم يفطنوا بعد أن ذلك التناقض الذي سيفضي بالإمبراطورية الفرنسية إلى التفكك والانهيار، ناتج عن الصدمات العنيفة والتيارات الجارفة التي تتلقاها من الداخل والخارج، وهو ناتج عن تمسك فرنسا بسياسة استعمارية تقليدية لم ترد تبديلها، قائمة على مبدأ أن: «الاحتلال العسكري لبلاد مستعمرة يجد مبررا له في أهمية الغنائم» التي يجنيها منها.
وللاستعمار الفرنسي بتونس دعامتان: الاحتلال العسكري ومعاهدة «باردو» الناتجة عنه. ولذا نرى جميع الساسة الفرنسيين من ذوي المسئولية وجميع الحكومات تتمسك دوما بذلك الاحتلال وبتلك المعاهدة؛ أي تتمسك بكنه الاستعمار وجوهره حتى لا تفلت تونس من براثن فرنسا. وعندما يتكلمون عن الاستقلال الداخلي، فسرعان ما يحترزون ويقولون: «ضمن معاهدة باردو»، وهذا «ميتران» الداعي إلى وجوب إرضاء التونسيين يقول:
يبدو واضحا أن معاهدة باردو إذ تركت لفرنسا ميدانا خاصا مع احترام الاستقلال الداخلي للبلاد التونسية، قد وضعت بذلك قواعد قوية لإقامة نظام فيدرالي، يكون العقبة الوحيدة دون الانتشار العظيم الذي تلقاه الأماني الاستقلالية.
ثم يضيف إلى ذلك:
كان يجب التمسك باحترام معاهدة باردو وما ترتب عليها من نتائج دبلوماسية وعسكرية.
أما الاستعماريون المتطرفون وخصوصا ممثلو الجالية الفرنسية بالمغرب العربي ومن يساعدهم من علماء القانون الذين اشتهرت فرنسا بهم، كالأستاذ لويس ميلو
Louis Millot ؛ فينكرون إنكارا باتا تاما وجود سيادة تونسية، كما صرح به الجنرال أومران
Aumeran
نائب المستعمرين الفرنسيين بالجزائر في البرلمان الفرنسي في جلسة يوم 5 / 6 / 1952 قائلا:
ولم توجد أبدا سيادة تونسية لا في الواقع ولا شرعا ولا عقلا.
منطق عجيب لا يفهمه إلا المستعمرون، فكيف تعاقدت إذن تونس مع فرنسا ومع غير فرنسا قبل الحماية وبعدها بمعاهدات متعددة متنوعة؟ نعم يجيب الساسة الفرنسيون على ذلك أن فرنسا لم تتعاقد قط مع تونس، بل تعاقدت مع باي تونس فقط - وهو صاحب المملكة - وقد تنازل عن بعض اختصاصاته للدولة الحامية، فيبدلون الواقع المحسوس ويخترعون الأباطيل، ويتلاعبون بالألفاظ ليبقوا أحرارا في استثمار البلاد والتحكم في مصيرها، معتمدين في الحقيقة على القوة المجردة وحدها.
ولما ارتفعت الأصوات في العالم بنقدهم والتشهير بهم، أجابوا الحكومات الأجنبية والرأي العام العالمي بما أجابوا به من قبل التونسيين أنفسهم، وأرادوا أن يحتجوا بما كونوه في البلاد التونسية لوجوب بقائهم بها ، وأخذوا يعددون ما عبدوه من طرق ومدوه من سكك حديدية، وما أنشئوه من أدوات عصرية، وما شيدوه من مدارس ومعاهد للعلم، وما أحدثوه من مستشفيات ومستوصفات، وما استخرجوه من مناجم ومعادن، حتى انقلبت ضجتهم ضدهم وقال لهم السيد ظفر الله خان وزير خارجية باكستان في هيئة الأمم:
إذا كانت الأرقام التي قدمتموها حقا، فإن تونس أكثر تقدما وأوسع نهضة من باكستان نفسها، والباكستان مستقلة فينبغي أن تكون تونس مستقلة قبلها.
ومن البراهين المضحكة التي يلوكونها ويكررونها من غير ملل زيادة عدد السكان في البلاد التونسية. ومن الملاحظ أن عدد السكان بتونس لا يزداد في الواقع إلا في الجهات المبرأة من الاستعمار الفرنسي، أما في النواحي التي تمكن منها ذلك الاستعمار؛ فإن عدد السكان في تناقص، أضف إلى ذلك أن نمو السكان في ازدياد أسرع في البلاد التي لم تعرف الفرنسيين واستعمارهم، مثل الهند وباكستان ومصر، فهو أمر طبيعي خارج عن مؤثرات الدول الغربية كلها.
وقد اتسع التذمر من الحكومة الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية في الرأي العام الفرنسي نفسه على تفريطها في الممتلكات الفرنسية وعدم صيانتها من الضياع، فمنهم من يطالب بالمحافظة على الكل سيادة وثروة وناموسا، ومنهم من يريد تطورا في الألفاظ وفي بعض المظاهر وإبقاء الجوهر، والكل متفقون على الاستعمار في كنهه.
ويوضح لنا «ميتران» تلك الفكرة في الكلمات الآتية:
إن المسئولين فينا بدلا من أن يبحثوا عن العناصر الثابتة للقوة في العهد الحديث فيوفروها، وبدلا من أن يعملوا على كسبها والمحافظة عليها؛ اكتفوا بالمظاهر الخيالية للهيبة. لقد كنا في سنة 1939 متخلفين بحرب واحدة، وفي سنة 1953 أصبحنا متخلفين بقارة واحدة.
إن امتلاك الثروة التي تحت الأرض ونشر التعليم وتحديد العملة ومراقبة الصرف واحتلال المناطق الاستراتيجية، وتنظيم الجيش والدبلوماسية على أساس جماعي؛ تلك هي المسائل الأصلية التي وقع إهمالها فأصبحت مهددة، ولكن يوجد في البلاد التونسية عدد من المراقبين المدنيين أكبر من عددهم سنة 1938! كسل في التفكير ثم جرأة لا تنظر للعواقب، ذلك ما يمتاز به هذا الضعف الذي يتجلى بمظاهر القوة ببراعة كبيرة حتى يخيل لمعظم الفرنسيين أنها القوة بعينها.
وإننا شاهدنا ظاهرة جديدة بفرنسا إثر الحرب العالمية الثانية، فالرأي العام بها كان يقف في الغالب إلى جانب المظلومين والمقهورين والمستضعفين إذا بلغته جنايات الفرنسيين أنفسهم في المستعمرات، فقام المستعمرون من أبنائها سواء كانوا بباريس أو ببقية الإمبراطورية وخصوصا بالجزائر، بعمل واسع النطاق بذلوا فيه أموالا طائلة للسيطرة على قسم كبير من الصحف والمجلات واستمالة عدد وافر من الساسة الكبار وإيصال معتنقي فكرتهم الاستعمارية إلى زمام الحكم، فأثروا هكذا تأثيرا واسعا عميقا بفضل دعاية مغرضة مسمومة دائمة، وأصبح عدو التونسيين مارتيونو ديبلا
Martinaud Déplat
وزيرا للعدل ودي شوفينييه
De Chevigné
الوالي العام السابق بمدغشقر الذي قتل على يديه أكثر من مائة ألف ملغاشي وزيرا للحرب، والجنرال «جوان» من قواد جيش الأطلنطي الذي انهالت عليه الألقاب والتشريفات، فبات مارشالا وعضوا في المعهد العلمي
l’Académie française
وذا كلمة نافذة في السياسة الفرنسية.
وإذا بالرأي العام الفرنسي يظهر اهتماما بشئون الإمبراطورية ويتعصب في مجموعه للاستعمار مع جهله لحقيقته وواقعه، ويرتمي ارتماء ضد الجزائريين والملغاشيين والفيتناميين والتونسيين، مستنصرا - في ظنه - لفرنسا وناموسها، منساقا بغير تفكير لعبارات جوفاء رنانة. وقد حلل أحد الساسة الفرنسيين تلك العقلية فقال: ... إن جانبا كبيرا من الرأي العام عندنا لا يزال يتصور التوسع الاستعماري حسب أقدم مظاهره وأكثرها سخافة وإثارة للشعور، فالرأي العام يجهل من جهة التغييرات التي حدثت منذ انتهاء الحرب في جميع الأقطار الواقعة تحت الوصاية والتي لا تتمتع بالحكم الذاتي، وهو من جهة أخرى يتمسك ببعض النظريات السخيفة، فمعلوماته تقتصر على بعض العبارات المثيرة التي تمنعه من التفكير، ولا يمكن أن نتصور إلى أي حد عقمت أعمالنا وشلتها عبارات مثل «اجتنبوا الفضيحة» و«لا توجد ترجمة آسيوية لكلمة الحقيقة» و«في أفريقيا لا يحترمون إلا السوط»، إن ما تتضمنه هذه العبارات من ملاحظات بسيطة تتخذ مبررا للمواقف السياسية، وحتى لتشييد نظريات تترتب عليها قرارات حكومية.
ولم تنفذ تلك الدعاية الاستعمارية إلى الجماهير الشعبية وحدها، بل تأثر بها أيضا عدد وافر من المفكرين والساسة حتى أصبحوا يرون في كل من يطالب بحقوقه وحقوق بلاده عدوا لفرنسا ينبغي الإسراع إلى القضاء عليه، ويتوهمون أن الحركات الاستقلالية في البلدان التابعة لفرنسا إنما مصدرها من الخارج والمحرك لها الأجانب، وصور لهم خيالهم الشيوعية في كل مكان ثم نسوها، ورأوا شبح أمريكا ودولاراتها والجامعة العربية ودعايتها والحركات الآسيوية ومفعولها، ولم ينتبهوا إلى نهضة الشعوب المغلوبة على أمرها وتعطشها إلى الحرية، فبقوا يحاربون خيالات وأوهاما، ولم يريدوا التنازل عن أي سلطة وأي نفوذ للشعوب التي وضعها حظها المنكود تحت الحكم الفرنسي، فتعجب منهم أحد المتمسكين بمعاهدة «باردو»، وهو «ميتران» الذي قال ينقدهم:
إنه لعجيب أن نسمع بعض الساسة المعتدلين يستنكرون مطالب الحزب الحر الدستوري الجديد الخاصة باستقلال ذاتي حقيقي، ويختفون في طيات العلم الوطني كلما طلب مثلا تعيين وزير تونسي لشئون التعمير أو أبدى أملا في إيجاد «دولة مشتركة» في أفريقيا. إن وجود جيش وطني تونسي ودبلوماسية تونسية باتصال دائم مع القاهرة وروما وموسكو وواشنطون، لا يثير تخوفاتهم بقدر ما يثيرها إنقاص عدد الموظفين الفرنسيين في الإدارة المباشرة أو تيسير الشئون البلدية بهيئة منتخبة من قبل هيئة انتخابية موحدة!
وفرنسا في سياستها نحو الإمبراطورية عامة وتونس خاصة عجزت عجزا ظاهرا عن متابعة الظروف العالمية والداخلية، ولم تعرف كيف تتكيف لمجاراتها، ولم تتعظ بالدروس القاسية التي تلقتها في مختلف أنحاء العالم، فانجلت عن سوريا ولبنان صاغرة مقهورة، وأضاعت قواها العسكرية والمالية في حرب طاحنة لا هوادة فيها في الهند الصينية، ولم تعتبر بالعبر والشدائد التي قاساها غيرها من الدول، كأنها لم تر هولاندا تغادر إندونيسيا إلى غير رجعة، وأن تشاهد بريطانيا تعطي استقلال الهند طواعية، ولم تتفطن إلى انهيار إمبراطوريتها نفسها وتقطع أوصالها وانفصال أجزائها، ولم تراع العوامل والقوات التي تؤثر تأثيرا مباشرا على الوحدة الفرنسية كما قال أحد ساساتها: ... إن اجتماع الوطنية والشيوعية وما اتفق على تسميته بهذا الاسم الغامض: الاستعمار، كان من المتحتم أن يؤدي إلى انفجار: اثنان ضد واحد، فهل تكون الكلمة الأخيرة للقوة؟ وهكذا تتعرض الوحدة الفرنسية الناشئة من مؤتمر برازافيل، ومن دستور 1946 إلى تطورات مختلفة، فلاقت حوادث قاسية في مدغشقر وساحل العاجل وتعرضت لهزائم في تونس ومراكش، وتفككت في تونكان ولاوس وكمبوديا في الهند الصينية. (4) الجالية الفرنسية ودورها في المشكلة التونسية
لقد عجزت الحكومات الفرنسية أو تظاهرت بالعجز عن حل مشكلة تونس التي لا تزيدها الأيام إلا تشعبا وتعقيدا، لما تتمتع به جاليتها من نفوذ كاد يكون مطلقا ومن امتيازات فاحشة جعلتها المتصرفة الحقيقية في مصير البلاد وحظوظ العباد، وإذا ما ظهرت الحكومة الفرنسية بمظهر الحكم بين تلك الجالية والشعب التونسي، فإنها تكون دائما حكما ظالما يعزز جانب مواطنيه ويطلق يدهم ويسعى في منحهم حقوقا جديدة، فأصبحت تلك الجالية الفرنسية أكبر عبء على تونس، وأرادت فرنسا أن تظهر أن المشكلة التونسية في جوهرها وكنهها نزاع بين جاليتها وبين الشعب التونسي، وهي تعلم علم اليقين أن احتلالها العسكري للبلاد هو الذي مكن لتلك الجالية التي باتت أكبر مانع لكل تفاهم، وهي في الحقيقة نتيجة لسياسة التعمير التي تبعتها فرنسا منذ احتلت تونس رامية من وراء ذلك إلى فرنسة البلاد وإلحاقها بالتراب الفرنسي.
وكان عدد الأوروبيين عند توقيع معاهدة «باردو» (1881) لا يفوق العشرات، فأصبح اليوم حسب الإحصاءات الفرنسية نفسها 239,549 نسمة منهم 140 ألف فرنسي، وقد أرادت فرنسا أن تعطي لتلك الأقلية من الفرنسيين حقوقا سياسية بتونس، فتشركهم مناصفة في الحكومة التونسية والبرلمان التونسي وجميع مؤسسات الدولة، مع أنهم أجانب لا يمكن قانونا وشرعا أن يكون لهم حق المواطن في بلاد أجنبية مرتبطة ببلادهم بمعاهدة دولية.
فما هي هذا الجالية الفرنسية؟ وما هو تركيبها؟
كانت فرنسا خلال السبعين سنة الأخيرة قليلة الولادات ضعيفة النسل، فلم تتمكن من إرسال عدد وافر من أبنائها إلى تونس؛ ولذا كان الفرنسيون الذين من أصل فرنسي أقلية ضئيلة في تلك الجالية، ومعظم تلك الأقلية من جزيرة كورسيكا - لغتهم لهجة إيطالية وجنسيتهم فرنسية - التي يمتاز أهلها بالجهل والفقر والتعصب الأعمى وروح الانتقام، فنزلوا على تونس كرجل جراد وانهمكوا في استثمارها والاستيلاء على خيراتها ، إلى أن أصبح رئيس الجالية الفرنسية كلها كورسيكيا على الدوام كأسرة مالكة يتعاقب أصحابها على العرش من جالليني
Gallieni
إلى جودياني
Gaudiani
إلى كازابيانكا
Casabianca
وكولونا
Colonna ، وتلك أسماء إيطالية أعجمية بالنسبة لفرنسا.
أما الأكثرية فإنها خليط من جميع الأجناس والفرق والبلدان، أتت بهم فرنسا من كل صوب وحدب، فقبلت المشردين واللاجئين غير المرغوب فيهم في أوطانهم من روس بيض ويوغسلافيين ويونانيين وألمان وإسبان ومالطيين وإيطاليين، فكانت فرنسا تمنحهم الجنسية الفرنسية وتفتح لهم أبواب الرزق وتدخل أبناءهم المدارس الفرنسية لتنسيهم لغتهم، وإذا بهم يصبحون أسيادا متحكمين مهيمنين ينظرون إلى التونسي من عليائهم ويحتقرونه ويرون أنفسهم أصحاب البلاد، قد اكتسبوا من الحقوق ما ليس له.
وقد اتبعت فرنسا لتثبيت أقدامها سياسة توزيع أراضي التونسيين عليهم أو مساعدتهم على الاستحواذ عليها بشتى الطرق. وبما أن تونس بلاد فلاحية قبل كل شيء، انتقلت ثروة البلاد إلى أيدي هؤلاء الأجانب، وقد عقد الدكتور ثامر فصلا في كتابه «هذه تونس» أعطى فيه الموضوع حقه من البحث، جاء فيه:
لأجل أن تسيطر فرنسا تمام السيطرة على الناحية الاقتصادية في البلاد، وجهت همها إلى الاستيلاء على الأراضي الزراعية، فاتخذت كافة الوسائل الممكنة - وفي مقدمتها إصدار التشريعات المختلفة - لانتزاع الأراضي من يد التونسيين وإقرار الفرنسيين بها، فأصبح هؤلاء الفرنسيون هم المتحكمين في حياة البلاد الاقتصادية.
ثم تساند المستعمرون الفرنسيون مع الفرنسيين أصحاب رءوس الأموال المسيطرين على الحياة التجارية والصناعية، ومع رجال الإدارة الذين بيدهم توجيه السياسة المالية في البلاد، وبذلك أصبح الشعب التونسي مهددا بالفقر أمام هذه القوى التي تسندها السلطة التشريعية والتنفيذية في البلاد.
ولأجل أن نعلم مقدار الظلم الذي حاق بالتونسيين من الناحية الزراعية، يكفي أن نستعرض الوسائل التي اتخذتها السلطة الفرنسية للاستيلاء على أراضي تونس الزراعية.
تبلغ مساحة الأراضي التونسية الصالحة للزراعة تسعة ملايين من الهكتارات، من مساحة المملكة التونسية التي تقدر باثني عشر مليونا ونصف من الهكتارات.
وكانت كل هذه الأراضي بطبيعة الحال - قبل الحماية - تحت تصرف الأهالي، يعيشون من محصولاتها ومن تربية المواشي في مراعيها، وكان بعضها ملكا للدولة أو للأفراد، أو ملكا مشاعا بين القبائل، والبعض الآخر تابعا للأوقاف العامة أو الخاصة.
وما كاد الاستعمار يضع أقدامه في البلاد، حتى اتجه إلى كل قسم من هذه الأقسام، ورسم الطريق للاستيلاء عليه، سالكا سياسة واحدة متتابعة الحلقات طول مدة الاحتلال.
ولما كانت فرنسا مهد القانون الحديث، فإن فقهاءها لم يعدموا الحيل القانونية لانتزاع الأراضي من العرب، فاتخذ القانون مطية لتنفيذ أغراض الجشع الاستعماري، وخلعت فرنسا على سياسة السلب والنهب التي انتهجتها في البلاد التونسية ثوبا من المشروعية، وكل من أمعن النظر في سلسلة تلك النصوص التي أنشئت من العدم لهذا الغرض وتتبعها، يتضح له جليا ما ارتكبته فرنسا من فظائع باسم القانون.
1 (5) أملاك الدولة الخاصة
تقدر أملاك الدولة التونسية الخاصة - قبل عهد الحماية - بمساحة لا تقل عن مليون من الهكتارات، كان للأهالي حق استغلالها، وقد وضع المصلح الكبير الوزير خير الدين برنامجه الواسع لتوزيعها بين الفلاحين، مانحا كلا منهم قطعة أرض مساحتها عشرون هكتارا، ونفذ البرنامج بصفة خاصة بمنطقة زغوان.
وقد بادرت الحكومة الفرنسية بانتزاع ملكية هذه الأراضي من يد الفلاحين التونسيين، وتركت لهم في الأول حق استغلالها، ثم ما لبثت أن طردتهم منها وأقرت فيها «المعمرين الفرنسيين»،
2
وتلا هذا الإجراء صدور الأمر المؤرخ في 13 يناير 1896 الذي يقضي بإلحاق «الأراضي البور» بأملاك الدولة، فأخذت سلطة الحماية على عاتقها تحديد الأراضي البور، وراحت تدخل ما تشاء من الأراضي في هذا النوع، معتدية بذلك على حرية الملك الفردية، وتوالت اعتداءاتها على أصحاب الأملاك تحت هذا الستار. (6) أراضي الغابات
يوجد بتونس غابات وأحراش شاسعة بالمنطقة الشمالية تبلغ مساحتها مليونا وتسعة عشر ألف هكتار، وقد عمدت فرنسا إلى الاستيلاء عليها منذ بدء الحماية، وأصدرت أمرا بتاريخ 4 أبريل سنة 1890 يقضي بإدخالها ضمن أملاك الدولة الخاصة.
ثم أصدرت أمرا بتاريخ 22 يوليو سنة 1903 يتضمن وضع حدود نهائية لهذه الغابات، وكان الغرض الحقيقي لهذا الأمر إنما هو اغتصاب أراضي السكان المجاورة لهذه الغابات، وتضمن هذا الأمر النص على أنه لا يمكن قبول أية دعوى تتعلق بحق الملكية بعد إتمام عملية التحديد، وكانت عملية التحديد تتم في الخفاء، حتى إن أكثر الملاك - وأغلبهم من البدو - ما كانوا يعرفون إجراءات هذا التحديد إلا بعد فوات أوانها، وقد عجز أكثرهم عن تقديم رسوم ملكيتهم؛ إذ كانوا يتصرفون في أراضيهم منذ أجيال، ومن ذلك الحين تعددت المنازعات بين السلطة الفرنسية والأهالي في هذا الشأن؛ إذ وقع إقصاء الكثيرين عن أراضيهم، وسلطت الإدارة الفرنسية الغرامات الفادحة على من عاد إلى التصرف فيها، ثم صدر أمر في 6 يونيو سنة 1928 بتأسيس لجنة للفصل في هذه المنازعات، وأعقبه أمر آخر في 26 ديسمبر سنة 1928 ينص على ضم نائبين من التونسيين إلى اللجنة، ومهمة هذه اللجنة هي فحص صحة المستندات التي تقدم إليها من حيث إثباتها للملكية.
ومن أغرب ما ورد من نصوص في سبيل اغتصاب ملكية الأراضي التونسية، ما جاء في الأمر الصادر في 26 ديسمبر سنة 1938 من أنه لإثبات حق المدعي يشترط أن تكون الأرض بها حرث أو نبات أو بناء، وأن لا ملكية ما لم يتوفر هذا الشرط، ولو كان بيد المالك عقود تثبت صحة الملكية. وقد ثار الرأي العام لهذا الاستبداد والجور، فكان جواب السلطة الفرنسية أن أصدرت أمرا بتاريخ 20 مايو 1930 بفصل العضوين التونسيين من لجنة المنازعات حتى لا يبقى بها من يمثل حقوق أصحاب الأملاك المغتصبة.
وقد ارتكبت فرنسا لتحقيق أغراضها واعتداءاتها على الملكية الفردية للأراضي المجاورة للغابات أشنع الفظائع، واستعملت في هذا السبيل شتى الوسائل والمناورات غير المشروعة، ونذكر على سبيل المثال أن السلطة الفرنسية طلبت من الفلاحين في جهة فريانة سنة 1934 أن يسلموا للإدارة مستنداتهم لملكية الأراضي بدعوى الاطلاع عليها مقابل إيصالات، ثم استردت الإيصالات، وامتنعت عن تسليم المستندات لأصحابها، وأسرعت إلى تسجيل تلك الأراضي تحت ملكيتها، ووضعت يدها على ما فيها من مبان وبساتين.
وفي سنة 1938 حملت سلطة الحماية الفلاحين على الاعتراف بملكيتها لتلك الأراضي مقابل بقائهم لزراعتها، وألزمت كل فلاح بدفع إيجار سنوي، وهكذا أصبح المالك مستأجرا والغاصب مالكا. ومن أمثلة هذا أن سلطة الحماية انتزعت من الفلاحين المجاورين للغابات بجهة عين الدراهم مساحات تتراوح بين الهكتارين والعشرين هكتارا، ووقع هذا الاعتداء في ثماني عشرة «شياخة» وبلغت ما اغتصب من شياخة واحدة منها وهي شياخة الفويدية ثلاثمائة هكتار بما عليها من نبات ومبان، وقد أرغم ملاك هذه الأراضي على ترك ديارهم وأراضيهم أو يعترفون بملكيتها للدولة، ويدفعون جعلا سنويا، وعندئذ تباح لهم فقط الإقامة فيها على سبيل العمرة.
هذا بالإضافة إلى أن السلطة الفرنسية قد اتخذت مسألة حراسة الغابات وسيلة إلى الاضطهاد، فأرسلت إلى الغابات جيشا من الحراس الفرنسيين يفرضون على الفلاحين التونسيين الغرامات تلو الغرامات، وراح الحراس يهاجمون الأهالي في عقر دورهم ويعتدون على نسائهم تحت ستار تنفيذ القانون والتفتيش عن أخشاب الغابة؛ كل هذا باسم القانون والمدنية والإصلاح.
وقد وصل الأمر إلى حد اعتبار أوراق الشجر التي تعبث بها الرياح وتلقيها على الأرض سيما في فرض الغرامات المتتالية، والحجز الإداري، وبيع مواشي الفلاحين لتسديدها. وهكذا أصبح هؤلاء الفلاحون تحت رحمة حراس الغابات، توقع عليهم أنواع الظلم المختلفة والاعتداءات المتوالية على أموالهم وبيوتهم ونسائهم، وغدوا في حالة من البؤس والفقر أصبحت مضرب الأمثال.
وتتصل بمسألة أراضي الغابات مسألة المياه التونسية التي صارت بأمر مؤرخ في 24 سبتمبر 1885 من أملاك الدولة الخاصة، ومسألة المياه في منطقة الجنوب لها نفس أهمية الأراضي الزراعية في مناطق أخرى؛ إذ تتوقف عليها حياة الواحات التي يعيش منها أهل الجنوب، وكانت العيون قبل الحماية ملكا للأفراد ولها نظام خاص في توزيعها على السكان لم يتغير منذ عهد قديم، وفي السنوات الأخيرة بدأ الاستعمار يتسرب إلى منطقة الجريد، وأقطعت السلطة الفرنسية الأراضي إلى المعمرين الفرنسيين لزراعتها نخيلا وحولت إليها المياه معتدية على حق السكان الذي توارثوه منذ أجيال. (7) أراضي القبائل
يوجد بتونس أراض شاسعة تتصرف فيها القبائل منذ أجيال، وهي ملك مشاع بينها، وتسمى «بالأراضي الكلية»، وقد عمدت سلطة الحماية إلى إلحاقها بأملاك الدولة، بدعوى أن القبائل لا حق لها في هذه الأراضي؛ إذ لا تملك رسوم ملكيتها، وأصدرت في هذا الشأن أمرها المؤرخ في 14 يناير 1951.
وقد أيدت المحكمة المختلطة هذه النظرية بتاريخ 22 فبراير سنة 1904 مقررة أن القبائل بتونس ليس لها «نظام الجماعات» الذي يجعل لها شخصية قانونية، فالأرض الكلية غير معترف بها قانونا؛ لأن القبيلة نفسها ليست لها شخصية قانونية، واعتمادا على هذا القرار صارت السلطة الفرنسية تسجل كل المساحات التي أرادت إلحاقها بأملاك الدولة من أراضي القبائل، واعتبرت أن القبائل ليس لها إلا حق استغلالها الوقتي، والغرض الأساسي من هذه التصرفات هو انتزاع الأراضي من يد الفلاحين وإهداؤها للمستعمرين الفرنسيين، وقد أدى هذا الإجراء مرارا إلى تصادم بين الملاكين والقوات المسلحة، وإلى سفك الدماء وقتل الأنفس.
وهكذا وضعت السلطة الفرنسية يدها على مساحات شاسعة من مديريات الأعراض، وقفصة، والهمامة، والفراشيش، وماجر، والسواسي، ومناطق الجنوب، ثم قسمتها بين المستعمرين، بعد أن طردت منها القبائل التي كانت تملكها منذ قرون، وأقصتها إلى أراض قاحلة وجبال وعرة، أو أخذهم المستعمرون كعمال في نفس الأرض التي كانوا يملكونها.
ومتى علمنا أن أراضي القبائل بالقطر التونسي تبلغ مساحتها أربعة ملايين من الهكتارات، أي ثلث مساحة القطر، تتجلى لنا في أشنع صورة خطورة هذه السياسة الفرنسية التي ترمي إلى إفقار العنصر العربي. (8) أراضي الأوقاف
لم تقتصر السلطة الفرنسية على اغتصاب أملاك الدولة وأراضي الغابات وأراضي القبائل، بل ذهبت في اعتداءاتها المتوالية إلى أبعد حد، فتطاولت إلى أوقاف المسلمين، وتقدر مساحة الأوقاف العامة والخاصة بما لا يقل عن أربعة ملايين من الهكتارات، وهو ثلث مساحة البلاد التونسية، ولم يعدم فقهاؤها استنباط الحيل القانونية لتحقيق أغراض الاستعمار، فصدر أمر بتاريخ 13 نوفمبر سنة 1898 يفرض على إدارة الأوقاف أن تضع كل عام تحت تصرف إدارة الاستعمار جزءا من أراضي الأوقاف العامة لا تقل مساحتها عن ألفي هكتار، على أن يتم نقل الملكية بين إدارة الأوقاف وإدارة الاستعمار مباشرة وبدون إشهار.
ولإدارة الاستعمار الحق في اختيار أراضي الأوقاف التي تقرر الاستيلاء عليها، وهي ترسل خبيرا زراعيا يباشر وحده تقويم الأرض، ويكون رأيه فاصلا في تقدير القيمة، وفي جميع شروط نقل الملكية، دون أي ضمان لمصلحة الوقف.
وهكذا لم تحترم فرنسا الشريعة الإسلامية الغراء التي قضت بأن الوقف ملك لا ينقطع، وأنه لا يباع، ولا يرهن، ولا يوهب، ولا يعوض.
ولم تحترم فرنسا إرادة الوقف، فأعلنت أن المؤسسات الخيرية، كالمساجد والمستشفيات ودور العلم، لا يجب أن توقف من أجلها الأراضي، والأجدر أن تعوض هذه بالمباني والفنادق أو حتى بالمال، وقررت أن هذا التعويض مباح بل مرغوب فيه.
وهكذا استولت إدارة الاستعمار على أوقاف المسلمين واغتصبت أخصب الأراضي الموقوفة لجهات البر والتعليم، كل هذا مقابل بعض الدور المهدمة والمباني البالية، الآيلة للسقوط، التي لا يفي دخلها الضئيل بنفقات إصلاحها، أما إذا عوضت أراضي الأوقاف ببناية صالحة للاستغلال؛ فإن هذه البناية تؤجر للإدارة مقابل إيجار صوري فرنك واحد في السنة.
وهكذا توالت اعتداءات فرنسا على الإسلام في بلاد المسلمين، وهدمت النظم القائمة على أساس الشريعة الإسلامية الغراء، بغير مبالاة بما تحميه من مصالح عامة وما تصرف عليه من بيوت الله ودور العلم، وعادت إدارة الأوقاف من الفقر بحيث أصبحت عاجزة عن القيام بشئون المؤسسات العلمية والخيرية، فتهدمت المدارس والمساجد، وأصبح الكثير منها في حالة يرثى لها.
وبعد أن تم لها الأمر واستولت على كل أراضي الأوقاف الصالحة للزراعة، أصدرت بتاريخ 20 يناير سنة 1942 أمرا بإلغاء تشريع سنة 1798، وظنت أنها بذلك تخلصت من آثار الجريمة التي ارتكبتها بالاعتداء على عقيدة البلاد وشريعتها، وسلب أموال المسلمين، والقضاء على دور العلم والمساجد والمستشفيات.
والنتيجة لهذا العمل الذي وقفت عليه إدارة الحماية جهودها منذ أكثر من ستين سنة، هو أن أصبحت جميع الأراضي التابعة لأملاك الدولة، وما ألحق بها من أراضي الغابات، والأراضي الكلية، وأراضي الأوقاف، تحت تصرف «إدارة الفلاحة والاستعمار» التي أسست سنة 1898 لتنظيم توزيع الأراضي على «المعمرين» الفرنسيين.
ويقع التوزيع بطريق البيع الصوري بثمن زهيد يدفع أقساطا لمدة عشر سنوات، ولتسهيل اقتناء المعمرين للأراضي صدر أمر بتاريخ 1 ديسمبر سنة 1892 أعقبه أمر ثان بتاريخ 25 سبتمبر سنة 1900، يتضمن تأسيس «صندوق الاستعمار»، وقد قدمت السلطة الفرنسية لهذا الصندوق من ميزانية تونس مليون فرنك ونصفا عند تأسيسه، ثم قدمت له سنة 1904 ثمان مائة ألف فرنك، وفي سنة 1905 سبعمائة ألف فرنك، وفي سنة 1907 خمسة ملايين اعتمدتها من قرض عقدته الدولة التونسية من فرنسا، وهكذا دأبت السلطة الفرنسية كل سنة على تخصيص اعتماد كبير لصندوق الاستعمار من الميزانية التونسية نفسها، وصارت تضيف إلى هذا الصندوق المال المتحصل من بيع أملاك الدولة للمعمرين، وتستعمل كل هذه الأموال لشراء أراض أخرى توزع على المعمرين وهكذا.
ولم تكتف السلطة الفرنسية بتأسيس هذا الصندوق لتسهيل اقتناء المعمرين للأراضي، بل وضعت تحت تصرفهم أموالا طائلة لاستثمارها، وأسست لهم خاصة بنوكا عديدة للاقتراض منها بدون «فوائد»، إلى غير ذلك من أنواع المساعدات التي تقدمها لهم تشجيعا على استقرارهم بتونس، حتى يصبحوا هم الأغلبية الساحقة في يوم من الأيام. (9) نتائج ومقارنات
وفي أول عهد الحماية ترك امتلاك الأراضي التونسية لمساعي الفرنسيين الفردية، ثم شرعت الإدارة الفرنسية في تنظيم الخطط وتقرير البرامج الواسعة لإقرار الفرنسيين بالأراضي التونسية، فكانت تضع تحت تصرف «إدارة الفلاحة والاستعمار» ما تنتزعه من الأراضي الزراعية من أيدي العرب لتوزعها على الفرنسيين مقابل أثمان صورية مقسطة على آجال، فمن سنة 1900 إلى 1914 سلمت هذه الإدارة من أراضي الشمال مساحات شاسعة بلغت 125 ألف هكتار، بينما منحتهم في منطقتي الوسط والجنوب مساحات قدرها 132 ألف هكتار، وقد ورد في الإحصاءات الرسمية أن مجموع الأراضي التي استولى عليها الفرنسيون حتى سنة 1914 يبلغ 757 ألف هكتار، من أخصب الأراضي التونسية.
وبعد الحرب العالمية الأولى وسعت فرنسا نطاق ما تمنحه من امتيازات لإقرار ألف عائلة فرنسية بالأراضي التونسية، فمن سنة 1919 إلى سنة 1938 وزعت 1191 قطعة أرض بمنطقة الشمال بلغ مجموع مساحتها 143560 هكتار و75 قطعة بالمناطق الوسطى والجنوبية بلغت مساحتها 53605 هكتار.
واستمرت هذه السياسة الرامية إلى إجلاء العنصر التونسي من الأراضي الخصبة وإقصائه إلى الأراضي القاحلة حتى يومنا هذا.
ومما يجدر ذكره أن عدد السكان الذين يعيشون من الزراعة يقدر بمليون وثمانمائة ألف نسمة، منهم 400 ألف يتصرفون في الأراضي المزروعة حبوبا و450 ألفا يتصرفون في الأراضي المغروسة بالأشجار، والبقية - وهم مليون نسمة - يمثلون طبقة العمال والفلاحين. وتحتل الأراضي الصالحة لزراعة الحبوب - وهي الأصل في الزراعة التونسية - مساحات قدرها 2934000 هكتار؛ أي 22,6٪ من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة، وليس في أيدي التونسيين منها سوى مليون هكتار، والبقية بأيدي المعمرين الفرنسيين والأوروبيين، وعددهم خمسة آلاف نسمة.
وكان من نتائج هذه السياسة التي جعلت الفرنسيين يستولون على قسط كبير من الأراضي الخصبة، وجزء وافر من الإنتاج الزراعي، أن عم الفقر بين طبقات الفلاحين، وكثرت فيهم البطالة، وانخفض مستوى معيشتهم وأصبحت تغذيتهم ناقصة، وصاروا مهددين بالمجاعات التي تنتشر بينهم انتشارا سريعا بمجرد ما تحل أزمة من الأزمات.
وكان أعظم نتيجة لاغتصابهم الأراضي الواسعة أن تكونت فيهم نفسية الإقطاعيين الكبار من غير ميزات الأرستقراطية، فيعتبرون التونسي خادما لهم ورقا ينبغي ألا يرتقي إلى مستوى البشرية، ويعبرون عن ذلك بسذاجتهم التي لم يفارقوها بعد في ألفاظ وقحة لا احتشام فيها ولا حياء. وقد أظهر أحدهم ما في نفس الجميع وهو جول بينيون
Jules Peignon
المستعمر الذي يملك أكثر من 7 آلاف هكتار في جهة «سوق الأربعاء» الخصبة، وهو أيضا عضو بارز من أعضاء «المجلس الكبير»، عندما طلب منه رئيس جمعية رفع الأمية أن لا يعارض في منح هذه الجمعية إعانة من ميزانية الدولة لبناء المدارس الشعبية، قال:
لا يمكن بحال أن أوافق على هذه المساعدة؛ لأن التونسيين لو تعلموا لما رضوا بأن يبقوا عمالا عندنا في أراضينا، فنفقد هكذا اليد العاملة اللازمة لنا.
وقد حلل أحد الكتاب الفرنسيين الأحرار «دانيال جبران» تلك العقلية الإقطاعية في مقال نشرته مجلة
Les Temps nouveaux
بعددها 87 الصادر في يناير 1953، قال:
إن في قلوبنا لشفقة على شمال أفريقيا؛ لأنها تخضع لنير إقطاعية ترابية من أشد وأقسى الإقطاعيات التي عرفها التاريخ، وإن المشكلة من هذه الناحية اجتماعية أكثر منها وطنية، وهي وطنية بقدر ما تكون تلك الإقطاعية أجنبية عن المغرب وبقدر ما تعتمد على حق الغزو والفتح، ولكن سلطانها الأساسي اقتصادي، وهي ككل الإقطاعيات مركبة من أقلية ضئيلة، وإن المليون ونصف المليون من الأوروبيين
3
بين مستعمرين صغار لا قيمة لهم وموظفين كالجراد عدا، ليسوا غير قطيع سهل الانقياد تسيره تلك الإقطاعية كما تريد بتغذية الروح العنصرية فيه، ولكن السادة الحقيقيين لا يفوق عددهم الثلاثين ألفا: عشرون ألف مزارع تقريبا بالجزائر وخمسة أو ستة آلاف بتونس، وخمسة آلاف بمراكش، وقد نجحوا في الاستحواذ سواء بالعنف أو بالحيلة على أخصب الأراضي وقطعوا لأنفسهم منها أملاكا أصغرها مساحة لا يحتوي على أقل من مائتي هكتار، وأوسعها يتراوح بين عشرة آلاف هكتار وخمسة عشر ألف هكتار. ... ولم يكتف هؤلاء المزارعون بإعفاء مفضوح شنيع من الضرائب، بل تغدق عليهم الإدارة العامة المنح من غير حساب؛ أي إنها تتكرم عليهم بما تفرضه من جبايات على الأهلين، وتكفي إشارة منهم لتسرع إدارة الأشغال العامة في تعبيد الطرق لهم ومد السكك الحديدية، وبناء الجسور وإحداث ما يلزم لري الأرض.
ولم يستحوذوا على الأرض فقط، بل احتكروا المياه القليلة الثمينة بشمال أفريقيا، ويتصرفون في اليد العاملة كما يشاءون، ولإبقائها راضخة طائعة فإن المحاكم والعمال (المديرين) والسجون والقوة العامة تحت أوامرهم وتحت تصرفهم، ويقيمون أحيانا سجونا خاصة في وسط مزارعهم لمن يظهر عدم الطاعة من عمالهم. ... وتكونت روابط متينة بين المستعمرين الكبار والشركات الصناعية والمناجم والبنوك، وتكتلت تلك المصالح الكبرى ضد «الأهلي»، ورفضت كل تنازل وكل إصلاح ... وعوض أن تقبل حلا وسطا يكون فيه إرضاء جماهير الأهلين، فهم يتشددون في موقفهم الرجعي، ولا يتكلمون إلا عن القمع والعقاب والنفي والخلع عن العرش والرمي بالرصاص، ولو أفسحنا لهم المجال لما كانوا ليتأخروا عن إضرام المغرب نارا ودماء مفضلين ذلك على التفريط في أقل جزء من سلطانهم، وذلك ما وقع بالفعل في أقطار أخرى.
4
وإن صنيعة المستعمرين الفرنسيين بتونس «الكونت دي هوتكلوك» بصدد إشعال حريق بشمال أفريقيا لا يقل عن الحريق الذي أشعله الأميرال «دراجانليو» وراءه بالهند الصينية المنكوبة، وقد كتب أخيرا ملاحظ أمريكي: «من الضروري العاجل أن تسترجع باريس رقابتها على السياسة الفرنسية بتونس، وإلا فإن هيكل فرنسا بشمال أفريقيا سينهار.»
ومن أعجب ما يجده الباحث في البلاد التونسية أن البلاد وميزانيتها مسخرة لخدمة الموظفين الإداريين، بخلاف ما يقع في الدنيا بأسرها من أن الموظفين مجعولون لخدمة الدولة والبلاد، فعددهم في تونس يزيد على الثلاثين ألفا، معظمهم من الفرنسيين، يتقاضون - كمرتبات ومنح - أكثر من ثلثي الميزانية. وقد أظهرت الإحصاءات الأخيرة أن 70 ألفا من الفرنسيين (المكونين من الموظفين وعائلاتهم) يعيشون عالة على الخزينة التونسية.
وبعد أن استحوذوا على جميع مناصب النفوذ والسلطة يتصرفون فيها كل حسب أهوائه ومطامعه؛ مالوا إلى الوظائف الصغيرة يعمرونها بأتباعهم وأفراد عائلاتهم نساء وأطفالا، حتى أصبح مدير الإدارة من الفرنسيين ورؤساء المصالح منهم والكتبة والبوابون، بل أصبح أيضا ساعي البريد والشرطي والسجان منهم أيضا، كأن تلك الوظائف البسيطة تستوجب معارف معينة ومؤهلات لا توجد إلا عند الأخصائيين الفرنسيين، وأن عدد هؤلاء الموظفين في ازدياد مطرد ألحق بهم من فر من الألمان أثناء الحرب ومن طرد من سوريا ولبنان ومن هرب من جحيم الحرب في الهند الصينية ومن تجنس جديدا من الأوروبيين.
وقد استصدرت فرنسا مرسوما جعلت بمقتضاه جميع الكنوز المعدنية ملكا للدولة، ثم وزعتها على شركات فرنسية تستثمرها لفائدتها، ولم تستثن إلا مناجم الفوسفات فسمحت بتملكها لبعض الشركات الفرنسية أيضا.
وإذا أضفنا إلى ذلك شركات الضوء والكهرباء والنقل والبنوك، يمكن أن نتصور مدى السيطرة الفرنسية على الاقتصاد التونسي وما تتمتع به الجالية الفرنسية من امتيازات جعلت في قبضتها جميع إمكانيات البلاد، فلهم جميع الحقوق من حرية وكسب وإثراء ولسماع كلمتهم وتنفيذ أغراضهم معتمدين على الإدارة التي في خدمتهم وطوع أمرهم، وعلى قوات البوليس التي لا تكتفي بحمايتهم وحماية أرزاقهم ومصالحهم، بل تسرع إلى تنفيذ إرادتهم، بل تفاقم أمرهم إلى أن أصبح البعض منهم يسجن من يريد من التونسيين في سجنه الخاص ويفرض الغرامات على عماله كأنه دولة في الدولة.
ولقد اعتادوا مدة أحقاب متوالية على تسيير الشئون العامة كلها والسيطرة على أنظمة الدولة واتخاذها آلة لخدمتهم ومنبع رزق لهم ولذريتهم، فسخروها تسخيرا كاملا لفائدتهم حتى ساد الاعتقاد بينهم أن مصالحهم الخاصة الفردية هي التي يجب أن تراعى قبل كل شيء، وظنوا أنها وحدها هي المصالح الفرنسية كلها، وذهب بهم الغرور إلى أن ثاروا على فرنسا نفسها كلما عارضت مصالحها العليا مصالحهم الشخصية، ولذلك باتوا ينظرون إلى «المقيمين العامين» - أي للممثلين الوحيدين للدولة الفرنسية بتونس - على أنهم خدام لهم ولمصالحهم، وكل مقيم عام أراد الحد من شرههم والتخفيف من امتيازاتهم المجحفة ناصبوه العداء وشهروا به، بل يريدون من كل مقيم عام أن يسير في ركابهم ويطأطئ الرأس أمامهم ويزيد في امتيازاتهم، فلا تستغرب إذا رأينا بعض المستعمرين - والحالة مماثلة في أقطار المغرب العربي كله - يتغنون بسلطانهم في تعيين المقيمين العامين وعزلهم، إلى أن تذمر الرأي العام الفرنسي بباريس وكتبت جريدة ليموند
Le Monde
بتاريخ 14 / 2 / 1951 تصف نفوذ أوكوتييرييه
Aucouturier
أحد المستعمرين الأغنياء في جهة مكناس بمراكش، قالت:
إن الإنسان ليدهش عندما يرى الدور الذي يلعبه بعض المعمرين، بلون بشرته الزاهي وصوته الجهوري وانكبابه على الشغل وصحته الجيدة، ولكنه يمتاز بنفسية الفلاح الصغير الذي أثرى بسرعة فائقة، وأصبح مليونيرا، ولو كان بفرنسا لما ارتقى إلى أكثر من عضوية في مجلس محلي، ولكن الرجل يتباهى بأنه قادر على تسمية أو عزل المقيمين العامين، ولسنا على يقين من أن دعاءه هو مجرد رياء!
وهم يخشون أي تبديل في الوضع الحالي ويرون فيه خطرا عليهم، حتى إنهم قاموا قومة الرجل الواحد ضد لويس بريليه
Louis Perillier
المقيم العام الفرنسي بتونس، لا لأنه أرضى التونسيين، ولكن لمجرد إظهاره الاستعداد للتفاهم معهم، فأقاموا الدنيا وأقعدوها ضده وعيدا وتهديدا، وملئوا الصحف بيانات وتصريحات، وخاطبوا رأسا رئيس الجمهورية ورئيس الوزارة الفرنسية ووزير الخارجية، حتى قالوا في برقية إلى «روبير شومان» مرسلة في 20 / 11 / 1951 من طرف جميع ممثلي المؤسسات السياسية:
إن السكان الفرنسيين ينكرون على «المسيو بريليه» أن يكون له الحق في التكلم باسم فرنسيي تونس الذين خان ثقتهم ... وإنهم سيدافعون عن منشآت فرنسا بجميع الطرق ...
وإن موقفهم هذا ليس فريدا من نوعه، بل هو موقف دائم لم يتغير، حتى إن الوزير الفرنسي فينو
Vienot
أراد إيقافهم عند حدهم لما زار تونس وألقى في محطة إذاعتها خطابه الشهير في 1 / 2 / 1937 وندد بهم وكان صريحا مقداما، فقال:
إن بعض مصالح الفرنسيين لا تندمج ضرورة وحتما ضمن مصالح فرنسا.
وينبغي تخليص السلطات العامة مما تنوء بثقله من عبء شرذمة من أوروبيين حديثي النعمة يستخدمونها لمصالحهم الخاصة الفاحشة وحدها.
وينبغي تشجيع أصحاب تلك السلطات على عدم الرضوخ لذلك الإكراه الذي يتحمله بعض الموظفين عن طيب نفس مستخفين بواجباتهم، فيصبحون شركاء في الإجرام طواعية أو عن غير إرادة منهم.
وبما أن الجالية الفرنسية مؤلفة من أناس ابتدائيين لا يسمون إلى التفكير السياسي الصحيح، بل يعملون مندفعين بغرائزهم؛ فإنها كانت حجر عثرة في سبيل كل رقي بشري حقيقي وكل عدالة، فلم يفهموا إلا شيئا واحدا: وهو أن البلاد التونسية ملك لهم يتصرفون فيه لفائدتهم، فأعجزوا كل مقيم عام، وقد فهم عقليتهم المقيم العام ألابيتيت
Alapetite
الذي وجد منهم معارضة شديدة ومقاومة لا تهدأ، فلم يجد وسيلة لإجبارهم على دفع بعض الضرائب الطفيفة إلا بوضع المشكلة أمام البرلمان الفرنسي وإلقاء خطاب فيه (1912) قال فيه: إن رأي الجالية الفرنسية في كيفية الحكم بتونس بسيطة واضحة، كل الواجبات على التونسيين وجميع الحقوق للفرنسيين! كل الضرائب على التونسيين وإعفاء الفرنسيين منها!
وقد حلل رئيس الوزارة الفرنسية المشهور بفكرته الاستعمارية جول فيري
Jules Ferry
عقلية المستعمرين في كتابه الحكم في الجزائر
Le gouvernement de l’Algérie
1892، فقال: ... إننا شاهدناه عن قرب ودرسنا حركاته العامة والخاصة فوجدناه محدودا جدا، وهذا الأمر بطبيعة الحال لا يؤهل المستعمر في قليل أو كثير ليكون حكما في مصير الأهالي.
أما الفضائل فإنه يتحلى بالكثير منها، وخاصة تلك التي يمتاز بها العامل المجد والوطني المخلص، ولكنه لا يملك ما يمكن أن يعبر عنه بفضيلة الغالب أو العدل المنبثق عن العقل والقلب الرحيم، وذلك الشعور بحقوق المستضعفين، وهو لا يتعارض مع هيبة الحكم، إنه يصعب إفهام المستعمر الأوروبي أنه توجد حقوق غير حقوقه في البلاد العربية، وأن الأهالي ليسوا جنسا خلق للاستعباد والاستغلال ... إن المستعمرين يعلنون جزافا أن هذا الجنس غير قابل بطبعه للتهذيب والإصلاح، وذلك من غير أن يكونوا قد قاموا بأي محاولة منذ ثلاثين سنة لإنقاذه من انحطاطه الخلقي والفكري، وإن صرخة الاستنكار التي تردد صداها في الجالية الاستعمارية من أقصاها إلى أدناها بمناسبة مشروع المدارس الأهلية الذي أبدى البرلمان اهتمامه البالغ بها؛ لدليل عجيب على هذه العقلية، هنا أيضا يحاول عبثا البحث عن الروح الاجتماعية وعن الاعتبارات العامة أن المستعمرين ليس لديهم أي نظريات عامة حول السلوك الواجب نحو الأهالي، إنهم لا يكادون يدركون أي سياسة نحو ثلاثة ملايين من البشر سوى سياسة الضغط، ليس هناك أي تفكير بلا شك في إزالتهم من الوجود، بل إنهم ينكرون حتى الرغبة في إقصائهم إلى الصحراء، ولكن لا توجد أية عناية بما يشكون منه ولا بعددهم الذي يبدو أنه يزداد مع ازدياد فقرهم، إنه يوجد شعور بخطر محتمل ولكن لم يقع اتخاذ أي إجراء لاجتنابه.
وإننا نتساءل: هل ماشى هؤلاء الفرنسيون الدنيا في تطورها؟ وهل بدلوا نظرتهم العاتية الضيقة؟ وهل انتفعوا بعبر الحرب العالمية الأولى؟ وهل قدروا الانقلاب الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية؟ وهل فتحوا عيونهم ليشاهدوا نهضة الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها؟ أم بقيت على عيونهم غشاوة لا يبصرون، وفي آذانهم وقر لا يسمعون، وتحجرت عقولهم فهم لا يفهمون، وأعمت المصالح منهم البصائر قبل البصر، فلم يقدروا للحوادث عواقبها ولم يتفطنوا إلى أن سيرتهم الأولى تجعلهم يعيشون على بركان سيذهب بمصالحهم ومصالح فرنسا نفسها إذا ما انفجر. ولقد زارهم أحد القواد الفرنسيين (الجنرال كاثرو) الذي لا غبار على وطنيته الفرنسية، واختلط بهم وسمع نجواهم وما يختمر بضمائرهم، وحكم عليهم بعقله الثاقب الذي يزن الأحداث العالمية وأهميتها بميزان راجح واقعي، ويقدر لتطور الشعوب وللقوات الجديدة البارزة في الدنيا قدرها؛ فقال في الجالية الفرنسية الموجودة بالمغرب العربي:
5
إن الفرنسيين المقيمين عبارة عن أناس يخضعون لما يمليه عليهم الهوى أكثر من توجيهات العقل أو تأثير المثل العليا؛ فقد ظلوا بعد أن تجمدت عقليتهم على ما كان عليه آباؤهم من قبل في أول عهد قدومهم إلى أفريقيا، غزاة ومغامرين ومنعزلين يواصلون بقوة عجيبة وبعض الانتصارات الباهرة مشروعات ذات صفة ومصالح خاصة، فهم إذن يؤلفون مجموعة من الشخصيات الفردية أكثر منهم مجتمعا منظما وقائما على أساس من المبادئ والتقاليد. إنهم لا يجتمعون إلا للدفاع عن مصالحهم، ولكن هذه المصالح التي هي مصالح طبقة معينة لا تتفق دائما مع مصالح فرنسا، إنه ينقص هؤلاء الرجال - وهم بلا شك من ذوي النيات الطيبة، وقد حولوا بجهودهم المتواصلة أفريقيا الجرداء إلى أرض خصبة - إدراك القيم الأدبية السامية، ونظرة أقل مادية وأنانية للعلاقات بين الإنسان عامة ولمشكلة الأهالي بوجه خاص. إنه ينقصهم الدافع القوي الكريم المنبثق عن ثقافة مجردة عن المصلحة المادية، وينقصهم حب المبادئ الذي يترك فراغا يزداد مع مر السنين وتضخم الثروة.
ومن الملاحظ أن الجالية الفرنسية بتونس لا تتحمس لمبدأ، ولا تلتف حول فكرة، ولا تحركها عاطفة بشرية أو وطنية، ولكنها إذا ما اجتمعت كلمتها وتوحدت، فإنما تجتمع وتتوحد للدفاع عن مصالح أفرادها الشخصية فقط. وإن تلك المصالح تتجسم في نظرهم في استيلائهم جماعات وأفرادا على البلاد وسلطاتها وخيراتها؛ ولذا رأينا الناطقين بلسانها من صحافة ونواب يدعون بلا خجل أنهم هم أصحاب البلاد الحقيقيون، وهم أبناؤها البررة والمدافعون عنها والمالكون لها والمستثمرون لكنوزها والمديرون لشئونها، حتى قال قائلهم في جريدة «تونس فرانس»: «إن كان للعرب التونسيين مقابر تأوي أجداث أجدادهم منذ أحقاب وأحقاب، وإن اختلطت رفات آبائهم بهاته الأرض الطيبة، فإن للفرنسيين أيضا مقابر بها تئوي آباءهم الأقربين الذين كونوا تونس تكوينا جديدا!» فهم إذن حسب نظرهم أصحاب حق في البلاد، وهكذا أعطى الغاصب لنفسه حق المواطن كمن دخل دارا عنوة على أهلها وسكن معهم وضايقهم فيها وحصرهم في سقيفتها وأدخل عليها إصلاحات طفيفة، ثم سعى في إخراجهم منها بدعوى أن الدار أصبحت ملكا له.
وكانوا يعارضون معارضة باتة في كل مفاوضة تقع بين تونس وفرنسا، فيقولون ليست فرنسا نفسها هي صاحبة الحق في التفاهم مع التونسيين، بل يجب أن تجري تلك المفاهمة بين الجالية الفرنسية والتونسيين، ويعنون بهؤلاء التونسيين الخونة الممالين لهم، وذلك ما صرح به رئيس «التجمع الفرنسي» المتكلم باسمهم رسميا «أنطوان كولونا» في حديث لجريدة ليموند
Le Monde
بتاريخ 19 / 4 / 1952، قال:
أما فيما يتعلق بنا، فإنا كنا نخير أن تكون مباحثات اللجنة الرسمية للإصلاحات مسبوقة باتصال غير رسمي في لجان شبه رسمية تقع فيها مجابهة صريحة لوجهات النظر بين الممثلين الحقيقيين لسكان تونس من تونسيين وفرنسيين.
وقد كان لتمسك تلك الجالية بمذكرة 15 ديسمبر 1951 الفرنسية التي طالبت بمشاركة الفرنسيين في مؤسسات الدولة التونسية أسباب جوهرية، أعظمها أنها أرادت أن تصير اغتصابهم للسلطات واستحواذهم على ثروة البلاد حقا مشروعا؛ ولذا قال «كولونا» في نفس ذلك الحديث:
إن تلك المذكرة (مذكرة 15 ديسمبر 1951) قد وضعت مبدأ لا يمكن لحكومة جديرة بهذا الاسم أن تتخلى عنه من غير أن تتلوث، وذلك المبدأ هو استحالة اعتبار المائة والثمانية والسبعين ألف فرنسي المتوطنين أرض تونس كأجانب بها.
وإننا نعتقد اليوم كما اعتقدنا أمس أن ذلك المبدأ يتماشى تماما في تطبيقه السماح للتونسيين تدريجيا بإدارة شئونهم بأنفسهم.
ولذا كانت مذكرة 15 ديسمبر 1951 هي ميثاقنا في العلاقات الفرنسية التونسية.
ولا ننسى أن نذكر أن تلك المذكرة من تحريرهم وتحرير أعوانهم.
ولما ناقش البرلمان الفرنسي المشكلة التونسية في 5 / 6 / 1953 وقف أحد نواب الجالية الفرنسية في المغرب العربي وهو الجنرال أوميران
Aumeran
يتحدث باسمها، ويعبر عن رأيها ويجزم جزما كليا بوجوب الافتخار بالاستعمار الفرنسي، ويندد بمن يريد إبدال كلمتي إمبراطورية واستعمار بغيرهما، ويتحدى العالم الحر كله في صلف يدل على جمود تلك الجالية الفرنسية وعدم إمكان أي تطور فيها، فقال:
لا شيء يعوض فرنسا وإمبراطوريتها، وأقول: إمبراطورية، ولا أقول: وحدة فرنسية ذات روابط مهلهلة ... ... ولا ينبغي أن نتبرأ من أننا مستعمرون، وينبغي للذين استعمرناهم ألا يحمروا خجلا، بل ينبغي لهم أن يكونوا فخورين بذلك معترفين لنا بالجميل، وأن هاتين العاطفتين تمكننا من إحداث مشاركة مقامة على التقدير والاحترام والصداقة.
فأية مشاركة ممكنة بين الغالب والمغلوب والقاهر والمقهور غير مشاركة الراكب لفرسه؟! وأي تقدير غير تقدير السيد لعبده؟! وأي احترام غير احترام المزارع لبستانه وأرضه وأشجاره؟! وأي صداقة غير صداقة الأسد لفريسته ؟!
وترى تلك الجالية أن المقدمة الحتمية لتلك المشاركة العجيبة قتل الزعماء الوطنيين، وفي طليعتهم بطبيعة الحال «الحبيب بورقيبة» كما قال الجنرال «أوميران» نفسه: «إن تونس كانت تبقى هادئة مزدهرة لو كان بورقيبة فرنسيا؛ لأنه إذ ذاك يكون قد وقع رميه بالرصاص في عام 1945 لمشاركته مع العدو.»
فإن القوم لا يردعهم رادع ولا يوقفهم ضمير ولا تلينهم عاطفة ولا تقودهم فكرة، بل يرون في المحافظة على امتيازاتهم الظالمة مبررا لسفك الدماء وقتل الأبرياء واختلاق الأكاذيب وقلب الحقائق، يثيرون بها الرأي العام الفرنسي الغافل عما يجري في المستعمرات، وإلا فالجنرال أوميران وأضرابه يعلمون علم اليقين أن بورقيبة ورفاقه من الوطنيين التونسيين، كلهم كانوا يعارضون الإيطاليين في الاستيلاء على تونس، ويقاومون المحور لأجل ذلك. والحوادث شاهدة والمواقف بينة من خطب وتصريحات وقرارات للحزب الحر الدستوري في هذا الموضوع.
ويعلم الجنرال «أوميران» أيضا أن الوطنيين بتونس لا يخدمون ركاب دولة أجنبية أيا كانت، إنما يعملون لاستقلال وطنهم ليس غير، وتلك هي جريمتهم الحقيقية في نظر الفرنسيين.
ولذلك طالب «كولونا» وكرر الطلب مرارا بالقضاء لا على «بورقيبة» ورفقائه وحدهم، بل على جميع أعضاء الحزب الحر الدستوري الجديد من غير استثناء، فصرح لجريدة «ليموند» بما يلي:
أولم يوجد بتونس حقا حالة ينبغي تطهيرها؟ أوليس من الضروري إرجاع التوازن الطبيعي بين الرجال وبين الأشياء قبل كل شيء؟ أوليس من اللازم التخلص نهائيا من بعض المؤثرات وخصوصا من الثائرين؛ أي من الدستوريين الجدد؟
فينبغي في نظره إذن أن يقتل صبرا مائة ألف من التونسيين، وهو عدد أعضاء الحزب.
ولما رأت الجالية الفرنسية استماتة التونسيين في الدفاع عن حقوقهم وثباتهم في الكفاح مدة أعوام، نادت على لسان جريدتها «تونس فرانس» بوجوب تطهير البلاد التونسية من جميع الوطنيين؛ أي من أغلبية الشعب التونسي الساحقة، فكتبت مقالا بتاريخ 18 / 1 / 1953 قالت فيه بالحرف الواحد:
إن المشوشين نظموا صفوفهم ليزرعوا البغضاء ويهدروا الدماء، فلا تصدعوا آذاننا في هذه الآونة بإصلاحات أو تنازل ... أو معامل الحلفاء أو مصالح.
ولا تستهزئوا بنا بدعوى الاعتبارات السياسية العليا وهيئة الأمم المتحدة، وأمريكا وأوروبا والقمر والملائكة، وورق العملة وورق ... الحلفاء.
إن كان ذلك صحيحا فيما يتعلق بتونس، فهو صحيح أيضا بالنسبة لمراكش.
فقد تطلب محق المجرمين هناك ثلاثة أيام ... فهل يتطلب هنا ثلاثة أعوام؟!
فليس في الأمر حقيقتان، بل في فرنسا حكومة واحدة، وبشمال أفريقيا محميتان.
فلأي سبب لم نصل إلى نفس النتائج في نفس الوقت؟
وهكذا نرى الجالية الفرنسية تفقد أعصابها ويذهب عنها رشدها، عندما يصادم الواقع أوهامها ويقضي على أطماعها ويهدد مصالحها، فيعتريها ضرب من الجنون الإجرامي ويسير شعب تونس بين هؤلاء المجانين العطشى لدماء الأبرياء وبين فرنسا المتشبثة بأحلامها الاستعمارية.
الحركة الوطنية
تاريخها، مبادئها، نظامها (1) الحركة القومية
لم تتكون الحركة التونسية من العدم، ولم تتولد بين عشية وضحاها، بل نشأت وترعرعت وتطورت خلال قرن كامل تقريبا، حتى أصبحت كما نشاهدها اليوم تجمع شعبا بأسره في وحدة متينة، وتسير به في كفاح دموي مرير دام عامين ضد قوات استعمارية مسلحة بأحدث أنواع السلاح العصري.
وليس غرضنا كتابة تاريخ تلك الحركة بالتفصيل، ولكن بسطة موجزة تعين على فهم ما يجري بتونس اليوم من جهاد.
بدأت نهضة تونس وسعيها في التخلص من كل نفوذ أجنبي في أواسط القرن التاسع عشر، فأصدر ملكها إذ ذاك محمد باي (9 سبتمبر 1857) «عهد الأمان» الذي يعتبر إعلانا لحقوق الإنسان وللمبادئ الديمقراطية من مساواة بين الأفراد وحرية شخصية، وحرية الأديان، وعدالة الجبايات، والذي كان مقدمة للدستور التونسي الصادر في 1860، ولما اعتلى خير الدين باشا المعروف بعبقريته السياسية كرسي الوزارة (1873) أسرع إلى إدخال النظم الحديثة على الدولة التونسية، وشمل بإصلاحه الإدارة العامة والمحاكم الشرعية والمدنية والتعليم والصحة والاقتصاد والزراعة، وكانت تلك المؤسسات - وخاصة المدارس العصرية الثانوية والعليا - نواة صالحة وبذورا طيبة أنبتت شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وكانت أساسا للنهضة والتقدم السريع الثابت في خطاه رغم جميع العراقيل الاستعمارية، حتى رأينا موجة من الأعماق تكتسح شعب تونس وكأن الحياة التي كان تيارها يجري ببطء، بل اختفى أحيانا كما تختفي الأنهار تحت الرمال، تدفقت من جديد وظهرت مياهها أصفى وأغزر ، وإذا بها تيار جارف لا يقدر الاستعمار الفرنسي البالي على إيقافه أو تعطيله.
لقد ابتدأت المقاومة التونسية للاستعمار الفرنسي يوم وضع أول جندي فرنسي رجله على أرض الوطن، وكانت من ذلك اليوم تكتسي قالبين، فتارة تكون ثورة عامة أو محلية وطورا تكون حركة سياسية صرفة، وفي بعض الأحيان تتخذ القالبين معا.
فبينما كانت قبائل خمير الشمالية ومدن صفاقس والقيروان تحارب الجيش الفرنسي المعتدي عام 1881، كان الأستاذ محمد العربي زروق يقاوم النفوذ الفرنسي في البلاط التونسي ويطالب الملك ووزارته بإعلان الحرب على فرنسا، وإصدار الأمر للقوات المسلحة التونسية برد هجمات القوات الفرنسية، ويرسل أمامهم كلمته الخالدة:
أن نموت أحرارا دفاعا عن شرفنا وشرف وطننا أحسن من الحياة في العبودية والذل.
ثم إنه قاوم توقيع معاهدة (باردو)، ولما وقع الملك على تلك المعاهدة اختفى العربي زروق فرارا من انتقام الوزير الخائن مصطفى بن إسماعيل، وبعدها هاجر إلى الشرق.
وقام بعده الشيخ محمد السنوسي الذي كان لسان المعارضة التونسية للحماية الفرنسية، واتخذ من منصبه في أمانة العاصمة مركزا يرد منه تدخل السلطات الفرنسية في شئون تونس حتى حكم عليه بالنفي.
ورأى الأستاذ البشير صفر الذي حمل المشعل حقبة من الزمن أن يوجه عنايته إلى الشباب ويوجهه نحو الثقافة والعلم واستكمال الوعي القومي، بما كان يلقيه من محاضرات في معهد الخلدونية الذي أسسه لهذا الغرض، وكان لتعاليمه أعمق الأثر حتى عده الشعب أبا النهضة الحديثة في تونس.
وكان علي باش جانبه أول زعيم قومي قاد الحركة الوطنية وأسس دعائمها، فكتل حوله الشباب المثقف، وأصدر أول جريدة قومية (التونسي) سنة 1904، وأخذ يوالي فيها الحملات على الاستعمار الفرنسي، ويفند اعتداءاته ويفضح مؤامراته وسلبه لخيرات البلاد واستيلائه على السيادة التونسية وطغيانه وبطشه. وقد تأثر إلى حد بعيد بحركة الشباب العثماني، فكان لحملاته الصحفية ولاجتماعاته الشعبية صدى عميق أيقظ الشعور القومي وبث روح المقاومة في جميع الطبقات. وقد اقتصر عمله على أمور سلبية من ردع الظلم وإرجاع بعض الحقوق إلى أهلها والمطالبة بإعطاء التونسيين حقوقهم المسلوبة.
وقد عم القلق العاصمة التونسية وتبرم الشعب من الاعتداءات الفرنسية، وتوترت العلاقات مع الإيطاليين الذين أعلنوا عن نواياهم في الاعتداء على طرابلس، فبات الجو ينذر بالشر والانفجار القريب. ولما أرادت السلطات الفرنسية أن تستولي على قطعة من مقبرة «الجلاز» الإسلامية وحاولت تسجيلها (7 نوفمبر 1911) هب الشعب من كل صوب وسار في مظاهرات صاخبة مدافعا عن قبور أجداده وأجداث آبائه، واندلعت الثورة دامية شديدة ودارت المعارك في المقبرة وحولها، ثم شملت المدينة كلها، فانهزم الشعب الأعزل في آخر الأمر بعد مقاومة دامت أياما أمام القوات العسكرية المنظمة المسلحة، فنصب الفرنسيون المشانق في ميدان باب سويقة وشنقوا جماعة من الوطنيين من بينهم أحد أبطال الثورة «الجرجار» الذي بقيت صورته حية راسخة في الأذهان، لما أظهره من شجاعة في المعركة، فقتل بنفسه عددا من رؤساء مراكز البوليس الفرنسي وأتباعهم من الشرطة، ومن رباطة جأش وسخرية من الموت عند المشنقة.
وبعد إخماد الثورة أسرعت السلطات الفرنسية إلى تعطيل جريدة «التونسي» وإلقاء مسئولية الحوادث على «علي باش جانبه» وصحبه، وإلى إعلان الأحكام العرفية، وتسليط الحكم العسكري على البلاد التونسية، وقد استمرت تلك الأحكام إلى عام 1922.
ولكن الإرهاب لم يفت في ساعد شعب متعطش إلى الحرية والعدالة، وكان إضراب عمال الترام سنة 1912 فرصة سانحة لإظهار غضبه، فآزرهم ضد الشركة الأجنبية التي كانت تستثمرهم استثمارا، وقاطع ركوب عربات الترام عندما عوض الجنود الفرنسيون العمال المضربين، بل منع بالقوة كل من أراد ركوبها، وأخيرا سجل انتصارا عندما حصل العمال على مطالبهم، وهو انتصار صغير في ميدان ضيق، ولكن مفعوله كان عميقا إذ أحيا الجذوة المشتعلة، وقوى الأمل وأعطى درسا مفيدا للمستقبل بأن النصر وليد الاتحاد.
فأرادت السلطات الفرنسية إذ ذاك أن تقضي على الحركة الوطنية الفتية، حتى يخلو لها الجو من كل معارضة عند تنفيذ خطتها الاستعمارية، فنفت أقطاب الحركة إلى الخارج وتوجهوا إلى الآستانة واستقروا بها، ما عدا الأستاذ عبد العزيز الثعالبي الذي ذهب إلى باريس بعد أن أمضى بعض أشهر في الجزائر.
وأكرمت الدولة العثمانية وفادة جميع التونسيين المنفيين وأعانتهم على متابعة كفاحهم في الخارج، وأسندت إلى بعضهم مناصب عالية ليسهل عليهم العمل في سبيل استقلال وطنهم. ومن أبرز تلك الشخصيات «علي باش جانبه»، والشيخ صالح الشريف، والشيخ إسماعيل الصفائحي. أما الأستاذ محمد باش جانبه أخو علي باش جانبه، فإنه أسس بسويسرا لجنة «تونس جزائرية» وأصدر باسمها مجلة «المغرب» التي تصدت للدفاع عن شعوب المغرب وحقوقها، وقد توفي ببرلين وحيدا فريدا بعد كفاح طويل مرير، ولم يحضر دفنه غير الأمير شكيب أرسلان، رحم الله الجميع رحمة واسعة. وكان أمير البيان يزور قبر صديقه في الجهاد كلما مر ببرلين، ويتأسف لرؤيته مهملا مبعثر الأحجار.
أما في داخل تونس، فازداد الضغط واشتدت وطأة الأحكام العرفية، واتسعت الاعتقالات بين الشباب القومي لأتفه الأسباب خوفا من دعايتهم في وسط الشعب وما تجره من ثورة.
ورغم تلك الاحتياطات كلها اندلعت نيران الثورة في الجنوب وشاركت فيها بداية عام 1915 قبائل بني زيد المعروفة ببأسها وفروسيتها وفتوتها تحت قيادة بطلها الحاج سعيد بن عبد اللطيف الذي أخذ يخوض المعارك الواحدة تلو الأخرى بعد وضع خططها. ففي عام 1916 قضى في مرة واحدة على القسم الأكبر من القوات الفرنسية؛ إذ بيتهم وهاجمهم برجاله بالسلاح الأبيض، كما وضع لهم كمينا في أحد المضايق وأفنى فيلقا كاملا في بداية الثورة، ودامت الحرب عامين كاملين، ولم تتغلب فرنسا إلا بعد أن أتت بالنجدات يتلو بعضها بعضا، وبعد أن جردت جيشا كاملا جاءت به من واجهة القتال الكبرى. (1-1) الحزب الحر الدستوري التونسي
لقد كال الحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى الوعود المعسولة للشعوب المستضعفة كيلا؛ لكي يستعينوا بها على أعدائهم. وبعد انتهاء الحرب أحيا الرئيس ولسن آمالا جساما فيها لما أعلن عن مبادئه، واتجهت وفود البلاد المغلوبة على أمرها إلى باريس، حيث انعقد مؤتمر الصلح، ومن بينها الوفود العربية ليحققوا تحريرهم الموعود. وفي شهر سبتمبر عام 1918 قدمت لجنة تحرير تونس والجزائر عريضة لمؤتمر الصلح للمطالبة بحقوق شعوب المغرب، وقدم الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي كان يقيم بباريس على رأس وفد تونس عريضة إلى الرئيس ولسن باسم الشعب التونسي مطالبا باستقلال بلاده، ثم نشر في أوائل 1920 كتابه الشهير «تونس الشهيدة» الذي تخاطفته الأيدي التونسية والمغربية عامة؛ إذ يفضح لأول مرة، بعاصمة فرنسا نفسها، طرق الاستعمار الفرنسي، ويبين جناياته.
وفي أثناء إقامة الشيخ الثعالبي بباريس قام صحبة من الوطنيين بتشكيل الحزب الحر الدستوري التونسي عام 1919، وقد كانت فاتحة أعماله رفع مذكرة إلى جلالة الملك محمد الناصر، يطالبون فيها بإصدار دستور ينظم الدولة التونسية طبق المبادئ الديمقراطية، وقد وجدوا من جلالته عطفا شاملا وتأييدا كاملا، ولم يعلن الحزب عن الاستقلال كغاية يرمي إليها لأن الظروف لم تكن مساعدة، بل اقتصر على برنامج إصلاحي واسع النطاق أهم ما فيه السعي لإرجاع ما اغتصبه الفرنسيون من سلطات إلى أيدي التونسيين.
ولبى الشعب نداء الحزب والتف حوله وتكتل فيه الشباب العامل وانبث في المدن والقرى، يؤسس له فروعا وينظم صفوف الوطنيين ويقيم الدعوة له في كل مكان.
وأخذ القصر الملكي يؤازر الحزب بفضل أعظم نصير له به: الأمير محمد المنصف، النجل الأكبر لجلالة الملك الذي لم يقتصر على مجرد التأييد، بل انضم إلى الحزب وأدى يمين الإخلاص للمبادئ الوطنية.
ولم تبق السلطات الفرنسية مكتوفة الأيدي أمام اتساع الحركة التونسية، فأسرعت إلى إلقاء القبض على حامل لوائها الشيخ عبد العزيز الثعالبي بباريس ونقلته والأغلال في يديه إلى السجن العسكري بتونس، وأقامت عليه دعوى خطيرة بتهمة التآمر ضد أمن الدولة. ولما رأت هياج الشعب وحماسته واندفاعه في الدفاع عن زعيمه، اضطرت إلى إطلاق سبيله، فخرج من السجن وقاد بنفسه الحركة الوطنية.
وإذ ذاك لجأت فرنسا إلى تغيير مقيمها العام في تونس ربحا للوقت وانتظارا للفرص السانحة، وتلك طريقة اتبعتها فرنسا في مستعمراتها؛ إذ تكتفي بتبديل الأشخاص وتتمادى في نفس السياسة الاستعمارية.
ووصل المقيم الجديد «لوسيان سان» إلى تونس في يونيو 1921، وهو أخطر مقيم عرفته، فشرع حالا في رفع الأحكام العرفية؛ لكي لا يشاركه العسكريون في النفوذ، وعوض المجلس الشوري بالمجلس الكبير، وأسس وزارة العدل، وفصل بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، وأطلق الحريات من عقالها، فازدهرت الحركة الوطنية وتعددت الصحف وكثرت الاجتماعات العامة.
ولم يتساهل المقيم الجديد في ذلك الميدان إلا ليتمكن من تنفيذ خطته الاستعمارية الرامية إلى جعل تونس جزءا من فرنسا، ولا يتم ذلك إلا إذا عوض الفرنسيون التونسيين وشردوهم في الصحاري؛ ولذا فتح أبواب الهجرة للفرنسيين والمتفرنسين من أبناء أوروبا، وفتح لهم أبواب الإدارات التونسية ليتخذوا منها مرتزقا يستولون بواسطتها على النفوذ والسلطة، وأقطعهم الأراضي الشاسعة التي اغتصبها من العرب.
وتفطن الوطنيون إلى ذلك الخطر الجسيم، وساند الملك شعبه، وتوترت العلاقات بينه وبين فرنسا، حتى إنه في آخر الأمر هدد بالتخلي عن العرش إذا لم تنفذ فرنسا مطالب الشعب، فكان جواب المقيم العام محاصرة القصر الملكي بقوات كبيرة من الجيش الفرنسي يوم 5 أبريل 1922، فهب الشعب وثارت ثائرته وعمت المظاهرات، وسارت الجماهير عشرات الألوف على الأقدام من عاصمة تونس إلى شاطئ المرسى، حيث القصر الملكي، تأييدا لملكها ومؤازرة له، فلجأ المقيم العام إذ ذاك إلى المراوغة، ووعد الملك وعدا صريحا بإرضاء الرغبات الوطنية على أن يتأجل إنجازها إلى ما بعد زيارة رئيس الجمهورية الفرنسية «ميلران» لتونس.
وبعد أن تمت تلك الزيارة نكث «لوسيان سان» عهده، وأصدر الأوامر الاستثنائية لتعطيل الحريات العامة وصادر الصحف ومنع الاجتماعات العامة.
وفقدت الحركة الوطنية إثر ذلك أكبر عضد لها بموت جلالة الملك محمد الناصر، فكانت مصيبة عامة أحدثت فراغا لا يسد، فلم تقدر الحركة الفتية على مقاومة موجة الاضطهاد، فخمد نشاطها وقل عملها، فاختار الشيخ عبد العزيز الثعالبي إذ ذاك الهجرة إلى الشرق. (1-2) الحزب الحر الدستوري الجديد
مرت بتونس بعد سفر الثعالبي فترة ركود دامت أعواما قليلة؛ إذ رجع جماعة من الشباب القومي النشيط من فرنسا، حيث أتموا دراستهم، ومن بينهم الأستاذ «الحبيب بورقيبة» الذي امتاز بشخصية قوية وإرادة فعالة وفكر واضح جلي، واجتمع هؤلاء الشبان حول جريدة «صوت التونسي» التي أصدرها الأستاذ «الشاذلي خير الله» عام 1929، ووجدوا مجالا واسعا للعمل عندما صادف انعقاد المؤتمر الأفخارستي عام 1930، وقد اعتبره الفرنسيون حملة صليبية جديدة ومقدمة لفرنسة التونسيين بطريق التنصير، وقررت سلطات الحماية إقامة الحفلات في تلك السنة نفسها بمناسبة مرور خمسين سنة على احتلال تونس.
فجرد الشباب أقلامهم وشنوها حملات قوية شديدة على الاستعمار ونواياه، والتف الشعب حولهم مؤيدا ومؤازرا، وتحمس لهم لما قدمتهم الإقامة العامة للمحاكمة لأجل مقالاتهم بجريدة «صوت التونسي»، فتحرك الشعب دفاعا عن خيرة شبابه ونظم المظاهرات في أكبر مدن المملكة وخاصة أمام المحكمة الفرنسية، حيث رفع الحبيب بورقيبة على الأكف، ولما رأى المقيم العام هذا التضامن القوي عدل عن المحاكمة، ولكنه أصدر أوامر استثنائية جديدة لتشديد ما كان أصدره «لوسيان سان» من قبل.
وفي شهر نوفمبر 1932 أسس الأستاذ الحبيب بورقيبة جريدته الشهيرة «العمل التونسي»، فالتفت حوله أقوى العناصر الوطنية وأخذ حالا يهاجم قانون التجنس الذي أصدرته الحكومة الفرنسية تحت تأثير «بول بنكور». سعيا وراء فرنسة العباد والبلاد، وأبان بإيضاحه المعهود ما في هذا القانون من خطر جسيم على كيان الشعب التونسي العربي المسلم، فلجأت فرنسا إذ ذاك إلى رجال الدين ليؤازروها في القضاء على شعب كامل، فأصدروا بالفعل فتوى ادعوا فيها أن المتجنس لا يعد كافرا ويجوز دفنه في مقابر المسلمين.
فصدع الحبيب بورقيبة بأن هؤلاء الرجال خونة يتاجرون بالدين ولا يمثلون الإسلام والمسلمين، ووجه نداءاته للشعب ليدافع عن مقابره. فهب الشعب لندائه، ولما مات عدد من المتجنسين في مختلف أنحاء القطر احتل الجماهير المقابر للذود عنها ومنعوا القوات العسكرية الفرنسية من دفن هؤلاء المتجنسين بها، وكثرت هكذا المصادمات الدامية وخاصة بمدينة المنستير؛ حيث استشهد عدد من الوطنيين وجرح منهم عشرات.
ولما رأى أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب الحر الدستوري نشاط هؤلاء الشبان ومقدرتهم والتفاف الشعب حولهم، عقدوا مؤتمر الحزب (12 و13 مايو 1933) وقرر المؤتمر بالإجماع قبول هيئة جريدة «العمل التونسي» في اللجنة التنفيذية، كما قرر تحت تأثير هؤلاء الشبان «أن سياسة التفاهم مع فرنسا قد فشلت فشلا ذريعا بعد تجربة دامت سنوات طويلة»، وأن غاية الحزب التي يعمل لتحقيقها هي «تحرير البلاد ومنحها دستورا يحفظ شخصيتها ويحقق لها سيادتها بين الأمم المتمدنة المتحكمة في مصيرها.»
وإذا بالحزب الحر الدستوري الذي كاد يضمحل فلم يبق منه غير الاسم مدة الفتور والركود، يجدد تجديدا عميقا تحت تأثير عنصر النشاط والحياة، وشعر الشعب كله ببعث وطني قوي ونشاط لا يني، وعمل جدي لا يفتر، واتجاه واضح في الصمود في وجه المستعمر، ومقاومته مقاومة فعالة. والشيء الجديد هو شعور الشعب بأن الحبيب بورقيبة ورفاقه على استعداد تام للتضحية وتحمل الأخطار والعذاب في سبيل بلادهم.
فازداد الشعب حماسة في مقاومة التجنيس ويقظة في المحافظة على مقابره خوفا من أن يدفن فيها متجنس، إلى أن اضطرت الإقامة العامة الفرنسية إلى النزول عند إرادته، وإذا بها تأخذ قرارين في آن واحد فتكون مقابر خاصة بالمتجنسين من جهة، ولكنها من جهة أخرى تصدر أمرا بحل الهيئات السياسية التونسية؛ أي الحزب الحر الدستوري، وبتعطيل الصحافة الوطنية.
ولم يدم الوئام داخل اللجنة التنفيذية للحزب بين عناصر الشباب الناشط الجدي وبين الشيوخ المؤسسين للحزب، بل احتد الخلاف واستفحل لأتفه الأسباب ولم يمكن حسمه، فاجتمع إذ ذاك مؤتمر عام نظامي للحزب بمدينة قصر هلال (مارس 1934) ليكون حكما بينهم، وحضره رجالات الحزب ونواب عن كافة فروعه ومنظماته، وتيقن إذ ذاك شيوخ الحركة أنه أسقط في أيديهم، وأن الأغلبية الساحقة مع الشبان العاملين، فامتنعوا عن الحضور، وانتخب المؤتمر هيئة إدارية وتنفيذية جديدة سميت «بالديوان السياسي» واختار الأستاذ الحبيب بورقيبة أمينا عاما للحزب.
وسمي الحزب الحر الدستوري التونسي منذ ذلك العهد بالدستور الجديد؛ أي المتجدد، كما أطلق اسم الدستور القديم على جماعة الشيوخ الذين أبوا حضور مؤتمر قصر هلال.
وسار الحزب الجديد قدما في أعماله ونشاطه المتزايد باندفاع وحماسة، واتصل قادته بالشعب اتصالا متينا وثيقا لإيقاظ الشعور الوطني فيه وإحياء الوعي القومي في نفسه وتدريبه على الحياة السياسية العملية.
ووصل تونس إذ ذاك الطاغية «بيروطون» كمقيم عام، وأظهر استعدادا للتفاهم بإعطاء ترضيات طفيفة، وسعى لإخماد نشاط الحزب ببعض الوعود، ولم يقيد عمل رجاله ظنا منه أن الخلاف بين التونسيين سيشتد وأن الخصومة بينهم تريح فرنسا واستعمارها منهم جميعا لاشتغالهم ببعضهم، وإذا بالحبيب بورقيبة وصحبه يغتنمونها فرصة لمضاعفة عملهم، فأصدروا جريدة «العمل» وعقدوا الاجتماعات العامة في أكثر مدن المملكة وقراها، وجرفوا وراءهم الشعب جرفا.
فلما رأى «بيروطون» خطر هذه الحركة الجبارة أراد محوها، فألقى القبض على قادتها (2 سبتمبر 1934) ونفاهم إلى برج القصيرة بالصحراء، وكانت موجة من الاضطهاد لم يسبق لها نظير. وكان رد الفعل من الشعب عنيفا شديدا، فعمت الاضطرابات في القطر التونسي كله، وخرج الجماهير في مظاهرات كبرى، وأعلنوا الإضرابات العامة، وتعددت الصدمات الدامية بين الشعب والقوات الفرنسية المسلحة، وكانت أقواها بالمكنين وقصر هلال وطبرية والبرجين ونفطة ومنزل تميم.
واستمر التشويش عامين كاملين حتى أجبرت فرنسا على تغيير سياستها، فاختار رجال الواجهة الشعبية بفرنسا الذين كانوا على وشك استلام الحكم بها «أرمان جيون» لتعويض «بيروطون» الطاغية في الإقامة العامة.
ودخل تونس في أبريل 1936، فبادر بإطلاق سراح القادة المعتقلين وأطلق الحريات العامة.
فاستأنف الحزب نشاطه باندفاعه المعهود، وجدد فروعه في أكثر المدن والقرى، وأصدر صحفه وخاصة جريدة «العمل» وبث دعاته في كل جهة، وساعد على تجديد الحركة العمالية وإحياء النقابات التونسية، وتعددت حوله جمعيات الكشافة والشباب.
وقام زعيم تونس «الحبيب بورقيبة» بسفرتين إلى باريس (1936 و1937) لنشر الدعوة لفائدة بلاده وإقناع الدوائر الفرنسية الرسمية بإرضاء رغبات الشعب. وكان الطلب الرئيسي في الرغبات المستعجلة منح تونس برلمانا وحكومة مسئولة أمامه. وكان لعمل «الحبيب بورقيبة» نتيجة؛ إذ حصل على بعض الوعود التي لم تنجز، ولكنه أقنع الوزير «فيانو» بنظريته، فرأى «فيانو» من المحتوم عليه أن يزور تونس، وألقى خطابا في مذياعها اعترف فيه «بأن الشكوك تحوم حول الإدارة الفرنسية بهذه البلاد»، وأعلن عن وجوب «إصلاح الإدارة التونسية وإشراك التونسيين في إدارة شئون بلادهم»، وإذا بالحكومة الفرنسية تقصي الوزير «فيانو» عن منصبه تحت تأثير العناصر الاستعمارية وحملة الجالية الفرنسية بتونس.
وغيرت فرنسا سياستها منذ ذلك الحين من غير مبرر، وأصدر المقيم العام أوامره بتعطيل الحريات وخاصة حرية الاجتماعات، فعقد الحزب مؤتمره السنوي (نوفمبر 1937) الذي قرر متابعة الكفاح وافتكاك الحريات ؛ إذ الحرية لا توهب وإنما تؤخذ ، ورد العدوان بالعدوان والعنف بالعنف، ووضع خطة للمقاومة.
وحلت بالمغرب كله موجة شديدة من الاضطهاد الاستعماري وبدأت بمراكش ثم الجزائر، فأعلن الحزب تضامن تونس مع شقيقتها وقرر أن يقوم شعب تونس بإضراب عام (نوفمبر 1937)؛ احتجاجا على سياسة فرنسا التعسفية.
ثم إنه تمادى في نشاطه العادي واجتماعاته الشعبية الكبرى رغم تحجيرها تنفيذا لقرار المؤتمر؛ إذ الاتصال بالشعب ضروري حيوي بالنسبة للحركة الوطنية، وما منع الاجتماعات إلا فصل قاطع بين القادة وبين الشعب، وإخماد للروح القومية، وقتل محتوم للحزب.
ووقع أول اصطدام عنيف بين القوات الوطنية والقوات الفرنسية المسلحة بمدينة بنزرت (يناير 1938) استشهد فيها عدد وافر وجرح عشرات.
فاجتمع المجلس الملي للحزب في شهر مارس 1938، وقرر بالإجماع عدم الرضوخ للقوانين الظالمة والأوامر الاستعمارية الاستثنائية، وقد وصلت الوقاحة والصلف بالسلطات الفرنسية إلى تحريم رفع العلم التونسي أو اتخاذه شارة. وتفرق قادة الحزب في مختلف جهات المملكة ليقودوا الشعب في كفاحه، وليعلموه التمرد على القوانين الاستعمارية. وكانت واقعة وادي مليز (4 أبريل 1938) عنيفة دامية، ورد الوطنيون هجوم القوات الفرنسية، واشتبكوا معهم في معركة دامت أكثر من نصف يوم، وسقط الشهداء عشرات والجرحى مئات، وانتشرت الاضطرابات والاصطدامات إلى جهة الكاف.
وكان يوم 8 أبريل يوما مشهودا، أضربت فيه المملكة التونسية عن العمل تنفيذا لقرار الديوان السياسي، فتعطلت المصالح العامة، وتوقفت المواصلات، وأغلقت الأسواق والدكاكين، وشلت حركة المواني، ونزل الشعب إلى الشوارع في مظاهرات منظمة رهيبة، وبلغ عدد المتظاهرين والمتظاهرات في مدن القطر وقراه أكثر من مليون نسمة حسب الإحصاءات الفرنسية نفسها، وهو عدد ضخم بالنسبة لبلاد لا يزيد سكانها على الثلاثة ملايين ونصف، ورغم كثرة الناس لم يقع ولا حادث، بل كانت السكينة والنظام يسودان الجماهير.
وإنه لنجاح باهر أحرزه الحزب الدستوري الجديد، فحقق هدفه الرئيسي الأول وهو إيقاظ الضمير القومي، وبث الشعور الوطني في جميع الطبقات، وتوحيد صفوفها لمكافحة الاستعمار، وقد تنبأ أحد أقطاب الاستعمار من دعاة النظرية الاستعمارية القائلة بوجوب فرنسة المغرب وتونس خاصة، تنبأ باستفحال الحركة الوطنية، ودعا لاستئصالها قبل أن تفوز، قال في مقدمة كتاب سماه «على أثر رد بالك» نشره سنة 1926:
إن الدستور بالنسبة للحماية الفرنسية كالمرض المزمن عند الرجل الكهل، فإما أن يتخلص من مرضه وإما أن يقتله المرض.
ولم تقدر الحماية الفرنسية على التخلص من الحزب الحر الدستوري التونسي الذي أصبح الشعب التونسي بأسره.
ولما شاهدت السلطات الفرنسية الخطر الداهم الذي يهدد استعمارها، بيتت أمرها بليل، وتآمرت على شعب تونس الأعزل، وألقت القبض يوم 9 أبريل صباحا على الأستاذ علي البلهوان، وبثت أعوانها بين الطلبة وفي الأسواق ليعلنوا ذلك الخبر، وتجمهر الشعب أمام المحكمة الفرنسية ليخلصوا أحد قادتهم من السجن، وقد كمنت القوات الفرنسية المسلحة في جوارها، واندفعت من مكمنها تحصد الشعب حصدا بأسلحتها النارية السريعة الطلقات، وهاجمت الدبابات والمصفحات الجمهور الأعزل من ناحية أخرى، فكانت أدمى مجزرة عرفتها تونس: مئات من القتلى ومئات أخرى من الجرحى.
وألقي القبض من الغد (10 أبريل) على الزعيم «الحبيب بورقيبة» وهو مريض في فراشه.
وصدرت الأوامر من الإقامة العامة الفرنسية بتعطيل الحريات كلها، وحل الحزب الدستوري التونسي، وأعلنت الأحكام العرفية في البلاد.
وانتشر الجيش الفرنسي يقتل، ويعذب، ويعتدي على الناس في الشوارع، ويهاجمهم في بيوتهم، وينتهك الحرمات، ويفسد الأرزاق، ويعيث فسادا.
وغصت السجون والمعتقلات بعشرات الآلاف من الوطنيين، وأخذت المحاكم العسكرية تصدر أحكامها بالإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة والسجن على مئات من التونسيين.
وابتدأت المحنة الكبرى التي دامت خمس سنوات لم يعرف شعب تونس خلالها غير البطش والطغيان. (1-3) المقاومة
ولكن الشعب لم يستسلم، ولم يخنع، بل استمر عدة أشهر في مقاومة شديدة عنيفة دامية؛ لأن عمل الحزب كان عميقا بقدر ما كان منتشرا، وقد بلغت كلمات الحبيب بورقيبة إلى القلوب؛ إذ كانت وصيته التي كررها في كل اجتماع: «ليست الوطنية تصفيقا وهتافا وأناشيد وحضور الاجتماعات في حالة السلم ووقت الراحة، إنما الوطنية عقيدة وإيمان بحق كل فرد في الحياة والتمتع بالحرية والسيادة في بلاده. الوطنية سعي وعمل وصبر وثبات وقت الشدة والكفاح.»
ووجدت المقاومة بعد حين دماغها المسير، وعقلها المدبر ، وبطلها الجسور، عندما رجع الدكتور الحبيب ثامر من فرنسا، فأخذ قيادتها، ونظم الحركة الوطنية خفية، وشكل شعبا للحزب سرية، وجمع الشتات وكتل القوات، وأحدث المواصلات بين الجماعات المكافحة، فكانت نشرات الحزب توزع في يوم واحد في جميع أنحاء القطر التونسي، وازدادت هكذا الحركة انتشارا وشدة حتى اضطرت فرنسا إلى التخفيف من اضطهادها، وصدرت بعض الصحف الوطنية إذ ذاك، نذكر من بينها «تونس الفتاة» وجريدة «تونس».
ولما أزمع رئيس الحكومة الفرنسية إيدوار دلادييه على زيارة تونس ردا على إيطاليا التي أظهرت أطماعها فيها جهرة، اغتنمها الحزب فرصة ليلفت أنظار الرأي العام العالمي لمطالبه في الحرية والاستقلال، وأصدر الدكتور الحبيب ثامر أوامره للشعب الدستورية السرية جميعها، فاقتبل الرئيس الفرنسي بمظاهرات شعبية صاخبة تعلوها اللافتات الكبرى تحمل رغبات الشعب في إطلاق سراح الزعماء والحرية والاستقلال، وتتصاعد منها الهتافات بحياة تونس حرة مستقلة، وحيثما سار إلا وأصمت آذانه صيحات الجماهير، وكانت أروع المظاهرات ببنزرت وباردو وتونس وصفاقس.
وكانت كل مظاهرة تتبعها موجة من الاعتقالات والمحاكمات.
وما شهرت الحرب حتى اشتد الاضطهاد، وعم القمع، فانقلبت حركة المقاومة إلى حركة مقاومة عنيفة؛ فدمرت مصالح الفرنسيين وحرقت ضيعاتهم وقطعت سكة الحديد مرارا وتكرارا، وكذلك أسلاك التليفون وأعمدته ووسائل المواصلات وخاصة التابعة منها للجيش الفرنسي.
وأعلن الجنود التونسيون الذين أدمجتهم فرنسا في جيوشها حركة العصيان، وامتنعوا عن الدفاع عن الأرض الفرنسية، وثار المرابطون منهم بالقطر التونسي، واستولوا على مدينة القيروان، وشوشوا مدينة قابس؛ فحاربتهم فرنسا، ولم تلن في قمعهم، ثم جردتهم من كل سلاح وسجنتهم في الثكنات لا يفارقونها خلال الحرب. (1-4) التنكيل والتعذيب
لم تكتف السلطات الفرنسية بالاضطهاد العام، واعتقال الوطنيين بالجملة حتى غصت بهم المعتقلات والسجون، واكتظت سجون الجزائر نفسها، ونقلت عددا منهم إلى سجون فرنسا، بل عمدت إلى أنواع من التنكيل والتعذيب، كنا نظن أن التاريخ طواها مع القرون المظلمة والعصور المتوحشة قبل أن نراها بأعيننا ونحمل سماتها في أجسامنا، ولو جمعت ما شاهدت منها وجربت بنفسي لملأ كتابا، ولا يتسع المقام إلا لسرد بعضها من غير تفصيل.
دخل معنا إلى السجن العسكري بتونس شاب لم يتجاوز الخمسة والعشرين من عمره اسمه «عبد العزيز»، وكنا نسكن كل واحد منا زنزانة؛ أي غرفة صغيرة جدا، فمرض عبد العزيز، واشتدت به الأوجاع، وعسر علينا الاتصال به أو التفريج عنه في ذلك السجن الذي كان يخيم عليه جو من الإرهاب والاضطهاد، وكنا نبيت الليل كله ونحن نستمع إلى أنين المريض، ولا تغمض لنا جفون، ولا مسعف، ولا طبيب، ولا دواء.
وفي الليلة الثالثة سمعنا منه صيحة أزعجتنا، وتوالت صيحاته في الظلام، أدخلت على قلوبنا الوحشة، وحيرت الهواجس، وبقي يصرخ صرخات كأن أحشاءه تتقطع إلى السحر فهدأ وسكن، ولما فتح الحارس في الصباح غرفته وجده ميتا، وعلمنا فيما بعد أن أمعاءه ثقبت، وكانت عملية جراحية ربما تنجيه، أو تخفف على الأقل من آلامه، وكم من أمثال «عبد العزيز» من الشباب التونسي ذهبوا ضحية الإهمال وقسوة القلب.
وقد أصبحت مراكز البوليس في تلك المدة أماكن تنكيل تقشعر منه الأبدان، فبعد أن يلقوا القبض على الوطنيين يحملونهم إليها، ويشرعون في تعذيبهم بالطرق القديمة، وبالطرق العصرية المحدثة أيضا؛ فأحيوا الخازوق (وهو عمود طويل يجلسون عليه المحكوم عليه فيخرق أمعاءه)، ولكن عوضوه بزجاجات، وكانوا يضعون أنابيب الماء في فم التونسي، ويملئون بطنه، ثم يدوسونها بأقدامهم، أو يرمونه في غرفة مظلمة بها الجص، ويبقونه أياما متوالية حتى ينسل جلده، وقسم من لحمه تحت تأثير الجص، أو يسجنونه مع عدد كبير من رفاقه في زنزانات فاقدة للهواء تقريبا، ويبللون أرضها بالماء الكثير المخلوط بالبوتاس، بعد أن يخلعوا عنهم ثيابهم ما عدا قميص وسروال، وتمر عليهم الأسابيع والأشهر أحيانا فلا يتمكنون من النوم في الليل، ولا من الراحة في النهار فوق الماء والبوتاس، ولا يعطونهم من الأكل إلا قطعة صغيرة جدا من الخبز فقط، وكوبا من الماء في الصباح وآخر بعد الظهر، فكانت أجسامهم ترتعش وترتجف من البرد الشديد وهم جياع عطشى، وما زالت أصواتهم ترن في أذني، وهم يتلهفون لجرعة ماء ويتوسلون للحارس بيتري: «يا عرف بيتري! أنا عطشان! عطشان الله يبقي لك أولادك، أغثني بشربة ماء! إني أموت! أموت!» وكان الحارس يجيبهم (مو ... ت)! بالتطويل هكذا؛ ويحمل أكثرهم من تلك الزنزانة إلى مستشفى السجن حيث يموتون.
أما الوطنيون الذين نقلتهم السلطات الفرنسية إلى سجون الجزائر، فلم يرجع إلى تونس منهم إلا الثلث تقريبا، ومات الباقي أشنع موت. ولقد سمي بعضهم سجن «لامبيز» الشهير بجهنم البيضاء، لكثرة الثلوج بجهته في فصل الشتاء، كان كل تونسي يسكن غرفة ضيقة وحيدا فريدا، والكلام محرم تحريما باتا كليا، وكانوا يجبرون على صناعة الحلفاء المبللة بالماء، في ذلك البرد القارس، فتنتفخ أيديهم وتدمى، وتتبلل أجسامهم التي لم تبق فيها قوة للمقاومة لفرط ما هم فيه من جوع. وكان الرعب يملأ قلوبهم كلما نزلوا إلى ساحة السجن وقت الطعام صفا، الواحد تلو الآخر، خيفة من السجانين الذين لا يعرفون رحمة ولا شفقة، وقد اختار مدير السجن عددا من المجرمين الكبار والأشقياء سفاكي الدماء وقاتلي الأرواح، واتخذهم أعوانا للسجانين، وهم أقوياء الأجسام ذوو عضلات وشدة، وأكثرهم من حثالة الأوروبيين (ألمان وبولنديين وروس وفرنسيين وغيرهم) يعيشون عيشة ممتازة ويأكلون أكلا فاخرا ليحتفظوا بقواهم، وعلى صدر كل واحد منهم قطعة قماش حمراء كعلامة وشارة؛ ولذا سموا بكلاب الدم، وكانوا يترصدون المساجين عند مرورهم بالساحة، ولأقل إشارة وأتفه عبارة تراهم ينقضون على التونسي انقضاضا، وينهالون عليه ضربا ويدوسونه دوسا بأقدامهم، وإذا بأسنانه تتطاير ودمائه تكسو الأرض وجسمه النحيف قد انهار، فسقط مغشيا عليه، ثم يأخذونه إلى زنزانة ضيقة مظلمة لا يدخلها هواء ولا ضوء فيتعذب فيها جوعا وعطشا، ولا تسمع أناته طيلة إقامته بها إلا ضئيلة خفيفة، وبعد أيام يخرجونه منها لا يقدر على حراك، فاني الجسم، ويزجون به في بيت الموت، وهو مستشفاهم، فلا يلبث أن يموت، وقد قضى عشرات وعشرات من التونسيين نحبهم هكذا.
كنا نقرأ في تاريخ فرنسا أن تحت قصورها وأبراجها وحصونها القديمة دهاليز وسراديب محفورة في الأرض، يضعون فيها المغضوب عليهم، ويسمونها المنسيات، وكنا نعتقد أنه لم يبق منها في القرن العشرين إلا آثار يزورها السواح ويتفرجون عليها، إلى أن نقلتنا السلطات العسكرية الفرنسية في بارجة حربية من السجن العسكري بتبرسق إلى حصن «سان نيقولا» بمدينة مارسيليا، الذي اختير كمعتقل لنا، فوصلناه برفقة زعيمنا الأستاذ الحبيب بورقيبة، وأيدينا في الأغلال والسلاسل، وكانت فرنسا على وشك الانهيار، تحت ضربات الجيش الألماني، وقد سقطت باريس في أيديهم (14 يونيو 1940) فأمرنا الحراس والجندرمة بنزع ثيابنا تماما ثم انهالوا علينا ضربا، ثم ساقونا في دهاليز تقطر ماء لفرط الرطوبة بها، وأغلقوا علينا الأبواب، وبقينا في ظلام دامس. ولما استيقظنا لم نر إلا ضوءا ضئيلا يأتينا من فوهة في السقف، وإذا بها كالبئر علوا؛ أكثر من عشرة أمتار عمقا، ووجدنا أنفسنا في منسية من تلك المنسيات العتيقة، وقد عشنا فيها ستة أشهر كاملة حتى صار الواحد منا إذا ما خرج إلى ضوء الشمس، ورأى الحركة والحياة حوله بقي مبهورا مبهوتا، وقل الأكل شيئا فشيئا وهزلت الأجسام حتى أصبحنا هياكل من عظام. ولما وزن الأستاذ الحبيب بورقيبة نفسه، رأى أن وزنه لا يفوق الخمسة والثلاثين كيلوجراما.
وما تلك إلا نماذج مما عاناه الوطنيون التونسيون، والأعجب أن العذاب لم يزدهم إلا عزما في وجوب التخلص من الاستعمار الفرنسي الفظيع. (1-5) المنصف باي
وأثناء ذلك الاضطهاد القاسي، اعتلى عرش تونس (4 أغسطس 1942) الملك الصالح والوطني المتحمس محمد المنصف باي الذي أدى يمين الخدمة الوطنية واشترك في الحزب الدستوري منذ حياة أبيه، عام 1922، واتصل بالشعب الذي أقام له الحفلات والاجتماعات، والتف حوله وعلق عليه الآمال، فأهدى لشعبه ما يملك من مال ومتاع وسار سيرة العدل والإنصاف حتى لقب بعمر الثاني، وبقدر ما كان رحيما بالشعب بقدر ما كان صلبا شديدا مع أصحاب النفوذ من وزراء ومتصرفين ومديرين، حتى انقطع الظلم وزالت الرشوة وساد الأمن والطمأنينة.
ونزلت جيوش المحور بتونس في شهر نوفمبر 1942، فأصبحت ميدانا للحرب، واكتسحها الخراب والدمار، ولكن الشعب تآزر وتساند، ولم يكترث بالقنابل والموت؛ إذ حصل على ضرب من الحرية لم يعهده منذ انتصاب الحماية الفرنسية.
وقام الوطنيون المسجونون بثورة داخل السجن تحت قيادة الدكتور ثامر ، وسقط منهم عدد من الشهداء والجرحى، ولم يتمكنوا من الحرية، بل أطلق سراحهم بعد حين بتدخل صاحب الجلالة الملك الصالح المنصف باي.
وسرعان ما كون الدكتور ثامر ورفاقه من جديد تشكيلات الحزب وعقد مئات الاجتماعات، فالتف الشعب حوله وانتظمت فيه صفوفه، وكانت عناية الحزب موجهة خاصة إلى الشباب، فأسس له المعسكرات في جميع أنحاء المملكة للتدريب ومدرسة لإخراج المسئولين والقادة، ودروسا ليلية وتمارين أقبل عليها الشباب الوطني إقبالا عظيما.
وقدم الملك عريضة لحكومة فيشي الفرنسية مطالبا فيها بحقوق شعبه، ثم كون وزارة انتقالية برئاسة دولة محمد شنيق استعدادا لاستقلال بلاده وإرجاع السيادة التونسية إلى ما كانت عليه قبل الحماية الفرنسية.
وقد التزم جلالة الملك محمد المنصف ووزارته الحياد التام في الحرب، وكان موقف زعماء الحركة الوطنية مماثلا له، فرغم الضغط الذي ضغطته على الأستاذ الحبيب بورقيبة ورفاقه الحكومة الإيطالية الفاشية بروما بعد أن أخرجهم الجيش الألماني بالقوة من سجون فرنسا، لم يقفوا بجانب المحور بل قاموا بدعاية قوية لحمل الشعب كله على الحياد بمجرد رجوعهم إلى تونس.
ولكن الفرنسيين الذين رجعوا صحبة حلفائهم المنتصرين ودخلوا تونس يوم 8 مايو 1943 سعوا في التعمية وقلب الحقائق، وأذاعوا أن المنصف باي والحكومة القومية كانوا جميعا في جانب المحور، فنصبوا لهم العداء وشرعوا في الانتقام منهم انتقاما قاسيا، فخلعوا الملك ونفوه إلى صحراء الجزائر، ثم منها إلى تنس على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وأخيرا إلى مدينة بو بفرنسا حيث مات منفيا عن عرشه وبلاده، ضحية الظلم السافر.
ونسي الفرنسيون محاربة أعدائهم الألمان والطليان، وأخذوا يقتلون التونسيين في كل مكان، رميا بالرصاص وبدون محاكمة، وملئوا منهم المعتقلات والسجون ظنا منهم أن ذلك يغسل عنهم عار الهزيمة ويرجع إليهم ناموسهم القديم، فمزقوا بأيديهم معاهدة الحماية التي فرضوها عنوة والتي تنص على أن مهمتهم الأولى هي حماية الملك الجالس على العرش وعائلته، وحماية البلاد وصيانتها من كل اعتداء، فسلموا البلاد إلى دول المحور وخلعوا الملك بأيديهم، والحقيقة أنه لم يبق لفرنسا مبرر قانوني لاستمرار وجودها بتونس، ولولا مساندة الجيوش الإنجليزية والأمريكية لها وما أغدقوه عليها من سلاح، لما تمكنت من البقاء بتونس ولا بالمغرب العربي.
وخير القادة البقاء مع شعبهم ومقاسمته أخطاره، على الهجرة مع جيوش المحور واختفوا مدة لينجوا من الفتك الفرنسي، إلى أن تدخل رئيس الولايات المتحدة روزفلت نفسه في الأمر وضمن لهم حريتهم الشخصية، فظهروا إذ ذاك وشرعوا في الاتصال بالشعب وتنظيم صفوفه سرا، وأصدروا جريدة «الهلال» السرية بمعاونة بعض الشباب الوطني، وكانت القوات الفرنسية المسلحة تهاجمهم في أكثر الاجتماعات التي كانوا يعقدونها من غير انقطاع، وتعلق بهم القضايا، وتزج بهم في السجون، ولكنهم تمادوا في نشاطهم رغم العراقيل كلها.
ولما بلغ قادة الحركة الوطنية أن ميثاق الجامعة العربية قد وقعت عليه الدول العربية، أعدوا العدة لسفر الزعيم «الحبيب بورقيبة» إلى الشرق ليسمع صوت تونس المجاهدة، فغادر رئيس الحزب تونس خفية يوم 26 مارس 1945، وركب البحر في زورق صغير من أراضي بلاده إلى طرابلس، ومنها قطع قسما كبيرا من الصحاري على رجليه إلى أن وصل مصر بعد شهر ودخلها يوم 26 أبريل 1945.
وشرع الحبيب بورقيبة هكذا في كتابة صفحة جديدة من الكفاح؛ إذ أخرج القضية من نطاقها الداخلي الضيق إلى النطاق العالمي الواسع. (2) الحركة الوطنية، المبادئ
وجد قادة الحركة الوطنية مجالا من الوقت (مدة خمس سنوات متوالية سجنا) للتفكير، وإعمال الروية ومراجعة أنفسهم في الأحداث التي مرت بهم والمعارك التي خاضوها، والنكبات التي لحقت بتونس، وتناولوا بالبحث السياسة الاستعمارية الفرنسية وطرقها، وقارنوا بينها وبين سياسية غيرها من الدول الاستعمارية، وخاصة بريطانيا، وتصفحوا تاريخ الأمم التي كانت مغلوبة على أمرها وتحررت من العبودية والرق، فخرجوا من تلك الأبحاث المتكررة، والمحادثات الطويلة، بأفكار تبلورت وتعمقت وقرأت للواقع حسابه، وآراء مقامة على معرفة شعبهم ونفسية الخصم وطبيعته، ووضعوا خطة سياسية طويلة النفس صعبة التنفيذ، فيها المغامرة والمخاطرة وفيها أيضا التعقل والحكمة، وعلموا أن الارتجال في قيادة الشعب يجر الخذلان والمهالك، كما أن السير الثابت في طريق معينة مضبوطة وخطة واحدة قد توضحت مبادئها العامة وتناسقت أجزاؤها وتكاملت، وارتبط بعضها ببعض ، ضمان النجاح والنصر إذا كانت لها المرونة الكافية، وأمكنها مسايرة الظروف والتقلبات العالمية والداخلية.
ومن البديهي أن الحركة الوطنية كجميع ما يقوم به البشر، إذا كانت لا تبلغ الازدهار ولا تأتي ثمرتها إلا بالعمل المتدارك والتضحية المتوالية، فهي للفكر أحوج وللروية والعقل مضطرة اضطرارا؛ إذ السياسة ميدان تتبارى فيه المواهب والفطن، وتتمارى فيه الأذهان والأفكار، فتكون الغلبة لمن هو أرجح عقلا وأنصع تمييزا وأحد ذكاء وأجسر قلبا وأقل تهورا، وقد سلم الشعب التونسي لرجال الديوان السياسي قيادته، والتف حولهم، ومنحهم ثقته، وحكمهم في الأموال والرقاب بعد أن سبر غورهم وجربهم المرة تلو الأخرى، ورآهم صابرين ثابتين كالجبال الرواسي، لا تتغلب عليهم الأحداث، ولا تقهرهم المصائب، ولا يخضعهم عذاب، ولا يفل في عضدهم نفي ولا سجن، ولا حر الصحاري المحرقة، ولا ثلوج معتقلات فرنسا المبيدة؛ إيمان لا يتزعزع وعزم لا ينثني، وعمل لا ينقطع. وكان يقين القادة لا تردد فيه في أن الشعب سيعينهم على تحقيق ما وضعوه من خطة، وقد سار فعلا في الطريق التي عبدوها.
وكانت الحرب إذ ذاك تطحن القسم الأكبر من آسيا وأوروبا وأفريقيا، والقوات الألمانية في مدها متقدمة قبل أن يأتيها الجزر، وكانت عواطف غالب العالم العربي إلى المحور أميل، وعن الحلفاء منحرفة؛ لما ناله من بعضهم من ظلم وعدوان واستعمار. وقد رأى شعب تونس قوات الجيوش النازية تحتل باريس وترغم أنف فرنسا وتتغلب عليها قهرا في أيام معدودات، فانساق جزء كبير من التونسيين - مثقفين وعمالا وأغنياء - إلى حب الألمان والشماتة بخصمهم المنهار، ولكن الحبيب بورقيبة رأى خطر الاندفاع العاطفي، فعدد الإنذارات إلى تونس وسانده رفاقه المساجين معه لإبعاد التونسيين عن الارتماء في أحضان المحور؛ لأن السياسة الرشيدة لا تقام على العواطف ولا تنقاد للأهواء، ولكنها تسير حسب مصالح الوطن العليا، فماذا تنتظر تونس من المحور غير تقديمها هدية إلى موسوليني. ونحن نعلم ما فعله الإيطاليون عامة والفاشيون خاصة في ليبيا، فليس من الرشد في شيء أن نخرج من استعمار فظيع لنقع في استعمار أفظع، أضف إلى ذلك اقتناعنا بهزيمة المحور، وينبغي لتونس ألا تكون في شق المغلوبين، وقد تحققت تنبؤات الحبيب بورقيبة كلها، فلما أخرجنا الألمان من سجون فرنسا سلمونا إلى الطليان، وجرت محادثات مع المسئولين هناك، فلم نقبل كأساس للمفاوضة إلا الاعتراف حالا باستقلال تونس وتسليم النفوذ بها إلى التونسيين، فأجاب نائب وزير الخارجية الإيطالية: «هل تظنون أن إيطاليا خاضت الحرب لتهب لكم تونس، وهي إنما تريدها لنفسها.» ففسدت العلاقات منذ ذلك اليوم بين القادة الوطنيين وبين الحكومة الإيطالية، ولما رجعوا إلى تونس أسرعوا إلى بث فكرة الحياد، ثم الاتصال مع ممثل أمريكا لدى السلطات التونسية القنصل «دوليتل» خلال واجهة القتال، فكان أكبر عون لهم فيما بعد.
وكان هكذا اختيار القادة لمعسكر الحلفاء - رغم وجود فرنسا بينهم - أكبر ضمان لحياة الحركة الوطنية وبقائها، واستمرارها.
وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية حتى تعالت أصوات الشعوب المغلوبة على أمرها، وصرخ مئات الملايين من البشر مطالبين بحقهم في الحرية والاستقلال، واكتسحت موجة التحرير القسم الأكبر من آسيا، وكأنها توقفت قليلا عند حدود أفريقيا، وكان ميثاق الأطلنطي ثم ميثاق سان فرنسيسكو ثم تأسيس الأمم المتحدة، مبعث الآمال الجسام والدليل على أن الموازنة العالمية قد تغيرت، وأن أوروبا الغربية المستعمرة لم تبق صاحبة الكلمة النافذة والسيطرة المطلقة على البحار السبعة والقارات الخمس، بل أصبحت هي نفسها بين عملاقين عظيمين: روسيا الشيوعية في الشرق، والولايات المتحدة الأمريكية في الغرب.
فما هو حظ تونس يا ترى من هذا الانقلاب العالمي، فقد ساعدت الظروف العالمية بعض الشعوب على نيل استقلالها الأسمى، ولكن الاستقلال الحقيقي لا يوهب ولا يعطى، إنما يؤخذ ويفتك، ولا يحصل عليه من الشعوب إلا من كان أهلا له، وقد قطع الشعب التونسي المرحلة الأولى الأساسية في سيره نحو الاستقلال، فتغلغلت الفكرة الوطنية في نفسه، وبلغت الدعوة جميع الطبقات، واكتسحت المدن والقرى والبوادي، ولم تبق مجرد عاطفة وحماسة واندفاع، بل تبلورت العاطفة في فكرة واضحة جلية، وفهم الشعب في مجموعه أن الروح الوطنية ترمي إلى عمل إيجابي وبناء وتشييد في جميع الميادين، وتكوين قوة فعالة لإنجاز تلك المشاريع، بقدر ما ترمي إلى سد الأبواب في وجه الخصم الاستعماري اللدود ومكافحته دوما واستمرار مكافحة لا تنقاد للبغض الأعمى والكراهية المتنطعة، بل فيها التمييز الواضح بين حاملي الفكرة الاستعمارية وغيرهم من الفرنسيين أنفسهم، وأن لا عدو غيرهم، فيعمل على جلب بقية الجاليات الأجنبية واستمالتها، ويسعى لإقناع الفرنسيين الأحرار ليكونوا أعوانا له ودعاة لقضيته العادلة.
فأقام شعب تونس الدليل تلو الدليل على أنه بلغ رشده السياسي واكتمل وعيه القومي، وتعمق في شعوره الوطني، وأصبح يتفهم أدق المواقف السياسية، ويوجه ضرباته إلى خصمه الوحيد: الاستعمار وأنصاره، وبعد جهاد مرير مستمر خاضه وراء حزبه - الحزب الحر الدستوري - طيلة عشرين سنة، صبر وصابر وثبت وغامر فيها، أصبح لا يخشى عليه من التفكك والابتلاع، واقتنع أنه شعب عربي مسلم صاحب مجد تالد ومدنية خالدة وتاريخ عظيم، وأعرب عن إرادته الراسخة في أن يحيا حياة العزة والكرامة، وأن يقيم على تراثه الباقي، مجتمعا جديدا ونظاما حديثا ومدنية تماشي روح العصر الحاضر. ففي إمكان القوة الاستعمارية الغاشمة العمياء أن تزهق الأرواح وتعذب الأشخاص وتفسد الأقوات والأموال وتخرب البيوت، وفي إمكانها أن تسجن الأجسام وأن تضيق عليها، ولكن يستحيل عليها أن تقتل الفكرة الحرة الطليقة التي تعددت بتعدد معتنقيها، ونمت وانتشرت، وسكنت النفوس التي لا تسجن، وتغلغلت في القلوب التي لا تغل، وأصبحت عقيدة وإيمانا لا يقتلع.
ومنذ ذلك الحين شرعنا في المرحلة الثانية الأساسية، وهي معركة افتكاك النفوس السياسي ونقله من يد الفرنسيين إلى أيد تونسية، وهو عمل إيجابي صعب محفوف بالأخطار؛ لأن الاستعمار الفرنسي توغل في البلاد وتغلغل، ورمى عروقه في أرضها وانتشر على سطحها.
فالمراكز الرئيسية في الإدارات التونسية كلها، ومعاقل النفوذ والسلطة بها في قبضة الفرنسيين، حتى إنها أصبحت آلة مسخرة لخدمة مصالحهم والمحافظة على امتيازاتهم المجحفة، والتشريع وسن القوانين في أيديهم أيضا، قد مكنهم من إعطاء اعتداءاتهم المتوالية صبغة قانونية وطلاء شرعيا كاذبا، والمال الذي تخضع له الرقاب وتقوم عليه الأعمال في تصرفهم؛ إذ إنهم يتحكمون في الميزانية التونسية - دخلا وخرجا - كما تمليه عليهم أهواؤهم ومصالحهم.
ثم إن الاستعمار الفرنسي مال إلى نفوس قسم من التونسيين يدنسها ويفسدها، بل يختار أسقط الناس وأحطهم خلقا وأطوعهم لإرادته وشهواته، وإن كانوا خلوا من كل ثقافة أحيانا، فاقدين لكل ضمير، فيتخذهم أعوانا أذلاء خانعين ويسند إليهم المناصب العالية والوضيعة، ويطلق يد أطماعهم في أرزاق الناس، ويفتح لهم أبواب الارتشاء على مصراعيها، ويجعل من عباد الدرهم والدينار، الذين يسيرون في ركب كل قوي جبار، ويميلون مع النفوذ حيث مال كالظل التابع لصاحبه، صنائع له ومريدين، فيكون زمرة من الخونة المارقين، قد تعودوا الخيانة ومرنوا على الغدر والنفاق، حتى إنهم أسرعوا إلى خيانة أسيادهم الفرنسيين عندما احتلت جيوش المحور تونس، وباتوا أكثر نازية من الألمان أنفسهم. وقد انتقم الفرنسيون من بعضهم وحكموا عليهم بالإعدام كعلي بن ضياف الذي كان عاملا (متصرفا أو مديرا) في الجنوب التونسي أثناء الحرب، ثم عفوا عنهم وأرجعوا أكثرهم لمناصبهم، وهؤلاء هم أصدقاء فرنسا.
ثم إن الاستعمار الفرنسي بقي بتونس سبعين سنة، فوجد من الوقت ما يكفيه لمعرفة سهولها وجبالها، وقراها ومدنها، والمراكز الاستراتيجية المهمة فيها، والطرق المتحكمة حربيا في أجزائها، فاحتلها جميعا بقواته العسكرية، وبث البوليس الفرنسي في كل مكان، وجعل من الجندرمة - أي الدرك الوطني الفرنسي - أسيادا يسيطرون على داخل المملكة كلها، بدعوى المحافظة على الأمن، وبنى لهم من الميزانية ثكنات كالقصور في كل مكان، وأغدق عليهم من مال التونسيين ما يمكنهم من شراء الضمائر وتكوين العيون في الأسواق، وأحياء القبائل وغياض المزارعين والفلاحين، فتمكن هكذا من الاستيلاء على القطر التونسي استيلاء عسكريا بوليسيا شديدا محكما.
وينبغي ألا ننسى أن الفرنسيين استحوذوا شيئا فشيئا على جميع الميادين، سياسية وإدارة، وتعليما، واقتصادا، وزراعة، وتجارة، وكادوا يقفلونها في أوجه التونسيين، ويحرمونهم من كل نشاط ما عدا الاشتغال كعمال عند الفرنسيين. ولكن التونسيين لم يستسلموا في أي ميدان، وقاوم كل جماعة منهم لإثبات وجودهم وضمان حياتهم، حتى جاء الحزب فوحد الجهود ، ونظم الصفوف، واتخذت إذ ذاك المقاومة شكلا جديدا متناسقا لإيقاف ذلك التيار الجارف والموت الداهم.
تلك هي بعض الصعوبات الرئيسية التي يجب التغلب عليها، وذلك هو الاستعمار الذي تعززه فرنسا بأموالها وجيشها وقوات مستعمراتها، فكيف يمكن صدها عن دوس تونس الصغيرة ومحوها؟ فلا بد إذن من التفكير الرصين لتوفير أسباب النجاح واجتناب ما أمكن من أسباب الخيبة. وشروط النجاح ثلاثة؛ أولها: اعتماد الشعب على نفسه حتى يكون من ضعفه قوة، ومن تشتته وحدة، ويغذي في أبنائه روح التضحية. وثانيها: تكوين عطف عالمي من الشعوب والحكومات لتساند تونس في قضيتها. وثالثها: اختيار الظروف العالمية الملائمة. (3) غايات الكفاح التونسي أو المبادئ التي جاهد من أجلها شعب تونس
ليس من باب الصدف أن صرح الصحفي الفرنسي الشهير «جان روس» فقال: «أغرب ما أحدثه الحزب الدستوري بتونس أنه كون رجالا أحرارا مستقلين في تفكيرهم في بلاد لا تتمتع بالحرية ولا بالاستقلال.» ولم يعرب عن رأيه هذا إلا بعد أن زار أغلب جهات المملكة التونسية، بصحبة الحبيب بورقيبة، وجالس جميع الطبقات، وتحدث مع جميع الأوساط من مثقفين وتجار وعمال وفلاحين وغيرهم، ولقد تعجب مما شاهده وسمعه، وأن ملاحظاته تنبئ عن أمر واقعي محسوس كان نتيجة لعمل دام عشرين سنة، وجه الحزب أثناءها عنايته إلى تكوين الفرد التونسي وتبديل نفسيته حتى أيقظه ودربه وصيره عضوا عاملا صالحا في المجتمع، عارفا بواجباته وحقوقه، مميزا لأدق المواقف السياسية، متفطنا لألاعيب الاستعمار وأذنابه، معتمدا على نفسه. وقد كانت الثورة الوطنية الكبرى في النفوس والعقول، فأذهبت عنها الجمود والركود، وخلصتها من الخوف والأوهام وعبادة التقاليد البائدة، وأحيتها من جديد فكأنها بعثتها بعثا وغيرت في نظرها سلم القيم، حتى آمنت بأن الموت أفضل من حياة الذل والهوان، وأن حياة بلا كرامة شخصية ولا عزة وطنية، ولا ضمان للعيش ولا حرية فردية وجماعية؛ إنما هي الموت نفسه، بل أشنع منه، لأنها تنزل بالإنسان إلى مستوى الحيوانات والبهائم، حقا إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وقد غير التونسيون ما بأنفسهم، ثم انقلبت تلك الثورة النفسية إلى ثورة دامية لا تعرف الكلل ولا الملل في شعب اشتهر بلينه وهدوئه ولطفه ورقته، حتى قال فيه جورج ديهاميل الكاتب الفرنسي العالمي: «إن تونس أثينا العالم الشرقي»، لما شاهد في أهلها من اتزان في الأفكار ومرونة في العقل وتناسق في الأجواء وسهولة على هضم المدنية الأوروبية من غير أن ينصرفوا عن مدنيتهم العربية الإسلامية.
إن شعب تونس لم يقدم على ما أقدم عليه من تضحيات جسيمة إلا وهو عارف لماذا يضحي ولماذا يستميت، مقتنعا أن لا طريق آخر لتحقيق الأهداف التي وضعها أمام أعينه، فما هي تلك الأهداف؟
لقد قام التونسيون بتجارب عديدة متنوعة في شتى الميادين لينهضوا ببلادهم ويحققوا لها الإصلاح المطلوب بمشاريع طويلة النفس تسعى إلى الإنشاء والبناء، وقالوا: إن استقلالا لا يتم من غير اقتصاد سليم زاهر، فكونوا الشركات المختلفة للتصدير والاستيراد والتجارة بأقسامها، وأسسوا معامل للنسج، وأحدثوا البنوك الوطنية، وإذا بالسلطات الاستعمارية توقف عملهم التجاري بأن تمنع أحيانا بطرق منعوجة وبدعوى تنظيم التصدير والاستيراد، وأحيانا تمنعهم جهرة من الاتجار مع الخارج، وتضيق عليهم وتعطي أوامرها للبنوك الفرنسية لتقطع عنهم القروض، وإذا بجميع تلك الشركات تعلن إفلاسها بعد مدة وجيزة. وأما معامل الغزل والنسج والشيكولاتة والمصبرات والزيوت، فإنها تقتلها بطرق أخرى، فعوض أن تحميها من المنافسة الأجنبية وخاصة الفرنسية، تفتح أبواب الجمارك للبضائع المماثلة لإنتاجها، ثم تجبرها على شراء المواد الأولية من السوق الفرنسية، رغم ارتفاعها عن الأسواق الأجنبية، ثم تضيق عليها بالأنظمة والقوانين، حتى أرغمت كثرتها على توقيف عملها. أما البنوك التونسية فإن سلطات الحماية تحاربها من غير قناع، فتفتك منها أموالها عنوة، وتغلق أبوابها بأمر عسكري مدعية أن تلك البنوك مجعولة لتمويل الحركة الوطنية.
وقد رأينا تلك السلطات الاستعمارية تحارب المزارعين التونسيين حربا لا هوادة فيها، فتثقل كواهلهم بالجبايات المجحفة، وتسلط عليهم أعوانها ليسلبوا منهم أموالهم بالارتشاء، وتوقف أعمالهم لأقل قضية تلعق بهم، وتطلق في غالب الأحيان يد المرابين والبنوك العقارية الفرنسية لبيع أملاكهم وما يكسبون، وتشكك في حقهم في ملكية أرضهم والتمتع باستثمارها ، وتحرم على التونسيين شراء أرض تونس إذا ما كانت في ملك الفرنسيين والإيطاليين أو غيرهم من الأوروبيين، فإن نهضت الفلاحة التونسية وبدلت طرقها العتيقة وعوضتها بالطرق العصرية في كثير من الجهات، وازدهرت، فتلك معجزة أتى بها الفلاح التونسي رغم عرقلة الاستعمار له في كل خطوة يخطوها.
ثم قال التونسيون: إنه لا نهضة تمكن، ولا تقدم يحصل، ولا استقلال يتم إلا بالتربية والتعليم، ولكن الاستعمار بالمرصاد، يعد علينا أنفاسنا، ويسعى لإفساد مشاريعنا؛ ولذا رأيناه يسعى لتعطيل الإصلاح بجامع الزيتونة حتى أصبح التيار جارفا، فلم يقدر على وقفه. أما المدارس الحرة التي نسميها بتونس المدارس القرآنية، فإن إدارة العلوم والمعارف الاستعمارية أخذت تضايقها بالقوانين والأنظمة، حتى منعت التونسيين أخيرا من إنشاء مدارس جديدة أو زيادة فصول في المدارس القديمة إلا بعد موافقتها، ومعنى ذلك أن حركة إنشاء المدارس أو توسيعها قد كاد يتوقف تماما. وقد شوهت برامج التعليم إلى درجة أنها مسخت مسخا؛ لا هي عربية صريحة ولا هي فرنسية صرفة، بل هي مزيج بلا روح، وخلط يفسد عقول الناشئة.
وبعد التجارب المرة والخيبات المتوالية، تبين شعب تونس أن القضية الوطنية وحدة لا تتجزأ، وأن الإصلاح في أي ميدان من الميادين مستحيل ما دام نظام الحماية الاستعماري قائم الذات، وأصبحت المشكلة السياسية هي أم المشاكل لا يمكن أن يحل غيرها إلا بحلها.
وهكذا كان أول مبدأ أقيمت عليه الحركة الوطنية، هو مبدأ الاستقلال، ويتمثل الاستقلال أولا وبالذات في إلغاء معاهدة الحماية التي مكنت الأجنبي من السيطرة على البلاد وبررت احتلاله لها، واستثماره لخيراتها. وتوجهت الجهود كلها إلى إزالة الحكم الفرنسي المباشر، وتوحدت الصفوف وتكتلت القوى لتلك الغاية المقدسة، فما دام الحكم الأجنبي مسلطا على المملكة التونسية يستحيل عليها أن تخطو خطوة حقيقية نحو الرقي والمدنية والازدهار المادي والأدبي، وإذا ما خطت خطوة إلى الأمام في ميدان فإنها تتقهقر خطوات إلى الوراء في الميادين الأخرى، فالحكم الأجنبي هو السبب الرئيسي في بطء نهضتنا، وهو السد المنيع بيننا وبين النهضة الشاملة التي تمكننا من الالتحاق بقافلة الأمم المتمدينة، كما قال الكاتب الفرنسي المعروف «دانيال جيران»: «يمكن لتونس أن تصبح - كالأقطار الاسكندنافية - جنة صغيرة على وجه الأرض لولا الاستعمار الفرنسي.»
ولما قامت حجة التونسيين حسب القانون والشرع، وحسب العدالة والحق، وحسب العواطف والرحمة والإنسانية، التجأ أصحاب النظريات الاستعمارية إلى ضروب من السفسطاء لا تروج على العقول، وأنواع من الادعاءات تخالف الواقع المحسوس، نأتي ببعضها كنماذج من تلاعب القوم ومهارتهم في قلب الحقائق. يقولون إن فرنسا لا ترى مانعا من إعطاء تونس استقلالها، ولكن سرعان ما تحتل دولة كبيرة أخرى مكانها، فتصبح تونس المسكينة مستعمرة لها؛ ولذا يجب المحافظة على معاهدة الحماية واحتلال الجيوش الفرنسية لتونس. وهذا منطق غني عن أي تعليق معناه: يجب أن آكل هذه الفريسة لكيلا يأكلها غيري، ومن أدراك أن غيرك يريد أكلها؟ ومن أنبأك بأنها لن تحافظ على استقلالها كغيرها من الشعوب الصغيرة في العالم؟
ثم يقولون إن فرنسا مستعدة للتنازل للتونسيين عن حق إدارة بلادهم بأنفسهم، ولكن بشرط واحد: وهو أن يصبحوا قادرين على تسيير شئونها والتحكم في مصيرها، ثم إن الفرنسيين أنفسهم يجتهدون في عدم تمكين التونسيين من الثقافة اللازمة لذلك، ويقصونهم إقصاء كليا عن مراكز النفوذ ومناصب السلطة ووظائف التدريب والتمرين على الحكم، حتى يبقوهم دائما أبدا عاجزين عن تسيير إدارة بلادهم بأنفسهم. ولو كان الفرنسيون مخلصين صادقين في ادعائهم، لكانت مدة احتلالهم لتونس (سبعين سنة) كافية لذلك التكوين المطلوب.
وآخر سفسطة ابتكروها هي أن الدول الكبرى نفسها - كفرنسا مثلا - لم تبق حرة مستقلة استقلالا مطلقا، بل نحن نعيش في عصر الكتل الكبرى التي تعد كل منها مئات الملايين من البشر؛ ولذا ينبغي لتونس أن تحافظ على مكانها في الوحدة الفرنسية، وكأنهم نسوا أو تناسوا أن الدول التي تكون تلك الكتل الكبرى متساوية في الحقوق والواجبات؛ قد تنازلت كل واحدة منها بقسط مماثل من سيادتها لمصلحة المجموع، وأنها تعاقدت مع حلفائها معاقدة الند للند، والحر مع الحر، عن رضى وطبق إرادتها. أما ارتباط تونس بفرنسا فهو ارتباط الغاصب مع المغصوب، والغالب مع المغلوب، والسيد مع المسود، والمولى مع عبده، دخلت تونس تحت الحماية الفرنسية رغم إرادتها وغصبا عنها، فهو اتحاد لا مساواة فيه ولا حرية ولا عدالة، كاتحاد الشاة والذئب، والفريسة والأسد. إنما تتحد الدول المستقلة لتحمي كيانها، وتضمن مصالحها. وتجبر فرنسا تونس على الاتحاد معها لتضيع جميع مصالحها، وليمحق كيانها، وإنها لسفسطاء مضحكة لو لم تجر وراءها ما يبكي.
والاستقلال المنشود لا يتحقق إلا إذا حافظ الشعب التونسي على كيانه كشعب له مميزاته وتقاليده وعاداته وأخلاقه، وتمسك بروحه التي استقاها من آبائه وأجداده والتي كونتها قرون من تاريخ ماجد ومدنية عميقة، ولم يفرط في مقومات قوميته من إسلام وعروبة. وإن الإسلام والعروبة هما عمادا الفكرة الوطنية وأساسها، وليس معنى الدين عندنا التعصب الأعمى، بل هو الأخوة البشرية والتراحم، واحترام الغير في تفكيره وعقيدته وميوله وآرائه، مع المحافظة التامة على إسلامنا إيمانا وعبادات ومعاملات، وليس معنى العروبة - جنسا ولغة - العنصرية البغيضة ولا التفوق الكاذب على البشر، ولا معاداة اللغات الأجنبية والثقافات الأعجمية، بل السهر على لغتنا يجعلنا نحترم لغة غيرنا ونستمد منها ما نحتاجه من علوم وفنون، ومما يزيدنا تعلقا بالفصحى وتفانيا في خدمتها، وهو أنها لغة القرآن الكريم والدين الحنيف، وأنها أيضا الرابطة الكبرى التي تربطنا بالشعوب العربية الشقيقة، وهي اللحمة بإخوان لنا خارج حدود تونس الضيقة، يوحد بيننا التاريخ، وتجمعنا بهم محنة الاستعمار، وتتكون منا ومنهم الأمة العربية؛ ولذا كانت فكرة الوحدة العربية فكرة متأصلة بتونس، راسخة في أرضها متولدة عن طبيعتها.
وهكذا كان المبدأ الثاني للفكرة الوطنية بتونس هو وحدة المغرب العربي والانتماء للجامعة العربية.
والاستقلال وإن لم يكن أمرا سلبيا بحتا إلا أنه لا يمكن أن يكون وحده غاية الغايات في الحركة الوطنية. نعم هو الشرط الأساسي وبدونه لا تمكن الحياة لشعب، فهو إذن الوسيلة الوحيدة لضمان تلك الحياة. وليس الاستقلال في نظر شعب تونس إنهاء الحكم الأجنبي فقط، بل هو الطريق والمنفذ والباب نحو أهداف سامية ومبادئ واضحة اعتنقها الشعب، وعزم على تحقيقها في ميدان السياسة والمجتمع والاقتصاد والتعليم؛ لأنها كلها مرتبطة بعضها ببعض، متفاعلة، تكون ضربا من الوحدة عجيبا. والشعب التونسي لا يعيش في الماضي؛ فقد نفض عنه غبار القرون، وماشى هذا العصر الحاضر في حاجياته الأدبية والمادية.
ليس الظلم والحيف والفساد والفوضى بتونس ناتجة عن عمل شخص معين، بل ولدها نظام الحكم الحالي، وما زالت مرارة التجارب القاسية في فم كل تونسي، فالحكم الأجنبي المقنع أحيانا والسافر الظاهر أحيانا أخرى. الحكم الأجنبي المباشر قد دام سبعين سنة شاقة طويلة داس خلالها حقوق الشعب وكرامته، وعبث بمصالحه وأعرض عن رأيه، وعاكسه في إرادته، وسلم النفوذ لإداريين فرنسيين مهمتهم فنية أو إدارية، فضاعت بينهم المسئوليات واختلطت في أيديهم السلطات وأصبحوا ملوك طوائف وأخطر. فنظام الدولة التونسية في الظاهر هو الملكية المطلقة من الوجهة الشرعية القانونية، وأما في الواقع فإن الموظفين العالين الفرنسيين قد استحوذوا على النفوذ وصرفوه كما شاءت لهم أهواؤهم ونزعاتهم الاستعمارية؛ ولذا كان المطلب الأول للحركة الوطنية هو إدخال النظام على تلك الفوضى ومنح الدولة التونسية دستورا قارا يضمن للأفراد وللمجموع حقوقهم، ويحدد المسئوليات والسلطات.
عرف شعب تونس مساوئ الحكم الفردي والملكية المطلقة والحكم الأجنبي، ورأى أن الملكية المطلقة لا تقل خطرا عن الاستعمار نفسه، وكثيرا ما تكون مطية له، وبابا يدخل منه ودعامة له يعتمد عليها في استمراره وبقائه، فاتخذ المبدأ الديمقراطي الصحيح كأساس لبناء دولة عصرية سليمة، حكم الشعب بالشعب للشعب، فإرادة الشعب في مجموعه فوق كل إرادة، وهو صاحب الكلمة النهائية في تقرير مصيره واختيار ما يريده من حكم وما يرتضيه من حاكمين، وهو القوة الواعية المحافظة على نظام الحكم، وهو أيضا مصدر السيادة كلها لا يشاركه فيها مشارك، وهو منبع السلطات ومقرها وصاحبها الحقيقي.
والشعب أيضا هو الحاكم وهو المرجع، فيختار من بين أفراده من ينوب عنه في تنفيذ إرادته والتصرف في سلطاته، مع أنهم لا يعملون إلا باسمه، ثم إليه مرجعهم فيحاسبهم ويجدد ثقته فيهم أو يزيلهم عن مناصبهم حسب أنظمة معينة ومواقيت مضبوطة.
والحكم الديمقراطي لا يكون لصالح شخص واحد ولا طبقة واحدة، بل يكون لصالح عموم الشعب وضمان مصالح مجموعه، والسهر على الوطن كله، والاحتفاظ به وبثروته للجيل الحاضر والأجيال المقبلة.
لقد وجهت الانتقادات الكثيرة للحكم الديمقراطي، وأظهر كثير من المفكرين السياسيين ما فيه من عيوب حقيقية من أعظمها صعوبة الاستقرار، ونشر الخطط والبرامج السياسية وفضحها على الملأ وتسليم مقاليد الأمور لأناس ربما لا يحسنون التصرف فيها، وإنما برعوا في الاستحواذ على ثقة الجماهير بذلاقة اللسان والتلاعب بالألفاظ والمهارة في الدعاية. ثم بعد هذا كله كيف يمكن للتاجر والأستاذ والفلاح والطبيب، وغيرهم من أرباب الصناعات والمهن، وإن كانوا بارعين في أشغالهم الخاصة، كيف يمكن لهم أن يكونوا الساسة الحقيقيين والقادة المسيرين للحكم، مع جهلهم للسياسة وأصولها وبعدهم عنها وعن خفاياها وأغوارها وغاياتها، وقلة مرونتهم فيها وتجربتهم لها. إن ألف جاهل لا يكونون عالما، وإنك لا تسلم جسمك المريض إلا لطبيب عارف مجرب، فكيف تسلم قيادة دولة للخباز والبقال والمزارع والمحامي وغيرهم من أبناء الشعب، يختارون النظام اللائق لها، ويسيرون دفتها، ويتحكمون في مصيرها. فعيوب الديمقراطية لا تنكر ولكنها تتضاءل أمام عيوب نظم الحكم الأخرى، وخاصة الحكم الدكتاتوري سواء أكان تحت اسم الملكية المطلقة أم غيره من الأسماء؛ لما فيها من ظلم وتعسف وعدم مسئولية وفقدان للحرية ومغامرات ربما تجر الشعب إلى الهلاك، وضياع المصالح الخاصة والمصلحة العامة نفسها أحيانا، ويمكن الإتيان بعشرات الأمثلة من التاريخ القديم والحديث للدلالة على ذلك. وقد اعتمد الشعب التونسي في اختيار النظام الديمقراطي على تعاليم دينه الحنيف:
وأمرهم شورى بينهم ،
وشاورهم في الأمر ، فتعاليم الإسلام تنافي الاستبداد بأنواعه وتحض على الديمقراطية.
إن شعب تونس أصبح لا يتحمل الملكية المطلقة ولا يرضى بها، ولن يسمح بوجودها، ولكن الملكية الدستورية تجمع بين حسنات الملكية والديمقراطية، فالملك عنصر الدوام والاستقرار في الدولة، والعمدة في المحافظة على مصالحها العليا، وضمان الاستمرار في حياتها السياسية، وهو أيضا عنوان الدولة ورمزها الحي، ورئيسها الدائم وعلامة وحدتها، وممثل سيادتها. والملكية لا تناقض تقاليدنا ولا تخالف روح تاريخنا، بل يتقبلها الشعب برضى من تلقاء نفسه، ويجد العرش كنقطة ارتكاز في المحن والمصائب ومعقل الآمال مدة الكفاح والجهاد، فيلتف حوله لتحقيق وحدته وصيانة كيانه.
وتكون هذه الملكية دستورية؛ أي إن الملك يصبح أكثر رسوخا، وتكون السلطة التنفيذية تحت إشرافه في يد وزارة مسئولة أمام برلمان، فيختار الشعب أفراده كنواب عنه.
والحرية روح ذلك النظام الديمقراطي وأساسه، فإذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب وللشعب حقا، فمعنى ذلك أنه يختار ما يريده من نظام وسياسة، ومن قال اختيارا قال أيضا حرية؛ إذ من البديهي أن الاختيار يفرض وجود الحرية، فلا يكون حرا من هو مجبور على قبول نظام معين وسياسة محددة مضبوطة وضعها غيره، ولا يمكن اختيار إلا إذا كانت أمام الشخص أنظمة مختلفة وسياسات متعددة وحلول متنوعة، فيختار إحداها دون غيرها، عن اقتناع فردي ومن تلقاء نفسه من غير أن يكون تحت ضغط خارجي أو تهديد أجنبي عنه، بل حسب إرادته الشخصية، وكما يمليه عليه عقله وإدراكه؛ لأن الاختيار في المجتمع السياسي كاختيار الفرد لأعماله، ولو لم يكن الفرد حرا في اختيار أعماله، ولو فرضت عليه الأعمال فرضا، لما بقي مبرر للجزاء ولا سبب للعقاب. وكذلك في الحياة السياسية لا معنى للديمقراطية إذا لم يكن أفراد الشعب أحرارا في اختيار ما يرونه من حكم. والحرية في حقيقتها وفي الواقع أيضا كل لا يتجزأ، فإما أن تكون وإما ألا تكون، فإذا وقع الاعتداء على فرد أو جماعة من الشعب وسلبت منهم حريتهم من أجل آرائهم أو معتقداتهم، يفتح الباب للاعتداء على حرية جميع الشعب وكبته. وحرية الفرد مرتبطة بحرية المجموع أيضا، فإذا كانت حرية الشخص الواحد مقدسة، فكذلك حرية الجماعات، فللفرد أن يبدي ما يراه من آراء، وله أن يحاول إقناع غيره بها، كتابة وقولا، وتلك هي حرية الفكر، وله أن ينتقد آراء غيره وأن يفندها وأن يتبع بالتحليل والنقد أيضا آراء الحكومة ورجال السياسة وأعمالهم، وله أن يكون مع غيره من المواطنين جماعات للدفاع عن أفكارهم والدعاية لها ، وله أيضا الحرية الكاملة في معتقده من غير أن يكون عرضة للاعتداء من طرف الحكومة أو من طرف جماعات أخرى من الشعب، وتلك هي حرية الأديان. وليس الحرية هي الفوضى بل فيها ضرب من النظام عجيب؛ إذ تنتهي حرية كل فرد عند ابتداء حرية غيره، فمن لا يحترم حرية غيره ليس أهلا للتمتع بحريته؛ ولذا كانت الحرية تتطلب ضربا من الرقي والتربية السياسية والاجتماعية في الشعوب وأفرادها، يجعلها تتسامح ويحتمل بعضهم بعضا، فلا يلجئون للقوة لفرض إرادتهم أو آرائهم أو معتقدهم على غيرهم، حتى يصبح ذلك التسامح جبلة وطبيعة ثانية في كل مواطن، فتقديس حرية الغير إنما هي تقديس لحريتك الشخصية.
لقد شاهدنا كثيرا من المفكرين السياسيين - وخاصة بفرنسا - يظنون أن الحرية مرتبطة بالمساواة، بل يميلون أحيانا إلى تدعيم المساواة والدفاع عنها أكثر من ميلهم للحرية نفسها، مع أنهما مختلفان في جوهرهما وكنههما؛ إذ نرى في أكثر الديمقراطيات الحرية موفورة إلى درجة، ولكننا لا نشاهد المساواة بين أفراد الشعب في الغالب، يقولون المساواة في الحقوق والواجبات، نعم المساواة أمام القانون العام أمر حتمي لنظام المجتمع سواء في الديمقراطية أو في غيرها؛ إذ يقام كل مجتمع على قداسة القانون سواء أكان موضوعا أم دينيا منزلا، لأن العدل أساس العمران، ومن مصلحة الحاكم مهما يكن نوعه أن يحترم القانون.
والمساواة في الديمقراطية هي أن تكون أصوات جميع المواطنين - أصحاب الحق السياسي - متساوية عند التصويت أو في انتخابات النواب عنهم، نعم هذا الضرب من المساواة موجود في الغالب في البلاد الديمقراطية، ولكن التفاوت بين المواطنين في الثروة والثقافة والمواهب يجعل تلك المساواة نظرية أكثر منها واقعية. فنفوذ الغني وفرض آرائه على الفقير من الأمور الجلية البديهية، وكذلك نفوذ المثقف وأصحاب الجاه.
أي معنى للحرية وأي مجال للمساواة إذا كانت الديمقراطية تقتصر على الميدان السياسي وحده، ولا تشمل الميدان الاجتماعي والاقتصادي؟! فهل حرية الفقير إلا حريته في أن يعيش ويموت في تعاسة؛ فحظه من الحياة الفاقة والمرض والجهل والجوع أحيانا، فهو عبد في الواقع للقمة الخبز له ولعياله، وقد يجدها وقد لا يجدها إذا كان عاطلا والبطالة تهدده يوميا، وأين المساواة في أقطار يسير فيها بعض الأفراد الرأي العام بما لهم من صحافة قوية ومجلات وكتب ومذياعات؛ أي إنهم يفرضون آراءهم فرضا، ثم يسيطرون بأموالهم على مؤسسات الدولة نفسها.
فالحرية السياسية وحدها لا تكفي، بل لا بد من تعزيزها وتدعيمها بتحرير المواطنين من الفقر والفاقة ومن البطالة وما تجره وراءها من ويلات، فينبغي أن يكون لكل مواطن حق في العمل حتى يحافظ على حياته وحياة أسرته، وعلى كرامته البشرية؛ إذ الكرامة والفقر لا يجتمعان.
وإن العدالة الاجتماعية لا تقف عند هذا الحد؛ لأن حياة الفرد والعائلة تهم الشعب كله وتتطلب ضمانات اقتصادية تماشي الضمانات السياسية وتكملها، فالضمانات الاجتماعية ضرورية للديمقراطية الحقيقية؛ فلا تجوع الأسرة إذا مرض ممولها، وتعالج أفرادها للمحافظة على صحة المجموع، فحق العلاج الطبي وحق السكن الصحي، وحق التعليم والتربية، من الحقوق البديهية التي لا نجدها في الغالب عند الديمقراطيات! ولا معنى للديمقراطية بدونها.
ودعامة تلك الحقوق كلها، حق العمال في التكتل وتكوين نقابات تدافع عن مصالحهم، وحق الإضراب كسلاح لحفظ حقوقهم أو للحصول عليها.
أتى الحبيب بورقيبة بفكرة كانت أساسا للعمل، وهي أن الشعب إذا استيقظ ونظم صفوفه هو الذي يخلص نفسه بنفسه من الاستعمار، وهو الذي يدخل على الدولة والمجتمع نظاما يضمن له السيادة والحرية والرفاهية، فينبغي إذن أن يسير الحزب الحر الدستوري على مبدأ اتصال القادة بالشعب اتصالا دائما عميقا قويا، مهما تكن التكاليف، وأن يتحمل في سبيله كل التضحيات، فكان الحزب في العهد الأول من كفاحه (من 1933 إلى 1944) يناضل في جبهتين: يناضل ضد الفرنسيين الذين يقاومونه، تارة بالقوانين الاستثنائية والمحاكم الزجرية، وطورا بالحديد والنار، ويقاوم مقاومة أصعب وأشق الركود والخنوع والعقلية البالية والتفرقة والأوهام المستولية على قسم كبير من الشعب، حتى أيقظ القلوب وأنار العقول وقضى على الخرافات، وحطم التقاليد البالية والعصبية القبلية، والتعصب البغيض، وأحدث ثورة في النفوس عميقة، وإذا بشعب اليوم غير شعب الأمس.
وإن اتصال القادة بالشعب اتصالا مباشرا يتخذ طرقا شتى وأساليب متنوعة، ويعتمد على دعاية عصرية منظمة نظاما محكما توجه الرأي العام توجيها وطنيا قوميا، وتوضح له الغايات الأساسية التي ينبغي أن تكون دوما حاضرة في أذهان التونسيين، وتشرح له الأهداف الجزئية التي تهيئ تحقيق تلك الغايات البعيدة، وتبين له أيضا مقاصد المناورات السياسية الدقيقة وتعوده على فهمها بالإشارة والتلويح، ولم يتم ذلك إلا لمعرفة قادة الحزب بنفسية شعبهم وميوله وطبيعته والامتزاج به، فيرتفعون به إلى مستواهم في التفكير السياسي، ويقودونه حسب المصالح الوطنية العليا لا حسب العواطف والانفعالات والحماسة.
وكانت أعظم وسيلة في دعاية الحزب الاجتماعات العامة التي اتخذت قوالب متنوعة وانقسمت إلى أصناف متعددة؛ فتبتدئ عادة باتصال بعض الدعاة اتصالا فرديا بالقرية أو المدينة أو الجهة لفحصها واختيار بعض الوطنيين بها يكونون كالنواة للعمل المقبل ويجمعون حولهم كتلا صغيرة؛ يجتمع بهم ذلك الداعية، وبعد أن يتم ذلك العمل الذي يتطلب أسابيع وشهورا أحيانا يشرع الحزب في اجتماعات أوسع، يرسل لها بعض خطبائه المفوهين مصحوبا بأخصائيين في التنظيم، يشتغلون بعد الاجتماع بتوثيق الروابط وإدخال الترتيبات الحزبية واختيار المسئولين على قيادة الحركة في تلك الجهة اختيارا مؤقتا. وعندما يتم التمهيد وتتكون المؤسسات الحزبية ويتهيأ الجو، إذ ذاك يقصد أحد القادة تلك الجهة، فيبلغ أنصار الحزب ودعاته ذلك الخبر إلى القاصي والداني ويبثونه في الأسواق والبوادي، وتزين المدن والقرى بالأعلام، ويهيأ في الغالب طقم الموسيقى، وفي الميعاد المضروب تخرج عشرات السيارات لتستقبل الزعيم في الطريق على بعد 10 أو 20 كيلومترا من مقر الاجتماع، ويجتمع السكان خارج المدينة، ويصطف قسم من الشباب «الدستوري» على حافتي الطريق، ويذهب قسم آخر منه على الدراجات النارية ليلتفوا بسيارة الزعيم، وما أن يظهر وسط الطريق حتى تتعالى الهتافات باستقلال تونس وبالجهاد في سبيلها، وتعزف الموسيقى الألحان القومية وتصدح الشبيبة الدستورية بالأناشيد الوطنية وتتبعها الجماهير، ويدخل الزعيم إلى المدينة تحت الأعلام الخفاقة وسط الجماهير المتحمسة والنساء المزغردات. وما أن يأخذ مكانه فوق منصة الخطابة وحوله من الرجال المسئولون على الحركة حتى تهدأ الأصوات، فيصبح ذلك الجم الغفير من الشعب الذي جمع الغني والفقير والمرأة والرجل والشاب والشيخ والعالم والجاهل في صعيد واحد كأن على رءوسهم الطير، ويبدأ الاجتماع بتلاوة آي الذكر الحكيم، ثم يتعاقب الخطباء أمام الميكرفون وبعد كل خطيب منهم أنشودة وطنية قوية.
وأخيرا يقف الزعيم وسط عاصفة من التصفيق، فيشعر الإنسان بلحمة عجيبة ووحدة امتزجت فيها روح الزعيم بروح الجماهير التي اشرأبت منها الأعناق واتجهت العيون، وتعلقت النفوس بالكلمات النورانية، بل بجرس الصوت ونغمته ونبراته، فتنفعل بانفعاله وتغضب لغضبه وتفكر إذا ما أجبرها على التفكير. وكانت خطب الزعماء لا ترمي إلى إنماء الحماس الذي ينطفئ بسرعة، بل كانت دروسا سياسية تزيح اللثام عن الاستعمار ونواياه وطرقه المنعرجة الملتوية وأهدافه البعيدة والقريبة، كما تكشف القناع عن الحقائق التونسية المرة وعن أمراضنا المزمنة وعيوبنا التي ينبغي أن نتخلص منها، ثم تهدي إلى طريق معالجة أنفسنا وسبل النجاة مما نحن فيه وما يتطلبه تحرير الفرد والوطن من نكران الذات ومن تضحيات وصبر وثبات. وأخيرا يشرح لهم الموقف السياسي بتدقيق تام، ويختم الاجتماع بنشيد الحزب الرسمي والناس وقوف، ويختلط بعد ذلك الزعماء بالشعب كأفراد منه؛ لأن التقديس انتزع في تونس من الأشخاص، ولا تقديس إلا للفكرة القومية.
ولما شاهدنا بالتجربة المتكررة أن ذلك الاتصال المباشر بالشعب أفيد للقضية وأعظم مفعولا من كل الطرق الأخرى، عددنا الاجتماعات العامة والخاصة وكررناها ونوعناها. وللحزب أكثر من أربعمائة شعبة في المملكة التونسية، يجتمع المنخرطون في كل واحدة منها مرة في كل أسبوع أو نصف شهر على الأقل؛ ليكونوا مطلعين على تطورات الحالة. ويعقد دعاة الحزب المتجولون عشرات الاجتماعات في كل أسبوع، أما الزعماء فإنهم في تنقل دائم ودعاية شفاهية مستمرة. ولندرك مقدار هاته الناحية من جهودهم، يكفي أن نعلم أن في تونس الصغيرة الرقعة 250 كيلومترا عرضا و550 كيلومترا طولا يقطع بعضهم بين المائة ألف كيلومتر والثمانين ألف كيلومتر في العام الواحد في جولات متتابعة.
لم توهب حرية الاجتماع والكلام إلى الحزب الحر الدستوري، بل أفتكها افتكاكا وأخذها عنوة وضحى بمئات ومئات من أتباعه، وضحى قادته أيضا بحريتهم وحوكموا أحكاما قاسية المرة تلو المرة لأجل تلك الاجتماعات؛ لأن الحريات كلها مفقودة بتونس منذ شهر أبريل 1938، والحزب نفسه محجر قانونا، فمن يتلفظ بكلمة «دستور» ومن يجتمع بأكثر من ستة أشخاص معرض لثلاثة أعوام سجنا وغرامات مالية فادحة. وبما أن تحقيق الأهداف القومية تتطلب إيقاظ الشعب وتكتله، وبما أن تلك النهضة مستحيلة وذلك التكتل لا يتم إلا بتلك الاجتماعات العامة؛ قرر الحزب أن يقوم بها ويكلفه ذلك ما يكلفه، فبدأ على إثر الحرب العالمية الثانية بالاجتماعات الصغيرة إلى أن نمت وترعرعت وأصبحت تعد عشرات الآلاف، فوجدت فرنسا نفسها أمام الأمر المقضي، فإما أن تقدم على إيقاد ثورة عامة، وإما أن تغض الطرف شيئا ما. وحاولت إيقاف تيارات الاجتماعات تارة بإصدار أحكام قاسية على المسئولين عن عقدها والمتكلمين فيها، وتارة تنزل إلى أماكنها جنودها ودباباتها لتمنعها فتتم في أماكن أخرى، فقد ابتدأ التونسيون في الحقيقة معركة التحرير في ذلك المجال.
ثم كان الحزب يصدر منشورات أسبوعية يوزعها على شعبه فقط للتوجيه وتحديد مواضيع الداعية، وبيان الأعمال المتنوعة التي يتطلبها الموقف وما أحدث في الأنظمة الداخلية، فيبث ما فيها إلى أعضاء الحزب ثم إلى الجماهير، وذلك اتصال آخر كاد يكون مباشرا.
وللحزب صحيفتان رسميتان تنطقان باسمه؛ الأولى باللغة العربية تتوجه إلى الشعب التونسي، والثانية بالفرنسية تتوجه إلى الأجانب، وله صحف متعددة شبه رسمية؛ اثنتان منها يوميتان: الواحدة صباحية والأخرى مسائية، وبجانبها عشرات من الجرائد الأسبوعية منها السياسية ومنها الأدبية ومنها الدينية ومنها الفكاهية والهزلية، حتى إن جميع الصحافة التونسية أصبحت موالية للحزب تدافع عنه وتنشر آراءه، ما عدا بعض الصحف الهزيلة التي تمولها السفارة الفرنسية.
وأخذ الحزب أيضا ينشر الرسائل الصغيرة وبعض الكتب. (4) النظام الحزبي
يتكون مجموع الحزب من أعضاء عاملين وأعضاء مساعدين، وكل عضو منه لا بد أن ينتمي إلى شعبة من شعبه، وتنقسم تلك الشعب إلى نوعين: النوع الأول وهو الأكثرية الساحقة هي «الشعب الترابية»، لكل واحدة منطقة محدودة وعددها يفوق 400 شعبة، و«الشعب غير الترابية» وهي موجودة خاصة في العاصمة تجمع عادة المهاجرين إليها من بلدة معينة أو جهة معينة. وقد تبعنا في الغالب التقسيم الطبيعي سواء أكان بشريا أم جغرافيا.
ولا تتكون الشعبة الرسمية إلا إذا انخرط فيها 50 عضوا عاملا على الأقل، فإذا تم ذلك النصاب تعقد جلستها العامة وتنتخب هيئة إدارتها التي من بينها رئيس الشعبة وأمينها العام وأمين صندوقها والمسئول عن الشبيبة والمسئول عن الدعاية، وتجتمع تلك الهيئة مرة في الأسبوع على الأقل لبحث الوسائل الناجعة لإنمائها واتساعها وتطبيق أوامر الحزب في منطقتها، وعليها أيضا أن تعقد اجتماعا عاما لجميع المنخرطين فيها مرة في كل نصف شهر على الأقل، وتكون من الشبان التابعين لها «شبيبة دستورية» تسهر الشعبة على تربيتها الوطنية وتدريبها على العمل وتنفيذ الأوامر والامتثال للنظام. وفي غالب الأحايين تنشئ لها شبه مدرسة لتثقيفها تثقيفا سياسيا وطنيا ممزوجا بثقافة عامة، وتكون الشعبة أيضا هيئة من الدعاة يعملون باستمرار تحت إشرافها في جميع منطقتها لبث الدعاية الفردية والاتصال بجميع الطبقات لجلبهم للحزب وتوجيههم التوجيه الصحيح، فينبثون في الأماكن العامة والخاصة مجادلين ومناقشين مدافعين ومبينين، ويكون عددهم حسب أهمية الشعبة.
وتختلف مناطق الشعب اختلافا كبيرا في مساحاتها الترابية، ففي البوادي تنتقل الشعبة بطبيعة الحال مع القبيلة، وهي في الجهات الزراعية يتفرق أعضاء الشعبة على مجموعات المساكن المتفرقة التي تسمى عندنا ب «المشتى» أو «الدوار»، ويكونون في كل واحدة منها مركزا تابعا للشعبة، وفي كل قرية وكل مدينة شعبة. وإذا كانت المدينة كبيرة آهلة بالسكان، فتتكون في كل حي منها شعبة، ولكل شعبة ناديها الخاص تجتمع فيه فيصبح شعارا للروح القومية ومركزا يتجه نحوه كل «دستوري»، ومرجعا ومأوى وينبوعا للأفكار الحية ومنارا ينير السبيل في وجه الشعب وعنوانا على استمرار الكفاح. (4-1) الجامعات الدستورية
وقد انتظمت تلك الشعب في «جامعات دستورية» لكل واحدة منها منطقتها، فقسم الحزب هكذا المملكة التونسية 14 جامعة، تسهر كل واحدة منها على سير الحركة بجهتها، وتكون الرابطة بين الهيئة العليا للحزب والشعب، ولها هيئة مديرة تنتخب من بين أعضاء هيئات الشعب، وتشرف على أعمال الدعاية الحزبية وتكوين الشعب الجديدة وتنظيم الشعب القديمة ومحاسبتها المالية. (4-2) المؤتمر
ويقتضي نظام الحزب مبدئيا أن ينعقد مؤتمره مرة في كل سنة، ولكن النضال الوطني الدائم جعله لا يعقد جلساته العامة إلا مرة بعد سنوات، وهو أعظم هيئة في الحزب، وصاحب السلطات كلها فيه؛ لأنه يمثل جميع أعضائه تمثيلا ديمقراطيا صحيحا، ويتكون من نواب ينتخبهم الأعضاء العاملون مباشرة في مقر شعبهم، وتقدم الهيئة العليا استقالتها لديه لمجرد اجتماعه، وهو الذي يسطر نظام الحزب أو يدخل عليه تحويرات، وهو الذي يقرر سياسة الحزب واتجاهه، وهو أيضا الذي يعين بالتصويت الهيئة المديرة للحزب، وينتخب أيضا قسما من «المجلس الملي». (4-3) الديوان السياسي
تسمى الهيئة العليا للحزب والمنفذة لقراراته «الديوان السياسي»، ولها في الفترة بين المؤتمرات جميع النفوذ الذي للمؤتمر نفسه بشرط أن تقدم جميع أعمالها لأول مؤتمر ينعقد بعد تلك الأعمال ليصادق عليها أو ينكرها، وهو يتحمل مسئولية جميع أعمال الحزب ومسئولية تسيير الحركة القومية كلها، كما يتحمل مسئولية النضال وتهيئة أسبابه. ولقد أصبح الديوان السياسي أكبر سلطة في البلاد التونسية، وأصبحت كلمته نافذة في الشعب بأسره بمثابة الدماغ المسير وما يصدر عنه من قرارات وتصريحات لا يصطبغ بصبغة شخصية، بل يصدر عنه كمجموع، وهو يتركب من عشرة أعضاء، من بينهم رئيس الحزب الحبيب بورقيبة، والأمين العام صالح بن يوسف، وأمينان عامان مساعدان: الهادي نويرة وعلي البلهوان، ومدير المنجي سليم، ونائب المدير الهادي شاكر، والأعضاء: جلولي فارس ويوسف الرويسي (بدمشق)، وقد مات الدكتور ثامر شهيدا بكراتشي، وقد فصل الدكتور ابن سليمان من الحزب، ويجتمع مرتين في الأسبوع على الأقل، ولكن اجتماعاته في الحقيقة كادت تكون يومية، ويمتاز عمله بالاستمرار في خطة واحدة وبرنامج عام طيلة أعوام متوالية، كما يمتاز بالتكتم التام في نواياه، ولا تظهر مقرراته إلا عند التنفيذ، فينفذها إذ ذاك بسرعة خاطفة تضع المستعمر أمام الأمر المقضي، وتأخذه على حين غرة، وبفضل تكتل القوات الشعبية حوله وفهمها لمناوراته، كان دائما يملك زمام المبادرة في الأعمال، فيفسد مناورات السلطات الاستعمارية ولا يدخل الشعب في معارك جزئية أو كلية، عندما يسعى لها المستعمر، بل عندما يرى أن الظروف تساعد تونس. (4-4) المجلس الملي
ولجانب الديوان السياسي توجد هيئة يستشيرها في الأزمات ويعتمد عليها في تنفيذ المقررات السريعة، وهي تقوم مقام المؤتمر بعد انفضاضه، وتلك الهيئة هي المجلس الملي المكون من رؤساء الجامعات ومن أعضاء ينتخبهم المؤتمر، ومن حق الديوان السياسي حضور جلساته. (4-5) مدارس الحزب
كون الحزب شبه مدارس تابعة للشعب والجامعات، وانتدب لها من بين الدستوريين من يلقي المحاضرات في النظم السياسية وتاريخ الحركات القومية في مختلف الأقطار وفي مبادئ الحزب وطرق دعايته وكفاحه ليكون فيها دعاة مقتدرون، وأسس بتونس مدرسة عليا للدعاة الممتازين يتلقون فيها الدروس بانتظام ويمتحنون في موادها، ولكن أعظم مدرسة لتكوين الرجال القادرين على خوض معركة الحياة الذين تم إعدادهم لتنظيم جميع الميادين من سياسة وثقافة واقتصاد واجتماع؛ فلم يقتصروا على معرفة النظريات بل يرونها كلاما أجوف ما لم تكن مقرونة بالتطبيق، هي العمل الحزبي المستمر الذي يفرض على الدستوريين فرضا للقيام بمنشآت الشعب المتنوعة والذي يكونهم تكوينا في الكفاح والنضال. (4-6) مكاتب الحزب في الخارج
ولم يقتصر عمل الحزب على داخل المملكة التونسية، بل رأى أنه لا بد من تعزيز الكفاح الداخلي بعمل خارجي يتسع نطاقه شيئا فشيئا، حتى يمتد وينتشر في غالب القارات لتكوين أنصار لتونس وجلب عطف الحكومات والشعوب والتعريف بالقضية الوطنية وبالأساليب الاستعمارية الفرنسية، فكون لهذا الغرض مكاتب متعددة وجعل من مكتب القاهرة مركزا لها ونقطة اتصال دائم، وأحدث مكتبا بنيويورك يقوم بالدعاية في الأوساط الأمريكية المختلفة، ويسهر على سير القضية أمام هيئة الأمم المتحدة ولدى وفود الحكومات. وله أيضا مكاتب بباريس ونيودلهي وكراتشي وستوكهلم، وهو يوسع عمله هذا يوما فيوما. (5) المنظمات القومية
تشعبت الحركة الوطنية بتونس بقدر انتشارها وتعمقها، وتعددت حاجياتها بتعدد الميادين التي تكافح فيها لرد الهجمات الاستعمارية والسيطرة الأجنبية وتوغل الفرنسيين في منظمات الدولة والاقتصاد من زراعة وتجارة ومناجم وبنوك وفي التعليم والثقافة، لتفكيك جميع الروابط القومية والقضاء على معنويات الشعب وثروته. فرأى الحزب وجوب تقسيم الأعمال في الكفاح ليختص كل جماعة من الوطنيين بالنضال في ميدانهم، مع السير طبق توجيه الحركة الوطنية، فكان الميدان السياسي مختصا بالحزب نفسه لتحقيق الأهداف الوطنية العليا.
وأعان الحزب على تكوين منظمات قومية كبرى تعمل تحت إشرافه العام في الحقل السياسي وتشتغل كل منها بناحية من نواحي الحياة. (5-1) الاتحاد العام التونسي للشغل
إن الاتحاد العام التونسي للشغل أعظم منظمة قومية تونسية؛ لأن العمال يكونون الطليعة في كل شعب والقوة الفعالة في النضال، وهم أصحاب السواعد المفتولة والشعور البشري الصحيح والثبات على المبدأ وأعرف الناس بالظلم والظالمين، وهم رجال الإنتاج، يسهل تنظيمهم لاجتماعهم مئات وآلافا في محل عملهم، وإن ما يرونه يوميا من بذخ المستعمرين وشرههم واحتكارهم للأرباح الطائلة يجعلهم لا يطيقون صبرا على البقاء فيما هم فيه من فاقة وعراء ومسغبة.
وقد شرع العمال التونسيون في تنظيم صفوفهم في نقابات تونسية للذود عن حقهم المغصوب والسعي في رفع مستواهم الحيوي في عام 1922، تحت قيادة شاب نشيط ممتاز تخرج من مدارس الهندسة، وهو محمد علي القابسي الذي أحدث حركة نقابية قوية بما بثه من روحه الثائرة في قلوب أتباعه. وقد تولدت حركة هذا الزعيم النقابي وسط الكفاح؛ لأنه بمجرد ما كون (الجامعة العامة للعمل التونسي) سنة 1924، وقفت القوات الاستعمارية في وجهه وصمت الآذان عن مطالب العمال المشروعة، فما كان منه إلا أن أعلن إضرابا عاما، وكانت نقطة ارتكازه ميناء «بنزرت». وجاءت القوات الفرنسية تعزز أصحاب رءوس الأموال الاستعماريين، فقتلوا وشردوا وألقوا القبض على عشرات من بينهم محمد علي، وأحالوهم إلى المحاكم الفرنسية التي حكمت عليه بالنفي المؤبد سنة 1925، فهاجر وطنه مجبرا ومات بالحجاز فريدا وحيدا.
وكانت الأسباب التي انهزم أمامها محمد علي متنوعة، أعظمها تألب جامعة النقابة الفرنسية العامة والحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الشيوعي الفرنسي والأحزاب الاستعمارية اليمينية التي حملت في صحفها حملة شعواء على النقابات التونسية لانسلاخها عن النقابات الفرنسية من جهة ، ولما فيها من خطر يهدد المصالح الاستعمارية من جهة أخرى، فلم تجد الحركة النقابية الأولى مدافعا ولا نصيرا، ولكن الفكرة التي شرع محمد علي في تنفيذها لم تمت معه، وتأسست سنة 1937 من جديد (الجامعة العامة للعمال) ونشرت فروعها في المملكة التونسية كلها بسرعة عجيبة، وكان الحزب يؤازرها بكل قواه، وهذا من أكبر أسباب نجاحها، ولكنها لم ترق الاستعماريين، خاصة وأن العمال بعد أن تكتلوا وطالبوا بحقوقهم من غير جدوى أخذوا يقومون بالإضرابات المتوالية، فتذمرت الشركات الفرنسية الكبرى من هذه الحركة، واستنجدت مناجم الفوسفات بقوات البوليس والجيش التي وضعتها السلطات الفرنسية تحت تصرفها، فاحتلت المناجم وأخذت تقاوم العمال مقاومة شديدة عنيفة، وهاجمتهم هجمات متوالية دامية أسفرت عن عشرات من القتلى ومئات من الجرحى في مناجم المتلوي والعرائس والمضيلة والجبل الأبيض والمتلين، فقام الشعب التونسي بأسره بإضراب عام غضبا لعماله وآزرهم في مصابهم، وأرسل إليهم من كل أنحاء المملكة الإعانات والإسعاف. ولما هبت العاصفة على الحركة الوطنية التونسية جرفت في أعاصيرها الجامعة العامة للعمال سنة 1938، فذاق القائمون بها ألوانا من العذاب والسجون، ولحق الاضطهاد الاستعماري حركة العمال كما لحق الحركة الوطنية نفسها.
وبعثها الزعيم النقابي العالمي الشهيد فرحات حشاد عام 1944 بعثا جديدا وكساها صبغتها الحالية، ووجهها توجيها نقابيا صحيحا، وافتك الحرية النقابية من السلطات الاستعمارية افتكاكا عندما وضعها أمام الأمر المقضي عام 1944 بتكوين نقابات حرة بمدينة صفاقس، ثم عم نشاطه المملكة كلها، وحصل على الاعتراف القانوني بنقاباته الحرة، وساند الحزب الحر الدستوري الحركة العمالية الفتية مساندة قوية كلية؛ لأن الحركة العمالية أصبحت من الأسس الثابتة في تكييف مستقبل تونس، ولأنها قوة من أعظم قوى البلاد اندفاعا واستماتة. وسرعان ما انتظم العمال - من تونسيين وغير تونسيين - في صفوف هذه الحركة الجبارة، فأصبح عددهم يفوق المائة ألف، وخاضت المعارك الواحدة تلو الأخرى للدفاع عن حقوق أعضائها، وتوالت الإضرابات، فأرادت السلطات الفرنسية أن تنزل بها الضربة القاضية قبل أن يستفحل أمرها، واغتنمت فرصة الإضراب العام الذي أعلنه الاتحاد العام التونسي للشغل، في يناير 1948 والذي نجح نجاحا باهرا في المملكة كلها، فعطل جميع المصالح وأوقف المواصلات والإدارة، وتآمرت تلك السلطات مع الجيش الفرنسي. وبينما كان العمال المضربون في محطة قطار صفاقس يحافظون على تنفيذ الإضراب، هاجمتهم القوات المسلحة في الصباح المبكر بدون سابق إنذار، وأطلقت عليهم وابلا من الرصاص، وهرع العمال من كل صوب لمكان المعركة وخاضوها وهم عزل من كل سلاح، واقتحموا الدبابات وافتكوا منها المدافع الرشاشة، ولم يتقهقروا إلا بعد أن تكاثر عليهم الجنود من كل صوب، ومات منهم ثلاثون شهيدا وجرح مائة وخمسون، واعتقلت السلطات الفرنسية عقب ذلك مئات من العمال وأودعتهم السجن. وقد تظاهر الشعب التونسي بأسره احتجاجا على هذا الاعتداء الدامي، وقدم أعضاء بلدية صفاقس استقالتهم، وحملوا السلطات الفرنسية مسئولية هذه الحوادث، ولكن السلطات الفرنسية مع ذلك قدمت زعماء الحركة النقابية إلى المحكمة الفرنسية، فأصدرت عليهم في 20 يناير سنة 1948 أحكاما قاسية.
ورغم ذلك الاضطهاد لم تتمكن السلطات الفرنسية من القضاء على الاتحاد العام التونسي للشغل الذي زادته دماء الشهداء رسوخا واعتدادا بالنفس وثبتت أقدامه ومتنت بنيانه، فخرجت الحركة النقابية من تلك المعركة أقوى وأكثر اندفاعا وأشد مراسا، فبعد أن نظمت العمال في المدن مالت إلى إخوانهم المتفرقين في المزارع، إلى العمال الفلاحين تشد من أزرهم وتتمسك بحقوقهم وتناضل عنهم حتى كسبت لهم حق الانخراط في نقابات لهم، ثم دربتهم على النظام والنضال ورفعت أجورهم، ولكن المستعمرين الفرنسيين رأوا في ذلك تحديا لهم وخطرا مباشرا يهدد مصالحهم، فناصبوا النقابات العداء وخرقوا قوانينها العامة، ولما أضرب عمال الشركة الفلاحية الفرنسية (شركة النفيضة) في وقت الزراعة استنجدت بالقوات العسكرية الفرنسية التي أخذت تطارد العمال وتخرجهم من بيوتهم وتتبعهم رميا بالرصاص، حتى قتلت منهم عددا وافرا من بينهم امرأة حامل، فقام القطر التونسي قومة الرجل الواحد احتجاجا على ذلك العسف، والتف الشعب التونسي حول عماله المضطهدين، وكان يوم تشييع جنازة الشهداء يوما مشهودا حضره نجل الملك نائبا عن أبيه والوزراء التونسيون وقادة الحزب الحر الدستوري التونسي وممثلون عن جميع المؤسسات التونسية. وإذا بدماء الشهداء توحد مرة أخرى صفوف تونس وتقرب بين القلوب وتطهر النفوس وتزرع فيها روح التآخي. وألقى معالي الأستاذ محمد بدرة على لسان الوزارة التونسية خطابا عبر فيه عما يختلج في ضمير التونسيين جميعا، قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم
باسم جلالة الملك المعظم، سيدي محمد الأمين الأول، صاحب المملكة التونسية، دام له العز والبقاء، وبالنيابة عن وزارته المخلصة المتفانية في خدمة شعبه النبيل، وأصالة عن نفسي بصفتي وزيرا للشئون الاجتماعية؛ أقف والقلب متصدع أسى أمام جثث هؤلاء الشهداء الأبرار الذين سقطوا كما سقط كثيرون من قبلهم.
أقف بينكم جميعا لكي أعرب عن الحزن العميق الذي يخالج في هذا اليوم الرهيب صدر الأمة التونسية قاطبة، وفي مقدمتها ملكها المفدى ووزارته الوفية، التي بذلت منذ أسابيع قصارى الجهد للتفادي من المأساة التي نحياها اليوم، والتي تشتد وطأتها أيما اشتداد على أفئدتنا عندما نعلم أنه كان من الممكن بل من السهل اجتنابها؛ فقد كنا على قاب قوسين أو أدنى من الحل الذي من شأنه إرضاء المضربين وإعادة السلم والراحة لنصابها، فإني بعد ما طمنت خاطر العملة المضربين وطلبت منهم ملازمة الهدوء والسكينة بواسطة نوابهم الشرعيين طلبت أيضا بإلحاح من مدير الشركة أجلا إلى أن يصدر بلاغ مجلس الوزراء الذي انعقد كما تعلمون يوم الثلاثاء في الساعة الرابعة مساء، وقد انفجرت المأساة بكل أسف في نفس ذلك اليوم حوالي الساعة الثانية بعد الزوال أيضا، لكن أبت الأقدار إلا أن تجد ما جد، ونحن - المؤمنين بوجود الله تعالى، العامرة قلوبنا بتقواه، الصابرين والمصابرين على الضيم والعدوان، الجادين في مقاومته بالحجة والإقناع - لا نرى في هذا المصاب العظيم الذي حل بأمتنا في أبنائها الضعفاء المساكين إلا محنة تكون عاقبتها بحول الله الفرج؛ لأن في اتحادنا الهادئ الوديع وفي صمودنا خاشعين صابرين في هذا اليوم أمام موتانا الذين ذهبوا ضحية اعتداء فظيع لا مبرر له؛ لأن المضربين لم يطالبوا إلا بحق مشروع وبأساليب مشروعة، قلت: لأن في اتحادنا عبرة لمن لم يعتبر لحد الآن ، ولمن لا زال يفضل استعمال القوة على حسن التفاهم ومعالجة الأمور بالتي هي أحسن؛ لأن لكل قوة قوة أكبر، وقوة الله التي نحن متمسكون بها فوق كل شيء.
ونحن نؤمل أن تقتص العدالة من كل معتد أثيم، وألا تذهب هذه الأرواح سدى، بل يكون في تضحيتها درس يتعظ به الحائدون عن سواء السبيل، سبيل التفاهم النزيه وحسن المعاشرة بين جميع المتساكنين.
وفي الختام ننحني بخشوع وترحم على أرواح هؤلاء الشهداء الأبرياء، داعين لهم بالرحمة الواسعة ومقدمين إلى أوليائهم وإلى كافة الطبقة الشغيلة خاصة، وإلى الأمة التونسية عامة أحر تعازينا وأشمل عطفنا.
وتجددت المعارك الدامية بين العمال والقوات الفرنسية بشركة بوتنفيل الزراعية وبجهات سوق الخميس وسوق الأربعاء وباجة وبرج السدرية، وقد حملت إحدى النسوة العاملات أثر هاته الواقعة الأخيرة جثة وحيدها على يديها وكان شابا لم يتجاوز العشرين من عمره، وسارت به والعمال وراءها إلى أن وضعته أمام قصر الملك بحمام الأنف الذي كان قريبا جدا من محل المعركة، وأخذت تنادي بأخذ حقها من الظالمين، فأطل عليها الملك من شرفته واستفسر الأمر، فلما علم بحقيقة الحادث أدخلها إلى قصره وقبلها في رأسها وأجلسها حذوه ومسح دمعتها وقال لها: إن مات لك ابن فالتونسيون كلهم أبناؤك؛ خصوصا وأنه مات شهيدا في سبيل وطنه ودينه، وما أنا إلا أب لك، فخرجت إلى الملأ وهي تزغرد. (أ) أهداف الاتحاد
أسس الاتحاد على مبادئ نقابية حقيقية يرمي إلى إنجازها، وقد انتصر في تحقيق بعضها، ولكنه يرى أنه يستحيل على العامل التونسي أن يحصل على حقوقه ما دامت بلاده تحت تصرف الأجنبي غير مستقلة؛ فاستقلاله مرتبط ارتباطا كليا باستقلال وطنه. وقد شرح الأستاذ محمود المسعدي في تقرير قدمه لمؤتمر الاتحاد المنعقد بتونس في تلك الفكرة بوضوح تام، قال:
المؤتمر الوطني الرابع
المشكلة القومية والتمثيل الشعبي
أيها الإخوان ...
إن الطبقة العمالية التونسية، وكذلك منظمتها القومية (الاتحاد العام التونسي للشغل) مؤمنة إيمانا راسخا بأن العدل الاجتماعي الذي نريد تحقيقه في أكمل صورة لا يمكن أن يتحقق في نطاق الوضع السياسي الجائر إلا صوريا وجزئيا؛ وذلك لأن الوضع السياسي في حياة جميع الأمم ما هو إلا صورة من الوضع الاجتماعي والاقتصادي السائد فيها، ولأن السياسة هي نظام الحكم العام المسيطر على الشئون الاجتماعية والشئون الاقتصادية، المدبر لأحوال طبقات الأمة المختلفة، والمؤثر على توزيع الثروة القومية بين تلك الطبقات تأثيرا مباشرا، وأي سياسة حكومية لا تشمل الاقتصاد ومشاكل الإنتاج والمعاش والأسعار والأجور؟ وأي مشكلة من المشاكل الاجتماعية كمقدرة الشراء ونظام الشغل وحقوق العمال ونظام الإضراب ... إلخ، خارجة عن مشمولات نظر الحكومات؟!
ثم إن الطبقة العاملة التونسية تعلم من ناحية ثانية أن الأمة كل لا يتجزأ، وأن الذين يعملون على تفريق الصفوف وتمييز طبقة على طبقة وتفضيل فريق على فريق، إنما هم أعداء الأمة من أولئك الرأسماليين والاستعماريين الذين يريدون أن يوجهوا قوة الكفاح في الشعب إلى التطاحن الداخلي والتقاتل بين أقسام الأمة الواحدة لتتخاذل في حملتها ويضعف بعضها بعضا. ولكن الطبقة العاملة التونسية قد أقامت الدليل المرات العديدة على أنها تعلم بالضبط أين مصلحتها ومن هم أعداؤها الحقيقيون ونحو من يجب أن توجه كفاحها المستميت، وعلى أنها متحدة اتحادا كليا مع عامة الشعب التونسي بكافة طبقاته في جهاده نحو العدل والحرية والرقي. والشعب التونسي بدوره قد أدرك ذلك وأكبره في الطبقة العاملة، فقابلها من التأييد لها والاتحاد معها بمثل ما لقيه منها.
وبهذا يتبين لماذا كان كفاحنا الاجتماعي في نفس الوقت كفاحا سياسيا؛ لأن السياسة مسيطرة على الاجتماعيات، فلا تصلح هذه إلا بصلاح تلك، كما يتبين لماذا كان كفاحنا الاجتماعي كفاحا قوميا في نفس الوقت؛ لأن مصلحة العمال جزء من المصلحة القومية العامة، فلا تتحقق الأولى إلا بتحقق الثانية.
مقومات النظام السياسي عندنا وما تنطوي عليه من مبادئ الجور
ولو أمعنا النظر لحظة في نظام الحكم في بلادنا، ولو باعتبار المشاكل الاجتماعية خاصة، لرأينا أن جميع الأسباب السياسية فيما لا نزال نقاومه من أنواع الظلم الاجتماعي راجعة إلى فساد الأصول العامة القائم عليها النظام السياسي في البلاد.
والأصل الأول الذي يقوم عليه هذا النظام السياسي هو كما تعلمون المبدأ الاستعماري، والاستعمار معناه تسخير القوى السياسية وهياكل الحكم في جميع أنواعه ومظاهره لخدمة رأس المال الأجنبي، ومصالح طبقة أجنبية من المحظوظين الذين جاءوا البلاد لاستثمارها من جميع النواحي. لذلك كان أول ما يبدأ به الاستعمار محاولة قتل السلطة الأهلية وإزالة الذات والشخصية والسيادة القومية، كذلك رأيناه يصنع بشقيقتنا الجزائر مثلا؛ فيمحو الذاتية القومية الجزائرية، ويجعل من التراب الجزائري العربي ترابا فرنسيا، ويحشر الجزائريين في الجنسية الفرنسية حشرا. أما في بلادنا، فالاستعمار حاول قتل الذاتية التونسية وإفناء السيادة التونسية بواسطة الإدارة المباشرة التي لم تبق لنا من السلطة إلا الألقاب الظاهرة والتصرف الصوري، وافتكت السلطة الحقيقية والنفوذ الواقعي، وهذا ما توصل به الاستعمار إلى أن شحن إدارتنا بالآلاف المؤلفة من الموظفين الأجانب، وإلى أن صير التونسي في إدارة بلاده أجنبيا عن الحكم والنفوذ الحقيقي وعن تدبير الشئون الجوهرية في حياة بلاده.
على أن الاستعمار لم يكتف بسلوك سبيل الإدارة المباشرة للاستبداد بالحكم والتصرف به وحده، بل زاد على ذلك أنه عزز هذا الحكم المباشر بإسناده إلى قوات احتلال عسكرية وجندرمة وشرطة يتصرف فيها وحده دون تدخل السيادة التونسية؛ لأنه لا يرمي إلى تدبير شئون الحياة والمصلحة القومية العامة، بل إلى فرض نظام سياسي يهدف إلى مصلحة خاصة، هي مصلحة الجالية الأجنبية التي يقال إنها حماية.
وبعد أن استبد الاستعمار بالحكم بواسطة الإدارة المباشرة، وبعد أن جعل ذلك الاستبداد استبدادا بالقوة واحتلالا عسكريا؛ زاد على ذلك كله أن جعله استبدادا ديكتاتوريا لا رائحة للديمقراطية أو لشبه الديمقراطية فيه، فالشعب في جميع شئونه خاضع لسياسة حكومة غير مسئولة يتصرف فيها مديرو الإدارات والوزراء كما يشاءون بدون أن يستطيع الشعب الدفاع عن مصالحه بواسطة أي منظمة نيابية تعبر عن آرائه ورغائبه، وقد استعمل الاستعمار هذه الوسيلة بصفة مستمرة في الماضي وهو يود أن يستمر على استعمالها في المستقبل. فأما مديرو الإدارات فهو لا يزال إلى الآن متشبثا بأن يكونوا من الأجانب، معاكسا في ذلك كل منطق وكل معقول وأبسط مبادئ الحق.
وهل من المنطق أو المعقول أو من الحق في شيء أن يكلف بالنظر في المصلحة القومية وتدبير الشئون الوطنية من هم أجانب عنا وعن وطننا؟! وأما الوزراء فإن الاستعمار كان يختارهم من بين ذوي الذمم التي تباع وتشترى بأبخس الأثمان، ينصبهم على كراسي الحكم ويغدق عليهم الأموال والنياشين والتشريفات، ويصرفهم بكل سهولة في خدمة مصالحه ضد المصلحة العامة بدون مراعاة استنكار الشعب ولفظه لهؤلاء العبيد والأذناب.
على أن الاستعمار لم يرد أن يكون حكمه الاستبدادي مكشوفا مفضوحا، فحاول أن يغطي على ذلك بالمغالطة والتمويه، فأحدث مجالس ادعاها نيابية وما هي بالنيابية، ولكنها مهازل فظيعة ومنكرات أشنع من الظلم المكشوف. أوجد الاستعمار المجلس الكبير ولكنه جعل نظامه النيابي على ما تعلمون من التشويه الممقوت ومن التمثيل الجائر، فأعطى لممثلي الأقلية الأجنبية نصف المجلس ولممثلي الأمة التونسية بأجمعها النصف الآخر، ثم زاد على ذلك أن جعل التمثيل فيه للمصالح الاقتصادية؛ أي للطبقات التي تتنافى مصلحتها الخاصة مع المصلحة العامة، أو التي تجد مصلحتها الخاصة في ممالأة مصلحة الأجانب والخروج عن المصلحة القومية، فإذا المتصرفون في ميزانية الدولة المقررون لوجوه صرف الأموال المأخوذة من جيوب الشعب، هم كبشة من ممثلي المستعمرين الذين اغتصبوا الأراضي والشركات الكبرى التي افتكت موارد الثروة القومية وأذناب الاستعمار ممن كسبوا ثروتهم بخدمة ركاب الأجانب وامتصاص دماء المواطنين.
وليكون هذا الحكم السياسي الدكتاتوري كاملا محكما، أضاف إليه نظام حالة الحصار الذي عاشت فيه تونس فوق الثلاثين سنة من أول الحماية، ولا تزال عائشة فيه منذ ثلاث عشر سنة باسترسال؛ أي من سنة 1938، أما الأوامر الزجرية الاستثنائية والتحجير للحركة السياسية الكفاحية الوطنية الحقة، فذلك ما لا يحتاج إلى تذكير.
النظام السياسي وعلاقته بالمسائل الاجتماعية والاقتصادية
إن هذا النظام السياسي الذي لخصنا لكم خصائصه ومقوماته، أيها الإخوان، لم يأت على هذه الصورة إلا لأنه خاضع في عناصره إلى غايات معلومة، ولا تختلف أشكال النظام السياسي إلا باختلاف أغراضها وغاياتها، فما هي الغايات التي شكلت الحكم السياسي عندنا بشكله هذا؟
إن الشيء الذي يجب أن نؤمن به إيمانا راسخا هو أن الأجنبي لا تقوم سياسته إلا على مبدأ المنفعة المادية، والتفوق الجنسي والمعنوي، فالاستعمار عندنا وليد النظام الاقتصادي العصري السائد في غربي أوروبا، وهذا النظام الرأسمالي قائم على أن المنفعة المالية هي الغرض من كل شيء، وأن المال هو أول ما يرسم في سلم القيم، وأن الرغبة في المال والنهم العادي لا يقفان عند حد، وأنه إذا حصلت ثروة كبرى وجب الطموح إلى ثروة أخرى أكبر منها، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له.
ذلك هو - أيها الإخوان - المبدأ الذي تقوم عليه نفسية الاستعمار ومذهب الاستعماريين في نشاطهم أينما كانوا. بل انظروا إلى الميدان الاقتصادي في البلاد، تجدوا أن معظم الثروة القومية الوطنية قد اغتصبها الاستعمار، فثروة المناجم بأنواعها في أيدي الشركات الرأسمالية الكبرى، والعمال بمثابة الأدوات أو الآلات المستعملة في استثمار تلك الثروة لا يعتبر فيهم إلا رخص النفقة ومقدار الإنتاج، كما أن الآلة تكون أحسن ما تكون إذا كانت رخيصة الثمن غزيرة الإنتاج. وجميع الأراضي الخصبة في أيدي الشركات الفلاحية الأجنبية وكبار المعمرين الذين حصلوا عليها بالقوة الغاشمة أو بالخدعة والحيلة.
ومعظم الثروة القومية مما ينتج عن استثمار لا يزال موجها إلى خارج الوطن؛ لأنه نتيجة عمل رءوس أموال أجنبية. وهكذا تعم الفاقة والفقر العباد والبلاد، فالفلاح يضيع أرضه أو تتغلب عليه قوة الفلاحة الكبرى، والعامل تمتص جهوده، والوطن تتناقص ثروته الاقتصادية بما يخرج منها إلى الخارج.
هذا في الميدان الاقتصادي، أما في الميدان الاجتماعي فأجلى ما يظهر للعيان هو البؤس المادي والأدبي الذي هو نتيجة التفقير الاقتصادي والضغط السياسي، والطبقة الشغيلة التونسية أعلم بذلك، فلا الأجور تقدم حسب الحاجيات الطبيعية ومستوى الأسعار، ولا الحقوق الاجتماعية كاملة ولا محترمة، فلئن حصل عمال المصانع والمناجم على بعض حقوقهم؛ فإن إخواننا عمال الفلاحة لا يزالون يرزحون تحت أعباء نظام قانوني جائر لا يضمن لهم عشر ما هو مضمون لغيرهم من العمال. ولولا كفاحهم العجيب وما أظهروه من بسالة وشجاعة أدهشت الخصم نفسه، وكانت آية لنا جميعا، لما حصلوا على شيء. زد على ذلك أن هذه الحقوق الاجتماعية الموجودة قانونا لا يحترمها الاستعمار، بل لا يزال يدوسها بقدميه، ولا يزال يحاول إبطالها بشتى الوسائل، ولا يزال يقاوم الحركة النقابية الكفاحية بالقتل وبالتعذيب بالتتبعات العدلية وبالسجن والنفي ... إلى غير ذلك. كل ذلك والطبقات الشعبية في بؤسها المادي، مشردة الأطفال، مهددة في صحتها، لا من يسهر عليها ولا من يفكر في إيجاد نظام ضمان اجتماعي يتكفل القضاء على الأمراض والعاهات والنكبات والبطالة، ولا من يفكر في إيجاد وسائل الاستخدام الكامل لإزالة التشرد والتسول والبطالة والتدهور، ولا من يفكر في شأن الطفولة وما يهددها من الجهالة والسقوط الأخلاقي والأمراض والإجرام، وآخر ما يريده الاستعمار بعد أن استبد عليها سياسيا وأفقرها اقتصاديا وظلمها وأهملها اجتماعيا: هو قتلها معنويا؛ فهو يقاوم حركة التعليم ويقتر عليها المدارس تقتيرا، وهو يحاول أن يقتل لغتها القومية وأن يجنسها لغويا ويدمجها عقليا حتى لا تبقى لها شخصية تشعر بها ولا ذاتية تدافع عنها، بل تبقى جاهلة لا تعرف حقوقها ولا تشعر بها ولا تقدر على الدفاع عنها، أو تتعلم تعلما أجنبيا فتنسى قوميتها وذاتيتها وتنسلخ عن طبيعتها وتفنى فناء معنويا.
ما يستنتج من الكلام السابق: خدمة القضية القومية واجبنا الأول
وهذا كله أيها الإخوان، هل تظنون أنه يمكن لولا أن نظام الحكم السياسي مسخر له موجه إلى أغراضه؟ فالغرض الاقتصادي والاجتماعي من الاستعمار الرامي إلى جلب المنفعة المادية إلى المستعمرين دون غيرهم، هو الذي اقتضى أن يكون النظام السياسي على ما هو عليه. فالغاية أن يستثمر الأجانب جميع موارد البلاد، فوجب أن يكون حكم البلاد في غير أيدي أبنائها وأن تغتصب سيادتها، وأن يحتكر الأجانب الإدارة والنفوذ. والغاية التصرف في ثروة البلاد بأجمعها، فوجب أن لا يشارك الشعب في تسيير شئون البلاد وأن لا يكون هناك نظام نيابي ديمقراطي صحيح. والغاية امتصاص دماء البلاد والعباد، فوجب أن تكون القوة المسلحة مسلطة على كل مكافح وأن لا تكون هناك حريات عامة حتى لا يستعملها الشعب للمقاومة والكفاح. والغاية افتكاك كل ما يملك هذا الشعب من أراض وموارد طبيعية، فوجب أن يثقل هذا الشعب اقتصاديا وأن يحرم من الحقوق الاجتماعية وأن يبقى جاهلا فقيرا، حتى لا تكون له قوة مادية ولا معنوية يزاحم بها الأجنبي أو يدافع بها عن ملكه وحقه.
وهكذا نرى الاستعمار يتلخص في أنه نظام سياسي أغراضه الاقتصادية والاجتماعية ووسائله العملية القانونية والإدارية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، أغراض ووسائل منافية للمصلحة القومية التونسية منافاة جوهرية، ولا سبيل إلى الطمع في تحسين الحالة الاجتماعية وقلب الوضع الاجتماعي إلا بقلب الوضع الاقتصادي والوضع السياسي المتولد عنه، أي لا سبيل إلى الوصول إلى هدف واحد من أهدافنا النقابية، إلا إذا بدلنا النظام السياسي الاستعماري المنافي للمصلحة القومية بنظام اقتصادي وسياسي قومي بحت.
لقد كانت الطبقة العاملة التونسية ولا تزال، ولن تزال إلى يوم النصر والاستقلال وبعده، في مقدمة الكفاح القومي العام مؤازرة بدون تستر أو خفاء للحركة القومية التحريرية التونسية عاملة على نصرتها والانتصار بها ومعها.
ذلك أن الطبقة العاملة التونسية مؤمنة بأن حركتها ثورية انقلابية، لكنها ثورية لا على معنى العنف وانقلابية لا على معنى الفوضى.
بل هي حركة ثورية وانقلابية بمعنى أنها تريد أن يسود الحياة العاملة للمجتمع التونسي مبادئ سامية، وسلم من القيم العالية غير ما جاءنا به وفرضه علينا الاستعمار.
فنحن نريد أن نقلب أصول الحكم العامة التي يقوم عليها النظام الحالي ... نريد أن يكون الهيكل السياسي خاضعا مسخرا، لا لخدمة رأس المال الأجنبي ولا مصالح طبقة أجنبية محفوظة، بل لخدمة مصلحة المجتمع بأسره والأمة بأجمعها.
لذلك نطالب: بأن يرجع للسيادة التونسية كامل وجودها وكامل حقوقها وسلطتها ونفوذها قانونيا وعمليا، لا لفظا فقط؛ لأن ذلك من حقوقنا الطبيعية، ولأن أول ضمان للمصلحة القومية العامة لا يكون إلا في سيادة قومية، ويستحيل أن يكون في سيادة أجنبية أو شبيهة بالأجنبية.
ونطالب بأن يرجع إلى أعوان السلطة التونسية نفوذهم، وإلى الموظفين التونسيين كامل حق إدارة بلادهم؛ لأن عون السلطة والموظف وكيل عن الأمة خادم لها، ولأن أول ضمان لأمانة الوكيل وصدق الخدمة لا يكون إلا في لحمة الجنس ووحدة المصلحة الوطنية، وليس من الحق ولا من المعقول أن توكل على مصالحك الأجنبي الطامع فيك القادم لاستثمار بلادك واغتصاب مالك.
ونطالب بأن ينشأ نظام نيابي ديمقراطي يشتمل على النظام البلدي وعلى النظام البرلماني؛ لأننا لم نعد نرضى بمهازل المجلس الكبير ومن فيه من قرود الاستعمار ممن لا يمثلون إلا أنفسهم ولا يعملون إلا لمصلحتهم الشخصية أو لمصلحة الأقلية المحظوظة التي ينتمون إليها، ولأننا لا نعترف للإدارة ولا لمشعوذي المجلس الكبير ولا للأجانب بحق سن القوانين العامة المنظمة لحياة الأمة، ولا بحق تقرير الميزانية العامة ومواردها ومصارفها، وهي حق من حقوق الشعب المقدسة التي لا يتصرف فيها شرعا إلا وكلاؤه الذين ينيبهم عنه ويرضاهم ويختارهم ويمنحهم حق التشريع والتسيير، وميزانية الدولة خزينة عامة يجب أن يضطلع كل فرد بحظه من أعبائها على قدر طاقته المالية دون تمييز لطبقة على طبقة، ويجب أن تصرف في المصالح العامة دون تفريق لفريق من الناس على فريق، يجب ألا يقررها إلا من يختارهم الشعب اختيارا ديمقراطيا حرا لذلك.
ونطالب بأن يكون هذا النظام النيابي الديمقراطي قائما على مبدأ تحقيق الديمقراطية السياسية والاجتماعية معا، ضامنا لتمثيل الطبقات الشعبية والطبقات الشغيلة التمثيل المناسب لأهميتها وأهمية كدها وعملها ونشاطها، الذي هو أساس ازدهار الثروة القومية. ونطالب بذلك لأننا نريد أن يقوم نظام المجتمع التونسي المجدد على أسس إنسانية سامية هي التي تعمل الطبقة الشغيلة على تحقيقها، فليست غايتنا افتكاك ما في يد الطبقة المحفوظة الآن حتى نحل محلها ونصبح نحن المحظوظين، وليست غايتنا تسليط دكتاتورية العملة على الأمة، بل غايتنا تسليط العدل بيننا وبين سائر طبقات الأمة. وليست الخصومة بيننا وبين فريق من الناس لهم فوق ما لدينا، فنحن نرمي إلى امتلاكه منهم، بل الخصومة بيننا وبين مبادئ النظام الرأسمالي الجائر، نريد أن نعوضه بنظام قائم على العدل والمساواة في الحقوق بين الإنسان والإنسان، وعلى تقدير الكفاءة والاستحقاق بمقدار العمل الصالح النافع المنتج ، وعلى أن قيمة كل إنسان ما عمل وما أفاد بعمله المجتمع.
فالناس يستوون مع الدواب في الحاجيات المادية من طعام وشراب ومرافق معاش، ومن الطبيعي أن يريد أي إنسان هذه الرفاهية المادية؛ لأنها أقل ما يستحقه الإنسان في الوجود، ولكننا لا نكتفي بها ونريد أن يكون معنى الحق عندنا فوق معنى المنفعة، ومعنى السمو والرفعة الإنسانية فوق معنى الرفاهية المادية والتحسين لأحوال معاشنا، نريد أن نغير سلم القيم الانتفاعية البحتة الخاضع لها مجتمعنا الرأسمالي ونظامنا السياسي الاستعماري.
وسوف لا نزال نكافح ونعمل مهما كانت الظروف، حتى نحقق لبلادنا هذا الرقي الإنساني، وحتى يعترف لنا بحق تدبير شئوننا بأنفسنا تدبيرا حرا ديمقراطيا في ظل حرية الأفراد واستقلال الأمة، وسواء أكان المقتعدون لكراسي الحكم وزارة شعبية مجاهدة أو وزارة صورية خانعة وجيش استعمار متجبر، فإننا لن نعمل إلا في جانب العاملين على ضوء مبادئ الديمقراطية الكاملة التي نؤمن بها، ولن نألوا جهدا في مقاومة كل حائد عن سبيلها.
ولهذا يرى المكتب التنفيذي من واجبه أن يطلب من الطبقة العاملة أن تتحد في هاته الظروف الدقيقة التي تغمر بلادنا؛ لأنه بالاتحاد المعزز بالثقة واليقظة وبالعمل الفعال، نتمكن من فك كل القيود والوصول السريع إلى مرامينا.
عن الهيئة الإدارية
محمود المسعدي
وإن الاتحاد يناضل ليتمتع العمال في تونس بحرية تكوين النقابات؛ إذ يستحيل على العامل المنفرد أن يطالب بحقه وأن يرفع عن نفسه الضيم إذا لم يتكتل مع إخوانه، فيكونون قوة تقف أمام قوات الرأسمال الاستعماري.
ويسعى للمحافظة على أكبر حق للعمال وأمضى سلاح عندهم، وهو حق الإضراب الذي يلجأ إليه العمال عند خيبة المفاهمات مع أصحاب العمل، الذين يستمرون عادة في استثمار عرق جبين غيرهم لو لم يتمكن عمالهم من إجبارهم على إعطائهم طلباتهم، وذلك بتعطيل الإنتاج أصلا ووقف العمل.
وإن النقابات هي الضمان الوحيد للعمال لرفع مستوى معيشتهم وزيادة أجورهم على نسبة غلاء المعيشية.
ولا يكون العامل مطمئنا على حياته وحياة أسرته، ما لم تتحقق الضمانات الاجتماعية التي تمكنه من الحصول على التأمين ضد حوادث العمل، حتى إذا ما وقع له حادث أثناء العمل لا تموت عائلته جوعا، وعلى حفظ صحته وصحة أبنائه بأن تكون مداواته على نفقة صندوق الضمانات الاجتماعية، وعلى المنح العائلية التي تمنح له للترفيه شيئا ما على عائلته، أو إمدادهم بالضروريات.
وبما أن المخالفات التي تتعلق بالعمل ليست من خواص المحاكم القضائية؛ فيتحتم إذن للسهر على تنفيذ القوانين النقابية تأسيس نوع خاص من المحاكم تطبق هذه القوانين وتكون كالحكم بين أصحاب العمل والعمال، ويكون من بين أعضائها من ينوب عن الاثنين، وتلك هي المحاكم العمالية التي حصل عليها الاتحاد العام التونسي للعمل بعد صراع دام سنوات، ولكنها لم تكن مطابقة لجميع رغباته؛ لأن الاستعمار يفسد كل شيء، ولا يكون العامل مطمئنا على بقائه في عمله والمحافظة على مورد حياته، إلا إذا التزم صاحب العمل بالتزامات نحوه، وبما أن تلك الالتزامات ليست خاصة بعامل دون آخر، بل تشمل جميع العمال المشتغلين في مكان واحد، أصبحت العقود المشتركة أمرا ضروريا لتحقيق الاستقرار للعمال. (ب) نظام الاتحاد
يكتل الاتحاد جميع العمال بالقطر التونسي؛ أي كل من يرتزق بعمله ويعيش بكد يمينه أو بعمل فكره، ما عدا أصحاب المهن الحرة من أطباء ومحامين وصيادلة الذين حجر عليهم قانون النقابات الانضمام إليها؛ ولذا نجد في الاتحاد العام التونسي للعمل، عامل الميناء وعامل المصنع وعامل سكة الحديد مثلا، وإلى جانبهم الموظف الصغير والموظف الكبير وفراش المدرسة وأستاذ الكلية أيضا، وكلهم منخرطون في صفوفه طبق نظام محكم دقيق.
فجميع العمال في صناعة واحدة أو عمل واحد يكونون في كل مدينة نقابة توحد صفوفهم وتقوم بالدفاع عن حقوقهم، وتتكلم باسمهم مع أصحاب العمل أو ممثلي الحكومة، وتديرها هيئة ينتخبها الأعضاء انتخابا ديمقراطيا، وقد تكونت هكذا في مدن القطر التونسي مئات النقابات: كنقابة عمال ميناء تونس، ونقابة عمال شركة الترام، ونقابة عمال المقاهي والمطاعم، ونقابة المدرسين في المدارس الثانوية ... إلخ.
وفوق النقابات نوعان من جامعات تجمعها، أما النوع الأول فهو الاتحادات الجهوية وعددها 13 اتحادا، يسهر كل واحد منها على تسيير الحياة النقابية بجهتها ويكون كمرجع ومقر أساسي لها، وهي اتحادات تونس وبنزرت والكاف وباجة وسوق الأربعاء وزغوان ونابل والقيروان وسوسة وصفاقس وقفصة وقابس ومدنين.
وأما النوع الثاني فهي جامعات حسب المهن والصناعات، فجميع من يشتغل بالتعليم ينضوي تحت لواء جامعة التعليم، وجميع الموظفين متكتلون في جامعة الموظفين وكذلك عمال السكة الحديدية والمناجم والفلاحة وغيرهم.
وتشرف على الكل هيئة إدارية عليا يختار من أعضائها الهيئة التنفيذية للاتحاد العام التونسي للعمل التي يسيرها الأمين العام للاتحاد.
والمؤتمر هو الهيئة المهيمنة على الاتحاد المقررة لاتجاهاته العامة الواضعة لنظامه الداخلي، وهو يتكون من أعضاء ينوبون عن العمال مباشرة بعد أن يتم انتخابهم في نطاق النقابات، والمؤتمر هو الذي ينتخب الهيئة الإدارية. (ج) نشاطه في الميدان العالمي
كان كفاح الاتحاد في الخارج لا يقل أهمية عن كفاحه في الداخل، وقد وجد صعوبات جمة للاتصال بالحركة العمالية العالمية؛ لأن فرنسا لا تريد أن تسمح لمنظمة قومية تونسية بالاتصال رأسا ومباشرة بالعالم الخارجي، فوضعت العراقيل المختلفة من احتجاجات وغيرها، ووكلت نوابها الرسميين وشبه الرسميين كلويس جوهو زعيم الحركة النقابية الفرنسية، وممثل فرنسا في المكتب الدائم للعمل بجنيف، والممثل السابق للنقابات الفرنسية رفقة لويس صيان في الجامعة العالمية للنقابات، ليعارضوا في انضمام الاتحاد للحركة العالمية، وكان الشيوعيون الذين انفلت من يدهم زمام القيادة النقابية بتونس قد كونوا أيضا سدا منيعا أمام الاتحاد في تلك الجامعة العالمية.
فلم يجد الاتحاد التونسي في أول أمره صدى لنداءاته ولم يتلق جوابا عن مطالبه، ولما أخذت بوادر الانقسام تظهر في الحركة العمالية وانحاز كل شق إلى معسكره، ذهب الشيوعيون مع روسيا والباقون مع أمريكا، إذ ذاك أرادت الجامعة العالمية للنقابات أن تعزز قواها، فدعت وفدا من الاتحاد التونسي للحضور إلى مؤتمرها، ثم قررت قبول الاتحاد في صفوفها، ولكن سرعان ما تم ما كان متوقعا من انقسام، وخرجت النقابات الحرة عن المنظمة العالمية، وكونت اتحادا خاصا بها الجامعة العالمية للنقابات الحرة.
فإذا بها تراسل الاتحاد التونسي وترجو منه الانفصال عن المنظمة الشيوعية والانضمام إليها، ولم تقتصر على ذلك بل أرسلت نوابا عنها إلى تونس للاتصال بعمالها وإقناعهم بما تسعى له لعلمها بأن الاتحاد العام التونسي للشغل أقوى وأنظم منظمة نقابية في أفريقيا كلها، فطرح الاتحاد تلك المسألة على بساط البحث في مؤتمره المنعقد في مارس 1951 والذي حضره كمستمعين نواب عن النقابات العالمية الحرة ونقابات الجزائر ومراكش وساحل الذهب ويوجوسلافيا ومدغشقر وبريطانيا والهند وفرنسا، وتوالت المناقشات الحادة، ولم يفز اقتراح الانضمام إلى النقابات العالمية الحرة إلا بثلثي الأصوات فقط؛ لأن قسما كبيرا من العمال التونسيين وإن لم يكونوا شيوعيين إلا أنهم يرون في أمريكا الدولة التي تعزز الاستعمار الفرنسي بتونس، وتمدها بالسلاح الذي يفتك بالعمال التونسيين أنفسهم. وانضم هكذا الاتحاد إلى الجامعة العالمية للنقابات الحرة، وأصبح زعيمه الشهيد فرحات حشاد عضوا ممتازا في الهيئة الإدارية العالمية، ثم عوضه بعد موته نوري بودالي الذي انتخبه مؤتمر النقابات العالمية المنعقد في ستوكهولم (يوليو 1953) خلفا له.
وقد كان لانضمام الاتحاد إلى النقابات العالمية الحرة مفعوله الكبير في جلب أنصار يعدون بعشرات الملايين للقضية التونسية، وأصبح العمال في مؤتمراتهم العالمية أو في مؤتمراتهم الوطنية سواء بأمريكا أو بأوروبا أو بآسيا، يطالبون باستقلال تونس وبث الدعاية لها في بلدانهم ويساندون الاتحاد العام التونسي للشغل في عمله من أجل تحرير وطنه. (5-2) الاتحاد التونسي للتجارة والصناعة
وهو يجمع كل من يشتغل بالتجارة والصناعة من تونسيين، وقد كتل أغلبيتهم الساحقة في نقابات، لكل مهنة واحدة منها، تشرف عليها اتحادات في الجهات المختلفة، مهمتها الأولى الدفاع عن مصالح أعضائها، ومهمتها الثانية - وهي لا تقل أهمية عن الأولى - توجيه الاقتصاد التونسي وإحياؤه، وتكوين المشاريع الإنشائية لتكون نواة لاقتصاد الغد. وقد شرع في تبديل الصناعات القديمة وإدخال التطور العصري عليها وتوجيه إنتاجها توجيها يماشي رغبات المجتمع. وقد تغير بالفعل في مدى شهور قليلة منظر بعض الأسواق التونسية التي عوضت البلغة (الحذاء المغربي القديم) بالأحذية العصرية، وكون شركات لمزاحمة الشركات الأجنبية مثالها شركة الثلج. وأحسن تنظيماته هي الشركات التعاونية كشركة إنتاج السجاد القيرواني وغيرها.
ويقوم أيضا بتنظيم معارض كبرى للبضائع والإنتاج الصناعي التونسي.
وكان عمله مثمرا جدا؛ إذ كتل الأغلبية الساحقة من التجار وأرباب الصنائع، حتى أصبح عدد أعضائه يفوق خمسة وخمسين ألفا، اجتمعوا في نقابات، وانتظمت النقابات بدورها في اتحادات جهوية. ويسير الاتحاد كله هيئة إدارية ينتخبها المؤتمر العام الذي يجمع ممثلين عن النقابات، ينتخبهم الأعضاء العاملون مباشرة.
فأصبح الاتحاد التونسي للتجارة والصناعة بعد ثلاث سنوات، إحدى القوات الوطنية الكبرى يساند الحركة القومية مساندة فعالة، وقد تيقن ألا نهضة اقتصادية ممكنة في بلاد مستعمرة؛ ولذا كان مبدؤه هو التحرر الوطني والعمل لاستقلال تونس.
1 (5-3) الاتحاد العام للفلاحة التونسية
وهو أقوى المنظمات القومية عددا، وأعضاؤه في ازدياد مطرد، وقد بلغوا في ديسمبر سنة 1952 أكثر من مائتين وخمسين ألفا.
وهو أيضا أحدث المنظمات القومية تأسيسا، ولكن ينبغي ألا ننسى أن تونس بلاد فلاحية قبل كل شيء، وأن الاستعمار الفرنسي يهدد المزارعين قبل غيرهم بانتزاع أراضيهم منهم بشتى الوسائل والتضييق عليهم أدبيا وماديا حتى يملوا ويغادروا أراضيهم بيعا وهجرة، فيستحوذ عليها المعمرون الفرنسيون.
ولذا استجابوا لنداء اتحادهم بسرعة، فانتظموا في نقاباته التي غطت البلاد بشبكة محكمة، وتصدى الاتحاد لتلقينهم الروح التعاونية وذوبان مصلحة الفرد في مصلحة المجموع، ومصلحة الأفراد لا تتم إلا بمصلحة المجموع، وكون فيهم روح النظام والنقد الإنشائي والامتثال بعد الاقتناع.
وإن الإنشاء والبناء يسيران دائما جنبا إلى جنب مع النضال والكفاح في جميع المنظمات القومية التونسية؛ ولذا نرى الاتحاد بعد أن اشتد ساعده وأرست أسسه، قام بتكوين الشركات التعاونية بين أعضائه. فلنذكر على سبيل المثال الشركة التعاونية التي تكونت في الوطن القبلي بين منتجي البرتقال، والشركة التعاونية لمنتجي التمور بجهة الجريد المسماة بشركة «النور»، وهو بصدد تكوين أكبر عدد ممكن من تلك الشركات سواء لبيع الإنتاج أو لشراء ما يحتاجه المزارعون، ولتعميم الأساليب العصرية في الفلاحة باستخدام الآلات الميكانيكية.
وتيقن الاتحاد العام للفلاحة التونسية أنه لا يبلغ هدفه ما دام الاستعمار الفرنسي مسيطرا على البلاد التونسية ؛ ولذا قرر في مؤتمراته السنوية أن هدفه الرئيسي هو استقلال تونس.
2 (5-4) الاتحادات الجهوية التابعة للاتحاد العام للفلاحة التونسية والنقابات التابعة لها (أ) الاتحاد الجهوي بصفاقس، رئيسه: أحمد بن عياد
ويشمل نقابات: صفاقس، الصخيرة، سيدي عقارب، جبنيانة، المحرس. (ب) الاتحاد الجهوي بسوسة، رئيسه: عمار شوشان
ويشمل نقابات: الوردانين، المنستير، معتمر، النفيضة، سيدي أبو علي، الساحلين، أكودة، القلعة الكبرى، حمام سوسة، قصر هلال، صيادة، بو حجر، خنيس، لمطة، جمال، طوزة، زرمدين، المصدور، مبزل كامل، بني حسان. (ج) الاتحاد المحلي بالمكنين
ويشمل نقابات: طبلبة، شراحيل، سيدي نعيجة، المكنين. (د) الاتحاد المحلي بالمهدية
ويشمل نقابات: المهدية، قصور الساف، سيدي علوان، البقالطة. (ه) الاتحاد المحلي بمساكن
ويشمل نقابات: بني ربيع، البرجين، الكنايس، بني كلثوم. (و) الاتحاد الجهوي بباجة
ويشمل نقابات: باجة، الفرنانة، سوق الأربعاء، غارة الدماء. (ز) الاتحاد المحلي بالجبل الأبيض
ويشمل نقابات: الجبل الأبيض، بوشتاتة، رأس الرجل، الطبابة وفطناسة، طبرقة. (ح) الاتحاد الجهوي بتونس، رئيسه: محمد الهادي بن الحاج
ويشمل نقابات: مرناقة، الموسى، رادس، وادي الزرقاء، قلعة الأندلس، تستور، مجاز الباب، طبرية. (ط) الاتحاد المحلي بطبرسق
ويشمل نقابات: قعقور، عين جمالة، طبرسق، دقة، الكريب، سيدي إسماعيل. (ي) الاتحاد الجهوي بالقيروان، رئيسه: علي الحمامي
ويشمل نقابات: القيروان، سيدي عمر بو حجلة، البيخة، سيدي علي بن نصر الله، مشيخة القفي، الخنية، السفاية، سبيطلة، فريانة. (ك) الاتحاد الجهوي بالوطن القبلي، رئيسه: الهادي المرايط
ويشمل نقابات: منزل بوزلفى، الحمامات، نابل، بني خيار، منزل تميم، تازركة، الصمعة، نيانو، قربة، المعمورة، بني خلاد. (ل) الاتحاد الجهوي بالكاف، رئيسه: صالح بربوش
ويشمل نقابات: الكاف، تاجروين، السرس، أبو كسور. (م) الاتحاد الملطي بقفصة
ويشمل نقابات: قفصة، بئر الحفي، سيدي بوزيد. (ن) الاتحاد الجهوي ببنزرت، رئيسه: الحاج عبد الواحد الصفاقسي
ويشمل نقابات: بنزرت، غار الملح، رأس الجبل، فيريفيل، منزل جميل، رفراف. (س) الاتحاد المحلي بمكثر
ويشمل نقابات: مكثر، الروحية، تالة، سليانة، كسرى، ريع أولاد يحيى، ريع سليانة.
ويضاف إلى تلك الاتحادات بعض النقابات المتفرقة.
ولنذكر بجانب تلك المنظمات القومية الكبرى «الاتحاد النسائي التونسي » الذي يجمع عددا وافرا من النسوة العاملات ، وجامعة قدماء المحاربين التونسيين التي تكتل في صفوفها ما يقارب ستين ألفا من قدماء المحاربين، والاتحاد العام للطلبة التونسيين، والاتحاد الكشفي التونسي، وقد ساند الحزب وأعان أدبيا وماديا على تأسيس وازدهار مئات من الجمعيات الأدبية والثقافية والرياضية؛ لأنها أحسن مدرسة لتكوين المواطن الصالح القادر على القيام بواجباته، ولأنها أيضا تقوم بعمل إنشائي واسع عميق في جميع الميادين. (6) خاتمة
وهكذا أصبح الشعب التونسي شعبا واعيا مرتبط الأجزاء متكتلا في مؤسسات قومية عتيدة، منظم القوى في جميع الميادين.
فإما أن تجيب فرنسا رغباته، وإما أن يرمي بتلك القوات في الميدان؛ لأنه اعتمد في كفاحه على الله وعلى نفسه أولا وبالذات.
النظم التونسية قبل الحماية وبعدها
(1) وضع الحماية الفرنسية على تونس
لما تم لفرنسا احتلال مدينة الجزائر عام 1830، واتسع نفوذها في حرب لا هوادة فيها ولا رحمة، حتى شمل القطر الشقيق كله، اتجهت أنظارها إلى تونس لترسخ قدمها بالمغرب العربي؛ إذ من الواضح أن شمال أفريقيا وحدة جغرافية واقتصادية زادها التاريخ والجنس والدين واللغة والعادات المماثلة متانة. وقد فطن ساسة فرنسا إلى ارتباط أقطار المغرب في مصيرها ارتباطا وثيقا، فخشوا أن تصبح تونس خطرا يهدد وجودهم في الجزائر، إن احتفظت باستقلالها أو احتلتها إحدى الدول الأوروبية المناهضة لفرنسا.
وكانت تونس خلال القرن التاسع عشر ميدانا للتنافس بين الدول الاستعمارية، وخاصة بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا، وكاد يكون التدخل الأجنبي في شئون البلاد سافرا، وتوطدت العلاقات بين القناصل والقصر بالتداول والتناوب؛ إذ كل واحد منهم يسعى في أن يرتقي كرسي الوزارة من يثق به ويناصره ويسايره في توسيع نفوذه واتصاله بالقصر، وكان الوزير مصطفى خازندار - رغم عيوبه - حجر عثرة في سبيل فرنسا وعدوا يقاوم تدخلها، معتمدا في ذلك على بريطانيا وممثلها. ولكن تلك الدول جميعها اتفقت على عرقلة كل نهضة، وإفساد كل إصلاح، وإدخال الفوضى على أداة الحكم، وتكوين الاضطراب في البلاد؛ لتبقى تونس كالثمرة اليانعة تقتطفها إحداها متى سنحت لها الفرصة.
وازدادت الجاليات الأجنبية في هذه المدة وتكاثر عدد أفرادها من التجار والفنيين خاصة ، فطالب قناصل الدول الأجنبية بإدخال إصلاحات على نظام الحكم بدعوى حماية هذه الجاليات، ثم بذلوا مجهودات كبيرة لعرقلة تلك الإصلاحات وأرادوا أن تطبق جملة، مع علمهم أن الحالة المالية وإن كانت حسنة إلا أنها لا يمكن بحال أن تتحمل المصروفات الباهظة التي تتطلبها الإصلاحات، فأجبروا الحكومة التونسية على القيام بما أرادوه حتى أعجزوها ماليا، وإذ ذاك فرضوا عليها دواء أخطر من الداء نفسه، وحملوها على أخذ قروض متوالية لا يصل منها إلى صندوق الدولة إلا النزر اليسير، ثم خطوا خطوة أجرأ، فاتخذوا دعوى حماية تلك الأموال المقترضة سببا للتدخل المباشر في شئون تونس، وأجبروا الحكومة على تسليم مصلحة الجمارك للأجانب مقابل القروض، فلم تف بالحاجة لاتساع الاضطرابات التي تكونها وتغذيها هذه الدول الاستعمارية وخاصة فرنسا، وكانت ثورة علي بن غذاهم عام 1864 أعظمها وأكثرها اتساعا، فازدادت هكذا الفوضى وعمت ونقص بسببها إيراد الدولة نقصا فادحا، وضغط إذ ذاك ممثلو الدول على ملك البلاد ضغطا كانت نتيجته تكوين لجنة مالية دولية (1870) تحت رئاسة المصلح التونسي العظيم خير الدين باشا، فوجدت الديون قد بلغت 125 مليون فرنك، ولكنها سمحت للأجانب أن يسيطروا مباشرة على حظوظ تونس المالية، خاصة وأنهم اتخذوا من تلك اللجنة نفسها ميدانا للتنافس، وتسابقوا إلى الحصول على الامتيازات المتنوعة.
وهكذا حصلت فرنسا على امتياز بإنشاء سكة حديد بين تونس والجزائر سنة 1874، وحاول القنصل الإيطالي أخذ امتياز إنشاء مصلحة تلغراف فلم يفلح، ولكنه حصل على شراء السكة الحديدية الممتدة بين تونس وحلق الوادي من شركة بريطانية بفضل ما بذله من أموال طائلة، وأخذ القنصل الفرنسي «روسطان» امتيازا بإنشاء سكة حديد أخرى بين تونس وبنزرت، وتونس وسوسة، وإنشاء ميناء بتونس.
1
وإن إيطاليا عندما أظهرت أطماعها، وشاركت في إدخال الفوضى على حكومة تونس، وبذلت مجهودات كبيرة للحصول على الامتيازات، وضحت بالمال الغزير؛ إنما عبدت الطريق لغيرها وهيأت له الأسباب، لأن حداثة عهدها في المعارك الاستعمارية وقرب بروزها لعالم الوجود كدولة موحدة لم تمكنها من لعب دور حاسم في هذا المضمار، بل كان التزاحم الحقيقي بين ممثل فرنسا وممثل بريطانيا العظمى القنصل وود
Wood
الذي كان يؤيد بقاء مصطفى خازندار، ويشجعه على توثيق العلاقات بين تونس المستقلة في الواقع والدولة العثمانية التي ما زالت تعتبرها ولاية من ولاياتها، حتى لا تجد فرنسا منفذا للاستيلاء عليها.
وقد دامت الخصومة لأجل تونس بين الدولتين الكبيرتين أكثر من عشرين سنة، ولم تنته إلا في مؤتمر برلين عام 1878 بعد هزيمة تركيا في حربها مع روسيا عام 1877، ولا سيما بعد هزيمة فرنسا في حربها مع ألمانيا عام 1870.
فبعد أن ألحقت ألمانيا مقاطعتي الألزاس واللورين بإمبراطوريتها، صرفت عنايتها للاحتفاظ بهما وإبعاد فرنسا عن فكرة الأخذ بالثأر ومحاولة استرجاع هاتين المقاطعتين، ورأت أن تفسح لها المجال في بسط نفوذها خارج أوروبا. وكان «بسمارك» يسعى بصفة عامة للاحتفاظ بالوضع الذي نتج في أوروبا عن حرب سنة 1870، ويعمل على توجيه الدول نحو الشرق، فكان لا يمانع في امتداد نفوذ فرنسا في تونس وبريطانيا في مصر.
وكانت إنجلترا لا تعارض في تقطيع أوصال الدولة العثمانية في أوروبا وفي غيرها.
أما فرنسا، فإنها كانت تحاول الابتعاد عن الميدان الدولي خشية التورط في مشاكل خارجية لا تستطيع أن توجهها، وقد خرجت من الحرب مهيضة الجناح عام 1870.
وظهرت هذه الاتجاهات أثناء مؤتمر برلين عام 1878، فأوعزت ألمانيا لفرنسا بوضع يدها على تونس حتى لا تضع العراقيل في وجهها في المؤتمر، كما نصحتها إنجلترا ببسط نفوذها على تونس لتتمكن هي بدورها من الاستيلاء على مصر.
وهكذا قامت ألمانيا وإنجلترا بتشجيع فرنسا على احتلال تونس وفصلها عن ممتلكات تركيا، وإن كانت تونس في الحقيقة لا تربطها مع الدولة العثمانية في ذلك العهد إلا الروابط الروحية.
2 (1-1) الحماية
لما وجدت الحكومة الفرنسية الجو العالمي مساعدا لها أرادت أن تنهي المسابقة حالا، فأسرعت إلى احتلال تونس حتى لا تضيع عليها تلك الفرصة، وكان رئيس وزرائها إذ ذاك «جول فري» قد عقد العزم على تنفيذ خطة دبرها من قبل وصمم عليها، رغم المعارضة الشديدة التي وجدها في الرأي العام الفرنسي نفسه، خاصة من طرف الحزب الراديكالي وزعيمه جورج كليمنصو، فاتخذ من مناوشات بسيطة عادية وقعت بين قبائل خمير التونسية وبعض القبائل الجزائرية ذريعة لمهاجمة تونس برا وبحرا، ولم يلتفت إلى ما عرضه عليه جلالة باي تونس من تعويضات طبق الاتفاقات السابقة بين تونس وفرنسا، بل أمر الجيوش الفرنسية باقتحام الحدود البرية، وأنزل قوات أخرى من البحر في ميناء بنزرت ومرسى طبرقة، وزحفت هذه الجيوش من غير سابق إنذار ولا إعلان حرب نحو مقر الملك، فوصلت منطقة منوبة على مقربة من القصر الملكي بباردو، وحاصرت القصر يوم 12 مايو 1881، ولم يمهل قائد الجيوش الفرنسية الجنرال برايوت جلالة الصادق باي إلا ساعات ليوقع على معاهدة سنة 1881، وقام قسم كبير من رجال الدولة والموظفين العالين، وفي مقدمتهم أول مكافح تونسي العربي زروق، يعارضون توقيع هذه المعاهدة المفروضة بالقوة ويطالبون بإعلان الحرب على فرنسا والتمادي فيها إلى النهاية، حتى قال زعيم المعارضين: «إما أن نموت بشرف أو نخلص بلادنا من العدو»، ووقع الملك المعاهدة تحت تأثير وزيره الخائن مصطفى بن إسماعيل.
ولكن الشعب التونسي لم يلق السلاح، بل تمادى في المقاومة رغم ضعفه، وسقطت مدن المملكة الواحدة تلو الأخرى في قبضة العدو، بعد دفاع مستميت، وما زال الشيوخ التونسيون يتذكرون بطولة صفاقس التي اجتمعت بها رجال القبائل من الهمامة وبني زيد والمثاليث، خاصة ولم تستسلم أبدا، بل ناضلت بعد أن سقط سورها في كل شارع وكل بيت، وكان عدد الشهداء بها عظيما جدا لقلة ما لديهم من السلاح، وتكررت المأساة في بقية مدن المملكة التونسية إلى أن تم احتلال البلاد كلها.
ولم تجد تونس في ذلك العصر نصيرا ولا مجيرا، وإن كان قد فرض الحماية الفرنسية عليها اعتداء سافرا لا مبرر له إلا جشع الاستعمار الأوروبي وإرادة التوسع وكسب الأسواق الجديدة.
ولقد كانت معاهدة باردو فاسدة من أصلها؛ لأن فرنسا فرضتها بالقوة ووقعها ملك تونس تحت تهديد الجيوش المحاصرة له، ولو كان في العالم عدالة لما أمكن لفرنسا أن تبقى بتونس؛ لأن بقائها مناف لجميع المواثيق الدولية الحديثة، كالميثاق الأطلنطي وميثاق هيئة الأمم المتحدة وميثاق حقوق الإنسان، ولأن استمرار احتلالها لتلك البلاد الأجنبية عنها إنما هو تشجيع للقوي في الاستيلاء على الضعيف، ومحافظة على عهد تريد الشعوب طيه؛ لما فيه من ظلم وتهديد دائم للسلام العالمي لتزاحم الأقوياء على أسلاب الضعفاء من الأمم. (1-2) استقلال تونس قبل الحماية
وكانت تونس قبل الحماية الفرنسية دولة تتمتع باستقلالها، لها ذاتيتها وميزانيتها، سواء داخليا أو خارجيا؛ فكانت أرضها محدودة مضبوطة، وكان سكانها متوحدين تجمعهم إرادة واحدة وضمير قومي واحد تحت حكومة تدير البلاد كلها. (أ) الاستقلال الداخلي
وقد استقلت تونس استقلالا حقيقيا منذ اعتلى عرشها مؤسس الدولة الحسينية جلالة الباي حسين بن علي عام 1705، فأصبح الملك وراثيا في أبنائه، دون أن تتدخل أية دولة أجنبية. وكانت الروابط بين ملك تونس والسلطنة العثمانية روحانية فقط؛ أي روابط أمير مسلم مع خليفة المسلمين وأمير المؤمنين. وكانت السلطات كلها مجموعة في قبضة الباي في العهد الأول، إلى أن أخذت البلاد التونسية تتطور في العصر الحديث وتدخل التنظيمات اللازمة في حياتها السياسية والاقتصادية والثقافية.
وكانت تونس أول بلد شرقي سن لنفسه دستورا، فأصدر ملك تونس محمد باشا باي (20 محرم 1274 / 10 سبتمبر 1857) مقدمة ذلك الدستور مطلقا عليها اسم عهد الأمان، وكان القسم الأول منه في الحقيقة إعلانا واضحا لحقوق الإنسان، فضمن البند الأول أمن جميع سكان المملكة من غير امتياز في الدين والجنس ولا الجنسية، وأعلنت بقية البنود مساواة جميع السكان أمام الضرائب والأداءات وأمام القانون أيضا، وجعلت التسامح الديني أساسا لمعاملة جميع من يسكن تونس، كما حررت التجارة والملكية.
وأعطى محمد الصادق باي نظاما جديدا للدولة التونسية عندما أصدر دستورها (26 أبريل1861) الذي لم ينسخ إلى هذه الساعة، وقد شمل ذلك الدستور النظام السياسي والمالي والإداري والقضائي. (ب) النظام السياسي
يعتمد النظام السياسي على ثلاثة أركان: (1) الباي. (2) الوزراء. (3) المجلس الأهلي.
وقد أقيم على بعض المبادئ من مشاركة المجلس في السلطة التشريعية وبقاء السلطة التنفيذية كاملة في قبضة الباي ووزرائه، واستقلال السلطة القضائية ومساواة بين المسلمين وغير المسلمين.
وأول أركان الدولة هو الملك نفسه الذي بقي رئيسا أعلى للدولة وللأسرة الحسينية المالكة، وقد سن الدستور مبدأ مسئولية رئيس الدولة في جميع أعماله المنافية للدستور أو الخارجة عن القانون، كما وضع تحديد هذه المسئولية وما ينشأ عنها من حساب.
أما الوزراء فلم ينص الدستور على عددهم، وقد كان دائما من بينهم: وزير أول ووزير القلم والاستشارة ووزير المالية ووزراء الدولة، وقد حددت أيضا مسئولياتهم.
وكان الركن الثالث للدولة هو المجلس الأعلى الذي يقع اختيار أعضائه من بين الأعيان والموظفين العالين، ويتولى الباي ووزراؤه ذلك الاختيار، وله حق المشاركة في ممارسة السلطة التشريعية، وتتخذ قراراته بأغلبية أربعين صوتا من ستين، ويكلف اثنا عشر من أعضائه بتسيير الشئون في الفترات بين جلساته، كما أن من مهام المجلس المحافظة على الدستور وإدخال التغييرات اللازمة عليه.
ومن أعظم الإصلاحات التي أدخلها الدستور على الدولة التونسية تفريق السلطات وتحديدها.
السلطة التشريعية
إن حق سن القوانين من مشمولات الأمير والمجلس الأعلى، ولكنها لا تكون صالحة نافذة إلا بعد اتفاق الباي والمجلس الأعلى عليها. أما القوانين العادية، فينبغي أن يقررها المجلس بالتصويت عليها، ثم يعطيها الباي صبغتها القانونية بخلاف قوانين الضرائب والأداءات؛ فإن المجلس يقررها ويوافق عليها الباي، أما قوانين موازنة الدولة فإن الباي يسنها بإعانة المجلس الأعلى.
السلطة التنفيذية
لقد أقر الدستور بقاء السلطة التنفيذية كاملة في قبضة الباي، فإنه يمثل البلاد في علاقاتها مع الدول الأجنبية، كما أن القيادة العليا للجيش منوطة بعهدته، وهو أيضا القاضي الأعلى.
ومهمة الوزراء مساعدة الباي في ممارسة سلطته التنفيذية.
السلطة القضائية
لا دخل للأمير ولا للمجلس الأعلى في السلطة القضائية التي تحتوي على ثلاث: (1) القضاء الابتدائي. (2) محاكم الاستئناف. (3) محاكم التعقيب. وينبغي أن تذكر في الحكم حيثياته، والقضاة يشغلون مناصبهم لمدة الحياة، ولا تتدخل السلطة التنفيذية إلا لتنفيذ الأحكام الصادرة من المحاكم.
وطبق ذلك الدستور ودام معمولا به عدة أعوام، ثم أهمل، ولكنه لم يلغ ولم ينسخ أبدا، وقد أصدر أستاذان للحقوق - فايس وبرتلمي - فتوى جزما فيها بأن الدستور ما زال موجودا قانونيا اعتمادا على أن الملك المطلق إذا ما تنازل لشعبه عن بعض السلطات لا يمكن له التراجع فيها وافتكاكها من جديد، وعلى أن الدستور السياسي يحتفظ بوجوده القانوني ما لم يلغ بنص صريح، فلم ينسخه القرار السفيري الصادر عن المقيم العام الفرنسي بتونس في 25 ديسمبر 1884، الذي فسخ كل الأوامر العلية (أي المراسيم الملكية) السابقة لعام 1881.
كانت تونس هكذا دولة مستقلة تسير في تطورها نحو نظام ديمقراطي يشارك فيه الشعب شيئا فشيئا، ويضمن لجميع أفراده الحرية والمساواة، خاصة وأن الإصلاح لم يقتصر على الميدان السياسي، بل شمل الميادين كلها من اقتصاد وتعليم وحياة اجتماعية.
ففي عهد الصادق باي سعى المصلح التونسي الكبير خير الدين باشا في تجديد البلاد، وسن ما يناسبها من الأنظمة العصرية النافعة بعد أن سافر إلى أوروبا واطلع على سر تقدمها، وسجل آراءه وأفكاره في أول كتاب ظهر في الإصلاح في العالم العربي سماه: «أحسن المسالك في سياسة المالك.» وأن آراءه الصافية الجلية صالحة لأن تكون أساس نهضتنا في عصرنا الحاضر، فنظم الإدارة المركزية والإدارات المحلية تنظيما عصريا، كما نظم البلديات والمحاكم الشرعية وشئون الأوقاف، وسن قانونا جديدا يضمن للفلاحين حقوقهم، كما وضع برنامجا خاصا لتوزيع الأراضي الزراعية الأميرية على سكان البادية، وأنشأ مجلسا للعناية بالشئون الصحية وإدارة الأوقاف، ونظم مناهج التعليم بجامع الزيتونة، وأسس المدرسة الصادقية لدراسة العلوم الحديثة واللغات الأجنبية، كما أرسل البعثات العلمية إلى إيطاليا وفرنسا.
وهكذا كانت تونس تسير بخطى واسعة في سبيل الرقي والتقدم، إلى أن منيت بالاحتلال الفرنسي، فأقامت فرنسا العراقيل في سبيل هذه النهضة وعطلت سيرها، وأعادت البعثات العلمية من أوروبا، وحولت مناهج التعليم بالمدرسة الصادقية إلى أن جعلتها مناهج لإخراج الموظفين الصغار والمترجمين فحسب. «هذه تونس - للدكتور ثامر- ص23.» (ج) الاستقلال الخارجي
كانت الدول معترفة دائما بالدولة التونسية، وقد عقدت الدول الأجنبية مع أميرها جلالة الباي عدة معاهدات منذ فجر القرن الثامن عشر، نذكر هنا بعضها: (1)
30 أغسطس 1716: معاهدة سلام وتجارة مع بريطانيا العظمى. (2)
23 ديسمبر 1748: معاهدة سلام وتجارة وملاحة مع النمسا. (3)
22 يونيو 1763: معاهدة بين ملك بريطانيا جورج الثالث وعلي باي ملك تونس بصفته «الأمير الأعلى لهذه الدولة». (4)
21 مايو 1765: معاهدة بين تونس وفرنسا تعترف فيها فرنسا للباي بحقه الدولي وامتداد سلطانه على «مساحة المملكة» كلها. (5)
أغسطس 1797: معاهدة سلام وتجارة بين باي تونس والولايات المتحدة الأمريكية.
ولنلاحظ أن أمير تونس قد أبرم هذه المعاهدات وغيرها باسمه الخاص، كممثل لدولة قائمة الذات هي الدولة التونسية، وأن الدول الكبرى كانت دائما معترفة بحق أمير تونس الشخصي المباشر في إبرام الاتفاقات الدولية ذات الصبغة السياسية؛ لأن استقلال تونس كان تاما كاملا داخليا وخارجيا.
الحماية الفرنسية والدولة التونسية
إن معاهدة باردو 12 مايو 1881 وإن لم تذكر في نصها لفظة «حماية»، بل نصت على أنها «معاهدة وداد وصداقة» إلا أنها اعتدت على السيادة التونسية داخليا وخارجيا.
فقد خولت فرنسا لنفسها الحق في احتلال ما تراه من المراكز في البلاد التونسية حسب البند الثاني من المعاهدة. «لأجل تسهيل القيام بالإجراءات التي يتحتم على دولة الجمهورية الفرنسية اتخاذها للوصول للغرض الذي يقصده الجانبان المتعاقدان، فقد رضي سمو باي تونس بأن تحتل القوات الفرنسية العسكرية المراكز التي تراها صالحة لاستتباب النظام والأمن بالحدود والسواحل»، وذلك الاحتلال الأجنبي نفسه حد من سيادة تونس الداخلية.
أما السيادة الخارجية وإن بقيت كاملة قانونا، إلا أن باي تونس تنازل عن ممارساتها لفائدة فرنسا طبق البند السادس: «يكلف الممثلون الدبلوماسيون وقناصل فرنسا في البلاد الأجنبية بحماية رعايا المملكة التونسية ومصالحها، وفي مقابل ذلك يلتزم سمو الباي بألا يعقد أي عقد ذي صبغة دولية من دون إعلام الدولة الفرنسية بذلك، والحصول على موافقتها.»
وأصبح ممثل فرنسا في تونس هو الواسطة الوحيدة بين البلدين حسب البند الخامس من المعاهدة: «يمثل الدولة الفرنسية لدى سمو الباي وزير مقيم عام، تكون وظيفته السهر على تنفيذ أحكام هذه المعاهدة، ويكون هو الواسطة بين الدولة الفرنسية وبين السلطات التونسية في جميع القضايا التي تهم الجانبين.» والحقيقة أن فرنسا عزلت تونس عن بقية العالم، وأصبحت سدا منيعا بينها وبين بقية الدول، وحرمتها من كل اتصال مباشر بالشعوب القريبة والبعيدة. ثم إن فرنسا استصدرت من باي تونس أمرا عليا (مرسوما ملكيا) بتاريخ 9 يونيو سنة 1881 أناط بمقتضاه الشئون الخارجية بالمقيم العام الفرنسي الذي أصبح هكذا وزير خارجية تونس. وهذا نص ذلك الأمر العلي:
حيث إن الفصول الرابع والخامس والسادس من المعاهدة المبرمة بين حكومتنا وحكومة الجمهورية الفرنسية (12 مايو 1881) تستلزم تدخل وزير الجمهورية في علاقاتنا بممثلي الدول الصديقة، فتسهيلا وإسراعا لحل المشاكل نكلف الوزير المقيم العام لفرنسا بتونس بدور الواسطة الرسمية والوحيدة في العلاقات التي يقوم بها في المستقبل ممثلو الدول الصديقة المعتمدون لدينا.
وجرت العادة بعد ذلك أن يصدر الباي مرسوما ملكيا، يعين به كل مقيم عام جديد وزيرا للخارجية.
وأعطت فرنسا لنفسها الحق في التدخل بصفة مستمرة في شئون تونس المالية بدعوى الدفاع عن أصحاب القروض، كما جاء في البند السابع من المعاهدة والذي تعتبره فرنسا في المكان الأول من الأهمية: «تحتفظ دولة الجمهورية الفرنسية ودولة سمو الباي لنفسها بحق الاتفاق على وضع نظام مالي بالمملكة التونسية، من شأنه الوفاء بواجبات الدين العام وضمان حقوق دائني المملكة.»
وأكبر دليل على أن ما أدخل من فوضى على مالية تونس كان مصطنعا قبل الحماية وكان لفرنسا الدور الرئيسي فيه، هو أن موازنة تونس كانت معتدلة، بل كانت فيها فواضل كبيرة عامين بعد الحماية.
ولم تغير فرنسا سياستها المالية هادفة دوما إلى إغراق تونس بديون لا طاقة لها بها؛ لكي تكبلها نهائيا بقيود يعسر التخلص منها، فتبقى دائما مستعمرة ماليا وإن تحررت يوما من الأيام سياسيا.
إن معاهدة 1881 لم تفقد تونس جوهر سيادتها التامة، بل حرمتها من مباشرة بعض مظاهر تلك السيادة فقط، وبقيت الدولة التونسية كاملة الذاتية كما كانت قبل المعاهدة التي أبرمت بين دولتين كاملتي السيادة مستقلتين، فأكد هكذا وجود دولة تونسية. وقد نصت المعاهدة مرارا على وجود حكومة تونسية وبينت اعتراف فرنسا نفسها بتونس كدولة لها نظامها الدولي الشرعي، وإن نص المعاهدة يقضي بأنها مؤقتة غير أبدية كما ادعت فرنسا ذلك فيما بعد؛ إذ تنص الفقرة الثانية من بنده الثاني على انتهاء الحماية:
ويزول هذا الاحتلال عندما تتفق السلطات الحربية - الفرنسية والتونسية - وتقرر معا أن الإدارة المحلية قد أصبحت قادرة على المحافظة على استتباب الأمن العام.
ومن ناحية أخرى فإنا نجد تلك المعاهدة أبقت السيادة الخارجية وحق ممارستها لملك تونس؛ إذ ينص بندها السادس على «أن سمو الباي يلتزم بألا يعقد أي عقد ذي صبغة دولية بدون إعلام فرنسا ...» وهذا ما يؤيد محافظة الأمير على حقه في إبرام المعاهدات مع الدول الأجنبية.
وينبغي أن نلاحظ هنا أن حماية فرنسا لتونس ذات صبغة دولية واضحة وليست حماية استعمارية؛ ولذا كانت العلاقات بين المحمية والحامية عن طريق وزارة الشئون الخارجية الفرنسية. وقد بين رجال القانون الفرنسيون ذلك، كما اعترفت به المحاكم الفرنسية نفسها.
فقد قرر ديبانييه
Despagnet
في دروسه للقانون الدولي العام أن الحرب المسلحة بين المحمي والحامي تصطبغ بصبغة دولية بحتة، مستندا فيما أبداه من رأي على مبدأ لا شك فيه ولا خلاف، وهو أن الحماية علاقة بين دولة ودولة أخرى، تضيق على المحمي ممارسة بعض حقوقه، ولكنها لا تحرمه من شخصيته السياسية.
وكذلك قال انجلهارت
Engelhardt (مجلة الحقوق العامة والعلم السياسي 1900): «إن المحمي بصفته دولة قائمة بذاتها لا يمكن أن تكون حربه مع الحامي إلا حربا دولية، فهي بلاد قد قطعت صلة قديمة وحليف انقلب على من كان مرتبطا به إلى تلك الساعة.»
أما السيادة الخارجية التونسية فقد بقيت كاملة؛ إذ جرى في عرف الدول أن يمثل بعضها بعضا من غير أن ينقص ذلك شيئا من سيادتها، فقد صرح أنجلو بيارسيريني
Angelo-pierre Sereni
في دروس في التمثيل في الحقوق الدولية (أكاديمية الحقوق الدولية 1948) قائلا فيما يتعلق بتونس: «بمقتضى اتفاقيات أبرمت مع تونس، أصبح لفرنسا الحق في أن تبرم باسم تلك الدولة وعلى حسابها جميع علاقاتها الخارجية تقريبا، وأن ذلك التمثيل لا يقضي على الشخصية الدولية.»
وكتب لويس ريفيار
Louis Rivière
مستشار محكمة الاستئناف بمدينة كان تعليقا (سيري
Sirey (1927) مجلد 1، ص85):
أما فيما يتعلق بمدغشقر وأنام، فإن الدولة الحامية قد ابتلعت السلطة الخارجية كلها، فأصبحت وحدها صاحبة العلاقات مع الدول الأجنبية الأخرى، بينما بتونس لم تزد معاهدة باردو عن أن علقت على موافقة الحكومة الفرنسية حق الأمير المحفوظ له في إبرام معاهدات مع تلك الدول.
ولذا تمادت الحكومة التونسية في إبرام عدة معاهدات مع الدول الأخرى بعد عقد معاهدة 1881، وقد أبرمتها مباشرة أحيانا بموظفيها التونسيين، وأحيانا أخرى بواسطة الحكومة الفرنسية بالنيابة عن حكومة تونس طبقا لمبادئ التمثيل. ولكن الدولة التونسية كانت دائما منصوصا عنها كدولة غير الدولة الفرنسية: (1)
أعلنت تونس الحرب على ألمانيا عام 1914 كدولة. (2)
اتفاقية مجريطة 14 / 4 / 1891 وقع تحويرها بلندن 2 / 6 / 1934 وشاركت فيها تونس 4 / 10 / 1942. (3)
اتفاقية لاهاي 6 / 11 / 1925 مشاركة تونس فيها 4 / 10 / 1942. (4)
اتفاقية لتكوين ديوان دولي للخمور بباريس 29 / 11 / 1944. (5)
اتفاقية بخصوص مصل الدفتريا
Serum antidiphtérique
وقعت بباريس في 1 / 8 / 1930. (6)
اتفاقية 24 / 4 / 1926 بخصوص تجول السيارات. (7)
الاتفاقية الصحية الدولية 21 / 6 / 1926. (8)
اتفاقية البريد العامة 10 / 7 / 1947.
إلخ ... إلخ ...
وهكذا لم تمح شخصية الدولة التونسية من الميدان الدولي. (1-3) الاستقلال الداخلي
إن معاهدة 1881 سمحت لفرنسا باحتلال تونس عسكريا حسب البند الثاني، ولكنها لم تمنحها حق التدخل في شئون الحكومة ولا في تشريعها ولا في سلطتها التنفيذية، فلما وجدت فرنسا نفسها عاجزة عن السيطرة شعرت أن مقاليد الحكم في البلاد بقيت كلها في يد الباي وحكومته، أجبرت الأمير الجديد علي باي على عقد اتفاقية ثانية معروفة باتفاقية المرسى (8 يونيو 1883) عامين فقط بعد معاهدة باردو.
فذكرت فيها لفظ «الحماية» للمرة الأولى، وإنها وإن لم تغير جوهر ما جاء في المعاهدة الأولى وأبقت السيادة التونسية غير منقوصة قانونا، إلا أنها فتحت أبوابا واسعة للاعتداء المتوالي منذ ذلك الحين على السيادة الداخلية التونسية، إلى أن بلغت في آخر الأمر إلى الحكم الفرنسي المباشر في تونس. وقد كانت فرنسا تعتمد دائما على البند الأول من اتفاقية المرسى لتقضي على الذاتية التونسية شيئا فشيئا، وهذا نصه:
لما كان غرض سمو الباي المعظم أن يسهل للحكومة الفرنسية إتمام حمايتها، تكفل بإدخال الإصلاحات الإدارية والعدلية والمالية التي ترى الحكومة المشار إليها فائدة في إدخالها.
فكان كل ما تفرضه فرنسا من تحويرات تدعي أنها إصلاحات، وإنما هو في جوهره قضاء على السيادة التونسية ، وسعي في أن تحل محلها السيادة الفرنسية، سواء في الميدان الحكومي أو الإداري أو الاقتصادي أو الثقافي.
ولكن اتفاقية المرسى نفسها رغم ما تحمله من أخطار لم تنتزع شيئا من السيادة التونسية؛ لأن جلالة الباي لم يتنازل عن شيء من سلطانه لفائدة فرنسا، وإن التزامه بإدخال ما تراه فرنسا من إصلاحات لم يسلبه سلطته التشريعية؛ إذ بقي هو المشرع الوحيد الذي بيده سن المراسيم الإصلاحية. وقد اقتصرت اتفاقية المرسى على ذكر الميادين الإدارية والعدلية والمالية، فاعترفت ضمنيا بأن الإصلاحات السياسية والدستورية خاصة خارجة عن نطاقها، وأن من حق جلالة الباي أن يقوم بما يراه منها، ما لم يعارض المعاهدات التي تتعرض لها، بل لم تشر إليها أصلا في الواقع، فليس إذن لفرنسا حق معارضة أمير تونس فيما يريد منحه لشعبه من أنظمة دستورية ديمقراطية.
فمن الواضح أن تونس احتفظت بسيادتها الداخلية، وأن تراب تونس غير التراب الفرنسي قانونا، مستقل عنه، وأن أرض تونس أرض أجنبية بالنسبة لفرنسا، لا تطبق فيها القوانين الفرنسية إلا إذا اصطبغت بصبغة تونسية؛ أي بعد أن يصدرها جلالة الباي كمراسيم ملكية تحمل توقيعهم، فالتشريع التونسي قانونا وواقعيا مستقل عن التشريع الفرنسي.
أما في الميدان الدولي، فإن المعاهدات التي تبرمها فرنسا باسمها الخاص لا تشمل تونس أبدا، إلا إذا ما قبلتها وكانت طرفا فيها ووقعها ممثل عنها. ولنلاحظ أخيرا أن ميزة معاهدة 1881 الأساسية هي أنها وقتية.
فقد ثبت إذن أن تونس احتفظت بكيانها الدولي من الوجهة الداخلية ومن الوجهة الخارجية أيضا. (2) نظام الدولة التونسية بعد الحماية
إن البحث في أنظمة الدولة التونسية بعد فرض الحماية بسبعين عاما كاف وحده لإبراز الاعتداءات الفرنسية على تونس، ولكشف الستار عن النوايا الفرنسية الحقيقية. (2-1) الباي
إن رئيس الدولة التونسية هو دائما جلالة الباي الذي جمع في قبضته قانونا السلطات كلها بعد أن ألغى العمل بدستور عام 1861، وما زالت سياسة فرنسا ترمي إلى المحافظة على الملكية المطلقة، حتى لا يكون للشعب حق في البلاد التونسية، وحتى لا يتغير الوضع القانوني الذي سمح لها أن تجعل من بلاد أجنبية عنها مستعمرة فرنسية في الواقع، فهي تدعي دوما أن جميع المعاهدات لم تبرم بين تونس وفرنسا، بل بين جلالة الباي صاحب المملكة التونسية وبين فرنسا، وكانت تستلب منه نفوذه تارة بالترهيب والوعيد وطورا بالوعود الخلابة ودعوى الإصلاح، ولم تزل تعارضه بالتهديد السافر والقوة المسلحة إذا ما رأت منه إرادة صادقة في منح تونس نظاما دستوريا ديمقراطيا يضمن للشعب حقوقه ويجعله صاحب السلطان في البلاد.
وبقيت هكذا السلطات التشريعية بيد الباي، ولكن الأوامر العلية (المراسيم الملكية) لا تعلن ولا تصطبغ بالصبغة التنفيذية إلا إذا صادق عليها المقيم العام للجمهورية الفرنسية بتونس، وفي ذلك من الاعتداء ما هو غني عن كل بيان؛ إذ تعسفت فرنسا بنص اتفاقية المرسى تعسفا شاذا لتستخرج منها نفوذا جديدا عاما لممثلها يتحكم بمقتضاه في جميع ما يسن من قوانين وأنظمة، ولا يوجد نص رسمي تونسي يبرر ما اغتصبه المقيم العام من نفوذ، ولكنه اعتمد على قرار صادر عن رئيس الجمهورية الفرنسية بتاريخ 8 نوفمبر 1884 فوض للمقيم العام للجمهورية الفرنسية أمر المصادقة باسم الحكومة الفرنسية على إصدار وتنفيذ جميع ما يتخذه سمو الباي من أوامر في القطر التونسي. (2-2) الوزراء
جرت العادة بأن تسند وزارة الخارجية إلى المقيم العام. أما وزارة الحربية ووزارة البحرية، فتلغيان في الغالب أو تسندان إلى كل من القائد الأعلى لجيوش الاحتلال والأميرال قائد الأسطول الفرنسي ببنزرت. أما بقية المناصب الوزارية فقد كان يحتلها دائما تونسيون، وقد أخذ عددها يزداد لاتساع الإدارة التونسية. (أ) الوزير الأول
يشرف الوزير الأول على سير الإدارة العامة للمملكة التونسية، وقد أثبت الواقع أنه ليس له السلطة المباشرة عليها، ويعرض الأوامر والمشروعات على الطابع الملكي ويرأس مجلس الوزراء ويسهر على تنسيق الأعمال بالوزارات والإدارات الفنية، بصفته رئيسا للسلطة التنفيذية، ولوظيفته مشمولات أخرى فيما يتعلق بالتشريفات ومراقبة العمال (المتصرفين أو الولاة) والمحافظة على أوراق الدولة، ويعينه للقيام بمهام وظيفته كاتب عام للحكومة التونسية سنفصل الحديث عنه فيما بعد. (ب) وزير العدلية
إن نظر وزير العدلية لا يشمل إلا المحاكم التونسية؛ لأن المحاكم الفرنسية تابعة رأسا لوزارة العدل الفرنسية.
وقد عمدت فرنسا إلى المحاكم التونسية، فوضعتها تحت رقابة موظفين فرنسيين، فجعلت على رأس إدارة العدل مديرا فرنسيا، وأناطت مهمة النيابة العامة بموظفين فرنسيين، وأسندت رئاسة دائرة النقض والإبرام لقاض فرنسي. (ج) وزير الدولة
يقتصر عمله على النظر في شئون إدارة الأعمال (المديريات والمقاطعات) والبلديات والأحباس (الأوقاف). (د) وزير الشئون الاجتماعية
وهو لا ينظر إلا في الشغل ومشاكل العمال.
وزير التجارة والصناعة - وزير الصحة العامة - وزير الزراعة. (2-3) مجلس الوزراء
إن مهمة مجلس الوزراء إدارية بحتة؛ لأن تركيبه المزدوج من وزراء تونسيين ومن مديرين فنيين فرنسيين يجعله لا يلعب أي دور في السياسة، ويقتصر عمله طبق الأمر العلي المؤرخ في 8 فبراير 1951 على توجيه وقيادة عمل الحكومة العامة، ولا يكون له مفعول إلا إذا صادق جلالة الباي على ما يقرره، فيتبين جليا من ذلك أن جلالة الباي لم يرد إسناد مشمولات السلطة التنفيذية بالمعنى السياسي إلى ذلك المجلس المكلف بالتنسيق الإداري فقط. أضف إلى ذلك أن مجلس الوزراء الذي يسمي الباي أعضاءه ليس بمسئول أمام برلمان. (2-4) المديرون الفنيون الفرنسيون
يشارك في مجلس الوزراء عدد من المديرين الفنيين الفرنسيين، الذين احتلوا في الواقع المناصب الرئيسية وانتزعوا النفوذ من التونسيين شيئا فشيئا، حتى أصبحوا يتحكمون في كل الشئون. (أ) الكاتب العام للحكومة التونسية
أحدث منصب الكاتب العام للحكومة التونسية بأمر علي بتاريخ 4 فبراير 1883؛ بقصد فض الأمور الإدارية بوحدة أشمل وسرعة أكبر من ذي قبل، وليمد صاحب ذلك المنصب الوزير الأول بالمساعدة، ولكنه سرعان ما أصبح المراقب الفرنسي الأول على الإدارة التونسية، وصارت جميع أعمال وقرارات الوزير الأول ورؤساء المصالح العامة الأخرى غير نافذة، ما لم تحمل تأشيرته. ولنلاحظ أن النص التأسيسي لذلك المنصب لم يخصصه بموظف سام فرنسي الجنسية؛ لأن الوظيف نفسه تونس، ولكن جميع الذين احتلوه في الواقع موظفون فرنسيون كان المقيم العام يعرضهم وكان الباي يسميهم.
نعم حذفت تأشيرة الكاتب العام بمقتضى الأمر العلي المؤرخ في 8 فبراير 1951، ولكنها عوضت حالا بموافقة المقيم العام التي قامت مقامها.
وما زال الكاتب العام موظفا واسع النفوذ قويه، فهو يجمع الشئون المدنية والإدارية تحت نفوذه، ويراقب المصالح العامة مراقبة إدارية، كما أنه يراقب أولا: الموظفين؛ أي إنه المتحكم الحقيقي فيهم يوظف ويرقي ويعزل. ثانيا: المصاريف؛ أي إنه يتحكم في الواقع في ميزانية الدولة صرفا، ويمكن له هكذا أن يعطل مصالح التونسيين كما يريد؛ بأن يمنع عنها ما يلزمها من مال لأتفه الأسباب، كما أنه يراقب وضع التصميم الاقتصادي للبلاد وتطبيقه، وهو مكلف أيضا بنشر الأوامر العلية (المراسيم الملكية) والقرارات الوزيرية على الرائد الرسمي التونسي (الصحيفة الرسمية). (ب) الكاتب العام المساعد
وهو موظف فرنسي سام يساعد الكاتب العام ويقوم بأعماله أثناء غيابه. (ج) مدير المال
كان في الأصل وزيرا تونسيا يسهر على المالية العامة، ولكن كثرة القروض والصعاب المالية التي لقيتها تونس في أواخر القرن الماضي وضغط الدول الكبرى، أجبرت الباي على إسناد ذلك المنصب إلى وزيره الأول الذي كان يعمل بمعاونة لجنة دولية لتصفية الديون التونسية. ولم تنشأ وزارة للمالية بعد الحماية، بل أسند منصب «مدير المالية» إلى أحد الموظفين الفرنسيين، ومنذ ذلك الحين أصبح الفرنسيون يتعاقبون عليه طبق أوامر علية يصدرها لهم الباي.
فبعد أن تسرب الفرنسيون إلى إدارة المالية العامة، واستحوذوا عليها ودعموا أقدامهم فيها، حرموا على التونسيين مشاركتهم في مسئولياتها واتخذوها حصنا حصينا للسيطرة على البلاد وثروتها والتحكم في مصيرها المالي والاقتصادي، حتى بلغت بهم الفكرة الاستعمارية منتهاها، فادعى وزير خارجية فرنسا «روبير شومان» في تصريح أدلى به أمام المجلس الوطني الفرنسي يوم 19 يونيو 1952، أن المالية التونسية من اختصاصات فرنسا، لا يمكن لها أن تتنازل عنها، فخرق هكذا المعاهدة التي احتج بها. وهذا البند السابع من معاهدة «باردو» يقول: «تحتفظ دولة الجمهورية الفرنسية ودولة سمو الباي لنفسها بحق الاتفاق على وضع نظام مالي بالمملكة التونسية، من شأنه الوفاء بواجبات الدين العام وضمان حقوق دائني المملكة.»
لا يمكن أن يصبح ذلك التنظيم المالي الذي نص عنه أبديا، بل لا بد أن يكون محدودا بزمن؛ خصوصا وإنه فيما يتعلق بتونس قد تم منذ عهد طويل؛ إذ عرف بالضبط مقدار الديون وأبان دفع أقساطها. أما اتفاقية المرسى فقد اقتصرت على «أن يتعهد سمو الباي المعظم بألا يعقد قرضا في المستقبل لحساب المملكة التونسية دون إذن سابق من الحكومة الفرنسية»، فهذا شرط تحفظي فقط لا يعطي فرنسا حق التصرف مباشرة في مالية تونس إلى الأبد. إن ديون المملكة التونسية تقدر اليوم بثمانين مليارا من الفرنكات تمكن دفعها في مدة عشرين سنة بالتقسيط؛ إذ ما دامت تونس تابعة لفرنسا ماليا، وما دامت وزارة المالية العامة خارجة عن يد التونسيين فإنه يستحيل أن تتقدم البلاد نحو استقلالها الحقيقي، ولو حصلت على كثير من رغباتها السياسية الصرفة؛ إذ يكون التونسيون لجهلهم بما يحاك لهم في ذلك الميدان يوضعون أمام الأمر الواقع، ويجدون أنفسهم دوما أمام حالة مالية مزعجة خطرة تجعل حريتهم وهما واستقلالهم خيالا. (د) مدير الأشغال العامة
وهو دائما موظف تونسي يسميه الباي، وهو يتصرف في قسم كبير جدا من الميزانية التونسية، من غير أن يعقب أي تونسي أعماله. (ه) مدير التعليم العمومي
وهو أيضا موظف فرنسي يسمى بأمر علي، ويشمل نظره جميع مؤسسات التعليم الدولي الخاص، وقد اتخذت فرنسا إدارة التعليم أداة لبث لغتها وتجنيس العقول ومحاربة اللغة العربية والتضييق في نطاق التعليم حتى يبقى الجهل عاما. (و) مدير البريد
وهو موظف فرنسي. (ز) مدير البناء والسكن
وهو موظف فرنسي. (3) المقيم العام للجمهورية الفرنسية بتونس
وقد أخرناه لكثرة الكلام عنه:
إن الوزير المقيم العام يمثل الجمهورية الفرنسية لدى الباي قبل كل شيء، وهو مكلف بالسهر على تنفيذ معاهدة 12 مايو 1881، وبأن يكون الواسطة في العلاقات بين الحكومة الفرنسية والسلطات التونسية في جميع الأمور المشتركة بين البلدين، وقد جعله الباي أيضا (الأمر العلي، 9 يونيو 1881) الواسطة بينه وبين الدول الصديقة.
لقد أحدثت فرنسا بتونس عددا وافرا من المصالح والمؤسسات الفرنسية البحتة، وجعلتها تابعة للوزارات الفرنسية رأسا، ثم أسندت للمقيم العام طبق قرار فرنسي مؤرخ في 22 أبريل 1883 التمثيل المباشر لهذه الوزارات والمصالح العامة الفرنسية، ومكنته من حق المكاتبة رأسا إلى الجهات المختصة والوزراء الفرنسيين الذين يرسلون له تعليماتهم.
وأرادت فرنسا أن توسع نفوذ المقيم العام، وأن تجعله الرئيس الأعلى بتونس، فوضعت بقبضته - طبق قرار أصدره رئيس الجمهورية الفرنسية لتاريخ 23 يونيو 1885 - «سلطات الجمهورية بتونس؛ تحت إمرة قواد الجيوش البرية والبحرية وجميع المصالح الإدارية المتعلقة بالأوروبيين والأهالي.»
واتبعت فرنسا طريقتها التعسفية، فطبقت تلك القرارات بحذافيرها تطبيقا كليا، وإن لم يصادق عليها أي نص صادر عن ملك البلاد الشرعي.
وأرادت فرنسا أن تستولي استيلاء حقيقيا تاما على السلطة التشريعية، فأصدرت مرسوما من رئيس الجمهورية الفرنسية مؤرخا في 10 نوفمبر 1884 جاء فيه: «يفوض رئيس الجمهورية الفرنسية المقيم العام للموافقة باسم الحكومة الفرنسية على الأوامر العلية (المراسيم) التي يصدرها سمو الباي، ولإعطاء هذه المراسيم القوة التنفيذية داخل القطر التونسي»، فأصبحت بذلك جميع المراسيم التي يصدرها سمو الباي لا مفعول لها إلا بعد توقيع المقيم العام الفرنسي عليها. ثم اختصرت الإجراءات بأن صارت الإقامة العامة، هي التي تعد جميع المراسيم الملكية، ثم تعرضها على سمو الباي لوضع ختمه عليها بدون أن يكون له سابق اطلاع عليها، بل أصبح الموظفون الفرنسيون يحتجون الاحتجاجات الصاخبة إذا ما أراد الأمير تغيير لفظة أو فقرة لا تمس جوهر الموضوع أحيانا، ويصرحون بأن لا حق له في إدخال أي تحوير عليها. أما امتناعه عن توقيع مرسوم مهما كان، فيثير عاصفة في الأوساط الفرنسية إلى أن تم لفرنسا احتكار السلطة التشريعية وتسخيرها لفرض حكمها المباشر وتنفيذ برامجها الاستعمارية بمراسيم صادرة في الظاهر عن الدولة التونسية.
ثم زادت الإصلاحات المزعومة الصادرة بتاريخ فبراير 1951 نفوذ المقيم اتساعا عندما أعطته الحق في إبداء «موافقته» أو «توصياته» على جميع المشاريع والقرارات (المراسيم) النظامية أو الشخصية التي يتخذها أعضاء مجلس الوزراء. وقد حرر البندان العاشر والحادي عشر من الأمر العلي المؤرخ في 8 فبراير 1951، حسب رغبة الحكومة الفرنسية، بكيفية تمنح في الواقع للمقيم العام حق تعطيل (فيتو) جميع أعمال الوزراء التونسيين.
وإن البوليس المدني وقواته موضوعة تحت سلطة المقيم العام وتحت تصرفه، وقد كانت مصالح البوليس منذ نظمها الأمر العلي المؤرخ في 17 أبريل 1897 تابعة للكتابة العامة للحكومة التونسية، ولم تنفصل عن الحكومة التونسية إلا في سنة 1943 لتصبح ملحقة بالإقامة العامة؛ فإن الأمر العلي المؤرخ في 20 أبريل 1944 وضعها تحت سلطة مدير فرنسي تابع رأسا للمقيم العام، ولم يخجل وزير خارجية فرنسا «روبير شومان» عندما استشهد بالمعاهدات التي خرقها بقوله في تصريحه أمام المجلس القومي الفرنسي يوم 19 يونيو 52، عندما ادعى أن الأمن الداخلي بالقطر التونسي من اختصاصات فرنسا، مع أن البند الثاني من معاهدة باردو لم ينص إلا على احتلال القوات العسكرية الفرنسية للمراكز التي تراها صالحة لاستتباب النظام والأمن بالحدود والسواحل، ومن قال الحدود والسواحل إنما يقصد الدفاع عن الأمن الخارجي قبل كل شيء. أما الأمن الداخلي فهو من مشمولات الحكومة التونسية؛ إذ لا يعقل ولا يتصور أن تحكم أية حكومة في بلاد من غير بوليس.
وقد أحدث المقيم العام أثر إصلاحات 8 فبراير 1951 - من غير مصادقة الباي ولا اطلاع الحكومة التونسية - إدارة الأمور السياسية والإدارية التي أصبحت تشرف في الواقع على جميع الهيكل الإداري التونسي.
ومن أعجب المهازل الاستعمارية أن المقيم العام هو الذي يتوج الملك مباشرة، ويجلسه على عرش آبائه وأجداده؛ ليوهمه أن فرنسا هي صاحبة الحق في أن تبوئ من تشاء على عرش تونس. وقد احتج على هذا الإجراء المغفور له الهادي باي عندما فاجأه المقيم العام لأول مرة بهذا الاعتداء.
وفصلت فرنسا مناطق الجنوب التي تقدر بثلث القطر التونسي عن بقية الوطن ووضعتها تحت الحكم العسكري المباشر، وبتصرف ضباط فرنسيين تابعين لقائد الاحتلال، وأناطت إدارتها بالمقيم العام.
وينوب عن المقيم العام في المناطق الجهوية المختلفة والمقاطعات الترابية التونسية المراقبون المدنيون، وقد كانت مهمة هؤلاء الموظفين الفرنسيين في أول الأمر تقتصر على رقابة العمال التونسيين (المتصرفين) والتأشير على مكاتباتهم، وبصفتهم رجال الرقابة الفرنسية يخضعون في أنظمتهم إلى نصوص قانونية فرنسية، ويتلقون تعليماتهم من المقيم العام، وأصبحوا طبق مشمولات وظيفتهم أصحاب الإدارة الحقيقية في النطاق المحلي. وبعد أن كانوا مراقبين للعمال فقط صاروا مستشارين لديهم، ثم عوضوهم شيئا فشيئا في القيام بمسئولياتهم، وبات النفوذ كله بأيديهم؛ كلمتهم لا ترد وسلطتهم في الواقع لا تحد وكأنهم ملوك الطوائف في سيطرتهم، وتحكمهم لا يطاق؛ خصوصا وأن البوليس لهم والجيش تحت تصرفهم.
وإن الأمر العلي (المرسوم الملكي) المؤرخ في أبريل 1938 قد مكن المقيم العام من سلطان قوي واسع له بمقتضاه أن يقرر وضع حالة الحصار في أية جهة من القطر وفي أي زمان شاء، وله أن يطبق قراره فيمكن له إذ ذاك أن يتخذ ما يراه صالحا من طرق الاضطهاد من استخدام القوة المسلحة ومن إلقاء القبض على من يريد، وسجن من يريد، ومن تفتيش المحال العامة والخاصة سواء في النهار أو في الليل، ومن إحالة التونسيين إلى المحاكم العسكرية الفرنسية حيث يحاكمون طبق المجلة الجنائية الفرنسية. بينما النظام العدلي المادي المطبق على التونسيين مستمد من مجلة جنائية تونسية أصدرها ملك البلاد. (4) الهيئات النيابية
ليس لتونس هيئات نيابية سياسية، وإن تونس تعيش منذ 15 مايو 1951 من غير مجالس نيابية أصلا، وكانت المجالس النيابية لغاية ذلك التاريخ (المجلس الشوري من 1907 إلى 1922، والمجلس الكبير من 1922 إلى 1951) هيئات استشارية ذات اختصاص محدود لا يتعدى النظر في الميزانية.
وقد تكونت أيضا غرف استشارية ذات اختصاص فني فقط تمثل المصالح الاقتصادية (كالغرف التجارية والغرف الفلاحية وغرفة المناجم وغيرها).
وقد تأسست أخيرا بلديات منتخبة في مدن القطر التونسي، ولم يعترف شعب تونس بها؛ لأن الفرنسيين ممثلون بها مع أنهم أجانب.
ولكن هذه المؤسسات كلها فاسدة من أصلها؛ لأن اختيار أعضائها مقام على قاعدة منافية للديموقراطية، ولأن اختصاصها ضيق هزيل، فتونس محرومة من هيئة نيابية مؤسسة على دستور يسمح لها أن تأخذ مسئوليتها البرلمانية التي أصبحت ضرورة حتمية في كل دولة عصرية. (5) المجلس الكبير
وهو مجلس استشاري مركب من قسمين:
القسم التونسي:
يتكون من 53 عضوا يمثلون ثلاثة ملايين ونصف مليون من التونسيين، ينتخبون من الدرجة الثانية من طرف نواب لا يشارك في اختيارهم إلا عدد ضئيل من السكان. وإن الإدارة الفرنسية تحتاط في اصطفاء الناخبين والمنتخبين لكي تبعد كل مرشح لا يروقها.
أما القسم الفرنسي:
فهو يتركب من 53 عضوا يمثلون 150 ألف فرنسي، وانتخابهم عام سنوي.
ويستشار المجلس الكبير في النصوص الرسمية المتعلقة بالأمور المالية والاقتصادية والاجتماعية، ولكن آراءه واقتراحاته لا تفيد الحكومة في شيء، ويمكن له أن يقدم ببعض التوصيات لتبديل المراسيم المعمول بها، ولكن كل مناقشة حول المواضيع السياسية والدستورية محجرة عليه تحجيرا باتا (البند 40 من مرسوم 15 ديسمبر 1945)، وكذلك يخرج عن اختصاصه النظر في مصروفات الإقامة العامة والمحاكم الفرنسية والأمن العام.
وأما في الميدان المالي فلا تكون توصيات في المجلس الكبير محل اعتبار إلا إذا اتفقا عليها جميعا، وأن توافق عليها الحكومة الفرنسية (البند 35 من نفس المرسوم)، وزيادة على ذلك فإن مصادقة وزير الخارجية الفرنسية على الميزانية التونسية ضرورية قبل أن يصدرها الملك بمرسوم.
وإذا اختلف القسمان، فالمرجع هو اللجنة العليا للميزانية التي تنظر في نقط الخلاف تحت رئاسة المقيم العام، الذي يكون صوته راجعا. (مرسوم 8 فبراير 1951).
ولم يقع تجديد المجلس الكبير عندما انتهت مدته بتاريخ 9 ديسمبر 1951.
ولقد أعلمت الحكومة الفرنسية حكومة تونس أثناء المفاوضات بباريس، برغبتها في المحافظة مؤقتا على النظام الحالي للمجلس الكبير ريثما يتكون برلمان فرنسي تونسي.
فأجابت الحكومة التونسية بأن مشاركة الفرنسيين المقيمين بتونس في برلمان تونسي يعتبر اعتداء جديدا على السيادة التونسية، فاحتفظت بالموقف الذي اتخذته في مذكرة 31 أكتوبر، أي بوجوب تكوين برلمان تونسي بحت حسب رغبة الشعب التونسي بأسره وإرادة الملك الواضحة التي عبر عنها في خطاب 15 مايو 1951. (6) خاتمة
إن تلك النظم التي فرضتها الحماية الفرنسية على الدولة التونسية وإدارتها، هي الهيكل الاستعماري الأكبر وعنوان الحكم الفرنسي المباشر.
فرأت الحكومة الوطنية من الضروري التخلص من تلك النظم، وتعويضها بأخرى تمكن الشعب من استقلاله وممارسة حقوقه.
وأجمعت إرادة الملك والشعب على أن يكون ذلك التغيير بالطرق السلمية وباتفاق مع الحكومة الفرنسية، وتحقيقا لتلك الغاية تكونت وزارة دولة محمد شنيق للتفاوض مع فرنسا لإدخال التحويرات اللازمة على النظم التونسية للسير بتونس نحو استقلالها.
المفاوضات بين تونس وفرنسا
(1) المفاوضات
لو جمعنا الخطب الرسمية وشبه الرسمية التي ألقاها الساسة الفرنسيون في شأن تونس لملأنا مجلدات، فمن رئيس للجمهورية الفرنسية ووزراء وممثلين ومقيمين عامين وموظفين سامين! كلهم يتحدثون عن حقوق الإنسان ورسالة فرنسا التمدينية وصداقتها للعرب والمسلمين، فيكثرون الكلام. ولو حققوا جزءا صغيرا ونزرا يسيرا مما قالوه، لأصبحت تونس جنة النعيم، يتآخى فيها الذئب والخروف، ويتعانق القط والفأر. وقد زالت الفوارق بين البشر، وانمحى التفوق العنصري، واضمحلت الامتيازات بأنواعها، ونسخت القوانين الزجرية الاستثنائية، وقهر الظلم والفقر والجوع والجهل والأمية والمرض.
كانوا وما زالوا يكيلون للتونسيين الكلام العذب المعسول كيلا وافرا من غير حساب، والشعب التونسي ينظر إليهم نظر المتعجب من غرورهم وهذيانهم بعد أن افتضح أمرهم وظهرت حقيقتهم، واطلع الرأي العام العالمي على فظاعة استعمارهم ومنتهى جبروتهم وطرق تعسفهم واضطهادهم.
ولم يرسلوا الكلام على عواهنه والخطب المسهبة الطويلة طوع الخاطر وانقيادا لخيال الساعة، بل التزم الكثير من أصحاب المسئولية في السياسة الفرنسية بوعود رسمية قطعوها لتونس باسم حكومتهم، وأسرفوا في الوعود كما أسرفوا في الخطب من قبل ومن بعد، وكرروها المرة تلو المرة، وجددوها في كل مناسبة ومن غير مناسبة، وأكدوها الواحد تلو الآخر.
لقد اختار الجنرال ماسط الوزير المقيم العام لفرنسا بتونس مسجد القيروان الذي أسسه الصحابي الشهيد عقبة بن نافع فاتح المغرب، ليقيم به مهرجانا عظيما قصد إكساء خطابه الرسمي ضربا من القدسية؛ لما فيه من وعود وثيقة للتونسيين، وهو أول مقيم عام جاء تونس بعد الحرب العالمية، فأقام ذلك الاحتفال في نوفمبر سنة 1942، وقال باختصار إنه ينبغي ألا تقتصر فرنسا على الإصلاحات التي أنجزت، ثم بين ما ستنجزه في العبارات الآتية:
إن فرنسا ستحدد في الأشهر المقبلة الدستور التأسيسي لهذا المجموع العظيم من الشعوب والأراضي التي ستكون الوحدة الفرنسية، وسوف لا تتأخر عن إرضاء رغائب التونسيين المشروعة المعقولة.
وكرر الجنرال ماسط نفس الوعود في مدينة القيروان بعد ثلاث سنوات، واتصل بالحركة القومية التونسية اتصالا غير مباشر، ثم تقابل مع الأمين العام للحزب الحر الدستوري التونسي مقابلة دامت سبع ساعات في بيت المعمر الفرنسي دورتولي
Dortoli
عرض فيها ما تراه الحكومة الفرنسية من إصلاح، وأوضح اتجاهها العميق لسياستها بتونس، ويظهر من كلامه أن فرنسا مستعدة لتضحية قسم كبير من جاليتها وخاصة الموظفين وإبدالهم بتونسيين بعد مدة وجيزة، وهي مستعدة أيضا لتعترف بالاستقلال التام لتونس وتتبنى إدخالها كعضو في هيئة الأمم المتحدة، كما أنها لا ترى مانعا من انضمامها لجامعة الدول العربية، ولكنها لا تريد أن تضحي بالمصالح المالية الكبرى التي لها بتونس؛ ولذا تشترط شروطا لضمان هذه المصالح لا يمكن بحال أن تتنازل عنها؛ أولا وقبل كل شيء: أن ينص دستور الدولة التونسية على أن وزير المالية التونسية لا يكون إلا فرنسيا يتمتع بسلطات معينة ليتمكن من حفظ هذه المصالح المالية، وكذلك يحتفظ الفرنسيون لأنفسهم ببعض المناصب الحيوية، فيكون لهم الحق في توجيه السياسة التونسية والاقتصاد التونسي والمالية التونسية، وطلب الجنرال ماسط من ممثل الحزب أن يعرض اقتراحاته على الوطنيين، فأسرع الحزب إلى جمع نواب عن جميع الهيئات والمؤسسات والمنظمات القومية، وانعقد المؤتمر التاريخي مساء 26 رمضان/23 أغسطس 1946، فتجلت فيه وحدة الشعب التونسي وإجماعه على فكرة واحدة، هي العمل لتحقيق الاستقلال التام.
وهاجمت قوات البوليس والجيش الفرنسي المؤتمر في مقر اجتماعه، وألقت القبض على أبرز أعضائه وزجت بهم في السجن العسكري. ولما افتضح الجنرال ماسط وخاب خيبته المرة - إذ اجتمع ذلك المؤتمر لينظر إلى اقتراحاته - وظهر التناقض في أقواله وأعماله، عزلته الحكومة الفرنسية وعينت مقيما عاما جديدا بدلا منه.
ولم تطأ قدم «مونص» أرض تونس حتى جدد في خطبه وتصريحاته الوعود فقال: «إنه لمن الخطأ أن نعتقد أن في عالمنا الحاضر الذي يقاس بمقياس القارات يمكن لتونس أن تسير وحدها وأن تستغني عن مساعدة فرنسا، ولكن من الجنون أن نفكر ونعتقد أن فرنسا الكريمة الوفية المخلصة لرسالتها ينبغي لها أن تؤجل لمدة طويلة التطورات التي وصفتها بأنها ضرورية.» ولكن «التطورات الضرورية» لم تخرج إلى عالم الوجود! وكانت كالجبل الذي ولد فأرة. واقتصر عمل «مونص» على تكوين وزارة تونسية جديدة اختار أعضاءها من بين أصحاب المهن الحرة، وأسند رئاستها إلى مصطفى الكعاك، وفرضها على جلالة الملك فرضا. فأضحت الوزارة الكعاكية تمثل في نظر التونسيين الخضوع والخنوع والاستسلام للاستعمار الفرنسي، وقد أحرزت بسرعة فائقة على لعنة الشعب وغضب الملك واحتقار الفرنسيين أنفسهم، وتسربل أعضاؤها عارا لا يمحى وخسة لا تنسى، وفضيحة ستصحبهم ما عاشوا. وقد أعرض عنهم الملك إعراضا تاما، واتصل بقادة الشعب وأبلغهم إرادته السامية وأعلمهم رسميا «أن تونس لن تنضم إلى الوحدة الفرنسية وأنا جالس على عرشها.» واهتز الشعب فرحا وحماسا عندما اطلع على هذا التصريح الرسمي في الصحف الوطنية، وهو يعلم حق العلم أن الدخول في الوحدة الفرنسية هو اضمحلال للقطر التونسي ومحو لعروبته وتنكر لتاريخه؛ لأن الوحدة الفرنسية هي الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، غيرت اسمها لتغر العالم وحافظت على جوهرها وكنهها، فيها رق الشعوب واستعباد الأفراد ومسخ البشر، ظاهرها رحمة وباطنها شر وعذاب. انضمت إليها الجزائر قهرا وقسرا، فعرفت الديمقراطية المزيفة وتزوير الانتخابات، وفقد أهلها كل ضمان لحياتهم وأرزاقهم وحريتهم، وقتل منهم في مايو 1945 أكثر من أربعين ألفا في مجزرة سطيف الشهيرة عندما أرادوا أن يشاركوا الفرنسيين في عيد النصر على النازية، في عيد تحرير البشرية من الظلم والخوف والاضطهاد والتفوق العنصري، فلم يرحم الفرنسيون شيخا ولا امرأة حاملا ولا طفلا ولا رضيعا.
ودخلت جزيرة مدغشقر في الوحدة الفرنسية فقتل من أبنائها مائة ألف أو يزيد؛ ليعلموا علم اليقين أن طعم الحرية محرم على غير الفرنسيين في الوحدة الفرنسية.
وشاركت فيها أيضا بلاد فيتنام (الهند الصينية)، وإذا بفرنسا تنكث ما تعهدت به إليهم وتشنها عليهم حربا ضروسا لا تبقي ولا تذر، تريد إخضاعهم من جديد لسيطرتها الاستعمارية، فصبروا وثبتوا، وما زالوا يقاسون منذ سبعة أعوام تلك الحرب الطاحنة.
فمن البديهي إذن أن ترفض تونس رفضا باتا نهائيا الانضمام إلى تلك الوحدة، وإذا بالمقيم العام الفرنسي يبرق ويرعد، وينسى وعوده الخلابة، ويناقض كلامه المعسول، ويصدر أوامره بمحاصرة قصر الملك المعظم محمد الأمين الأول، ويسير إليه مخفورا بالجنود المدججين بالسلاح متوعدا مهددا طالبا منه باسم الحكومة الفرنسية أن يكذب ما نشر من تصريحات على صفحات الجرائد الوطنية فيما يتعلق برفض جلالته للوحدة الفرنسية، فأجابه جلالة الملك بهدوئه المعهود وحكمته وبيانه الواضح: «كيف أكذب قادة الشعب وقد كانوا أمناء فيما نقلوه عني؛ لم يغيروا الكلم عن مواضعه ولا زادوا حرفا واحدا إلى ما قلته لهم، بل كانوا واسطة خير وصدق، وهذا هو موقفي لن أغيره أبدا.»
وكانت فرنسا تقوم بدعاية واسعة النطاق في صحفها وإذاعتها، وفي محادثات ساستها مع التونسيين وخطب المسئولين من رجالها؛ لتهيئ الجو السانح لإدماج تونس في الوحدة الفرنسية. وكان بعض وزرائها يصرحون من حين إلى حين بأن تونس قد أدمجت فعلا، ويستخدم آخرون طرقا منعرجة ملتوية لإقناع جلالة الملك بوجوب قطع تلك الخطوة الضرورية على دعواهم. ولكن رد الفعل من طرف الشعب التونسي ومليكه كان يشتد ويقوى، إلى أن يئست فرنسا تقريبا من تطبيق تلك الفكرة.
وكانت دعايتهم تعتمد على الإغراء وإحياء الآمال الجسام، فيذيعون بأن تونس تحصل على جميع رغباتها الوطنية لو انضمت إلى تلك الوحدة، من دستور ديمقراطي وحرية واستقلال، وأنها تحرم نفسها من تلك النعم كلها برفضها البات.
والأغرب أن قسما من الرأي العام الفرنسي اعتقد ذلك؛ لأن الحرب العالمية الثانية أحدثت في فرنسا تيارات سياسية جديدة وقوت بعض التيارات القديمة، كما أدخلت اضطرابات على التقاليد القديمة وقوضت الكثير منها، فشهد ساسة فرنسا أن الاستعمار أصبح مبغوضا ممقوتا في العالم بأسره، وأنه عار وشين ووصمة في جبين الأمم الراقية والدول الكبرى، فلم يسعوا إلى غسل هذا العار، ولا إلى محو هذه الوصمة، بل اقتصروا على إسدال ستار شفاف عليها، واقتنعوا بتغيير بعض الأسماء واحتفظوا بالمسميات، فعوضوا لفظة الإمبراطورية الفرنسية بلفظة الاتحاد الفرنسي، وبدلوا كلمة حماية ومستعمرة بكلمة دول مشاركة، ووضعوا في دستور فرنسا نفسه بنودا تعطي حقوقا واسعة للأقطار التابعة لها، ولكنهم حرفوا تلك البنود وشوهوها عند التطبيق واستمروا في سياستهم التقليدية، وكانت الحالة العامة بفرنسا وميل بعض الأحزاب الفرنسية إلى تفهم الوضع بتونس، مما شجع قادة الحزب على الاتصال رأسا بالشعب الفرنسي والقيام بدعاية واسعة عميقة بفرنسا؛ لكسب عواطف قسم من الفرنسيين على الأقل، ولإقناع المسئولين بوجوب توجيه جديد لسياستهم بتونس.
وكلف بتلك المهمة الشاقة زعيم تونس ورئيس الحزب الحر الدستوري ومؤسسه الأستاذ الحبيب بورقيبة، فبعد رحلة إلى الشرق والغرب استغرقت أعواما، وبعد أن اتصل بالشعب التونسي في اجتماعات عامة عقدها في جميع أنحاء القطر، سافر إلى باريس في أوائل عام 1950، وكان يعمل ليلا ونهارا متصلا بالصحافة والأحزاب والهيئات الرسمية والمنظمات والشخصيات ورجال الحكومة، وكان لتصريحاته المتوالية صدى عميق وانتشار واسع في جميع الصحافة الفرنسية التي أخذت تدرس المشكلة التونسية درسا مستفيضا؛ تستقي من آرائه تارة وتنقدها تارة أخرى، وتعلق التعليقات المفيدة الدقيقة على تلك الأفكار الجديدة الناضجة، فما هو منطق الحبيب بورقيبة؟ وما سر سحره وسبب نجاحه في إبلاغ رسالته؟ تتلخص أقواله للفرنسيين في بعض المسائل الجوهرية.
نحن لا نريد قطع العلاقات مع فرنسا، بل نسعى لتبديلها تبديلا يتمشى مع تطور تونس والعالم لنضمن لها البقاء. إن الروابط بيننا وبينكم كانت وما زالت روابط الغالب مع المغلوب والسيد مع المسود والمولى مع عبده، وقد بلغ شعب تونس من الرقي والوعي القومي درجة جعلته أهلا ليتصرف في شئونه قادرا على تسيير أموره والتحكم في مصيره، وأصبح لا يتحمل الحكم الفرنسي المباشر ولا الاستعمار مهما يكن نوعه، وهو يعلم علم اليقين أنه سيحقق استقلاله وسيتحرر كما تحررت الشعوب الشرقية كلها تقريبا، ولكنه يخير أن يبلغ غايته باتفاق وتعاون مع فرنسا، فتعوض الروابط البغيضة الحالية بروابط بين شعبين مستقلين، وندين متساويين، ودولتين صديقتين، خاصة ونحن نعتقد أن مصالح فرنسا العليا ومصالح تونس لا تتعارضان ولا تتناقضان، بل يمكن التنسيق بينهما والمحافظة عليهما جميعا، والشعب التونسي مستعد ليقدم من الضمانات الكافية ما يكفل المصالح المشروعة لفرنسا والفرنسيين ما لم تتصادم مع حرية تونس.
إن تونس تحتاج إلى رءوس أموال لاستثمار ثروتها وبناء هيكلها الاقتصادي، وإلى فنيين وأخصائيين، فلماذا لا نستعين في ذلك كله بفرنسا والفرنسيين ، إذا ما وصلنا إلى التفاهم والاتفاق؟! فيحل الود محل التنافر، والصداقة محل الخصومة والبغضاء، وتصفو القلوب، ونكون هكذا جوا صالحا للعمل المثمر والرقي والازدهار.
ولا ننكر أن هذه التجربة العظيمة تتطلب الجرأة من المسئولين الفرنسيين، والتجديد في التفكير السياسي؛ لما فيها من اتجاه لم يسبق له نظير في علاقات فرنسا بالشعوب التابعة لها، وأن نجاحها يعبد الطريق ويفتح أبوابا للمستقبل؛ لأنه يدل على أن فرنسا وجدت الحل الواقعي لأكثر المشاكل التي تجابهها في البلدان الخاضعة لسلطانها.
ثم عرض الحبيب بورقيبة على الرأي العام الفرنسي حلا عمليا للمشكلة التونسية طبق برنامج يحتوي على بنود سبعة، ترمي إلى إنهاء الحكم الفرنسي المباشر وتسليم النفوذ والسلطات إلى أيدي التونسيين: (1)
إرجاع السيادة التونسية. (2)
تشكيل حكومة تونسية من التونسيين فقط يسيرها وزير أول تونسي يعينه الباي. (3)
إلغاء منصب الكاتب العام للحكومة التونسية. (4)
إلغاء مناصب المراقبين المدنيين الفرنسيين. (5)
إلغاء الدرك الوطني الفرنسي. (6)
تشكيل هيئات بلدية تكون المصالح الفرنسية ممثلة فيها. (7)
تشكيل مجلس وطني منتخب انتخابا عاما مكلف بإعداد دستور يحدد العلاقات التي ينبغي أن تكون في المستقبل بين تونس وفرنسا، والتي يجب أن تقام على احترام متبادل للمصالح المشروعة للبلدين.
وكان لأقوال الحبيب بورقيبة تأثير عميق في جميع الأوساط الفرنسية؛ لأنه أجبرهم على التفكير الجدي في حل مشكلة تونس وبقية المشاكل الاستعمارية، وعلى السعي في الخروج من سياسة فرنسا التقليدية، واقتنع بعض المسئولين في الحكومة الفرنسية نفسها بوجوب هذه التجربة، فوجدت فرنسا نفسها أمام قوتين متناقضتين: قوة الشعب التونسي المنظم الصفوف المتوحد الكلمة العازم على نيل حقوقه، وقوة الجالية الفرنسية المتشعبة بالروح الاستعمارية المتمسكة بامتيازاتها الفاحشة التي بقبضتها حياة البلاد كلها، ومقاليد الأمور بأجمعها، لا تريد التنازل لأصحاب البلاد عن أي نفوذ، ولا أي جزء منه، والتي تخشى كل تبديل وتمقت كل تغيير وتخاف كل تطور، بل غايتها الوحيدة هي المحافظة على الوضع الراهن؛ لأنه يمكنها من الاستيلاء والإثراء ولا يكلفها عناء ولا تضحية، فهل تتمكن الحكومة الفرنسية من التوفيق بين هاتين القوتين؟ وهل تقدر على إقناع جاليتها المحفوظة بأن عصر التفوق العنصري والاستعمار والاستعباد واستثمار جهود الغير وبلادهم قد انقضى وفات؟ وهل يمكن للجمهورية الفرنسية أن تكون حكما عادلا في تلك القضية؟ وهل في استطاعتها أن تبدل نفسية الفرنسيين وما جبلوا عليه من المحافظة على جميع ما لديهم من مال وامتيازات كاملة، ولو جرهم ذلك إلى الهاوية فيفقدون كل شيء؛ لأنهم لا يريدون التنازل عن بعض الشيء.
ولقد فهم بعض الساسة الفرنسيين أن الحزب الحر الدستوري مكن فرنسا من فرصة يعز وجودها؛ لأنه أعلن بصراحة وجرأة أنه يخير استخدام قوات الشعب التونسي ومنظماته العتيدة للتشييد والبناء لا للتخريب والتهديم، ويريد تحقيق رغائب تونس بطريق المفاهمة والمفاوضة والإقناع، وهو مقتنع بأن الاستقلال آت لا ريب فيه؛ ولذا يريد الاحتفاظ بقوات الشعب الفعالة لإقامة دولة عصرية كاملة وإحياء البلاد واستثمارها لفائدة جميع أبنائها والعمل على رقيها المادي والأدبي وتدعيم الحرية والعدالة الاجتماعية ومساواة المواطنين جميعا في الحقوق السياسية وأمام القانون.
وأصبح أمام فرنسا طريقان لا ثالث لهما: إما إرضاء الرغبات الوطنية، وإما السعي في القضاء على الحركة القومية. ولكنها لم تقدر على اختيار خطة واضحة، وبقيت مترددة مستسلمة للظروف، لا تقدم رجلا ولا تؤخر أخرى، فكانت سياستها تشبه سني المشط تعلو وتسقط، فزادت الحالة ارتباكا والمشكلة تعقيدا، واستفحلت الأزمة بتونس وتململ الشعب وحنق. وكان جلالة الملك محمد الأمين يطالب ممثلي فرنسا بإنجاز ما وعدوا به، وتحقيق ما تعهدوا به، فلما رأى تقاعسهم واضطراب كلامهم كاتب رأسا رئيس الجمهورية الفرنسية ليضع فرنسا أمام مسئوليتها ويطلعها على الخطر الداهم ووجوب تداركه قبل فوات الأوان، وتعد هذه الرسالة المؤرخة في 11 أبريل 1950 مرحلة تاريخية في العلاقات بين تونس وفرنسا، يقول فيها:
صديقي العزيز
اعتبرنا قوانين التطور البشري الذي لا يمكن أن يتجاهلها الإنسان من غير أن يثير أزمات، ينبغي تجنبها بأي ثمن كان والاحتياط لها قبل وقوعها، فرأينا من واجبنا المقدس نحو رعايانا المخلصين أن نكلف ممثل فرنسا لدينا أثناء حفلات رسمية وفي مرتين اثنتين، بأن يحيطكم علما برغبتنا الملحة في تحقيق إصلاحات جوهرية لإيجاد حل مرض لجميع المشاكل المتولدة من النظام الحالي الذي يسود تونسنا العزيزة الآن في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وإن شعبنا الذي يخضع لتيار التطور والتقدم المشترك بين الشعوب، قد برهن أيضا بصفة محسوسة عن نيته في أن يكون لجانب شعب فرنسا النبيل أثناء الحربين الكبيرتين لكي يساهم في انتصار الحق وتمكين مبادئ السلم والوفاق والكرامة والرفاهية للجميع.
وتلك هي الغايات السامية التي يصبو إليها شعبنا الشاعر شعورا كاملا بحقوقه وواجباته.
وحيث لم يأت رد إلى هذه الساعة على ما قدمناه مرتين، وخشية أن ينقلب الضجر الذي ظهرت بوادره في شعبنا يأسا يكون سببا في إحداث ما نريد تجنبه، أسرعنا إلى مخاطبة معاليكم رأسا.
وإن يقيننا لوطيد في أنكم ستتفضلون بإعارة كامل اهتمامكم لهذه المشكلة الخطيرة، لإيجاد حل لها تفرضه الحالة العالمية وتمليه ما بين بلادينا من صداقة صادقة وثقة متبادلة.
وكان لتلك الرسالة مفعولها الحاسم في اتجاه السياسة الفرنسية؛ إذ كلفت الحكومة الفرنسية ممثلها بتونس جان مونص بدرس مشروع إصلاحات جوهرية وبتهيئة الجو اللازم لها، ولكن الجالية الفرنسية شنت حملات شديدة بمجرد ما شعرت باتجاهه الجديد، وضيقت عليها الخناق، وهاجمته مهاجمة لا رحمة فيها ولا هوادة، وحاكت له بباريس مؤامرة ذهب ضحيتها، فعوضته الحكومة الفرنسية إذ ذاك بمقيم عام آخر «بريليه» مهمته تطبيق ما وضعه «مونص» من مشروعات. وذهب وزير الخارجية «روبرت شومان» بنفسه للاحتفاء به في منصبه القديم كمتصرف أعلى لمقاطعات شرق فرنسا، وألقى خطابا بمدينة «تيون فيل» صرح فيه بأن الهدف النهائي للسياسة الفرنسية في تونس هو تحقيق استقلالها، فقال حسب ما نشرته الصحف الفرنسية بتونس، وخاصة «لابريس» و«البتي متان»، بتاريخ 11 يونيو 1950:
في هذا المساء الذي يقوم فيه مسيو بريليه بآخر عمل بصفته متصرفا أعلى عندما استقبل أعضاء البرلمان، يمكننا أن نقول له إن اعترافنا بالجميل لعظيم، وأريد أيضا أن أعبر عن كبير تقديرنا لمن يسعى في إدراك مقاصدنا فيفهمها فهما صحيحا ؛ إذ ذلك الفهم سر الاتحاد الفرنسي، وستكون للمسيو بريليه
في وظائفه الجديدة رسالة فهم تونس وقيادتها نحو ازدهار تام لثروتها وإيصالها إلى استقلالها الذي هو الهدف النهائي لجميع الأقطار المشمولة في الاتحاد الفرنسي، ولكن ضرورة فترات من الزمن وآجال تتعاقب أمر حتمي، فإن نجح هذا العمل فإن فرنسا تكون قد قامت من جديد برسالتها التمدينية خلال تاريخها الطويل.
فأحدث هذا الخطاب رجة عميقة في الأوساط الاستعمارية والأوساط الوطنية التونسية أيضا، لقد صرحت فرنسا للمرة الأولى على لسان المسئول عن سياستها بتونس أي وزير خارجيتها بأن هدفها هو استقلال تونس، وكان زعيم الحركة القومية الأستاذ الحبيب بورقيبة مقيما إذ ذاك بباريس فعلق على خطاب شومان بقوله: الآن اتفقنا تماما مع فرنسا على الأسس والمبادئ ولم يبق إلا الشروع في المفاوضة لإنجازها وتطبيقها، ولكن المستعمرين وأصحاب الامتيازات والمصالح من الفرنسيين أسرعوا إلى مهاجمة وزير الخارجية بعنف وشدة ليحبطوا أعماله وينسخوا أقواله ويجبروه على نقض ما أبرمه وإخلاف ما وعد به.
وأخذ تراجعه يظهر عند مجيء المقيم العام الجديد إلى تونس، فألقى بعد وصوله بزمن قصير بتاريخ 13 يونيو 1950 خطابا طويلا مسهبا شرح فيه ما أجمله وزير الخارجية في تصريحه بتيونفيل فبسط القول فيما تريد فرنسا إنجازه من إصلاحات وتحقيقه من تحويرات لنظام الحكم بتونس، ولمح للغايات البعيدة تلميحا لا يخلو من غموض فقال في مفتتح كلامه مبينا مهمته:
سأتحدث إليكم في هذه الليلة عن هذا التعاون وأبين لكم الإجراءات التي قررت حكومة الجمهورية تحقيقها باتفاق مع الحضرة العلية، وهذه الإجراءات هي المراحل الأولى لتطور ضروري لا بد منه.
ثم وجه القول إلى الجالية الفرنسية المتعنتة في تمسكها بالحالة الراهنة وفي معارضتها لكل إصلاح حقيقي: «وفي اعتقادي أن الجمود خطأ؛ لأن كل شيء يتطور حولنا وما دام التطور ناموسا طبيعيا فلست أرى كيف يمكن أن يخيف كائنا من كان.»
وأخيرا صرح بأن الهدف النهائي هو الاستقلال الداخلي: «ولكن من الإنصاف أن تسلك البلاد التونسية سبيلها بعد إدخال تغييرات تدريجية على منشآتها لبلوغ مرتبة الحكم الذاتي الداخلي.»
وهكذا تراجعت فرنسا في وعدها بالاستقلال قبل أن ييبس الحبر ويجف القلم الذي سطر به، وإن عادتها أن تتضاءل الوعود الكبيرة وتضيق محتوياتها كلما ازدادت من الإنجاز قربا ومن التطبيق دنوا.
وليست نية فرنسا أن تعطي تونس استقلالها الداخلي الناجز، بل ستسير فيه حسب مراحل متعددة ربما يطول أمدها وتتمطط آجالها، وستكون أولى المراحل تحوير السلطة التنفيذية وإصلاحها الجوهري إذ: «قررت الحكومة الفرنسية أن كيان حكومة تونس طبقا للنظام الذي وضع لها في عام 1947 ينبغي إدخال تعديلات عليه من شأنها تعزيز ذاتيتها وتوفير وسائل عملها وجعلها أداة رقي للمنشآت التونسية فضلا عن كونها صالحة لسير الأمور في البلاد التونسية.
والحكومة الفرنسية عازمة على أن تبرهن على صادق عزمها على جني ثمار التطور التدريجي الذي يبلغه الشعب التونسي حتى تنمو روح الوعي السياسي وتزداد كفاءة الأهلين في إدارة شئون البلاد.»
فهل ستكون السلطة التنفيذية في أيدي التونسيين؟ أم سيبقى بعضها في قبضة الفرنسيين؟ وهل ستتكون حكومة تونسية بالمعني الكامل وتصبح الوزارة لا تشمل بين أعضائها غير التونسيين؟ أم يحتفظ مجلس الوزراء بتركيبه مناصفة بين التونسيين والفرنسيين؟ لم يجب المقيم العام عن سؤال واحد من هذه الأسئلة ولم يوضح طريق حل تلك المشاكل.
وقد كان البند الثاني من مشروع الإصلاحات لا يقل غموضا عن البند الأول، وهو يقرر «إشراك النخبة التونسية في إدارة شئون بلادهم؛ فإن الحكومة الفرنسية عازمة كل العزم على أن توسع في المستقبل القريب الطريق للتونسيين القادرين على القيام بأعباء المسئوليات الفنية المطلوبة عن جدارة.»
هل معنى هذا أنه سيصبح للتونسيين الحق في القيام بأعباء الوظائف العامة في بلادهم، وتحت سماء وطنهم، والواقع أن النظم الإدارية التونسية لم تبعد التونسيين عن المناصب الإدارية، ولكن الفرنسيين اغتصبوها اغتصابا وأبعدوا عنها أبناء البلاد واحتكروها لأنفسهم، وليس إرجاع الحق لأصحابه مما يتطلب قانونا جديدا خاصة وأنهم لم يحرموا منه بقانون سابق، فهل يكون الإصلاح إذن إصدار مرسوم ملكي يحدد جنسية الوظيفة العامة بتونس؛ إذ لا يمكن أن تكون غير تونسية ، ويحدث لها نظاما كاملا يكون تونسيا أيضا، ذلك ما لم يتعرض له المقيم العام في خطابه.
ثم إنه تحدث عن البلديات ومنافعها عندما تصبح منتخبة فكان كلامه مجملا أيضا يكتنفه الغموض من كل جانب. «إن الحكومة الفرنسية عازمة على البحث عاجلا عن إمكانية تحقيق التطور للنظم البلدية التي تمكن السكان الذين يهمهم الأمر من المشاركة مباشرة في تسيير شئون المجتمعات المحلية لتنمية الروح القومية والحصول على تجارب في ممارسة النيابات العامة في مثل هذا الميدان تتكون الرجال.
فهم يتدربون أولا على المسئوليات في هذا النطاق الخاص، ثم يدعون بعد ذلك لاستخدام مواهبهم في نطاق أسمى، ألا وهو نطاق الشئون العامة.»
فاحترز التونسيون؛ لأنهم لم يجدوا في هذا الخطاب ما يوافق رغائبهم، ولكنهم أمسكوا أعصابهم انتظارا لتطور الحالة. أبدت الأوساط الفرنسية بتونس استياءها منه على ما فيه من ميوعة وغموض مقصود واستنجد ممثلوهم بباريس بأصحاب الفكرة الاستعمارية المتطرفة - وكثير ما هم - وقاموا جميعا بحملة عنيفة على وزير الخارجية وخاصة في مجلس الجمهورية، فاضطر «روبير شومان» للدفاع عن فكرته متقهقرا إلى الوراء، ناسيا ما صرح به في تيونفيل، ولكنه رغم تراجعه المبين أكد وجوب الإصلاحات الجوهرية وإنهاء الحكم الفرنسي المباشر بتونس، فخطب في ذلك المجلس يوم 19 يوليو 1950 قائلا:
وإنكم محقون أيضا في قولكم بأنه لا يمكن لنا أن نحتفظ إلى ما لا نهاية له بما يقوم به الفرنسيون بتونس من حكم مباشر، بل ذلك هو موضوع إصلاحاتها. ... ولكن لا يمكن أن نحرم تونس من كل إصلاح مدعين أنه ينبغي انتظار الهدوء في الأفكار؛ إذ رفض الإصلاحات نفسه سبب جديد لإحداث الحنق والاضطراب.
وينبغي لنا أيضا أن نوفق بين ما نريده من محافظة على المصالح الفرنسية وبين الرغائب الشرعية للسكان التونسيين، وستتجدد نفس المشكلة في جميع البلدان الراجعة مسئولية الحكم فيها إلينا، الآخذة في التطور وإن كان بطيئا، وقد رفعنا مستواها تدريجيا في الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية.
وذلك هو العمل الصعب الدقيق الذي يواجه البرلمان والحكومة الفرنسية.
وأريد في الختام أن أجدد تعهدي بأنه ليس في نيتنا إهمال أية مصلحة من تلك المصالح سواء أكانت فرنسية أم تونسية، بل نرى أنه في الإمكان - وإذن من الواجب - التوفيق بينها، ولكن لا يمكن - كما قلتم - أن تبقى في الجمود الحالي، وما رفض الإصلاحات في الساعة الراهنة - بأي عذر كان - إلا الجمود بعينه في أسوأ الحالات.
فجدد هكذا وزير خارجية فرنسا وعوده - وإن كان فيها شيء من التراجع - وتعهد بصفة رسمية بإنهاء الحكم الفرنسي المباشر في تونس والقضاء على الركود والجمود بمسايرة التطور وضمان مصالح التونسيين.
وكان الرأي السائد في مجموع الشعب التونسي ألا تترك الفرصة تمر من غير أن ينتهزها لكي توضع فرنسا أمام مسئولياتها؛ فإن وفت بوعودها فإن تونس تكون قد حققت رغائبها من غير كبير عناء وإراقة دماء وإضاعة وقت، وإذا نكثت تعهداتها تكون محجوجة أمام الرأي العام العالمي وأمام الرأي العام التونسي خاصة، ولم يبق إذ ذاك في إمكان أي تونسي أن ينتقد الحزب الحر الدستوري عندما يخوض معركة التحرير، بل يصبح الشعب بأسره - المعتدل منه والمتطرف - مقتنعا اقتناعا كاملا بألا مفاهمة ممكنة مع فرنسا وأن كل مفاوضة سلمية معها آيلة إلى الفشل.
واتصل جلالة الملك محمد الأمين الأول بالقادة الوطنيين وأصحاب الخبرة السياسية من أبناء الشعب ليطلع على رأيهم في الموضوع ودعاهم إلى تحمل مسئولية الحكم ومنحهم ثقته وألح عليهم في أن يكونوا أعضاده ومساعديه؛ لأن مصلحة الوطن العليا تتطلب منهم ضربا جديدا من التضحية سعيا إلى إنقاذ البلاد، فينبغي ألا يبقى جلالته وحده فريدا فيما سيجري من مفاوضات مع الحكومة الفرنسية، بل من الضروري أن يتقدموا إلى الصف الأمامي، ومن الواجب الحتمي عليهم أن يكونوا لسان الشعب الناطق، والمدافعين الرسميين عن حقوقه، والمعبرين الصادقين عن رغائبه، وجلالة الملك من ورائهم يعين ويؤيد التأييد الكامل المطلق، فيكون هكذا قد نزع الأمانة من عنقه ليضعها في عنقهم.
ولما وجد منهم أذنا صاغية واقتناعا بما رسم لهم من خطة كلف دولة السيد محمد شنيق - باتفاق مع ممثل فرنسا لويس بريليه - بتشكيل الوزارة الجديدة ، ثم وقع اختيار بقية أعضائها باتفاق أيضا مع المقيم العام ، فبعد مشاورات جديدة تألفت الوزارة في 17 أغسطس سنة 1950.
وكانت مهمتها كما جاء في البلاغ الرسمي الصادر في نفس ذلك اليوم: «التفاوض باسم جلالة الملك في التعديلات الأساسية التي من شأنها أن تقود البلاد في مراحل متتابعة نحو استقلالها الداخلي.» وقد أصدر المقيم العام الفرنسي نفسه ذلك البلاغ بعد مناقشة استغرقت ساعات بينه وبين أعضاء الوزارة التونسية اتفقوا أثناءها بدقة تامة على معاني كل لفظة وكل عبارة جاءت فيه.
ثم ألقى الوزير الأول في ذلك اليوم خطبة تقليده المسئولية أمام جلالة الملك في الحفلة الرسمية بين فيها بإيضاح أهداف الوزارة والمبادئ التي ستكون أساسا لعملها، فكان ذلك الخطاب دستورا لها وعهدا في عنقها، وهو يعبر في آن واحد عن الجو السياسي السائد في البلاد، ولما له من قيمة ننشره كاملا:
يا صاحب الجلالة
تتقدم الوزارة التي قلدتموها شرف مسئولية الحكم الثقيلة إلى سدتكم السامية بكامل الإجلال والتعظيم وعميق الولاء والإخلاص.
لقد شعرت جلالتكم بالمأزق السياسي الذي أصبحت فيه الإصلاحات التي أدخلت على البلاد سنة 1947، فبرهنتم بصورة واضحة جلية عن عزمكم على الخروج منه بإجراء إصلاحات جوهرية تتمشى مع التطورات العالمية وتطور شعبكم الوفي الذي لن ينسى مواقف مليكه المفدى، فأصبح من المحتم تطور العلاقات الفرنسية التونسية بإصلاح عميق لمنظمات الدولة التونسية.
يا صاحب الجلالة:
إن الوزارة التفاوضية الماثلة بين يديكم ستأخذ على عاتقها - حسب توجيه جلالتكم الثمين ومع تسييرها للشئون الإدارية - مهمة قيادة البلاد التونسية نحو استقلال داخلي يتسع نطاقه شيئا فشيئا، إجابة لرغائب أمتكم المخلصة الوفية في استرجاع السيادة التونسية بكامل حقوقها ومميزاتها والتي صرح بشرعيتها جناب وزير خارجية الحكومة الفرنسية وممثل الجمهورية الفرنسية الفخيمة.
وإن هذه المأمورية التي عهدت بها جلالتكم لوزارتكم هذه ينبغي تحقيقها على مراحل وفي أمد معقول حتى يتجلى التعاون المثمر والمبني على الثقة المتبادلة بين حكومتكم وجناب ممثل الجمهورية الفرنسية.
وستعمل هاته الوزارة معتمدة على ثقة جلالتكم الغالية وتأييد أمتكم الوفية إليها على تهيئة مشاركة شعبكم المخلص في تسيير دفة الحكم.
وسيسجل التاريخ عبرة تكليف جلالتكم لنا بقدر ما يوفقنا الله إلى إنجاز هذه الإصلاحات بما يحقق هاته الآمال.
أبقى الله جلالتكم وأيدكم بروح منه وجعلكم مفخرة العرش الحسيني الرفيع العماد.
لم تحد وزارة محمد شفيق عن الطريق التي سطرتها لنفسها، وتابعت الجهود لتحقيق مهمتها الرئيسية في قيادة البلاد التونسية نحو استقلال داخلي يتسع نطاقه شيئا فشيئا أي السعي إلى استقلال تونس بطريق التفاوض مع الحكومة الفرنسية، مظهرة إرادة فعالة في إخراج الوعود الفرنسية الرسمية من حيز الكلام والخطب إلى حيز الواقع والوجود.
واهتز الشعب اهتزازا؛ شعورا منه بأن التجربة الجديدة ستكون حاسمة، وأملا في أن فرنسا ربما تكون قد فهمت أن إرضاء رغائبه بطريق التفاهم أسلم لها ولتونس، وظهرت علامات الارتياح والفرح في جميع مدن المملكة وقراها؛ لأن شعب تونس كان عازما العزم كله على نيل استقلاله، مهما تكن الصعوبات ومهما تبلغ التضحيات، وكان السبب الأساسي لذلك الفرح الكبير ما شاهده من وحدة قوية بين تونس الشرعية الممثلة في جلالة الملك ووزارته وتونس الشعبية الممثلة في الحزب القومي، الحزب الحر الدستوري التونسي والمنظمات القومية كلها: (الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد العام للفلاحة التونسية. والاتحاد العام للصناعة والتجارة، وجامعة المحاربين القدماء التونسيين وغيرها).
وهكذا تحقق الشعب من أن طريق المستقبل قد تفتح أمامه بفضل تلك الوحدة الحقيقية المتينة، وأن تونس ستتقدم نحو استقلالها إما بالتفاهم مع الدولة الحامية - إن حققت وعودها - وإما بالدفاع عن كيانها والذود عن حقوقها وخوض معركة التحرير. (2) نوايا المتفاوضين
لم يندفع التونسيون إلى المفاوضة إلا بعد أن استوثقوا من التعهدات الفرنسية المرة تلو الأخرى، وبعد أن تيقنوا أن التجربة التي رضوا أن يقوموا بها ضرورية لرفع الستار عن نوايا فرنسا الحقيقية نحو تونس، ومن الملاحظ أن أعضاء الحكومة الفرنسية وممثلي فرنسا بتونس لم يعطوا كعربون على حسن نواياهم غير الوعود والكلام والألفاظ، وأن فرنسا ليست وليدة أمس، بل لها تقاليد قديمة ومبادئ سياسية أصولية توارثتها الأجيال في وزارة الخارجية قليلا ما تحيد عنها ولا تخالفها إلا مضطرة، وقد كان أكبر سياسي أخرجته فرنسا «الكردينال ريشيليو» قد طبق تلك المبادئ وسن بعضها سنا، وكان يقول:
1
من كانت له القوة كان في غالب الأحيان محقا في الشئون الدولية، ويصعب على من كان ضعيفا ألا يظهر في مظهر المخطئ في نظر أغلبية العالم، واشتهر بأنه واقعي لا تقوده عاطفة ولا تلين قلبه رحمة ولا يردعه رادع ولا يوقظه ضمير، إنما تملي عليه أعماله كلها مصلحة الدولة؛ ومصلحة الدولة لا غير، فهو لا يكون قاسيا لأجل القسوة ولا يكون رحيما ميلا للرحمة، ولا يكون كريما حبا في الكرم، بل أعماله كلها رامية إلى غرض واحد هو تقوية الدولة وتغلبها على أعدائها بجميع الطرق والأساليب، فيرى ضرورة إخضاع القوانين لا للعدل والإنسانية، بل لحاجيات السياسة، فلم يسع في إكساب العدل قوة ونفوذا بل سعى في تبرير القوة واستخدامها وإعطائها قوالب العدل، وكان ريشيليو يقول أيضا: «من يفاوض يجد دائما الساعة المناسبة للوصول إلى غايته.»
إن كل من يطالع كتاب «الأمير» للمؤلف الإيطالي الشهير «مكيافيللي» يرى أن ريشيليو اتخذه قدوة يقتدي بها ويستنير بضوئها.
وقد كانت التجربة التونسية دليلا قاطعا على أن تعاليم ريشيليو وأستاذه مكيافيللي متحكمة في السياسة الفرنسية إلى يوم الناس هذا، وإن لم تجد في تنفيذها عباقرة يماثلون ريشيليو.
إن الساسة الفرنسيين الذين تصدوا لمفاوضة التونسيين لم يتنازلوا عن حق من حقوق تونس المغصوبة أصلا، واكتفوا بالمناقشات في الجزئيات ربحا للوقت وتعجيزا لمفاوضيهم، وكأن الكاتب الفرنسي «لابرويار» عناهم في وصفه للسياسي إذ قال: «جميع نظريات السياسي وجميع مبادئه وجميع دقائق سياسته ترمي إلى غاية واحدة، وهي ألا يقع وأن يوقع غيره.» والغير هنا هي الحكمة الوطنية التونسية، وقد ظن المستعمرون أن أنجع طريقة للقضاء عليها هي الزج بها في وزارة تفاوضية لإظهارها في مظهر المستكين الراضي والمشارك المستسلم، وهي طريقة طريفة في السياسة الفرنسية الاستعمارية؛ إذ رأى الاستعمار أن أساليب القمع والشدة وسياسة الحديد والنار لم تفلح في تونس، بل زادت الحركة الوطنية التي أقيمت على دماء الشهداء انتشارا وعمقا حتى استعصى استئصالها وصعب مراسها.
إذا وضعنا الأقوال الفرنسية المعسولة والوعود والتعهدات الرسمية جانبا ونظرنا إلى الواقع كما هو نرى إذ ذاك النوايا الحقيقة وأولها القضاء على الحزب الحر الدستوري بوسائل متعددة، لم تبتدئ المفاوضات حتى رأينا قوات البوليس والجيش الفرنسي يطاردون رجال الحزب في كل مكان، ويهاجمون اجتماعاته ويحتلون أماكنها، ويضيقون عليه الخناق، ويجرون مئات من أعضائه وقادته أمام المحاكم العسكرية والمدنية الفرنسية التي أخذت تصدر عليهم الأحكام القاسية، فامتلأت سجون تونس بالدستوريين، والدستور يتفاوض مع فرنسا، وقد تمسك المقيم العام الفرنسي بإبقاء الحزب الحر الدستوري منحلا قانونيا مدعيا أن ليس له السلطة الكافية للاعتراف به، وأن الحكومة الفرنسية لم تسمح له بذلك بعد، والحقيقة أن المقيم العام كان متفقا مع المستعمرين الكبار في تسديد أشد الضربات للحزب القومي، وقد تمسك أيضا بجميع القوانين الاستثنائية الغاشمة التي سنها المقيمون السابقون وحرموا تونس بمقتضاها من جميع الحريات، فلا حرية للقول، ولا حرية للنشر، ولا حرية للاجتماع، ولا حرية للتنقل، بل سلاسل وأغلال وكم للأفواه، وسيف مسلول على رقاب التونسيين جميعا، وقد كان التضييق أشد من ذلك كله؛ إذ تمسك المقيم العام بإبقاء حالة الحصار مضروبة على جميع القطر التونسي، وهي أمضى سلاح في يده، فمنذ نصبت يوم 9 أبريل 1938 لم تلغ، فكان التونسيون كلهم تحت رحمتها مهددين في أرزاقهم وبيوتهم وأشخاصهم، والوزراء أنفسهم ليسوا في منجاة عنها، فهم يتفاوضون والخطر يهددهم.
فإذا كانت نية المستعمرين الأولى هي القضاء على الحركة الوطنية فإن غايتهم البعيدة من المفاوضات هي إعطاء ما اغتصبته الجالية الفرنسية من سلطات الصبغة القانونية؛ لتمكينهم من كسب حقوق في تونس لا يتمتع بها إلا المواطن التونسي، فإذا ما أصبح الفرنسيون مشاركين في مؤسسات الدولة التونسية شرعا وقانونا فإن الاستعمار الفرنسي يكون قد خطا الخطوة الحاسمة في ابتلاع تونس وإدخالها في الاتحاد الفرنسي، ثم جعلها جزءا لا يتجزأ من التراب الفرنسي.
وكان الديوان السياسي دارسا للسياسة الفرنسية عارفا بمنعرجاتها حذرا منها متيقظا لتلاعبها وقد نبه الشعب كله في اجتماعات نظمها في جميع أنحاء القطر ، فكان يقول: «نحن أعرف بالاستعمار الفرنسي وغاياته من غيرنا ولم نكتف بدرسه في الكتب والمجلات والصحف بل درسناه نحن الدستوريين في أرواحنا وأجسامنا، وما زالت بقايا التنكيل والتعذيب والسجون والمنافي ظاهرة بينة فينا، فإن برت فرنسا بوعودها وأخلصت في نواياها فإنها تكون قد ضمنت مصالحها العليا وكسبت ود شعب وصداقته، ونكون حققنا غاياتنا الوطنية واقتصدنا في قوانا وادخرناها للبناء والتشييد لا للتهديم والتخريب، وإن كانت الأخرى فينبغي أن نتهيأ لخوض معركة التحرير وأن نعد الأسباب للنصر النهائي؛ إذ لم نشارك في الوزارة للاستكانة والراحة، بل لتزيد قوتنا متانة وصفوفنا نظاما وعملنا جدا وكفاحنا شدة، فينبغي أن يكون رائدنا الحذر وقائدنا اليقظة وسبيلنا العمل.»
وكان يستحيل على الاستعمار الفرنسي أن يأخذنا على غرة، فعندما تكونت الوزارة الوطنية برئاسة دولة محمد شنيق وقع في أيدي الجالية الفرنسية وداخلها الخوف وتململ الموظفون الفرنسيون، فأخذوا يعدون العدة لمقاومة حكومتهم نفسها، فأسرع المقيم العام إلى تهدئة خواطرهم وإقامة الدليل لهم على أن الحكومة الفرنسية تماشيهم في الواقع وتريد إرضاءهم، فبعث برسالة دورية إلى جميع المراقبين المدنيين يعلمهم رسميا أنه لم يتغير شيء في تونس وأن النفوذ كله باق في قبضة الفرنسيين؛ فينبغي لهم ألا يسلموا شيئا من السلطة إلى التونسيين.
ووقعت إثر ذلك مشادة حامية بين وزير الدولة الدكتور محمود الماطري وبين السلطات الفرنسية نتيجة لرسالة المقيم العام الدورية، وأن العمال (المديرين) والعمد تابعون لوزير الدولة إداريا، فغاب عامل (مدير) ماطر في إجازة وعين العمدة علي بن عمارة ليعوضه أثناء غيابه، وكان هذا العمدة معروفا مشهورا بتعسفه للرعية وقسوته وظلمه الفاحش؛ معتمدا في ذلك على موالاته للفرنسيين وخيانته المفضوحة لبلاده، وغدره ببني وطنه، فلم يوافق الوزير على ذلك التعويض، وعين الكاهية (نائب المدير) المهبولي ليقوم بذلك المنصب أثناء غياب صاحبه، فقامت قيامة السلطات الفرنسية كلها، وتمسكت بإبقاء الخائن ابن عمارة في ذلك المركز، واستعدت لمنع الوزير التونسي بقوة البوليس والجيش من تنفيذ قراره، وأراد المقيم العام أن يظهر للملأ أنه هو الحاكم بأمره في تونس ، وأن السيطرة الفرنسية كاملة لا غبار عليها، فتحدى الوزارة التونسية، وأقام حفلة رسمية كبرى بماطر نفسها تكريما لعلي بن عمارة، وألبسه نيشان جوقة الشرف الفرنسية في ذلك اليوم؛ ففضح نواياه الحقيقية قبل الشروع في المفاوضات.
وبعد مناقشات طويلة مملة دامت أشهرا حول المستشارين الفرنسيين في الوزارات التونسية لم يرض المقيم العام بإلغاء مناصبهم، بل أبقاهم فيها واكتفى بنقلهم من عمارات الوزارات إلى الكتابة العامة ليعينوا الكاتب العام في مراقبة أعمال الوزراء التونسيين، فما راعنا إلا والمقيم العام يلقي الخطب المسهبة الطويلة ويكرر التصريحات سواء في تونس أو في باريس بأنه أعطى ترضية كبرى للتونسيين وقام بتحوير كبير في منظمات الدولة التونسية، وخطا خطوة كبرى نحو الغاية المنشودة، وحقق لتونس المرحلة الأولى في استقلالها الداخلي، وذلك كله لمجرد نقل بعض الموظفين الفرنسيين من عمارة إلى أخرى وقال أخيرا: «الآن وقد تم هذا الإصلاح الجوهري الكبير ينبغي أن تستريح السياسة حتى يتم هضم هذا الإصلاح» فكأن المفاوضات ابتدأت بالاستراحة من السياسة، وكان دور المقيم الفرنسي قد تم معظمه وأن واجب الشعب التونسي يقضي عليه بأن يهضم الفراغ والعدم وأن يبقى على جوعه وعطشه.
فتلبد الجو بسرعة فائقة، وتوترت العلاقات، وكادت تقطع المفاوضات، فلم ير المقيم بدا من استئنافها، وبقيت تتعثر إلى أن تم الاتفاق على بعض الإصلاحات التي صدرت بتاريخ 8 / 2 / 1951 فلم يتقبلها الرأي العام بارتياح. تمخض الجبل فولد فأرا؛ فهي لم تغير الوضع ولم تنقل شيئا من النفوذ إلى أيدي التونسيين، لقد أصبح الوزير الأول التونسي رئيسا لمجلس الوزراء بعد أن كان يرأسه المقيم العام الفرنسي بنفسه، أما مراقبة قرارات الوزراء التونسيين فإنها انتقلت من الكاتب العام الفرنسي إلى المقيم العام الفرنسي، وقد اعتبرت الوزارة التونسية نفسها تلك الإصلاحات مجرد اتجاه جديد في السياسة الفرنسية. أما مجلس الوزراء نفسه فإنه بقي مركبا من فرنسيين وتونسيين، وقد علق عليها الوزير الأول دولة محمد شنيق في بيان أصدره للصحافة يوم 8 / 2 / 1951 جاء فيه: «أما بقاء عدد من الأعضاء الفرنسيين مساو لعدد الأعضاء التونسيين في مجلس الوزراء بصورة مؤقتة فإنه لا يعني أبدا الرضا بالسيادة المزدوجة التي لا تجيزها المعاهدات ولا يبيحها الدستور الفرنسي نفسه.
ولا تقتصر فوائد الإصلاحات الجديدة على ما ذكرناه؛ فإن الاتجاه الجديد التي وجهت فيه العلاقات بين تونس وفرنسا والمبادئ التي أثبتتها هي التي تجعل الإصلاحات الجديدة - وليس محتواها الهزيل - تمهد الطريق لمراحل أخرى ستوصلنا حتما وبصورة تدريجية إلى الاستقلال الداخلي في نطاق السيادة التونسية.
لذلك فإنه يجب عند تطبيق الإصلاحات احترام الروح التي أملتها، وذلك بالتزام الدقة والإخلاص في تنفيذ النصوص الجديدة التي روعي في تحريرها الوضوح التام الذي لا يترك أي مجال للتأويلات الخاطئة.»
ولكن المقيم العام أسرع إلى خرق ذلك الاتفاق الجديد، ولم يراع الروح الجديدة وخالف تلك النصوص الواضحة الجلية، فكون بالإقامة العامة نفسها إدارة استعمارية كاملة تشرف على جميع الوزارات والإدارات التونسية وتسيطر عليها؛ بدعوى أن النصوص الجديدة أعطت الحق للمقيم في الإدلاء بتوصياته على كل قرار وزاري. وإذا بتونس تخطو خطوة إلى الوراء؛ لأن مراقبة الوزراء كانت من طرف إدارة تونسية وهي الكتابة العامة، فأصبحت الوزارات والإدارات التونسية تحت إشراف ممثل فرنسا مباشرة، وقد قام المقيم العام بعمله من غير أن يستشير الوزارة التونسية، بل من غير إعلامها أصلا، ووضعها أمام الأمر الواقع، وتمادى في تطبيق برنامجه رغم احتجاجها.
فأتت إصلاحات 8 / 2 / 1951 بنتيجة معكوسة، وتوقفت أثرها المفاوضات، وكانت حركة العمال تمتد وتنتظم في تلك الأثناء، وأصبح الاتحاد العام التونسي للشغل من أكبر العوامل في السياسة التونسية، ودخل إلى البوادي بعد تنظيم صفوفه في المدن، وازدادت عداوة المستعمرين له، وسعوا في وقف تياره المرة تلو المرة من غير جدوى.
وقام العمال والفلاحون التابعون لشركة زراعية فرنسية (شركة النفيضة) بإضراب، فاتخذتها السلطات الفرنسية فرصة لإفساد العلاقات بين تونس وفرنسا لكي لا تستأنف المفاوضات، ولكي تضرب الاتحاد ضربة شديدة تعطل سيره، فاستنجد المراقب المدني بالقوات الفرنسية وأرسلها حالا لتلك المزرعة، مناقضا بعمله وعود المقيم الصريحة لوزير الشئون الاجتماعية بأنه سيعطيه الوقت الكافي لحل تلك المشكلة بطريقة سلمية، وأنه لا يسمح باستخدام القوة إلا بعد الاتفاق معه، ففوجئت الوزارة التونسية بأخبار مأساة جديدة؛ إذ اقتحمت القوة المسلحة النفيضة وصادمت العمال وأطلقت عليهم النيران من غير سابق إنذار، وتتبعتهم إلى وسط مدينة النفيضة نفسها قتلا وتشريدا، وكان من بين الشهداء امرأة حامل.
فاهتزت البلاد التونسية كلها لذلك الحادث المريع، وأعلنت إضرابا عاما يوم دفن الشهداء، وسار وراء نعشهم نجل الملك والوزراء وقادة الحركة الوطنية والهيئات والمنظمات القومية الكبرى ووفود جميع مناطق القطر التونسي.
واستخلصت الوزارة التونسية درسا مفيدا من واقعة النفيضة؛ إذ ظهر لها جليا وجوب استسلام قيادة قوات الأمن من يد الفرنسيين، فلا يمكن للحكومة التونسية أن تحكم ما دامت تلك القوات خارجة عن نطاق نفوذها، فيتخذها المستعمرون أداة شغب يعينون بها كل من يناوئ تونس.
وأحيت تلك المأساة حزازات في النفوس بثت الريب والشكوك، وإذا بأخبار مراكش تزيد النفوس حماسا؛ فقد حاصرت القوات الفرنسية السلطان سيدي محمد بن يوسف بقصره في مدينة الرباط، وهدده الجنرال جوان المقيم العام بالخلع إن لم يوقع حالا على بروتوكول يوافق فيه فرنسا على مبدأ مشاركة الفرنسيين في مؤسسات الدولة المراكشية، ولم يخف على التونسيين أن انتصار الاستعمار بمراكش يعبد له الطريق للقضاء على الوطنيين بتونس، فأصدر الديوان السياسي قرارا بالإضراب العام بإمضاء الأستاذ صالح بن يوسف الأمين العام للحزب الحر الدستوري ووزير العدل في حكومة دولة محمد شنيق - وكان الإضراب عاما شاملا في جميعه القطر التونسي يوم 10 مارس 1951، فاغتاظ الفرنسيون وأرادوا رد الفعل حالا، وقابل المقيم العام جلالة الملك محمد الأمين يوم 12 مارس طالبا منه بإلحاح باسم الحكومة الفرنسية أن يقيل الأستاذ صالح بن يوسف من الوزارة، وجرت بينهما محاورة نقتطف منها ما يلي:
الباي :
لماذا يا ترى تطلب مني إقالة ابن يوسف بهذا الإلحاح مع أنه يتمتع بثقتي التامة؟
المقيم :
لأنه قام بعمل عدائي نحو فرنسا، فأصدر أمرا بالإضراب العام مقاومة للجنرال جوان ممثل فرنسا بمراكش.
الباي :
عدو فرنسا هو من يحدث لها القلاقل ويبعد عنها القلوب، أما صالح بن يوسف فإنه نبهها لغلط ربما تقع فيه، وحذرها بعمله من خطأ كبير؛ لأن تهديد السلطان في مراكش أو خلعه يجعل من أصدقاء فرنسا أعداء لها، زد على ذلك أن الشعب المراكشي شعب شقيق يربطنا به الجنس والدين واللغة والوطن، وأنا شخصيا أعد سلطان مراكش أخا لي في الإسلام، وكل ما يؤذيه يؤذيني أيضا، فأنا موافق لصالح بن يوسف وأعد نفسي أبا للدستوريين جميعا، فلا أقيله من الوزارة، فقد عبر عن عواطف الشعب التونسي بأسره، وأنا فرد منه نحو الشعب المراكشي.
وتعددت الخلافات وتشعبت بين السلطات الفرنسية والسلطات التونسية، وقد كان الفرنسيون يفرضون أتباعهم وصنائعهم، فيملئون بهم مناصب الدولة ويعينونهم عمالا (مديرين) فيها وحكاما وإن لم تكن لهم المؤهلات، وينيطون دائما مناصب النفوذ بموظفين فرنسيين، فوجدوا أمامهم لأول مرة وزارة تونسية لها إرادتها ولها رأيها، ولم تتنازل السلطات الفرنسية عن شيء من رغباتها، وخيرت تعطيل حركات الموظفين وتعيينهم وشل الإدارة التونسية كلها على إرضاء مطالب التونسيين في ذلك الميدان.
ووقفت موقفا غريبا في قضية السكك الحديدية التونسية التي كانت ملكا للدولة التونسية، وقد انتهت مدة الاتفاق في شأنها بين تونس والشركة الفرنسية التي كانت تستثمرها، وكانت هذه الشركة توزع في كل عام على المساهمين فيها أرباحا طائلة وتطالب الحكومة التونسية بأن تسد عجز ميزانيتها، فتمسكت الوزارة التونسية بوجوب تأميم استثمار السكك الحديدية التونسية، وخاصة أن عجز ميزانيتها يدفع دوما من صندوق تونس، وأن الدولة التونسية تقدم في جميع الحالات ضمانها لتسديد ما يتطلبه تجديد ما يلزمها من آلات، وعارضت السلطات الفرنسية التأميم معارضة كلية، وأرادت أن تمنح استثمار السكك الحديدية للشركة الوطنية الفرنسية، والغرض من هذه العملية إلحاق سككها بالسكك الفرنسية، وهي شركة تابعة للدولة الفرنسية؛ إذ إن تأميم وسائل النقل تم بفرنسا منذ أعوام، واتسع نطاق الخلاف واعتبرت فرنسا أن العرض التونسي في حل هذه المشكلة يرمي إلى إنقاص النفوذ الفرنسي في الميدان الاقتصادي، وبداية تقلص ظله واتجاه جديد لتحرير تونس، ولم يتفق الطرفان على حل من الحلول، وبقيت المسألة معلقة عدة أعوام .
وبلغ التوتر أشده في المفاوضات حول المجلس الكبير والبلديات، فقد تمسكت السلطات الفرنسية بوجوب استمرار المجلس الكبير في عمله والنظر في الميزانية التونسية، وقررت الوزارة التونسية عدم تجديد انتخابه بعد انتهاء مدته؛ لأنه مجلس استشاري بحت لا نفوذ له، وخاصة لأنه مؤلف مناصفة من تونسيين وفرنسيين، ولا حق للفرنسيين أن يكونوا ممثلين في المجالس السياسية التونسية؛ لأنهم أجانب.
وسعت الوزارة التونسية في تأسيس مجالس بلدية منتخبة؛ لكي يمارس السكان حقوقهم الطبيعية فيها ويسهرون على صرف ما يدفعون من ضرائب بلدية ويتمرنون أيضا على ممارسة الأمور العامة، ولكن الفرنسيين تمسكوا هنا أيضا بوجوب تمثيل الفرنسيين فيها.
وكان جلالة الملك يراقب عن كثب سير المفاوضات وتعثرها ويفكر في الوصول إلى نتيجة عملية فرأى من الضروري دفع كل التباس يستفيد منه الاستعمار؛ بالتعبير عن إرادته الواضحة في منح شعبه نظما ديمقراطية ليمكنه من حكم نفسه بنفسه، فأعد تصريحا بمناسبة الذكرى الثامنة لجلوسه على العرش 15 / 5 / 1951 وعهد لوزير الشئون الاجتماعية معالي محمد بدرة بإلقائه في الحفل الرسمي؛ ولما لذلك الخطاب من أهمية نورد نصه الكامل:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبيه الكريم
نحمد الله على ما من به علينا من مشاهدة هذا العيد الأغر المحيي للذكرى الثامنة لجلوسنا على عرش آبائنا الميامين، ونشكر له نعمته لما أفاضه علينا من ولاء شعبنا الوفي وتعلق أبنائنا المخلصين، ونتجه إليه تعالى بالإجلال والإكبار على جمع كلمة الأمة التونسية واعتصامها بعزتها القومية وبعث روح التماسك والتعاون بين أفرادها، مما يبشر بإشعاع نور اليقظة وبلوغ الأماني.
أبناءنا الأعزاء:
إننا نتتبع بمزيد العناية تقلب الأحوال العامة، خيرها وشرها، ونسعى جهدنا للنهوض بأمتنا إلى المرتبة التي تتطلع إليها بحكم ماضيها، وتستحقها بموجب رقيها الحاضر، ولقد أثلج فؤادنا عملها المتواصل الحلقات في شتى الميادين وما تبذله في سبيل إصلاح المجتمع وإنعاش الاقتصاد وتثقيف النشء وتنظيم الجماعات، فإنا واثقون بأنها تبرهن على نضج شعبنا واستكمال وعيه القومي ومدى تطوره، وعن استعداده للقيام بجميع المسئوليات التي لغيره من الشعوب الحرة، ومما يترتب عن هاته المسئوليات من واجبات وحقوق.
وإن الظروف العصبية التي يجتازها العالم، والنزعات التي يتخبط فيها، والاتجاهات المتعاكسة التي تكتسح قواه قد جعلتنا نشعر بشدة وطأتها عندما تنعكس على مملكتنا العزيزة، ولقد أثبت الماضي القريب أن الدول المولى عليها هي - كسواها من الدولة الحرة - لا تستطيع البقاء على عزلتها كما كان فيما مضى حتى ولو شاءت ذلك، ومما يجدر الإشارة إليه أن هذا الشعب الذي ساهم بكل ما في طاقته للقضاء على عوامل الطغيان وأبلى بلاء حسنا في الدفاع عن الحرية البشرية ومناصرة العدل، صار من حقه أن يستنشق نسيم الحرية، وأن يرتوي من مناهل العدل، وأن يتمتع بحقوقه الفردية والجماعية، وأن يعيش في اطمئنان، موفور الكرامة، في كنف السيادة القومية الكاملة، ليصبح كل فرد منه مؤمنا في قرارة نفسه بأن له ما لغيره من مواطني الأمم الديمقراطية التي شاركت في إنقاذ البشرية من الاستعباد، وعليه ما عليهم.
ولقد عملنا لإقرار هذه الحقائق، فجاء تصريحنا بوجوب إدخال الإصلاحات الجوهرية المتأكدة على نظام الحكم القائم في هاته البلاد، وسلكنا سبل التفاوض في معالجة المشاكل الناجمة من التعاقد المبرم بين دولتنا والجمهورية الفرنسية، فألفنا لهذا الغرض الوزارة الحالية التي منحناها ثقتنا، فكان أول أعمالها التحويرات التي أصدرنا في شأنها أوامرنا العلية بتاريخ الثاني من جمادى الأولى من هذا العام، وهي مرحلة أولية عزمنا على اجتيازها إلى مرحلة أخرى تتناول في آن واحد تعديل أداة التنفيذ وكيفية تركيزها على قاعدة تمثيل شعبنا في تشكيلات منتخبة وتحديد اختصاصات هاته التشكيلات.
ولقد ألهمنا الله عز وجل إلى هذا الإصلاح الجوهري، ووطد عزمنا على تحقيقه ما مارسناه في شعبنا من رغبة في الرقي السياسي، وما علمناه فيه من بلوغ الرشد والكفاءة، وهدانا إليه ديننا الحنيف بتعاليمه القيمة وإجماع الفقهاء على إقامة الشورى، ومراعاة ما تقتضيه سياسية الرعية من الرضاء والقبول للأحكام الماضية عليها، وحملنا عليها الاقتفاء بما سنه أسلافنا ملوك هذا البيت الحسيني المنيع من مبادئ ونظم كفيلة الحقوق، الخاصة منها والعامة، وإننا عهدنا إلى وزارتنا إنجاز ما يقتضيه هذا المشروع العظيم الأثر، البعيد الغاية، وإجراء الاتصالات اللازمة لذلك، واتخاذ أصلح التدابير لإعداد النصوص التي تقر نيابة منتخبة تمثل كافة طبقات شعبنا، ونأمل أن هذا الإصلاح الذي تتماشى روحه وتطور علاقات التحالف التي بيننا وبين الجمهورية الفرنسية ويوافق نية الطرفين في تنمية الرقي السياسي سيتحقق بروزه إلى حيز التطبيق.
والله أرجو أن ييسر ما عقدنا العزم على بلوغه بعونه تعالى، وأن يسدل علينا بمنه شآبيب العطف والتوفيق في حسن النوايا والعمل حتى يتبدل عسرنا يسرا وتعم الرفاهية مملكتنا المحروسة فتهنأ الخواطر وتطمئن القلوب، إنه السميع المجيب.
وازداد التوتر بين المقيم العام والحكومة التونسية، واتسعت شقة الخلاف إلى أن أصبح من العسير استئناف المفاوضات بينهما، وقد قطعت في الواقع منذ أشهر، بل كادت تقطع العلاقات كلها.
وقد ساند الموظفون الفرنسيون الكبار المستعمرين، بل كانوا لسانهم الناطق والمنفذين لإرادتهم والساهرين على امتيازاتهم، فحرصوا على أن يبقى النفوذ في قبضة الفرنسيين، ولم يتنازلوا حتى عن بعض المظاهر، ولم يقبلوا أن يكونوا تحت إشراف الوزير الأول ولو صوريا، وكانوا يقفون حجر عثرة في سبيل كل عمل تسعى إليه الوزارة التونسية، فتعطلت المصالح العامة وأصاب الإدارة العامة ضرب من الشلل، وقد لاحظ كل من بحث الحالة التونسية في هذه المدة وكل من زار تونس من الصحفيين الأجانب ما اعترى مؤسسات الدولة من عجز عن القيام بعملها العادي، وقال أحدهم:
2
بعد تحويرات 8 مارس 1951 لم تتقدم تونس نحو الحكم الذاتي ولا الاستقلال الداخلي، بل نحو الشلل الذي اعترى الحكومة؛ لأن مديري الإدارات من الفرنسيين يعرقلون كل عمل ويفسدون العلاقات بين تونس وفرنسا خاصة وأنهم هم المباشرون لتلك العلاقات.
ودلت التجربة التونسية على فساد النظام القائم بتونس لما فيه من خلط قانوني ومن اغتصاب السلطات الفرنسية لنفوذ السلطات التونسية اغتصابا سافرا، حتى أصبحت الدولة التونسية ذات رأسين: رأس فرنسي تعود على هضم الحقوق وسلب النفوذ، ورأس تونسي يسعى ليحكم ولم يتمكن من تنفيذ إرادته، ولا يمكن أن يعيش جسد يقوده رأسان متناقضان في ميولهما، وظهر جليا أنه يعسر أن تسير تونس نحو حكمها الذاتي ويستحيل أن تتقدم منظمات دولتها إلا إذا عوضت مديري إدارتها الفرنسيين بتونسيين.
أما الجالية الفرنسية والساسة المساندون لها في الحكومة الفرنسية والبرلمان، فقد بذلوا جهودا لتعطيل كل مفاهمة جدية وشنوا الحملات المسمومة على الحكومة التونسية والحركة الوطنية، وأجبروا المقيم العام على إرضاء رغباتهم والسير في ركابهم؛ لأن كل تبديل في الحالة الراهنة يهدد امتيازاتهم المجحفة وينقص من سلطانهم، ولم يكتف المقيم العام - لويس بريليه - بمناصرتهم في أعماله وأقواله، بل أصبح يخاطب الحكومة الفرنسية سرا لكي تستمع لصوتهم وتحقق أمانيهم ولا تحيد عن رغائبهم، فكتب إلى الحكومة الفرنسية بتاريخ 28 يوليو 1951 رسالة سرية لكي تعينه على فرض شروطه على الحكومة التونسية وجبرها على إرجاء كل مفاوضة في شأن السير بتونس نحو استقلالها الداخلي بإدخال إصلاحات جوهرية على نظمها إلى مدة عام على الأقل، فقال:
3
من الضروري أن نعلم الحكومة التونسية بحزم ودقة خلال الأيام المقبلة بعد العيد الكبير - أي في الأسابيع الأخيرة من شهر سبتمبر - بالشروط التي نراها ضرورية لمناسبة سياسة المشاركة أعني (أ) وضعا سريعا لنظام بلدي جديد عماده الانتخابات محتويا على تمثيل الفرنسيين في المجالس البلدية. (ب) تجديد المجلس الكبير واجتماعه حسب الشروط القانونية.
وينبغي أن يكون جواب الحكومة التونسية لا التباس فيه، فإن تم الاتفاق على هذه الشروط فيجب متابعة تحقيقها، بتنظيم البلديات على أسس جديدة وتمكين المجلس الكبير المجدد من القيام بعمله في الميزانية في الربيع القادم.
وإذ ذاك فقط، أعني بعد عام على الأقل، يمكن النظر في تحويرات جوهرية في النظم العليا إن رأت الحكومة فائدة في ذلك.
وينبغي أن يحدد موقف الحكومة الفرنسية في ذلك الحين أولا: حسب سلوك المفاوضين التونسيين. وثانيا: حسب سياسة بعيدة المدى فيما يتعلق بالمشاكل العامة لأفريقيا الشمالية.
وكان المقيم العام بين عوامل متعددة، تتجاذبه اتجاهات متناقضة وأهواء مختلفة، وسعى جهده ألا يغضب الفرنسيين وأن يجلب التونسيين في آن واحد، وإذا بأقواله تتضارب وتصريحاته يناقض بعضها بعضا، إلى أن تكون جو من الشكوك والريب والانفعالات والغضب، وفشل فشلا ذريعا في جميع ما أراد، وقد حللت جريدة «ليموند» الفرنسية بتاريخ 29 / 1 / 1952 سياسة بريليه قالت: «اتبع بريليه تحت تأثير الجالية الفرنسية سياسة كسني المشط إقداما وإحجاما، ارتفاعا ونزولا، فيتقدم خطوة ويتأخر خطوات، حتى أفسد الجو الملائم وسمم العلاقات.»
فقررت الوزارة التونسية أن تسافر إلى باريس للمفاهمة رأسا مع الحكومة الفرنسية لسبر غورها ومعرفة نواياها الحقيقية ووضعها أمام مسئولياتها وجبرها على إنجاز ما تعهدت به لتونس أو الافتضاح أمام الرأي العام.
وتكررت اجتماعات غير رسمية بين الوزراء التونسيين وبعض الساسة المسئولين الفرنسيين، وقد تلكأت الحكومة الفرنسية وتهربت من استئناف المفاوضات وأخذت تسوف وتماطل، بل رفضت أي تفاهم مع الوزارة التونسية بصفة رسمية.
فسلمت إذ ذاك الحكومة التونسية للحكومة الفرنسية مذكرة بتاريخ 31 أكتوبر 1951 لكي توضح رغائب تونس بجلاء لا يبقي مجالا للتردد أو الغموض والتساؤل معتمدة على تجاربها في الحكم وفي النظم التي فرضتها فرنسا من قبل، فذكرت ببعض المبادئ المسلم بها واتخاذها أساسا ضروريا لكل مفاوضة مقبلة وكل إصلاح. إن معاهدة 1881 التي اتخذت شكل اتفاقية بين دولتين قد أبقت لجلالة الملك سيادته الداخلية، ثم جاءت اتفاقية 1883 التي أشير فيها لأول مرة إلى «الحماية» وتضمنت أنه «لتسهيل الحماية على الحكومة الفرنسية فإن جلالة الباي يلتزم بإجراء الإصلاحات الإدارية والعدلية والمالية التي ترى الحكومة الفرنسية إنجازها.»
فليس في هذا إذن قبول من جلالة الملك لنقل سلطاته إلى الحكومة الفرنسية، إنما ذلك مجرد تعهد من الملك بإجراء كل إصلاح تعتبره الحكومة الفرنسية مفيدا.
وبالأحرى فليس في هذا أي تخل من جلالته عن سيادته الملكية؛ إذ إن جلالته احتفظ بحق وضع التشريعات وسن القوانين ما دامت لا تخالف الالتزامات التي تضمنتها وثيقة 12 / 5 / 1881.
على أن اتفاقية 1883 بغض النظر عن عيوبها الجوهرية تقتضي في مفهومها التعاون بين حكومتين لا حكما مباشرا تقوم به الحكومة الفرنسية بتونس، فضلا عن إضافة سيادة أخرى للسيادة التونسية التي هي السيادة القانونية والشرعية الوحيدة، وهذا الأمر من البداهة بحيث إن السلطة التشريعية ظلت كاملة بيد جلالة الملك.
وبينت الحكومة التونسية أن ذلك الحكم المباشر الفرنسي خلط وخروج عن المعاهدات المبرمة: «... حدث أن صدر - استنادا إلى تفسير اتفاقية 1883 - قرار من جانب واحد (قرار رئيس الجمهورية الفرنسية بتاريخ 10 / 11 / 1884) عهد للمقيم العام المصادقة بالنيابة عن الحكومة الفرنسية على إصدار وتنفيذ جميع المراسيم الصادرة عن جلالة الباي»، وهكذا أصبح هذا الموظف الفرنسي السامي هو رئيس الدولة الحقيقي؛ فقد أصبح له وحده حق إعطاء القوانين القوة التنفيذية.
وبعد هذه الخطوة نحو الاشتراك في مباشرة السيادة الداخلية شاهدنا ظهور النظرية الواهية القائلة بأن: «الحماية وضع مستمر التطور»، مما أدى إلى خلط في السيادة وإلى الحكم المباشر.
فكيف يتم الإصلاح المنشود؟ وبأية طريقة تحقق تونس لنفسها ذلك الاستقلال الداخلي الذي تعهدت فرنسا بإنجازه؟ ومن البديهي أن العمل الأول الرئيسي هو إبراز السيادة التونسية وتخليصها مما اعتراها من غموض وعلق بها من خلط وأنابها من اعتداء، حتى تصفو صفاءها القديم وترجع إلى جوهرها الفرد بإدخال نظام دستوري على الدولة التونسية لا يشارك في مؤسساته غير التونسيين، وذلك ما وضحته الوزارة التونسية عندما قالت في مذكرة 31 أكتوبر آنفة الذكر: «إن الاستقلال الداخلي الذي تنوي فرنسا تحقيقه يتناقض مع النظام الحالي في ميادين التشريع والحكم والإدارة.»
إن الاستقلال الداخلي معناه أن تتمتع تونس بالسيادة الداخلية والحكم الذاتي وبحقها في السير بنظمها الداخلية وفقا لأمانيها الخاصة.
وهذا الاستقلال الداخلي الذي هو عربون الصداقة بين تونس وفرنسا يجب أن يتم إنجازه في أجل أدنى، ويجب المبادرة بتحقيقه في ثلاثة ميادين: الحكومة والتشريع والإدارة.
ففي الميدان الوزاري ثبت أنه من الضروري جعل الحكومة تونسية خالصة على أن يستعين الوزراء ورؤساء المصالح الكبرى - عند الاقتضاء - بأخصائيين فرنسيين للقيام بمهامهم أحسن قيام، وتكوين موظفين إداريين متصفين بالخبرة والمقدرة وفق المنهاج الإداري الفرنسي، وبذلك نتجنب ازدواجا فعليا في داخل الحكومة التونسية من شأنه أن يعرقل تطور الشئون العامة وسيرها، ويسيء إلى الصداقة بين تونس وفرنسا.
وفي الميدان التشريعي فإن إنشاء مجلس نيابي تونسي يضع القوانين ويراقب تصرفات الحكومة وسياستها العامة سيكون خطوة هامة في طريق الديمقراطية، على أن يكون - مدة الفترة الانتقالية - حق إعداد مشاريع القوانين مقصورا على السلطة التنفيذية مع تمتع أعضاء هذا المجلس بحق إدخال تعديلات عليها.
أما في الميدان الإداري فإنه - مع ضمان الحالة التي اكتسبها الموظفون الفرنسيون الذين هم في خدمة الدولة التونسية - يتحتم وضع نظام للوظيفة التونسية يتلاءم مع الوضع الجديد، على أن تتعهد الحكومة التونسية من جهة أخرى، بألا تتعاقد إلا مع الفرنسيين فيما يتعلق بالأخصائيين اللازمين للبلاد التونسية وبواسطة الحكومة الفرنسية.
ولم تقتصر الوزارة التونسية على إعطاء تلك الامتيازات للموظفين الفرنسيين، بل أعربت عن نواياها الحسنة نحو الجالية الفرنسية كلها التي كانت دوما تعرقل المفاوضات حتى أصبحت أعظم مشكلة في نظر فرنسا في سبيل حل القضية التونسية حلا عادلا يماشي القانون والتعهدات الفرنسية والمعاهدات نفسها ... فإرضاء لها وحسما لما يمكن أن تكونه من شغب أرادت الوزارة التونسية أن تعطيها الضمانات الكافية الكافلة لها ولحقوقها، بل سارت خطوة أوسع إذ عرضت على فرنسا عقد معاهدة صداقة جديدة فقالت: «وبعد أن تسترجع تونس سيادتها الداخلية، فإنه لا يكون لديها أي مانع من أن تعقد مع فرنسا اتفاقات للمحافظة على أمتن العلاقات بين البلدين في الميادين الثقافية والاقتصادية والاستراتيجية، كما تضمن للفرنسيين المقيمين بتونس التمتع بكامل حقوقهم المدنية وسلامة أملاكهم وأشخاصهم.»
ومرت الأيام والأسابيع والأشهر والوزارة التونسية مقيمة بباريس تنتظر رد الحكومة الفرنسية على مذكرتها، والمفاوضات معطلة، والاتصال قليل، وحامت الريب وقلق شعب تونس، وفرنسا معرضة عن كل جواب كأنها لم تتعهد بشيء لتونس، ولم تقم وزنا للأزمة التونسية، وأصبح سكوتها رفضا واضحا لمطالب تونس وتغافلا عن إرجاع حقوقها لها، وربحا للوقت ونذيرا بما يبيت الاستعمار من مؤامرات جديدة. ولما تيقن دولة محمد شنيق من أن وراء المماطلة سوء النية وخلف الصمت المفتعل نكثا للوعود الفرنسية الرسمية، أراد أن يطلع الرأي العام العالمي على موقف كل من فرنسا وتونس وأن يضع المسئولية في أعناق أصحابها فألقى بيانا في ندوة صحفية جمعها بتاريخ 12 ديسمبر 1951، واستعرض في بيانه الأطوار التي مرت بها المفاوضات كلها ثم قال: «الحكومة التونسية لزمت لحد الآن الصمت التام لكي لا تعرقل سير المحادثات.
أما الآن فإنا نرى أن الوقت قد حان لإثارة الرأي العام العالمي عن المفاوضات التي تقوم بها في باريس، وعن المسئوليات التي قد تترتب عن المأزق الذي نخشى أن تنتهي إليه العلاقات التونسية الفرنسية ...
وإذا اعتبرنا أنه في ظرف السنوات الخمس الأخيرة حصلت دول جديدة تقدر بأكثر من نصف مليار نسمة على استقلالها ومن بينها الهند والباكستان وإندونيسيا علاوة على سوريا ولبنان وجارتنا ليبيا، وجب الاعتراف بأن المطالب التونسية معتدلة غاية الاعتدال.
كما أنه من البديهي أنه مهما تكن الحجج التي يتذرع بها أنصار بقاء الحالة الراهنة، فإن أية صورة من صور الحكم لا يمكن إقرارها رغم إرادة الشعوب، وليس من المغالاة في شيء بعد سبعين سنة من محاولة جس النبض أن نطالب فرنسا مهد الحريات بسياسة حرة صريحة تجاه شعب بلغ من التطور درجة لا تقل عما بلغته شعوب أخرى تتمتع اليوم بكامل سيادتها.
ومهما تكن الظروف فإن تونس لن تتخلى عن المطالبة بحقوقها، وعن الاعتصام بالضمانات التي يخولها لها الضمير العالمي والحقوق البشرية.»
وكانت في تلك الأثناء قضية مراكش تعرض على الجلسة العامة للأمم المتحدة المجتمعة إذ ذاك بباريس، وكانت فرنسا تنتظر قرارها بفارغ صبر وعلى أحر من الجمر، فلما رفضت هيئة الأمم أن تنظر أصلا في القضية المراكشية فضلا عن أن تنصف الشعب الشقيق، اطمأنت إذ ذاك الحكومة الفرنسية وتشجعت على إظهار ما أخفت من نوايا، ومالت مع المستعمرين المتطرفين كل الميل، وجارتهم في جمودهم وأطماعهم وشرهم، وأرادت أن تحتفظ لهم بامتيازاتهم المجحفة، وأن تعطي لاعتداءاتهم على السيادة التونسية صبغة قانونية، وقام أنصار الاستعمار المتطرفون من أعضاء الحكومة الفرنسية - أمثال موريس شومان - بتحرير الرد الفرنسي على مذكرة الحكومة التونسية وسلموه إليها بتاريخ 15 / 12 / 1951.
وتناسوا عند كتابته ما غنمته فرنسا من تونس سواء في الميدان الاقتصادي والمالي أو في الميدان الحربي والدفاع عن فرنسا نفسها، وأعادوا حجج المستعمرين التي يستندون إليها لسلب حرية الشعوب واغتصاب سيادتها واستثمار خيراتها إذ قالوا:
ومع البحث في الإمكانيات لتوجيه تطور الحماية في الاتجاه الذي يرجوه جلالة الباي، فإن الحكومة قد تعجبت لأول وهلة من إهمال الإشارة إلى ما أنجزته فرنسا في الحاضر والماضي من أعمال في تونس، وتعتقد فرنسا أنه يحق لها أن تفخر بالتقدم المحدث خلال سبعين سنة بفضل المساعدة الحكيمة التي قدمها رؤساء الأسرة الحسينية في بلد أنشأت فيه فرنسا الإدارة ونظمت العدالة والتعليم وحققت التقدم الاقتصادي والاجتماعي. وهذا التطور وحده هو الذي أمكن بفضله مواجهة زيادة عدد السكان الذي تضاعف ثلاث مرات منذ انتصاب الحماية.
إن هذا العمل قد تواصل في السنين الأخيرة بسرعة متزايدة، وكما تعلم الحكومة فإنه بفضل مساعدة مباشرة من فرنسا أمكن تمويل كامل الميزانية الإضافية التونسية تقريبا أي ثلث مصروفات الميزانية.
وهكذا فإن فرنسا تقوم بإنجاز برنامج واسع لتجهيز البلاد، والذي لا يمكن لتونس بدونه أن تساير أحوال تطور الاقتصاد العالمي الذي بلغ عنفوانه، والإنجازات التي تمت مثل سدود نهر «مجردة» والتي سيكون لها تأثيرها في التقدم بمشروعات الري، وكذلك أهمية المخصصات المقررة للتقدم الزراعي ونشر التعليم وحماية الصحة العامة تشهد بعظمة الجهود التي تبذلها الدولة الحامية.
ولم تذكر الحكومة الفرنسية ما تدعيه من فضل على تونس لمجرد التبجح والمن، بل قصدت أن تتخذ ما قامت به من أعمال كمبرر لها في إبقاء استعمارها، فأوضحت في الحقيقة نواياها الخفية في أن تبقى تونس تحت سيطرتها المباشرة، «إن الحكومة الفرنسية إذ تشعر بأنها تقوم برسالة مطابقة لمعاهدة الحماية في أسمى أهدافها، لا تنوي التخلي في المستقبل عن عملها الذي ترجع فائدته لمجموع سكان المملكة التونسية»، وتعني بالضبط لفائدة جاليتها الفرنسية فقط، وقد طالبت بمنح تلك الجالية الأجنبية حقوقا لا يمكن بحال أن يتمتع بمثلها الأجانب في أي بلاد كانت ولا يخولها القانون إلا للمواطنين وحدهم، لا يشاركهم فيها مشارك، وما ذلك إلا خطوة حاسمة في تنفيذ الفكرة الاستعمارية الرامية إلى إلحاق تونس بفرنسا وإدماجها فيها، فقالت الحكومة الفرنسية في مذكرة 15 / 12 / 1951: «وقد قام الفرنسيون المقيمون بتونس في هذا العمل التعديني بدور رئيسي لا يمكن أن يخطر على بال أحد نكرانه، وإن اشتراكهم بعملهم ونشاطهم في الحياة الاقتصادية بهذه البلاد، وأهمية مساهمتهم في تمويل ميزانية الدولة التونسية لا تسمح بإقصائهم عن المشاركة في تسيير شئون البلاد السياسية.
إن الحكومة الفرنسية متمسكة شديد التمسك بهذا المبدأ؛ لأنه في نظرها هو وحده الكفيل بأن يضمن - بفضل مشاركة منتجة بين الفرنسيين والتونسيين - نمو المؤسسات السياسية
4
نموا منسجما.»
فكيف اكتسبت الجالية الفرنسية حقوقا سياسية بتونس؟ يجيب الاستعمار الفرنسي بمنطقه العجيب أن استحواذهم على خيرات البلاد وكنوزها واغتصاب السلطات من يد التونسيين جعلهم أصحاب الحق في البلاد، وقد ذهبت فرنسا إلى أبعد من هذا فأوضحت نواياها وضوحا لا يبقي مجالا للشك والتساؤل عندما جزمت جزما بأن تونس مرتبطة بفرنسا ارتباطا أبديا لا نهاية له ولا حد لمدته، كأن تونس قطعة من فرنسا نفسها وهذه هي عبارات الحكومة الفرنسية: «ويجدر أن تبقى هذه الاعتبارات ماثلة في الأذهان عند دراسة العلاقات المقبلة بين بلادينا؛ لأنها لا يمكن أن تكون قائمة إلا على التسليم بأن الرابطة بينهما رابطة نهائية.»
ثم إن الحكومة الفرنسية اشترطت شروطا وطالبت بإنجازها حالا وخاصة فيما يتعلق بتحقيق مشروع البلديات بمشاركة الجالية الفرنسية فيها والبقاء على المجلس الكبير؛ لأنه يحتوي على تمثيل الجالية الفرنسية فيه، وبعد ذلك كله قد تقرر فرنسا استئناف المفاوضات، وقد تقرر وقفها، حسبما تراه صالحا، بل قررت الحكومة الفرنسية وحدها من غير أن تلتفت لرأي الوزارة التونسية ولا رأي الشعب التونسي تكوين لجنة مختلطة للنظر في الإصلاحات التي ينبغي إدخالها على المؤسسات السياسية التونسية:
على ضوء هذه التحفظات ومع مراعاة الاعتبارات العامة المبينة أعلاه أتشرف بأن أحيط جنابكم علما أن الحكومة الفرنسية أعطت التعليمات لممثلها بتونس ليؤلف ابتداء من شهر يناير المقبل لجنة مختلطة فرنسية تونسية لدراسة الترتيبات الخاصة بالجهاز النيابي الذي قد ينشأ لتعويض المجلس الكبير للمملكة التونسية، على أن تقدم نتيجة أعمالها في أجل محدود.
ورفضت هكذا الحكومة الفرنسية كل مفاهمة مع الحكومة التونسية وأعلنت أنها أناطت مهمة التفاوض إلى لجنة مختلطة يعينها ممثلها بتونس تعيينا، وقطعت المفاوضة بين تونس وفرنسا بعد أن رفضت تحقيق ما تعهدت به من استقلال داخلي، وقد استحال فيما بعد على الحكومة الفرنسية وعلى ممثليها بتونس تكوين تلك اللجنة؛ لأن التونسيين جميعا أبوا أن يخونوا وطنهم وأن يشاركوا فيها؛ لأن مبدأها نفسه ينقض ما وعدت به فرنسا.
وتولت الحكومة التونسية الرد على المذكرة الفرنسية (15 / 12 / 1951) التي تعتبر مثالا للاعتداء الاستعماري ومخالفة للمعاهدات ونكث العهود، وفندت ما جاء فيها بندا بندا بحجج ثابتة واضحة.
رد الحكومة التونسية على رسالة وزير خارجية فرنسا بتاريخ 15 / 12 / 1953
إنني بمجرد عودتي إلى تونس لم أتوان عن إطلاع مولاي المعظم صاحب الجلالة سيدنا محمد الأمين باشا باي عن نتيجة المهمة التي تشرفت بأدائها لدى الحكومة الفرنسية بمشاركة زملائي أصحاب المعالي صالح بن يوسف ومحمد بدرة ومحمد سعد الله.
وأن مضمون مكتوبكم المؤرخ في 15 ديسمبر الماضي والموضح لموقف الحكومة الفرنسية عن القضية التونسية قد استرعى اهتمام صاحب الجلالة السامي بصورة خاصة.
وها أنا أوافيكم بجواب حكومة ملك تونس على لسان جلالته وباتفاق تام مع كافة زملائي الوزراء.
إن وجهة نظركم المبينة في رسالتكم بكامل الوضوح ترتكز خاصة على الحقوق التي تتمسك بها فرنسا لنفسها ولرعاياها المقيمين بالمملكة التونسية نظير أعمالها مدة سبعين سنة منذ قيام الحماية.
ومما يثير الدهشة أن تستغل تلك الأعمال التي لم يدر بخلد أحد نكرانها لترجيح كفة النقاش الذي تغلب عليه الصبغة القانونية أكثر من السياسة، على أن أعمال فرنسا التي لا يسمح المجال بالخوض في أغراضها ومراميها لا تبرر بأي حال من الأحوال بقاء شعب كامل تحت القيد، فضلا عن عرقلة أمانيه المشروعة.
إن لفرنسا مصالح بتونس والحكومة التونسية المعبرة عن رأي صاحب الجلالة ورعاياه لم تتردد في تقدير تلك المصالح، بل عرضت صورا لضمانها ما أكدته مذكرة 31 أكتوبر سنة 1951، كما أعربت الحكومة التونسية عن استعدادها لضمان مصالح الفرنسيين المقيمين بتونس وإن كانت لا تتفق حتما مع مصالح فرنسا، كما عبر عن ذلك في وضوح أحد كبار وزراء الجمهورية الثالثة، ومهما تكن المصالح المذكورة مرعية لا يمكن لها أن تأخذ صبغة حقوق سياسية، تبيح للفرنسيين المشاركة في الحكم والتمثيل النيابي.
ولسنا في حاجة للإشارة إلى ما في ذلك من غموض وخطأ يؤديان إلى العبث بالمعاهدات والاتفاقات المبرمة بين البلدين وإلى نكران المبادئ المعترف بها في القانون الدولي في ميدان المساعدة بين الدول.
فإن مشاركة الفرنسيين في المنظمات السياسية لبلادنا ينطوي على إقرار لمبدأ السيادة المشتركة المنافي للقانون، وعلى إقرار للأخطاء الناشئة عن الحكم المباشر الذي يتعارض مع الدستور الفرنسي نفسه، ومع تصريحاتكم في مجلس الجمهورية الفرنسية وفي هيئة الأمم المتحدة بصدد قضية مراكش، وأن مبدأ المشاركة في السيادة لو اعترف به لأجاز لرعايا كل دولة تتعاون مع دولة أخرى في الشئون المالية والفنية والثقافية أن يشاركوا في الحكم والتمثيل النيابي بها.
أما فيما يتعلق بالمساعدة المالية الفرنسية بوجه خاص، فمن الإنصاف أن نذكر أنها قروض تلتزم البلاد التونسية بسدادها مع فوائدها، وهي مسجلة بميزانية الدولة في صورة دفعات سنوية بعنوان: «الدين التونسي».
ولئن كانت فوائد هذه القروض لا تنكر وتستفيد منها البلاد وسكانها بصفة عامة، إلا أن الفائدة الكبرى تعود على الشركات المحتكرة لغالب ثروة البلاد الطبيعية ولوسائل النقل والمرافق العامة التي يكاد العنصر التونسي يكون مفقودا منها.
وإنه لمن المؤلم حقا أن نسمع ترديد نغم فرنسا بينما نرى في الوقت نفسه الصمت عن مساهمة الشعب التونسي في المحن التاريخية التي أصابت فرنسا، فهل نسيت بعد التضحيات في الأنفس خلال حربين عالميتين وأثناء جميع العمليات الحربية الفرنسية في أفريقيا وآسيا، وتلك المساعدات التي قدمتها البلاد التونسية لفرنسا من تموين وأيد عاملة، وتلك الكوارث والآلام والأحزان التي حلت بالبلاد التونسية من جراء الحرب التي استمرت مدة ستة شهور على أرضها، أفهل تبقى بلادنا بالرغم من كل ذلك مدينة لفرنسا إلى الأبد؟
وإني أستبعد أن يكون لكم ولرجالات الدولة الفرنسية مثل هذا الرأي؛ إذ إن القضية التونسية لجديرة بأن تبحث بحثا يرتفع بها عن حضيض المناقشات في الأرقام والموازنات.
ومن جهة أخرى فإن الحكومة التونسية تعرب عن تحفظاتها بالنسبة للقواعد التي وضعها كتابكم المؤرخ في 15 ديسمبر 1951، فقد كان يرمي إلى اعتبار التعديلات التي أدخلتها الأوامر العالية بتاريخ 8 فبراير 1951 على نظام السلطة التنفيذية والوظائف العامة تعديلات نهائية، ويثير موضوع تحقيق مشروع إصلاح نظام البلديات وفي الواقع أن التعديلات المشار إليها تعديلات شكلية أكثر منها أساسية، ووصفها بأنها نهائية ليس له أدنى مبرر؛ بدليل أن ممثل الحكومة الفرنسية لم يتردد في الاعتراف في كتاب رسمي بتاريخ 19 مايو 1951 بأن «هذه الإصلاحات لم تكن لها أي صبغة نهائية، بل هي مرحلة نحو إقامة الحكم الذاتي بالمملكة التونسية.»
يستنتج من رسالتكم أن سياسة المراحل - تلك السياسة التي تعتمد حسب تعبير المقيم العام في خطابه بتاريخ 13 يونيو 1950 على مبدأ تعزيز شخصية الحكومة التونسية وتنمية وسائل أعمالها لتصبح أداة صالحة لرقي المؤسسات التونسية - قد وقع العدول عنها لفائدة البحث عن إصلاح نظام البلديات، بينما يعتبر صاحب الجلالة وحكومته أن النظام البلدي غير ثانوي، بل هو جزء لا يتجزأ من جوهر النظام النيابي بالمملكة التونسية.
فعندما تقدم الحكومة الفرنسية هذا الإصلاح كوسيلة أولية ضرورية لتنمية الديمقراطية التونسية، تصرح الحكومة الفرنسية بغاية الارتياح أن القاعدة الأساسية لكل ديمقراطية هي أولا وبالذات «السيادة الموحدة» فبدون وحدة السيادة التي يجب الاعتراف بها قبل فتح أية مباحثة تصبح الديمقراطية التونسية صورة مشوهة للديمقراطية الحقة. ويصبح الوضع الذي تتمثل فيه هذه الديمقراطية وهما وغرورا.
وعندما تؤكد الحكومة التونسية مبدأ وحدة السيادة، فإنما تعبر بكل صدق عن إرادة مولاي المعظم التي أعرب عنها بوضوح في خطاب 15 مايو 1951 والتي تقضي بالسير بالنظام الملكي التونسي نحو نظام ملكي دستوري يتمشى والطموح القومي من جهة، ومع المعاهدات في «أسمى وضع معانيها» من جهة أخرى.
بيد أن خطابكم بتاريخ 15 ديسمبر 1951 أهمل هذه الناحية الأساسية للمسألة التونسية فأدى إلى نكث ما تعهدت به فرنسا من يوم 12 مايو 1881 إلى 17 أغسطس سنة 1950، وذلك لتمسككم الصريح بمبدأ مشاركة الفرنسيين في تسيير أنظمة الحكم في المملكة التونسية.
إن حكومة صاحب الجلالة تشعر بأنها أظهرت غاية المجاملة والتسامح أثناء قيامها بمهمتها الشاقة في المفاوضات، ولا يسعها إلا أن تأسف للإحجام الذي منيت به الحلول الرشيدة المقدمة من الجانب التونسي منذ عام ونصف تقريبا.
ومما لا ريب فيه أن موقف حكومة الجمهورية الفرنسية وإن لقي كامل الرضى والاستحسان من قبل الجالية الفرنسية في تونس التي تعارض أشد المعارضة التطورات الضرورية، قد أدخل على جميع التونسيين مع الأسف شديد الحيرة والأسى.
وإني وزملائي لما لنا من الشعور السامي بمسئوليتنا نحتفظ لأنفسنا تجاه هذه الحالة بحق استخلاص جميع العبر والنتائج لانتهاج الطرق التي تقتضيها المصالح العليا التي هي في عهدتنا.
إمضاء
محمد شنيق
رئيس الوزارة التونسية
ولما بلغ الرد الفرنسي إلى الشعب التونسي عم الغضب والاستياء واهتز الرأي العام اهتزازا لما فيه من مخالفة للوعود الرسمية، ونكث للعهود وخرق للمعاهدات، وتحد لعواطف شعب كامل واعتداء مفضوح على سيادته وكيانه.
واجتمعت المنظمات القومية كلها وأرسلت برقية احتجاج إلى كل من رئيس الجمهورية الفرنسية «فنسان أوريول» ورئيس الوزارة «بليفن» ووزير الخارجية «روبير شومان» قالت فيها: لقد اختارت الحكومة الفرنسية مساعدة أقلية من أصحاب الامتيازات المتشبثين بفكرة الاستعمار البائدة على احترام ما تمليه المعاهدات من واجبات في إرضاء رغائب الشعب الشرعية.
وإن المنظمات القومية
5
لتجزم من جديد عزم الشعب التونسي على رفض كل سياسة ترمي إلى تدخل جالية أجنبية - بأية صورة من الصور - في الشئون التونسية.
وتتعهد بالالتجاء إلى كل سبيل يمكنها منه القانون الدولي والمحافل الأممية حتى تتخلص في أقرب وقت ممكن من نظام ينافي حق الشعوب في التحكم في مصيرها واختيار نظام الحكم الذي ترتضيه لنفسها.
ولم تكتف تلك المنظمات بالاحتجاج، بل رأت ضرورة القيام بعمل واسع النطاق لعل الحكومة الفرنسية ترجع إلى رشدها، وتبر بوعودها فقررت الإضراب العام لمدة ثلاثة أيام (21 و22 و23 ديسمبر 1951) كإنذار أول للاستعمار الفرنسي، وبينت دواعي ذلك القرار في الصحافة. «إن جواب الحكومة الفرنسية يعتبر رفضا صريحا لجميع المطالب التونسية، وإن في موقفها نقضا للمعاهدات المحددة للعلاقات بين تونس وفرنسا؛ لأنها جزمت لأول مرة بصفة رسمية مبدأ السيادة المزدوجة وأعلنت مبدأ تفوق مصالح جالية أجنبية على المصالح الوطنية لشعب بأسره.»
وكان الإضراب عاما شاملا كاملا في الأيام الثلاثة في جميع القطر التونسي.
وإن الحكومة الفرنسية تحمل وحدها مسئولية قطع المفاوضات بتلك الطريقة المخجلة؛ إذ إنها أعلنت مناصرتها لآراء جاليتها وأكدت بوجوب المحافظة على امتيازاتها الفاحشة، وقد علق «ميتران» وزير الدولة الفرنسي في جريدة «لوكورييى دي لانيافر» قائلا: «يحسب بعض الفرنسيين حسابا خطيرا عندما يحاولون احتكار جميع ما قامت به فرنسا لمصلحتهم وحدهم، فيظهرون القلق أمام كل ما يمكن أن يبدد سيطرتهم؛ لأنهم يملكون أكثر وسائل الإنتاج.»
وقد كان جواب الحكومة الفرنسية فاتحة عهد كله اضطرابات واعتداءات متوالية وتخريب وتنكيل ودمار وعذاب ودموع ودماء، وقد أوعزت جريدة «ليموند» الفرنسية تلك الحوادث المؤلمة إلى عدم تروي الحكومة الفرنسية، وأرجعتها لسببها الأول وهو رد 15 / 12 / 1952: «كان في الإمكان تجنب الحوادث لو ضبطنا - من غير سوء نية - جميع المراحل الواجب قطعها عندما قررنا سياسة تحرير تونس.
وكان في الإمكان التكهن بأن المعاهدات لا تسمح لنا بالاحتفاظ بالإدارة المباشرة في تلك البلاد، وأن التونسيين لن يقنعوا بالكلم الطيب وحده، وأن قوتنا الحقيقية في أن نبر بوعودنا ونحقق الصداقة الفرنسية التونسية.
إن إبعاد بورقيبة والاتجاه إلى الأمم المتحدة - والأمران مرتبطان - نتيجة مباشرة لرسالة 15 ديسمبر الحمقاء، ومن الواضح الجلي أن محور تلك الوثيقة أراد مجاملة أنصار التجمع الفرنسي للجالية الفرنسية بتونس، وضرب الوزراء التونسيين، وكان ذلك خاتمة حملة طويلة قام بها نواب الموظفين الفرنسيين الصغار والمعمرين لإفساد ما قررته الحكومة الفرنسية من سياسة التحرير على مراحل.»
وقد لخص زعيم تونس الحبيب بورقيبة في منفاه للصحفيين الحالة، ونشرت جريدة الفيجارو الفرنسية تصريحه بتاريخ 22 / 1 / 1952 قال: «يجب على الحكومة الفرنسية أن تعترف بأن التونسيين قد بلغوا رشدهم وأنه من حقهم أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم.»
وإن رفض فرنسا لجميع مطالبنا لم يبق مجالا إلا لأحد الحلين؛ إما مقابلة القوة بالقوة، وإما رفع الخلاف إلى الأمم المتحدة.
ولم تلجأ تونس إلى استخدام القوة؛ إذ ليس لها جيش وليس لها سلاح وليس لها قوة غير قوة الشعب المتكتل وقوة الحق والعدالة، فرفعت قضيتها إلى هيئة الأمم المتحدة لتكون حكما بينها وبين فرنسا، بعدما انقلبت الحماية عدوانا والرعاية اغتصابا، وظهر جليا أن الحكومة الفرنسية بجوابها 15 / 12 / 1951 لا تضمر إلا الشر المبيت لتونس، وقد صمت آذانها عن كل مفاهمة ومدت يدها إلى السيادة التونسية، تريد القضاء عليها، وقالت كلمتها النهائية التي تتحدى فيها الرأي العام العالمي والمواثيق الدولية متمسكة بمبادئ الماضي المظلم من أن من حق القوي المسلح الفتك بالضعيف الأعزل وإخضاعه وسلبه حقوقه، فلم يبق أمام الحكومة التونسية إلا أن قررت رفع الخلاف بين الدولة الفرنسية والدولة التونسية إلى هيئة الأمم المتحدة، فسافرت من تونس بعثة وزارية مؤلفة من الأستاذين صالح بن يوسف وزير العدل، ومحمد بدرة وزير الشئون الاجتماعية، وقدما بتاريخ 14 / 1 / 1952 عريضة إلى الأمانة العامة لهيئة الأمم، وهذا نصها، وهي غنية عن كل تعليق:
نص الشكوى التي قدمتها تونس لمجلس الأمن 14 / 1 / 1952
حضرة رئيس مجلس الأمن
أتشرف بأن أرغب إليكم أن تتفضلوا برفع شكوى الحكومة التونسية بشأن الخلاف القائم بينها وبين الحكومة الفرنسية.
فقد وقع كل من الدولة الفرنسية والدولة التونسية (بتاريخ 12 مايو 1881) على معاهدة صداقة وحسن جوار: «سمحت الدولة التونسية حسب بنودها للحكومة الفرنسية بأن تحتل مؤقتا بعض المراكز من التراب التونسي.
وقد أبقت تلك المعاهدة لسمو الباي التمتع التام والممارسة الكاملة للسيادة الداخلية.
وتوصلت السلطات الفرنسية بتونس إلى إقامة نفسها مقام السلطات التونسية في ممارسة تلك السيادة، وأحدثت هكذا نظام الحكم الفرنسي المباشر.
فكانت النتيجة حالة قلق دائمة وأزمة تزداد اشتدادا يوما فيوما في العلاقات الفرنسية التونسية.
وتفاديا لتلك الحالة وإرجاع العلاقات بين البلدين إلى مجراها الطبيعي، تعهدت الحكومة الفرنسية تعهدا باتا على التنازل على الحكم الفرنسي المباشر بتونس، وعلى تمكين تونس من إدخال التطورات اللازمة على مؤسساتها السياسية إلى أن تحقق استقلالها الداخلي.
واعتمادا على هذه التعهدات أسند إلى سمو الباي (في شهر أغسطس 1950) مهمة «تشكيل وزارة تفاوضية غايتها السير بتونس نحو استقلالها الداخلي.»
وأعلن سمو الباي في 15 مايو 1951 عن إرادته في تمثيل شعبنا في تشكيلات منتخبة وتحديد اختصاصات هاته التشكيلات، وعهد إلى الوزراء لاتخاذ أصلح التدابير لإعداد النصوص اللازمة لذلك.»
وإن الصعوبات الناتجة عن عدم تنفيذ التعهدات التي بذلت قد حالت بين الوزارة التونسية وبين القيام بالمهمة التي أنيطت بعهدتها، فانتقلت الوزارة التونسية إلى باريس لمحادثة الحكومة الفرنسية في ضرورة تحقيق تعهداتها.
وعرضت الحكومة التونسية في مذكرة بتاريخ 31 أكتوبر 1951 شروط تحقيق الاستقلال الداخلي الذي وعدت به فرنسا، وهي تتلخص في إحداث حكومة تونسية بحتة وهيئة تمثيلية تونسية منتخبة انتخابا حرا مهمتها سن القوانين، وذلك كله حسب إرادة سمو الباي الصريحة في خطابه.
وقد أجابت الحكومة الفرنسية بالرفض في مذكرة بتاريخ 15 ديسمبر 1951 عن المذكرة التي قدمت لها في 31 أكتوبر بعد مفاوضات طويلة مملة.
وأكدت الحكومة الفرنسية في جوابها ضرورة «مشاركة فرنسيي تونس - وهي جالية أجنبية - في تسيير المؤسسات السياسية بتونس»، وأن ذلك الموقف المخالف للقانون يناقض مناقضة جلية ما جاء في معاهدة 12 مايو 1881 المذكورة أعلاه.
ومن ناحية أخرى اعتدت الحكومة الفرنسية على مبدأ وحدة السيادة بتونس بمعارضتها تأسيس مجلس سياسي تونسي بحت.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الحكومة الفرنسية عندما اعتبرت الروابط بين فرنسا وتونس أبدية خرقت بنود معاهدة 12 مايو 1881 التي أكدت تأكيدا رسميا على صفتها الوقتية (البند الثاني).
اعتمادا على تلك العبارات وعلى ما أظهرته فرنسا من إرادة في عرقلة إحداث ديمقراطية حقيقية في المملكة التونسية، ترى الحكومة التونسية تلك الحالة تكون خلافا بين الدولة الفرنسية والدولة التونسية وقد استحال حسم ذلك الخلاف بالاتصالات المباشرة والمفاوضة.
إن موقف الحكومة الفرنسية يجعل أسس العلاقات الفرنسية التونسية محل نظر، وأن تماديها في التمسك بسياسة الحكم المباشر في دولة لم تتنازل أبدا عن سيادتها ومعارضتها لإصلاحات جوهرية ديمقراطية من شأنها إفساد إنماء ما بين الأمم من علاقات ودية مقامة على احترام مبدأ المساواة في الحقوق بين الشعوب وحقهم في الحكم في مصيرهم (البند1، ب2 من ميثاق هيئة الأمم).
فمن حق الحكومة التونسية - استنادا إلى الفقرة الثانية من الفصل 35 من ميثاق هيئة الأمم المتحدة وعلى استعدادها لتحمل ما ينتج عنه من التزامات - أن تنهي لمجلس الأمن الخلاف الناشئ بين الدولة التونسية والدولة الفرنسية لكي يجد لذلك الخلاف حلا عادلا ولكي يسهر على حسمه بأنجع الطرق التي تضمن العلاقات الحسنة بين الأمم.
وترغب منكم الحكومة التونسية، اعتمادا على الفصل 32 أن تتفضلوا بالسماح لها بالمشاركة في المناقشة الخاصة بذلك الخلاف.
وتفضلوا حضرة الرئيس بقبول احتراماتي.
رئيس مجلس وزراء الحكومة التونسية
14 / 1 / 1952
وقد أفادت الحكومة الفرنسية قضية تونس من حيث أرادت الإساءة إليها؛ إذ أصبحت قضية عالمية لها أنصارها في جميع أنحاء المعمورة وفي هيئة الأمم على الخصوص، وعبدت الطريق لاستقلال تونس؛ إذ خرجت مشكلتها من النطاق الفرنسي البحت إلى النطاق الدولي، فأصبحت تتطلب حلا دوليا حاسما لا بد أن تنتهي إليه ولو بعد حين، وأن الحكومة الفرنسية بعملها المشين في نكث العهود جرت فرنسا إلى الفضيحة أمام العالم، وأفسدت شهرتها، وشوهت سمعتها، ووضعتها على كرسي الاتهام؛ لما ارتكبته من عدوان على تونس، وما اقترفه جنودها من فظائع في قطر كان يجب أن تحميه.
العدوان الفرنسي المسلح
كانت الحالة بتونس في الأشهر الأخيرة من سنة 1951 متأزمة جدا والجو ملبد والغضب سائد، ولكنه غضب مكظوم، وكل من زار البلاد من الأجانب في تلك الفترة شعر بعدم الاستقرار، وكتب أحد الصحفيين الإيطاليين
1
يقول: «الانقسام ظاهر كلي بين الفرنسيين والتونسيين الذين يسعون لإخضاعهم ولإشعارهم أن البلاد تونسية، إن العرب قد تطوروا بتونس وفهموا أن المستقبل لهم لا محالة، فأصبحت الإصلاحات والوعود وبعض الترضيات الشخصية لا تقنعهم.» وكتب آخر
2
يقول بعده بأيام: «بعد تحويرات 8 مارس 1951 لم تتقدم تونس نحو الحكم الذاتي، ولا نحو الاستقلال الداخلي، بل نحو الشلل الذي اعترى الحكومة؛ لأن مديري الإدارات من الفرنسيين يعرقلون كل شيء.
يمكن التعريف بتونس هكذا: قطر غني وسكان فقراء؛ لأن الخيرات والثروات كلها بأيدي الجالية الفرنسية.»
لم تتفطن حكومة فرنسا ولم ترد أن تتفطن إلى تقدم تونس، وإلى عزمها على نيل حقوقها، واستعدادها للتضحية في سبيل أهدافها الوطنية، فلم تسع لمعرفة الحالة بالضبط، بل تهاونت وتبعت أسهل الحلول وهي حلول القوة؛ لأن الجالية الفرنسية كانت سدا منيعا بينها وبين الحقيقة، ولكن الأجانب الذين عرفوا تونس معرفة دقيقة تنبئوا بالحوادث قبل وقوعها وبحثوا أسبابها، وقال الكاتب
Santa Maria :
3 «فإن كانت تلك التحويرات لا تحتمل بالنسبة للمستعمرين الفرنسيين الذين يريدون المحافظة على السلطان المطلق الكامل والامتيازات، فإنها لا تذكر بالنسبة للوطنيين التونسيين الذين يرون بأعينهم خيرات بلادهم تجر جرا إلى الفرنسيين وتملأ جيوبهم، وكنوز تونس تستثمر كلها لفائدة جالية أجنبية، وهم بأنفسهم يستخدمون كآلات مسخرة لها، حتى أصبحوا يعتقدون أن تحسين حالهم والوصول إلى حياة البشر الحقيقية معلق على نيل الاستقلال التام.
وإن الثورة المنتظرة لم تمل بفرنسا إلى اتباع سياسة تسير بالبلاد والعباد نحو تحسين حالة المعيشة والتطور نحو التقدم والرقي، ولكنها مالت كعادتها إلى أعمال الغالب المحتل لبلاد غيره المسيطر عليه بقوة الحديد والنار الذي لا يعرف إلا الاضطهاد والقمع.»
وقد ظهر خطر تلك السياسة الفرنسية على دول البحر الأبيض المتوسط كلها؛ لأنها لا تنتج إلا الاضطراب وعدم الاستقرار في مواقع استراتيجية حيوية بالنسبة لتلك الدول حتى قال كاتبهم:
4 «إن السياسة الاستعمارية تعزل عن الدنيا جميع الشواطئ الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط وأن تلك السيطرة القاهرة للشعوب لا تثمر إلا الريبة والشكوك، ثم الثورات المتتالية، وتكون عدم الاستقرار، وكأن القوات الأطلسية تعيش على بركان لا تدري متى ينفجر.»
كانت الأعصاب متوترة في تونس، والشعب مصمما على عدم الاستسلام للقوة وعدم الرضوخ لما تريد فرنسا له من محو ذاتيته وإدماج ترابه، وكان جو الانتظار خانقا رهيبا، والسكون السابق للعاصفة يخيم على البلاد، وإذا بفرنسا تتبع أحد مبادئها القديمة البالية التي كانت نجحت في القرون الماضية لاستنامة الشعوب المغلوبة على أمرها؛ لأن فرنسا كانت من أقوى دول العالم المتحكمة في مصيره، فأظهرت قوات عتيدة ونشرتها في البلاد بمناسبة قدوم المقيم العام «دي هوتكلوك» فدخل تونس يوم 13 / 1 / 1952 كالغازي المتهجم والغالب القاهر والعدو المنتصر معلنا هكذا عن نواياه ونوايا بلاده وإرادتها القمع والاعتداء المسلح، فوصل إلى ميناء تونس صباح ذلك اليوم على ظهر بارجة حربية مارسو
Marceau
وكان يصحبه منذ حل بالمياه التونسية بواخر حربية أخرى من بينها الطرادة إيلان
Elan ، وكانت الفرقة الخامسة الجوية المكونة من الطائرات الصاروخية من نوع فمبير
Vampires
تحلق فوقه وفوق مدينة تونس، وكان الجنود مصطفين على الرصيف وعلى طول الطريق المؤدية إلى قصر الملك بمدينة حمام الأنف، وبمجرد ما رست الباخرة بميناء تونس تعالت صفافير البواخر الراسية كلها، وبعد أن استعرض الجنود المصطفين ذهب لزيارة جلالة الملك بقصر حمام الأنف محفوفا بقوات الفرسان.
وحدثت يوم 14 / 1 / 1952 أكبر مفاجأة للمقيم الجديد والحكومة الفرنسية نفسها التي ظنت أن أعمالها بتونس لن تفضح وأن اعتداءها عليها سيبقى في الدائرة الفرنسية لا يتعداها، وإذا بالوزارة التونسية ترسل وزيرين من أعضائها هما الأستاذ صالح بن يوسف وزير العدل والأستاذ محمد بدرة وزير الشئون الاجتماعية، فيتقدمان في ذلك اليوم إلى هيئة الأمم المتحدة لتكون حكما في الخلاف بين تونس وفرنسا، ففقد الفرنسيون أعصابهم، وظهرت طبيعة «دي هوتكلوك» الهوجاء، فعبر لجلالة الملك «أثناء زيارته له يوم الثلاثاء 15 / 1 / 1952 عن عزمه على استخدام الشدة ضد حركة الدستور الجديد، وضغط عليه لإقالة وزارة محمد شنيق وإرجاع الوزراء من باريس وسحب الشكوى من هيئة الأمم، وقد استعمل في أثناء حديثه عبارات جافة لا تليق بالمقام.»
5
وسعت الحكومة الفرنسية وممثلها بتونس في أن تسقط الدعوى لدى هيئة الأمم المتحدة بجميع الوسائل، وقد ثارت ثائرة الحكومة الفرنسية والجالية الفرنسية بتونس، وعدوا ذلك العمل ماسا بناموس فرنسا وكرامتها؛ فكيف يتجاسر العبد المقهور والبلاد التي تعد ملكا لغيرها على رفع رأسها؟! وكيف يجرؤ الخادم على سيده؟! وتوالت التصريحات الرسمية وشبه الرسمية تحمل في طياتها التناقض والحيرة وتلجأ إلى الحجج السفسطائية فتقول تارة: «إن الدستور التونسي قد أبقى السلطات كلها بصفة قطعية في يد الباي، وما الحكومة التونسية إلا مجرد مؤسسة إدارية ... وإن سلمنا جدلا أن في إمكان تلك الحكومة أن تتخذ مثل ذلك القرار، فينبغي أن نلاحظ أنها لم تجتمع ولم تبحث تلك العريضة التي قدمت للأمم المتحدة، فكان ينبغي أن تحمل توقيع رئيس الدولة ثم تسلم إلى وزير خارجيته أي المقيم العام الذي له وحده الصفة التي تخوله التقدم بها إلى الأمم المتحدة.»
وعادت الحكومة الفرنسية إلى عادتها في التلاعب بالألفاظ لعلمها أن الوزارة التونسية غير مجلس الوزراء، وأنها مكونة من وزراء تونسيين فقط، وأنها هيئة سياسية قبل كل شيء، فلها الحق في أن تقوم بالأعمال السياسية، ولها الحق في أن تتكلم باسم تونس في الداخل والخارج، ومن ناحية أخرى كيف يعقل أن يقدم ممثل فرنسا شكوى ضد فرنسا، ولا يخطر إلا ببال الفرنسيين أن تقدم فرنسا دعوى على نفسها، ومعنى كلامهم الحقيقي هو أن ترجع تونس في جميع أمورها إلى الحكومة الفرنسية المعتدية عليها.
ونرى السلطات الفرنسية بتونس تدعي أنها تريد حماية شخص الباي من كل تهديد؛ ولكنها في الواقع هي وحدها التي تهدده؛ فتطوق قصره بقوات حربية هائلة لتجبره على الاستسلام وعلى طرد الوزارة التونسية التي ارتكبت ذنبا لا يغتفر في نظر فرنسا، ثم إن المقيم العام أوعز للصحف الفرنسية بتهديد جلالة الملك تهديدا مباشرا بالتلويح والتلميح أول الأمر ثم صراحة، ونقلت جريدة فرانس سوار
France soir
ذلك التهديد بتاريخ 18 / 1 / 1952 قالت: «ما زالت الأوساط الفرنسية الرسمية تؤمل في أن يجيب الباي طلب المقيم العام بروح تسودها الحكمة والاعتدال ... وأن العاصفة التي هبت الآن على العلاقات الفرنسية التونسية يمكن أن تجرف في أعاصيرها حتى أعلى الشخصيات منصبا.»
وأصبح ذلك التهديد بعد أيام أمرا واقعيا صريحا إذ اتصل المقيم العام مباشرة بولي العهد عز الدين باي ليهيئ خلع جلالة الملك محمد الأمين، لما رأى أن تهديده لم يأت بنتيجة، ولا يخفى ما في ذلك من خرق للمعاهدات؛ إذ تعهدت فرنسا بحماية شخص الباي.
ولم تكتف فرنسا بذلك العمل السياسي، بل شرعت يوم 14 يناير نفسه في القمع وابتدأت حالا في العنف؛ لترغم التونسيين على الخنوع والرضى بحالتهم الراهنة.
وكانت المحكمة الفرنسية قد قررت النظر يوم 14 يناير 1952 في القضية التي علقت بالسيد «عبد العزيز المسطوري» الأمين العام لجامعة المحاربين التونسيين القدماء، وفي الساعة التاسعة صباحا جلب الأخ المذكور من سجنه ليمثل أمام المحكمة حتى تحاسبه على نشاطه في ميدان تكتيل المجحودة حقوقهم ولم شتاتهم في منظمة تونسية تنتصف لهم وتسهر على مصالحهم؛ ما دام الإهمال قد خيم عليهم ولم يجدوا في المنظمة المختلطة اهتماما بشأنهم.
ولهذه المناسبة تجمهر أمام مدخل المحكمة عدد كبير من المحاربين القدماء جاءوا للإعراب عن تعلقهم بقائد حركتهم وإظهار عطفهم عليه.
وعرضت القضية على أنظار المحكمة، وتقدم للدفاع عن المتهم الأستاذ بالاغة، فقام بمرافعة قيمة كان لها رنينها، وقررت المحكمة تأجيل التصريح بالحكم إلى يوم 18 يناير سنة 1952.
وقد أبلغ هذه النتيجة إلى الجموع المحتشدة أحد رفقائهم ودعاهم للتفرق في هدوء وسكينة، في انتظار التاريخ المذكور، وبينما كان المحتشدون يتهيئون للتفرق إذا بعصى أعوان البوليس تعمل في ظهورهم وجنوبهم عملها ويهاجمون بدون سابق إنذار، فحصل تماوج في الصفوف واضطراب لم يلبث البوليس بعده أن أخذ في إطلاق الرصاص على أولئك العزل المسالمين، وتتابع ذلك الطلق ... وتتابع سقوط الجرحى حتى بلغ 9 تتفاوت جروحهم خطورة ... وبقي ثلاثة منهم بالمستشفى لإخراج الرصاصات التي سكنت أجسامهم في أماكن حساسة.
وقد علقت جريدة الصباح على هذا الحادث بتاريخ 25 / 1 / 1952 بهذه الكلمات:
وقد أثارت هذه الحادثة الدامية الفظيعة غضبا في أوساط الشعب التونسي عامة ورأت فيها بادرة استقبال طالع بها الجانب الاستعماري السفير الجديد ... وخير برهان يقدمه هذا الجانب من جهة أخرى لهيئة الأمم المتحدة التي اتصلت بالشكوى التونسية في نفس اليوم، على صدق هذه الشكوى وتدعيمها بصورة مما يعيش عليه التونسيون.
لقد قام الجانب الفرنسي بهذه المناورة الدامية رغم تحذيرنا له من ذلك المرار العديدة ... وتساءلنا؟ هل تكون الاضطرابات في هذا الظرف من صالحه؟ ولكنه فعل!
إن الشعب التونسي ليحتج على هذه الاضطهادات والإرهاق، ويستصرخ العالم ويشهده على سياسة الحديد والنار التي يساق بها إلى الفناء.
وقد بلغ حنق الشعب وحماسه أقصاه، ولكنه تحكم في أعصابه وأطاع أوامر حزبه في المحافظة على الهدوء والسكينة، وإذا بالسلطات الفرنسية تستفزه وتثير عواطفه، فقد قصدت جماعة من الدستوريات مدينة باجة يوم 15 يناير لتأسيس شعبة نسائية بها، وإذا بقوات البوليس تهاجم مقر الاجتماع، وتلقي القبض على الزائرات كلهن، وعددهن 29 سيدة، وعلى عدد من قادة الحركة الوطنية بتلك المدينة، واحترام المرأة عند المسلمين والعرب أمر مقدس، فلم يتحمل التونسيون ذلك العدوان ورأوا فيه إهانة وتحديا لعواطفهم الوطنية والدينية، فعم الهيجان والاضطراب مدينة باجة، ومن الغد (16 يناير 1952) على الساعة الثانية والنصف بعد الظهر سارت مظاهرة شعبية هائلة تطالب بإطلاق سراح المساجين الذين اعتقلوا بالأمس، وكانت تتقدم بهدوء وسكينة، ثم تفرقت تلبية لأوامر الحزب لكي لا تتصادم مع القوات الفرنسية، ولكن تلك القوات تتبعت أفرادها وأخذت تصيدهم صيدا وتعتدي عليهم، وإذا بالجماهير تنظم مظاهرة ثانية أكثر عددا وأضبط نظاما لتقدم عريضة احتجاج إلى العامل (مدير الجهة)، ولكن القوات المسلحة الفرنسية هاجمتها من غير سابق إنذار وصادمتها صدمة عنيفة وأرادت تشتيتها بالعنف، فرمتها أولا بالقنابل المسيلة للدموع، ثم أمطرتها وابلا من الرصاص، فكان الوطنيون الذين لم يعدوا العدة لخوض معركة دامية يتساقطون عشرات، وقد مات منهم عدد وجرح أكثر من ثلاثين شخصا، وفي نفس اليوم جرت النسوة الدستوريات في مدينة بنزرت أمام المحكمة الفرنسية التي لم تجد مستندا للحكم عليهن، فأطلقت سراحهن لما رأت من غضب الشعب وفورانه؛ إذ تجمع الجماهير بمجرد أن بلغها خبر وصول النسوة إلى بنزرت، وجاء الناس أفواجا من القرى المجاورة للمدينة، وسعوا في عبور الخليج الذي يفصل المدينة عن المنطقة الشرقية على المركب المعد لذلك، ولكن القوات الفرنسية المسلحة احتلت المركب ومنعت الجماهير من ركوبه وهاجمتها حالا، وشرعت من غير سابق إنذار في رميها بنار حامية من بنادقها سريعة الطلقات، ودامت المعركة الصباح كله إلى الظهر، وبقي الاضطراب سائدا في الجهة والمناوشات مستمرة، ولم تهدأ الحالة إلا في الليل، واستشهد في الواقعة عدد من الوطنيين وجرح خمسة عشر جروحا بليغة وخمسة وأربعون جروحا خفيفة.
ولما انتشرت أخبار تلك الوقائع الدامية أعلنت مدن المملكة وخاصة تونس وبنزرت وفريفيل وباجة وصفاس الإضراب العام، ويوم 17 يناير اجتمع الشعب آلافا في مدينة فريفيل القريبة من بنزرت، وفي الساعة الثامنة صباحا سارت مظاهرة كبرى من نادي الشعبة الدستورية إلى مقر السلطات التونسية، لتقدم لها عريضة احتجاج، وكان نظامها دقيقا يسودها ضرب من الخشوع لذكرى الشهداء ظاهر في هدوئها وسكينتها، وإذا بقوات البوليس تهاجمها بغتة وتسعى في تشتيتها بالقوة وتطلق عليها الرصاص، ويسقط المتظاهرون قتلى وجرحى يفوق عددهم الأربعين.
وخرجت مظاهرة عظيمة من منزل جميل التي تقع جنوبي بنزرت وسعت في الدخول إلى هذه المدينة التي كانت مطوقة بالقوات الفرنسية، ودارت بين الوطنيين العزل والجنود الفرنسيين المسلحين المعارك، فسقط قتيل تونسي وجرح عشرات من بينهم خمسة عشر في حالة خطيرة.
وتجددت المظاهرات في الجيهة كلها، وكان أروعها مظاهرة ماطر. (1) اعتقال الزعماء ومؤتمر الحزب
قررت السلطات الفرنسية أن تضرب ضربتها الكبرى يوم 18 يناير، وأن تسابق الحزب الذي حدد ذلك اليوم موعدا لعقد مؤتمر غير عادي لاتخاذ ما تستوجبه الحالة من قرارات، فابتدأت بأن حرمته من القاعات العامة الكبرى ووضعت أمامها حرسا مسلحا، وقد أسرعت إلى إلقاء القبض على رئيس الحزب وزعيم الشعب الحبيب بورقيبة وعلى الأستاذ المنجي سليم مدير الحزب وعلى عشرين شخصية من رجالات الحزب، فهاجمت قوات البوليس الفرنسي في الساعة الرابعة صباحا بيت الحبيب بورقيبة وأخذته من فراشه وألقت عليه القبض حالا، وكذلك فعلت مع الأستاذ المنجي سليم ونقلتهما إلى مطار «العوينة» قرب تونس ومنه إلى مكان مجهول. ووصلت الأخبار في المساء أنهما أخذا إلى طبرقة للإقامة الجبرية فيها، وهي تقع على شاطئ البحر قرب الحدود الجزائرية، أما بقية المعتقلين، فوقع إبعادهم إلى صحراء الجنوب، وأصدرت الإقامة العامة بلاغها في اليوم نفسه وجاء فيه: «إن المقيم العام عندما اتخذ هذه الإجراءات قد أوضح عزمه الراسخ على المحافظة على النظام الذي يحمل مسئوليته، وهو يريد بذلك وضع حد للأعمال الخارجة عن القانون التي تقوم بها عناصر غير مسئولة لا يمكن أن تتسامح معها في ضغطها على سلطات البلاد.»
ويظهر جليا من هذا الكلام أن «دي هونكلوك» يظن - تحت تأثير الجالية الفرنسية - أن إبعاد بورقيبة وصحبه سيخلي له الجو ويمكنه من الاستحواذ على الوزارة التونسية وجلالة الملك نفسه، ولكن الحقيقة ظهرت حالا؛ إذ كل تونسي يحمل في نفسه المبادئ الوطنية المقدسة لا يحتاج إلى تأثير خارجي ليقوم بما يفرضه عليه الواجب، ويعلم المقيم العام ومستشاروه أن اعتقال الزعماء إنما القصد منه إثارة الشعب في ذلك الجو المكفهر الملبد؛ ليتمكن من اضطهاده اضطهادا عاما شاملا، وخاصة أن يهيئ الأسباب للقيام باعتداء مسلح ضد شعب تونس رجاء القضاء على الحركة الوطنية.
إن السلطات الفرنسية منعت بالفعل عقد مؤتمر الحزب عند عدم السماح له بالاجتماع في إحدى القاعات الكبرى، ولم يكن في إمكانها منعه قانونيا؛ لأنها ألغت الحزب بقرار رسمي يوم 11 أبريل 1938، ولم تعترف به منذ ذلك التاريخ، ولكن الحزب الذي له السيطرة الواقعية على البلاد، عقد مؤتمره سرا صباح ذلك اليوم الصاخب، وقد رأسه أحد أعضاء الديوان السياسي الأستاذ الهادي شاكر، وبعد مناقشة دامت ساعتين أصدر اللائحة التالية التي وقعت الموافقة عليها بالإجماع:
لائحة المؤتمر
إن المؤتمر الوطني غير العادي للحزب الحر الدستوري التونسي المنعقد بتونس في 18 / 1 / 1952 برئاسة الهادي شاكر، بعد الاستماع إلى تقرير عن نشاط الحزب.
ونظرا لأن الحزب بعد موافقة «المجلس الملي المتسع» قد دخل في تجربة تعاون صريح مع فرنسا على أساس إلغاء الإدارة المباشرة والوصول بتونس إلى الحكم الذاتي.
ونظرا لأن الحزب تأكيدا لرغبته في حل الأزمة السياسية المستحكمة حلا سلميا، وتسوية العلاقات بين فرنسا وتونس في نطاق احترام السيادة التونسية، والرد على استعداد فرنسا باستعداد أكبر، قد أوفد أمينه العام ليمثله في وزارة تفاوضية.
ونظرا لأن الحزب بعمله هذا نجح في مواصلة نشاطه سواء في داخل البلاد أو خارجها، وحتى داخل الحكومة.
ونظرا لأن روح التفاهم التي أظهرها «الديوان السياسي» جلبت لبلادنا الرأي العام الديمقراطي العالمي، والرأي العام الفرنسي بوجه خاص.
ونظرا لأن مهمة التفاوض التي كلفت بها الحكومة التونسية لم تصل إلى أي نتيجة ؛ لاعتناق الحكومة الفرنسية وجهة نظر شرذمة المتفوقين التي لم تتعظ بالأحداث.
ونظرا لأن الرد على مذكرة 31 أكتوبر 1951 يبين المعارضة التامة بين موقف التونسيين وموقف الفرنسيين.
ونظرا لأن هذا النزاع الواضح الجلي دفع الحكومة التونسية إلى عرضه على مجلس الأمن رغبة في تسويته.
ونظرا لأن سياسة الاضطهاد التي شرعت سلطات الحماية في اتباعها لا تعالج الموضوع، وسوف تفشل حتما مثل حملات الاضطهاد التي سبقتها.
ونظرا لأنه تبين بهذه الصورة أن إعادة السيادة التونسية لا يمكن أن يتحقق عن طريق الترقيع والإصلاحات الجزئية للنظام الحالي، الناتج عن المعاهدات وما لحقها من نقض عند التنفيذ.
ونظرا لأنه تبين أنه في هذه الحالة يجب أن يقوم حل القضية التونسية على أساس إلغاء النظام الحالي والمعاهدات التي تسببت في وجوده.
ونظرا لأنه من حق الحزب أن يعيد النظر في الأسس التي تقوم عليها العلاقات الفرنسية التونسية، وأن يدفع الديوان السياسي - بناء على التطور العالمي - إلى القيام بالأعمال التي من شأنها أن تحمل المسئولين على إعادة النظر في العلاقات بين تونس وفرنسا.
فإن مؤتمر الحزب:
يؤكد أن إلغاء الحماية، وتحول تونس إلى دولة مستقلة ذات سيادة وعقد معاهدة بين تونس وفرنسا تنسق على أساس المساواة، علاقة الدولتين في الميدان الاستراتيجي والميدان الاقتصادي والميدان الثقافي، وتضمن المصالح الشرعية لجميع الجاليات الأجنبية - هي الأسس الوحيدة التي يقوم عليها أي تعاون ودي ومثمر ودائم بين البلدين.
ويعلن شديد احتجاجه على الإجراءات التي اتخذت ضد الرئيس «الحبيب بورقيبة» ومدير الحزب «المنجي سليم» وكثير من أعضاء الحزب.
ويتبرأ من مسئولية النتائج الوخيمة التي قد تنتج عن هذه الإجراءات.
ويؤكد عزم الشعب التونسي على السعي بكل ما أوتي من قوة لتحقيق مبادئ وأهداف ميثاق هيئة الأمم المتحدة سواء في ميدان الديمقراطية والحقوق الفردية والجماعية، أو في الميادين الاقتصادية والاجتماعية.
ويجدد لجلالة الباي شواهد إخلاصه.
ويبدي لقادة الحزب وأعضائه الذين استهدفتهم تلك الإجراءات الاستبدادية تضامنه الكامل معهم.
ويمنح ثقته للديوان السياسي، لمواصلة عمله التحريري الذي بدأ منذ تأسيس الحزب.
تونس
الجمعة 18 / 1 / 1952
وأصبحت تلك اللائحة دستور التونسيين في كفاحهم المرير، وبعد انتهاء المؤتمر، تشكل وفد من أعضائه، وقصد قصر حمام الأنف ليقدم تلك اللائحة إلى جلالة الملك مع شواهد الإخلاص، ولكن البوليس الفرنسي ألقى القبض على أعضاء الوفد كلهم قبل أن يتمكنوا من الوصول إلى حمام الأنف.
وقد طوقت القوات الفرنسية المدججة بالسلاح قصر حمام الأنف، وعزلته عن العالم، وقطعت قوات البوليس جميع الطرق المتصلة بتونس، وحاصرت المدينة نفسها، وملأت شوارعها وميادينها بالجنود في زي الميدان والدبابات والسيارات المصفحة وسيارات القيادة وحاملات اللاسلكي، فأقامت الدليل على أن الاعتداء مبيت وأنها مؤامرة دبرت بليل ضد شعب أعزل.
وانتبه بعض المفكرين الفرنسيين إلى العاقبة الوخيمة التي ستنفجر لفرنسا في الميدان الدولي عن استخدامها للعنف في تونس، فقال:
6 «من الملاحظ أن حوادث هذه الأيام تشابه حوادث سنة 1938 سواء في أسبابها الطارئة أو أسبابها العميقة؛ فهي تابعة لخيبة المحادثات بين فرنسا وتونس.
ولكن اليوم اتخذت الإجراءات ضد زعماء الدستور الجديد في حين يلتجئ فيه الأمين العام للحزب إلى الرأي العام العالمي، وأن رد الفعل - الذي كان عاجلا بتونس - سيظهر لا محالة في النطاق الدولي.» (2) استعداد فرنسا للاعتداء المسلح
رأت الحكومة الفرنسية أن قواتها المسلحة الموجودة بتونس لا تفي بالحاجة المنشودة لقمع شعب كامل، والسيطرة على بلاد أصبح أبناؤها يؤمنون بالمبادئ الوطنية. والقطر التونسي آمن، أعزل من كل سلاح، وقد لاحظ ذلك كثير من الأجانب، فقالت جريدة «المساجيرو» الإيطالية بتاريخ 20 / 1 / 1952 إن التونسيين تظاهروا في القطر كله من غير أن يكونوا مسلحين يسودهم النظام والهدوء والسكينة، شعب كامل يريد التعبير عن إرادته.
وأساس الأزمة بتونس هو: هل للجالية الفرنسية الحق في أن تكون ممثلة في مؤسسات الدولة التونسية مناصفة، في البرلمان التونسي والحكومة التونسية؟ ينكر الوطنيون ذلك ويقولون لا! وتقول الجالية الفرنسية نعم!
وإن الفرنسيين قد اعتمدوا على السيادة الداخلية التي ضمنتها المعاهدات والقانون.
وأخذت الحكومة الفرنسية تصدر البلاغات تلو البلاغات لتعلن تعزيزها لقواها بتونس تطمينا للجالية الفرنسية، وعربونا لها على أن أغراضها ستنفذ لا محالة، وقد انهال على تونس سيل من النجدات والجيوش، لم ينشر عنها إلا النزر اليسير، ولم تعترف الحكومة الفرنسية إلا بالقليل منها، وهذه بلاغاتها تدل دلالة واضحة على ذلك الاعتداء المسلح الشنيع.
البلاغ الأول نشرته جريدة «ليموند» الباريسية بتاريخ 25 / 1 / 1952 وجاء فيه:
قرر مجلس الوزراء الفرنسي في اجتماعه يوم 24 يناير تعزيز مراكز الأمن وإرسال نجدات من الجيش والبوليس.
وحدات من الأسطول الحربي تشترك في المحافظة على النظام.
باخرتان خفيفتان من الأسطول الفرنسي أرسلتا إلى تونس: ليلان إلى ميناء سوسة، ومملوك إلى ميناء صفاقس.
وقد شارك عدد كبير من الكومندوس البحري في المحافظة على الأمن بجبهة سوسة وطبلبة، أما الكومندوس «تريبل» فقد وصل سوسة صباح الخميس 24 يناير على طريق الجو، وبقي بعض الكوماندوس مرابطين على مقربة من طبلبة.
أنزلت الباخرة الحربية
Georges Leigues
في صباح يوم الجمعة في الساعة السابعة والنصف ببنزرت وحدات من الحرس المتنقل.
ووصلت إلى مدينة صفاقس وحدات أخرى من الحرس آتية من الجزائر.
ووقع تجنيد عدد كبير من الرديف الفرنسي بتونس.
وجه الجيش عددا وافرا من الجنود نحو تونس، فسار فيلق من الصبايحية مزودا بالمصفحات من مدينة باتنة (عمالة قسنطينة).
وجاء عن طريق البحر فرقة من الصبايحية من مدينة سانليس، وثلاث فرق من جنود المظلات وفرقة الاصطدام والهجوم من مدينة منتيليه
Montpellier ، وقد ركب الجنود بالبواخر الحربية، وشحن قسم من الأسلحة والآلات الحربية مع خيل بعض فرق الصبايحية في بواخر تجارية أعدت لذلك.
والمظنون أن سلاح الجو لا يحتاج إلى تعزيز يأتيه من فرنسا نفسها؛ إذ لديه فرق من الطائرات الصاروخية بمدينة وهران ومدينة تونس، حيث توجد مدرسة لسلاح الطيران، وقد أظهر هجوم الطائرات على ارتفاع قليل مفعولا كبيرا أدبيا في مدينة قليبية.
ونقل الجنود على الطريق الجوي بشمال أفريقيا بوسيلة فرقة الطيران المكونة من (16 جانكر (52) محطها بالجزائر).
أما البحرية فبقطع النظر عما نقلته فإنها أرسلت عددا من الكوماندوس إلى جهة الساحل.
ولقد عبرت جريدة فيغارو عن ارتياح الجالية الفرنسية لوصول تلك النجدات، فقالت بتاريخ 26 / 1 / 1952: لقد اطمأن الفرنسيون عندما شاهدوا وصول البارجة الحربية جورج ليج، والطرادة مارسو إلى ميناء بنزرت حاملتين الجنود والعدة من المرسى الحربي طولون
Toulon .
وتقول جريدة الفيغارو الباريسية بنفس التاريخ: «وصلت يوم 24 يناير إلى صفاقس نجدات متركبة من الحرس المتنقل»، وأضافت بعض البيانات عن تلك النجدات قالت:
إن باخرة من نوع لبيرتي - شيب اسمها أودت
Oddet
أنزلت كميات هائلة من الآلات الحربية من بينها سيارات المخابرات اللاسلكية ولوريات والأسلحة الخفيفة.
وتوجه من مدينة منتوبان نحو تونس فصيلتان من فرقة الاصطدام والهجوم الأولى وأبحرت من ميناء مرسيليا.
أما بعض الضباط فقد سافروا على طريق الجو.
وتوالى إرسال النجدات من غير انقطاع، فقالت «الفيجارو» نفسها في 28 يناير 1952:
أبحرت الباخرة التجارية شارل بلومية
Charles Plumier
من مرسيليا قاصدة تونس، وإن حمولتها مركبة من عدة للجنود الذين أرسلوا إلى القطر التونسي.
وأبحرت باخرة الركاب كامبانا
Campana
من مرسيليا قاصدة فيلييفيل حاملة (1200) ألفا ومائتي جندي سيتوجهون لتونس، وأكثرهم من الفرقة 14 من جنود المظلات ومعهم 150 من الحرس المتنقل وقسم من فرقة الاصطدام والهجوم.
وقد ركب قسم كبير من الجنود على متن الباخرة مريجوت
Marigot
متوجهين نحو عنابة.
وفارقت باخرة الركاب «جبل دوميرة» مرسيليا حاملة الفرقة الرابعة من
Rig
من طولون.
ومن ناحية أخرى حملت الباخرة «سيدي فروج» الفرقة السابعة من صبايحية سانليس، وتوجهت الباخرة «سيدي عقبة» نحو بنزرت حاملة قسما من العساكر الاستعمارية من مدينتي كاركسون وبربينيان.
نقلت الباخرة «قيروان» صباح يوم 29 يناير من مرسيليا ثلاثمائة جندي من فرقة المصفحات عدد 2507 في طريقها إلى الجزائر.
ونقلت الباخرة شارل لوهرن
Charles Le Horgne
حمولة كلها آلات حربية من مرسيليا إلى الجزائر.
وقصد كل ذلك تونس.
وأخيرا ختم كل ذلك باعتراف وزارة الحربية الفرنسية التي أصدرت البلاغ التالي في 31 يناير 1952:
إن وزارة الحربية تعلن أن إرسال الجنود إلى القطر التونسي لم ينقطع كما يتبادر إلى الذهن من نبأ نشرته بعض الصحف.
وقد أبحرت جميع النجدات المقررة، وأعدت أخرى لكي تلحق بها إذا مست الحاجة إليها. (3) مدينة تونس الدامية
وما كاد خبر إلقاء القبض على الزعماء ينتشر في المملكة التونسية حتى عم الاستياء وادلهم الجو، فكان ذلك الخبر كشرارة من نار في الهشيم، وأن تطور الحالة بتونس في تلك اللحظات يجعل من المحتوم على فرنسا إما ترك حكمها المباشر على البلاد، وإما استخدام تلك القوات المسلحة عبثا؛ لأن الحوادث ستقيم لها الدليل على أن الروح الوطنية لا تستسلم للقوة.
وكانت تونس وكبريات مدن القطر الأخرى مطوقة بالجنود، محتلة احتلالا شديدا رهيبا، ولم يمنع ذلك الشعب من رد الفعل، فعندما بلغه اعتقال الزعماء قرر الاتحاد العام التونسي للشغل، وبقية المنظمات القومية، كالاتحاد العام للتجارة والصناعة، والاتحاد العام للفلاحة، إضرابا عاما غير محدود، فتوقف البيع والشراء، وأغلقت الأسواق، وشلت حركة المواصلات، وتعطلت المعامل والمصانع ودواوين الحكومة والموانئ؛ وأقفلت المقاهي والمحال العامة، وعمت الاضطرابات، وقوي التشويش، واشتد الشغب، ونزل الناس إلى الشوارع، وتكونت المظاهرات في نظام عجيب، رغم الحماس المتدفق، وظهر عزم الشعب على الدفاع عن حقوقه ورد الفعل.
وكانت مدينة تونس مسرحا لغضب الشعب وللحوادث الدامية؛ إذ تجمهر الشعب رغم تلك القوات المسلحة الهائلة وانتظم في مظاهرات عظيمة صاخبة، وتعالت الهتافات، وملأت أجواء المدينة: يعيش الملك، أطلقوا سراح بورقيبة وبقية الزعماء، الاستقلال، الاستقلال. فهاجمت قوات الجيش المتظاهرين بشارع باب المنارة؛ وأخرتهم إلى أن أوصلتهم أمام المحكمة العسكرية؛ وهناك صادمتهم فرقة «الحرس المتجول الخاص» بالرشاشات الصغيرة والمدافع الرشاشة، وأطلقت نيرانها الحامية على حشد يجمع الرجال والشيوخ والأطفال والنساء، فسقط عشرات من الأموات والجرحى، وذلك في الساعة العاشرة صباحا، وتجددت المعارك في الساعة الحادية عشرة، بشارع الباب الجديد؛ وازداد عدد الشهداء فيها.
ووقعت مصادمة عنيفة جدا بين القوات الفرنسية والوطنيين الذين دخلت جموعهم من الشارع الرئيسي إلى «سوق الشكاير»؛ وعجل البوليس هناك باستخدام أسلحته النارية؛ فقتل أحد الوطنيين وجرح ستة منهم، وتجددت المظاهرات بعد الظهر؛ إذ وصلت الجماهير المحتشدة إلى مقر المقيم العام؛ وجددت هناك هتافاتها ومطالبها، وأسرعت نحوها فرق الجيش الفرنسي المرابطة هناك، والبوليس؛ وانهالوا ضربا على المتظاهرين الذين لم يتشتتوا إلا بعد أن لحقهم الضر.
وذهب وفد من النسوة الدستوريات، قاصدا القنصلية البريطانية لإبلاغها احتجاجا على الإيقافات والاعتداءات الدامية، ولكن قوات الحرس المتجول الخاص قد أحاط بالقنصلية لمنع كل اتصال بها، فهاجمت النسوة وضربتهن ضربا مبرحا وألقت القبض عليهن.
وكان الجنود والبوليس يفتشون كل تونسي يمر بالشوارع؛ ويلحقون به الإهانات المتنوعة، من صفع، وضرب بمؤخرات البنادق، ودوس بالأقدام، من غير رحمة ولا شفقة، ولا مراعاة لاحترام السن، ولا الوظيفة والمنصب، لإنزال الرعب في القلوب وتعميم الإرهاب، ولأقل إشارة وأتفه كلمة يلقون عليه القبض، بل أخذوا يعتقلون الناس بالجملة ويحملونهم في سيارات كبيرة قد أعدت لذلك.
ومن الغد تلبدت السحب في سماء تونس، واشتد البرد، وتهاطلت الأمطار؛ وظن الفرنسيون أن الهدوء سيسود، وأن ذلك الجو لا يشجع التونسيين على التجمهر وسيطفئ الحماس والحرارة، ولكن الإضراب كان عاما شاملا؛ وقد استثني منه المصالح العامة والإدارات، وشارك اليهود التونسيون في ذلك الإضراب، وتعسر التموين على الفرنسيين المدنيين، فلم يجدوا الخضر والفواكه واللحوم والأسماك وضروريات الحياة الأخرى.
وتكونت مظاهرة خصوصا من العمال والطلبة، التقت بالقوات الفرنسية المسلحة؛ واشتبكت معها عندما سعى البوليس في تفريقها ففشل؛ وإذ ذاك استخدمت نيران الأسلحة سريعة الطلقات وكثر الجرحى من بين المتظاهرين.
وسارت مظاهرة أخرى مؤلفة خصوصا من النسوة، يعززهن مئات من شباب الحزب؛ وكانت مؤثرة جدا لما أظهرت الوطنيات من شجاعة ونكران الذات، فاقتحمن القوات الفرنسية، ووصلن أمام الإقامة العامة نفسها، ففرقهن البوليس الفرنسي بقسوة ووحشية، واغتظن لما رأين الفرنسيين بالمدينة الأوروبية ينعمون بحياة هادئة، فاتحين محالهم ودور سينماتهم، ومقاهيهم؛ فهاجمن إذ ذاك تلك المحال وكسرن واجهاتها، وأنزلن الرعب في تلك الأماكن، ثم كررن راجعات إلى الإقامة العامة، وقد عزز صفوفهن كثير من الدستوريين، فأحاطت القوات بالنسوة خاصة إذ ذاك، واعتقلت أكثر من خمسين وطنيا أكثرهم من النسوة.
وكان يوم الأحد 20 يناير كأنه يوم مأتم، وصفه أحد الصحفيين الفرنسيين فقال:
7
جو إرهابي، جو حالة الحصار، سيارات عسكرية لاسلكية، جنود بلباس الميدان، دبابات وعساكرها، عساكر كتائب الكوماندوس من ذوي القبعات الزرقاء وقوات البوليس المحتلة للشوارع.
ولم تمنع الأمطار، ولا البرد اللاذع الجماهير من عقد اجتماعات كبيرة، والقيام بمظاهرات صاخبة، وكان الحي العربي مطوقا تطويقا قويا بالمصفحات والجند، بخلاف الحي الأوروبي، فإنه كان في بحبوحة من العيش ، وكان التونسيون الذين يسكنون به في جحيم لما يلحقهم من إهانات من غير انقطاع، وما يقع عليهم من اعتداء مستمر وتفتيشات مرهقة، وكان الإضراب عاما والدكاكين - حتى الفرنسية - مغلقة، فيسير الإنسان في شوارع تونس، وكأنها مدينة ميتة لا حراك بها، ما عدا القوات الفرنسية المتنقلة، وانقطع التموين عن المدينة منذ أيام.
واجتمع في الصباح آلاف من الطلبة، ومن مختلف طبقات الشعب في جامع الزيتونة، وتوالى الخطباء على المنبر، معلنين كلمة الحق، وتمسك الشعب برغباته في الحرية والاستقلال، والتحريض على الصبر والثبات، وتقديم ما يتطلبه الوطن من تضحيات، وعند الظهر انتظمت صفوف المجتمعين، وخرجوا في مظاهرة يسودها الهدوء والعزم، واخترقت الشوارع المؤدية إلى الحي الأوروبي، وعند وصولها إلى ميدان باب البحر، صادمتها قوات مسلحة عظيمة، وسعت في تشتيتها بالعنف، وانهال العساكر على المتظاهرين ضربا بمؤخرات البنادق، ولكن الوطنيين حافظوا على نظام صفوفهم، وتقدموا غير مبالين بتلك القوات، وإذا بالرصاص يمطرهم من كل جانب، فيموت من يموت، ويجرح من يجرح، ويتفرق التونسيون في الحي الأوروبي ويشرعون حالا في تكسير الدكاكين والشركات الفرنسية، فيطاردهم البوليس، وتصبح الشوارع ميدان معارك، وينتشر الذعر بين الفرنسيين، فتراهم بين هارب يجري، وملتجئ إلى العمارات القريبة وداخل الكنائس.
وفي ذلك الوقت عقد التونسيون اجتماعا شعبيا عظيما في ميدان الحلفاوين الذي كان غاصا بما احتواه من بشر، كأنه الزرع في تموجاته، وقام الخطباء فيهم يحرضونهم على متابعة الجهاد، والسير في أعمالهم طبق النظام وأوامر القادة، والمحافظة على اتزان أعصابهم، وخرجت تلك الجماهير من «الحلفاوين» في ثلاث مظاهرات، تبعت كل واحدة منها إحدى الشوارع المؤدية إلى ميدان «باب سويقة» (شارع الحلفاوين وشارع الكبدة وشارع الزاوية البكرية)، وكان الوطنيون يسيرون في صفوف منظمة، رباعي وخماسي، آخذ بعضهم بذراع بعض، وتقدموا في هدوء رهيب، ولما اقتربوا من الميدان، تعالت الأصوات كأنها الرعد بالهتافات ثم بالأناشيد.
وكان ميدان «باب سويقة» قد احتلته قوات من البوليس والحرس المتنقل الذين أسندوا ظهورهم إلى بعض الدكاكين المغلقة، ووجهوا أسلحتهم نحو الشوارع المؤدية إلى الحلفاوين، ولما وصلت المظاهرة إلى الميدان وتدفقت جموعها به من كل جانب، هاجمها الجنود، وأخذوا يفرقون الصفوف، وسرعان ما استخدموا رشاشاتهم وبنادقهم؛ وسقطت الصفوف الأولى بين جريح وقتيل؛ وعاجلت الصفوف الجنود الفرنسية فاختلطت بهم، وفي ذلك الحين خرجت المظاهرتان الأخريان من الشوارع القريبة، واستحال على الفرنسيين استخدام أسلحتهم النارية؛ وأصبحت المعركة بالسلاح الأبيض؛ واستعان المتظاهرون بما وجدوا لحماية أنفسهم؛ فاقتلع الناس الحجر من الحيطان، وأخشاب الأبواب والنوافذ، وانهالوا على الجند، وطاردوهم وافتكوا منهم بنادقهم ورشاشاتهم، ولما رأى العساكر ما حاق بهم من هزيمة تسللوا بين جريح ومعطوب نحو سيارات «الجيب» التي أتوا فيها وفروا من الميدان.
وبعد دقائق أتت النجدات الفرنسية في «لوريات» كبرى تحمل مئات منهم مدججين بالسلاح، ووراءهم المصفحات، فلما رأى الوطنيون ألا قبل لهم بتلك القوات، تفرقوا، وغادروا ميدان «باب سويقة».
واجتمع الوطنيون في صباح ذلك اليوم في نادي الحزب الحر الدستوري في ناحية «أريانة» الواقعة على بعد 6 كيلومترات من مدينة تونس وخرجت منه مظاهرة انضم إليها سكان أريانة كلهم، وبعد أن خرقت الشوارع الرئيسية هاتفة «بحياة بورقيبة» يحيا الدستور يحيا الاستقلال، التفت حول عربات الترام، فأشعلت فيها النار، وفي الليل جاءت قوات من الدرك الفرنسي، وطوقت مساكن قادة الحركة في تلك الضاحية، وألقت القبض على عشرة منهم، وكانوا يجرون رئيس الشعبة الدستورية صلاح الدين آغا جرا، ويتقاذفونه ويضربونه تارة لكما، وتارة بالأرجل، وطورا بمؤخرات البنادق، إلى أن وصل إلى مركز البوليس وقد سالت دماؤه وساءت حالته.
وفي المساء تجددت الحوادث بمدينة تونس نفسها؛ إذ سارت مظاهرة أخرى إلى الحي الأوروبي، ولما وصلت إلى شارع «ليون» أضرمت النار في عربات الترام المارة من هناك، وأسرعت نحوهم قوات البوليس والجيش، ودارت معركة سريعة جرح فيها عدد من الفرنسيين وخمسة من الوطنيين.
وكان يوم 22 يناير يوما مشهودا أيضا، كله اضطرابات وهياج؛ وجدد فيه الوطنيون اجتماعاتهم في المساجد، وكان الأمر يصدر لهم عند مفارقتها بأن يسيروا إلى مقر الإقامة العامة الفرنسية فرادى، فتفرق إثر تلك الاجتماعات التونسيون في الشوارع المختلفة المؤدية إلى الحي الأوروبي، وتكونت المظاهرة الأولى بميدان باب البحر، وإذا بالأعلام التونسية ترفع فجأة، وتملأ الهتافات الجو، ويفر الفرنسيون من كل جانب، وتخرق المظاهرة الشارع الرئيسي، وقد انضم إليها عدد وافر من الشبان الذين كانوا في انتظارها، ولما وصل المتظاهرون أمام الإقامة العامة، أسرعت نحوهم سيارة جيب بها مأمور مركز البوليس الفرنسي وأعوانه، وصادمت الناس من خلف، فاجتمعوا كأنهم سد منيع، وتلاحقت إذ ذاك «لوريات» تحمل الحرس المتنقل الفرنسي، فوسع الناس للبوليس، ولما وصلت سيارة الجيب أمامهم تقدمت إحدى النسوة، ورمتها بقنبلة يدوية فنسفتها نسفا، وقتلت المأمور، وجرحت من معه؛ وهاجم إذ ذاك الحرس المتنقل النساء خاصة، وانهالوا عليهن ضربا بمؤخرات البنادق وطوقوهن، وأما الشباب الوطني فقد أخذوا أمكنتهم للقتال، فتسلق بعضهم الأشجار، وطلع البعض الآخر على سطح الكنيسة القريبة، ورموا القوات الفرنسية بالقنابل اليدوية؛ إذ ليس لديهم سلاح غيرها، فجن جنون الجنود الفرنسيين إذ ذاك، وأمسك أحدهم بشعر فتاة وطنية، وأخذ يضرب رأسها بقوة على شجرة، وكان في ذلك الوقت وفد من لجنة «حقوق الإنسان والمواطن» خارجا من الإقامة العامة، فشاهد رئيسه الأستاذ سيرج معطي العضو بالحزب الاشتراكي الفرنسي قسوة البوليس وعنفهم، فتدخل ملاحظا لأحدهم أنه لا يجدر معاملة البشر بهذه الصورة. ولم ترق هذه الملاحظة في عيون البوليس، فاعتقل الأستاذ «معطي» في الحين وساقه كالمجرم إلى مركز المحافظة ... وهكذا تراعي فرنسا حقوق الإنسان في تونس المحمية!
وحوالي الساعة الرابعة بعد الظهر، خرجت مظاهرة شعبية بحي «الباساج»، واشتبكت القوات الفرنسية مع المتظاهرين في معركة دامية دامت ساعات أسفرت عن عدد وافر من الجرحى.
وفي الساعة الخامسة اجتمع التونسيون في مظاهرة فجائية بشارع «جول فيري» وهو شارع الحي الأوروبي الرئيسي، واصطدمت هي أيضا بالقوات الفرنسية وجرح فيها عدد من التونسيين.
واتسع نطاق استفزازات رجال البوليس الفرنسي للشعب؛ فلا يكتفون بتفتيش كل تونسي يمر بالشوارع، ثم يقذعون لهم شتما وشبا، وينهالون عليهم لطما وضربا، ويقومون بعمليات الاعتقال بالجملة في هذا اليوم. فيأخذون جماعات كاملة، ويسوقونهم سوقا إما في «لوريات» وإما على الأقدام نحو مراكز التحقيق والسجون، وقد بلغ عدد المعتقلين آلافا ولم يقف أحد عليه بالضبط.
وفي ذلك اليوم نفسه اعتقل الأستاذ الهادي شاكر العضو في الديوان السياسي الذي رأس المؤتمر (مؤتمر الحزب) يوم 18 يناير 1952.
وتوالت الحوادث بمدينة تونس من غير انقطاع مدة أسابيع، والقسوة الفرنسية تشتد يوما فيوما، والوطنيون يثبتون في رد الفعل، وقد حكت جريدة «الصباح» التونسية بتاريخ 23 يناير 1952 ما يقاسيه التونسيون فقالت:
كانت العاصمة حسب العادة التي أصبحت مألوفة منذ ستة أيام مضربة إضرابا تاما، شاملا لجميع حركات الحياة؛ ولا ترى في كل مكان وفي كل شارع وحارة إلا رجال البوليس المسلحين بالبنادق أو الرشاشات اليدوية يوقفون المارة - من التونسيين فقط طبعا - ويأمرونهم برفع أيديهم، ثم يفتشونهم، وبعد إتمام عملية التفتيش تنالهم أصناف من الإهانات والاستفزازات، كاللطم، والضرب بالأرجل، والتفوه بالعبارات الجارحة للعواطف الشخصية، والقومية، وويل لمن يتلفظ بعبارة واحدة، فإن العون يسوقه توا إلى سيارة كبرى تنقله فيما بعد إلى مركز المحافظة.
ويوجد من تفنن في الاستفزاز إلى درجة تجعله يمزق بطاقة إثبات الشخصية لكل من يسوقه القدر في طريقه، ليتمكن من اعتقاله كمشبوه في أمره، وقد بلغت الإيقافات عددا لم يبق في استطاعتنا إحصاؤه، بعد أن شاهدنا الأعوان يصطادون المارين من كل مكان ويرمون بهم في سيارات تسير بهم - حسب أقوال لم نتوصل إلى إثباتها - إلى القصبة.
وقد ازدادت عملية الاعتقالات شدة عندما شاع الخبر أن اجتماعا سيعقد بجامع الزيتونة المعمور الذي نصب الحصار حوله من طرف الأعوان السريين والمرتدين لأزيائهم الرسمية.
أما المدينة الأوروبية فكأنها أصبحت محرمة على التونسيين؛ إذ كان الأعوان يتعرضون لكل من يرتدي الزي العربي أو من على رأسه طربوش وشاشية.
لما رأى الوطنيون كثرة القتلى والجرحى في صفوفهم، وتيقنوا من أن صدور العزل، وإراقة دماء الشهداء الذين لا سلاح لهم، لا تكفي لرد العدوان الفرنسي، والوقوف أمام جيش مدجج بأحدث الأسلحة، غيروا طريقة كفاحهم، ونظموا وحدات قليلة العدد، تشاغب العساكر الفرنسية في كل مكان.
هاجم التونسيون عربات الترام الذي تقررت مقاطعته، وانقض بعض الشباب الوطني من الشوارع المجاورة على الترام الرابط بين تونس وضاحية «باردو» ورموه بالحجارة وبعض المفرقعات، فكسروا زجاجه، وجرحوا أربعة من الفرنسيين من ركابه، وبعد ذلك بقليل هاجموا عربة أخرى في نفس الموضع، وجرحوا اثنين من الفرنسيين، وتوالت الهجمات على الترام إلى أن تحاشي الفرنسيون الساكنون بضواحي تونس ركوبه، وأصبحت كل عربة في حاجة إلى حرس يحميها من غير جدوى في الحقيقة.
وأصبحت الليالي مكدرة، لا تسمع فيها إلا طلقات النار المستمرة من الجانبين التونسي والفرنسي، ويوم 23 / 1 / 1952 أفاق سكان «مدينة الشعراء» بحي «حفرة كريط» - وأكثرهم من الفرنسيين - مذعورين في الساعة الخامسة والنصف بعد منتصف الليل، ورأوا ألسنة النار تتصاعد حول عماراتهم والحريق يلتهمها، وكان يسكن بتلك العمارات ضباط الجيش الفرنسي وعائلاتهم، وقد أتى الوطنيون في تلك الليلة بكميات كبيرة من البنزين، وصبوها في مساكن الضباط، وأشعلوا النار فيها، فأحرق اللهيب الأبواب الخارجية، واقتحم البيوت، وأتى على معظمها، وخرج الضباط وعائلاتهم هاربين منزعجين، وقد داخل الارتباك والرعب نفوسهم.
وأتت بعد حين قوات عظيمة من الجيش، ومعها رجال المطافئ الذين تغلبوا على الحريق بعد جهد جهيد، ولكن آثاره بقيت مسطرة بالسواد على الحيطان الخارجية نفسها والأبواب، وبقي الجيش في حراستها.
وأخذ الوطنيون يوالون هجماتهم على دوريات البوليس والجيش الفرنسي، ليلا نهارا، ويرمون «اللوريات» الحاملة للحرس المتنقل بالرصاص أو القنابل اليدوية، وكأن التونسيين أحجموا عن إنزال ضربتهم القاضية على الفرنسيين في العاصمة نفسها، لكثرة الجنود فيها، ولاحتلالها بقوات مصفحة هائلة، ولصعوبة الأعمال بها، وقد قال صحفي أجنبي: «لا ينبغي أن يغتر الإنسان بالمظاهرة الكاذبة، فإذا كان سطح الماء هادئا فإن أعماقه تفور، والحياة هنا كأنها على بركان.»
وقد قالت الجريدة الإيطالية الميساجيرو
Messaggero
بتاريخ 23 / 1 / 1952 تصف جو المدينة:
وإنه وإن لم تحدث حوادث كبيرة بتونس، غير أن الدرك والبوليس والعساكر والقوات المصفحة قد ازداد تعزيزها، وهي ترابط في كل مكان تقريبا؛ إذ أصبحت تحرس حراسة شديدة المباني العامة وخاصة مساكن ضباط الجيش الفرنسي.
وكان رجال المطافئ على استعداد تام لمجابهة الطوارئ، والخوف من تجديد حرائق أمس قد طغى.
جو مدينة في حالة حرب، وكله انتظار، جو ثورة مستمرة عززه ما يسيل من دماء الشهداء في المملكة كلها.
وقد سجل صحفي فرنسي كان يعيش في تونس في تلك المدة ارتساماته التي نشرتها جريدة «ليموند» الباريسية بتاريخ 26 / 2 / 1953:
إن الحوادث الخطرة تملأ أيامنا بتونس منذ إبعاد بورقيبة، والجو ثقيل قد زادته مظاهر القوة ثقلا (سيارات حاملة للرشاشات، أعوان البوليس مرتدين خوذاتهم، جنود متنقلة)، ثقيل أيضا لما يجري على المارين - التونسيين فقط - من مراقبة من غير تمييز؛ يفتش التاجر الهادئ والحاكم الوقور كأنهما قطاع طريق، ولأقل احتجاج يصدر منهم يهانون بالدفع واللكم، ويرسلون إلى المعتقلات تحت مطر كأنه الثلج بردا، جو يسوده القلق في انتظار أخبار داخل القطر.
وزيادة في القمع والنكاية، أخذت المحكمة العسكرية الفرنسية تصدر بسرعة عجيبة أحكامها القاسية على المعتقلين التونسيين، فحكمت يوم 25 على شبان غالبهم من الطلبة الزيتونيين، وكان قد ألقي القبض عليهم أثناء المظاهرة التي دارت أمام السفارة العامة، وكان الحكم في الغالب بخمس سنوات سجنا.
8
لم تزد الحالة العامة إلا ارتباكا منذ اعتقال الحبيب بورقيبة يوم الجمعة 18 يناير، واهتزت بلاد تونس كلها اهتزازا، وهبت عليها عاصفة من العنف والمظاهرات الدامية التي سقط أثناءها عشرات وعشرات من الشهداء ومئات من الجرحى، وستتوالى الأيام الحالكة من غير انقطاع؛ إذ نحن في بداية معركة ستدوم أعواما، وإنما هي بوادر انتشار الحريق واندلاع ثورة لا يطفئها الحديد والنار، وقد عمت جهات بأسرها، وما أن بلغ خبر اعتقال الزعماء إلى الأنحاء المختلفة حتى أعلن الإضراب العام، وسار الشعب في مظاهرات كبرى في جميع المدن والقرى، ورد العدوان الفرنسي بما لديه من وسائل. (3-1) في جهة بنزرت
إن تلك الجهة من الأماكن الحساسة بالبلاد التونسية، فابتدأ بها الاضطهاد الفرنسي، وسال فيها دم الشهداء الزكي، وسال فيها الدم من جديد يوم 22 يناير في مدينة «غار الملح»، ولكنه دم فرنسي في هذه المرة، فقد هاجم الوطنيون - وهم مسلحون - داورية من الدرك العسكري الفرنسي، فقتلوا واحدا منها، ولما رأى الآخرون سقوط رفيقهم التجئوا إلى الفرار طلبا للنجاة، وجاءت بعد حين نجدات الجيش الفرنسي مسرعة فلم تجد إلا جثة الجندي.
وقرر الوطنيون بمدينة ماطر القيام بمظاهرة نظامية يوم الأحد 20 يناير لتقصد مكتب العامل (المدير) وتسلمه عريضة في مطالب الشعب، وذلك في الساعة الحادية عشرة صباحا، ولكن المراقب المدني الفرنسي «موران» - حسب اعترافه لمراسل جريدة الفيجارو الفرنسية في 13 / 1 / 1952 - أراد إفسادها قبل وقوعها، فأصدر أمره للدرك الفرنسي بإلقاء القبض على ثلاثة من القادة، في نادي الحزب الحر الدستوري، في الساعة التاسعة والنصف صباحا، فقام هكذا بمؤامرة مدبرة؛ إذ يعلم أن عمله هذا هو في الحقيقة إثارة للعواطف، واستفزاز للجماهير التي تبعت «اللوري» العسكري الحامل للمعتقلين، وأخذت تهتف هتافات عالية تطالب فيها بإطلاق سبيلهم، ولما رأى الجندرمة قوة المتظاهرين، وحماسهم، وعزمهم البين في عيونهم على استخلاص إخوانهم، أطلقوا سبيل القادة، وكلفوهم بإلقاء الخطب لتهدئة الجو، ولكن البوليس كان سيء النية؛ إذ استنجد حالا بقوات عسكرية كبرى، فأتت سريعا من «بنزرت» تصحبها الدبابات والسيارات المصفحة، ودخلت مدينة ماطر دخول الفاتحين، فازداد حماس الشعب واشتعل غضبه ولم تتفرق صفوفه.
ولما داهمته الدبابات، التف حولها، غير هياب، وإذا بالعساكر الفرنسية تطلق نيران مدافعها ورشاشاتها وبنادقها على المتظاهرين الذين ثارت ثائرتهم إذ ذاك، فاقتلعوا أحجار الرصيف وأخشاب الأبواب، وتسلحوا بما وقعت عليه أيديهم من الآلات الفلاحية، وأتوا بالبنزين وصبوه على بعض الدبابات والسيارات المصفحة، فاحترقت، وجرحوا عددا وافرا من الجنود، وأتت إذ ذاك «اللوريات» بنجدات جديدة من الجيش الفرنسي، ودخلوا المعركة التي دامت إلى ساعات بعد الظهر، وسقط الشهداء الأبطال عشرات - من بينهم صبي لم يتجاوز العامين داسته العساكر الفرنسية دوسا بالأقدام - والجرحى لم يحص عددهم، ومن الغد بعد أن صلت الجماهير على الشهداء في المسجد الكبير شيعت جنازتهم، وكان يسير خلف نعوشهم عشرات الآلاف من الوطنيين، ومعهم مراسلو الصحف التونسية والأجنبية، وكان الجو رهيبا تعلوه العظمة والخشوع، وما زالت آثار المعركة بينة في شوارع المدينة، وما زالت أرضها ملطخة بالدماء. (3-2) في جهة الدخلة
حاصر الجيش مدينة نابل يوم الأحد 20 يناير ، وأخذ الجند يتجولون في الشوارع، ويجرون تفتيشات مرهقة لجميع السكان، ويلحقون بهم أنواعا من الإهانات، وقد انتظمت في ذلك اليوم مظاهرة شعبية كبرى، وسارت في هدوء ونظام، فتدخلت القوات وصدمتها وشتتتها من غير أن يرد الوطنيون الفعل، وفي صباح 21 يناير واصل الجنود تفتيشاتهم، وضايقوا الناس مضايقة لا توصف، واستفزوهم استفزازا، فاجتمعوا في المسجد الكبير نساء ورجالا، وخطب في هذا الاجتماع كل من السيدات آسيا غلاب وحرم الوطني حسونة القروي والآنستان آمنة قرط باشالي من أعضاء الشعبة النسائية الدستورية، ومن المسجد خرجت مظاهرة شعبية كبرى معلنة التأييد لجلالة الملك ووزارته في رفع القضية أمام مجلس الأمن، ومعلنة أيضا الاحتجاج على العدوان الفرنسي المسلح سارت المظاهرة مخترقة شوارع المدينة، متجهة إلى إدارة العامل لتبليغ احتجاجها، وكان يسودها النظام والهدوء، ولكن عند عودة المظاهرة اعترضها الجند، وصادمها ساعيا في تفريقها، ولما شاهد عزمها على متابعة السير من غير أن ترد الفعل، قذف عليها عددا وافرا من القنابل المسيلة للدموع، فتحملها الوطنيون بصبر وجلد، وإذا بالقوات المسلحة تطلق رصاصها على المتظاهرين، فتسلق بعض التونسيين السطوح المجاورة لإدارة العامل، ورموا القنابل اليدوية على القوات الفرنسية، ودارت معركة حامية استشهد فيها ثلاثة ومات على أثرها خمسة آخرون من جراحهم، وسقط أكثر من ثلاثين جريحا بين نساء ورجال، وفي المساء ألقي القبض على الوطنيين بالجملة، أما الإضراب العام فهو مستمر بغير انقطاع بنابل منذ يوم 18 يناير.
وكانت مدينة «الحمامات» القريبة من نابل مسرحا لحوادث أخرى؛ ففي صباح يوم 21 يناير اجتمع جم غفير من الوطنيين بالنادي المركزي للحزب الحر الدستوري، وتقرر تنظيم مظاهرة سلمية لتبليغ لائحة احتجاج إلى الدوائر المسئولة، وبينما الاجتماع قائم إذا برئيس مركز البوليس الفرنسي يحاصر النادي بقوات الجند والدبابات التي أسرعت إلى إطلاق الرصاص باستمرار، ورمت القنابل المسيلة للدموع في وسط النادي، فتفرقت الجماهير إثر ذلك، وبعد الظهر - وقد فارقت القوات الفرنسية المدينة في الصباح - أقام الوطنيون سدا في الطريق الرئيسي، وجاء الدرك الفرنسي في عدد وافر تعززه فرق الجيش، وأراد مهاجمتهم، ولكن نيران الوطنيين أوقفته ثم أخرته، ودامت المعركة ساعات كاملة إلى أن أتت نجدات كبيرة من الجيش الفرنسي، فاقتحمت السد وافتكته، واستمرت المعركة داخل المدينة، ودامت نحو عشر ساعات، وأسفرت هذه الاشتباكات عن تسعة من التونسيين الجرحى واستشهاد اثنين منهم هما المرحومان الطيب العزابي من الحمامات ومفتاح بن الهادي التريكي من «الوطن القبلي»، وقد منع البوليس الفرنسي السكان من حمل جرحاهم إلى المستشفى، وسد دونهم الطريق بالقوة، فاضطروا إلى وضع الموتى والجرحى في المسجد ب «ربض الحوانيت العليا» إلى الغد، وفي الساعة الرابعة صباحا تسلق الجنود الفرنسيون سطوح البيوت، وبقوا هناك كامل اليوم، واقتحم رئيس البوليس النادي، وكسر قفله، ومزق ما فيه من أعلام وصور، وحطم الكراسي والأثاث، وفجر فيه المفرقعات، ثم استنجد برجال الجندرمة وبعض المعمرين الفرنسيين المعروفين هناك، وفتش جميع المنازل، وألحق بأهلها أنواعا من العذاب والإهانات، وسيق إلى سجن «القصبة» نحو ثمانين وطنيا، أما عدد القتلى والجرحى من العساكر الفرنسيين في تلك الواقعة فهو مرتفع جدا وقد أخفته الدوائر الرسمية الفرنسية.
وقامت مدينة «قليبية» بمظاهرات سلمية متعددة منذ يوم 18 يناير، وكان يوم 24 منه يوما مشهودا؛ إذ تدفق عليها الوطنيون من القرى المجاورة، فاجتمع أمام نادي الحزب عشرات الآلاف من السكان، وسارت المظاهرة بنظامها وهدوئها العادي؛ وإذا بالبوليس الفرنسي يهاجمها سعيا في تشتيتها، ثم يطلق عليها النار، وإذا بالمتظاهرين يردون الفعل ويهاجمون البوليس الذي فر واختبأ في مركزه، وتدفقت الجماهير وراءهم آلاف عدة، وأخذ إذ ذاك البوليس يصوب نحوهم نيران الرشاشات والبنادق من النوافذ ومن السطح، وتقدم الوطنيون صفوفا متراصة هازئين بالموت، وكان هجومهم قويا وجبارا؛ ومنهم من يعرف استخدام مفرقعات الديناميت في الصيد، فاستعملوا الديناميت لنسف مركز البوليس؛ فخربوه تخريبا، ودمروه كله حتى أصبح أنقاضا، وإذ ذاك تحول المتظاهرون نحو ثكنة الدرك الفرنسي، وشرعوا في إحراقها ورميها بالديناميت، ودارت بينهم وبين الجندرمة الفرنسيين معركة دامت ساعات، وإذا بقوات الجيش الفرنسي تهاجمهم من خلف على الساعة الرابعة بعد الظهر، وقد أتت تتقدمها المصفحات والدبابات التي وجهت نيران مدافعها إلى المتظاهرين ، وإلى القرية بأسرها، فأنزلت الدمار في كل مكان؛ وحلقت الطائرات الصاروخية وغيرها على مقربة من الأرض، ونشرت الخراب والموت بقنابلها ومدافعها الرشاشة، وبقيت آثار ذلك التدمير خاصة في مئذنة مسجد «حمام الغزاز» إلى يوم الناس هذا، وغيرها من الأماكن العامة والخاصة.
أما في «منزل بوزلفه» فقد اشتد غضب الشعب، وعم الغليان، وأخذ بعض المستعمرين المسلحين يتحدونه، ويثيرون عواطفه، ويسعون في الاعتداء عليه إخفاء لما نزل في قلوبهم من رعب وخوف، وإن كان التونسيون عازمين عزما كليا على اجتناب أي اعتداء على المدنيين الفرنسيين. وفعلا لم يمس فرنسي بسوء، واغتاظ المستعمرون مما رأوه في الشعب من حيوية وتمسك بمبادئ الاستقلال مع المحافظة على النظام؛ واستنجدوا بقوات الدرك والجيش ليدخلوا الاضطراب، وجاءت سيارة جيب تحمل الملازم فاشي
Vacher
واثنين من أعوانه ومعهم فصيلة من الجيش؛ ولما وجدوا ألا شيء يهدد النظام، اكتفوا بالتهديد والوعيد، ثم قفلوا راجعين؛ واتجهوا إلى قرية «بني خلاد» فدخلوها وجددوا بها أعمال التهور والإهانة للتونسيين الذين كانوا متجمهرين بميدان السوق؛ وشهروا سلاحهم في وجوههم، وهاجمتهم فرقة العساكر الفرنسية المسلحة، وأخذت في ضربهم بمؤخرات بنادقها، فرد الوطنيون الفعل حالا وتقدم أحدهم وعاجل «الملازم فاشي» عندما وثب من السيارة ليهاجم الوطنيين، مهددا إياهم بمسدسه، وأطلق عليه الرصاص فأصابه؛ فحمله أصحابه وفروا به إلى مدينة «قرنبالية» حيث قضى نحبه بمجرد الوصول إليها، ووقعت إثرها اشتباكات عدة في الجهة كلها بين الوطنيين والمستعمرين المسلحين، واكتفى التونسيون أثناءها بقلب سيارات الفرنسيين وحرقها. (3-3) في جهة القيروان
توالت المظاهرات الشعبية الصاخبة بمدينة القيروان منذ اعتقال الزعماء، فاجتمع يوم 20 يناير الشعب أمام نادي الحزب، وسار في مظاهرة منتظمة قوية مسالمة نحو إدارة العامل لإبلاغه مطالب الشعب، ولما وصل المتظاهرون إلى الحي الأوروبي، هاجمتهم قوات البوليس والدرك الفرنسي، وانهالت عليهم ضربا، وشتتهم، فتفرقوا في الشوارع الكبرى المجاورة، وقد بلغ منهم الغضب كل مبلغ؛ فهاجموا الشركات والدكاكين الفرنسية، وكسروا واجهاتها، وحطموا ما بها ورجعوا سالمين ، وعقد الوطنيون يوم 24 يناير اجتماعا كبيرا جدا حضرته المدينة كلها، وجماعات كثيرة من القرى المجاورة؛ وخرجت مظاهرة عظيمة في الساعة الخامسة بعد الظهر قاصدة إدارة العامل لتسلم إليه لائحة احتجاج، فتدخلت قوات البوليس والجيش الفرنسي، وقسمتهم قسمين، وسعت في إرهابهم بالضرب والإهانة، وأخذت في تشتيتهم؛ ولكنهم واصلوا سيرهم المنتظم إلى أن بلغوا بابين من أبواب المدينة يفتحان على الحي الأوروبي، فإذا بالجنود والبوليس يهاجمونهم هجوما عنيفا بالباب الأول، واشتبكت المعركة وافتك الوطنيون بعض الأسلحة من الجيش، ودوى الرصاص في كل مكان، وأمطرت الحجارة على القوات المعادية. وفي الوقت نفسه دارت معركة أخرى أمام الباب الثاني، فتسلق التونسيون المسلحون سور المدينة وتمادوا في المعركة التي لم تنته إلا بعد ساعتين، ولم يعترف الفرنسيون إلا بجرح ضابط صغير، واستشهد خمسة من التونسيين، وفي الليل ألقي القبض على عشرات من الوطنيين من بينهم عدد وافر من الطلبة، ومن الغد (25 يناير) شيعت القيروان في موكب رائع يسوده الخشوع ضحاياها إلى مقرهم الأخير، وقد سار في الموكب عشرات الألوف من التونسيين يخيم عليهم السكون والصمت، وكان بدوي يسير في الطريق ليلحق بجنازة الشهداء فأطلق عليه أحد الجنود الفرنسيين الرصاص فأرداه قتيلا. (3-4) في جهة الساحل
وتحرك الساحل، وهو المعروف بقوته وثباته ونظامه، وهو معقل من أعظم معاقل الوطنية، وقامت السلطات الفرنسية على الفور بمناورة تقصد من ورائها التهويل والتهويش لإنزال الرعب في قلوب المدنيين الفرنسيين؛ لكي تتمكن من إنزال أشد القمع على التونسيين، فقد أمرت جميع العائلات بالجلاء عن «الساحل»، وقالت جريدة «ليموند» في 25 / 1 / 1952: «لقد وقع إجلاء جميع العائلات والأفراد الفرنسيين عن القرى والمدن بالساحل ونقلوا كلهم إلى مدينة سوسة.» (3-5) سوسة
عم القلق وساد الاضطراب، وكان الجو ملبدا، والحزم ظاهرا على وجوه التونسيين، وتجددت الاجتماعات والهمسات يوم إلقاء القبض على الزعماء (18 / 1 / 1952).
ورجع نواب المؤتمر يحملون قراره في المطالبة بالاستقلال.
وفي يوم 21 / 1 / 1952 أتي عدد وافر من الوطنيين من القرى المجاورة، وكانت قوات البوليس توقفهم في الطريق، وتفتشهم، وتهينهم إهانات، وتجبرهم على المرور السريع، وتمنعهم من السير في بعض الشوارع، وأصبح رئيس مركز البوليس وهو رئيس المحافظة بتلك الجهة كلها يتحدى الشبان برفقة أعوانه فيجدد مأساة ماطر؛ ولما رأى خيبته فقد أعصابه والتجأ إلى إلقاء القبض على شابين من المارة، ظنا منه أنها الشرارة المطلوبة، فأرسل الأستاذ جلول بن شريفة رئيس الجامعة الدستورية ثلاثة من الشبان المثقفين الممتازين المعروفين بحزمهم وتعقلهم، فتقابلوا مع رئيس مركز البوليس الفرنسي، وطلبوا منه إطلاق سراح المساجين الذين لم يرتكبوا أية مخالفة، إلا إذا اعتبر مرورهم في الشوارع مخالفة، وإذا بالبوليس يلقي عليهم القبض بدورهم ويسجنهم بسجن البوليس.
وتجمهر الوطنيون أمام نادي الحزب يترقبون سراح إخوانهم، فلما تحققوا ما وقع، تحركت مظاهرة تعد آلافا في نظام دقيق وهدوء كامل يتقدمها الأستاذ جلول بن شريفة الذي أوصى الوطنيين بالمحافظة على صفوفهم وتماسك أعصابهم، ولما وصلوا إلى الحي الأوروبي وجدوا سدا من قوات البوليس والجيش يمنعهم من المرور، فتقدم الأستاذ جلول وحده وطالب بسراح المسجونين قائلا: إن مسئولية ما عسى أن يقع تحمل كلها على رؤساء البوليس الذين اعتدوا على حرية الناس من غير حق، وإني أضمن السلم والهدوء إذا أطلق سراح المعتقلين ...
فأطلقوا؛ ورجعت الجماهير في نظامها، ولم يقع أي اضطراب، وهدأت النفوس.
قررت الجامعة الدستورية القيام بمظاهرة كبرى يوم 22 / 1 / 1952 لتسلم إلى العامل عريضة هذا نصها:
العريضة
إن أهالي سوسة المبلغين احتجاجهم اليوم، ليستنكرون موقف السلطات الفرنسية؛ من أجل الاضطهادات المسلطة على الشعب بغاية التعسف والإرهاق ببنزرت وفريفيل وماطر وباجة وغيرها، ويستنكرون المناورات التي تقوم بها السلطات الفرنسية ضد عاهل البلاد من وسائل الضغط في سبيل التحصيل منه على نكران قيام الحكومة التونسية برفع القضية إلى الاحتكام الدولي وطلب إقالة الوزارة محقا لآمال الأمة.
كما يستنكرون ضد السلطات الفرنسية بدون مبرر لإبعاد قادة وزعمائها الممثلين لكافة الشعب، وإنها أعمال تتنافى ومبادئ حقوق الإنسان.
فإن الماثلين أمامكم بصفتكم ممثل صاحب الجلالة، يحتجون بغاية الشدة والصرامة على هذه الاعتداءات الجارحة التي جعلت الشعب غير آمن على حياته، وإن أهالي سوسة يؤكدون تأييدهم لمسالك الوزارة التونسية الشعبية ، كما أنهم يؤيدون بدون احتراز جلالة الملك المعظم.
ويعلنون عزمهم الراسخ على مواصلة الدفاع على حقوقهم الشرعية وكرامتهم المداسة حتى النصر النهائي مهما تكن التكاليف، وإن هذه المناورات والاستفزازات لا تزيد الشعب إلا إيمانا بحقه والذود عنه حتى يتخلص من قيد العبودية.
والسلطات الفرنسية هي التي تتحمل وحدها مسئولية الحوادث ونتائج المناورات التي تستعملها ضد شعب أعزل لا بد أن ينتصر طال الزمان أو قصر.
وقد سلمها الوطنيون إلى العامل رغم الحوادث، وجاءت وفود المدن والقرى القريبة أفواجا، فاجتمعت الجماهير من طلبة فرع جامع الزيتونة والمدرسة الثانوية وعمال وجميع الطبقات، وكان عدد النسوة كبيرا.
وتحركت المظاهرة وقررت المرور بالحي الأوروبي، وبمجرد ما وصلت إلى ميدان بيشون، وهو الميدان الأكبر، اصطدمت بقوات فرنسية اعترضت طريقها، وسعت في تشتيتها بالعنف، فبلغ الحماس بالجماهير مبلغا، وأخذت تدافع عن نفسها بالتي هي أحسن أمام بنك الجزائر، واستأنفت سيرها إلى الأمام، فرماها الجيش الفرنسي بالقنابل المسيلة للدموع، ثم هاجمها هجوما أعنف، ولكن المتظاهرين صبروا ولم يتأخروا، وحافظوا على نظام صفوفهم تحت قيادة رئيس الجامعة الدستورية الأستاذ جلول بن شريفة المعروف برصانته، وهدوئه، والتحكم في أعصابه، وإذا بالعساكر يطلقون نار بنادقهم ورشاشاتهم من غير سابق إنذار، فسقط الأستاذ ابن شريفة يتخبط في دمائه، وقد جرح في فخذه، وكثر حوله القتلى والجرحى.
ففارق قسم من الجماهير المعركة، وسار في طريق المعمل الكهربائي لإبلاغ العريضة إلى السلطات التونسية، فأسرع القائد الأعلى لحامية سوسة الكولونيل دوران إلى اعتراضها، وقاد نحوها فرقتين مدججتين بالسلاح، وتقدم حالا عندما رأى المتظاهرين ووجه نحوهم مسدسه وأطلق رصاصه، فصاح أحد الوطنيين، وارتمى تونسي على الضابط الفرنسي وأصابه بضربة قاضية من عصى زيتون كانت بيده، فسقط على الأرض مغشيا عليه، ودارت حوله معركة دامية بين الوطنيين والعساكر الفرنسية جرح عدد وافر من الجانبين وقتل عدد آخر.
وأخيرا خلص الجنود جسد الكولونيل الذي مات عند وصوله المستشفى، وقد فاق عدد القتلى العشرة، وكان الجرحى يفوق الثلاثين، هذا من الجانب التونسي، أم الفرنسيون فقد أخفوا خسائرهم.
وشيعت مدينة سوسة شهداءها من الغد في جو يعلوه الخشوع، وتملؤه العظمة، وتسوده الإرادة في متابعة الكفاح والإيمان الذي يعمر القلوب، وسارت خلف الجنازة عشرات الآلاف من الخلائق في سكون رهيب وصمت كامل. (3-6) المكنين وقصر هلال
عقد السكان يوم 23 / 1 / 1952 اجتماعا كبيرا، ثم ساروا في مظاهرة منظمة نظاما دقيقا تحت قيادة المسئولين من أفراد الجامعة الدستورية بتلك الجهة، ولما وصلت إلى مقر الكاهية - نائب المدير - دخل وفد منها وسلم له عريضة احتجاج، وكانت الهتافات بالخارج تملأ الفضاء بحياة الحبيب بورقيبة والملك والاستقلال، وألقى البوليس القبض على بعض القادة إثر افتراق المظاهرة قبل الظهر بقليل، فتناقلت الألسن الخبر بسرعة فائقة، واجتمعت الجماهير من جديد أكثر عددا وأشد حماسة وأقوى عزيمة، وساروا نحو مركز البوليس وطالبوا بإطلاق سراح المعتقلين، فسخر منهم البوليس الفرنسي، وشتم وأهان، وسعى في تفريق الناس وتشتيتهم بالقوة، ولما رأى صمودهم أخذ يمطرهم رصاصا، علما منه أنهم عزل من كل سلاح، فلما رأى الوطنيون إخوانهم يسقطون من حولهم قتلى وجرحى، لم يتأخروا ولم يفروا ولم يهنوا، بل تقدموا مستميتين حتى تأخر البوليس والتجأ إلى مركزه وأوصد الأبواب، وشرع يصيد التونسيين صيدا من بعض النوافذ، وأخيرا عبأ الوطنيون تعبئة كاملة واقتحموا مركز البوليس وحطموا الأبواب والنوافذ، وقتلوا أعوان البوليس الفرنسيين، وقد اعترى أحدهم جنون لفرط الرعب الذي نزل بقلبه، وهاجم إذ ذاك الدرك الفرنسي الوطنيين من خلف، ولكنهم رجعوا خائبين، وتتبعهم الوطنيون إلى «البرج القديم» الذي اتخذوه ثكنة لهم، فاحتمى فيها الدرك الفرنسي، ووجه للتونسيين نارا حامية من الرشاشات والبنادق خلال الأبواب والنوافذ، وتساقط الشهداء والجرحى، ولكن روح الجهاد كانت قوية جبارة، وواصل الوطنيون هجماتهم رغم الخسائر الجسيمة، وأصلوا الجنود الفرنسيين نارا حامية من الأسلحة التي أخذوها من البوليس، ودامت المعركة ساعات طويلة من غير انقطاع إلى أن توالت نجدات من الجيش الفرنسي، وخاصة من الكوماندوس البحري الذي وصل عند المساء متأخرا؛ لأن الوطنيين بمدينة «قصر هلال» المجاورة للمكنين قد اعترضوا هؤلاء الجنود الفرنسيين، وهاجموهم بالقنابل اليدوية، وعطلوهم في الطريق، ولم يفسحوا لهم إلا بعد أن تكاثر الجنود عليهم. ولما وصلت تلك القوات إلى المكنين لم تجد بمركز البوليس إلا بعض الجثث: جان كاردي
Jean cardi ، جاك مادلين
Jacque Madeleine ، ريمون كليمت
Raymond Ciément
ومجنونا يصيح ويرتعد من الخوف.
ولما رأى الوطنيون أنهم سيكونون بين نارين تفرقوا، وأخذوا معهم عند تقهقرهم أمام الأسلحة سريعة الطلقات والكثرة من العدد عونين من البوليس، ثم بعد ساعة أطلقوا سراحهما وكان أحدهما قد أصيب بجراح بليغة.
وتظاهر الوطنيون في مدينة «جمال» المرة تلو المرة، وكثرت من البوليس الفرنسي الاستفزازات والاعتداءات، إلى أن كان يوم 23 يناير فتقدمت مظاهرة كبرى، واخترقت شوارع المدينة في سيرها نحو مقر السلطات التونسية، وإذا بالبوليس الفرنسي يعيد استفزازه، فصبر له الوطنيون وردوا الفعل، فتسلل أعوان البوليس نحو مركزهم، وهاجمهم التونسيون واقتحموا المركز اقتحاما واستولوا عليه، ولكن الأعوان الفرنسيين فروا من باب خلفي، فأحرق ذلك المركز كله.
وقد ضربت مدينة طبلبة المثال الأعلى في الشجاعة والبطولة وروح التضحية والاستماتة في سبيل الأهداف الوطنية، وقامت المدينة كلها يوم 23 يناير بمظاهرة كبرى اشترك فيها جميع السكان ليسلموا عريضة للسلطات التونسية تعرب عن عزمهم الراسخ على متابعة الكفاح إلى أن يتحقق لتونس استقلالها. وكانت الصفوف تسير بنظام محكم وهدوء كامل، والشبيبة الدستورية بلباسهم الرسمي يحفون بالجماهير ويحافظون على الأمن.
فلم يرق ذلك المنظر الرهيب «المعمرين» الساكنين قرب البلدة - بياس وصهره دريفوكس - ومن الملاحظ أنهما لم يمسا أبدا بسوء، ولم يتعرض لهما أحد من الوطنيين ولا لعيالهما ولا لرزقهما، بل كان الدستوريون أنفسهم يقومون بحمايتهما والمحافظة عليهما ومعاشرتهما عشرة طيبة جعلهما يصرحان دوما أنهما على الحياد. وبعد ظهر ذلك اليوم اقتحم المدينة نحو عشرة من الجندرمة والعساكر، وكان الناس مجتمعين في السوق والشوارع الرئيسية؛ فوسعوا لتلك القوات التي أخذت في دفع التونسيين ولكمهم وصفعهم وتهديدهم تارة باللسان، وتارة بإشهار الأسلحة عليهم. ولكن الوطنيين حافظوا على اتزان أعصابهم ولم يردوا الفعل، ومن الغد علم الوطنيون أن قوات كبيرة من الفرنسيين تتجه نحو مدينتهم، فأعدوا العدة لاستقبالها استقبالا يليق بها، ووضعوا كمينا بمدخل القرية، ثم تسلق قسم منهم السطوح، وأحضروا معهم ما عندهم من أسلحة وقنابل يدوية ومفرقعات.
وكانت أول فرقة من الفرنسيين هاجمت طبلبة، فرقة الكوماندوس البحري التي نزلت من الباخرة إيلان
Elan
في ميناء سوسة، آتية ليلا من بنزرت، فبعد أن خرقت القافلة العسكرية الفرنسية المؤلفة من ذلك الكوماندوس ومن قوات كبرى من الجندرمة، مصحوبة بالدبابات والسيارات المصفحة مدينة المكنين في الساعة الرابعة بعد الظهر؛ توجهت نحو طبلبة وشرعت تدخلها، وفي مقدمتها بعض الدبابات والسيارات المصفحة وكذلك في مؤخرتها. وكان أهل طبلبة صامتين هادئين على استعداد تام للهجوم، وقد أفرغوا الشوارع كلها، وبعد أن تورطت القافلة وسط المدينة، هاجمها الكمين خارج القرية، فكسروا بعض «اللوريات» التي سدت الطريق، وأخذوا التونسيون حالا يرمون قنابلهم ومفرقعاتهم ويطلقون نيران أسلحتهم من السطوح، ونزلت قنبلة كبيرة على دبابة، فكسرتها وقتلت من فيها ووقعت أخرى على «لوري»، ففرقعته وقتلت جميع من فيه من عساكر. وكثر الموتى والجرحى من الفرنسيين، وتحمس الوطنيون، واعتلى منهم التشهد والتكبير، وتقدمت بطلة طبلبة الشهيدة أم التيجاني بن سالم نحو ابنها حاملة بندقية، وقالت له: «إما أن تخرج للجهاد، وإما أن أخرج بنفسي.» ولم تمهله ليجيب، بل أسرعت نحو محل المعركة، وأخذت مكانها من القتال، وجاهدت إلى أن استشهدت. وكان بقية نسوة القرية يشجعن الوطنيين، ويعنهم، ويمددنهن بالذخيرة وهن يولولن ويزغردن. وسقطت شهيدة أخرى «محبوبة بنت صندل» وهي تعين المجاهدين، وقد التقط أحد الجنود الفرنسيين قنبلة يدوية سقطت على اللوري الذي كان به وأرجعها إلى سطح البيت القريب منه، فجرح بعض المجاهدين، وأخيرا تغلب أشبال طبلبة وسجلوا انتصارا باهرا على المهاجمين الذين فر منهم بأرواحهم من بقي حيا حاملين معهم قتلاهم وجرحاهم، وهكذا تحررت المدينة من الأجنبي. وعند انهزامهم صادفوا شيخا مسنا تجاوز الثمانين من عمره «عمار بن عبد السلام بيوض» فأردوه قتيلا.
وقد أجرى الوطنيون بحثا دقيقا بمستشفى سوسة؛ حيث نقلت الجثث والجرحى الفرنسيين، فوجدوا أن القتلى يفوقون الثلاثين، وجرح جميع رجال القافلة ما عدا اثني عشر فقط خرجوا منها سالمين. أما شهداؤنا الأبطال فهم: أحمد التركي، عثمان صندل، شبيل بن محمد نويرة، محمد بن عبد القادر المستيري .
ومن الغد (25 يناير) شيعت المدينة كلها شهداءها في موكب رهيب، وبينما كانوا مجتمعين في المقبرة لدفنهم، وإذا بقوات فرنسية هائلة تتقدم نحو القرية في الساعة الثالثة بعد الظهر، فلما وجدوها خاوية، مالوا نحو المقبرة فطوقوها، وجاءت تلك القوات في أكثر من ستين «لوري» محملة بالعساكر، وهي مؤلفة من الكوماندوس المهزوم، وكوماندوس بحري آخر أتى من مدينة صفاقس، وفرقتين كاملتين من الجنود مصحوبتين بكوكبة من الحرس المتنقل، مع عدد من الدبابات والسيارات المصفحة والمدافع من عيار 75. وكانت الباخرة الحربية «إيلان» تحرس المياه البحرية أمام طبلبة، وكان الوطنيون عزلا من السلاح، ولما طلب منهم ضابط فرنسي أن يدلوه على قادة الحركة الوطنية بالمدينة، أجمع التونسيون على أن هؤلاء القادة قد غادروا المدينة كلهم وسهلوا عليهم الفرار بالفعل.
وقد عم الغضب الشعب التونسي بأسره، ولم يقتصر على جهات معينة، وساد الاضطراب والهياج القطر التونسي كله، وكانت المظاهرات الشعبية الصاخبة التي تعد كل واحدة منها عشرات الآلاف تسير في شوارع صفاقس وقفصة والكاف وباجة ونفطة وتوزر وقابس ومدنين وجرجيس، كما سارت في شوارع تونس وبنزرت وسوسة والقيروان، وكان الإضراب العام يشمل جميع مدن القطر وقراها، كما كان الاعتداء المسلح الفرنسي عاما شاملا في البلاد، وكانت الحرب التي لم تتجاسر فرنسا على تسميتها باسمها الحقيقي تجتاح تونس كلها. (4) قطع المواصلات
لما رأى الوطنيون التونسيون تدفق القوات الفرنسية من الجزائر ومن فرنسا نفسها وسرعة تنقلها داخل البلاد، قرروا القيام بقطع المواصلات بأنواعها لتعطيل تلك القوات، فقطعوا أسلاك التليفون في الدخلة وجهة الكاف وجهة القيروان وجهة الساحل وصفاقس وجهة قابس والجنوب، بل قطعوها بين كل قرية وقرية وبين كل مدينة ومدينة، حتى صعب على السلطات الفرنسية الاتصال السريع وغمضت الحوادث، وأصبحت البلاغات الرسمية التي تصدرها الإقامة العامة تناقض ما تقوله إذاعات فرنسا، ووكالة (فرانس بريس) وقطع الوطنيون خط التليفون المدفون تحت الأرض الرابط بين تونس وفرنسا.
ثم وجهوا ضرباتهم إلى السكك الحديدية والجسور والطرقات، ففي ليلة 22 يناير قلع الوطنيون - قرب مدينة مساكن - قسما كبيرا من السكة الحديدية ، فخرج قطار للبضائع عن القضبان وانقلبت عرباته وتعطلت المواصلات بين سوسة والجنوب.
وفي ليلة الخميس 24 يناير على الساعة الثانية والأربعين دقيقة، خرج قطار عن السكة الحديدية الممتدة بين تونس والجزائر في جهة «ديبيان»؛ لأن الوطنيين حطموا قضبان السكة وأقلعوها على طول خمسة عشر مترا، فانقلبت القاطرة والعربات التي كانت تجرها وعددها اثنتا عشرة عربة مشحونة بمختلف البضائع، ومات عامل فرنسي من جراء الحادث، وتقدر الخسائر بأكثر من مائة مليون فرنك.
وفي نفس الساعة خرج قطار آخر عن السكك الحديدية بالقرب من «المنوبية» في ضواحي تونس، فانقلبت القاطرة وعرباتها الخمس عشرة بسبب قطع الوطنيين للسكة الحديدية، وكانت الأضرار المادية فادحة.
وقد انقلبت أيضا القاطرة التي تفتح الطريق إلى «الديزل» بعد خروجها من صفاقس.
وفي فبراير قطعت سكة الحديد بين صفاقس وقابس قرب المحرص، وانقلبت القاطرة وثلاثون عربة، وكان حادثا مريعا، واختلطت فيه البضائع بالحديد والخشب، وتدمرت السكة على طول كيلومتر واحد.
وفي شهر فبراير أيضا نسف الوطنيون محطة صفاقس الكبرى وفجروا فيها القنابل، فتقطعت السكة الحديدية، وتحطم مركز تحوير القطارات وتهدمت خزانة الماء.
ونسفت أيضا محطة قابس الكبرى عند دخول القطار إليها، وكان حادثا مهولا دمر المحطة بما فيها والقطار نفسه، ومات فيه عدد من الناس.
وشرع الوطنيون أيضا في نسف الجسور في جميع أنحاء المملكة، فمنها ما خرب تماما، ومنها ما أصبح غير صالح للمرور، ومنها ما لحق به أضرار. (5) الاعتداء المسلح وأثره في العلاقات التونسية الفرنسية
إن أول ما يتبادر إلى الذهن السؤال عن المسئول الحقيقي في تلك الحوادث كلها، وهل هناك مسئول أم مسئولون؟ فمن أصدر الأمر إلى المقيم العام في استخدام العنف وجميع أساليب القمع والقتل وإراقة الدماء؟ من أراد الاعتداء المسلح على الشعب التونسي الأعزل؟ خاصة وأن الوزارة الفرنسية كانت مستقيلة في ذلك الحين. وقد تبين فيما بعد أن موريس شومان
Maurice Schumann
نائب وزير الخارجية الفرنسية قد عجل بإرسال برقية مفصلة إلى «دي هوتكلوك» المقيم العام الفرنسي بتونس ليلة الثلاثاء 15 يناير، ولم يستشر فيها الوزير المسئول حتى لا تفسد عليه مؤامرته التي دبرها باتفاق مع رؤساء الجالية الفرنسية بتونس، وينبغي ألا ننسى أنه ناصب العداء للتونسيين وكان العامل الفعال الذي أملى على الحكومة الفرنسية نفسها مذكرة 15 ديسمبر التي قطعت أثرها المفاوضات بين تونس وفرنسا. ومن الملاحظ أيضا أن أمره للمقيم العام قد سبق جميع الحوادث وكان السبب الرئيسي لها، وأن جريدة «ليموند» تحمله تلك المسئولية؛ إذ قالت في عددها الصادر في 20 / 1 / 1952 ما يلي:
ومن الناحية الفرنسية فقد صدرت تعليمات فيها شيء من الدقة إلى المقيم العام، من غير شك في غضون ليلة الثلاثاء، وباتفاق عام بين الوزراء الأصليين الذين وصلت إلى علمهم تليفونيا، وقد عرضت البرقية التي حررت بوزارة الخارجية على المسيو بليفن وكوي ولانيال وبيدو وإدجار فور الذي لم يتسلم بعد مقاليد الأمور، فأرجع المسألة إلى كوي، وقد وقع أعلام رئيس الجمهورية وأدخلت عليها تحقيقات طفيفة خاصة بطلب من رئيس الدولة، وأخذ موريس شومان على عاتقه قبولها.
ووزير الخارجية هو المسئول عن سياسة فرنسا بتونس، وهو معروف بميله إلى الوفاق، ولكنه كثير العمل، وتعدل إداراته أقواله وأوامره بنوع من الدقة.
واهتز الرأي العام الفرنسي، واشتغل بحوادث تونس واهتم بها اهتماما كبيرا، وثارت بعض الصحف على موريس شومان وأعماله التي لا توصف، فكتبت جريدة فران تيرور
Franc Tireur
الفرنسية بتاريخ 19 / 1 / 1952:
إن الاعتداء الظاهر بتونس يؤيد تأييدا جليا قويا شكوى الحكومة التونسية.
حكومة مستقيلة وحكومة لم تشكل! قرارات هامة توجه سياسة فرنسا بتونس! من المسئول عنها؟ ليس «دي هوتكول»، وهو شخصية ثانوية وضعته الصدف في تنقلات السفراء على رأس الإقامة العامة؟!
وقع التأكيد أن المسئول هو موريس شومان المستقيل؛ لأنه يبغض الحبيب بورقيبة على دعواه.
وهو الذي سعى في الخلط والخلبطة فأمر باعتقال الشيوعيين!
مناورة صبيانية ومهزلة لم تنطل على أحد ... الاضطهادات وسفك الدماء، إيقافات من غير حق ... فهي طريقة غريبة تذكرنا بفيشي والألمان لتعليم «المحمية» دروس الديمقراطية!
أما المقيم العام بتونس فإنه أصبح كالريشة في مهب الرياح وسط تلك العاصفة القوية، فأخذ في أول الأمر يقوم بمناورات صبيانية، فأصدر أمره للبوليس الفرنسي بأن يلقي القبض على قادة الحزب الحر الدستوري وعلى القادة الشيوعيين في آن واحد، فاعتقل لذلك السبب يوم 18 / 1 / 1952 موريس نيزار ومحمد جراد أميني الحزب الشيوعي، وخميس الكعبي عضو هيئته العليا، وبلعيش الأمين العام للنقابات الشيوعية، وقد قصد بذلك بث الريب، وإرادة الخلط والتشويه؛ حتى يظن الرأي العام العالمي أن الحركة الوطنية والحركة الشيوعية شيء واحد، وقد نسي في غفلته أن زعيم الحزب الحر الدستوري الحبيب بورقيبة كان منذ مدة وجيزة فوق أرض الولايات المتحدة الأمريكية ليبث الدعاية لوطنه، وأن أمريكا لا تسمح بالدخول إلى بلادها إلا لمن لا تشوبه شائبة من الشيوعية أصلا.
فكانت تلك الحيلة المفضوحة أضحوكة أثارت استهزاء جميع الأوساط.
وكانت الحالة بباريس يسودها نوع من الاضطراب؛ إذ كانت فرنسا من غير حكومة، وكان «إدجار فور» بصدد تشكيل وزارة جديدة في جو متأثر تأثرا عميقا بأحداث تونس.
وقد اجتمع نواب الحزب الاشتراكي الفرنسي ب «إدجار فور» وبينوا له قلقهم، وشرحوا وجهة نظرهم وقالوا له: «إن الإجراءات التي اتخذت بتونس تناقض مقدمة الدستور الفرنسي وتقيم الدليل على جهل مطبق بالحقائق والواقع التونسي، فينبغي أن يقوم الجانبان الفرنسي والتونسي بجميع ما يلزم لتهدئة الجو حالا؛ ليتمكنا من فتح محادثات بروح ملؤها التفاهم.»
وقد تحدث رئيس الحكومة الجديد «إدجار فور» عن تونس في تصريحه الرسمي أمام البرلمان الفرنسي، فقال:
ولكن فيما يتعلق بتونس فأقول: إن رغبات ذلك الشعب لا تناقض رغائبنا، وإنني سأبقى وفيا لفكرة الإصلاح الذي شرعنا فيه بعد، فلن ترجعني عن طريقي المناورات ولا المغالاة.
ومن الملاحظ أن الغموض التام يشمل تلك العبارات التي لا تدل في غموضها على نوع الإصلاحات ولا جوهرها ولا مداها، أما رغائب تونس في تلك الآونة فهي معروفة واضحة: إرجاع السلطان إلى أيدي التونسيين. فما قيمة هذا التصريح إذن؟ أهي مراوغة جديدة من الحكومة الفرنسية أم هو ذر الرماد في العيون، أم يكون إدجار فور صادقا في وعوده؟ ومن الجلي الواضح أنه عاجز عن تطبيق رأيه؛ لأن الأحزاب التي أيدت حكومته مختلفة في القضية التونسية، وآراؤها متناقضة أصلا فيها، فالأزمة ستبقى إذن كما كانت، ولم يمنع ذلك المقيم العام من طلب المثول أمام الملك، وجرت المقابلة بينهما يوم 24 يناير، وألح المقيم أثناءها على وجوب استئناف المفاوضات اعتمادا على تصريح رئيس وزراء فرنسا، بشرط سحب الشكوى التونسية من هيئة الأمم، وإرجاع الوفد الوزاري التونسي إلى تونس، فرفض الملك ذلك رفضا باتا، وأصر على موقفه قائلا: إن الحكومة الفرنسية لم تسأله رأيه عندما قامت بأعمال القمع، وإن فرنسا لو كانت لها نية إصلاح حقيقية لمنحت تونس رغائبها، فتسقط الشكوى بطبيعتها، وحاول المقيم إذ ذاك شرح تصريحات شفهية لرئيس الوزارة الفرنسية أمام البرلمان جازما أن فرنسا تريد منح الاستقلال الداخلي لتونس، وقال المقيم: إني أريد أن أبين مدى هذا التصريح لما فيه من معان بين الأسطر، فأجاب الملك حرفيا: «نحن لم نسلم مما هو فوق الأسطر، فما بالك بما تحتها!»
وتوجه إلى وزيره قائلا: «لا تكفينا التصريحات والكلام والألفاظ، إنا نريد الأعمال، فقدموا لنا برنامجا حقيقيا.»
فلما تعذر على المقيم العام الجديد تطبيق خطته العدوانية - رغم خروجه عن اللياقة واستخدامه القوة - استعان بالحكومة الفرنسية التي خاطبت جلالة الملك رأسا برسالة لم تتراجع فيها عن مذكرة 15 ديسمبر 1952 مظهرة إصرارها على متابعة سياستها الاستعمارية:
مذكرة الحكومة الفرنسية إلى جلالة الباي بتاريخ 26 يناير 1952
ترى الحكومة الفرنسية بعد زيارة المقيم العام الفرنسي لجلالة باي تونس واستجابة للرغبة التي أعرب عنها جلالته، أن توضح من جديد الاتجاه العام لسياستها إزاء تونس والنتائج التي تعتقد أنه يجب أن تستنتجها من هذه السياسة في الوقت الحاضر.
إن الحكومة الفرنسية تتحمل بمقتضى المعاهدات المعقودة مع تونس المسئولية الكاملة عن المحافظة على الأمن العام في هذه البلاد، ولم تغفل هذه الحكومة إظهار تقديرها بحق لما قام به جلالة الباي من الإعراب عن موافقته التامة على البيان الذي أذاعه المقيم العام مناشدا الشعب التونسي الإخلاد إلى الهدوء والسكينة، وستقوم حكومة الجمهورية الفرنسية فيما يتعلق بها ولصيانة المصالح المشتركة لجميع سكان تونس بواجبها دون تهاون ولا إهمال.
وإن جلالة الباي ليعلم فضلا عن ذلك أن الحكومة الفرنسية تهتم دائما بأن تكفل بالاتفاق التام مع جلالته حركة التطور الديمقراطي في تونس، ولقد أدلى رئيس الوزارة الفرنسية ببيان أثناء المناقشة التي دارت في مجلس النواب في 22 يناير الماضي، أوضح فيه رأي الحكومة الفرنسية مؤكدا السيادة التي يتمتع بها جلالة الباي، وعني رئيس الوزراء بإزالة سوء التفاهم الذي نجم عن تفسير المذكرة المؤرخة 15 ديسمبر، وتلا التصريح الذي أفضى به وزير الخارجية في 20 ديسمبر أمام مجلس الجمهورية حيث قال: لقد أخذ علينا أننا أشرنا للمرة الأولى في النص الرسمي إلى مسألة السيادة المشتركة، ولكننا في الحقيقة لم نذكر هذه الكلمة، بل لم نشر إليها أية إشارة.
أما فيما يتعلق بالإصلاحات الخاصة بالمجالس البلدية والتشريعية والإدارية، فسوف تقوم بدراستها لجنة مختلطة بمجرد استئناف المحادثات بين البلدين، ولكي تتمكن هذه اللجنة من الشروع في عملها دون تأخير وأداء مهمتها على أحسن وجه وفي أقرب وقت مستطاع، يجب أن تتألف من شخصيات غير مشغولة بالأعمال الإدارية والحكومية.
ومن الواضح أن مثل هذه المباحثات لا يمكن إجراؤها ما لم تسحب تونس الشكوى التي قدمت إلى الأمم المتحدة ضد فرنسا، وذلك بالرغم من أنه ليس ثمة ما يبرر تقديمها وقبولها، وإن الحكومة الفرنسية لترى أن من واجبها في هذه الحالة أن تذكر جلالة الباي بما سبق أن تقدم به في هذا الشأن المقيم العام.
ورغبة في العمل فورا على إزالة العقبات التي تحول دون استئناف المحادثات التي توقفت بالرغم من إرادة فرنسا، ترى الحكومة الفرنسية أنه عليها أن تطلب في إلحاح الرد على هذه المذكرة في أقرب وقت، وأن الحكومة الفرنسية ستجد نفسها مضطرة - إذا لم تتلق الرد سريعا - إلى إطلاع الرأي العام على أنها ليست مسئولة عما يترتب على عدم استئناف المحادثات من نتائج خطيرة.
فأجاب جلالة الملك بمذكرة فند فيها أقوال الحكومة الفرنسية بإيضاح، وصرح بتضامنه الكامل مع شعبه الجريح:
رد جلالة الباي بتاريخ 5 فبراير 1952
اطلع جلالة الباي على المذكرة الفرنسية التي بعث بها إلى جلالته المقيم العام الفرنسي في تونس يوم 30 يناير، وقد سجل جلالته الرغبة التي أعرب عنها رئيس الحكومة الفرنسية لإزالة سوء التفاهم الذي نجم عن المذكرة الفرنسية المؤرخة في 15 ديسمبر من العام الماضي، والتي أدت إلى قطع المفاوضات بين تونس وفرنسا، وإن جلالته إذ يسجل ذلك يلاحظ أنه قد اقتصر على الإشارة إلى التصريح الذي أفضى به المسيو روبير شومان وزير الخارجية أمام مجلس الجمهورية في 20 ديسمبر سنة 1951، دون أن يذكر ما يبدد كل شك فيما يتعلق بعدم التوافق بين اشتراك الفرنسيين في تونس في الشئون السياسية للبلاد وبين المبدأ الخاص بوحدة السيادة التي يهمنا توكيدها.
ولا حاجة إلى القول بأنه ستتخذ - صونا لهذه السيادة على أكمل وجه - التدابير الكفيلة بحفظ المصالح العليا لفرنسا ومصالح الرعايا الفرنسيين في تونس.
أما فيما يتعلق بالنقط الأخرى التي أشارت إليها المذكرة سالفة الذكر، والتي لم تخرج عن أنها كررت المطالب التي جاءت في مذكرة سابقة؛ فقد جاء الرد عليها في خطاب أرسل بتاريخ 17 يناير ويحسن الرجوع إليه.
ولقد تأثر جلالة الباي تأثرا عميقا لأعمال القمع الصارمة التي تجري الآن، والتي ألحقت أضرارا خطيرة بسلامة أفراد الشعب وممتلكاتهم، كما أدت إلى المساس بسيادة الدولة، وقد أحاطت الحكومة التونسية المقيم العام الفرنسي علما ببعض هذه المخالفات.
وإن جلالة الباي الذي يهتم قدر اهتمام الحكومة الفرنسية بالمحافظة على الأمن والنظام، لا يسعه إلا أن يسجل أن الحالة لا تتطلب الإسراف في استخدام هذه القوات الكبيرة.
ويخلص مما تقدم أنه لكي تستأنف المفاوضات في حرية وعلى وجه مثمر كما يرجو جلالة الباي والحكومة الفرنسية، على الحكومة الفرنسية أن تحدد موقفها بوضوح إزاء المبادئ التي يجب أن تتخذ قاعدة لتنظيم الإدارة التنفيذية والهيئة التشريعية في تونس، على صورة تحقق الحكم الذاتي السليم وتهيئ جوا مشبعا بالثقة التي لا يمكن توفيرها إلا بإنهاء حالة الطوارئ والنظام الشاذ الذي فرض على تونس منذ بضعة أسابيع.
وكان موقف المقيم في ذلك الحين عجيبا غريبا مدعاة للضحك؛ إذ أصبح جلالة الملك يرفض كل اتصال مباشر معه ويحيله على وزيره الأول، والمقيم من جهته يرفض مقابلة الوزير الأول التونسي بدعوى أنه غير مخلص لفرنسا، وقد طلب من الملك مرارا إقالته، وكل مرة يجدد الملك ثقته فيه. وإذا بالمقيم يلجأ إلى خرق المعاهدات ويثير اهتماما كبيرا في الأوساط التونسية والفرنسية، فيتصل مباشرة بولي العهد عز الدين باي ليهيئ خلع محمد الأمين بعد أن هدده تهديدات متوالية، ويتآمر مع الصحافة الاستعمارية لنشر تلك التهديدات الصريحة.
ولما بلغت تلك الحوادث كلها إلى رئيس البعثة الوزارية لدى هيئة الأمم، أفضى بالتصريح التالي للصحافة في 19 / 1 / 1952:
بلغني في هذا الصباح أن السلطات الفرنسية اعتقلت الأستاذ الحبيب بورقيبة، والأستاذ المنجي سليم، وعددا من النواب الدستوريين الذين أتوا مدينة تونس للمشاركة في مؤتمر الحزب.
وقد ازدحمت بتونس اليوم قوات فرنسية مسلحة خارقة للعادة، واحتلت المدينة عسكريا، وضبطت حركة المرور ضبطا شديدا، وقطعت مدينة حمام الأنف حيث يوجد قصر جلالة الباي عن بقية المملكة، وطوقت القصر نفسه ...
أما تأثير هذه الإجراءات على حزبنا، فلا يمكن أن تشغل بالنا؛ إذ تكررت التجربة مرات في محاولة للقضاء على حركتنا القومية بطرق الاضطهاد والعنف، وخرج منها كفاحنا الوطني أقوى وأشد في سبيل تحرير بلادنا، وقد أصبح ذلك الهدف إيمانا عم الشعب التونسي بأسره.
وإنا لواثقون الوثوق التام في مصير وطننا وفي الطريق الذي اخترناه لتحقيق رغائبه القومية، فإن التجاءنا إلى هيئة الأمم المتحدة وسيلة يؤيدها العالم بأسره.
وإن كان أنصار سياسة السوء بتونس المتمثلون في قادة قسم من الجالية الفرنسية يؤملون من وراء سياسة يملونها إملاء، ويفرضونها على حكومتهم في القضاء على تيار الشعب التونسي الجارف واندفاعه نحو أعلى مصير؛ فإنهم سيرون رأي العين - بعد فوات الأوان - أن عملهم سيضر بمصالح فرنسا وبمصالحهم أيضا بتونس.
وشرع كثير من الدول والشعوب تؤيد تونس وتشهر بالعدوان الفرنسي، فقد نشرت جريدة «مساجيرو دي روما» الإيطالية - وهي جريدة «دي جاسبيري» رئيس الحكومة ولسانه - مقالا بتاريخ 14 يناير 1952 جاء فيه:
لو أجلى الفرنسيون اليوم قواتهم عن تونس كلها أو جزئيا فلا شك في أن بنزرت لن تخلى، ولكنها تجذب أنظار الإنجليز والأمريكان الذين يفتشون بلهفة عن قواعد حربية في البحر الأبيض المتوسط، بحيث يشهد بالبراعة للوطنيين التونسيين؛ إذ تمكنوا من جلب الاهتمام الأنجلو أمريكي المزدوج بقضيتهم القومية، بأن وعدوهم باستخدام الاستحكامات القوية الموجودة ببنزرت ...
وإن التقاليد الحرة الإيطالية والعلاقات الطيبة في حسن الجوار بين الإيطاليين والأهالي، يوعز لنا أن ننظر بعطف إلى رغائب التونسيين مع إبداء النصح لهم بالحذر والاعتدال والثقة في تعقل حكومة باريس، وفي التطور للساعة التاريخية الراهنة.
وثارت ثائرة الفرنسيين الأحرار أنفسهم، فعقدوا الاجتماعات وقاموا بحملات صحفية مستمرة لفائدة شعب تونس، نقتطف مما نشر في ذلك الصدد مقالا افتتاحيا نشرته مجلة «العصور الحديثة»
Les temps Nouveaux
عالجت فيه القضية التونسية في عددها الصادر في شهر مارس 1952، جاء فيه:
ليست هذه المرة الأولى التي تقطع فيها الوعود للتونسيين، وليست هي المرة الأولى التي ينفد فيها صبر التونسيين، فيتحول استياؤهم إلى مظاهرات شعبية، وقد قوبلت هذه المظاهرات بالقمع وبوعود أخرى.
وليست هي المرة الأولى التي يتهم فيها الزعيم بورقيبة بأنه يعمل لحساب الأجانب، فبالأمس اتهم بأنه يعمل لحساب الإيطاليين، غير أنه لم توجد وثيقة تثبت الاتهام، ثم ألصقت تهمة أخرى بالوطنيين التونسيين، فقيل إنهم يعملون لمصلحة الدعاية الشيوعية، ثم قيل إنهم يأتمرون بأوامر الجامعة العربية، وقد خفت وطأة الاتهامات بعد ذلك؛ لأنه لم يوجد ما يثبتها ويؤكدها.
ونرى من جهة أخرى أن الحكومات الفرنسية المتعاقبة كانت ترى مسئوليتها حيال القضية التونسية تتمثل في عدم وقوع حوادث وعدم قيام مشاكل، بيد أن الزعم بضرورة الحضور الفرنسي قد اتخذ لتبرير الحيف، وتفسير المعاهدات تفسيرا أنانيا. ومعنى ذلك عدم البحث عن علاج للحالة، وهكذا تمت اللعبة وهي لعبة المعمرين والذين يؤيدونهم في فرنسا، وهم يجدون في ذلك التأييد فائدتهم ولا شك، ولكنهم بعملهم هذا يقترفون جرما؛ لأن الرأي العام في فرنسا يصبح مسئولا وضحية لهذا الختل.
ولطالما استمعنا إلى كلمة تقول: «إننا لن نستمر وإنما نبني صرح الاتحاد الفرنسي»، وهي كلمة ضخمة ولكنها تخفي عكس ما تظهر.
ونحن نكذب عندما نقول إن التونسيين رفضوا التجربة الحاسمة، وإنما الرفض كان صادرا عن الفرنسيين عندما قرروا الانتقال من الوعود إلى الإصلاحات، ولكنها كانت التجربة لأن الإصلاحات لم تتم حسب الوعود.
وقد لخص زعيم الحركة الوطنية بتونس الحبيب بورقيبة الحالة، وما تنطوي عليه من أخطار في مقالة نشرته مجلة «العصور الحديثة» الفرنسية بعث إليها به من منفاه هذا نصه:
إذا كانت التجربة التونسية قد انتهت بعد عشرين شهرا انقضت كلها في الجهود المتحمسة إلى نهاية أليمة تجف بها الدماء؛ فذلك لأن فرنسا لم ترد أن تفهم مطالب البلاد التونسية، ولا ما يمكن أن تحققه هذه البلاد في نطاق السلم والصداقة.
إن ما يطالب به الشعب التونسي ليس هو هذه الإصلاحات الجزئية في نطاق البلديات والوظيفة العمومية، مع الاحتفاظ بسياسة إبقاء ما كان على ما كان، ولكن ما يطالب به الشعب إنما هو استرجاع سيادته السليبة؛ أي المقاطعة التامة مع النظام الحالي.
إن هذه السيادة قد بترت وذهبت أشلاء بفعل معاهدة عتيقة ترجع إلى سبعين سنة خلت، وكانت قد فرضت على البلاد فرضا بواسطة القوة المسلحة، وتبعها فيما بعد غزو هائل احتل البلاد من أطرافها بثلاثة جيوش جرارة يصحبها جميعا تهديد وإنذار لم يترك لجلالة الباي المحاصر في قصره إلا ساعات معدودات ليقرر موقفه من الأمر المقضي.
إلا أن هذا البتر الذي حدث للسيادة التونسية بالقوة في غضون القرن الماضي لم يكن هو كل شيء، بل إنه استتبع فيما بعد أيضا بالقضاء النهائي الذي أنزله المقيم العام على ما تبقى من هذه السيادة؛ ولذلك بالرغم من أن اختصاصات هذا المقيم لا تجيز له - وفقا للمعاهدة نفسها - أن يتعدى كونه واسطة للعلاقات القائمة بين الحكومة الفرنسية والسلطات التونسية فيما يتعلق بالشئون التي تهم البلدين (المادة 5).
أما اليوم فإن المقيم - بصورة عملية - هو السيد المطلق في أمره ونهيه بالبلاد التونسية، فالقوانين لا تتخذ صبغتها الشرعية إلا إذا حظيت بموافقته، وهو الذي يراقب جميع الأجهزة الإدارية بالبلاد التونسية، والشرطة والجندرمة تابعة له، وكذلك القوات المسلحة بالبلاد. أما الوزراء التونسيون فليس لهم أي نفوذ، ولا حق لهم في اتخاذ أية قرارات كانت، وهذه الوضعية الثقيلة على التونسيين في عقر دارهم، والتي لا يستطيعون تحملها، هي التي نهض الشعب بقيادة الحزب الدستوري لمحاربتها منذ ثلاثين سنة، وهدفه هو تحطيم هذا النظام الإرهابي.
وقد كانت الوعود التي قطعها روبير شومان سنة 1950، وأكدها بيرييه المقيم العام في 13 يونيو من نفس السنة، قد ظهرت لنا بأنها تعبر عن إرادة الحكومة الفرنسية في إرجاع السيادة المنهوبة إلى ذويها التونسيين، والتي كانت معاهدة باردو نفسها قد نصت بصراحة على أنها من مميزات رئيس البلاد الأعلى، وأنها - هذه الوعود - ستكون الخطوة الأولى في طريق استبدال معاهدة 1881 الاستعمارية التي فقدت قيمتها، ولم تعد تتماشى مع الزمن الحاضر، بمعاهدة أخرى قائمة على الصداقة والعلاقات الطيبة التي تحفظ لفرنسا جميع الحقوق المشروعة، وتجعل من الممكن وجود تعاون حر بين شعبينا في جميع الميادين الضرورية التي لا بد فيها من تعاون متبادل بالنسبة لفرنسا وتونس معا.
ولكن المؤسف أنه ما كادت المفاوضات تخطو خطوتها الأولى، حتى أخذت تحف بها تهديدات أغلبية الممثلين الفرنسيين، وما لبثت أن انتهت إلى مذكرة 15 ديسمبر التي أوصدت في وجه التونسيين جميع أبواب التفاهم مع الفرنسيين من أجل التحرير الوطني؛ وذلك لما جاء فيها من إقرار يحمل طابع «النهائية» للعلاقات التي تربط تونس بفرنسا، وجعلت الجالية الفرنسية المستوطنة بالبلاد التونسية هي صاحبة الطول والحول في البلاد على حساب الشعب، مما يخالف جميع مبادئ القوانين الدولية.
ولكن الاعتدال الذي ظهر به الحزب الحر الدستوري فيما أبداه من ثقة بالوعود المقطوعة له باسم فرنسا، قد مكن من إماطة النقاب عما يخفيه الاستعماريون في الحكومة الفرنسية من نوايا ومقاصد جعلت الغضب يبلغ عند الشعب أقصى حدوده؛ لأنه لم يعد يطيق التصور بأنه سيظل عبدا رقيقا إلى الأبد في حين أن غيره من الشعوب، ومن بينها شعوب تجاوره في حدوده قد أصبحت تتمتع بسيادتها واستقلالها.
وهكذا حدثت القطيعة العنيفة، وتبعتها ردود فعل أعنف وأشد سالت فيها الدماء وسقطت فيها الضحايا، وهو ما كنا منذ سنتين نحاول جهدنا أن نحذر منه الحكومة الفرنسية. ولكن عبثا. ومما يؤسف له حقا أن بعض المسئولين الفرنسيين الذين يظنون أنفسهم متشبعين اطلاعا على الأمور في البلاد التونسية أصبحوا يعتقدون، بل ويصرحون علنا أن التونسيين سيضطربون ويتحركون ويحاولون المشاغبة، ولكنهم لم يلبثوا أن يهدئوا من أعصابهم ويستكينوا من جديد. لقد كان هذا الظن قابلا لأن يكون معقولا لو جاء في القرن الماضي، ولكنه عندما يجيء في سنة 1952 فهو مضحك.
إن الشعب التونسي قد أصبح مستعدا لتقبل جميع التضحيات؛ لكي يبرهن للعالم على أنه نضج النضج اللازم الذي يؤهله للحرية التي يطالب بها. إن الشعب قد صمم على دفع الثمن لهذه الحرية، وهو مستعد للكفاح من أجلها طوال ما تتطلبه من وقت.
وهذا ما جعل الحكومة التونسية التي استنفدت جميع جهودها في التفاهم المباشر قد تحولت - لكي تتجنب ما هو أنكى وأضر - إلى أكبر مؤسسة دولية تطلب منها التوسط الودي في النزاع القائم بينها وبين الحكومة الفرنسية، ولا تزال الفرصة سانحة أمام الحكومة الفرنسية لتعود إلى المفاوضات، ولكن على نفس القواعد والأسس وهي الاستقلال الداخلي.
على أن بلاغ الحكومة الفرنسية المؤرخ في 30 ديسمبر قد جاء يحمل شرطا تعتبره لا بد منه قبل الشروع في أي تفاهم، وهذا الشرط ينص على ما يلي: «إن الحكومة الفرنسية مخول لها بحكم المعاهدات المعقودة مع البلاد التونسية مسئولية حفظ الأمن العام.» وهذا تفسير مسرف وبعيد عما يقصده البند الثاني من معاهدة باردو، والذي يقول صراحة ما يلي: «من أجل تقديم التسهيلات اللازمة لحكومة الجمهورية الفرنسية في مهمة القيام بالإجراءات التي تمكنها من أداء مهمتها المتفق عليها من الدوائر العليا للطرفين والقاضية بمنع تجديد الاضطرابات والفوضى التي حدثت أخيرا في الحدود الفاصلة بين الدولتين؛ فإن جلالة الباي يصادق على أن تحتل القوات العسكرية الفرنسية النقط التي تعتبرها ضرورية الاحتلال؛ من أجل إعادة الأمن إلى نصابه في الحدود والسواحل، وهذا الاحتلال ينتهي عندما تتفق السلطات العسكرية الفرنسية والتونسية على الاعتراف بأن الإدارة المحلية قد أصبحت آمنة ومضمونة.»
إن هذا النص إذن يتعلق باحتلال مؤقت لبعض النقط الاستراتيجية في البلاد؛ لكي تتمكن السلطات العسكرية من إعادة الأمن إلى نصابه في الحدود والسواحل، وبين هذا الذي ورد في المعاهدة وبين كل ما جري بعد ذلك من القضاء على كل سلطة عسكرية وتسريح جنودها وإسناد كل السلطات التي تتمتع بها الحكومة التونسية إلى المقيم العام والمراقبين المدنيين في حفظ الأمن بالبلاد، توجد هوة سحيقة حفرتها فرنسا، وهو خزي لا يمكن أن يقبل.
ولهذا يجب أن يكون الاستقلال الداخلي للبلاد التونسية لا في حكومة منسجمة فقط - وهو الأمر الذي يحفظ مبدأ عدم وجود أية سيادة أخرى غير السيادة التونسية - ولكن أيضا في إرجاع الامتيازات المخصصة لكل دولة تتمتع بالسيادة إلى هذه الحكومة، وأول هذه الامتيازات مسئولية حفظ النظام والأمن في البلاد. فإن كانت فرنسا عازمة حقا على الاعتراف بهذا الحق والقيام بنقل السيادة التي يتضمنها هذه الاعتراف، لم يبق لها تعيين تاريخ معقول لا يمكن أن يتجاوز 31 ديسمبر من السنة الجارية لتحقيق هذا النقل بصورة كاملة وفعلية.
وهذا يمكن للحوار أن يستأنف بهذا الشرط إذا أريد له النجاح، كذلك يمكن للصداقة الفرنسية أن تتجدد قوتها، وتحظى بموافقة طبقات الشعب التونسي، وتسمح بذلك لظهور تعاون حر بين الشعبين.
لقد طلب منا «إدجار فور» أن نفصح له عن نواياتها، وهذا ما تم الآن.
وقد استطرد المسيو فور قائلا: «إنه إذا كانت نوايانا صادقة لا يوجد ثمة داع لكيلا نبرز هذه الإرادة المشتركة إلى الواقع، فإن إخلاصنا لا تشوبه شائبة، ولكن إخلاص فرنسا هو الذي ظل غامضا دائما.
هذا في حين أن المماطلة والغموض والتحايل المفضوح عمرها قصير جدا، ولا نتيجة لها غير إثارة الشكوك والحذر وتوتر الأزمة التي لا تزال في بدايتها.
إن الوقت قد حان إذن بالنسبة لفرنسا لكي تراجع كل سياستها تجاه تونس، ولكي تختار بين سياسة المناهضة التي لا يمكن أن تجر إلا الويل والكوارث، وبين سياسة التفاهم والرشد القائمة على الاحتفاظ بوجودها، لا في ميدان الوظيف والحكم المباشر والجندرمة واللفيف الأجنبي ولكن بالإخلاص والنزاهة مع حكومة صديقة يساندها شعب صديق.
إن المستعمرين القاصري النظر يصرحون بأن استقلالا داخليا من هذا النوع لا بد أن يؤدي إلى الاستقلال؛ وهذا صحيح، ومن الملائم أن تعالج قضية الاستقلال هذه منذ الآن: أن تهيأ لها الحلول الأساسية الجوهرية وتسطر لها الخطوات المحددة؛ لأن المسألة ليست في الاختيار بين الاستقلال للبلاد التونسية وحكمها حكما مباشرا، بل في الاختيار بين أن يكون هذا الاستقلال بقيادة فرنسا وتسييرها، حتى يمكن التعاون الحر بين الطرفين والمحافظة على المصالح الأساسية لفرنسا وللعالم الحر، وهو ما لا يزال ممكنا، بل وتتمناه جماهيرنا الساحقة - وبين استقلال يفتك افتكاكا في حماة الدماء والأحقاد وبمساعدة خارجية، قد ترمي بالبلاد التونسية في أحضان كتلة أخرى ليست من صالح فرنسا في شيء.
إن الاستقلال بالنسبة للبلاد التونسية كما هو بالنسبة لجميع الشعوب المضطهدة الفاقدة لحريتها، قد أصبح أمرا حتما لا مناص منه، ومن المستحيل على الشعب التونسي - وقد بلغ التنظيم والوعي إلى الحد الذي هو فيه، والذي ينمو معه ويطرد يوما بعد يوم - أن يستكين للعبودية والرق، ولكن إذا كانت الحكومة الفرنسية المعززة بجبروت جناحها الأيمن، تظن أنها تستطيع مناهضة الشعب التونسي بالقوة، فإنه لا نتيجة لهذا الوهم إلا ما هو أنكى وأضر؛ لأن استقلال تونس لا بد أن يتحقق بالرغم من فرنسا، وبالرغم من إرادتها.»
الفظائع
(1) تدبير الفظائع
ملأ الفرنسيون الدنيا صراخا وطبقوها دعاية ضد الألمان النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، وفضحوا الأعمال الإجرامية التي ارتكبت مدة الاحتلال الألماني لفرنسا، وأبرزوا للملأ ما وقع في مدنهم وقراهم - وخاصة في قرية «أورادور» - من تقتيل الأبرياء وتعذيبهم والتنكيل بهم.
ولكنهم بتونس عاملوا عشرات القرى معاملة «أورادور» بل معاملة أشنع وأفظع، وظنوا أن أنين المظلومين لن يسمع في العالم، وعويل الأرامل سيكبت، وصراخ اليتامى سيغط، واعتقدوا أن الضعيف المقهور المغلوب لا يؤبه له، ولا يلتفت إليه، ولا يصغى لشكواه، وعلموا أن تونس في زمرة البلدان المغلوبة على أمرها المحتلة احتلالا قويا جبارا، المعدودة في عرف الدول الكبرى ملكا لفرنسا، فيقول عنها الإنجليز كما يقول الأمريكان تونس الفرنسية.
وقد جربت فرنسا ذلك الأسلوب بالجزائر في عام 1945 عندما قتلت أكثر من أربعين ألف جزائري - رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا - وقام الجنرال جارباي نفسه بقمع الحركة الوطنية بجزيرة مدغشقر، وقتل في تلك الأثناء أكثر من مائة ألف لم تشعر بهم الدنيا، ولم يعرهم الرأي العام العالمي التفاته، وأرسلته الحكومة الفرنسية إلى تونس بنفس النوايا وليقوم بنفس العمل، فلم تكن عملية «التطهير» في جهة الدخلة من باب الصدفة، بل كانت منظمة تنظيما محكما قد أعدت خطتها من قبل، وسطر برنامجها في غير غفلة ولا سهو، بضمير لا يرحم، وقلب لا يخفق وفقدان غريب لكل شعور إنساني، حتى أصبح كل تونسي يتساءل أين المدنية الفرنسية، بل أين المدنية البشرية؟ وأين الرحمة؟ وأين الإنسانية؟
وقد تأثر كثير من الفرنسيين الأحرار الذين يعيشون بتونس عند مشاهدة الحوادث، فلم يستطيعوا تحمل جو كله رعب، وارتجفت أعضاؤهم من شدة ما رأوا وهول ما شهدوا. وهذا واحد منهم معلم فرنسي صاحب ضمير كتب رسالته إلى مجلة لوديكاتور
L’Educateur
الفرنسية وهو تحت تأثير ما عاين، والاضطراب بين في كلامه، فنشرتها تلك المجلة تحت عنوان: «تونس تحت النير والاضطهاد» في عددها الصادر في شهر مارس 1952 جاء فيها:
تعرف الحقيقة كيف تفتح لنفسها سبيلا لتسمع صوتها رغم حالة الحصار، ونحن نقدم إليكم صوت واحد من أعز مشتركينا، مرب مسالم، لا هم له إلا إنارة عقول أطفال أفريقيا الشمالية وتثقيفهم:
أبعث إليك بهذه الأسطر في هذا الصباح المحزن، وفي جو ملؤه الغضب المستعر، وبين مصائب متدفقة في ساعة لم أسمع فيها إلا دويا مرتبكا من الأصوات، ومن الأنين والشهيق المتدفق والبكاء بصوت مرتفع ممزوجا بدوي المصفحات والطائرات المحلقة في سماء القرية.
إني أعتذر إليك إذا لم أجد الألفاظ اللازمة لأعبر عن الهول المحيط بنا، ومعذرة أيضا إذا لم أتعقل في كلامي.
كنت قد حضرت بنفسي مأساتين مرجفتين متتاليتين، وشاهدت خلالها نساء بريئات وأطفالا ورجالا بؤساء يتساقطون ويتخبطون في دمائهم، وهم جميعا عزل!
يقاوم في هذا البلد هدوء الرجال واطمئنان الأطفال المسرورين والمترنمين حين خروجهم من مدرستهم، وضعف النساء القلقات اللاتي ينتظرن أولادهن وينادين رجالهن، قلت تقاوم تلك الجماهير من الناس بجلب الرشاشات والدبابات والمفرقعات اليدوية وحتى بالمدافع.
انظروا إلى أولئك الشبان المرتدين الثياب البالية، وإلى أولئك الفلاحين المسنين المساكين، الراجعين من حقولهم حاملين معهم معاولهم أو قائدين إبلهم أو حميرهم، الماكثين هناك مطروحين على الأرض في غدران دمائهم، وانظروا إلى هذه المرأة التي بقر بطنها، وهذه الأخرى التي شج منها الرأس، ثم يتكلم المتكلمون عن السلام!
لشد ما تمنيت أن أقص عليك تفاصيل هاتين المأساتين المتقدمتين - من بين كثير من المآسي - غير أني لم أملك أعصابي من شدة التأثر، قد خرجت الآن أمي؛ إذ إنه لم يعثر على أخيها، كما فقدت جارة لنا - في آن واحد - أختها وبعلها، هذه قصة مصير المضطهدين الطالبين بغاية الهدوء إرجاع حقوقهم، هذا ما يتحمله الشعب من هذا المجتمع الاستعماري.
لا أدري هل تصل إليك هذه الرسالة! إن مرور البريد يكاد يكون منعدما بجهتنا، إنه ليس من واجبي أن أتناسى ذكر الزميلين التونسيين المنخرطين في منظمتنا، واللذين كنت أنتظر منهما إعانة فعلية لترويج أساليبنا وطرقنا الفنية. لقد اعتقلا وأخذا من فصليهما أول أمس، وقد اعتقل آخرون كثيرون مثلهم، وأعتقد أن موعد اعتقالي قد لا يتأخر أيضا؛ رغم أننا جميعا لم نرتكب أية مخالفة.
نعم، إن وجوهنا لتحمر خجلا وغيظا نحن الذين شاهدنا حربين وعرفنا السجون والمحتشدات، يجب أن نفضح، وأنتم معنا، هذه الحملة الحربية التي تقع باسم الفرنسيين. إذن باسمنا جميعا وبدم أبنائنا وبالأموال التي يحصل عليها الشعب بعرق جبينه.
ولما ادلهمت الدنيا على الجنرال جارباي، وافتضحت أعماله، واستاء الرأي العام العالمي منها، وثار ضدها الضمير البشري، أصدر تكذيبا فنده الفرنسيون أنفسهم فيما بعد، وجاء في جريدة «ليموند» الباريسية بتاريخ 22 فبراير 1952 ما يلي:
لقد احتج الجنرال جارباي: «القائد الأعلى للجيوش بتونس» في تصريح لمراسل فرانس بريس الخاص، على الحملة الرامية إلى المس بسمعة الجيش وخلق جو ملؤه الشكوك والريب يريده الدستور الجديد لتنبيه الرأي الدولي لتونس الشهيدة، قال: «بعد البحث الذي قامت به السلطة العسكرية المختصة، فإني أكذب بصفة قاطعة أن الجنود قاموا بقتل الأطفال في أي قرية من الدخلة أو أي جهة أخرى من القطر التونسي، عن قصد أو عن غير قصد.
ولم تسجل أي شكوى للمحاكم في هذا الموضوع من عائلات الأطفال أو من السلطات التونسية، وإنه من اختصاص القضاء الفرنسي بتونس وحده - الذي يبحث شكوى السلطة العسكرية على حملة الأكاذيب التي كان الجيش ضحيتها - أن يقوم بفحص جثث الأطفال الذين ماتوا بتازركة، إذا ما رأى مصلحة في ذلك.»
وأضاف الجنرال جارباي قائلا: «صحيح أن تونسيين قتلوا وجرحوا أثناء الثورات والمظاهرات والعمليات البوليسية، ومات ثلاثون منهم لحينهم، وجرح ما يربو على مائة وأربعين، مات ثلاثون منهم بعد حين، فليس هناك قتل ولا جريمة قتل. وقد حدث موت هؤلاء التونسيين إما أثناء اشتراكهم في المظاهرات التي انقلب بعضها إلى ثورات حقيقية، وإما عند فرارهم أثناء عمليات التطهير التي جاءت من بعد.
وإن عدد التونسيين الذين قتلوا في هذه العمليات أربعة.»
وقد أيدت الجنرال جارباي في ادعائه الإقامة العامة الفرنسية بتونس، فأصدرت البلاغات تلو البلاغات زاعمة أن ما جرى في جهة الدخلة إنما هو مجرد عمليات تفتيش عن الأسلحة، وأن الجنود اكتفوا بالقيام بواجبهم البسيط. وقد علق الاتحاد العام التونسي للشغل على ادعاء الإقامة العامة في تقريره عن حوادث الدخلة قال: «ندرك اليوم بعد أن أصبح من الممكن مراجعة صحة الحوادث المذكورة مقدار الإجرام الذي اقترفته الإقامة العامة الفرنسية، عندما كانت تصدر بلاغاتها المقتضبة عن تلك الحوادث، وتذيع نداء تدعو فيه السكان إلى الهدوء، وتخبر جلالة الباي بأن الحكومة الفرنسية مستعدة لاستئناف المفاوضات مع التونسيين، تلك الحكومة التي أرسل وزير حربيتها جيوش الرعب والوحشية يفتكون بالسكان الآمنين، كما افتضح الكذب والبهتان الذي تضمنه البلاغ الذي ذكر أن ثلاث بيوت فقط نسفت، والواقع أن أكثر من 40 بيتا قد نسفت بالديناميت وعشرات من البيوت نهبت.
وهل كان لا بد من نسف البيوت لتفتيشها؟!»
زعم أن المقصود من العمليات المذكورة هو تجريد السكان من الأسلحة، ونشرت بعض الصحف أن ترسانة كاملة عثر عليها، ويستفاد من بلاغ أصدرته الإقامة العامة أنه عثر على الأسلحة الآتية:
35 بندقية حربية، 23 بندقية صيد، 13 بندقية من نوع قرايين ومدفع هاون واحد رقم 81، 2 مدافع رشاشة، 9 مسدسات رشاشة، 12 مسدسا، 20 لغما.
ولكن كيف يمكن تصديق هذه الإحصائية بعد أن زعم البلاغ الذي تضمنتها كذبا أن ثلاث بيوت فقط نسفت، ولم يذكر أن أسلحة الصيد كانت بيد أصحابها وفق تراخيص قانونية، ولم يذكر أن معظم الأسلحة الحربية التي تركتها جيوش المحور لم تعد صالحة للاستعمال.
والأعجب أن كلا من الجنرال جارباي والمقيم العام لم يكتفيا بالتكذيب، بل جرا أمام المحاكم الفرنسية بعض الصحف التونسية التي نشرت شيئا من الحقيقة عن حوادث الدخلة، ورفعا قضايا على كل من يتحدث عنها لكم الأفواه.
ولكن فضيحتها لم تأت هذه المرة من تونس، ولكن من باريس على لسان أحد الساسة الفرنسيين النزهاء المعتدلين وهو جاك فونلب اسبرابير
Fonlupt-Esperaber
المنتمي إلى حزب
MRP
الكاثوليكي الذي أقام الدليل القاطع على أن جرائم الدخلة مدبرة من قبل، وذلك في البرلمان الفرنسي، الجلسة الثالثة ليوم الثلاثاء أول أبريل سنة 1952
1
على إثر زيارة قام بها إلى تونس في أواخر مارس 1952. ونلاحظ أنه أتى في تضاعيف كلامه بنص الأمر المكتوب الذي سلمه الجنرال جارباي إلى ضباطه قبل عملية التطهير، والذي يثبت الإدانة الفرنسية إثباتا قطعيا، قال:
سمعت إذن نداء المقيم العام وما احتوى عليه من تلخيص للتاريخ القريب، فقد تحدث عن حركة القمع بجهة الدخلة قائلا إنها: لم تفق في شدتها الدرجة التي كان ينتظرها الإنسان من حركة مثلها.
وقد ذهبت إلى جهة الدخلة معتمدا على تجربة أكسبتني إياها أربعون سنة في المحاماة وفي وظائف عامة مختلفة، ويؤسفني أن أقرر أن التقرير الذي أعطوه لنا عن حوادث الدخلة لا يوافق الحقيقة، ولكن الإجراءات التي اتخذت كانت موافقة للأوامر الكتابية التي بيدي الآن والتي أصدرها الرجل المسئول، وإن تلك الأوامر في أقصى درجات العنف، وأنا أقرأ منها جملتين:
تكون معالجة كل قرية على حدة، واحدة واحدة، بكيفية تطمن السكان: اعتقال المشبوهين إما افتكاك أو استلام الأسلحة والذخيرة، وفي حالة المقاومة المسلحة يكون العمل بعنف إلى فناء أو استسلام تام من جانب الثائرين.
لا يمكن استعمال الأسلحة الثقيلة في أي حال من الأحوال، ولكن الرشاشات مرخص بها.
وقد تمكنت من بحث الحالة بالتدقيق، ولم يكن في جهة الدخلة غير التخريب المقرر المنظم من قبل، والذي أريد أن أقوله هو أن التخريب كان متناسقا بطريقة مضبوطة بعد انتهاء الاضطرابات، لقد خربوا بالديناميت عددا كبيرا من البيوت الواحد تلو الآخر.
وزاد بيانا لشهادته في جلسة البرلمان الفرنسي المنعقدة في يوم 5 / 6 / 1952 قال:
في القرى الثلاث التي زرتها خربت أكثر من عشرة بيوت، إنه لا محالة لا يعد خروجا عن القانون أن تخرب عمارة أثناء عملية حربية؛ إذ ذلك من الضروريات الحربية.
وليس خروجا عن القانون أن يعاقب شخص ارتكب جريمة أو جنحة عقابا مناسبا لجريمته أو لجنحته.
ولكن مما ليس في القانون في شيء، ومما يسمى في القانون الدولي بحملات تأديبية تأباها الأخلاق ويحرمها القانون، هو بعض العمليات التي جرت بتونس.
إن تلك الحملات التأديبية لا يمكن أن تستساغ في زمن الحرب، أما في حالة السلم، فهي لا تقبل أصلا من باب أولى وأحرى كما تعلمون، وخاصة أثناء عملية ليست بعملية حرب ولكنها عملية تخريب منسق.
هذا التقرير (يعني تقرير جارباي) يدل على أن العملية كانت مدبرة حقيقة إرادية منسقة، قد صرح الجنرال جارباي أنه أمر بها، وزاد قائلا: إن حدود أوامره لم تتعد في أي وقت من الأوقات.
وقد اعتمدنا في بحثنا لحوادث الدخلة على تقارير من شهد الحوادث من التونسيين، وعلى التقرير الرسمي لرئيس الحكومة التونسية والبعثة الطبية التونسية ومندوب المنظمة العمالية «الاتحاد العام التونسي للشغل»، وقد لاحظوا جميعا أن العمليات نفذت في كل مكان وفق خطة مرسومة واحدة، كما اعتمدنا على أقوال الصحفيين الأجانب الذين زاروا الجهة نفسها وشاهدوا آثار الحوادث وبحثوا المشكلة بحثا دقيقا.
2
فقد ساد الرعب جهة الدخلة مدة ستة أيام من 28 / 1 / 1952 إلى 2 / 2 / 1952، ففي تلك الفترة قامت الجيوش الفرنسية (ومن بينها جنود المظلات المرسلون من فرنسا وجنود الفرقة الأجنبية، ورجال الدرك، ومعهم عدد وافر من المستعمرين الذين جندوا لهذه المناسبة) بضرب حصار شديد على الجهة، ومنع الدخول إليها والخروج منها بعد تطويقها بالدبابات والمصفحات والقوات المسلحة، وشرع الجند في عمليات حربية حقيقية داخل المنطقة في ظل الحصار المضروب عليها وتحت ستار من الحديد والنار، وقد علق الاتحاد العام التونسي للشغل في تقريره على ما شهده ممثلوه بالكلمات الآتية:
إن تلك القرى أصبحت اليوم على حال تكفي مشاهدتها للحكم على السياسة الفرنسية بتونس حكما لا يقبل مراجعة أو نقدا، فقد كانت تلك القرى ضحية للبطش الوحشي الذي لم يراع أحدا، بل أصاب السلطات المحلية التونسية ذاتها، وكانت الجرائم مدبرة، وكانت في شكل حملات تأديبية محكمة التنظيم نفذت بوحشية لا مثيل لها.
وقد أفضى الكولونيل الفرنسي شموكيل
Schmukel
الذي تزعم حركة التطهير بحديث لمراسل جريدة «الفيجارو» الذي ذهب معه في رحلة استطلاعية، وقد نشر هذا الحديث في تلك الجريدة بعددها الصادر يوم 31 / 1 / 1952 قال:
وضعت قائمة المسيرين والمشبوهين في كل قرية، ومساندة الجيش ضرورية لإلقاء القبض عليهم في هذه الجهة.
وزاد الكولونيل قائلا: وأسلوبنا هو أن نطوق كل قرية وندخلها ونعطي قائمة المشبوهين إلى رئيس القرية، ونقوم بعملية «التطهير» حول القرية لنلقي القبض على من يحاول الفرار، ونرسل المعتقلين إلى محتشد «ريفيار» وتقع عملية «التطهير» في شبه جزيرة الدخلة من الجنوب نحو الشمال. وسنصل على طريق الشاطئ إلى قرى في أثناء عملية «التطهير» طوقت «دار شعبان» في ضواحي نابل، ووقفت دبابة في الطريق المؤدية إلى داخل القرية، وفي الساحة الرئيسية جماعة من الأهالي أمام جندرم يراجع - وهو متردد - قائمة أسماء، وحولهم بعض جنود يحملون رشاشات صغيرة. وفي آخر الساحة بين عمارتين جماعات أخرى لابسين الجبة يشاهدون المنظر.
ثم عرجنا نحو الشرق على طريق سليمان الذي يشق شبه الجزيرة، وكان محروسا كله بالجنود للقبض على الهاربين. (1-1) عمليات القمع وفظاعتها
تارزكة، وهي قرية صغيرة في معزل عن الطرق الرئيسية، مشهورة بنشاط أهلها وحبهم للعمل، واشتغالها الرئيسي بالزراعة، وعدد رجالها لا يتجاوز السبعمائة، وقد تشكلت بها شعبة دستورية ككل القرى التونسية يرأسها شاب عرف بالحزم والصلابة، هو وحيد المسعدي، وقد اشتهرت تارزكة بوطنيتها، وشاركت مشاركة فعالة في تاريخ الحركة القومية، واصطدمت بالقوات الفرنسية عام 1938، وحكم على عدد من شبانها الذين مات كثير منهم في السجون الفرنسية وخاصة بسجون الجزائر، فهي تشاطر الشعب كله آماله وآلامه؛ تعيش عيشة هادئة ساكنة كأنها مكونة من عائلة واحدة، وليس فيها درك ولا بوليس فرنسي. ومن الملاحظ أنه لم تر فائدة في القيام بمظاهرات، ولم يلق القبض على أحد من أبنائها خلال المظاهرات التي حدثت في المدن المجاورة لها، ولم يمنعها ذلك من أن كانت أول مسرح للبطش الفرنسي بجهة الدخلة.
وحوالي الساعة السادسة والنصف من صباح يوم 29 / 1 / 1952 سمعت زوجة الشيخ (العمدة) طرقا على الباب، فأيقظت زوجها، ولما فتح الباب وجد نفسه أمام جماعة من الجنود الذين طلبوا منه أن يدعو مناديا لجمع السكان في الميدان العام.
وكانت تازركة في ذلك الوقت مطوقة بالجنود (الفرقة الثالثة من عساكر المظلات التابعة للفيف الأجنبي التي أتت من فرنسا أخيرا، وكان الدرك الفرنسي المحلي يقوم مقام الدليل لإرشادهم)، وأخذ بعض الجنود يتسلقون السطوح بينما أسرع السكان يجتمعون، ومنذ اللحظات الأولى أطلقت النار على مصطفى بن محمد المسعدي عند دخوله أحد الشوارع المؤدية لميدان الاجتماع، فخر صريعا، كما جرح أحد الضباط برصاصة كانت موجهة إلى الشهيد، ثم عرض جثمان مصطفى بأمر عسكري أمام الجموع في الميدان العام، وترك هناك مدة ساعتين.
وبعد حشد الرجال ذهب بعض الجنود إلى البيوت يبحثون عن المتخلفين الذين بلغ عددهم 55 شخصا أكثرهم من الشيوخ والعجز، وطلب إذ ذاك ضابط الجند بواسطة الشيخ (العمدة) أن تسلم له جميع الأسلحة ، ورافق الجنود أصحاب الأسلحة إلى بيوتهم لجلبها. ونفذ الأمر وسلمت، وهي مكونة من بنادق «الشرطية» (وهم أعوان العمدة في المحافظة على الأمن)، ومن بنادق صيد لأصحابها رخصة في حملها.
وإذ ذاك قدمت للشيخ قائمة بها 15 اسما طلب من أصحابهم الحضور، فتقدم أربعة من المذكورين بالقائمة، وأمروا بالالتحاق بمن سلموا بنادقهم وأوقفوا جميعا، وتقدم الضابط، وأعلن أنه في حالة عدم حضور التسعة أشخاص الآخرين قبل الساعة التاسعة والنصف؛ فإن الجنود ستهدم بيوت تازركة وتبتدئ ببيت وحيد المسعدي أحد المتغيبين، وأضاف أن وحدات أخرى من الجيش ينتظر وصولها، ولم يسمح لأحد بالذهاب للبحث عن المتغيبين.
وفي انتظار نهاية الأجل المضروب طلب إلى الشيخ أن يأمر بتموين الجنود وتحضير طعام الكسكسي لهم.
ووصلت وحدات أخرى من الجيش مكونة من جنود المظلات خلال فترة الانتظار، وأخذوا ينتشرون في البيوت حيث بدأت عمليات النهب والتهديم. وحوالي الساعة العاشرة والنصف سمع أول انفجار كبير، وقد كان هذا الانفجار في بيت الحاج عبد الرحمن المسعدي والد وحيد، فنسف البيت، ثم أتى دور بيت على المسعدي واستمر النسف إلى الظهر.
وبقي الرجال مجموعين في الميدان العام تحت حراسة جيش كامل إلى ما بعد الظهر من غير أكل ولا شرب. وقد برقت عيونهم أملا عند قدوم «الكاهية» (نائب المدير) والمراقب المدني الفرنسي بنابل في وقت الغروب، ولكنهما انصرفا بعد نصف ساعة وصرحا بأن العمليات الجارية تنفذ بأمر السلطات العسكرية، وأنهما لا يستطيعان التدخل بوصفهما موظفين مدنيين.
وقد عاث الجنود في البيوت فسادا نسفا ونهبا لغرض ظاهر للعيان، وهو إلحاق الضرر بالأهالي بتهديم بيوتهم وتحطيم ما فيها من أثاث ومدخرات ومؤن.
أما بيت الحاج إبراهيم المسعدي، فقد نسفت به ثلاث غرف ولم يبق منها إلا أكداس من الحجارة والغرف الأخرى بها بقايا الأثاث المحطم والملابس الممزقة المبعثرة على الأرض، وكانت آثار الزيت المراق وكمية كبيرة من الحبوب الملوثة بالتراب ترى بمخزن المؤن وفي صحن المنزل.
وانهار نصف بيت علي المسعدي شقيق السابق تماما، كما تداعت للسقوط البيوت المجاورة في دائرة نحو 100 (مائة) متر، ويخيل للإنسان أنه أمام قذف جوي، وقد حطم الأثاث وكسرت مرايات الدواليب بمؤخرات البنادق ومزقت الملابس وبعثرت على الأرض.
ونهب بيت مصطفى بن عثمان وكيل الأوقاف، وأتلف جميع ما فيه، ولم يبق به إلا القليل من الأمتعة الصالحة للاستعمال.
وهدم بيت محمد قاسم الزكار نسفا «بالديناميت».
ونسفت بالديناميت أيضا بيوت صالح وعلي ومحمد برينيس، وحطم جميع ما فيها من أثاث، كما تداعت للسقوط جدران أحد المنازل المجاورة لها.
أما بيت الصادق بن الحاج فلم ينسف، ولكن حطم جميع ما فيه، وأتلف مخزن التموين، وأهرق الزيت وسائر المواد الدسمة على الأرض وخلطت بالتراب، لتكون غير صالحة للاستعمال، وكسر به دولاب بلوري لمصوغات الأم وابنتها، وسرقت منه المصوغات ومبالغ من المال، ووقع تفتيش النسوة اللاتي كن بالبيت وعوملن معاملة وحشية أجهضت إحداهن إثرها، وهي حنيفة بنت الصادق بن الحاج التي كانت حاملا في شهر الثالث، وقد بقيت علامات الصدمة الشديدة التي تلقتها ظاهرة عليها بعد أيام، وجردت بية بنت الصادق بن الحاج من حليها وعوملت معاملة وحشية أيضا.
ونسفت إحدى الغرف من بيت العروسي بن محمد درويش بالديناميت فانهارت جدرانها، ويشاهد في الغرف الأخرى نفس المنظر المشاهد في غير هذا البيت: أثاث محطم، وأدراج مكسرة، وآثار ضرب على المرايا، ومؤن متلفة، وقد اجتمع به عشرة من النسوة ممن هدمت بيوتهن وتركن بدون مأوى.
ونهب بيت الحاج الطاهر بن الحاج (أمين التموين) وأتلف ما به.
ونهب أيضا بيت المولدي برينيس (تاجر وصهر عمدة البلدة) وأتلف ما به وجردت الزوجة، وهي بنت العمدة من حليها، تحت التهديد بالحراب.
وفتح الجنود صندوقا كان ببيت البشير صفر، ونهبوا منه أمتعة شقيقي صاحب البيت.
وأتلف الجنود جميع ما في بيت خدوجة ناجية، وهي أرملة تعيش مع بناتها الأربع، فدخل الجنود عليها وسرقوا «جهاز» البنات.
ونهب بيت محمد بن حسين التازركي سكرتير كاهية (نائب حاكم) نابل، وكان صاحبه غائبا يقوم بواجبات وظيفته بنابل.
وقد سلم بيت الشيخ (العمدة) الحاج عامر بن محمد ناشي من النهب بسبب تدخل المسيو دوباس، الطبيب الفرنسي ببلدة قربة المجاورة، وكان يومئذ في تازركة.
أما مكتب العمدة، فقد اقتحمه جندي رغم تدخل أحد أعوان الدرك، وبعثرت الأوراق الإدارية. ويلاحظ أن الشيخ بادر في اليوم التالي خشية من أعمال نهب جديدة بتسليم جميع موارد الضرائب التي حصلها اعتقادا منه بأن تلك المبالغ الكبيرة لم تعد في مأمن في صندوق المشيخة.
وما عدا البيوت الخاصة أصيبت محال أخرى منها خمس دكاكين بقالة؛ نهب جميع ما فيها من المواد، كما نهب دكان الحلاق صالح جويعة.
وكذلك نهبت مكاتب المأذونين ومزقت الدفاتر والعقود وغير ذلك من الوثائق الرسمية، وبعثرت على الأرض. وحاول الجنود إحراق تلك الأوراق، وشاهدت البعثة الوزارية التونسية فعلا أوراقا محترقة تثبت ذلك فيما يبدو.
ولم يكتف الجنود بتلك الأعمال الوحشية، بل أرادوا المس بدين التونسيين وإهانته، فدخلوا مسجد القرية من بابه الرئيسي ومن الباب الخلفي، ومزقوا مصاحف القرآن وبعض كتب الحديث الشريف والفقه الإسلامي، وكانت آثار هذا الانتهاك للمقدسات واضحة بينة لما زارت البعثة الوزارية التونسية قرية تازركة.
بينما كان الجنود الفرنسيون يقومون بتلك العمليات الوحشية، كان رجال القرية محشورين في الميدان العام مهددين طوال اليوم، وعند المساء سيقوا إلى بيت محمد بن سعيد حيث اعتقلوا الليلة كلها تحت الحراسة المسلحة، وكانوا يسمعون إلى الصباح - دون أن يستطيعوا حراكا - صراخ نسائهم اللواتي يتصارعن مع الجنود، كما كانوا يسمعون الأبواب تتفتح ودوي الطلقات النارية.
وقد أظهرت بعض النسوة من الشجاعة ورباطة الجأش ما جعلهن مثالا للرجال الوطنيين أنفسهم، فاشتهرت من بينهن الآنسة صلوحة بنت محمد درويش التي أصبحت بطلة تازركة ومثالا للوطنيات التونسيات؛ فقد دافعت عن بيت أبيها لما اقتحمها العساكر وأخرجتهم منه، فرجعوا في عدد أوفر وتجددت المعركة وهي كاللبؤة دفاعا واستماتة، فانهال عليها الجنود ضربا وهي ترجع الضربة بأختها، ولم يتغلبوا عليها إلا بعد أن استخدموا الحراب، فطعنوها عدة طعنات بقيت جروحها بينة في جسدها، وظنوها ماتت، فغادروا المنزل.
وكانت في الوقت نفسه تجري معركة محتدة في بيت الصادق بن سعيد ، فقد ناضلت فاطمة بنت محمد نضالا مريرا لانتشال ابنتها من يدي أحد الجنود الذي كان يريد اغتصابها، وحمت ابنتها بصدرها فانهال عليها الجندي ضربا بكعب حذائه، وبقيت آثار هذا الضرب على جسمها، ولكنها رغم ما لحقها من الضر لم تستسلم، فجن جنون الجندي، فاعتدى على الجدة التي كانت تستغيث وضربها ونهب منها بعض متاعها.
وكان التنكيل بالتونسيين يرمي إلى إذايتهم إذاية عميقة والمس بتقاليدهم وروحانياتهم؛ ولذا أطلقت يد الجنود في تلك الليلة على النساء عند غياب رجالهن، علما من المستعمر أن كل امرأة مسلمة تنتهك حرمتها تصاب بعار لا يمحوه الدهر، وتصبح كأنها منبوذة من المجتمع. ويحدث دائما أن زوجها ينفصل عنها وعن أهلها ويضمر لها البغض والكراهية، فلم تكتف العساكر الفرنسية بالتخريب والنهب، بل اعتدت على شرف التونسيات وكرامتهن، وكان التحقيق في هذا الأمر دقيقا صعبا، وقد استعملت الدكتورة الآنسة غيلب والقابلة السيدة بدرة الورتاني كثيرا من اللباقة للحصول على بعض المعلومات.
وهذه بعض الفقرات من تقريرهما:
ج. ب بنت: سنها 21 سنة، اغتصبت وعاينا آثار رض على فخذيها من الداخل، وقد تناوب عليها ثلاثة جنود.
ب. بنت س: سنها 25 سنة، كانت حاملا في شهرها الثالث، تتبعها الجنود وضربوها وأجهضوها.
ه. بنت س. ب: سنها 25 سنة، نزعت ملابسها واغتصبت بينما كان السلاح مصوبا نحو عنقها.
م. بنت ك. ج. ا: سنها 16 سنة، انتشلت من فراشها، وعندما هددها الجند بالاغتصاب فرت هاربة وألقت بنفسها في بئر انتشلت منه فيما بعد.
ه. بنت س: سنها 17 سنة، حاول الجند اغتصابها.
م. بنت م. د: سنها 12 سنة، حاول الجند اغتصابها.
ر. بنت س. ب. س. ج: سنها 15 سنة، محاولة اغتصاب، ارتمت أمها عليها لحمايتها فضربها الجند ضربا مبرحا.
ك. بنت ا. ن: سنها عشرون سنة، هربت عند قدوم الجيش وحاولت الانتحار، ولكن أحد الجنود أمسك بها ومنعها من الصراخ بأن وضع ثوبا على فمها واغتصبها، ثم سلب منها حليها الذهبية، وهي تتألف من سوار وخلخالين.
ن. بنت ب. س: وسنها 18 سنة، تملكها الرعب، فاختفت وراء أمها التي تبلغ 50 سنة، وحاول جندي سحبها إليه، فحاولت أن تحميها بجسمها، فضربها الجندي على وجهها. وقد شاهدنا آثار الضرب عند مستوى العين اليسرى، واغتصبت البنت.
ن. بنت ب. س: شقيقة (ن) وسنها 16 سنة، اغتصبت أيضا.
يظهر أن حوادث الاغتصاب كانت أفظع الحوادث التي دارت في تلك الليلة المزعجة، وذكر لنا أن كثيرا من الأمهات كن يخرجن بناتهن من الغرف ويدفعن بهن إلى البئر للارتماء فيها، وتوسلت الكثيرات من النسوة بأطفالهن الرضع للجنود طلبا للشفقة والرحمة، وكان المعتدون يثورون من هذا المنظر، فيقتلون الأطفال دوسا بالأقدام بعد إلقائهم على الأرض.
وهناك بنت تبلغ من العمر 16 سنة وشقيقها الصغير كانت تحمله على ذراعيها، لم تسلم هذه الفتاة إلا بفضل فكرة طرأت لوالدتها، وهي لفها مع الطفل في سجادة ووضعها في مخبأ أرضي.
وكانت النسوة بعد أيام من تلك الحوادث يتحدثن إلى الصحفيين أو إلى البعثات الحكومية الرسمية ويجهشن بالبكاء، ومن بينهن الكثيرات ما زلن في حالة غيبوبة وذهول، ومنهن من اضطربت أعصابهن.
ومن أفظع ما ارتكبته العساكر الفرنسية في قرية تازركة قتل الرضع دوسا بالأقدام ورميا على الأرض، وقد اتفقت جميع التقارير ومراسلو الصحف الأجنبية على هاته القائمة: (1)
فاطمة بنت محمد بن صالح ناشي وسنها 20 يوما، عثر عليها وعلى وجهها آثار الاختناق بعد مرور الجنود ببيت أهلها، وماتت في اليوم التالي. (2)
صالح بن محمد بن حسين ناشي وسنه 45 يوما، داسه أحد الجنود بالأقدام عندما أبت أمه الاستسلام إليه وهو يريد اغتصابها. (3)
زهرة بنت بشير غلاب سنها 5 أشهر، انتشلت من بين يدي والدتها وألقيت بعنف على الأرض، وقد هربت أمها وتركتها ميتة عندما حاول جندي الاعتداء عليها واغتصابها. (4)
فضيلة بنت محمد بن محمد قاسم وسنها سنة وستة أشهر، ألقاها جندي على الأرض، وقد فرت أمها إلى السطوح فلحق بها واغتصبها، وعندما عادت إلى بيتها وجدت فضيلة ميتة. وقد جرحت الأم جراحات من أثر طعنات السونكي وخاصة بذراعها الأيسر ويدها اليمنى.
وقد كتبت جريدة «النهضة» التونسية بتاريخ 6 / 2 / 1952 تتحدث عن نهب تازركة، قالت :
ونهب الجنود من بيت الحاج محمد الخاي جميع ما فيه من ملابس، وكمية من المال قدرها خمسون ألف فرنك، وأربع أسورة من ذهب وثمانية أقراط من ذهب أيضا وكمية كبيرة من مؤنه، ودمر جميع ما بقي وكسر الأثاث كله.
وقد سلب أحد الجنود من السيدة شاذلية بنت الشيخ (العمدة) عمر الناشئ أساورتها وأخراصها، وحاول أبوها أن يسترجعها بواسطة جندي آخر فلم يفلح، فسأل ذلك من الملازم قائد الفرقة فأرجعت له إذ ذاك الأساور فقط، واحتفظ الجندي بأخراص السيدة شاذلية المسكينة.
وبعد أن فارق الجيش الفرنسي تازركة يوم 29 / 1 / 1952 رجعت إليها من الغد وحدات عسكرية جديدة في الساعة السابعة صباحا، وإذا بمناد يدعو السكان للتجمع، ثم ينادي عن التسعة أشخاص الذين كانوا غائبين بالأمس، وذهب عشرون من سكان القرية للبحث عنهم وعادوا بواحد منهم فقط؛ لأن الغائبين لم يكونوا في تازركة، وبعد الظهر أطلق سراح الرجال، ولم يغادر الجنود تازركة إلا في الساعة الخامسة صباحا من اليوم التالي، ولكن على الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر من ذلك اليوم انزعجت القرية من جديد عند سماع طلقات المدافع الرشاشة، ثم قدم الجنود وطوقوا القرية وأخذوا يتسلقون السطوح، وجيء بالسيد الشافعي بن الطيب المسعدي جريحا، وقد أطلق عليه النار خارج القرية على الرغم من أنه رفع يديه وسلم نفسه للجندي الذي كان يريد اعتقاله، وعرض في الميدان العام وهو مصاب برصاصة في بطنه، وبعد ذلك جاء الشيخ وحمله في سيارته، وقد توفي في مستشفى التحرير في 3 فبراير، ولما شاهد الشيخ أن الأمر يتطور إلى الخطورة خاطب كاهية نابل (نائب حاكمها) بالتليفون وطلب منه النجدة، فقدم الكاهية مع أعوان الدرك، ومضت الليلة بدون حوادث تذكر.
وكان يوم أول فبراير هادئا نسبيا؛ إذ اقتصر الجنود على صيد الدجاج وجميع الدواجن التي أبيدت عن آخرها، وغادر العساكر القرية نهائيا يوم السبت 2 فبراير، وطلب ضابطهم من الشيخ (العمدة) أن يبحث عن أربعة جنود إيطاليين تابعين للفيف الأجنبي، انتهزوا فرصة الحوادث للفرار من الجندية.
وأخيرا يلاحظ أنه بالإضافة إلى كل ما حدث للسكان، فقد حكم عليهم بغرامة حربية قدرها 80000 فرنك بأمر من المراقب المدني الفرنسي لسبب قطع عمود تليفوني، وقد ضرب المراقب المدني لدفع تلك الغرامة أجلا ينتهي في 30 / 1 / 1952 الساعة السادسة مساء، وإذا تأخر الدفع تتخذ تدابير قمع ضد السكان، ولكن التدابير نفذت قبل حلول الأجل المضروب.
وبقيت تازركة محجرة على التونسيين وغيرهم، مقطوعة في الحقيقة عن العالم مدة أشهر متوالية، حتى إن جريدة «الصباح» التونسية كتبت في عددها الصادر بتاريخ 21 / 5 / 1952 ما يلي:
إن السلطات المحلية بتازركة تفتح تحقيقا مع كل قادم إلى تازركة في زيارة لأهله أو أصدقائه، وتمنعه من الإقامة بها أكثر من بضع ساعات، كما تفتح بحثا مع المضيف أو القريب الذي ينزل عنده الزائر، وهكذا حيل بين كثيرين من أفراد العائلات التازركية المقيمين بتونس وبين زيارتهم لذويهم، فهل طبق نظام السجون بتازركة؟! (أ) قرية بني خيار
طوق الجيش الفرنسي هذه القرية واحتلها من يوم الثلاثاء 28 يناير إلى يوم الجمعة أول فبراير، وهدم في اليومين الأولين ثمانية بيوت، هذه أسماء أصحابها: محمد بن علي الضاوي، حمدة بن محمد الشتيوي، محمود بن المولدي السيد، الصادق بن محمد يحيي، المولدي بن حسين بن ناجي، محمد زرياط، ورثة الشيخ حامد زمتر، ورثة محمود سلامة.
وكانت الدبابات وهي تنتقل بناحية مقبرة القرية أصابت بعض البيوت فألحقت بها ضررا، وقد جمع الجنود في بيتين اثنين جميع الأثاث وأضرموا فيه النار، وأحرقوا مكتبة قيمة للسيد المشارفي، وكانت بها مؤلفات ثمينة وكمية من المال، ونهبوا بيوتا كثيرة منها بيت محمود بن محمد عزوز والعورسي بن محمد بوسنينة، كما نهبوا دكان ساعاتي وأرغموا محمد بن الحبيب هويسة على إحضار كمية كبيرة من الطعام وتقديمها للجنود، فقال أحدهم لمضيفهم بينما كانوا يتناولون الطعام: «هذا بيت جميل لا ينقصه إلا شحنة من الديناميت»، وكانت نكتة لها وزنها واعتبارها.
وقد اضطروا تحت التهديد أحد قدماء المحاربين إلى تسليم شقيقه عبد القادر الذي كان الجنود يبحثون عنه؛ لأنه من أتباع الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد، وبعد ذلك نسفوا بيت المحارب القديم.
وجمعوا معظم رجال القرية في مقهى وحكموا عليهم بالوقوف طوال ليلة كاملة ، وإذا حاول أحدهم الجلوس بعد أن ناله التعب والجهد انهال عليه الجنود ضربا مبرحا، وهجموا على بقية الناس وطعنوهم بالسونكي في ظهورهم.
وقد حاول الجند اغتصاب منوبية بنت صالح وسنها 25 سنة، فاندفع أربعة رجال للدفاع عنها فأصيب واحد منهم بطلقات من مدفع رشاش فسقط جريحا.
ولا يتصور التونسيون أن العساكر الفرنسية يمرون بمكان من غير أن ينشروا التخريب والاغتيال والتعذيب والتنكيل، وقد عذب محمد بن محمد عزوز أحد قدماء المحاربين في بيته، وأرغمه الجنود على حفر قبره بنفسه ووضعوه فيه حيا وهالوا عليه التراب، وكانت له يد مبتورة بقيت خارج القبر، وأخذ يستغيث وكان منظره مزعجا رهيبا. ولما علم الجنود أنه من قدماء المحاربين الذين كانوا معهم في أثناء الحرب أخرجوه من القبر، ولكنهم تمادوا في تعذيبه والتنكيل به طوال الليل، وأخيرا أحرقوا متاعه أمام عينيه وأتلفوا مكاسبه، ثم تركوه هو وأبناءه العشرة - وغالبهم صغار - في حالة من التعاسة والبؤس والفاقة يرثى لها، وقبل أن يغادروا البيت طعنوه بالسونكي من خلف قائلين له: لا بد أن يبقى في جسمك أثر كذكرى لهذه الليلة.
وجرحوا عددا من السكان من بينهم حمادي بن خميس مرابط ومحمود بن خميس مرابط ومحمود بن محمد عزوز، وقتلوا محمد بن أحمد الجمالي بينما كان يتبول.
وقد فرضت على «بني خيار» غرامة حربية قدرها مائة ألف فرنك. (ب) مدينة قربة
وهي المدينة الوحيدة في جهة الدخلة التي نجت من التهديم والتحريق والتقتيل، مع أنه كان من المقرر أن ينالها ما نال غيرها من مدن وقرى الدخلة، وقد احتلتها القوات الفرنسية المسلحة وطلبت أن يسلم إليها أعضاء الهيئة المحلية للحزب الحر الدستوري الجديد، فتقدم أربعة وعشرون رجلا وسلموا أنفسهم فداء للمدينة، فضربوا ضربا مبرحا أليما، ثم سيقوا إلى «لوري» سار بهم إلى معتقل في صحراء الجنوب، ولم تنج (قربة) رغم ذلك لولا تدخل الطبيب الفرنسي المحلي وهو من الرديف؛ فقد ارتدي بدلته العسكرية لوقف هجوم مواطنيه المتعطشين لسفك الدماء، ولكن القرى الأخرى لم تجد مثل ذلك الطبيب لحمايتها وإنقاذها من العدوان. (ج) قرية المعمورة
إن القوات الفرنسية التي احتلت المعمورة من 29 يناير إلى 2 فبراير سنة 1952 مؤلفة من الوحدات التالية:
4 D. B. P. .
I/I. R. C. P. .
C. A. L. .
وكانت بقيادة الكابتن كليفر
Glever ، ووقع جمع السكان في ميدان القرية حيث بقوا اليوم كله بغير أكل ولا شرب. وقد أدخل العساكر في هذه القرية نوعا جديدا من التنكيل، فكانوا يطلقون الكلاب البوليسية على أولئك السكان، فهجم كلب على الشاب محمد بن الحاج عمر مخلوف الذي يبلغ سنه 19 عاما، فأخرجه الجنود من بين زملائه وتولت كوكبة من ثلاثة جنود إعدامه حالا، وذلك بعد ظهر يوم الأربعاء 30 يناير أمام السكان المجتمعين.
وقام الجند في هذه القرية بنهب جميع المنازل نهبا منظما، وخاصة بيوت محمد بن أحمد الزهاني القاضي بمحكمة الكاف، وأحمد بن علي بيه، وداود بن علي رحيم، والصادق بن رمضان بن حميدة، وخميس بن الحاج محمد الزمني، وأحمد بن أحمد بن عثمان علية. وقد حملوا معهم جميع ما فيها من أثاث ومؤن ومصاغ ومال، ويقدر وزن الحلي والمصوغ الذي أخذه الجنود بثلاثة كيلوجرام.
وقد اعتدوا أيضا على شرف بعض النسوة، وضربوا منهن امرأة حاملا في شهرها الثامن بعد أن تتبعوها حتى أجهضوها وسقط الوليد ميتا، ومن بين تلك النسوة زوجة محمد بن محمد بن علي، وزوجة عبد السلام بن عمر بن سالم.
وقصد الجنود إلى ضريح الولي الصالح سيدي محمد بن عيسي، حيث تقام الصلاة ويعلم القرآن، وذلك لغرض واضح؛ وهو انتهاك حرماته المقدسة، فألقوا القبض على المعلم وطردوا التلاميذ وحطموا الألواح التي تحمل الآيات القرآنية ونسفوا الضريح بالديناميت.
قرية الصمعة
مر بها الجنود في 28 يناير و30 منه، وكفاهم ربع ساعة لاعتقال الأشخاص الذين كانوا يبحثون عنهم، وبرغم عدم وجود أية مقاومة دخل الجنود 15 بيتا وجمعوا جميع ما فيها من أثاث وأضرموا فيها النار حتى احترقت كلها، ونهبوا الأشياء النفيسة ومبالغ كبيرة من المال، ونسفوا بيت حسن الحاج علي ودكاكين. (د) مدينة فليبية
لقد استشهد كثير من التونسيين أثناء المظاهرات التي قامت فيها يوم 24 يناير أمام مركز البريد ونقطة البوليس، بينما لم يمس أحد من رجال الأمن الفرنسيين بسوء، ولم يقع أي اعتداء على أي فرد من الفرنسيين المدنيين. وتمادى قتل التونسيين في الأيام التالية، وقد تم إعدام هؤلاء الشهداء على الطريقة الآتية:
اعتقل عونان من البوليس عزيز بن علي خوجة في بيته يوم 31 يناير وسنه 38 سنة، وهو والد سبعة أطفال، وقالا له: تعال معنا «للكاهية» الذي يدعوك، ثم بينما كانا سائرين به في الطريق قال له أحدهما: «لقد قدمت ضدي شكوى منذ مدة، وفي هذه المرة سنسوي حسابك.» وسيق إلى مركز البوليس، وشوهد وهو خارج منه مع حمادي بن حسين الغربي البالغ من العمر 26 سنة، وتوجه الاثنان إلى مركز الدرك تحت حراسة ضابط البوليس «بامبينا»، وهنالك عذب الاثنان تعذيبا فظيعا وخرجا بعد ساعة في حالة ذهول، ووجهاهما مشوهان، وحملا في سيارة كان يحرسهما فيها عون من أعوان الدرك، وتوجهت السيارة بقيادة الضابط «بامبينا» إلى بستان يقع بالقرب من «دويرة الإمام» وهناك أعدما، وحملت الجثتان إلى نقطة البوليس في سيارة كبيرة يقودها عون البوليس «فارينا».
ودعا الضابط الشيخ (العمدة) وقال له: «لك جثتان، احملهما إلى بيتيهما وليدفنا بدون احتفال.»
وأخذ حمادي بن علي بن عفيف البالغ 22 سنة من بيته وعذب ثم قتل، ومات بكسر في الجمجمة.
وأعدم يوم 25 يناير صالح بن جديه، معتوه القرية.
وكان عزيز بن أحمد فرج الله عائدا مع قطيعه الذي كان يرعاه فقتل رميا بالرصاص، وقتل يوم المظاهرة محمد المسلماني وحمده بن الحاج بن سعد وحمدة بن الحاج علية.
ونهب الجنود أكثر البيوت والدكاكين والمقاهي، ونظموا ذلك النهب في حي كامل لم يبقوا فيه شيئا، وأتلفوا الأثاث وكسروا جرار الزيوت والمواد الدسمة والمؤن، وقطعوا الفرش والمساند، وأحرقوا عددا من السيارات منها سيارة السيد بوبكر الصافي العضو بالمجلس الكبير وسيارة السيد عامر بن محمد الغربي، وكذلك سيارة نقل لهذا الأخير.
وسرقوا جميع الحلي والقطع الذهبية والفضية والمال والمؤن.
وبينما كان الجنود يقومون بهذه الأعمال الوحشية كلها، فقد أجبروا السكان على إعداد الأكل اللازم لجميع هؤلاء العساكر وإمدادهم بكل ما يحتاجون إليه.
ولما غادروا القرية حملوا معهم المعتقلين الذين لم يعرف مصيرهم. (ه) قرية وادي الخاطف
قتل العساكر أثناء مرورهم بهذه القرية اثنين من سكانها هما محمد بن علي الحجري (وهو أبكم وأصم)؛ بسبب عدم امتثاله لأوامر الجنود التي لم يسمعها، والثاني خادم السيد «زهوزه». (و) قرية حمام الغزاز
بدأت محنة هذه القرية القريبة من قليبية يوم 25 يناير، وقد رمتها في ذلك اليوم بين الساعة الثانية والخامسة بعد الظهر الطائرات الصاروخية بالقنابل، وأطلقت عليها مدافعها الرشاشة، فأصيبت مئذنة المسجد وعدد من البيوت.
وقد ارتكب البوليس الفرنسي جرائم متعددة في ذلك اليوم نفسه؛ فقد اعتقل ضابط البوليس الفرنسي عبد الله بن حسين بن حسن البالغ عمره 27 سنة في بيت صهره، وأرسله إلى المكان الذي كان يجمع فيه رجال القرية، ثم أخرجه من بينهم وحمله إلى بستان «دويرة بني غازي» حيث قتله وتركه هناك.
وزار ضابط البوليس محيي الدين بن محمد رهوان، وهو مزارع متزوج يبلغ من العمر 41 سنة في بيته، وكان يبحث عن شقيقه عبد الكريم فلم يجده، فأخرج محيي الدين رافع اليدين، وفي الطريق أمره بأن يهتف: تحيا فرنسا، فأبى قائلا: أنا لا أعرف إلا الله ورسوله. فقتله رميا بالرصاص وتركه في مكانه.
وبعد أربعة أيام من تلك الحوادث حاصرت قوات الجيش الفرنسي القرية، وارتكبت فيها ما ارتكبته في بقية القرى.
وقد نسف الجنود عدة بيوت منها بيوت السيد عبد الرحمن بن حسين، والسيدة حرم البشير بن حسين، والسيد محيي الدين بن بشير، وذلك بعد أن تجولوا بين البيوت المهدمة من قبل بالقنابل أو المنهوبة وبأيديهم كاشفة ألغام للبحث عن الأسلحة.
وجمعوا الرجال في ميدان القرية ونهبوا البيوت والدكاكين، واغتصبوا عدة نسوة تحت تهديد المسدسات، بعد أن ضربوهن ضربا مبرحا، وجردوهن من مصوغاتهن من بينهن امرأة عمرها 16 عاما حامل في شهرها الثالث، وقد أجهضت في اليوم التالي، واغتصبت امرأة أخرى بحضور أطفالها الثلاثة، وقد اعتدوا على المسجد، وكانت دباباتهم تجوب مقبرة القرية لتهدم القبور كلها. •••
وإننا لم نسجل هنا إلا الحوادث التي تأكدنا من صحتها من التقارير الرسمية للحكومة التونسية ووكالات الأنباء الأجنبية ومراسلي الصحافة الفرنسية، أما في الواقع فإن الاعتداء على المكاسب كان أكثر مما أوردنا والعدوان على الأشخاص حدث على أوسع نطاق مما ذكرنا.
وقد أخذت البلاغات الرسمية الفرنسية والصحافة الاستعمارية تقلل من شأن هذا الاعتداء، ولا تتأخر عن الكذب الصراح الذي أثبتنا بعضه في مقدمة هذا الباب، وإثر العمليات العسكرية التي جرت بجهة الدخلة نشرت الإقامة العامة الفرنسية بلاغا قالت فيه:
اعتقل سبعمائة شخص وبقي منهم خمسمائة موقوفين، ومن بينهم مائة وخمسون ألقي عليهم القبض أثناء التباسهم بالجريمة، أو لتملكهم بعض الأسلحة، وسيحالون على المحاكم العسكرية، وتتراوح الأحكام عليهم بين عام وخمسة أعوام سجنا حسب القانون، وأبعد ثلاثمائة وخمسون فردا إلى جنوب تونس.
والحقيقة أن اعتقالات بالجملة أجريت في مدن وقرى الدخلة، وقد بلغ عددهم على أقل تقدير ألفي نسمة (تقرير الاتحاد العام التونسي للعمل)، وقد وصف بعض الصحفيين جهة الدخلة بعد أن مرت بها العاصفة فقال مراسل «النهضة» التونسية في عددها الصادر 2 / 2 / 1952:
اليوم القرية جائعة، لم يبق شيء من المؤن في بيت من البيوت، ولم يبق ملبوس، وتعددت النسوة المسنات والأرامل - كفاطمة حجي مثلا التي في كلفتها عائلة مكونة من أربع بنات وصبي لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره - اللاتي لم يبق شيء في بيوتهن واللاتي أضعن حتى جهاز بناتهن بعد أن أمضين أعواما في إعداده.
أما البقالات الخمس الموجودة في القرية، فقد نهبها الجنود نهبا كليا ولم يبقوا فيها شيئا، وفي اثنتين منها مثلا كانت الرفوف خاوية، وكان على أرضها السكر والحمص مبددا مبللا بالنفط.
وقال الصحفي العالمي سول تاس
Sol Tas :
3
لقد تجولت بجهة الدخلة مقتفيا آثار اللفيف الأجنبي ... ومررنا بالقرية، وقد اختلطت التوابل والزيوت بالتراب وكونت فوق الأرض طبقة سميكة متسخة، وذلك كل ما بقي من بقالة كانت مزدهرة منذ يومين، وجميع الدكاكين خاوية فارغة مدمرة، وفي زاوية لطخها الوحل قطعة قماش تلمع وتبرق، وهي من القماش المطرز بالذهب للباس النسوة، وقد سرق جميعه ما عدا تلك القطعة، ونسفت المفرقعات خمسة بيوت، وكان أحدهما جديدا، وفي زاوية تحت بقايا حائط مهدم ثلاثة أطفال صغار فوق حصير، وهو جميع ما بقي من الأثاث كله، وصاحب الملك واقف بجانب تلك الخرابات ووجهه مغطي بردائه، تتردد زفراته مع أنفاسه فترجه رجا رغم محاولته التغلب عليها، ووقفت زوجته وشرعت تمشي بين الأنقاض وتضرب على صدرها، وسألت عن معني صيحاتها المتكررة، فترجموها إلى: «إخواني، إخواني، لقد ضاع مني كل شيء.» وبقي صوتها يتبعنا إلى أن غادرنا الشارع.
لقد نهب جميع الطعام والمؤن وجميع المال وجميع المصوغ، وهو ثمرة عمل هؤلاء القرويين حياتهم كلها.
وقد تركت عملية «التطهير» منطقة الدخلة في حالة دمار لن تستطيع النهوض إلا بعد وقت طويل، وسينشأ الأطفال هناك وأمام أعينهم أشباح من الخرائب والفظائع، وسيشب الكثير منهم في اليتم والتعاسة، أما الفتيات المغتصبات فسيحملن في نفوسهن مرارة تلك الشناعة طول الحياة، وستشهد البيوت وأضرحة الأولياء والمساجد على مرور السفاحين النهابين الهدامين الذين أوفدتهم وزارة الدفاع الفرنسية إلى تلك البقاع.
ولقد طالب شعب تونس باحترام كرامته وسيادته بحق تونس في أن تكون لها حكومة وطنية تونسية ونظام تمثيلي نيابي ديمقراطي، فأجابه ممثلو فرنسا بالقمع وعمليات «التطهير».
إن ضمير كل إنسان حر مهما يكن جنسه أو دينه ليحكم حكمه البات على ذلك الصنيع.
وقد قامت وزارة دولة السيد محمد شنيق الوطنية بواجبها نحو المنكوبين؛ إذ لم تكتف بمجرد الاحتجاج، بل كونت في الحال لجنة تحقيق مؤلفة من اثنين من أعضائها: هما وزير الدولة محمود الماطري ووزير الصحة محمد بن سالم، وطلبت رسميا من الإقامة العامة أن ترسل نائبا عنها ينضم إلى لجنة التحقيق، فسكتت الإقامة العامة عن ذلك، وبعد أن زارت اللجنة جميع مدن الدخلة وقراها وقامت يبحث دقيق على العين سجلت ما شاهدته من حقائق وفظائع في تقرير رسمي، حتى لا يبقى للسلطات الفرنسية مجال للتلاعب بالألفاظ وإنكار الواقع المحسوس، فابلغ السيد محمد شنيق نسخة من ذلك التقرير إلى الإقامة العامة الفرنسية وأردفها بهذه الرسالة:
تونس في 1 فبراير 1952
من الوزير الأول للمملكة التونسية إلى السفير المقيم العام لفرنسا بتونس
الموضوع: حوادث الدخلة - تقرير التحقيق وضعه معالي وزير الدولة ومعالي وزير الصحة العامة
صحبة هذا نسخة من ذلك التقرير
تبعا لرسالتي عدد 45 ب م/س ا ب بتاريخ 6 فبراير 1951 أتشرف بإبلاغكم صحبة هذا نسخة من التقرير الذي وضعه معالي الدكتور الماطري والدكتور ابن سالم، وقد كلفا بإجراء بحث رسمي على العين فيما يتعلق بحوادث الدخلة.
ويؤسفني أنكم لم تروا ما أوعزت لكم به من إرسال من يمثلكم ليشارك في ذلك البحث؛ إذ إنه كان يأتي بارتسامات مباشرة عن المنظر المؤلم الذي ظهر للباحثين، ولا يمكن إلا أن يتراءى بصفة غير تامة خلال ما في تقرير كتابي من جفاف.
الإمضاء: محمد شنيق
وتأثر جلالة الملك محمد الأمين الأول تأثيرا عميقا لما بلغه ما جرى في جهة الدخلة، وسعى حالا في إيقاف موجة الإرهاب الفرنسية بما لديه من وسائل، فأرسل عن طريق وزيره الأول برقية إلى الحكومة الفرنسية هذا نصها:
إن جلالة الملك المعظم قد تأثر كل التأثر من صرامة تدابير القمع الجارية الآن التي تسببت في عدة اعتداءات خطيرة على سلامة الأشخاص والمكاسب وعلى مباشرة السيادة التونسية، وقد تولت الحكومة التونسية إنهاء بعض الاعتداء إلى جناب السفير المقيم العام.
ونشرت تلك البرقية مع تصريحات الحكومة التونسية على الصحافة، فكانت رد فعل واضح على اعتداءات الفرنسيين.
لقد ظنت السلطات الفرنسية أن ما استعملته من عنف وما نشرته من تخريب ونهب وتنكيل وتقتيل، سيبعث الرعب والخوف في قلوب التونسيين، ويوقف تيار الوطنية فيهم، ويصدهم عن متابعة كفاحهم في سبيل حريتهم واستقلالهم؛ فيخفتون صوتهم ويختبئون في بيوتهم ويستسلمون استسلاما كليا للقوة الجبارة. وإذا بالآية تنعكس ويكذب شعب تونس آمال المستعمرين ويسفه أحلامهم ويحبط مؤامراتهم الدنيئة ويثبت أن قوة الحديد والنار لا توقف تيار الشعوب إذا أرادت الحياة.
ولم تضيع مدن الدخلة الجريحة ولا قراها المكلومة وقتها في النحيب والعويل، بل لم تفارقها القوات المعتدية حتى هب السكان جميعهم وقاموا بمظاهرات صاخبة محتجين ومعلنين لعزمهم على متابعة الكفاح.
وهب الشعب التونسي بأسره لمؤازرة المنكوبين والمضطهدين، وبمجرد ما وصلت إلى العاصمة أخبار الفظائع تكونت بها «لجنة إغاثة قومية» فأصدرت نداء للتونسيين ليؤازروا منكوبيهم، فتدفقت الإعانات من مال ولباس وطعام، وسارت القافلة الأولى نحو الدخلة بعد يوم وليلة، وتوالت إثرها القوافل، وازدادت حركة التآزر اتساعا يوما بعد يوم، ولم ينس منها الوطنيون المحرومون من حرياتهم سواء أكانوا بالسجون أم بالمعتقلات، وشملت جميع المنكوبين في القطر كله، وهبت كل مدينة تمون ما اقترب منها من معتقلات، ولنأخذ بعض الأمثلة من مئات: فقد كون الفرنسيون محتشدا ب «زعرور» قرب «ماطر» التي أخذت في تموينهم مرة بعد مرة، من جملتها يوم 10 مارس 52 وأصدرت لجنتهم الفرعية البلاغ الآتي: «لم ينس الماطريون إخوانهم المعتقلين بمحتشد «زعرور» رغم الظروف التي يجتازونها، فأرسلوا إليهم في سبيل الإغاثة 100 كيلو سكر، 100 كيلو صابون، 100 علبة سردينة، 400 علبة سجائر وكبريت، 500 كيلو برتقال، 50 خروفا، 200 كيلو خبز، 30 علبة فلفل، 10 آلات حلاقة، 200 شفرة للحلاقة، 200 ورقة وظرف للرسائل، 20 علبة شمع، 25 كيلو مربى، 5 كيلو قهوة، 3 أرطال نشوق، 2 كيلو فلفل مسحوق.»
وفي يوم 11 من الشهر نفسه أخذت مدينة جرجيس في الجنوب تستعد لإغاثة معتقل «جلال»، وقالت لجنتها الفرعية للإغاثة بتاريخ 12 مارس (عن جريدة الصباح التونسية): «تتأهب جرجيس لأخذ قسط وافر لإغاثة المنكوبين والمبعدين بالخصوص بجلال قرب (بنقردان)، فقد شرع الأهالي في جمع إعانة ذات بال شارك فيها التجار والموظفون والفلاحون من سوق جرجيس، وقد نجحت بفضل أصحاب الضمائر الأبية.»
وهذا أحد بلاغات لجنة الإغاثة الفرعية بمدينة سوسة (الصباح في 14 / 4 / 1952) تأسس هذا الفرع إثر حوادث شهر يناير، وأخذ يمد عائلات ضحايا سوسة والساحل بصورة عامة، واليوم توجه نخبة من أفرادها إلى طبلبة والمكنين والوردانين، حيث وزعت كميات كبيرة من المواد الغذائية تبرع بها أهل الفضل والإحسان من سوسة، وكذلك فقد حصلت نحو مائة عائلة منكوبة على مقدار من المال والملابس والأثاث المنزلية.
وقد قوبلت اللجنة المتجولة في كل من هذه القرى من طرف الأعيان والأحرار الوطنيين بكامل الحفاوة والتبجيل.
أما اللجنة المركزية بتونس التي اتخذت من النادي المركزي للحزب مقرا رئيسيا لها، فقد اتسعت أعمالها إلى أن شملت القطر التونسي كله، وتوالت جهودها من غير انقطاع، وهذا مثال من بلاغاتها (عن جريدة الصباح في 16 / 3 / 1952) تتواصل الإمدادات كل يوم على طريق لجنة الإغاثة إلى منكوبي الحوادث الجارية.
وما زال الشعب التونسي الكريم يمد بكل سخاء يده إلى المنكوبين والمتضررين، ولجنة الإغاثة ما فتئت تعمل على إيصال كل ما يلزم المعتقلين، سواء الذين بالسجن المدني أو العسكري من تموين وملابس وأغطية.
ففي كل يوم يصل إلى السجن المدني ما يربو عن ستمائة كيلو من المواد الغذائية، أما السجن العسكري فإن التضييقات التي يلقاها المساجين لم توفر عليهم إمدادات لجنة الإغاثة.
وتتقدم اللجنة بالشكر إلى شعب تونس، وخاصة إلى سكان حي «باب السعدون» الذين ما برحوا يتبرعون بكل عزيز وغال.
ولنلاحظ أن كل هذه الإعانات والتبرعات التي اتصلت بها عائلات المنكوبين من جراء أعمال القمع والتطهير لا تكفي لسد حاجاتهم، وإنما هي في الحقيقة تخفف ما نزل بهم وتعطي فكرة عن روح التضامن والتآزر والتآخي بين أفراد شعب تونس، فتشجعه على متابعة كفاحه.
الدموع والدماء والخراب
لم تكتف جيوش الجلادين بما ارتكبته في جهة الدخلة من فظائع، ولكنها نظمت الإرهاب والقمع في القطر التونسي بأسره، ونشرت الفزع والرعب في كل نواحيه وجهاته، الجهة تلو الجهة حسب خطة مدبرة وأعمال منسقة وإجرام مبيت. (1) جهة الساحل
وجاء دور جهة الساحل التي تعتبر بحق من أعظم معاقل الوطنية، فأعلنت السلطات العسكرية حالة الطوارئ، وشددت الحصار، وأخذ الجنود يهاجمون المدن والقرى واحدة إثر أخرى.
وكانت بلدة «قصر هلال» محتلة احتلالا شديدا لصلابة أهلها وتمسكهم بالمبادئ القومية وإجماعهم على النضال، وفتشت مرات ونهبت بيوتها وذاق أهلها ألوانا من الإهانات والتنكيل، وقد اعتقل جميع أعضاء هيئتها الدستورية وعدد وافر من أبنائها، وأذاقهم الجنود ألوانا من العذاب، وتفننوا في النكاية برئيس جامعتها السيد محمد القنوني ضربا ودفعا ولكما ودوسا، إلى أن أدموا جسمه وكسروا عظام ذراعه. ولم يسمح للأطباء ولا للمحامين الاتصال بالمعتقلين، فنشر أهالي «قصر هلال» بيانا جاء فيه:
إن أهالي «قصر هلال» الذين لا يفت في عضدهم شيء من القسوة والجبروت، عازمون على مواصلة العمل والكفاح المثمر، إلى أن يحققوا لوطنهم العزيز أمانيه الغالية.
ثم أعلنت البلدة الإضراب وقامت به في 14 و15 فبراير، رغم التهديد والوعيد وخطة الإرهاب. (2) بنبلة
تم «تطهيرها» في 20 / 2 / 52 من السادسة صباحا إلى الخامسة مساء. احتلها الجند والجندرمة وحاصروها، وأحضر الضابط الفرنسي شيخ البلدة وأعيانها بالمدرسة الابتدائية، وتلا عليهم أسماء 14 شخصا طلب اعتقالهم حالا، وأرسلوا إلى محتشد «زعرور»، وكلف الضابط رجلا ينادي بتأمين الأهالي إذا هم سلموا الأسلحة التي لديهم، فلما تقدم البعض بأسلحتهم اعتقلهم (16 شخصا)، ثم بدأ التفتيش والتحطيم والتبديد، ومن بين المعتقلين شيخان يتجاوز عمرهما 70 سنة، واعتدي بالضرب المبرح على كثير من السكان، وخاصة السيد عامر قاسم الذي أغمي عليه من شدة العذاب، ووقعت أعمال نهب كثيرة، وعلى إثر هذه الأعمال الوحشية مباشرة أذاع أهالي بنبلة بيانا أعلنوا فيه تمسكهم بالمطالب الوطنية وعزمهم على مواصلة الكفاح.
وكانت بلدة «الوردانين» التي لا تلين لها قناة في الوطنية، مسرحا لفظائع تكررت خلال شهر كامل من تبديد للأرزاق والمؤن ونهب واعتداءات وتقتيل، فحوصرت للمرة الأولى في 26 يناير، وحوصرت للمرة الثانية في 9 فبراير، وفي كل مرة يهاجم الجنود البيوت بعد أن يجمعوا الرجال تحت الحراسة المسلحة وتتعالى أصوات النسوة وصراخهن، وقد أجهضت عشرة منهن ونقل بعضهن إلى مستشفى مدينة سوسة. وأخذت قوات الجيش تتردد على البلدة إلى يوم 23 / 2، ففي تلك الليلة استمرت القوات في أعذب الملاهي لديها وهي صيد السكان بالبنادق، فأطلقوا الرصاص على محمد الوسلاتي ويوسف جعفر وهما في طريق العودة إلى منزلهما، فأصيب الأول ونقل إلى المستشفى واعتقل الثاني وسلم إلى الدرك الفرنسي بسوسة.
ولم تنج قرية البرجين من القمع، وطوقتها قوات الشر يوم 22 فبراير، وكان التفتيش وكان الحصار وكان العذاب.
وكان احتلال الجند لبلدة الساحلين يوم 11 / 2، وكان مع الضابط قائمة بثمانية عشر اسما من بينهم اسم سكرتير الشعبة حسين عمامو الذي فتشوا بيته وبعد الانتهاء من التفتيش كسروا ما فيه من زجاج ومرايا وأوان ودواليب بمؤخرة بنادقهم، ثم أخذ الضابط يسأله أمام الأهالي: هل أنت دستوري؟ فأجاب: نعم أنا دستوري. وكان بالقرب من الضابط صبيان عمرهما 12 سنة و14 سنة، فتقدم أحدهما وقال: ليس هو وحده دستوريا، إن كل الأهالي هنا دستوريون. فسأله الضابط: وأنت؟ قال: نعم أنا دستوري، وسأل الطفل الثاني، فأجاب بنعم، فألقى عليهما القبض وأخذهما مع المعتقلين، وإن لم يكن اسمهما موجودا بالقائمة. وأخرج الضابط واحدا من هؤلاء وأمره أن يهتف بسقوط بورقيبة وبحياة فرنسا، فصاح السجين: «يحيا زعيمنا الأكبر بورقيبة»، فأرسل عليه كلبا من كلاب الجيش عضه في رجله اليمنى ومزق عضلاتها، ونقل إلى المستشفى وقد أصيبت رجله بالتعفن.
وصلت القوات الفرنسية إلى بلدة طبلبة يوم 4 فبراير مساء وأحاطت بها حالا، وفي صباح 5 فبراير طلب من جميع السكان البالغ عمرهم من 15 إلى 80 سنة الخروج إلى ميدان البلدة، فأخرج الضابط الفرنسي تجريدة بها أسماء أعضاء الهيئة الدستورية، وطلب من الحاضرين أن يسلموا ما عندهم من السلاح، ثم أصدر أمره بأن يتقدم له كل من ينادى باسمه، ومن كان غائبا اعتقل أبوه وأمه وزوجته وأبناؤه وبقية أفراد عائلته، وسيق الجميع إلى ثكنة سوسة.
وكان الجيش أثناء ذلك يفتش البيوت، ويفعل فيها ما اعتاده من أفاعيل.
وأصبح الفرنسيون يستعملون الكلاب البوليسية على نطاق واسع، وقد أطلق الجنود في ذلك اليوم كلابهم على التونسيين، فنهشتهم نهشا وقطعت لحومهم، وما زال عدد كبير من أبناء طبلبة يحملون في أجسامهم آثار عض الكلاب، وقد أصيب اثنان من الدستوريين بجراح خطيرة من جراء ذلك. وتفننوا في التعذيب والتنكيل، فبعد أن حطموا نادي الشعبة الدستورية وأتلفوا ما فيه ومزقوا الأعلام التونسية، أخذوا علما منها وناولوه إلى أحد الكشافة واصطفوا صفين وأجبروه على الجري بينهم من غير إمهال ولا راحة، وكلما تعب أو توقف انهالوا عليه ضربا، وتقاذفوه بينهم وهم يتضاحكون، إلى أن مزقت ثيابه وسالت دماؤه وكست جسمه وسقط مغشيا عليه. ولما أفاق أصبح كالتائه الفاقد لرشده من كثرة التعذيب، وخرج ولم يعلم إلى حيث اتجه.
وقد طلب الجند من بعض الشبان أن يرتدوا أزياء الشبيبة الدستورية، وعندما لبسوها طلب منهم أن ينادوا: «يسقط بورقيبة»، فلم يمتثل أحد منهم، فكان نصيبهم الضرب بمؤخرة البنادق والتعذيب بالتيار الكهربائي أو بالمياه الباردة. ورغم هذا كله كان جواب جميع التونسيين: «يحيا بورقيبة».
وبقيت طبلبة الجريحة مدة أشهر تعيش حياة مرهقة تحت الإرهاب والاضطهاد، وقد فقدت كل وسائل المعيشة بعد أن شرد قادتها وأبناؤها ووزعوا بين معتقل «زعرور» وثكنة الجيش بسوسة وسجن المهدية والسجن العسكري بتونس، والبريد أيضا مقطوع عن البلدة تلك المدة كلها.
ولم نذكر من أعمال القمع بجهة الساحل إلا النزر اليسير والوقائع القليلة، كمثال لما وقع في بقية مدنها وقراها بدون استثناء. (3) جهة بنزرت
ولحق أيضا جهة بنزرت قسط وافر من الاعتداءات، فقد ابتدأت عملية «التطهير» ببلدة عوسجة يوم 27 / 2 / 52، وطوقت بحصار شديد، ثم فتش الجنود جميع بيوتها ودكاكينها بطريقتهم المألوفة، فأتلفوا المؤن والأرزاق، وحطموا الأثاث، ونهبوا وأفسدوا كل ما وجدوه، وعاملوا السكان بقسوة ووحشية، حتى لحقت الأضرار والجروح أكثر من خمسين منهم، واعتقل من بينهم ثمانية ساءت حالتهم جدا وأشرفوا على الهلاك من فرط ما لحقهم من تعذيب، ودامت عمليات القمع يومين وليلة. (4) الكاف
وبقيت مدينة الكاف عرضة للأعمال الوحشية مدة أسابيع، فبعد أن اعتقلت السلطات الفرنسية القادة الوطنيين في أوائل شهر فبراير وأبعدتهم إلى الصحراء برمادة، ألقت القبض يوم 22 / 2 / 52 على 14 شخصا آخرين، وقام يومها الجنود بنسف عدد من المنازل المجاورة للثكنة العسكرية.
وقتل ذلك اليوم جندي فرنسي، فاشتد الحصار على المدينة من الغد (23 / 2 ) واعتقل عدد كبير من الوطنيين، وأخذ الجيش يمطر الحي العربي بالقنابل اليدوية والمفرقعات المتنوعة، وهاجموا المسجد وألقوا فيه القذائف، فحطموا ما في داخله.
وتوجه أثر تلك الاعتداءات وفد يمثل سكان الكاف إلى العامل (المدير) وبلغوه احتجاجهم على تلك الأعمال الوحشية، وعقد المستشارون في هيئة بلدية الكاف اجتماعا يوم 25 فبراير وقرروا أثناءه تقديم استقالتهم - إذ أصبحت حياة كل من في المدينة في خطر - وهم السادة: عبد الجليل الباجي، وعبد الحفيظ قدور ، وعمار بن بلقاسم، وإبراهيم بن الشاذلي، ورمضان بن فبري، ودانا البير. وغني عن الملاحظة أنهم من سراة المدينة ومثقفيها وأعيانها، فأعلنوا هكذا عن انضمامهم إلى الكفاح الوطني.
وقد أعلن أهالي مدينة السرس الإضراب في 23 و24 فبراير تضامنا مع سكان مدينة الكاف. (5) باجة
وقاست مدينة باجة من الاحتلال الطويل والحصار الدائم ألوانا من الإرهاق، وكانت الطائرات الحربية تحلق فوقها من حين إلى حين لإنزال الرعب في القلوب، وفتش الكثير من بيوتها ونهب، وذاق أهلها مرارة التنكيل وعذب ثلاثة منهم عذابا أليما وهم: علي بن العبيدي، وعبد المجيد بن عثمان، ودياب بن خضيري، واعتقل عدد وافر من سكانها، وانتشر الجند في ضواحيها و«طهروا» هنشير الحلوفة وهنشير بو سعادة، وألحقوا بأصحابها العذاب وأتلفوا الأرزاق. (6) سوق الأربعاء
وقطعت أعمدة التليفون بجهة سوق الأربعاء ليلة 25 فبراير، فقدمت إليها القوات الفرنسية المسلحة وقامت بأعمال الترويع والتفتيش وإتلاف المؤن والأثاث في تلك المنطقة كلها، واستعملت الكلاب في تعذيب التونسيين، ومن بين المصابين امرأتان نهشتهما الكلاب ثم اعتدى عليهما الجنود بالضرب والدوس بالأقدام، وألقي القبض على عدد من الوطنيين. وعلى إثر تلك الحوادث ألف السكان وفدا من الأعيان قابل العامل واحتج لديه على هذه التصرفات المشينة، وأعلمه أن الشعب بأسره متضامن وسيتابع كفاحه لتحقيق أهدافه السامية. (7) كسرى
وفجعت بلدة كسرى في أبنائها وأرزاقها ونهبت بيوتها، وكانت مأساتها من أفظع ما يتخيل الإنسان، وقد حوصرت مدة أسابيع حصارا عزلها عن العالم وقطعها من المواصلات حتى جاع أهلها وكادوا يتلفون جميعا.
أما مدينة مكثر القريبة منها، فإن الجنود لم يقتصروا فيها على ما اعتادوه من تدمير ونهب وإفساد وترويع، بل أرادوا أن يلحقوا بأهلها العار باعتدائهم الشنيع على شرف نسائها. لقد قام الجند يوم 27 فبراير بتفتيش محل السيد فرج بن علي السياد، ثم حملوا معهم زوجته وابنته وزوجة ابنه بالقوة، ولما اعترض الرجل طريق المعتدين ضربوه ضربا مبرحا بمؤخرة البنادق، وسيق النسوة إلى مكان مجهول، وبعد يومين في صبيحة 1 / 3 / 52 عثر عليهن في حالة إغماء مطروحات في أحد الحقول وحالتهن يرثى لها، فنقلن إلى المستشفى، كما نقل إليها أيضا السيد فرج الذي أصيب في إحدى عينيه بجروح خطيرة.
أما في جنوب القيروان، فقد هاجمت قوات فرنسية كبيرة الأراضي الخاصة بقبائل جلاص، وأنزلوا أقصى ضرباتهم على قبيلة الذويبات، فنشروا الدمار والخراب، وأتلفوا جميع الممتلكات، وفتشوا جميع المنازل تفتيش إبادة وتدمير. وفي بيت خليفة بن أحمد أطلقوا النار على ابنته خيرة فأصابوها في فخذها الأيسر، وأطالوا التفتيش والحصار في بيت عبد النبي بن الحاج ضوء وأخيه علي المكي مدة 24 ساعة كاملة، وقتلوا الكلاب وحطموا الأدوات المنزلية والآلات الزراعية، وكان ضرب من الجنون الإجرامي قد استولى على الجنود في آخر الأمر، فأخذوا يحرقون البيوت بجميع ما فيها من أثاث ومؤن في موقع جهينة حيث يسكن قسم من الذويبات، ولم ينج السكان من النار إلا بمعجزات، فمن بين البيوت التي أصبحت رمادا: (1) بيت الأرملة ربح بنت بوقطف. (2) بيت حسين بن محمد بن عباس، ولما خرج منه صاحبه فرارا بنفسه من النار اصطاده الجند صيدا ورموه بالرصاص فأبقوه جثة هامدة. (3) بيت علي بن بوقطف. (4) بيت عمر بن بوقطف. (5) بيت محمد الهادي بوقطف. (6) بيت يوسف بن قريدة. (7) بيت محمد بن يوسف بن قريدة.
ودخل الجيش الفرنسي إلى بلدة جبنيانة دخول الفاتحين المنتصرين يوم 21 فبراير، وزرع الرعب والخوف، فطوق البلدة، وفتش بيوتها ودكاكينها، وألقى القبض على رئيس الشعبة محمد عاشور الزناتي. (8) الجم
حاضرت القوات الفرنسية بلدة الجم، ثم احتلوها، وروعوا السكان، وأعلنوا حالة الطوارئ، ثم قبل أن يغادروها فرضوا عليها ضريبة حربية بدعوى حراسة أعمدة التليفون. (9) الصخيرة
انتشر الجنود في جهة الصخيرة، ونشروا بها الذعر بدعوى التفتيش عن السلاح، وحطموا حتى خيام الرعاة، وأجهضت سيدات، وجرح عدد وافر من الرجال. (10) قابس
جاء دورها يوم 14 فبراير، فاحتلها العساكر، وقاموا بحملة إرهابية واسعة النطاق، وطوقوا بيت الحاج عبد الله بن رحومة عضو مجلس البلدية بقابس، وأتلفوا ما فيه، ثم فتشوا بيت ابنه فلم يجدوا شيئا، فألقوا القبض على أبنائه الثلاثة ومن بينهم السيد النجار قائد إقليم قابس للكشافة، ونقلوهم إلى الثكنة العسكرية. ثم أعلنت حالة منع التجول. فأضربت المدينة احتجاجا على هذه الإجراءات، وخاصة لأن منع التجول يحرم الأهالي من أداء صلاة العشاء وصلاة الفجر في المساجد ويمنعهم من إقامة الأذان.
ورجع الجنود في 21 و22 فبراير، وحاصروا المدينة من جديد، وأعادوا فيها عملية «التطهير»، وفتشوا عدة منازل منها بيت صالح ضوء أحد القادة الكشفيين، والطاهر واجد أمين مال الشعبة الدستورية، واعتقلوا عددا وافرا من الوطنيين، وبالليل كان الجنود يقومون بترويع الناس، فيتسلقون السطوح ويسعون في تكسير أبواب المنازل للنهب وانتهاك الأعراض. (11) الرديف
عادت قوة من اللفيف الأجنبي وجنود المظلات إلى بلدة الرديف يوم 18 فبراير بعد أن قاموا بعمليات «التطهير» فيها مرارا من قبل، وحاصروها وقاموا بأعمالهم المعتادة من تنكيل وترويع وضرب ولكم وإهانات وتفتيش الرجال وحتى النساء في البيوت، ونهبوا وبددوا وحطموا، واعتقلوا أعضاء الشعبة الدستورية وسكرتير نقابة التجار واعتدوا عليه بالضرب. (12) جهة الجنوب
اصطبغت حملة الإرهاب العسكري في الجنوب بالقسوة والشدة، فأعلنت حالة الطوارئ بمدنين ابتداء من 17 فبراير، ومنع التجول من السادسة والنصف مساء إلى السابعة صباحا، وذلك إثر الهجوم الذي وقع على الثكنة العسكرية في الأسبوع السابق لذلك، وأطلق عليها الرصاص للمرة الثانية فقتل ثلاثة جنود، كما وقع إطلاق النار في يوم 20 يناير على لوري محمل بالجنود، فانقلب ومات 11 جنديا.
وبدأ القمع يوم 14 فبراير، فتألف ركب من عامل الجهة (المدير) والقائد العسكري الفرنسي وأعوان الجندرمة وعدد كبير من الجند، وقامت القوات «بتطهير» أعبنتن، واعتقلوا رئيس شعبة أولاد عبد الله ورئيس شعبة أولاد محمد وكامل الهيئة الدستورية ومحمد بن فرج والهادي الصانعي الذي اعتقلوا معه ابنا له لم يتجاوز الخامسة، ثم انتقلت القوات إلى «أم التمر» حيث اعتقلت عددا من الوطنيين.
وجاء دور «وادي اللبة» ففتشوا منطقته ثلاث مرات في يوم واحد، وخاصة منزل السيد ضوء الهتشير وألقوا عليه القبض؛ لأنهم وجدوا عنده بندقية غير صالحة للاستعمال، وبقيت عائلته لا تعلم شيئا عن مصيره. وقد عذب المساجين ونكل بهم تنكيلا فظيعا إلى أن فقد بعضهم رشده.
وكان التونسيون رغم ما يعانونه من اضطهاد مريع يحرصون على إظهار حمق الفرنسيين وخوفهم، فكان الأطفال بمدينة تونس يربطون حققا فارغة في ذيل القطط ويطلقونها في الشوارع الرئيسية، فيهرع البوليس والقوات الفرنسية المسلحة ويركضون من كل جانب شاهرين أسلحتهم وعلى وجوههم علامات الفزع.
وكانت قوائم الأسماء التي يحضرها الفرنسيون لاعتقال الناس قديمة، وحدث في أكودة أن ضابطا فرنسيا أمر بإحضار راجح إبراهيم الذي أدرج اسمه في القائمة ولم يحضر، فتقدم أحد السكان وقال: سأدلكم عليه. وذهب مع الضابط والجنود إلى أن بلغ بهم المقبرة المحلية، ووقف بهم على قبر، وقال: هنا يسكن راجح إبراهيم، إنه قد مات منذ سنوات. ويدل ذلك على فوضى قسم الاستعلامات الفرنسي، وعدم تعاون التونسيين معه.
وحاصر خمسمائة جندي قرية «المعتمر» (أي أكثر من عدد سكان القرية)، وخرج أحد رجالها يريد الذهاب إلى مدينة سوسة، وفي الطريق ساقوه إلى الضابط الفرنسي، فسأله: ما اسم هذه القرية؟ فقال: قرية المعتمر. فنظر الضابط في خريطة أمامه ثم قال: كأنه يخاطب نفسه، لا هذا غير ممكن، غير صحيح. وبعد ساعات غادر الجند القرية وتبين أنهم كانوا قد ضلوا الطريق ولم يقع تفتيش القرية. (13) التضامن القومي
ومن أجمل الأمثلة الرائعة على قوة الشعور الوطني وروح التضامن القومي، ما حدث في مدينة مساكن، حيث احتلها بداية من 8 فبراير جنود اللفيف الأجنبي الذين كانوا يعيثون فسادا في جهة الدخلة، فأخذ الجنود يبيعون ما نهبوه من ذهب وفضة وما سرقوه من حلي في الدخلة، وأسرع الأهالي لشرائه منهم، وبيع الخلخال بثمانية آلاف فرنك وقيمته 150 ألف، وباع الجند بعض القطع الذهبية بزجاجة من الخمر، وبلغ مجموع ما باع الجنود من الحلي 60 ألف فرنك، بينما يقدر ثمنه الحقيقي بستمائة ألف فرنك، ثم جمع الأهالي كل ذلك الحلي وسلموه إلى الخليفة (الوالي) الذي سلمه بدوره إلى الملك ليرفعه لأصحابه، ورفض أهالي مساكن استرداد المبالغ التي اشتروا بها الحلي لما عرض الخليفة ذلك عليهم، فضربوا هكذا مثالا عاليا لهجت به البلاد التونسية بأسرها.
ولقد استمرت حملة القمع الدامي من غير انقطاع في القطر كله. (14) شراحيل (من ضواحي مدينة المنستير)
في شهر فبراير حوصرت القرية من طرف الجنود حصارا شديدا، وأخذوا يطلقون الرصاص في الفضاء لينزلوا الرعب في قلوب الناس، وجمعوا الرجال كبارا وصغارا وكهولا في مكان معين، ثم فتشوا البيوت والمنازل وروعوا من فيها من النساء والأطفال، وأتلفوا كل ما وجدوه من مؤن وزيت، كما أتلفوا البيض والدجاج وجميع الطيور الداجنة، وسلبوا المصوغ والحلي وانتهكوا حرمة المسجد، وبعد التفتيش أشبعوا الرجال ضربا وأطلقوا على بعضهم الرصاص، فجرحوا أحدهم وأتوا بكلاب أطلقوها على الناس تعضهم وتنهش لحومهم حتى جرحت عددا وافرا.
وذهب إلى المستشفى من يملك مالا للمداواة، وبقي البعض بدون معالجة يئن من جراحه.
وألقي القبض على اثنين وعشرين رجلا من سكان القرية، وفرضت على أهالي البلدة غرامة حربية قدرها تسعة أغنام.
وكتب أحد أهالي أولاد عسكر (جهة سبيطلة) عما قاسوه من إرهاق، فقال:
في صبيحة يوم الأربعاء 28 فبراير استيقظنا من نومنا، فوجدنا أنفسنا مطوقين بقوات من الجندرمة، وسرعان ما اقتحموا المنازل وعاثوا في أثاثها فسادا، وانهالوا علينا ضربا وشتما ولكما، وأطلقوا علينا كلابهم فشتتت صغارنا وروعت نساءنا. وأخيرا أسفرت النتيجة عن فقد كمية كبيرة من الحلي ذهبا وفضة، واعتقلوا جمعا من الرجال والنسوة ساقوهم أمامهم وزجوا بهم داخل السجن. ولم يكفهم ما فعلوا من ترويع، بل رجعوا يوم الخميس 6 مارس فلم يستيقظ الأهالي إلا على نباح كلابهم وأصوات شتائمهم، يروعون الأهالي ويضربونهم بمؤخرات البنادق.
وقد بلغت الحماقة والاستفزاز غايته في كل مكان، وأصبح الفرنسيون ينغصون حياة التونسيين بجميع الأساليب ويضيقون عليهم أنفاسهم، وإن ما وقع ببلدة بنزرت مثال من آلاف الأمثلة.
عندما كان الشاب عثمان بن محمد مؤمن من سكان منزل جميل - وعمره 17 عاما - مارا بشوارع مدينة بنزرت في قضاء بعض شئونه، وذلك يوم 9 مارس؛ إذ وقف أمام السينما «ماجستيك» متأملا في الصور المعلقة، وإذا بشرطي فرنسي يصيح به: در! ارفع يديك! ماذا تفعل هنا؟ وأثناء تفتيشه وجد عنده مبراة صغيرة، فقال له: لماذا تحمل هذا السلاح غير المرخص به ، فأجابه الشاب: هذه مبراة صغيرة أبري بها قلمي وهي لا تتجاوز الثلاثة أصابع، وإذا كانت هذه المبراة تعتبر سلاحا غير مرخص به، فلماذا تباع في كل مكان؟
فما كان من البوليس إلا أن قاده إلى المركز وزج به في السجن، وعندما حضر رئيس مركز البوليس أتي به واستجوبه طويلا فيما لا ينتمي إلى قصة المبراة. وفي الساعة العاشرة ليلا أطلق سراحه.
فخرج محتارا مفكرا، إلى أين يذهب؟ وعند من يأوي؟ حتى عثر عليه رجل فقال له: أراك حيران يا بني، فما الذي دهاك؟ فحكى له ما جرى، وقال: إن عائلتي بمنزل جميل وليس لي أحد بمدينة بنزرت، وبيننا وبين بلدتي البحر، وقد فاتني وقت الرجوع وانقطعت المواصلات في هذه الساعة المتأخرة، وتوقفت «القنطرة المتنقلة» عن عبور البحر، فأخذه الرجل معه إلى بيته فنام مع أبنائه، ولا تسل عما حدث لعائلته من أجل غيابه وخاصة لوالدته الأرملة.
وأصبح الجنود الفرنسيون قطاع طريق. (15) السرس
في مساء يوم الأحد الثاني من مارس كان عامر بن محمد دباش، وأخوه سالم والعياشي خلف الله، يقضون السهرة بالفندق القديم على بعد ثمانية كيلومترات من السرس بطريق مكثر، وكان برفقتهم محمد الأشهب معلم بالمكان، والعادل بن العبيدي والهادي بن السخري وعلي بن عزوز والطاهر القداش ... وغيرهم؛ إذ دخل عليهم فجأة - حوالي الساعة التاسعة والنصف - أربعة من الجنود شاهرين بنادقهم وخناجرهم، وأدخلوهم تحت تهديد السلاح لمستودع بضاعة داخل المحل، وشيعوهم بعبارات السب والشتم. وبعد دقائق خرج الجنود وامتطوا سيارتهم، ولاذوا بالفرار وأخذوا معهم ما وجدوا من دراهم في الصندوق؛ أي 95000 فرنك وكمية من لفائف التبغ.
وفي صباح يوم الاثنين 3 مارس أصبحت قرية السرس مضربة عن العمل، احتجاجا عما تسترسل عليه القوات العسكرية من السرقة، التي أصبحت مباحة في وسط شعب أعزل.
وإن الفرنسيين لا يرحمون مريضا ولا امرأة حاملا ولا جريحا، وتحجرت قلوبهم حتى أصبحت أكثر قسوة من الصخر ؛ فقد وقع إيقاف السيد عمر بن سليمان التجاني من مشيخة «لاله» بعمل قفصة يوم 15 فبراير 1952، وكان جريحا، وقد جيء به يوم السبت 8 مارس إلى المستشفى العسكري في حالة احتضار، وقد أسلم الروح صباح يوم الأحد في التاسعة متأثرا بجراحه التي لم تعالج في الإبان.
وقد شنت القوات العسكرية الفرنسية والدرك والبوليس الفرنسي حملات متوالية على القطر كله لاعتقال عدد كبير جدا من السكان، لا لذنب اقترفوه ولكن لمجرد الترويع، فيخلفون وراءهم حيث ساروا العويل والبكاء، ويقضون على عائلات كاملة بالجوع والمسغبة عندما يلقون القبض على مموليهم. فلنذكر على سبيل المثال:
منزل جميل: السيد محمد البسطي أمين مال نقابة الفلاحين المنتجين.
بنزرت: ألقي القبض على أربع شخصيات يوم 10 مارس؛ هم السادة أحمد بن حمادي الكعاكي الكاتب العام لنقابة الفلاحين المنتجين باللواتة، حمادي بن كندارة، عمر العبيد، التيجاني العبيد.
نابل: ألقي القبض من جديد على السيد محمد بن الطيب.
صفاقس: اعتقل 22 شخصا يوم 10 مارس.
قابس: ألقي القبض يوم 9 مارس على 15 تونسيا ويوم 10 مارس اعتقل شخصان بمنزل قابس.
العالية: يوم 11 مارس بسجن فرد واحد.
المنستير: يوم 11 مارس ألقي القبض على عشرة أشخاص.
ويتكرر ذلك يوميا في جميع المدن والقرى، ولم يكتف الفرنسيون بالكهول والرجال حتى أخذوا يسجنون الأطفال الصغار ويسلطون عليهم أقسى الأحكام. (16) سجن الأطفال
ففي مدينة قفصة ألقي القبض مساء الخميس 6 مارس في الساعة الثامنة مساء على طائفة من الأولاد الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين السابعة والثانية عشرة، لا لذنب سوى كونهم تجمعوا كعادة الصبيان يجوبون الطرقات رافعين أصواتهم ببعض الأناشيد، فاعترض طريقهم أعوان الجندرمة شاهرين في وجوههم السلاح مصوبين نحوهم الرشاشات، وساقوهم إلى السجن حيث قضوا ليلتهم.
وفي صباح الجمعة 7 مارس ألقي القبض على أولاد صغار آخرين، وقد علق على ذلك محرر «الصباح»، قال: وإلى حد كتابة هذه الكلمات (12 مارس 1952) لم نعلم عنهم شيئا جديدا، فما هي حالة الآباء والأمهات.
وقد شارك الأساتذة والمعلمون الفرنسيون السلطات في قمع التونسيين، وكانت بلدة الحامة مسرحا لذلك العدوان، كما كانت بقية المملكة، على إثر المظاهرة التي قام بها أبناء المدرسة الابتدائية، احتجاجا على طرد إخوانهم تلاميذ المدرسة الثانوية بتونس وصفاقس، فصل مدير المدرسة الفرنسي عددا من التلاميذ إلى أجل محدود، وعدد آخر طردوا نهائيا.
وكان كل ذلك لم يشف غليل الفرنسيين، فأخذوا يعتقلون الناس بالجملة ويختطفونهم اختطافا من الشوارع، وخاصة في مدينة تونس؛ فقد شنت قوات الأمن في عشية يوم السبت 18 مارس حملة اعتقالات واسعة النطاق بالأحياء العربية، فكانت تلقي القبض على المارة والجالسين في المقاهي بأحياء باب الخضراء والمرجانية والحلفاوين، وقد بلغت الإيقافات نحو المائة بدون موجب رغم استظهار المقبوض عليهم ببطاقات التعريف بشخصياتهم، ولكن عربات البوليس قد عادت غانمة مثقلة بما اقتنصته.
واستمر اختطاف الناس من الطريق العام، وهي وسائل منافية لحرية الأفراد في السير بالطريق آمنين والسعي لقضاء حوائجهم.
وحوالي الساعة الرابعة من عشية يوم الأحد 23 مارس سدت الطرقات والأنهج المؤدية إلى أحياء باب الخضراء، ونهج العسل وباب سيدي عبد السلام وباب سيدي عبد الله وباب سيدي قاسم؛ بحيث طوقت العاصمة التونسية بالقوات المسلحة وحوصر سكانها، وكل من بارح منزله أو دكان شغله التقط وزج به في العربة السوداء وسيق إلى حيث ينزل ضيفا في أحد المحتشدات أو في مقر الشرطة.
وفي نفس الساعة طوق حي الحلفاوين والتقط منه المارة وجلاس المقاهي من جانب البوليس السري والعلني، ودامت هذه العملية ساعة تقريبا.
وفي صباح يوم الأحد 23 شنت حملة بوليسية على سوق الخضر بحي سيدي البحري، ورفعت خضر الباعة كلهم وغلالهم إلى مستودع المحجوزات البلدي، وسيق أربابها إلى عربة البوليس. وقد اتسع نطاق هذه الحملة إلى المقاهي هناك برفع جلاسها، كما شنت حملة مماثلة في نفس الوقت على سوق الحي الإسرائيلي، ودامت إلى الزوال. (17) نداء من أعماق السجن
وكان المساجين يقاسون ألوانا من العذاب لا يطيقها بشر، ورغم ما هو فيه تابعوا كفاحهم الوطني وارتفعت أصواتهم من أعماق السجن محتجين على معاملتهم بتلك الطرق الوحشية، وأرسلوا نداء إلى الصحافة جاء فيه:
إن المعتقلين السياسيين المحشودين بشق «السيلونات» بالسجن المدني بجوار المحكوم عليهم بالإعدام والمجرمين، يعانون كل أنواع الظلم والاضطهاد من إدارة السجون سواء من الناحية المادية أو الأدبية.
وبعد أن طالبوا بالسجن السياسي ختموا لائحتهم بهذه الكلمات الخالدة: «هذا وإننا لنعلن من جديد تعلقنا الكامل بالعرش المفدى، معبرين عن صحة عزمنا لمواصلة الكفاح حتى النصر النهائي، متيقنين من أن نهاية هذا العسف والظلم والقمع موقوفة على تقديم نفوسنا ضحايا وقربانا على مصلحة الوطن العليا.»
عن المعتقلين
محمد بالطيب مدير جريدة «لواء الحرية» (18) المحاكم العسكرية
اعتادت السلطات الاستعمارية على اتخاذ المحاكم الفرنسية أداة قمع وإرهاب وتسخير العدالة والقضاء لتعزيز استعمارها والفتك بالتونسيين، ولم تكف محكمة عسكرية واحدة، فأضيف لها محكمة عسكرية ثانية بتونس وأحدثت أخرى بصفاقس، وقد أصدرت المحاكم الفرنسية الزجرية أحكامها القاسية على أكثر من عشرة آلاف من التونسيين، وهي تجلس يوميا من غير انقطاع مدة عامين كاملين، ولنأت ببعض الأمثلة من قسوتها وجبروتها.
فقد أصدرت المحكمة العسكرية أحكامها على 14 تونسيا يوم 11 مارس.
1
وحكمت المحكمة الزجرية في نفس اليوم على السيد عبد الرزاق بن والي بتهمة مظاهرة بمدينة زغوان، والسيد المكني بتهمة تعطيل الترام.
وأصدرت المحكمة العسكرية يوم السبت 18 مارس أحكامها على 14 من التونسيين.
2
وفي صباح يوم الاثنين 10 مارس طوقت المحكمة الفرنسية في مدينة صفاقس بقوات الجيش والبوليس؛ خوفا من غضب الشعب، وأدخل البوليس تسعة من المعتقلين على بعضهم آثار الدماء وآخرون جروحهم بينة، كما أدخل النساء إحداهن حامل واثنتان تحملان أطفالهما.
ومن الشهود اثنان مدنيان فرنسيان ديسكويون ودوبير - الأستاذان بالمعهد الفني بصفاقس - اللذان دنسا مهنة التدريس بأن أصبحا مخبرين للبوليس، وكذلك فعل الأغلبية الساحقة من المدرسين والمعلمين الفرنسيين بالبلاد التونسية، وأصدرت المحكمة أحكامها القاسية بالسجن والخطايا على السيدات: مجيدة كريشان، حليمة الشعبوني، فاطمة نميلة، مبروكة شعور، نفيسة السراط، خديجة شعور، عائشة القفال، حميدة الميلادي، وسيلة الشعبوني.
وحكم بالسجن والخطايا أيضا على عدد من الشبان.
3
وعرضت أمام المحكمة العسكرية بتونس يوم 3 يوليو 1952 قضية تخريب جسر وادي منصور المتهم فيها عدد من التونسيين، وأصدرت ضدهم أحكامها.
4
وطوقت المحكمة الفرنسية بصفاقس صباح يوم 5 يوليو 1952 بقوة من أعوان الحرس المتجول والجندرمة والبوليس، وقد أصدرت أحكاما قاسية على عدد وافر من الشبان التونسيين.
5
وقد نظرت المحكمة العسكرية في قضية شبان قابس يوم 5 / 7 / 1952، المتهمين بعقد اجتماعات تذاكروا أثناءها في إعداد أعمال التخريب والاغتيال.
6
وحين استجوابهم أنكروا ما نسب إليهم، وصرحوا بأن اعترافاتهم لدى البوليس كانت تحت مفعول الضغط والإرهاب والتعذيب. وبعد الاستماع لمرافعة الادعاء العام ولسان الدفاع، حكم على اثنين منهم بخمس سنوات أشغالا شاقة وبالتغريب مدة عشر سنوات، وعلى اثنين آخرين بثلاث سنوات سجنا وعلى واحد بعامين، وحكم على ستة منهم بثلاث سنوات سجنا وعشر سنوات تغريبا، وحكم على اثنين بعشر سنوات سجنا مع الأشغال الشاقة والتغريب عشرين سنة. (19) حياة التونسيين في جو الإرهاب
أصبح كل تونسي غير آمن على حياته ولا على حريته ولا على رزقه، وهو يتوقع الاعتداء عليه في كل خطوة يخطوها في الشارع أو أن يهاجم في عقر بيته أو يؤخذ إلى السجن أو المعتقل في كل ساعة من النهار أو الليل، لا لذنب اقترفه ولكن لأنه تونسي، فتعود على جو الإرهاب وعدم الأمن والاستقرار، وأصبحت الجنازات نفسها لا تسلم من الاعتداء.
فقد احتفل بعد ظهر يوم الجمعة 21 مارس بتشييع جثمان الفتى الشهيد المرحوم عبد الرزاق الشرايبي الذي سقط يوم الخميس صريعا برصاصة من أحد أعوان البوليس اخترقت جبهته.
وقد خرج موكب الجنازة من نهج القنطرة حيث يقع بيت الفقيد، وشيعه عدد عظيم من الشعب نساء ورجالا وشبانا، واخترق الموكب حي الحلفاوين فحي باب سويقة، فحي باب سعدون في طريقهم إلى مقبرة الفدان، وكانت جميع الأنهج محاصرة بقوات الجندرمة والبوليس.
وعند وصول موكب الجنازة إلى المقبرة ودخول الناس وراء النعش لحضور مواراة الشهيد التراب، طوقت المقبرة من جميع أبوابها ومساربها بالقوات المسلحة، وشرع في تفتيش النسوة اللاتي صاحبن موكب الجنازة، وكان هذا التفتيش الذي لا مبرر له يجري بأسلوب ماس بالتقاليد الإسلامية؛ حيث كان الأعوان يخلعون عباءة النسوة المسلمات ويكشفونهن ويفتشونهن من قمة الرأس إلى أخمص القدم، ومن كانت ترتدي منهن الزي الإفرنجي خلعوا عنها معطفها وأجروا عليها نفس الأسلوب في التفتيش.
وبعد الانتهاء من تفتيش النسوة، انتقلوا لتفتيش الشبان؛ حيث أمروهم بالمرور صفا متتابعا في خندق قذر كان محفورا بالطريق مملوء بالعفونة، وهناك أخذوا يفتشونهم ويلحقون بهم الإهانات، وكثيرا ما ضربوهم بمؤخرات بنادقهم.
ولم تتمكن الجماهير المشيعة للجنازة من تقديم تعازيهم لعائلة الفقيد، بل بلغنا أن أخا الفقيد قد وقعت إهانته وضربه، فزادوه ألما على ألمه برزيته في شقيقه.
وكانت القوات تلتقط الناس وتزج بهم في عرباتها، وبلغ عدد الموقوفين رقما عظيما.
وقد وصف بعض التونسيين ما يعيشون فيه من قمع وترويع امتزج مع حياتهم اليومية، فقال أحد سكان بلدة رأس الجبل في جهة بنزرت في رسالة نشرتها جريدة «الصباح» التونسية بتاريخ 19 / 3 / 1952:
تعيش رأس الجبل في هذا الظرف الدقيق والساعة الرهيبة منذ أن جدت الحوادث وحلت النكبة بأمتنا الهادئة الوديعة، وشعبنا المسلم المسالم في جو من الترويع والتعذيب ومحيط من التشفي والانتقام لا يعلم مداهما إلا الله.
ولا تظن أن سبب هذا هو العثور على مستودع للذخيرة والبارود، وإنما لتصلب أبناء هذا البلد في وطنيتهم والتمسك بكامل عقيدتهم المتمثلة في التحرير النهائي من القيود العنصرية البغيضة، والفروق الاستبدادية الكريهة. هذا هو مجمل ما عندنا في البلاد، وقد أخذت جماعة من براذع الاستعمار وأذنابه في تزوير الحقائق وتبديل الأشياء حتى ادلهمت العاقبة واختلطت السبل ولم يعد هناك مجال لفهم أعمال المتنطعين، فقد أخذوا بالظنة وعاقبوا على الشبهة وروعوا النساء وهددوا العجائز المسنات، وقبضوا على عدد من المواطنين البرآء الذين لا هم لهم في الحياة إلا التحصيل على الرغيف لقوته وقوت عائلته، وهم كثرة لا يحصى لها عد. وهناك آخرون من المشبوه فيهم قد زجوا بهم في غياهب السجون (المعروف بكراكة غار الملح) وجردوا عليهم سوط العذاب.
وها إننا نرى في كل يوم ضابط الحرس المتجول والجندرمة يغدون ويروحون، وفي كل مرة يخرجون من جيوبهم قائمة فيها أسماء لبعض الأشخاص، وقد يكون من بين هؤلاء الأشخاص من هم خارج البلد يسعى للعمل، وفيهم من هو مريض في العاصمة بقصد التداوي، وفيهم من لا يعلم أحد مصيره إلى الآن، ولعله أودع السجن مع أن كل من لا يعثرون عليه دلهم خائن القرية (القواد حسب عبارة الضابط) على محله، وأخذ أمه أو أخته أو فردا من أفراد عائلته كرهينة من الرهائن إلى أن يسلم نفسه، وقد وقع أخذ الأم وابنها في ليلة من الليالي.
وها هي الأنباء تأتي أنهم نقلوا الأخ محمد الكداش رئيس الشعبة الدستورية من محل إبعاده والإتيان به إلى غار الملح لحشره مع بقية زملائه الذين هم الآن في حالة لا يقدر على خطها القلم، والأخطر من هذا هو معاملتهم معاملة مجرمين حقيقيين. (20) رد الفعل التونسي
هل استسلم شعب تونس لقوات الشر الفاتكة؟ وهل تنازل عن مبادئه تحت تأثير الضربات القاسية؟ وهل تراجع عن كفاحه لما لحقه من اضطهاد وتعذيب وتنكيل وقمع دام؟ وهل ركن إلى السكينة والهدوء وخاصة أنه ليس لتونس قوات مسلحة تقف أمام الحديد والنار وترد بها غائلة المعتدين؟
ولقد علم شعب تونس علم اليقين منذ آماد، أنه لا يتغلب بالقوة المادية الصرفة على الجيش الفرنسي في الحرب الحقيقية التي شنتها فرنسا عليه، وعلم أيضا أن طرق المقاومة متنوعة متعددة، فاختار منها أنجعها وأقربها من طبعه، فقرر سياسة عدم التعاون مع السلطات الاستعمارية، وأظهر إرادته القارة الراسخة على نبذ الحكم الأجنبي ومقاطعته وعدم الانصياع لأوامره والتمرد عليه في جميع الميادين. وكانت كلمة الشعب موحدة وصفوفه متراصة منظمة، فقال التونسيون جميعا للاستعمار البغيض: لا! لن نتقبله ولن نرضى به، ولن نخلد لحكمه ولن نعيش عيشة العبودية والرق، ولن نبقي أجانب في وطننا. وللتونسيين أرواح مؤمنة بالحق مؤمنة بحقهم وحق وطنهم، وليس لهم غير صدورهم يستقبلون بها رصاص الاستعمار الجائر، وليس لهم غير دمائهم، فقدموها هدية للحق، لعل العالم الذي يسمي نفسه حرا يعترف لهم بحقهم في الحرية.
فلم تهدأ للتونسيين حركة ولم يمكنوا السلطات الاستعمارية من رقابهم ومن بلادهم، بل صبروا وصابروا وثبتوا وصمدوا، وكانوا يردون الفعل بما لديهم من وسائل، فلم تقم قوات الشر بجريمة إلا وأعقبتها اضطرابات جديدة.
وكانت الاضطرابات العامة تتوالى من غير انقطاع، إضراب طويل بعد اعتقال الزعماء يوم 18 يناير، ثم استئناف الإضراب إثر فظائع الدخلة، وإضراب عقب الاعتداء على الوزارة التونسية ومرات أخرى.
وأضربت مدينة صفاقس يوم 7 مارس عندما اعتقل البوليس عددا كبيرا من النساء والشبان والطلبة وأحالتهم إلى المحاكم الزجرية، واستمر الإضراب أياما متوالية. كما تجددت المظاهرات الشعبية من غير انقطاع، ففي حدود الساعة الواحدة والنصف من يوم 10 مارس اجتمعت جماهير غفيرة من الشبان بربض صفاقس، وساروا بالهتافات والأناشيد، واتجهوا إلى إدارة العمل للاحتجاج على تلك المحاكمة، فلاحقتهم قوات البوليس، ولكنها لم تتمكن من إلقاء القبض إلا على شاب واحد.
وفي الساعة الرابعة والدقيقة العشرين بعد الظهر إثر التصريح بالأحكام القاسية، تجمهر الشعب في سوق الزيتون، ثم ساروا في مظاهرة رهيبة بشوارع بيكفيل هاتفين بحياة الرئيس الحبيب بورقيبة منادين بالاستقلال، وصدحوا بالأناشيد، فاعترضتهم قوات البوليس وهاجمتهم هجوما عنيفا وضربتهم ضربا مبرحا وأثخنتهم جراحا، واعتقلت عددا وافرا من الشبان.
وقامت القوات الفرنسية المسلحة إثر تلك المظاهرات بتفتيش واسع النطاق في الأحياء العربية من مدينة صفاقس، وألقت القبض على 22 شخصا.
ولكن الحالة لم تهدأ، وقد انتشرت الأخبار بأن زعماء العمال الذين اعتقلوا يذوقون العذاب ألوانا بالسجن، ويعتدى عليهم يوميا بالضرب والإهانة والتنكيل، فخرج العمال في مظاهرة كبرى، والتفت حولهم الجماهير وساروا إلى مسكن عامل (مدير) صفاقس ليبلغوه احتجاجهم، فطاردتهم قوات البوليس والجند وشتتتهم.
وتظاهر طلبة الفرع الزيتوني بمدينة قابس وسلموا للعامل لائحة احتجاج على تعسف السلطات الفرنسية، ثم اتجهوا نحو المراقبة المدنية الفرنسية، فاعترضت قوات البوليس وشتتتهم وألقت القبض على خمسة منهم.
وقام أهالي بلدة مدنين في الجنوب التونسي بمظاهرة كبرى يوم 13 مارس، وسارت في نظام كامل إلى إدارة العمل (المديرية)، وسلموا إلى العامل (المدير) لائحة احتجاج شديدة، والتحقت بهم قوات الجيش والبوليس وشتتتهم بعنف واعتقلت سبعة منهم.
وانتظمت بمدينة قفصة مظاهرة شعبية قوية يوم 17 مارس، وسارت في الساعة العاشرة والنصف صباحا من الجامع الكبير إلى المراقبة المدنية، فأوقفتها القوات المسلحة في الطريق، وصادمتها بشدة وانهالت على المتظاهرين ضربا ولكما ودفعا، حتى شتتتهم وألقت القبض على جماعة منهم.
وكانت عاصمة تونس مسرحا للإضرابات والحوادث الآخذة بعضها برقاب بعض، ولم تكتف المدينة بإعلان الإضراب العام عندما بلغت فظائع الجيش الفرنسي بجهة الدخلة وغيرها من جهات القطر، بل تحرك الشعب، وانتظمت صفوفه في مظاهرات صاخبة قوية، فكانت الأيام الدامية تتوالى وتتجدد. وقد سارت الجماهير في مظاهرة كبرى يوم 4 فبراير، ولما وصلت إلى شارع مدريد التقت بالقوات الفرنسية المسلحة التي لم تمهلها، بل عاجلتها بإطلاق النيران، فسقط شهيدان يتخبطان في الدماء، وجرح عدد وافر. وفي نفس الوقت كانت مظاهرة شعبية أخرى تسير بشارع باب الخضراء متجهة نحو الحي الأوروبي، فاشتبكت مع الجيش الفرنسي واستشهد منها عدد وجرح عدد آخر.
وكان يوم 5 فبراير يوم حداد على الشهداء الذين سقطوا أمس ضحية العدوان الفرنسي المسلح، فخرج الشعب في مظاهرة كبرى، وسار المتظاهرون رباعي منتظمي الصفوف إلى سراي المملكة بالقصبة، وقابل وفد منهم الوزير الأول، واحتج على أعمال القوات الفرنسية.
وكانت المظاهرة التي قامت بها النسوة التونسيات يوم 15 فبراير من أروع مظاهر الوطنية، وفي الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر أحاط المتظاهرون - ومعظمهم من النسوة - بالإقامة العامة، وقد خرج كل فريق منهم من الشوارع المحيطة بها: شارع فرنسا، وشارع الجزائر، وشارع هولاندا، وكانت المتظاهرات يقمن بحركاتهن بسرعة خاطفة، وعند وصولهن كان المفوض بالإقامة العامة نازلا من سيارته ليدخل إلى عمارة الإقامة، وفي تلك اللحظة بالذات رمت امرأة قنبلة يدوية، وفي الحين - نظرا لقرب مراكز البوليس والجيش - أتى أعوان البوليس في سيارة، فرميت عليهم قنبلة ثانية، فانفجرت السيارة وجرح عونان جروحا خطيرة، واثنان آخران جروحا خفيفة، ورميت قنبلة ثانية على الإقامة من شارع هولندا، فحطمت شبابيك مكتب رئيس الديوان العسكري للمقيم العام.
ولا تسل عن الخوف الذي استولى على جميع الفرنسيين الذين كانوا في الحي الأوروبي، فكنت تراهم بين هارب يجري وصارخ يصيح، وأوصدت السينمات أبوابها وأغلقت الدكاكين ونزل الرعب في قلوب الفرنسيين، حتى إن جماعة منهم كانوا وراء جنازة داخلين إلى الكنيسة الكبرى أمام الإقامة العامة، ففروا تاركين جنازتهم.
واستشهدت إحدى الوطنيات ، وجرحت أخرى جروحا خطيرة، وكانت لا تخفي ابتهاجها بنجاح المظاهرة. وقد استخدم الجند أسلحة سريعة الطلقات، فجرحوا عددا وافرا من التونسيين، وأكثرها جروح خفيفة.
وبقيت مدينة تونس هائجة مائجة مضطربة مدة أشهر، وإذا اعتراها سكوت فهو سكون البراكين التي تنذر بالانفجار في كل وقت؛ فقد اجتمعت جماهير غفيرة من الشعب بعد ظهر يوم السبت 18 مارس بمسجد السبحة، وتناول الكلمة كثير من الشبان شارحين أعمال القمع والاعتقالات التي تفاقم أمرها بكامل البلاد التونسية، واحتجوا على ما قام به الفرنسيون من محاولة نسف بيت صاحب الدولة محمد شنيق رئيس الحكومة التونسية، وخرجت الجموع من المسجد في مظاهرة رهيبة، وسارت إلى أن بلغت ميدان شارع الجزيرة، وهناك التقت بقوات البوليس والجيش التي عمدت إلى تشتيتها وإلقاء القبض على بعض المتظاهرين.
وتعددت يوم 19 مارس المظاهرات، وخاصة بحي الحلفاوين والشوارع المجاورة له، فخرجت مظاهرة بعد أن نظمت صفوفها من ذلك الميدان، واخترقت شارع سوقي بالخير حتى بلغت باب الخضراء، وفي مفترق الطرق هاجمتهم القوات المسلحة، وكان عدد النساء كبيرا في تلك المظاهرة.
وتحركت مظاهرة أخرى في الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر من الميدان نفسه، وجابت شارع الحلفاوين، وحين إشرافها على ميدان باب سويقة اعترضتها قوات البوليس.
وانتظمت مظاهرة ثالثة بالسوق الجديد من حي الحلفاوين، وسارت حتى بلغت شارع مدريد ثم افترقت.
وخرجت مظاهرة رابعة في الساعة الخامسة والنصف، وكانت أكثر عددا وأقوى نظاما، تسير في مقدمتها النساء والوطنيات.
وقررت الوطنيات التونسيات الاعتكاف بجامع الزيتونة ابتهالا إلى الله واحتجاجا على عمليات القمع وتقوية لروح الجهاد، وشرعن في الاجتماع بالمسجد يوم 21 فبراير حتى غص بهن على اتساعه، واكتظت رحاب الجامع الأعظم بجمع التونسيات، وبدأن في الصوم وعلى رأسهن بعض الأميرات. وحاصرت الجيوش الفرنسية الجامع، وفي اليوم الثاني من الصوم والاعتكاف قامت بعض النسوة خطيبات على المنبر معلنات عن إرادتهن في أخذ قسط وافر من الجهاد لجانب الرجال. وكان لكلام الأميرة فاطمة أعظم الوقع، وهي حفيدة الملك الشهيد محمد المنصف، وجاء بعض مشايخ الزيتونة وخاصة الشيخ المختار بن محمود الذي حرض المؤمنات على الصبر والثبات.
وقد اجتمعت الهيئة التدريسية الزيتونية صباح يوم الأحد التاسع من شهر مارس إثر الاعتداءات المتكررة على الأمة التي تناولت هيئاتها جميعا، ومن بينها شيوخ التدريس وموظفو إدارة المدارس والتلاميذ، وإنه لا يمر يوم إلا وفوج من الزيتونة يساق إلى المحتشدات أو السجون؛ حيث يلاقون الشدائد من رجال البوليس، مما لم يبق معه منزع إلى الصبر، فاجتمعت الهيئة التدريسية للاحتجاج ضد هذه الاعتداءات المقصود منها التنكيل، والفت في عضد الأمة التي آلت على نفسها أن تكافح إلى النهاية في سبيل الوصول إلى مطامعها الحيوية.
وقد رأى شعب تونس أن المقاطعة الاقتصادية من أنجع طرق الكفاح، فقررت الهيئات الوطنية منذ بداية الحوادث مقاطعة المغازات والمقاهي وقاعات السينما الفرنسية، ووزعت المنشورات تعلم الشعب بذلك وخاصة يوم 23 فبراير، ونجحت المقاطعة نجاحا كبيرا؛ إذ صار التونسيون لا يقصدون تلك المحال التي أصبح أصحابها يقاسون أشد الأزمات، وعجز الكثير منهم على خلاص مصاريفه آخر الشهر، وإذا بالمقاهي التي كانت تغص بالتونسيين قد باتت خاوية منهم، وكذلك قاعات السينما؛ فهي لا عمل حقيقي فيها إلا يوم السبت والأحد، أما بقية الأسبوع فتكاد تكون فارغة ولا تحتوي إلا على أقلية من المتفرجين لا تذكر.
وقد كان هذا السلاح الجديد قوي المفعول، فأحس أصحاب المحال بالخطر، وحاولوا جلب المشترين والزبون بكل الوسائل، وخفضوا أسعارهم تخفيضا كبيرا من غير جدوى، وامتنعت المعامل والمصانع بفرنسا من إرسال البضائع إلا إذا دفعت أثمانها سلفا، ورفضت الشركات الاحتياطية القروض ولم تعترف بضياع السلع أثناء الحوادث السياسية.
واضطرب المستعمرون الفرنسيون وارتبكت حالتهم، فباع بعضهم ضياعهم ومزارعهم وخيم على أكثرهم كابوس من الخوف على أرزاقهم ومحصول حقولهم. وكان الخوف كل الخوف من اليد العاملة التونسية، ومن أعمال التخريب والإتلاف، فكلهم يشعر أن شرارة كافية لحرق مزرعة كاملة.
ولما قوي ذلك الشعور في الجالية الفرنسية حرر البعض منهم اللوائح والمذكرات ، واحتجوا فيها على الحكومة الفرنسية، وطالبوا بحل المشكلة التونسية لترجع حياتهم إلى معتادها. وقد علق أحد التونسيين على ذلك فقال: «ولكن الحكومة الفرنسية لم تستفد من تلك النداءات؛ لأنها بلغت من الفوضى والاضمحلال درجة لا تمكنها من الشجاعة الكافية للخروج من المأزق وإيجاد حل للمشكلة، وإن ذلك يجبرنا - نحن التونسيين - على طلب حل مرض لمشكلتنا بوسائلنا الخاصة الداخلية والخارجية.»
وكان أحد الخونة قد أنزل المصائب على قسم من الوطنيين، ودل السلطات الفرنسية على عورة المكافحين، وهو سليمان بن حمودة، خليفة بلدة القطار في ضواحي مدينة قفصة، فقتل ببلدة القطار نفسها يوم 14 فبراير 1952، وهو أول خائن يعدم، فعند خروجه من مكتبه وبينما كان بصدد الركوب في سيارته، اقترب منه تونسيان وأخرج أحدهما مسدسا من تحت جبته وأطلق عليه النار فأرداه قتيلا، ولاذا بالفرار وهما يطلقان العيارات النارية؛ لكي يبتعد الناس ويختبئوا بالمقاهي، فيوسعون لهما الطريق.
ومما يدل على سمو الشعور الوطني عند الفدائيين، ما وقع بجهة قفصة يوم 12 فبراير؛ فقد خرج اثنان من الجندرمة الفرنسيين ومعهما زوجة أحدهما وطفل في سيارة «جيب» من مدينة قفصة قاصدين بلدة «أم العرايس»، وفي مضيق (السطح) كمن لهم الفدائيون وقتلوا الجندرمين، ولم يعتدوا على المرأة، بل لم يمسوا المرأة ولا الولد بأي سوء، وسمحوا لها وللولد بالعودة إلى قفصة سالمين، فضربوا مثلا عاليا في الشرف والإنسانية، بينما اعتدى الجنود الفرنسيون على الأعراض وهتكوا الحرمات ونهبوا الناس في قرى الدخلة والساحل. وقد اعترفت الصحف الفرنسية بذلك، فكتبت جريدة «الفيجارو» الفرنسية بتاريخ 14 فبراير قالت: «قتل اثنان من الجندرمة بطريق «أم العرايس» في مضيق بين الجبال وهما يستقلان سيارة خفيفة ويخفران فيها زوجة جندرمي وابنها، ولم تمس المرأة بسوء، وهما «كوني»
Cauny
من ضباط الصف، والجندرمي كودر
Cauderch ، وقد تعطلت السيارة على بعد 60 كيلومترا من قفصة، وكان على حافة الطريق التين الشائك، فأطلق مختبئون منه الرصاص فسقط الجنديان.
وقد توسعت حركة النسف في مراكز الجيش والبوليس الفرنسي، فذكر بعضها على سبيل المثال:
حوالي الساعة الثامنة والدقيقة الخامسة والأربعين من مساء يوم الاثنين 10 مارس، سمع سكان حي باب سويقة والأحياء المجاورة دويا، ثم شاهدوا سيارة الصليب الأحمر لنقل الجرحى تقف أمام مركز البوليس الثالث بتونس، فيخرج الجنود خمسة من زملائهم من المركز.
وقد وضعت كمية من المفرقعات في عداد المياه بحائط المركز، فلما انفجرت أحدثت به أضرارا جسيمة؛ فقد تهدم حائط المركز من ناحية شارع الكشباطي بأكمله، وتهدمت أيضا أجزاء كبيرة من بقية الحيطان، وأصيب سبعة من الجنود كانوا داخل المركز بجروح خطيرة قضت على حياة أحدهم أثناء نقله إلى المستشفى.
ويظهر من الحجارة المبعثرة بمركز البوليس ومن الجدران المتهدمة، أن الانفجار كان شديدا جدا، وتلك هي المرة الثالثة التي ينسف فيها ذلك المركز. ولما تبين للسلطات الفرنسية أن وسائل القمع لم تفلح، التجأ القائد العام للقوات الفرنسية إلى زيادة التضييق على التونسيين جميعا، فأعلن قراره بمنع التجول بالأحياء العربية انتقاما من الوطنيين؛ قال في بلاغه: ارتكبت في ليلة 11 مارس الحالي مؤامرة جنائية ضد مركز القسم الثالث للبوليس، تسببت في قتل جندي وجرح ستة آخرين من بينهم تونسي.»
إن هذه المؤامرة التي حدثت على إثر سلسلة طويلة من الأحداث الإرهابية، من شأنها تعكير صفو النظام والأمن العموميين؛ ولذا تقرر منع التجول ليلا بالمدينة العربية من الساعة التاسعة ليلا إلى الساعة السادسة صباحا ابتداء من مساء اليوم (11 مارس 1952) إلى أن يصدر ما يخالف ذلك.
ولكن الوطنيين لم يلتفتوا لذلك القرار ولم يعيروه أهمية وتمادوا في نسف الثكنات، فيوم الخميس 13 مارس في الساعة الثامنة إلا ربعا سمع بمدينة المنستير دوي هائل ارتجفت له جدران المدينة بأكملها، وتحطم زجاج النوافذ في دائرة متسعة جدا، وقد انفجرت كمية من المفرقعات بإحدى نوافذ مركز البوليس فنسفت أكثره، وكانت الأضرار المادية فادحة، ولم يصب أعوان البوليس؛ لأنهم كانوا في ذلك الوقت يقومون بجولة تفقدية بشوارع المدينة.
وانفجر لغم في بناية مولد الكهرباء بمدينة المنستير، فخربه مساء 16 مارس، وفي نفس المساء رميت قارورتان من البنزين المضطرم على جراج بمدينة القيروان، فاشتعلت فيه النيران.
ونسف بمدينة صفاقس معمل الكهرباء يوم 4 فبراير، وبقي الظلام مخيما على أحياء كاملة من المدينة، وبعد أشهر من ذلك والانفجارات مستمرة من غير انقطاع ، فقد رميت قذيفة في إحدى العمارات الكائنة بشارع قو في صفاقس في الساعة الثانية من زوال يوم 7 / 7 / 52 أحدث انفجارها خسائر مادية كبرى، وجرح نفر من سكان العمارة.
واهتم الوطنيون كثيرا بجميع وسائل المواصلات لما لها من قيمة رئيسية بالنسبة لجيش العدوان الفرنسي، فقاموا بقطع السكك الحديدية ونسف محطات القطار والجسور وقطع أسلاك التليفون.
فنسف جسر على مقربة من مدينة قابس يوم 7 فبراير، ويوم 13 فبراير نسف جسر سكة الحديد بطبرسق.
وفي الساعة التاسعة بعد ظهر يوم الأحد 9 مارس، ألقيت قذائف من المفرقعات على محطة الرتل بمدينة سوسة، وكانت الأضرار كبيرة.
وفي مساء 11 مارس قطعت أسلاك سكة الحديد بمحطة الرتل في بلدة ساقية الزيت بضواحي صفاقس، وفي الليلة نفسها في الساعة التاسعة انفجرت كمية كبيرة من المفرقعات عند وصول الرتل القادم من بلدة «المتلوي»، وقال الأخصائيون الفرنسويون إنها قنبلة من عيار 75. وكان الانفجار على بعد كيلومتر و400 متر من محطة صفاقس، وقد تسبب في أضرار جسيمة، وكانت الأضرار تكون أكثر لو وقع الانفجار عند مرور القطار من تلك النقطة.
وفي ليلة الأحد 9 مارس كانت أحياء من مدينة بنزرت في الشمال تضطرم نارا، وقد نشب الحريق بالمستودع البلدي للحيوانات فأحدث أضرارا مادية جسيمة.
وكان نسف محطة القطار بمدينة قابس من أشد الأعمال وأروعها، ففي الساعة الخامسة وعشر دقائق بعد ظهر يوم الأربعاء 12 مارس حدث انفجار هائل بمحطة القطار بقابس بعد وصول «أتوراي» «قطار الديزل» بربع ساعة، وقد مات من جرائه أربعة أشخاص وأصيب 11 شخصا بجروح خطيرة جدا، ومن بين المصابين رئيس المحطة الفرنسي. وقد دمرت بناية المحطة، وكانت الأضرار المادية جسيمة، وقد كانت المفرقعات التي أحدثت الانفجار وضعت في قاعة الانتظار التابعة للمحطة.
وعلقت جريدة «الصباح» التونسية على ذلك الحادث ووضحته بقولها: «الحقيقة هي أن العامل المكلف بتنظيف عربات القطار عثر على حقيبة من النوع العادي، فظن أن أحد المسافرين نسيها بالعربة، فحملها إلى رئيس المحطة وأبقاها هذا الأخير إلى جانبه، وبعد ثلاث دقائق انفجرت الحقيبة وأحدثت تلك الأضرار.
ويبدو من هذه الرواية أن صاحب الحقيبة كان بالقطار وتركها بقصد تحطيم الرتل، ولكن الأقدار شاءت أن تنقل إلى المحطة وأن تتسبب في قتل 7 أشخاص وجرح 15.»
وفي يوم 15 مارس حدث انفجار هائل في السكة الحديدية بين سوسة وبلدة فريانة قرب محطة سيدي سعد، فاقتلع قضبان السكة على مئات الأمتار.
وكان نسف الجسور لتعطيل حركات الجيش الفرنسي لا يقل أهمية عن نسف السكك الحديدية ومحطاتها، فبعد تهديم جسر «ديبيان» الذي تمر به السكة الحديد الرابطة بين تونس والجزائر، وبعد نسف جسر تبرسق وغيرهما؛ تمادى الوطنيون في تخريب الجسور، فعلى الساعة الواحدة بعد ظهر يوم الأحد 9 مارس سمع سكان منزل قابس دويا هائلا كان ناتجا عن نسف جسر كبير يسمى «قنطرة شبة» بالطريق الرابطة بين قابس وصفاقس من جهة وقابس وبلدة قبلي في الجنوب من جهة أخرى.
وقد تحطم الجانب الأجري من كامل الجسر، وتقدر الخسائر بعدة ملايين من الفرنكات، وقطعت المواصلات بين قابس وقبلي، وأصبح من المستحيل على سيارات النقل الثقيلة وخاصة السيارات العسكرية والمصفحات الوصول إلى الجنوب التونسي.
وقد ألقت السلطات الفرنسية القبض على عدد من التونسيين، فأضربت مدينة قابس وضواحيها احتجاجا على هذه الاعتقالات.
وتهدم جسر أول بالقرب من بلدة «فريفيل» مساء الخميس 13 مارس، وقد وضعت مفرقعات تحته فنسف بانفجارها، وعلى مسافة من ذلك الحادث نسف جسر ثان لما انفجر ما وضع تحته من مفرقعات.
وأخذ الوطنيون يقطعون أسلاك التليفون والأعواد الحاملة لها في جميع جهات القطر، واستمر ذلك واتسع نطاقه إلى أن أصبح من المتعذر على القوات الفرنسية الاتصال بالقيادة العليا بمدينة تونس، وانقطعت السلطات الفرنسية بعضها عن بعض إلا بطريق اللاسلكي، حتى جن جنون الفرنسيين وأخذ الجنرال جارباي - القائد الأعلى للجيوش الفرنسية - يصدر الأوامر تلو الأوامر بالتشديد على التونسيين جميعا، وأخيرا قرر تحميل المدن والقرى مسئولية قطع أسلاك التليفون وفرض عليها غرامات حربية. ولما رأى أن تلك الإجراءات لم تأت بالنتيجة المطلوبة ، فرض على السكان أداء خاصا لحراسة التليفون، وعين عددا من التونسيين المدنيين في كل مكان ليقوموا بتلك الحراسة وحملهم كل مسئولية، لما عسى أن يعتريها من إتلاف. فكان جواب الوطنيين على تلك الأوامر الظالمة المجحفة، أن انتشر قطع أعواد التليفون على نطاق لم يسبق له نظير. ولنذكر بعض ما وقع من ذلك في ثلاثة أيام متوالية؛ ففي ليلة الخميس 8 مارس قطعت أعمدة التليفون بطريق «فريفيل»، وقطعت ثمانية أعمدة قرب منزل جميل. وليلة 9 مارس قطع عدد من أعواد التليفون بالقرب من مدينة قفصة، وتسعة أخرى على السكة الحديدية المؤدية إلى سوسة. وليلة 10 مارس من الشهر نفسه فكت أسلاك التليفون بلدة الكنائس ومدينة المنستير، وقطعت سبعة أعمدة تليفونية بين المنستير وقصر هلال، فتعطلت المخابرات بين البلدتين. وفي مساء 11 مارس سبعة أعمدة تليفونية بالقرب من ساقية الزيت في ضواحي صفاقس، وقطعت الأسلاك الكهربائية بطريقة «قرمدة» و8 أعمدة بالقرب من المنستير.
ولما قررت الهيئات الوطنية مقاطعة الترام تجددت الحوادث لتعطيله أصلا ولمنع الفرنسيين من ركوبه، ولنذكر بعض تلك الحوادث في أيام قليلة متتابعة؛ فقد قذفت عربة «تروللي باس» تابعة لخط مونفلوري بالحجارة وبقارورة من النفط مشتعلة، وذلك في شارع قرطاج يوم السبت 8 مارس، ويوم 9 منه ألقيت قارورة بنزين مشتعلة على عربة «تروللي باس» بشارع الباب الجديد في الساعة السابعة والنصف مساء، ورميت في نفس الوقت عربة «تروللي باس» أخرى بالحجارة بشارع باب سعدون، وألقيت قارورة بنزين مشتعلة على عربة «تروللي باس» أمام المحكمة الفرنسية بشارع باب البنات، وفي الساعة الثامنة والدقيقة العشرين تهاطلت الحجارة على عربات الترام بجهة باب سويقة، فتحطم زجاجها وأصيب الضابط الفرنسي «ريبرو» وعونان من الحراس المتجول بجروح. وفي صباح يوم الاثنين 10 مارس في الساعة السادسة والنصف، ألقيت قذيفة على عربة الترام بشارع لندرة، وقذف الترام الرابط بين شارع فرنسا وضاحية فرانس فيل بقارورة ملتهبة من النفط، فانتشرت النار بعربتها والتهمتها التهاما. (21) الحالة العامة في شهر مارس
وكانت الأزمة التونسية تزداد شدة يوما بعد يوم، وتستفحل المشكلة وتستعصي على كل حل ، واتخذت قالب مسابقة بين القوات الوطنية التي تجمع في الحقيقة الشعب بأسره وبين القوات الفرنسية المعتدية، وأقام شعب تونس الدليل لفرنسا على استحالة حكم تونس بالقوة وحدها. وقد لخص الكاتب الفرنسي الحر الذي يعيش بتونس منذ عشرات السنين - الأستاذ دوران إنقليفيال - الحالة في ذلك الإبان، فقال:
سألت أحد حراس الأمن - وكان قد ابتل بالمطر حتى أثقل - عما إذا كان سيأوي إلى بيته في هذا اليوم مبكرا، فأجابني بقوله: «ومن يستطيع أن يعرف ذلك؟ ليست الرغبة في العودة إلى منزلي هي التي تنقصني، ولكن ...» ثم أضاف: «إن الصمت يطغى على كل شيء. وأشهد أن هذا هو نفس شعوري بالضبط، إننا محاطون بالصمت، بل إنه يثقلنا حتى ليكاد يزهق منا الأنفاس، وإذا قدر لنا أن نسمع شيئا فهي أصوات الانفجارات في الشمال وفي الجنوب، ثم يعود الصمت من جديد، صمت الدوائر الحكومية التي أصبح فراغها مريعا، ولعلنا نستطيع القول: إن هذا الصمت هو سبب الانفجار.
فبين فرنسا وتونس يظهر أنه يوجد نوعان من المحادثات، وإن كنا لسنا على يقين من ذلك؛ أحدهما سري يقوم به أناس سريون أيضا، وهدفه هو إيجاد الإصلاح والبحث عن اتفاق، ولكن الصمت حول هذا النوع من المحادثات ما يزال مخيما أيضا، وهذا ما يبعث القلق والدهشة في كل مكان. وفي مقابل ذلك نعرف النوع الآخر من المحادثات، النوع المعروف المشهور والذي يتحدث به كل أحد في الطريق، وهو عبارة عن طلقات من النار والقنابل والرشاشات والقنابل اليدوية والهجوم والدفاع والتراجع والانتقام، وهو التسلسل الذي لا حد له ولا نهاية.
فمن الطبيعي أن يكون الأبرياء الذين كثيرا ما يكون الدفع على حسابهم، فيوجد في هذه البلاد التونسية جنود فرنسيون لا يعرفون لم تركوا مدنهم وقراهم بفرنسا، ويوجد تونسيون وطنيون يمرون من هنا وهناك وإذا السجون ملأى بالمعتقلين.
إن هناك تسابقا طويل المدى بين حركة المقاومة الوطنية الشعبية وبين حركة القمع البوليسي، وكل حركة متعلقة بالأخرى دون أن تعرف أي منها كيف يوضع حد لحركة الفناء.
ولست هنا في معرض النقد لإجراءات الأمن المتخذة، ولكن من المفيد أن نعترف أن كل ما بذل حتى الآن في سبيل المحافظة على هذا الأمن قد كان عبثا ونفخة في واد، بل الغريب أن حركة المقاومة تتضاعف وتنتشر بقدر ما تشتد قوات الأمن وتعنف، وشيوخ الاستعمار في هذه البلاد أخذوا يتفطنون لهذه الظاهرة الجديدة، وهي أن تونس لم تعد تحكم بالقوة.
فما العمل إذن؟ هل نستمر على تقتيل بعضنا بعضا؟ وعلى العيش تحت التهديد اليومي والخطر الداهم الذي يرقبنا في كل طريق وفي كل منعرج؟
هل تبقى الثروات التونسية والسكان في هذا الخطر المحدق الذي لا تغمض له عين، إلى أن يقضى على كل وسيلة من وسائل التنقل والسفر، وعلى كل عمل في المصانع وعلى كل زرع في الحقول.»
الاعتداء على الوزارة التونسية
(1) تدبير العدوان
ظنت الحكومة الفرنسية في أول الأمر أن القضية التونسية قد دحضت، وأن هيئة الأمم المتحدة لن تشتغل بها، ولن تعيرها أهمية، ولن تسجلها في جدول أعمالها، وأن الخلاف التونسي الفرنسي سيبقى محصورا في الدائرة الفرنسية البحتة، فهلل المستعمرون وكبروا، وحبروا المقالات وأطالوا، واستعانوا برجال القانون الفرنسيين؛ ليثبتوا أن ذلك الخلاف ليس من اختصاص هيئة الأمم. ولكن سرورهم لم يطل وفرحهم لم يدم، وسرعان ما دخلت عليهم الحيرة، والاضطراب، وشكوا في انتصار باطلهم، وأوجسوا خيفة من الكتلة العربية الآسيوية عندما تكونت لاحتضان قضية تونس وتقديمها لهيئة الأمم، والدفاع عنها، وقد قررت الكتلة رفع القضية إلى مجلس الأمن، وكانت رئاسته قد أسندت لممثل الباكستان السيد البخاري لشهر أبريل 1952، فأسقط إذ ذاك في يد الحكومة الفرنسية التي لم تنظر إلى المستقبل البعيد، ولم تتلاف أغلاطها الفادحة، فأصبحت بين أمرين كلاهما يجر وراءه العار والخيبة، فإما استنكار سياستها الغاشمة وتكذيب نفسها بنفسها بمنح التونسيين حقوقهم والرجوع إلى سواء السبيل وفاء بالوعود التي قطعتها، وإما إضافة عدوان جديد إلى العدوان القديم، وزيادة في التنكيل والقمع والإجرام، والتمادي في الفتك لفرض تحويرات على الدولة التونسية تجعل لفرنسا والفرنسيين حق المساهمة في سيادتها والاشتراك في منظماتها، فرأت الحكومة من المهارة السياسية أن تضع مجلس الأمن أمام الأمر المقضي بأن تزيل الوزارة الشرعية التونسية التي رفعت قضية تونس إلى هيئة الأمم، والتي لم ترد سحبها رغم جميع الجهود الفرنسية والضغط الاستعماري المستمر، فتعوضها بوزارة أخرى سهلة الانقياد ممتثلة لأوامر فرنسا، وكانت تظن أنها ستنهي المشكل التونسي بهذا العدوان المدبر، فلا يبقى لدى مجلس الأمن ما يبرر تدخله في الخلاف التونسي الفرنسي؛ إذ تكون الوزارة التي رفعت الدعوى قد أبعدت عن الحكم.
وكانت تلك الفكرة تخامر أذهان المسئولين الفرنسيين منذ أمد بعيد، وكانوا يستعدون لعزل الوزارة الشرعية ولو باستخدام القوة، فقد كتب المقيم العام الفرنسي «لويس بيريلي» رسالة سرية إلى وزارة الخارجية الفرنسية بتاريخ 28 / 7 / 1951.
1
يعرض عليها إعداد التدابير اللازمة للعدوان على الوزارة التونسية وعلى جلالة الملك نفسه إذا اقتضى الأمر ذلك، قال: ... لكن إن رفضت الحكومة التونسية البرنامج المعروض عليها - وذلك ما اعتبره محتملا - فلا يمكن إبقاؤها في الحكم بعد ذلك، ويجب إذ ذاك أن يلتمس منها تقديم استقالتها.
ومن المتوقع أن السيد شنيق سيرفض التخلي عن الحكم، وإذ ذاك نرجع إلى سمو الباي ليعزله، ويمكن أن نؤمل من الأمير الخضوع إن كان الطلب حازما وباسم معاليكم؛ إذ نؤمل أنه رغم تواطئه الذي يزداد متانة وعمقا يوما بعد يوم مع «الدستور»، سيكون أحكم من أن يتصادم مع الحكومة الفرنسية وجها لوجه.
وإن كانت الأخرى ولم يكن لصاحب السمو سيدي الأمين باشا باي من الشجاعة ما يكفي ليتخلص من تأثير حاشيته، فينبغي أن ننبهه بإخلاص بأنه لا يمكن للدولة الحامية أن تحتمل رفضا يمس مبدأ رسالتها نفسه، ويكون حينئذ مركز الباي الشخصي في الميزان.
وقد كانت العلاقات بين تونس وفرنسا تزداد توترا يوما بعد يوم، حتى انقطع كل اتصال مباشر بين الحكومة التونسية والمقيم العام الجديد.
وأصبحت المخابرات بين جلالة ملك تونس والحكومة الفرنسية رأسا، فأرسلت إلى جلالة الملك مذكرة بتاريخ 26 / 1 / 1952 تعلمه فيها بأن فرنسا ستتمادى في سياسة القمع والاضطهاد بدعوى المحافظة على الأمن، قالت:
إن الحكومة الفرنسية تتحمل بمقتضى المعاهدات المعقودة مع تونس المسئولية الكاملة على المحافظة على الأمن العام في هذه البلاد ... وستقوم حكومة الجمهورية الفرنسية فيما يتعلق بها ولصيانة المصالح المشتركة لجميع سكان تونس بواجبها دون تهاون ولا إهمال.
ثم تحدثت عن إمكان بعض الإصلاحات، ووصلت أخيرا إلى بيت القصيد، فأوضحت الغرض الأصلي من تلك الرسالة، وهو الضغط على جلالة ملك تونس لكي يسحب الشكوى المرفوعة إلى هيئة الأمم، فقالت:
ومن الواضح أن مثل هذه المباحثات لا يمكن إجراؤها ما لم تسحب تونس الشكوى التي قدمت إلى الأمم المتحدة ضد فرنسا، وذلك بالرغم من أنه ليس ثمة ما يبرر تقديمها، وإن الحكومة الفرنسية ترى أن من واجبها في هذه الحالة أن تذكر جلالة الباي بما سبق أن تقدم به في هذا الشأن المقيم العام.
وختمت الحكومة الفرنسية مذكرتها بالتهديد والوعيد قائلة:
ورغبة في العمل فورا على إزالة العقبات التي تحول دون استئناف المحادثات التي توقفت، بالرغم من إرادة فرنسا أنه لزاما عليها أن تطلب في إلحاح الرد على هذه المذكرة في أقرب وقت، وأن الحكومة الفرنسية ستجد نفسها مضطرة - إذا لم تتلق الرد سريعا - إلى إطلاع الرأي العام على أنها ليست مسئولة عما يترتب على عدم استئناف المحادثات من نتائج خطيرة.
وكان جواب جلالة ملك تونس إلى الحكومة الفرنسية بتاريخ 5 فبراير 1952 يحملها فيه مسئولية الحوادث الجارية، قال: «وقد سجل جلالته الرغبة التي أعرب عنها رئيس الحكومة الفرنسية لإزالة سوء التفاهم الذي نجم عن المذكرة الفرنسية المؤرخة في 15 ديسمبر من العام الماضي، والتي أدت إلى قطع المفاوضات بين تونس وفرنسا.» ثم عبر عن استيائه واحتجاجه على ما تقوم به القوات الفرنسية المسلحة من عدوان على شعب تونس وعلى السيادة التونسية، قال: «ولقد تأثر جلالة الباي تأثرا عميقا لأعمال القمع الصارمة التي تجري الآن، والتي ألحقت أضرارا خطيرة بسلامة أفراد الشعب وممتلكاتهم كما أدت إلى المساس بسيادة الدولة.
وإن جلالة الباي الذي يهتم قدر اهتمام الحكومة الفرنسية بالمحافظة على الأمن والنظام، لا يسعه إلا أن يسجل أن الحالة لا تتطلب الإسراف في استخدام هذه القوات الكبيرة.» وأخيرا اشترط لاستئناف المفاوضات مع فرنسا وقف عدوانها وتعهدها بتحقيق الحكم الذاتي السليم. «ويخلص مما تقدم أنه لكي تستأنف المفاوضات في حرية وعلى وجه مثمر كما يرجو جلالة الباي والحكومة التونسية، على الحكومة الفرنسية أن تحدد موقفها بوضوح إزاء المبادئ التي يجب أن تتخذ قاعدة لتنظيم الإدارة التنفيذية والهيئة التشريعية في تونس، على صورة تحقق الحكم الذاتي السليم وتهيئ جوا مشبعا بالثقة التي لا يمكن توفيرها إلا بإنهاء حالة الطوارئ والنظام الشاذ الذي فرض على تونس منذ بضعة أسابيع.»
فأسرعت السلطات الفرنسية إلى حبك مؤامرتها ضد حكومة تونس الشرعية، وتوالت اجتماعات المقيم مع عدد وافر من الموظفين العالين الفرنسيين، وأخيرا تلقى من حكومته التعليمات اللازمة يوم 22 مارس 1952، فأسرع إلى عقد اجتماع جديد شارك فيه الكاتب العام للحكومة التونسية، بونص، والجنرال جارباي.
ولما أتم المقيم إعداد الرواية، شرع في تمثيلها حالا فأضاف مأساة جديدة إلى المآسي التي تعددت منذ حل بالتراب التونسي، فافتضحت حقيقة ذلك الرجل وظهرت خلالها فظاعة السياسية الفرنسية، وجرائمها المدبرة. لقد قام بدوره أحسن قيام كأكبر الممثلين؛ إذ أبرز طبيعته الخفية، فاشمأز التونسيون مما شهدوا، وبقيت صورة دي هوتكلوك في أذهان التونسيين تمثل الاستعمار الفرنسي تمثيلا كاملا.
واستقبل المقيم العام يوم 24 مارس سمو الأمير الشاذلي باي نجل الملك الأكبر ورئيس ديوانه، وأعلمه برغبته في أن يستقبله جلالة الملك رأسا ومن غير حضور الوزراء التونسيين، وبعث في اليوم نفسه برسالة إلى دولة رئيس الحكومة السيد محمد شنيق الذي كان ابنه في حالة مرض شديد، يهدده فيها تهديدا صريحا، ويتوعده بأن ما سيلحقه من ضرر من جراء تصلبه في موقفه ربما يقضي على حياة ابنه المريض، فتجلت هكذا نفسية دي هوتكلوك الذي أصبح يتلاعب بأقدس العواطف البشرية وأشرفها وأعمقها، وهي عاطفة الأبوة بعد أن أزهق الأرواح ودمر وعذب. ولكن دولة محمد شنيق كان أصلب في الحق والواجب مما ظن دي هوتكلوك، فأجابه بالرفض وتمسك بالبقاء في الوزارة معتمدا على ثقة الملك وثقة الشعب، منكرا على فرنسا أن يكون لها الحق في تعيين الوزارة التونسية أو في إقالتها. فلم يستح المقيم من كتابة الكلمات الآتية في رسالته تلك: «ولا أخفي عنكم أنني أتأثر عميق التأثر عندما تسنح لي الفكرة بأنه لو لم تحل المشكلة الفرنسية التونسية في الأيام القريبة بالمراضاة، لثارت عاصفة شديدة من أجلك وحذوك وحولك، وربما تتعكر حالة ابنكم من جرائها.»
وأراد جلالة الملك أن يعرب للمقيم العام عن أن وزارته ما زالت تتمتع بثقته التامة، وعن تمسكه ببقائها في الحكم، فلم يجب طلبه في استقباله منفردا، بل أحضر وزارته حوله، فلما دخل عليه دي هوتكلوك يوم 24 مارس في الساعة الحادية عشرة والنصف وجده محفوفا بصاحب الدولة السيد محمد شنيق، وأصحاب المعالي السادة: محمود الماطري، ومحمد بن سالم، ومحمد سعد الله، ومحمد الصالح مزالي. فأعلم المقيم جلالة الملك بأنه اتصل من الحكومة الفرنسية ببرنامج إصلاحات، ولكنه لم يعد في الإمكان التفاوض بشأنه مع الوزارة الحالية؛ ولذا يطالب بإقالتها.
فأجاب الملك: بلغ باريس رغبتنا في عدم الاستجابة لذلك الطلب.
فتحدى إذ ذاك دي هوتكلوك الملك، وخاطبه بألفاظ بذيئة لا تليق بالمقام، ثم ختم كلامه بقوله: «إن الحكومة الفرنسية قد فوضت لي الأمر، وكلفتني بحل المشكلة بالطرق التي أراها صالحة. وإني أنتظر الجواب في حدود الساعة الثالثة بعد الظهر. ثم غادر القصر الملكي بتهوره المعهود.»
ولم يقبل منه الملك ذلك الصلف، وأرسل حالا برقية إلى رئيس الجمهورية الفرنسية قال فيها: «إن لهجة التهديد التي استعملها السفير «م. دي هوتكلوك» أثناء استقبالي له اليوم تخالف تماما تقاليد فرنسا، ويجعلنا نشك في أن سلوكه هذا هو سلوك فرنسا نفسها.»
ثم أوعز المقيم للصحافة الاستعمارية بألا تكتفي بتهديد الوزارة التونسية، بل بأن تهدد الملك نفسه، فكتبت جريدة «لابريس» في يوم 25 مارس تعليقا على ذلك الحادث جاء فيه: «في وسعنا أن نخبر بأن المقيم سوف لا يترك هذا الجواب (أي جواب جلالة الملك) بدون رد فعل سريع؛ إذ تسمح الإرشادات التي استقيناها من مصدر وثيق بأن نجزم أن «م. دي هوتكلوك» قد أكد بدوره بأنه شاعر الشعور التام بمسئوليته.
وبدون أن نسعى في التعليق على هذا الموقف الراسخ، فإنه من السهل أن نستنتج منه بأنه في الوقت الذي نضع فيه جريدتنا تحت الطبع تدور محادثات هامة بالسفارة العامة، وبدون شك بالقصر الملكي أيضا.
وإنه من الممكن أن يقع اتخاذ قرارات خطيرة جدا عندما يحين منتصف الليل.»
ودارت عجلة الحوادث بسرعة عجيبة، فانقطعت ليلة 25 مارس المخابرات الهاتفية بين تونس وباريس وبين العاصمة وبقية القطر، ولم يسمح حتى للصحافة بأن تتصل بمراسليها خارج تونس، وانتشرت القوات العسكرية انتشارا كبيرا في عدد هائل في القطر كله، واحتلت المراكز الاستراتيجية من الطرقات والأماكن العامة، وحاصرت مدينة تونس من جميع الجهات وقطعتها عن العالم، وتكاثرت الدبابات والمصفحات بأنواعها في الشوارع الرئيسية، وازدحمت الجنود في الميادين وحول الإدارات العامة والوزارات. وفي تلك الليلة نفسها في حدود الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، هاجمت القوات الفرنسية بيوت الوزراء التونسيين، فأخرجت دولة السيد محمد شنيق من فراشه، ودخلت إلى غرفة نومه، وأزعجت عائلته وابنه المريض، وفتشت منزله، ثم ألقت عليه القبض وحملته معها. وفي الوقت نفسه وقع اعتقال بقية الوزراء الموجودين بتونس السادة محمود الماطري وزير الدولة والدكتور محمد بن سالم وزير الصحة ومحمد الصالح مزالي وزير التجارة والصناعة، وأبعدوا جميعا إلى المنفى في جهة قبلي بأقصى الجنوب التونسي، ووضعت الأختام بالشمع الأحمر على جميع مكاتب أصحاب الدولة والمعالي الوزراء ومكاتب رؤساء ومديري دواوينهم بقصد تفتيشها.
أما معالي وزير الزراعة السيد محمد سعد الله، فكان ملازما للفراش، وقد اشتد به المرض حتى أصبحت كل نقلة تجعل حياته في خطر، فلما هاجمت القوات الفرنسية بيته اكتفت بإبلاغه قرار المقيم العام بأن يلازم بيته؛ لأنه معتقل فيه، وأن يكف عن كل نشاط سياسي أو إداري.
وفي اليوم نفسه (25 مارس) حملت السلطات الفرنسية رئيس الحزب الحر الدستوري الأستاذ الحبيب بورقيبة والزعيمين: المنجي سليم والهادي شاكر من منفاهم ببلدة طبرقة، ونقلتهم إلى رمادة في الصحراء بأقصى الجنوب، لتنكل بهم وتحط من معنوياتهم.
وألقى المقيم العام خطابا مسهبا في الإذاعة يعترف فيه بعدوانه على الوزارة التونسية الشرعية من غير حياء، ويتبجح باستخدام القوة الغاشمة ويهدد الشعب، قال:
ولكن يتعين ضروريا في سبيل تنفيذ تلك الإصلاحات تنفيذا مخلصا شاملا، أن يتبدد جو النوايا السيئة والتقاعس، الذي أبت الوزارة التونسية الحالية إلا أن تجعله مخيما باستمرار، ولذلك قررت أن أجعل من المستحيل على تلك الوزارة مواصلة نشاطها السياسي الوبيل؛ بأن أبعد مؤقتا من عاصمة تونس بعض أعضائها، والتمست من جلالة الملك المعظم أن يتفضل بتعيين وزير أكبر آخر يتمتع بثقته الكاملة، ويستطيع أن يعيد ربط علاقات التعاون المخلص مع السفارة العامة باعتبار تلك العلاقات ضرورية على السواء لإدارة البلاد إدارة سليمة، ولازدهار المؤسسات الجديدة التي قررت حكومة الجمهورية منحها للقطر التونسي.
ظن دي هوتكلوك لقصر نظره أنه تخلص من الوزارة التونسية، وأرسل تعليماته إلى باريس لإلقاء القبض على صاحبي المعالي: السيد صالح بن يوسف وزير العدل، والسيد محمد بدرة وزير الشئون الاجتماعية، اللذان رفعا قضية تونس إلى الأمم المتحدة. وقد كانت الحراسة شديدة عليها من طرف البوليس الفرنسي، فلا يخرجان إلا في صحبة بعض أعوان البوليس، ولكنهما توصلا في صباح 26 مارس إلى معرفة أخبار تونس رغم قطع جميع المخابرات التليفونية والبرقية بين تونس وباريس، وعلما بإلقاء القبض على زملائهم، فأعدا سفرهما خفية وغادرا فندق «الجران أوتيل» الذي يمتاز بموقعه في قلب العاصمة الفرنسية في الصباح حوالي الساعة الثامنة والربع، وأبقيا جميع حقائبهما وملابسهما في غرف الفندق، ولم يعلم بسفرهما أحد. ولما افتقدهما البوليس الفرنسي وتفطن إلى غيابهما، قامت قيامة الحكومة الفرنسية، وشددت الحراسة على جميع حدودها والرقابة على بعض السفارات، ظنا منها أن الوزيرين قد التجئا إلى سفارة إحدى الدول العربية أو الشرقية، وإذا بها تفاجأ بوصولهما إلى مدينة بروكسل عاصمة البلجيك قبل أن تنفذ أوامرها بساعات، وانتقلا منها إلى جنيف ثم إلى القاهرة، فأشعل نجاحهما في الخلاص من براثن الاستعمار حماس الشعب التونسي. واستأنفا نشاطهما المجدي لفائدة تونس في نطاق أوسع من ذي قبل بمرات، فكان خروجهما من أشد الضربات للاستعمار وأمر الخيبات لممثله بتونس الكونت دي هوتكلوك.
وظن المقيم العام أن في مقدرته أن يقضي على كل مقاومة، ويفتك بكل من يحاول أي عمل وطني، فألقى القبض على مئات ومئات من التونسيين في جميع جهات القطر، واعتقل كل من يشتم منه رائحة الوطنية.
2
وليشل حركة النشر والصحافة ألقى القبض أيضا على مدير جريدة «الصباح»، الأستاذ الحبيب شيخ روحه ورئيس تحريرها الأستاذ الحبيب الشطي.
وأراد أن يلبس الحق بالباطل، وأن ينقص من عطف الأحرار في العالم على القضية التونسية، وأن يبرر طغيانه واعتداءاته؛ فادعى في غير خجل أن بتونس تعاونا وثيقا بين الحركة الوطنية وبين الشيوعيين - وذلك كذب صراح لم ينطل على أحد - فنقل سلطات الأمن من أيدي المدنيين إلى العسكريين، وسلمها إلى السفاك الشهير الجنرال غرباي، فقال في خطابه (27 مارس): «وفي سبيل الحيلولة دون كل محاولة جديدة للركون إلى العنف من طرف عناصر هدامة، إن هي ادعت استنكار المبادئ الشيوعية، فهي تقبل التعاون معها وتعتمد وسائلها الإرهابية؛ قررت أيضا إحالة التصرف في سلطات الأمن إلى الجنرال القائد الأعلى للجيوش، وذلك في كافة القطر.»
فزاد الجنرال غرباي الضغط شدة والاضطهاد تعسفا وعنفا، واتخذ حالا عدة إجراءات لتضييق الخناق على التونسيين جميعا، وأصدر أمرا بتوسيع منع التجول: «إن منع التجول ليلا الذي كان نافذا بالنسبة للمدينة العربية، أصبح شاملا لكافة مدينة تونس ... ويطبق هذا القرار بداية من اليوم الأربعاء 26 مارس 1952 من الساعة التاسعة مساء إلى الساعة الخامسة والنصف صباحا.»
ثم أصدر أمرا ثانيا جند فيه جميع التونسيين وكون منهم فرقا، مهمتها حراسة السكك الحديدية وأعواد التليفون والمباني العامة، وحملهم مسئولية كل حادث يقع في جهتهم. ولا يخفى ما في ذلك القرار من ظلم وإرهاق، ولكن مقاصده أشنع وأبشع؛ لما احتوت عليه من فكرة شيطانية جهنمية؛ إذ يريد أن يجعل التونسيين يتقاتلون ويتحاربون، فتشتد الخصومة بين الحراس وبين الفدائيين. ولكن فطنة الشعب التونسي ووحدة صفوفه خيبت ظنه وسفهت أحلامه، وإنا ننشر هذا القرار الذي سيبقى وصمة عار في جبين الاستعمار الفرنسي:
قرار من الجنرال القائد الأعلى للجيوش التونسية وزير الدفاع عن التراب بتاريخ 26 مارس 1952 يتعلق بأحداث «فرقة أمن»
إن الجنرال غارباي وزير الدفاع عن التراب التونسي.
بعد الاطلاع على ما خولت له من النفوذ حالة الحصار المعلنة بالأمر العلي الصادر في غرة سبتمبر 1939.
وعلى الأمر العلي المؤرخ في 9 يونيو 1940 في ردع مخالفات النصوص التي اتخذت لتنفيذ الأمر المؤرخ في غرة سبتمبر 1939.
وعلى الأمر العلي المؤرخ في 25 أكتوبر 1951 الصادر في تسمية وزير الدفاع عن التراب التونسي، قرر ما يأتي:
الفصل 1:
أن التونسيين من الذكور الذين يزيد سنهم عن الثماني عشرة سنة، يكون منهم بكل مشيخة بمقتضى هذا القرار «فرقة أمن» حفظا للسكك الحديدية والخطوط التليفونية والكهربائية والاستحكامات والبناءات العمومية في مجموع البلاد التونسية، وفي منطقة الإحكام لحالة الحصار.
الفصل 2:
كلف مجلس بإدارة «فرقة الأمن»، وهذا المجلس يترأسه الشيخ، ويتركب من عشرة أعضاء من أعيان المشيخة.
وهؤلاء الأعيان يقع تعيينهم من طرف المراقب المدني بعد استشارة العامل.
وتعويضهم عند الاقتضاء يكون بنفس الصورة المذكورة.
الفصل 3:
لمجلس الإدارة حق التفاوض والتقرير تحت إرشاد ونفوذ المراقب المدني في تنظيم وسائل التوقي المراد اتخاذها للقيام بالمأمورية المومأ إليها بالفصل الأول، مع مراعاة الأحكام الخاصة المتعلقة بحالة الحصار.
وهو ينظر على الأخص في خدمة الحراسة التي يجب القيام بها في هذا الصدد، وكذلك في توزيع السخرات بالمال أو العمل على أفراد «فرقة الأمن»، وتكون مفاوضاته وتقاريره نافذة بإذن المراقب المدني.
الفصل 4:
يعفى من المشاركة في العمل: السواقط، والشيوخ الذين يزيد عمرهم على الستين عاما، والموظفون، وأعوان السلطة، وأهل الشعائر الدينية، والأعوان المستخدمون بصفة قارة بالمصالح العسكرية أو لفائدتها مباشرة.
الفصل 5: «فرقة الأمن» مسئولة عن الأضرار والخسائر الواقعة بالتراب الذي تحت حراستها، وذلك لا يعارض بالمرة المسئوليات التي تنال شخصيا كل فرد من أفرادها بعنوان المخالفة.
ويمكن أن تحتمل مسئولية الأضرار والخسائر عواقب مالية في صورة الإخلال المشاهد في تنفيذ المأمورية المسندة لهذه الجموع، ويكون أعضاء مجلس الإدارة متضامنين مع بعضهم بعضا فيما عسى أن يترتب من غرم الأضرار والخسائر.
الفصل 6:
تصدر تعليمات خاصة في استخلاص مبلغ الأضرار والخسائر.
الفصل 7:
تتسلط على مخالفة تراتيب هذا القرار أحكام الأمر العلي المؤرخ في 9 يونيو 1940 الصادر في ردع مخالفات النصوص الصادرة، عملا بالأمر العلي المؤرخ في غرة سبتمبر 1939 المتعلق بحالة الحصار.
الفصل 8:
المراقبون المدنيون مكلفون بإجراء العمل بما تضمنه هذا القرار.
تونس 26 مارس 1952
الإمضاء: غارباي (2) رد الفعل التونسي
كان رد الفعل التونسي سريعا شديدا واسعا متنوعا على ذلك العدوان الفرنسي الجديد وتلك الإجراءات التعسفية الجائرة؛ فقد قررت المنظمات القومية إضرابا عاما غير محدود في القطر كله، وتوقفت المواصلات، وانقطع العمل في المناجم والمعامل والمواني، وتعطلت الأسواق كلها، وأغلقت الدكاكين أبوابها، وانقطع التعليم في جميع المدارس، وكتب شاهد عيان عن عاصمة تونس يوم 26 مارس قال: «أضربت مدينة تونس وتعطلت فيها جميع الحركات التجارية والمواصلات، فأوصدت المقاهي والدكاكين أبوابها، وخيم جو من الجلال الحزين، وكانت تبدو على الوجوه سحابة من الأسى والقلق، وكانت الدوريات العسكرية منذ الصباح تتجول بأحياء العاصمة وشوارعها، وتجري تفتيشات على راكبي عربات الترام والسيارات والمارة، وكان الإضراب شاملا وإجماعيا عاما.»
وكانت القوات الفرنسية تهاجم التونسيين في كل مكان، وتطاردهم في كل شارع، وتهين وتشتم وتتحدى وتعذب وتنكل. واتسع نطاق تهديدهم واعتداءاتهم، فكانوا يخرجون أصحاب محلات التجارة من بيوتهم ليرغموهم على فتح دكاكينهم، ولما رأوا فشلهم الذريع أخذوا يحطمون أبواب المتاجر ويعيثون فيها فسادا.
وأخذوا يلقون القبض على التونسيين بالجملة في القطر كله.
3
فزاد ذلك العمل الطين بلة، وخرج الشعب إلى الشوارع في مظاهرات قوية عديدة، وانتظمت الجماهير في الميادين العامة في كل مدينة وقرية: «قابس وصفاقس وقفصة وتوزر والقيروان وسوسة وقصر هلال والمهدية ونابل والحمامات وباجة وماطر والكاف وبنزرت وتونس.» وقد ضمت تلك المظاهرات الرهيبة الشبان والكهول والنساء والأطفال، وكانت تجتمع بسرعة وعلى حين غفلة من القوات الفرنسية التي ملأت المدن كلها، فتهاجمها تلك القوات قصد تشتيتها، فتعددت الاشتباكات بين قوات الأمن من البوليس والجيش وبين المتظاهرين، وجرح عدد وافر من الجانبين. (3) قرار الشعب التونسي
اجتمع بعد زوال يوم الأربعاء 26 مارس بمقر الغرفة التجارية تحت رئاسة الرئيس السيد الطاهر بن عمار، ممثلو الهيئات السياسية والنيابية والاقتصادية والثقافية، الغرفة الفلاحية التونسية للشمال، وهيئة المستشارين البلديين التونسيين، والحزب الدستوري الجديد، واللجنة التنفيذية للدستور القديم، والجمعية الخلدونية والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، والاتحاد العام للفلاحة، والغرفة التجارية التونسية، وهيئة الأطباء التونسيين، وهيئة الصيادلة، ونقابة المدرسين بالجامعة الزيتونية، وهيئة المحامين التونسيين، وجمعية الشبان المسلمين وغيرها. وقرروا عدم الاعتراف بالوضع الجديد، والعمل في جميع الميادين بجميع الوسائل لإرجاع الوزارة الشرعية.
وأثارت أعمال «دي هوتكلوك» القسم الحر من الرأي العام الفرنسي الذي رأى فيها المعول الأكبر للقضاء على مستقبل فرنسا بشمال أفريقيا. وأخذ الصحفيون الفرنسيون في تحليل السياسة الفرنسية بتونس، يفضحون عيوبها، ويوجهون أشد الانتقادات إلى الحكومة الفرنسية على عجزها وتسويفها وجمودها المجرم. ولنقتطف بعضها كمثال للباقي:
قال دوران إنقليفيال في مقال افتتاحي نشره بجريدة «البتي متان»: «لقد لاقى الشعب التونسي أتعابا وآلاما، حتى توصل إلى إلفات الرأي العام والحكومة في فرنسا إلى قضيته.
ولقد نضجت المطالب التونسية نضجا واضحا منذ زمن طويل ... والمطالب عندما تكون مشروعة يجب أن تطالب بالترضية بدون أي شروط أو تأجيلات.
ولكن ما معنى كلمة المشروعية هذه؟ إنني أخشى هنا ألا تكون نظرة مسيو بيني
4
قوية واضحة بالقدر الذي عليه تصريحاته مثلا.
نعم إن مؤرخي الجمهورية الرابعة سوف لا يلاقون أي صعوبة أو مشقة في وجود الأكاذيب اللازمة لمغالطة الشعوب في المستقبل، وتبرير هذه الأكاذيب بما يتطلبه لها التاريخ، ولكن اليوم وفي الوقت الحاضر توجد مواقف مدققة تفرض نفسها على فرنسا ولا تستطيع أن تتملص منها، بل واجبها أن تقدم إلى الأجيال الحاضرة برهانا عن طيب نيتها وعن إخلاصها.
أريد أن أقول إنه لا يكفي الحديث وحده عن مطالب مشروعة، بل يجب أن نبرهن على أننا نعترف بمشروعيتها.
وإذا كانت الحكومة الفرنسية ومجالسها الوزارية الموسعة أو المضيقة لم تستطع أن تقدم إقداما صريحا في هذا الشأن فمن ذا الذي يا ترى سيفعل ذلك في مكانها؟
ثم ما هي المسألة كلها منذ ستة أشهر؟ إنها منحصرة في أن تعترف الحكومة الفرنسية لتونس بحقها في الاستقلال الداخلي.
وهذا المطلب المشروع يتتبع عدة مطالب أخرى مشروعة أيضا، كالاعتراف بالسيادة الملكية وللشعب التونسي بحقه في حكم نفسه بنفسه باتفاق مع جلالة الباي.»
وقد حملت جريدة «كومبا» الباريسية مسئولية الحوادث الحكومة الفرنسية، فقالت: «إن وزارة شنيق كانت قد قدمت هذه المطالب عندما أجرت المفاوضات الفاشلة بباريس طيلة ثلاثة أشهر، ولما تم فشلها نشأت الاضطرابات في المملكة التونسية، وظلت تتفاقم يوما فيوما، وقد وقفت المذكرات، ولا أمل في أن تسفر الشروط التي فرضتها الحكومة الفرنسية لاستئناف المفاوضات عن رجوع الهدوء إلى نصابه. ويبدو أن الحكومة الفرنسية لم تؤمن بصورة قطعية ودون تلعثم أن معاهدتي الحماية لسنة 1881 في تونس و1912 في مراكش أصبحتا معاهدتين باليتين؛ فقد أحدث الزمن تغييرات جوهرية عميقة في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالقطرين، وقد تمت هذه التغييرات ولا شك بفضل المجهود الجبار الذي بذلته فرنسا.
فهل تنوي الحكومة الفرنسية أن تستخلص من ذلك في المستقبل الفوائد المادية والأدبية، أم هل ستقضي على هذا العمل بما تتمسك به من نظرية خاطئة للجاه والنفوذ والناموس، وبما لا تزال آخذة به من جهل بالظروف الجديدة التي كونتها، وتقتضي السياسة الفرنسية الرشيدة التي تريد المحافظة على الأمور الجوهرية بإقبالها على ما لا مناص منه، أن تدخل في اتصالات مع العناصر الممثلة للتونسيين والمغاربة، وتشرع معهم في محادثات مخلصة نزيهة. ... إن الجمود هو القانون الوحيد الذي تسير عليه الحكومات الفرنسية منذ سبع سنوات، سواء في الداخل أو في الخارج، وقد كبدتنا هذه السياسة أثمانا أفدح من أن يمكن نسيانها.»
وكان النائب بالبرلمان الفرنسي «جاك فونلبت إسبرابير» حاضرا بتونس أثناء اعتقال الوزراء التونسيين وأعمال القمع الوحشية، فثارت ثائرته على المقيم العام وفضح فظائعه في أول جلسة للبرلمان الفرنسي (أول أبريل 52) قال: «لقد عشت أخيرا هناك (في تونس) بعض الأيام المؤلمة، وأريد أن أقول من غير أن أرفع صوتي وأقوي لهجتي أن تلك الأيام كانت أيام مهانة وخزي بالنسبة لي.
ولكن أريد أن ألاحظ أني عشت تلك الأيام وشاهدت - يوم الثلاثاء - تونس توضع من جديد تحت حالة الحصار ومنع التجول من التاسعة مساء إلى الخامسة والنصف صباحا، والرقابة وقطع المخابرات التليفونية، وكنت حاضرا عند اعتقال الوزراء.
وعبثا حاولت أن أجد مبررا لذلك بين القوانين، وقد شخت في البحث القانوني.
وإن الصحافة نفسها التي تصدر تحت نظام الرقابة قد نشرت (27 / 3 / 1952) احتجاج السيد شنيق الذي يدل على معاملته معاملة لا تليق؛ أعني لا تليق بنا نحن.
وإني أقول: إن الذين قاموا بإخراج الوزراء من بيوتهم عندما ارتكبوا فعلتهم، لم يكن سلوكهم لائقا بماضينا ولا بسمعتنا وبشرفنا.» (4) ولادة وزارة البكوش
بقيت المملكة التونسية من غير وزارة بعد أن ألقت السلطات الفرنسية القبض على أعضاء وزارة السيد محمد شنيق، وانقطعت العلاقات تقريبا بين تونس وفرنسا؛ إذ رفض جلالة الملك أن يستقبل المقيم العام رغم إلحاحه المرة تلو المرة، فاحتار «دي هوتكلوك» واضطربت أمور البلاد أكثر من كل وقت مضى، ولم يأت العدوان بالنتيجة المأمولة، فلجأت الإقامة العامة إلى أخس الوسائل وأرذل الطرق تستخدمها لإخضاع القصر لإرادة الاستعمار الفرنسي، فأكثروا الرسل إلى القصر من أصدقاء فرنسيين وتونسيين؛ ليبثوا فيه الأخبار الزائفة بقصد إنزال الخوف والرعب في القلوب، وجاء أحدهم (وهو دي ماتيبي، العضو البارز في حزب كولونا عدو التونسيين جميعا) مظهرا الإزعاج والارتباك، وقابل حالا أنجال جلالة الملك وبناته، وقال لهم: إن الحكومة الفرنسية قررت خلع الملك وتعويضه بغيره، وستأخذه على حين غفلة هو وعائلته، «ولن تمهلكم حتى تجمعوا ما تحتاجون إليه في حقائبكم، فأسرعوا في جمعها من الآن»، وتيقن أهل الملك أن الأمر قد تم، فرتبوا أمورهم وجمع كل واحد منهم ما أمكن من ثياب في حقائبه، وبقوا ينتظرون الأمر المحتوم والقدر المنكود، وساد السكون والهدوء في القصر كله، وبقوا على تلك الحالة أياما بلياليها والإقامة العامة ترسل مخبريها في كل ساعة، تارة بالوعيد والخلع وطورا بالرضى والوعود.
واتخذ الضغط على جلالة الملك أساليب شتى كثيرة؛ لأن المقيم كان يرمي إلى كسب الوقت، فاستخدم الصحافة الاستعمارية التي كانت تسير حسب إشارته، وكتبت جريدة «لابريس» بتاريخ 27 مارس مقالا يقطر سما حول موقف جلالة الباي، ختمته بالعبارات الآتية: «الآن وقد زالت الوزارة، هل يتحرر الأمير في أعماله، وهل يرضى بعزل وزرائه وتعويضهم بآخرين، ولو باحتراز ولو يلجأ إلى الاحتجاج رسميا على الإجراءات التي اتخذت أمس، كما فعل سلطان مراكش؟ أم هل سيتمسك بموقفه حتى النهاية ويبقى سجين السلوك الذي اتبعه إلى الآن ولو أداه ذلك إلى الخلع؟»
ووصل إلى تونس مبعوثان خاصان من رئيس الجمهورية الفرنسية يوم الجمعة 28 مارس (فورجو الأمين الأول لرئيس الجمهورية - وزميله كوسيوسكو رئيس ديوانه)، وقد جاءا في الطائرة التي أقلتهما من باريس إلى تونس بالأمير سليمان باي ابن ولي العهد عز الدين باي؛ ليزيدا التهديد بالخلع وضوحا، ونشرت الصحف الاستعمارية - ومنها «لابريس» و«الدبيش تونسيان» - صورة ذلك الأمير.
وأتى المبعوثان برسالة خاصة من رئيس الجمهورية، وهي أعظم برهان على أن «دي هوتكلوك» السفاك ليس هو المسئول الوحيد على البطش والمجازر، بل الحكومة الفرنسية كلها بما فيها رئيس الجمهورية، هي المسئولة الحقيقية على العدوان - وقد سلماها لجلالة الملك في المقابلة التي تمت يوم الجمعة 28 مارس على الساعة الحادية وخمس وثلاثين دقيقة، نص الرسالة التي كانت جوابا عن برقية 25 مارس:
باريس، 27 مارس 1953
صديقي العزيز
لقد كان عجبي شديدا من لهجة وشكل الرسالة التي وجهها إلى سموكم.
ولكي أصرح أنها كانت جارحة لي، فلن أكتفي بالتذكر بعلاقاتنا الشخصية فقط، التي تكونت في وقت كان فيه المشوشون الذين يحدثون اليوم الاضطرابات في تونس يهددون عرشكم، وكنتم أنتم أنفسكم تعبرون فيه عن ثقتكم في صداقتنا. ولكن أريد أن أذكر أن لا شيء يمكن أن يقطع روابط الود التي تربط بين تونس وفرنسا حسب التقاليد، ولا يمكن بحال أن نقطع أعمال المدنية البشرية الجليلة التي قامت بها فرنسا في مملكتكم بمعية أسرتكم من غير أن نلحق أضرارا بشعبينا، تلك الأعمال التي انتفع بها في جميع الميادين أولئك الذين يقفون اليوم من غير ترو ضد المشاركة معنا.
بل في قطع ذلك المجهود خسارة للقضية نفسها التي يدعون الدفاع عنها، وأن الاضطرابات الدامية التي تدمى لها قلوبنا؛ لتدل على الفوضى التي سرعان ما تنهار فيها مملكتكم، لو أسلمت للاضطراب.
وإن فرنسا لا تنكر التطورات؛ إذ كانت هي الداعية لها، ولم تكتف حكومة الجمهورية في الأيام الأخيرة نفسها بتأكيد عزمها فقط على مجاراة ذلك التطور، بل على إعانته، فوضعت تصميم إصلاحات ربما يأسف بعضهم لجرأتها، ولكنها عند تطبيقها في مراحل سيكون نجاحها وسرعة تنفيذها مبررا كافيا لها.
ولكن لا يمكن أن يتم هذا العمل إلا إذا كان مقاما على روح الحكمة والثقة والمشاركة الدائمة، تلك الروح التي مكنت تونس من الوصول إلى الدرجة التي بلغتها من الازدهار والمدنية.
غير أنه في نفس الوقت الذي كانت فيه حكومة الجمهورية تؤكد ذلك العزم باتفاق مع مجالسنا النيابية، كان بعض من الرجال الذين وقع اختيار سموكم عليهم للمساعدة في العمل الحكومي - وسموكم المتصرف الوحيد في السيادة التونسية من غير نزاع ولا جدال - كان هؤلاء الرجال قد رفعوا شكوى فرنسا أمام منظمة الأمم المتحدة التي كانت تعقد جلساتها في عاصمتنا، من غير أن يعلموا سموكم ولا حكومة الجمهورية، فجعل صنيعهم هذا الدال على الريبة والعداوة من المستحيل كل عمل مثمر معهم، وقد استغربت - وخاصة أنكم لم توقعوا تلك الشكوى - من أنكم لم تستنكروا حالا هؤلاء الوزراء - والوزير الأول صاحب المسئولية قبل غيره - الذين عبثوا بثقتكم؛ حيث إنهم قاموا بعملهم من غير توقيعكم ومخالفة لحقوقكم الملكية.
ومنذ ذلك اليوم والدم يجري في مملكتكم، وأظلمت الأعمال الإرهابية ضد الأشخاص والأرزاق الحاضر وأخلت بالمستقبل، وأن فرنسا المكلفة بالأمن والنظام تقوم بواجبها، ولكن سموكم بصفتكم صاحب المملكة التونسية تتحملون أثقل المسئوليات الأدبية في إرجاع الهدوء والوحدة.
ولقد أملت طويلا في أنكم ستسمعون صوتكم لشعبكم، وإني ما زلت أؤمل وأتجه لحكمتكم السامية لتصدروا أمركم للجميع بأن يلتزموا السكينة ويتبعوا العقل.
وحيث توجهتم إلي؛ فإني أطلب منكم أن تشكلوا باتفاق مع ممثل فرنسا حكومة وحدة وتهدئة؛ لكي يتم تكوين اللجنة الفرنسية التونسية المكلفة بإتمام الإصلاحات التي تراها حكومة الجمهورية في أقرب وقت ، فتأخذ هكذا تونس في السير - مع المحافظة على سيادتها وعلى أسرتكم وعلى مصالح فرنسا والفرنسيين المقيمين بتونس - نحو استقلالها الداخلي الذي يناط تحقيقه على حكمة القادة.
وأؤمل أن سموكم سيكون عند حسن الثقة التي ما زلت أضعها في استبصاركم السامي، وفي الصداقة التي امتازت بالوفاء والثقة كما تفضلتم بتذكيره، والتي أجدد في الختام التعبير عنها.
الإمضاء: فانسانت أوريول
وكان المقيم العام ارتكب فعلته وأعد العدة لارتكاب أخرى أشنع منها، وحصل على موافقة الحكومة الفرنسية، فكانت قوافل الدبابات والمصفحات في الصباح المبكر يوم 28 مارس تخرج من شوارع تونس متجهة نحو بلدة حمام الأنف، حيث حاصرت قصر الملك مع قوات أخرى عظيمة، وأخذت الطائرات النفاثة تملأ جو العاصمة وتحلق فوق القصر. ولما دخل المقيم لمقابلة الملك قبل الظهر بقليل، صحبة مبعوثي رئيس الجمهورية، كانت تلك الطائرات تصدع الآذان وتقترب من سطح القصر، حتى كادت تلمسه لإنزال الرعب في قلوب ساكنيه، فأجبر هكذا «دي هوتكلوك» - تحت تهديد السلاح - الملك على اتخاذ إجراءات ثلاثة؛ أولا: تسميه صلاح الدين البكوش كوزير أول وتكليفه بتشكيل الوزارة التونسية، ثانيا: تسمية المقيم العام وزيرا للخارجية، وثالثا: حل الديوان الملكي.
وقد اعترف «دي هوتكلوك» بعد دقائق، في المؤتمر الصحفي الذي عقده يومها إثر مغادرة القصر - على الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة - بتجبره وضغطه وعدوانه، قال: «لما رأيت أن لا شيء يجدي مع وزارة السيد شنيق التي لم تكتف بالتعنت، بل ازدادت عنادا يوما بعد يوم في موقف يعد بحق موقف كفاح وتحد، فكرت منذ زمن طويل، وكتبت فكرتي إلى وزارة الخارجية، أن حل المشكلة لا يكون إلا باستعمال القوة. ولكن أردت قبل ذلك أن أجرب جميع الطرق الأخرى فلم أفلح، ولم أرد أن تكون الشدة غاية، بل كنت أريد أن تكون وسيلة للسير بتونس نحو إصلاحات وعدت بها الحكومة الفرنسية، وكان من واجبي أن أبرزها لعالم الوجود بأقصى ما يمكن من التحرر.»
واعترف المقيم العام أيضا بأنه هو الذي كتب بنفسه الخطاب الذي أذاعه فيما بعد باسم جلالة الملك الرامي إلى تهدئة الخواطر، فقال: «لقد قرر الباي أن يوجه نداء للهدوء، ولقد سلمت له مشروع نص لينظر فيه حسب رأيه، وإني أؤمل كثيرا أن يكون لذلك النداء تأثير على الشعب.»
وظن «دي هوتكلوك» أنه انتصر النصر النهائي، وظهر باطنه وافتضح طبعه فأقام الحفلات والمآدب بقصر الإقامة العامة ببلدة المرسى، وأخذ ينشر في الصحف قوائم الطعام الذي قدمه لضيوفه وصنوف الجبن التي يميل إليها وأنواع الخمور التي سكر بها،
5
وكأنه انتشى بدماء الأطفال الرضع المقتولين دوسا بأقدام الجنود بجهة الدخلة، واستعذب صراخ الأيتام والأيامى بعد قتل الآباء والأزواج، وطرب لنسف المساكن والمساجد، وحرق البيوت على أهلها، وأخذته العزة بالإثم فأخذ يتذوق مع الطعام اللذيذ اللطيف ولحوم الضأن الطرية والحلوى الشهية عذاب عائلات وآلام شعب وأنات الأمهات ورعب العذارى وخوف الأولاد الصغار، فكان أصدق ممثل للاستعمار الفرنسي الذي لا تتم له لذة ولا يتطعم أكلا إلا إذا كان ملطخا بدماء الشهداء.
لقد ضل «دي هوتكلوك» وأضل حكومته وسعى في تضليل الرأي العام، مدعيا أن الأزمة التونسية انتهت، وأن المشكلة حلت - ولو بالقوة - وأن الهدوء ساد البلاد. والحقيقة أن الشعب ازداد اندفاعا في الكفاح واستماتة في الدفاع عن حقه، واستمر الإضراب من غير انقطاع في جميع أنحاء القطر، رغم استخدام القوات المسلحة لجبر التجار على فتح محالهم وإرغام العمال على العمل، ونزل الجند الفرنسي إلى الشوارع يطارد التونسيين، ويلقي القبض على المارة بالجملة. وخرج الشعب في مظاهرات متعددة متكررة مستمرة غير مبال بالسجن والموت، فقد كانت المظاهرات الصاخبة تملأ ميادين تونس وشوارعها منذ الصباح الباكر يوم 28 مارس، وكانت مظاهرة قد انتظمت أمام قصر جلالة الملك بحمام الأنف وتعالت منها الهتافات بحياة تونس حرة مستقلة، وحياة الحبيب بورقيبة، فهاجمتها قوات الجند والبوليس وألقت القبض على بعض أفرادها، وتجددت بعد الزوال المظاهرات بنفس الموضع احتجاجا على تكليف البكوش بتشكيل الوزارة، وكثر فيها النسوة اللائي أخذن يندبن ويصحن وهن لابسات الحداد.
واتسع نطاق الاضطرابات، وكثر النسف وانتشر بجميع المدن الكبرى؛ فقد نسفت في ذلك اليوم نفسه المراقبة المدنية بمدينة «سوسة» وحدث بها انفجاران عظيمان زلزلا المدينة كلها، وأحدثا أضرارا جسيمة في الجانب الشمالي من البناية، ثم التحمت القوات الوطنية مع قوات الأمن في معركة دامية على شاطئ البحر جرح فيها البطل «إبراهيم بن صميدة».
وأدلى دولة السيد محمد شنيق في منفاه ببلدة قبلي بقلب الصحاري بتصريح إلى مراسل الجريدة الأمريكية «نيويورك هيرالد تريبون» قال فيه: «إنني ما زلت الوزير الأول، ووزارتي هي وزارة تونس الشرعية.» وأضاف قائلا: «إن عزله بالقوة والعنف يخالف القانون، وفيه خرق بين لمعاهدة الحماية، فينبغي أن ترسل الأمم المتحدة لجنة للبحث عن الحوادث التي جرت بتونس، ويطلب الوزير الأول من الولايات المتحدة الأمريكية أن تتدخل بصفة فعالة.» (5) مجلس الأمن والأزمة التونسية
كان الشعب التونسي في تلك الأثناء ينتظر إثارة قضيته في مجلس الأمن عندما تنتقل رئاسته إلى الباكستان في شهر أبريل، وكان المقيم العام يحاول أن يتم تشكيل الوزارة التونسية قبل ذلك التاريخ، وأن يشرع في مفاوضات جديدة كاذبة لكي لا يبقى مبرر للهيئة الدولية في التدخل، وظن أنه نجح ولم يعلم أنه وقع، فأعلن إثر مقابلة الملك يوم 28 مارس في بلاغ رسمي أن الاتفاق قد تم مع جلالة الملك على الإصلاحات التي قدمها له، وأنه سيذيع فحواها على الرأي العام بعد أيام، وأن اللجنة المختلطة التونسية الفرنسية التي ستنظر في تلك الإصلاحات وتنتهي من أعمالها في أقرب وقت ممكن، قد تقررت.
ومن الغد ظهر «بونص» الكاتب العام للحكومة التونسية على مسرح السياسة التونسية ليلعب دوره في المهزلة الاستعمارية، وقد امتاز بعداوته وبغضه وحقده للتونسيين، كما امتاز بقصر النظر والتلاعب المكشوف واستخدام أرذل الوسائل في محاربة الحركة الوطنية، حتى قال فيه الكاتب الفرنسي «جيران»: «إن له ما له في تكوين عصابة اليد الحمراء الإجرامية وقتل الزعيم فرحات حشاد.» فصرح يوم 29 مارس أن الوزارة الجديدة ستشكل بسهولة تامة وأن التونسيين يتزاحمون على مناصبها، ولما عرض البكوش على عدد وافر من التونسيين تلك المناصب رفضوا جميعا، وبقي وحده يحاول ويفشل، وهو مطارد من الوطنيين حتى صار لا يدخل إلى قصر الملك أو إلى الإقامة العامة إلا من الأبواب الخلفية كالسارق الخائف والمجرم الجبان، فحاول إذ ذاك أن يحتمي بالحزب الحر الدستوري بإدخال الزعيم الهادي نويرة - وهو العضو الوحيد من الديوان السياسي الذي بقي خارج السجن - في تشكيلته. وتكرر العرض ثلاث مرات، وأخيرا دعا البكوش الزعيم نويرة يوم الأحد 30 مارس على الساعة الرابعة بعد الظهر، فاستطاع الزعيم نويرة أن يحمل البكوش على الاستقالة، وقد تمت المقابلة واتفق فيها على نشر البلاغ الآتي:
نظرا للصعوبات التي وجدتها في تشكيل الوزارة أرى من واجبي أن أقدم لجلالة الملك استقالتي من المنصب الذي كلفت به.
لم ينشر ذلك البلاغ - بطبيعة الحال - ولكن ألقي القبض على الهادي نويرة يوم الاثنين 31 مارس، لقد خيروه بين الوزارة والسجن فاختار السجن.
ولم تجد السلطات الفرنسية من بين التونسيين من يرضى أن يخون وطنه، فلجأت إلى اختيار بعض صنائعها الذين ملأت بهم الإدارات التونسية، وميزتهم الجهل والأمية وطاعة الفرنسيين طاعة عمياء، ولكن شيئا من ذلك لم ينفع؛ لأن الملك كان يؤخر يوما بعد يوم تنصيب الوزارة الجديدة انتظارا لقرار مجلس الأمن في قضية تونس.
وتعددت المظاهرات الشعبية ضد الوزراء الخونة وتكررت وتنوعت، فتارة تهاجم بيوتهم، وطورا تهاجمهم في مقر وزاراتهم رغم قوات البوليس الكبيرة التي كانت تحرسها من كل جهة حتى من السطوح، وأصبح المقيم العام يتخبط ولم يجد مخرجا، خاصة وأن الاتحاد العام التونسي للشغل والمنظمات القومية كلها قررت القيام بإضراب عام يوم غرة أبريل. وقد كان الإضراب تاما شاملا، وشارك فيه الموظفون رغم تهديدات السلطات الفرنسية ووعيد الجنرال غارباي، فاختار المقيم العام ذلك اليوم نفسه لنشر ما سماه بمشروع إصلاحات، فرفضها الشعب لما فيها من اعتداءات جديدة على السيادة التونسية، وهي في حقيقتها خطوة في إلحاق تونس بفرنسا بإعطاء الجالية الفرنسية حقوقا قارة في مؤسسات الدولة التونسية.
ومرت الأيام والوزارة لم تشكل؛ لأن بكوش أطاع كعادته أسياده الفرنسيين، فسعى في تشكيل الوزارة وتكوين اللجنة المختلطة في آن واحد، وجمع يوم 7 أبريل عددا وافرا من الشخصيات التونسية وعرض عليهم عضوية تلك اللجنة، فخابت آماله وآمال أسياده؛ لأن التونسيين رفضوا بالإجماع المشاركة فيها، وفضحت الإقامة العامة مناوراتها بنفسها؛ إذ صرحت الجريدة شبه الرسمية «لابريس» يوم 8 أبريل «يعتمد بكوش على اللجنة المختلطة ليقوي وزارته.» ولما رأى البكوش فشله الذريع سعى في إتمام تشكيل وزارته، ولكن لم يتم ذلك له إلا بعد بحث مجلس الأمن لمشكلة تونس 15 / 4 / 1952.
وأعاد البكوش يوم 12 أبريل ما كان قد قاله من قبل من أن دور وزارته الأصلي هو القيام بأعمال الإدارة لا غير، ومعنى ذلك زيادة وطأة الحكم الفرنسي المباشر، وازدادت الحالة تعكرا؛ لأن بونص الكاتب العام الفرنسي للحكومة التونسية، أخذ يتحكم في نشاط الوزراء التونسيين تحكما لا يطاق، فأملى عليهم نظام دواوينهم (منشور 24 أبريل المتعلق بنظام تلك الدواوين) وحرم عليهم الاتصال بالصحافة ونشر التصريحات من تلقاء أنفسهم وإصدار البلاغات (منشور 30 أبريل).
وذهبت وعود «دي هوتكلوك» بعدم معاقبة الموظفين التونسيين الذين قادوا الإضراب، وبتهدئة الخواطر أدراج الرياح، وبقي الجو قاتما والعلاقات متوترة بين تونس وفرنسا، واستمر الإضراب العام بشدته وشموله، ولم تنقص حدة المظاهرات ضد البكوش، كما استمرت السلطات العسكرية في اعتقال التونسيين بالجملة بتونس، واتخذت الرقابة على الصحف شكلا هزليا؛ إذ تمنع من نشر أخبار يسمعها التونسيون من الإذاعة، وازداد تحرج موقف المقيم العام لما أعلن البكوش استحالة تشكيل اللجنة المختلطة في تلك الآونة ووجوب تأخير اجتماعها إلى ما بعد 24 أبريل الذي وعد به «دي هوتكلوك»، فدعته الحكومة الفرنسية إلى باريس لمحاسبته.
وأراد الفرنسيون أن يسهلوا على الوزارة الخائنة مأموريتها في تكوين تلك اللجنة التي أصبحت حيوية بالنسبة لفرنسا؛ إذ تدل بوجودها على استئناف المفاوضات بين تونس وفرنسا، فخفف الجنرال غارباي من منع التجول، فجعله يبدأ من الساعة التاسعة مساء فقط، وأطلق سراح بعض المعتقلين (119) ومنح حرية السير في الطرقات العامة التي كانت محددة وممنوعة أحيانا ، ورفع مراقبة البرقيات. ولم يمنع ذلك من قيام مظاهرات قوية ضد الوزارة يوم 14 أبريل جرح أثناءها عدد من التونسيين، وكسرت عربة الوزير الخائن دنقزلي، وقررت الوزارة الفرنسية في تلك الأثناء تعيين أعضاء اللجنة الفرنسيين (23 أبريل)، ولكن الاضطرابات استمرت وشارك فيها طلبة المدارس على نطاق واسع للغاية، فأضربوا وتظاهروا وعم التشويش البلاد كلها، ووقعت محاولة اغتيال الوزير ابن رايس، فتشددت الرقابة على الصحف واعتقل عدد من الشخصيات التونسية من بينهم الصيدلاني المعروف محمد بن حمودة والمحامي الكبير الدكتور البحري قيقة.
وأراد المقيم بعد رجوعه من باريس أن يكون جوا ملائما لأغراضه، وأن يرغب التونسيين في المشاركة في لجنته المختلطة قائلا لهم: «إن بحث مشروع الإصلاحات سيكون (في وسط اللجنة) بحثا نزيها يمكن لجميع الآراء - سواء أكانت فرنسية أم تونسية - أن تظهر بحرية، فإن كان إطار الإصلاحات ومراحلها في الزمان قد حدد، فليس معنى ذلك أن اقتراحات أعضاء اللجنة لا تقبل إذا لم تمس بذلك الإطار وبتلك المراحل.»
ولكن محاولة «دي هوتكلوك» بدلا من أن تقضي على المعارضة التي وجدها البكوش قوتها وزادتها صلابة في موقفها، وإذا بالسلطات العسكرية تمنع احتفالات ومظاهرات العمال في غرة مايو، فاشتد غضب الشعب وحنقه.
وكان النداء الذي وجهه دولة محمد شنيق من منفاه في الصحراء (30 مارس 1952) إلى حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قد وجد بعض الصدى؛ إذ زار هنري بايرود سكرتير الدولة المساعد لشئون الشرق الأدنى تونس في طريقه إلى مصر، وحل بها 4 مايو، ثم قدم إلى وزارة الخارجية الأمريكية تقريرا ذكر فيه أنه يتوقع نشوب اضطرابات كثيرة في شمال أفريقيا، وأنه يود كثيرا مؤازرة الفرنسيين هناك على شرط أن يعطوه شيئا يستند إليه بأن يتقدم الفرنسيون بمشروع ثماني أو عشر سنوات لتونس ومراكش، يبينون فيه تماما للعرب كيف يكون اطراد تقدمهم نحو الاستقلال، وحينذاك يؤيدهم بايرود تأييدا كاملا، فيعزز بذلك مركز فرنسا في أوروبا حيث دأبت الولايات المتحدة الأمريكية على إنعاش القوى الفرنسية. على أن بايرود يخشى أن يحول ضعف فرنسا دون انتهاجها سياسة الكرم والمرونة التي تعوزها لصيانة مركزها في شمال أفريقيا، ويضرب مثلا عن ضعفها ما حدث للفرنسيين قبل توقيعهم الميثاق الألماني؛ إذ أثاروا ضجة كبرى حولهم حتى أصبحوا في مركز مشين، وبعد ذلك أمضوا الميثاق بدون قيد ولا شرط. وهذه الغريزة التي تدفع الفرنسيين إلى عمل الأشياء غير المحببة واتخاذ المظاهر العدائية، قد تؤدي بهم في أفريقيا كما أودت بهم في أوروبا، ويقوم بايرود بمساعيه لدى باريس وهو متمسك بفكرته بكل قواه.
وكان أعضاء الوزارة الشرعية قد نقلوا من صحرائهم إلى جزيرة جربة، وإثر زيادة بايرود إلى تونس اتخذت السلطات الفرنسية بعض الإجراءات للإفراج عن الوزراء والزعماء، وتم رجوع الوزراء المبعدين يوم 6 مايو 52، لقد قصد الكولونيل فريبوس مدير الديوان العسكري للمقيم العام في صباح الثلاثاء 6 مايو جزيرة جربة، حاملا رسالة من المقيم العام إلى أصحاب الدولة والمعالي الوزراء التونسيين المبعدين، يعلمهم فيها برفع الإجراءات المتخذة ضدهم والقاضية بإبعادهم عن تونس، مع اشتراط عدم قيامهم بأي نشاط سياسي، وألا يقطنوا بعاصمة تونس، وألا يقربوا من بلدة قرطاج - حيث القصر الملكي - في الوقت الحاضر، فامتطوا متن طائرة خاصة نقلتهم من جزيرة جربة إلى تونس، فوصلوها في الساعة السادسة مساء، وكانت في صحبتهم صاحبة السمو الملكي الأميرة زكية والهدايا التي قدمها لهم سكان جربة.
وركب القومندان باراس نائب رئيس الديوان العسكري للمقيم العام طائرة على الساعة السابعة من صباح الأربعاء 7 مايو قاصدا رمادة في الصحراء، وعند وصوله ذهب إلى الحصن الذي كان يقيم فيه الزعماء، واجتمع بالرئيس الجليل الأستاذ الحبيب بورقيبة والزعماء المنجي سليم والهادي شاكر والهادي نويرة، وأعلمهم أنه مبعوث لإعلامهم بأن الجنرال جارباي القائد الأعلى لجيوش الاحتلال بتونس قرر نقلهم من منفاهم برمادة إلى جزيرة جربة، وركب الزعماء الأربعة الطائرة فحلقت متجهة صوب جربة، ولما وصلتها لم يسمح بالنزول إلا لثلاثة منهم؛ الأساتذة: نويرة وسليم وشاكر، الذين نقلوا إلى مركز المنار البحري المعروف ببرج الجليد والواقع في جنوب الجزيرة، وأعدت لهم هناك ثلاث غرف، وحجر عليهم مبارحة قطعة الأرض المحيطة بالمنار، ولا يسمح لأحد بزيارتهم.
وأبقي الرئيس الجليل بالطائرة التي أقلته من بعد إلى مطار سيدي أحمد قرب بنزرت؛ حيث نزلت في الساعة الثانية بعد الظهر ، ثم حمل في سيارة من سيارات البحرية الفرنسية - دائما بصحبة القومندان باراس - حتى بلغا الطائرة المائية (إيلون الثاني) التي نقلتهما بطريق البحر إلى جزيرة جالطة الصغيرة التي لا يرتادها إلا الصيادون والتي تبعد أربعين ميلا عن شواطئ تونس، وهناك أنزل الرئيس الجليل، وابتدأت حياة الوحدة والانفراد.
ولكن ذلك لم ينقص من حدة التوتر ولم يقشع السحب المخيمة على الجو السياسي، ولم يتمكن المقيم العام من إرجاع السلم إلى البلاد ولا من تهدئة الخواطر، بل اشتدت المظاهرات ضد بكوش، واستمر الملك على منع الوزراء الخونة من حضور حفلة الطابع، وكان يوم 12 مايو - ذكرى فرض الحماية الفرنسية - يوما مشهودا؛ إذ أعلنت البلاد الحداد وأضربت كلها عن العمل، ولم يجد البكوش شخصيات تونسية يكون منهم لجنته المختلطة، وقررت الصحف الاحتجاب ثلاثة أيام احتجاجا على سخافة الرقابة الفرنسية، وأعاد الجنرال جارباي منع التجول.
ودفنت هكذا اللجنة المختلطة قبل أن تبرز للوجود؛ لأن المشكلة التونسية ليست تعيين بعض الأعضاء في لجنة لا قيمة لها، ولكنها مشكلة العلاقات بين تونس وفرنسا.
وقد لخصت مجلة إسبري
Esprit
حادث العدوان الفرنسي على الوزارة التونسية وشرحت أسبابه، وفضحت أعمال الحكومة الفرنسية في مقال نشرته بعددها الصادر في شهر مايو 1952 وخيرنا نقله لما فيه من حقائق. (5-1) المساجلة بين القوات في تونس
قبل أن يلتحق دي هوتكلوك بتونس تحادث طويلا في غمرة الليل مع الجنرال دي جول في كلومبي لي دو إجليز
Colombey-Les-Deux-Eglises ، وإن ذلك الخبر الذي نشرته «باري ماتش» بعددها الصادر في 5 أبريل يمكننا من إيضاح نواح عدة من الأزمة التونسية الجديدة.
فتجد هكذا سياسة القوة مصدرها حيث تولدت، خاصة وأن تجمع الشعب الفرنسي لم يقتصر على تأييد الأغلبية البرلمانية الجديدة في سياستها بتونس، بل شمل ذلك التأييد السياسة الاقتصادية والداخلية التي تسير عليها حكومة بيني؛ فأحزاب اليمن تنشر اليوم بنود النصر قائلة أنتم ترون أن في استخدام القوة النجاح ، ولكنهم تغافلوا عن أن يقولوا أيضا إن تلك القوة استعملت في 1934 و1938 و1943 و1946، ولم تفلح إلا في اشتداد معارضة التونسيين للوصاية الفرنسية، وهي وحدها التي مكنت الدستور الجديد من أن يصبح العنصر الممثل لأكثرية سكان تونس.
فقد أعيدت غلطات الماضي بواسطة أشد الألفاظ السيارة فسادا، ولم تقم أي وزن للواقع، ولا لإمكانيات التسوية التي ظهرت سنتي 50 و51. وقد قدم حزب «الحركة الجمهورية الشعبية» مساعدة فعالة - كانت حاسمة - للحلول التي كان يسعى إليها «ذلك التجمع الفرنسي» في تونس وأعوانه في فرنسا من حزب تجمع الشعب الفرنسي، وحزب تجمع اليسار الجمهوري والمستقلين.
ولعبت الحكومة دور «بونس بيلات» فنقضت يديها من المشكل، فكان جواب مجلس الوزراء المنقسم على نفسه ل «م. دي هوتكلوك» الذي كان يطلب تعليمات دقيقة مضبوطة ليحصل على إبعاد السيد شنيق أن «افعل ما تراعه لكي تبرز الإصلاحات»، فاستخدم المقيم تلك التعليمات كأنها تفويض مطلق. ورغم دهشة عدد من وزرائنا إثر العدوان على شنيق، فإنهم يتحملون مسئولية جراح قد يطول برؤها ويتعذر اندمالها، وهي تنقص من تأثير الإصلاحات المنتظرة ولو كانت جريئة، وذلك ما نشك فيه حسب ما لدينا من معلومات عنها.
وكان لوفل
Louvel
ودي شيفيني
De Chevigné (الذي تخرج في مدرسة مدغشقر) يؤيدان في مجلس الوزراء سياسة القوة والاضطهاد باسم حزب الحركة الديمقراطية الشعبية، وتكلف بيدو بالاستحواذ على كتلة النواب من ذلك الحزب، فتكلم فيهم بصوت حاد قضى على كل معارضة في مهدها، ودافع عن الجنرال جارباي معلنا تضامنه معه.
وأيد موريس شومان المعروف بتأثره السريع وانقياده السهل وجهة نظر موظفي الكي دورسي والتجمع الفرنسي، وأنقذ فونلبت إسبيرابير
Fonlupt Espéraber
وأندري دونيس
André Denis
شرف كتلتهما بتصريحات جريئة ألقياها في الجمعية الوطنية يوم أول أبريل، وقد فضح دونيس الضغط الذي تقوم به الجالية الفرنسية بتونس في مجلس الوزراء نفسه.
يجب أن نعلم أن مجرد لفظة «إصلاحات» يتلفظ بها أي مقيم إلا ويصبح محل ريبة عند الفرنسيين المقيمين بتونس، كما يجب أن نعلم أن هؤلاء الفرنسيين قد نجحوا في نقلة «م. مونص» سنة 1950؛ لأن كرسيه كان أقل ارتفاعا من كرسي جلالة الباي، وفي ذلك مس لا يحتمل بسمعة فرنسا! ويجب أن نعلم أن المقيمين الذين لا يحوزون ثقة هؤلاء الفرنسيين يصبحون عرضة للتجسس المنظم، وكثيرا ما يرسل حزب التجمع الفرنسي وفودا إلى باريس مهمتها مقاومة كل دراسة للإصلاحات، ويجب أن نعلم أن الأبواب الرسمية تفتح في وجوهها بنفس السهولة التي تفتح في وجه المقيم نفسه، وقد وجد ممثلو فرنسا مرات عديدة في قاعة انتظار الوزراء «فريق الهجوم» لفرنسيي تونس ينتظر دوره للمقابلة؛ لكي يدحضوا كل حجة ترمي إلى تطور العلاقات الفرنسية التونسية.
ويجب أن نعلم أن الذين يبثون الفكرة القائلة بأن الدستور الجديد حزب استبدادي ذو نظرية قومية إقطاعية يمثلون هم أنفسهم أشد إقطاعية وأكبرها في تونس، وهم ألد الخصوم لتطور البلاد نحو الديمقراطية؛ لأنها تحرمهم من الانفراد بالامتيازات التي يستفيدون منها ويعملون على أساسها.
وأخيرا يجب أن نعلم أنهم يستطيعون الحصول بسرعة فائقة على التقارير السرية التي يرسلها المقيمون إلى وزارة الخارجية مع الحيطة والتحفظ، ثم يطبعونها كاملة ويوزعونها ليتمكنوا من مقاومة ممثلي فرنسا في باريس نفسها. ويجب أن نلاحظ في نهاية الأمر أن الفرنسيين المقيمين بتونس هم وحدهم الذين يستمع إليهم بانتباه، وهم الذين تنتصر دوما وسائل تهديدهم.
وإذا أراد المرء زيادة في الاقتناع بأثر نشاطهم، فيكفيه أن يرجع إلى المفاوضات التي بدأت يوم 31 أكتوبر بين الحكومة الفرنسية وحكومة محمد شنيق، وقد اشتملت هذه المفاوضات على طورين.
وكانت المباحثات جارية قبل أن تصل وفود التجمع الفرنسي، وكان التفاهم يسود الطرفين، وبدا من الممكن الوصول إلى تسوية مرضية.
وادلهم الجو بعد وصول تلك الوفود، وأصبحت كل مقابلة يقوم بها السيد شنيق إلا وتوازيها مقابلة تقوم بها جماعة «كزابيانكا وكلونا»، فتهاجم الوزير الأول التونسي ولا تتحاشى عن الثلب لتفنيد أقواله، وأقنعوا كل وزير بمهارة فائقة، وكانت مذكرة 15 ديسمبر انتصارا كبيرا سجله حزب التجمع الفرنسي.
ولا نكون مبالغين مهما ازداد اهتمامنا بتلك المذكرة ومهما أكثرنا من الرجوع إليها، فقد كانت نقطة التحول السياسي إزاء تونس، وهي تحمل في تضاعيفها مسئولية الحوادث التي تبعتها والتي تنبأ بها بعض الموظفين بعيدي النظر بدون أن يلتفت إليهم ولا يسمع لهم قول.
فإن فقد التونسيون رصانتهم غضبا وبالغوا في بعض الأعمال المؤسفة ولم يسيروا بسفينتهم طبق المراد ولم يقودوها وفقا للمرغوب، فمن الواجب الاعتراف بسوء نية فرنسا وتحميلها مسئولية الإفراط في الاضطهاد.
وقد أكثر «م. بيني» ومسيو دي هونكلوك من التشدق ومن الثرثرة والكلام على وزارة شنيق رامين إياها بالتطرف، مدعين أن ليس لنهمها حد، معيدين أنها عاجزة عن إدارة البلاد. وهذا كله ثلب، فلنرجع إلى بعض الحقائق، فلا شك في أنه للمرة الأولى في تاريخ الحماية تصل تشكيلة وزارية تمثل الرأي العام إلى الحكم طبق اتفاق 17 / 8 / 1950 الذي تم بين المقيم لويس بريليه وجلالة الباي، ورضي بها الجميع بكامل الحرية ومن بينهم حزب الدستور الجديد، ولم يعد المقيم الفرنسي يفرض الوزارة كما كان يفعل من قبل، وقبلت الحكومة الجديدة إزاء ذلك ألا تخرج عن نطاق الحماية فيما ستسنه من إصلاحات وما ستدخله من تطور يرمي إلى الحكم الذاتي، وكانت الحالة واضحة والهدوء سائدا في البلاد والتفاهم مستمرا، وتم تطبيق الإصلاحات المنتظرة، ولم تبق في طور الإعداد إلا الإصلاحات المتعلقة بنظام البلديات. وقد أنجزت اللجنة المختلطة جميع النواحي الفنية، ولم تبق إلا مشكلة مبدئية تتعلق بميدان الانتخابات وتمثيل الفرنسيين في المجالس البلدية، وكادت الحكومة التونسية أن تقبل ذلك لو لم يرفض سلطان مراكش التوقيع على «ظهير» (مرسوم) مماثل، فرأى جلالة الباي ووزراؤه - للتضامن مع سلطان مراكش - أنهم لا يستطيعون قبول ذلك التمثيل بدون الحصول على ضمانات تشمل دراسة مبادئ ومجموع السلطات النيابية والتشريعية، وكانت من نتائج مشكلة الفرنسيين خطاب العرش في مايو 1951، وإعداد مفاوضات جديدة مع الحكومة الفرنسية نفسها بباريس، وكان موضوعها الحقيقي الحصول على تحديد دقيق للاستقلال الداخلي، وعلى تعريف المبادئ التي يجب أن يستند إليها تحقيق الإنجازات المقبلة، ولم يتطرق الحديث إلى آجال تلك الإنجازات إلا بصفة سطحية في مذكرة 31 أكتوبر، المتينة في تحريرها، الموزونة في لهجتها، والتي كان يمكن أن تتخذ أساسا لمفاوضات تقوم على الكياسة والمنطق، ولا يمكن بحال أن نغفل الصلة الوثيقة بين (التصريح المشترك) في 17 / 8 / 50 ومذكرة الوزارة التونسية (في 31 / 10 / 51)، وقد طلب لويس بريليه الذي سهر على تنظيم محادثات أكتوبر 1951 من وزارة شنيق أن تفض جميع المسائل الإدارية الهامة قبل القدوم إلى باريس؛ إذ ينبغي ألا تعرقل تلك المسائل الإدارية سير المفاوضات، وتتلخص تلك المسائل في توزيع الأراضي الإيطالية على قدماء المحاربين التونسيين والفرنسيين، وفي زيادة الأجور، ومنح الموظفين الفوائد التي يعطيهم إياها تطبيق قانون الوظيفة الفرنسي، وإحداث إيرادات لتسديد تلك المصاريف الجديدة، وتمت الأمور كلها وأحرزت على رضى الجميع، وخاصة مسيو روبير شومان الذي تبني طلبات لويس بريليه.
وقد رأينا من الضروري بيان تلك التفاصيل الفنية؛ لأن المشاكل كانت دقيقة فعلا، وإن ذلك الواقع المحسوس ليكذب وحده ادعاءات بيني ودي هوتكلوك. أما حججهما فلا قيمة لها؛ لأنهما استنتجاها من فترة ما بين 21 أكتوبر و4 مارس التي جعلها موقف فرنسا نفسها فترة استثنائية، ومن أراد قتل كلبه فمن السهل أن يدعي أنه مصاب بداء الكلب.
والعنصر الثاني الدال على سوء نية الحكومة الفرنسية ردها على المذكرة التونسية؛ إذ رأينا أن الوزراء التونسيين كانوا يطالبون بجواب يوضح المبادئ ويحدد الحكم الذاتي تحديدا كاملا، وكانوا يظنون أن هاتين العبارتين مسلم بهما متفق عليهما، فماذا حصلوا بعد مفاوضات دامت شهرين كاملين؟ حصلوا على جزم بات في نص مكتوب، بأن تونس مرتبطة بفرنسا ارتباطا أبديا؛ أي بمبدأ السيادة المشتركة التي عوضت هكذا الحكم الذاتي، فقد أخلفت فرنسا وعدها هذه المرة أيضا، وأبرزت فرنسا فكرة سيادة الباي، عندما حاولت في يناير 1952 التراجع عما تعهدت به. وتلك عبارة عابرة تظهر معارضة فرنسا لفكرة السيادة التونسية مهما تكن معارضتها، ولكل حل يرمي إلى السير بالشعب التونسي نحو استلام مسئوليات الحكم في بلاده، وفي ذلك الوقت نفسه صارت ليبيا مستقلة.
والعنصر الثالث الدال على سوء النية من جانب الحكومة الفرنسية، ادعاؤها المستمر بأن الدستور الجديد والحزب الشيوعي شيء واحد وإن اختلفت الأسماء، ولا فائدة في الكلام عن ذلك الادعاء المخالف للحقيقة.
وقائمة المخازي لم تنته بتلك القائمة مع الأسف، فبقي الاستناد إلى قانون الأحكام العرفية لاعتقال وزارة كاملة، وبقي الاضطهاد، وبقيت مساومة الباي وتهديده بالخلع (راجع: سيادة جلالة الباي)، وبقي اعتقال نويرة الزعيم الدستوري المعتدل؛ لأنه رفض أن يكون وزيرا في تشكيله بكوش التي طال بها المخاض وصعبت ولادتها.
وبقيت أيضا مسألة تتطلب شيئا من الإيضاح، وهي نشر الحكومة الفرنسية، في أوائل شهر أبريل الرسائل التي كتبها الحبيب بورقيبة، وقد عثر عليها البوليس أثناء إجراء تفتيشاته، فقدمتها غذاء للرأي العام الفرنسي الذي زعزع فكرته الإفراط في الاضطهاد والإغراق فيه.
وكأن تلك الحجة بينة في ظاهرها، فالرسائل تعتبر من غير شك إمكانية استخدام القوة بما فيها من نواح مادية كالسلاح والأموال والحركة الدبلوماسية، وتواطأت الصحافة - عن قصد أو عن غير قصد - مع الحكومة الفرنسية على الأمر، فلم تقدم أي بيان عن تلك المراسلة ولم تقم بنقد نصوصها، ولو دققنا النظر في تاريخها لرأينا أنها كتبت 12 / 5 / 1950 وفي 5 / 7 / 1950 أي قبل أن تبدأ تجربة «شنيق-بريللي»، وقبل أن يقبل حزب الدستور الجديد المشاركة في الوزارة التي تألفت في 17 / 8 / 1950.
ولنتحدث عن الأشخاص؛ لمن يكتب بورقيبة؟ بل كان في الحقيقة يجيب، ولكن يجيب من؟ لم تعط لنا أي معلومات عن شخصية مراسلي الزعيم الوطني، ويبدو بوضوح من النص الذي قرأناه (لوموند في 6 و7 أبريل سنة 1952) أن الحبيب بورقيبة كان يكتب لشخص أكثر تطرفا منه، وهو يحاول إقناعه بأن سياسة الحزب الدستوري الجديدة (وهي معتدلة) تمكن تونس أيضا من الوصول إلى استقلالها، وهو بذلك يريد إزالة قلق ويرد على نصيحة بالتشدد، ولكي يقنع مراسله (وهذا أمر طبيعي) ركز تفكيره في المواضيع التي طرحها من وجه إليه السؤال. إن الحبيب بورقيبة يدافع عن سياسته، فتطرقه هكذا إلى الحديث عن «الكفاح المسلح» (الذي أوعز به مراسله) ولكنه وضعه بعد استحالة الوصول إلى تسوية بالطرق السلمية، فقال: «إذا أصرت فرنسا (وهذا هو المحتمل مع الأسف) على رفض كل تسوية حقيقية وشريفة.» وقال: «إذا حصل صدع لا يلتئم وجرح لا يداوى ولا يندمل. وأمر لا يمكن تلافيه وإصلاحه - وهذا ما لا بد من وقوعه إذا أصرت فرنسا على عماها ...» ولا يمكن أن يؤاخذ على شكه في نوايا الحكومات الفرنسية.
وسوف لا نحلل ما أتى به زعيم الدستور الجديد في تلك الوثائق من أحكام سياسية حصيفة نيرة، ولنذكر منها تنبؤه بموقف الباي إذا أصبح النزاع خطيرا، وحوادث مارس الماضي أيدت رأيه، وتحليله الدقيق المتين لموقف الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في السياسة العالمية، وإيضاحه لضغط الجالية الفرنسية بتونس على الحكومة وكفاحهم ضد المقيم بريليه.
والمسألة الوحيدة التي يمكن المؤاخذة عليها حسب نظر موضوعي في تلك المراسلة، هي جزم نزيه بفكرة قومية متحمسة ومتطرفة أحيانا، ولسنا في حاجة إلى تلك الرسالة لتعلمنا بما كنا نعلمه من قبل، ولكن حكامنا في حاجة إليها ليعدوا العدة تمهيدا لمحاكمة الحبيب بورقيبة.
وقد انتهت الحرب الباردة التي شنها دي هوتكلوك على شنيق بانتصار المقيم الفرنسي انتصارا مؤقتا، ولكنه لم يحرز على الدخول من جديد إلى قصر الباي إلا عندما اندس خلف مبعوثي رئيس الجمهورية، وما كان أحد يعتقد عندما أذيع إنذار يوم 26 مارس أن فرنسا ستذهب إلى هذا الحد مع أن رد 15 / 12 / 1951، وعوامل السياسة الداخلية التي ذكرناها تؤدي حتما إلى مثل تلك الحلول، وقالوا: إن شرف فرنسا تدنس بموقفها هذا. ولم يكونوا مخطئين، إذن لم نستفد من درس الهند الصينية، وبلاغ الانتصار الذي نشره دي هوتكلوك يشبه إلى حد بعيد تصريح تييري دارجنليو
Thierry d’Argenlieu
في سنة 1946 فهل هو إنذار؟
إن الإصلاحات التي رفضتها أغلبية اليمين قبل 15 ديسمبر صارت اليوم تعتبر ضرورية، وإذا جرى الحديث اليوم حول الحكم الذاتي أو السيادة التونسية، فإنما يحصل ذلك نتيجة للحوادث المروعة التي وقعت في شهري يناير وفبراير وبعد استعمال وسائل البطش.
وهكذا يقضى مقدما على ما في العروض من فوائد إيجابية، أنه من المؤكد لو كانت التدابير التي عرضها روبير شومان على لجنة الشئون الخارجية يوم 28 مارس، فحوى الرد على مذكرة 3 / 10 / 1951 لاكتفى التونسيون بذلك، ولكن لا يمكن أن ينطبق هذا القول على التهرب الجديد المتمثل في التدقيقات التي أدلى بها دي هوتكلوك عن طريق صلاح الدين البكوش في أول أبريل.
فالأمر الأول هو إخضاع الباي ، ثم تطمين الفرنسيين المقيمين بتونس، وغرضنا اليوم ليس تحليل الأسس السليمة التي تقوم عليها عروضنا الجديدة، ولكننا نقول: هل هناك حاجة إلى المرور بمحنة الدم لكي نفرض اليوم ما كنا مطالبين أمس بإعطائه؟ وهل ستبقى فرنسا دائما في علاقتها مع أقطار ما وراء البحار بلاد الفرص الضائعة؟
محاولة اغتيال الملك
(1) شعب تونس لا يستسلم!
على أثر الاعتداء على الوزارة الشرعية اشتد احتلال القوات الفرنسية المسلحة للقطر التونسي جهة جهة، وقرية قرية، ومدينة مدينة، وبلغ عددها عشرات وعشرات الآلاف، وعززتها النجدات المتوالية سواء من فرنسا نفسها أو من الجزائر، واستمر إمدادها بالذخيرة والأسلحة أشهرا متوالية من غير انقطاع، واشتركت معها في العدوان على شعب تونس قوات مصفحة كبيرة جدا، وسلاح الطيران بأنواعه والأسطول الحربي الفرنسي، وتوالت الضربات وأصبح الضغط فظائع والفظائع إجراما، وكممت الأفواه وتعطلت الحريات، وقيدت الصحافة، وأصبح الملك مسجونا في قصره، واعتقلت الوزارة الشرعية، وأبعد الزعماء، وامتلأت المعسكرات والثكنات بالوطنيين، وفرض منع التجول، وويل لمن تكلم أو تحرك أو تنفس! وإذا أبت الجماهير أن تستسلم وتظاهرت في الشوارع، فالرصاص يأكل لحومهم والحراب السفاكة تسيل دماءهم، ويكثر التقتيل فيهم، وتصير المعارك مجازر.
وتراكمت القيود على القيود، واشتدت السلاسل والأغلال وتوثق رباطها، وظن المقيم العام إذ ذاك أنه كبل شعبا وأحكم تكبيله، فأخذ يتحداه بعد أن صير حياته جحيما، وصرح أن الهدوء قد ساد بتونس والسكينة قد نزلت على أرضها والصمت قد خيم عليها، والشعب أعزل؛ لا ذخيرة ولا سلاح ولا مال ولا إعانة. ولكن ذلك الشعب الأعزل من كل سلاح صير تونس بركانا يفور وجهنم على المحتلين والغاصبين، ونشر في نفوسهم الحيرة وأنزل في قلوبهم الرعب، فإذا كان السلاح مفقودا فليصنعه بيديه إذن؛ لأن إرادة الشعب من إرادة الله، وإرادة الله لا تغلب. وأخذ شعب تونس يصنع القنابل التي كانت في أول الأمر بسيطة، دويها أكثر من مفعولها، ثم تطورت وأتقنت. وكانت البلاد التونسية في النهار الوضاء تحت حكم الفرنسيين وجنودهم، حتى إذا جن الليل وساد الظلام يتحكم فيها التونسيون ، فما هي حياة تونس خلال الأشهر التي تلت العدوان الفرنسي على الوزارة الشرعية في أواخر مارس 1952؟ فإنها تظهر من بعض الحوادث كما هي، قوات أجنبية تهاجم وشعب يرد العدوان بما لديه من وسائل.
ولقد اعتقلت السلطات الفرنسية المدنية والعسكرية عشرات الآلاف من التونسيين؛ فمنهم من نفته، ومنهم من وضعته في المعسكرات والثكنات، ومنهم من سجنته وحاكمته، ومنهم من أطلقت سبيله بعد أن عذبته. ثم أرادت التضليل والمكابرة، فنشرت السلطات العسكرية بلاغا في أواخر شهر أبريل قالت فيه: «إنه في يوم 25 أبريل كان مجموع المبعدين التونسيين 1315، موزعين على الصورة الآتية: 35 في رمادة، و500 في زعرور، و500 في بنقردان، 280 في تبرسق.
ومن جهة أخرى فإن ألف تونسي قدموا للمحاكم العسكرية، ولا يزالون في حالة إيقاف.»
هذا اعتراف الفرنسيين أنفسهم، ولو أضفنا لذلك مثله؛ إذ إنه لم يتحدث عن المحاكم الفرنسية المدنية ولا عمن اعتقلتهم السلطات المدنية خاصة، وأن الاعتقالات قد استمرت بعد ذلك مدة عامين تقريبا!
وأطل شهر مايو، شهر العمل والنشاط، وكانت تونس كلها - بواديها وقراها ومدنها - تحتفل بغرة مايو، بالعيد العالمي للعمل في كل سنة، وكان الشعب بأجمعه يشارك الاتحاد العام التونسي للشغل في مهرجاناته واستعراضاته وحفلاته، ولكن القائد الأعلى الفرنسي لجيوش الاحتلال أصدر بلاغا منع فيه تنظيم الاستعراضات والتظاهر والتجمع في الميادين العمومية بمناسبة عيد العمل، وانتشرت سيارات الجند والبوليس في أهم المراكز والنقط والميادين تأهبا لقمع كل حركة، وعلقت جريدة «الصباح» التونسية على ذلك المنع، قالت (2 / 5 / 1952):
ولم تحتفل تونس هذه السنة بعيد الشغل كسابق عهدها، ولم تجر المهرجانات العمالية البهيجة التي كان ينظمها الاتحاد العام التونسي للشغل.
وكان ذلك اليوم يوم غضب واضطراب ودماء، وقد انتظمت مظاهرات شعبية قبل الظهر، وتعددت في أحياء المدينة، وسارت الأولى في حي الباب الجديد، وخرقت الثانية شارع باب المنارة ومرت أمام ثكنة العساكر الفرنسية ، وخرجت الثالثة من شارع باب الجزيرة، وسارت الرابعة إلى بيت الوزير الخائن بكوش، وأسرعت قوات الجندرمة والبوليس نحوها بقصد تشتيتها، وأطلقت عليها نيرانها، فأكثرت من الجرحى، وقام البوليس كامل نهار أول مايو بحملة عنيدة في الأحياء العربية، وملأ عرباته بالعدد العديد من التونسيين الذين سيقوا إلى مراكزه المتنوعة للتعذيب والتنكيل. وقد بلغت الاعتقالات أرقاما لم يسبق لها نظير، وأخذ نطاق الاعتقالات يتسع حتى شمل القطر كله.
1
وكانت معاملة التونسيين في المحتشدات قاسية وحياتهم فيها صعبة أليمة، فقد أقامت السلطات العسكرية الفرنسية معسكرا بجهة باردو قرب القصر الملكي، ولم تتحدث عنه أصلا في بلاغاتها الرسمية وخاصة بلاغ 25 أبريل، فإنها نصبت هناك خياما لإيواء السادة الذين ألقي عليهم القبض بمنوبة، وأضافت إليهم معتقلي الكاف وسوق الخميس وسوق الأربعاء والجديدة وطبرية، وتعددت الخيام حتى غدا المعسكر كسوق من أسواق البادية لكثرة ما فيه من أناس.
وظهرت قسوة الفرنسيين خاصة في معاملة المرضى، وكان ألقي القبض على السيد علي بن سالم مدير مدرسة الضواحي بمنوبة - يوم 26 مارس - واعتقل بمعسكر زعرور، واشتد به المرض ولكن السلطات لم تسمح له بالمعالجة.
وإن الوطنيين التونسيين الذين لا يعرفون في المقاومة هوادة أو استسلاما، قد تمادوا في كفاحهم داخل السجون والمعسكرات، وكان كفاحهم شديدا جبارا وإن اتخذ قالبا سلبيا. لقد دعا القبطان المكلف بمعسكر جلال في جهة بنقردان، رئيس لجنة المبعدين الأستاذ الحبيب المولهي يوم 24 أبريل، وأعلمه بأن المقيم العام قرر مبدئيا إطلاق سراح المبعدين السياسيين. ومن المفروغ منه أن ذلك الإجراء يشمل أولا وبالذات المبعدين الذين قدموا مطلبا كتابيا يعربون فيه عن إخلاصهم - لفرنسا بطبيعة الحال - ويتبرءون من الإرهابيين والحركات السياسية، ولا يقبل ذلك المطلب إلا بضمان شخصين، فجمع الأستاذ المولهي أعضاء لجنة المبعدين وأعلمهم بذلك، فرفضوا ما عرض عليهم بالإجماع، ولما علم القبطان الفرنسي بقرارهم ازداد شدة وقسوة، وأصدر تعليماته بتحديد التجول وإطفاء الأنوار بالمعسكر على الساعة التاسعة والنصف مساء، مع التحجير على المبعدين مغادرة زنزاناتهم مهما تكن الدواعي، وأمر الحراس بإطلاق النار من غير سابق إنذار على كل من يخالف تلك الأوامر، فلم يبق للسجناء إلا أن حرروا برقية احتجاج وسلموها للقبطان، فأخذها ومزقها ورمى بها.
وكان الأستاذ المولهي قد قدم من قبل للقطبان وللسلطان بعض المطالب الضرورية، فوعدت مرات بإرضائها ولكنها لم تف بها، بل حرمت المبعدين من بعض الحقوق التي كانوا يتمتعون بها.
ولما رأى الوطنيون تعكير حالتهم وخطورة الموقف، قرروا الإضراب عن الطعام لأجل غير محدود، إلى أن تجيب السلطات مطالبهم التي قدموها من جديد، وشرعوا في هذا الإضراب يوم الأحد 27 أبريل 1952 في الساعة الثامنة مساء، وتمادى يوم 28 كله، فلما رأت السلطات العسكرية أن الحركة جدية إجماعية صادرة من الأربعمائة مبعد كلهم، أعلم القبطان الأستاذ المولهي صباح الثلاثاء 29 أبريل أن ساعة منع التجول قدمت إلى الساعة الثامنة مساء، وبعد الظهر احتل الجنود بسلاحهم الكامل المعسكر وهجموا على المولهي واختطفوه واختطفوا معه أعضاء لجنة المبعدين وحملوهم معهم وهم 12 فردا، وانهال الجنود على المعتقلين لكما وضربا ودفعا بعد أن أضعف الجوع أبدانهم وقضى على قواهم، ولم يراعوا شيخا ولا مريضا. وكان الصراخ وصيحات الألم تتعالى من الضحايا وهم يتساقطون على الأرض، فجرح أكثر من عشرة منهم، وكان جرح أحدهم خطيرا إلى درجة استلزمت عملية عاجلة.
واستمر المبعدون على الإضراب عن الطعام، فأجبروا على البقاء في ميدان المعسكر تحت حراسة الجنود خارج الغرف، وفي اليوم الرابع من الإضراب - الأربعاء 30 أبريل - أعلمهم القبطان بأن قائد جيوش الاحتلال قرر تمديد اعتقالهم لمدة شهر وأمرهم بالرجوع إلى غرفهم.
ثم إنه دعا المساجين واحدا بعد الآخر، بعد أن التف حوله عدد من العساكر وسألهم السؤال التالي: «هل تفطرون اليوم؟» فكان جواب 390 من أربعمائة: «لا.» فأنزل العقاب باثنين وثلاثين من الوطنيين ونقلهم إلى زنزانات ليس فيها أبواب ولا شبابيك، وقام بدور هزلي لم ينطل على أحد؛ إذ حمل بعض الجنود أطباق الأكل إليهم؛ لكي يظن بقية المبعدين أن الوحدة قد انفصمت، وفي ذلك المساء أيقنت السلطات أن عزم المبعدين لا ينثني فطلبت الهدنة معهم وأجابت رغباتهم، ورجع الذين عوقبوا وفي مقدمتهم الأستاذ المولهي، وإذ ذاك فقط حل الإضراب.
وكان عذاب السجن أشد وأقسى؛ إذ يمرض فيه السليم، ويموت المريض من غير علاج، وقد توفي السيد محمد الكعبي بالسجن المدني بتونس في 20 مايو، وأقام المعتقلون السياسيون هناك صلاة الجنازة على جثمان الشهيد.
وتعددت المآسي وتنوعت؛ فأصيب الشاب عبد السلام الطرابلسي من سكان الحمامات (في شهر فبراير 1952) برصاصات رشاشة، ونقل إلى مستشفى التحرير بتونس بدون علم أهله، وبقي المسكين في المستشفى، وكان أهله يفتشون عنه من غير جدوى، وقد قاسوا الأمرين مدة مديدة ولم يجدوا من يرشدهم عن مصيره، وضاع أملهم في العثور عليه، وإذ ذاك فقط علموا بحالته.
وكانت تشكلت بتونس لجنة الدفاع والإسعاف الإنساني - من بين أعضائها الدكتورة توحيدة بنت الشيخ ودوران إنقليفيال - وطلبت مقابلة من المقيم، وقدمت له - يوم 14 فبراير - احتجاجا عما أثبتته من أعمال التنكيل والتعذيب التي تجري على الوطنيين، قالت في تقريرها: «يسلط التيار الكهربائي على من ادعى عليهم أنهم يخفون السلاح لحملهم على الإقرار، ثم يطلق سراحهم من بعد أن تظهر براءتهم (تحقيق أجري بالوردانين).
اعتقال عشرات من الأشخاص في قاعات مراكز البوليس في ظروف صحية لا توصف مع الحرمان من الأغذية والفراش والغطاء، وتسليط العذاب عليهم بمهارة وانتظام.»
ويعتري أحيانا ضرب من الجنون البوليس، فيستنبط أنواعا من التنكيل جديدة؛ فقد علقت مناشير على جدران السوق بمدينة توزر - أول مايو - تدعو إلى الكفاح، فقامت السلطات الفرنسية إثر ذلك باعتقال حوالي سبعة أشخاص من بينهم إمام المسجد الكبير السيد بدر الدين بن الطاهر، ثم أجرت استنطاقات لجم غفير من أبناء توزر وعذبوهم عذابا لا يوصف في مراكز الجندرمة والبوليس.
وكانت المحاكم العسكرية الفرنسية طيلة تلك الأشهر تصدر يوميا أحكامها القاسية على الوطنيين.
2 (2) شهر رمضان شهر جهاد وكفاح
تعظم تونس شهر رمضان منذ العصور القديمة، فيكثر فيه التعبد وتمتلئ المساجد، خاصة في الليل، وتقوى العاطفة الدينية ويعم الصيام، وكان شهر رمضان دائما شهر الاحتفالات والسمر والسهرات المطربة، شهر الحلوى والمأكولات اللذيذة، وكادت تكون أيامه كلها أعيادا، تزين فيه المدينة زينة كاملة، ويضاء ليله، وتكتظ المقاهي بالناس وتبيت الميادين العامة والشوارع الرئيسية مزدحمة بهم.
وقد قرر شعب تونس في هذه السنة أن يجعل من شهر رمضان شهر حداد على الشهداء وحداد على حرية فقدت واستقلال ضاع وكرامة ديست وشعب يئن تحت سوط العذاب، ففقدت تونس بهجتها ومرحها وأضواءها وخيم الظلام على لياليها، فلا زينة ولا أعلام، ولا جماهير ضاحكة في الشوارع، ولا غناء ولا طرب ولا موسيقى، بل السكون والصمت يتخلله دوي القنابل المنفجرة، وصيحات المعذبين في الأرض، ووقع أقدام الجنود والحرس الفرنسي في الميادين والشوارع المقفرة، وقرر شعب تونس أن يكون شهر رمضان للكفاح والجهاد.
وعرف الفرنسيون أن العاطفة الدينية تشتد في رمضان وتقوى، وربما تنقلب إلى ثورة جامحة، فأكثروا من الاحتياطيات، وعمت حركات جيوشهم وتنقلات جنودهم، وازداد نشاط البوليس وخاصة أمام المحافظة ليلة رمضان، من لوريات ثقال ودراجات نارية وسيارات «جيب»، وحركات أعوان البوليس وقد حملوا بنادقهم ورشاشاتهم، وضيقت الحراسة على المدينة كلها، ولكن الفرنسيين ما زالوا سادرين في طغيانهم؛ فقد انتخب المجلس الوطني الفرنسي «كلونا» «وبيو» كنائبين عن فرنسيي تونس في مجلس الجمهورية فحصل الأول على 197 صوتا والثاني على 187. وهما لسان العداوة الناطقة والاستعمار الإجرامي والدعوة إلى إلحاق تونس بالتراب الفرنسي، فأحدث ذلك الانتخاب رجة جديدة في الأوساط التونسية وضاعف الغضب، وأضرم روح المقاومة.
وألقى الفرنسيون القبض على عدد وافر من الوطنيين احتياطا لأنفسهم وطلبا لفرض الهدوء، ولكنهم كانوا كالعطشان في الصحراء يجري وراء سراب يحسبه ماء وما هو بماء.
فألقت السلطات الفرنسية القبض على الأستاذ محمد جراد البطل الجسور والشاب الوطني الجريء الذي صفع مصطفى الكعاك عندما كان وزيرا أولا، واعتقلت السلطات الفرنسية معه عددا كبيرا من الشباب الدستوري الجديد، وأحيلوا ليلة رمضان على المحاكم العسكرية بتهم متعددة: عصابة، مفسدين، وقتل متعمد، ومؤامرة ضد أمن الدولة الخارجي بدعوى أنهم هم الذين كانوا يصدرون منشورات بإمضاء «اللجنة السرية للمقاومة»، وكانوا يصنعون قنابلهم بأيديهم.
وألقي القبض أيضا على الأستاذ الناصر بو الأعراس رئيس شعبة باب سويقة الدستورية بدعوى أنه تلقى أوامره من الرئيس «الحبيب بورقيبة» عندما كان مبعدا بطبرقة، فقاد مظاهرات أمام بيت البكوش والإقامة العامة، وشملت الاعتقالات القطر كله، وكان جميع المعتقلين - كالعادة - من أتباع الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد.
3 (3) عيد الفطر أو عيد القنابل
أقبل عيد الفطر وانسجم مع الجو العام الذي كان يسود تونس منذ أواخر سنة 1951، فكانت أيامه ولياليه صامتة خرساء، وأغلقت الدكاكين والمتاجر أبوابها، وأقفرت الأسواق والشوارع، وغارت معالم الزينة المألوفة فلم تظهر بأي شكل ولا في أي محفل، ولم يتبادل التونسيون التهاني، ولم يرتدوا ثيابا جديدة، ولم يصنعوا ما تعودوه من الحلويات الشهية.
وكان الحزن عاما، والحداد مخيما على القطر التونسي كله.
ولم تجر المواكب الملكية التقليدية؛ لأن جلالة الملك يشارك شعبه السراء والضراء، ولم تقع الاستقبالات بالقصر الملكي واقتصرت على أفراد العائلة المالكة، وبعض الشخصيات ذات الصلة الوثيقة بالبلاط.
4
وكان السجن المدني في تونس يعج بآلاف المعتقلين من النساء والرجال والأطفال، فقامت إحدى السجينات في قسم النسوة وقالت لزميلاتها: هذا عيدنا فلنحتفل به، ولنبرهن على عواطفنا ولنعبر عن شعورنا، ولنشارك شعبنا، فتعالت الهتافات: يحيا الاستقلال، يحيا الحبيب بورقيبة، وثارت في صدور السيدات والأوانس السجينات العواطف والأحاسيس، فانطلقت حناجرهن بالأناشيد الوطنية، وتدخل الحراس في الأمر وهاجموا السيدات، فأثار هذا التدخل عواطف السجناء الرجال، فانضموا إلى النساء منشدين هاتفين.
فعاقبتهم إدارة السجن جميعا، وحكمت عليهم بالحرمان من كل مئونة تأتي من الخارج، ومن زيارة أقاربهم وأفراد عائلاتهم.
وأعلن المسجونون كلهم إضراب الجوع ابتداء من مساء يوم الثلاثاء ثاني عيد (24 يونيو).
وخشيت السلطات الفرنسية ثورة داخل السجن، فعززت الحراس بثمانين من أعوان البوليس.
ولم تنقطع المظاهرات الشعبية أسابيع بعد العيد، ففي الساعة الخامسة من ظهر الجمعة 27 يونيو تظاهر عدد كبير من النسوة والرجال والشبان والأطفال أمام بيت الهادي بن رايس وزير التجارة في الوزارة الخائنة بشارع السيدة عجولة، ودوت الهتافات المعادية بسقوط الاستعمار وبسقوط الوزارة الموالية له.
وسعى البوليس الفرنسي الذي يحرس بيت الوزير الخائن في تفريق المتظاهرين بالقوة ولكنهم عجزوا، فاستنجدوا بقوات جديدة أتت مسرعة، وانسحب الوطنيون ليجتمعوا من جديد بعد دقائق أمام بيت خائن آخر وهو الوزير دنقزلي، فحمل عليهم البوليس هناك وألقى القبض على أربع نساء.
وتتابعت الهجمات على القوات المسلحة والبوليس، فقد شرع الوطنيون - في بلدة الحامة - في الساعة الحادية عشرة ليلا في محاصرة مركز البوليس، وأطلقوا النيران عليها، ولم تعلن السلطات الفرنسية عن عدد المصابين من أعوان البوليس.
وكانت مدينة سوسة ميدانا لنشاط الوطنيين في ليلة الأربعاء 25 يونيو، فقد هاجموا مستودعا للذخيرة (ميرادور) وأطلقوا النار على الحارس، ولكنهم انسحبوا بعد حين.
وأطلقوا النار أيضا على أحد مدافع خفر السواحل، وطالت المعركة بين الوطنيين وبين الجند، واختفى المهاجمون في الظلام ولم يصب واحد منهم بأذى.
وإن عيد الفطر من تلك السنة قد سمي عيد الجهاد، ولكنه كان في الحقيقة عيد الانفجارات.
محاولة اغتيال الملك
طلع صباح 17 رمضان (12 / 6 / 1952) وكان السكون يشمل مدينة تونس والصمت يخيم عليها وما زال دوي الانفجارات الليلية يرن في الآذان، وازدحمت الشوارع بعد ساعات بالتونسيين، وجوه عابسة وعيون يبرق منها الغضب ممزوجا بحزن ونظرات مغلقة، يمرون وسط العساكر المدججة بالسلاح والبوليس المستعد للهجوم غير عابئين بتهديدهم ولا ملتفتين إليهم، وكانت تلك الوجوه مغلقة مقفلة كالأبواب والنوافذ يقرأ فيها العزم وتتراءى منها البغضاء، وانتشرت إذ ذاك شائعة تسربت مع الحيطان وسارت في الشوارع وانتقلت من دكان إلى دكان، ومن بيت إلى بيت، ثم أصبحت الشائعة خبرا يقينا لا يداخله شك، فكانت همسا وأصبحت صوتا واضحا وأضحى الصوت صراخا وصياحا والصراخ اضطرابا وهيجانا؛ نزل خبر محاولة الاستعمار تسميم جلالة الملك كالصاعقة.
ولم يستغرب شعب تونس فظاعة الحادث؛ لأن من يرتكب جريمة قتل الأطفال الرضع دوسا بالأقدام لا يتحاشى عن ارتكاب أي شنيعة أخرى، خاصة وأن جلالة الملك رفض أخيرا الإصلاحات الكاذبة المزعومة التي عرضتها فرنسا عليه، ولما وجده الاستعمار صعب المراس رغم تطاعنه في السن، مستعصي الانقياد رغم نحافة جسمه ولطف مزاجه، فليس من المستحيل أن سعى في التخلص منه بهذه الطريقة الملتوية التي تنافي الشرف وتلحق بأصحابها عارا لا يمحى.
وقد ظهر فيما بعد أنها مؤامرة دبرت بليل ويقال إنه شارك فيها كبار الموظفين العالين الفرنسيين وأفراد من الأسرة المالكة.
وكان الصادق باي أخو ولي العهد إذ ذاك عز الدين باي وهو خليفته يتقرب من الفرنسيين بجميع الوسائل، ويتصل أوثق اتصال بحاملي الفكرة الاستعمارية، ويساند الاستعمار الفرنسي بجميع قواه، يريد من وراء ذلك إرضاء طموحه في الجلوس على العرش، فكان في حركة دائمة وعمل لا يني ولا يهدأ إرضاء لنفسه المستعرة نارا المتشبثة بالحكم والسلطان، ولو كان صوريا لا حقيقة وراءه، فكان يسعى مع الحكومة الفرنسية سعيا حثيثا متواصلا للحط من جلالة الملك، صارخا بعدوانه للحركة القومية التونسية وللحزب الذي يقودها (الحزب الحر الدستوري التونسي الجديد)، معلنا عدم ارتياحه لأي حق يناله شعب تونس، مناديا بوجوب بقاء الحماية الفرنسية على بلاده، فكتب رسالتين إلى رئيس الجمهورية الفرنسية ورئيس الوزارة الفرنسية، الأولى مؤرخة في 7 / 11 / 1951 قال فيها:
سيدي رئيس الجمهورية
إني أتوجه إليكم بهذه الرسالة بكل احترام بصفتي رئيس الأسرة الحسينية، وبوجه خاص باسم شقيقي عز الدين باي ولي العهد، وباسم ابني عمي حسين ومحمد وهما خليفتانا المنتظران حسب ما تقتضيه المبادئ التقليدية التي حددها القانون العثماني والتي أقرتها المعاهدات التي تربط فرنسا بتونس؛ لكي نشرح لكم الأخطار البالغة التي تهددنا في الحاضر وفي المستقبل نتيجة للسياسة النظرية والعملية الحاضرة التي يبدو أنها أصبحت أساس العلاقات الدبلوماسية بين حكومة الجمهورية الفرنسية والأسرة الحسينية التي يمثلها جلالة الباي صاحب المملكة التونسية.
وفعلا فإن التقاليد والعادات وكذلك القوانين المقررة المكتوبة تقضي بأن يكون تمثيل تونس عن طريق جلالة الباي أو ولي عهده، ولا يمكن بمقتضى معاهدات المساعدة والحماية المبرمة بين تونس وفرنسا أن يقوم طرف ثالث بهذه المهمة، فإذا ما أقرت فرنسا غير ذلك فإنها قد تقضي على روح تلك المعاهدات.
وإنه ليؤسفنا جدا أن نلمس ما نريد إنهاءه إليكم من أن ضعف ملكنا المحترم وتطرف حزب سياسي تونسي تطرفا مفرطا يوشك أن يجر - بدعوى حاجة تونس إلى إصلاحات - أسرتنا وبلادنا وشعبنا إلى كوارث داخلية وعالمية.
ولذلك يبدو لنا ضروريا أن نشير إلى مدى خطورة الأعمال التي قد تنتج في المستقبل من اتفاقات محتملة الوقوع بين حكومتكم وحكومة مملكة تونس.
أما نحن فإننا نرى أن الإصلاحات التي يريد الوزراء الذين يعملون تحت ضغط الحزب الدستوري الجديد إدخالها في البلاد عملا بفكرة التطور الديمقراطي منافية لحقيقة مصالح تونس والأمة الحامية؛ لأنها لا ترمي إلا إلى تحقيق أغراض شخصية محضة وإلى إرضاء رغبات أنانية صرفة.
ونطلب منكم على عكس ذلك أن تزدادوا يقظة في القيام بحمايتكم لنا، وعسى أن تحمي قوتكم وحكومتكم شعبنا من استبداد المغامرين، وأن تمكنه من مواصلة تطوره المستمر ماديا، وفكريا، وأدبيا، والسلام الداخلي يسود القلوب والعقول.
لقد جنت بلادنا ثمرات وجود فرنسا والعمل المشترك المثمر، وهي في حاجة بوجه خاص إلى تحسينات في الميدان الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، ولا يمكن بحث هذه التحسينات بدون المساعدة الثمينة التي لم تبخل بها علينا فرنسا إلى الآن.
الصادق باي
7 / 11 / 1951
وكانت الرسالة الثانية في 14 / 12 / 1951 وقال فيها:
بدأ الصادق باي يذكر تعهدات فرنسا التي لم تسمح لغير جلالة الباي أو ولي العهد بالاتصال بها باسم تونس، ثم أشار إلى أن احتمال تخلي الأمة الحامية عن هذه التعهدات سيجعل المعاهدات القائمة لاغية وأن بعضهم سوف لا يتردد في استغلال هذا الموقف.
ثم أضاف قائلا: إننا نقدر مسئوليتنا في الحاضر والمستقبل؛ ولذا نرى أنه من واجبنا أن ننهي إليكم بكل نزاهة ما يهدد شعبنا وبلادنا من أخطار إذا استمعت حكومتكم إلى المطالب التي قد يقدمها لها أشخاص لا يمثلون إلا جزءا ضئيلا من الشعب التونسي.
كما إنه من واجبنا أن نشير إلى صفة هؤلاء الأشخاص الانفصالية، أولئك الذين يدعون في باريس أنهم يتحدثون عن مؤسسات بلادنا ويذكرون لكي تنجح قضيتهم التطور الديمقراطي، مع أن غرضهم الحقيقي هو السعي وراء السلطة المطلقة لا غير، حتى يتمتعوا بالامتيازات التي تنجم عن الإثراء على حساب شقاء شعبنا.
إن أولئك الأشخاص الذين لا يعرفون شيئا عن حقيقة المبادئ الديمقراطية يديرون حزبا أو يسيرهم حزب نسخت أنظمته من أنظمة الحزب الشيوعي الفرنسي، ويستعملون أساليب إرهابية مع من لا يخضعون لأوامرهم أو من لا يريدون الخضوع لها، وهكذا حدث مثلا أن كان 200 طالب بجامع الزيتونة ضحية لتسميم في المواد الغذائية ناتج عن سوء نية أعضاء ذلك الحزب وقد أحيطوا بستار من السكوت والكتمان.
وفوق ذلك فإن أولئك الأشخاص أنفسهم ينظمون إضرابات سياسية ويحملون العمال على تعطيل عملهم بتخويفهم بنشر أسماء غير المضربين لكي يصبحوا هدفا لانتقام أعوانهم وبطشهم.
ولذلك فإننا نطلب من الحكومة الفرنسية أن تواصل مساعدتها وحمايتها مع كل ما في ذلك من مظاهر القوة والقيمة المعنوية حتى تبقى مثلا لبلادنا.
كما نؤكد لها أن الوقت غير مناسب لإنشاء برلمان في تونس سيكون أعضاؤه هدفا لضغط وإكراه يتنافى مع تطبيق الديمقراطية الحرة.
إن شعبنا العامل النشيط يحتاج بوجه خاص إلى العمل والأمن الأدبي والفكري والمادي، ذلك الأمن الذي ضمنته فرنسا إلى الآن، والتي تستطيع وحدها أن تضمنه في المستقبل.
ولذا فإن أسرتنا تعتمد على حمايتكم ومساعدتكم لكي يبقى الأمن محترما في تونس.
الصادق باي
14 / 12 / 1951
ويظهر أن ذلك الأمير الطموح اطلع في بيته إحدى الأميرات - وهي الأميرة رقية - بأنه تفاهم مفاهمات جدية واتفق اتفاقا كليا مع جريلي
Grellet
مدير ديوان المقيم العام وبونص الكاتب العام للحكومة التونسية وجاكبسون رئيس مركز الاستعلامات الفرنسية (المكتب الثاني) والدكتور ماريرلي. فنجد هكذا يد الاستعمار في كل جريمة ترتكب ضد التونسيين ونجد منذ مدة اسما يتكرر في كل فظيعة وكل مأساة، وهو اسم بونص الذي ذكر مرارا واستمرارا عند الحديث عن «اليد الحمراء»، وخاصة عند مقتل الزعيم الشهيد فرحات حشاد.
فما هو دور الصادق باي؟ وما هي مراميه؟ وما هي مسئوليته؟ سنتبين كل ذلك من سرد الحوادث نفسها.
لقد اطلعت الأميرة رقية على المؤامرة وعرفت أسماء المشاركين فيها الذين ظنوا أنها تبغض جلالة الملك وتحمل له في نفسها العداوة والنقمة، ولم يعلموا أن الأميرة رقية مدينة بالجميل للملك، وتم الاتفاق معها على أن يأتي شخص معين إلى بيتها يوم الخميس 12 يونيو ليسلم لها المادة السامة التي يراد وضعها في طعام الملك، وقد أوهمت المتآمرين بأنها ستسلمها لطاهية بالقصر (أخت طاهية الأميرة) فأسرعت إلى إعلام طبيبها الدكتور عبد الرحمن مامي الذي روى بنفسه للصحف القصة
5
فقال:
وقع تعييني كطبيب أول لجلالة الملك منذ مدة وجيزة جدا، وكان يكون من سوء الطالع أن أجد نفسي في الأيام الأولى للقيام بمهمتي أمام تسميم الملك تسميما قاتلا.
ولكن المصادفة ساعدتني، وإني لأبتهل إلى الله شكرا وحمدا على ما دلني في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان.
وكان ذلك يوم الجمعة 6 يونيو، لقد دعتني الأميرة ر ... إحدى كبيرات البلاط لمعالجة ابنتها المريضة، وبعد إتمام فحصها أخذتني الأميرة على حدة وقصت علي حكاية لم أصدقها في أول الأمر.
فقصت علي ما يأتي:
إن أحد الأصدقاء الأقربين قال لي أمس: اعلمي أننا سنسم الباي الجالس على العرش، ولقد توصلنا إلى استمالة أحد خدام الباي الذي سيمزج سما زعافا مدقوقا إما في طعام أو في شراب يقدم له ... فقالت الأميرة لذلك الصديق: أنا أعرف طاهية بالقصر، والأضمن أن أكون أنا الواسطة، فاقتنع بعد هنيئة السيد ع ... وقبل خدماتها وأكد لها قائلا: بمجرد ما أستلم ذلك السم آتي به إليك، ثم أضاف قائلا إن الربح سيكون خمسة ملايين فرنك.
واسترسل الدكتور عبد الرحمن مامي في حديثه:
فشكرت الأميرة على مكاشفتي بسرها وأسرعت إلى الأمير سيدي الشاذلي (نجل الملك الأكبر) وأعلمته بالقصة.
ولما رأت الأميرة أن ذلك الصديق لم يرجع، أرسلت إليه ابنها يوم الاثنين 9 يونيو إلى دكانه بسوق النساء، فقال له: لم يصلني السم بعد، وذكر أثناء الحديث أسماء المتآمرين الذين أعادهم على الأمير الجليل سيدي محمد (نجل الملك الثاني) بعد أيام.
ورجع إليه ابن الأميرة يوم الأربعاء 12 يونيو فقال له: إن السم معي، خذه إلى أمك، فامتنع الابن وقال له الأحسن أن تسلمه لها أنت بنفسك.
ويوم الخميس 12 يونيو سلم ع ... السم للأميرة التي أوعزت لي بالحضور، وبعد نصف ساعة كنت في بيتها صحبة الأمير سيدي محمد.
لقد ضبط هكذا أحد المجرمين واعترف بالجريمة، ولنأخذ القصة ممن عاشها، فإن سيدي محمد باي أدلى لجريدة «الصباح»، 17 / 6 / 1951 بالحديث التالي:
كانوا يحدثوننا منذ أسبوعين عن تسميم قريب لجلالة الملك، وقد كاشف أحد أعوان الاستعلامات إحدى الأميرات القاطنات بالمرسى بهذا الأمر، وعن ثمن الجريمة خمسة ملايين من الفرنكات والعون هو محمد ع ... التاجر في الأقمشة ...
وفي يوم الخميس منذ الساعة الرابعة و15 دقيقة بعد الظهر خابرني هاتفيا الحكيم عبد الرحمن مامي رئيس أطباء جلالة الملك، فدعاني للحضور على جناح السرعة بالمرسى، وكان ع ... هناك وكنت حاسر الرأس فظنني رئيس مركز البوليس، واعترف بكل شيء، فهو من المشاركين في المؤامرة، وفاز بعد ذلك بمبلغ مالي قدره 775 ألف فرنك.
وقد وجد سيدي محمد باي في محفظة نقود السيد ع ... السم الذي أعد لتسميم جلالة الملك بواسطة طاهية البلاط، وانتقل الجميع بعد ذلك إلى قصر قرطاجنة، حيث سجلت تصريحات محمد ع ... بواسطة شريط ووعد ع ... بالحضور في اليوم التالي في الساعة الثالثة بعد الظهر لتقديم معلومات إضافية والكشف عن أسماء مدبري المؤامرة، إلا أنه لم يعد بطبيعة الحال، واختفى منذ تلك الساعة.
فمن هو السيد محمد ع ...؟ وما هي اتصالاته بمحمد الصادق باي؟ وما هي علاقاته مع الفرنسيين وخاصة إدارة الاستعلامات؟ فهو جزائري اسمه أحمد واشتهر محمد عاشوري، كان يشتغل في السوق السوداء مدة الحرب، وأصبح فيما بعد تاجر أقمشة وفتح دكانا بسوق النساء، ومنظره وسخ قذر؛ لا يحلق شعره، ولا يعتني بثيابه البالية، وهو من أتباع الصادق باي وأعوانه وحاشيته، وهو منجمه الأكبر وكاشف الغيب له ومطلعه على المستقبل! وذلك ثابت لا يحتمل الشك أصلا، فزمن كان التونسيون جميعا يقاسون من منع التجول الأمرين حصل الصادق باي لمنجمه وخادمه محمد عاشوري على رخصة من الجنرال جارباي القائد الأعلى لجيوش الاحتلال (بتاريخ 20 / 2 / 1952) تسمح حسب عباراتها ل «م. عاشوري، متوظف صاحب السمو الصادق باي أن يتجول بحرية بالقطر التونسي»، وعاشوري معروف في الأوساط الوطنية بانتمائه إلى قسم الجوسسة الفرنسية وأنه أحد المخبرين عندها.
ودعا عبد الرحمن مامي بالدكتور عبد السلام خالد الأخصائي في التقطير والتحليل الكيماوي، ولما حلل تلك المادة الحمراء وجد أنها من نوع «الأكونيتين» الفتاكة، وزيادة في التحري أرسلت كمية منها إلى باريس لتحليلها واحتفظ بالكمية الباقية في القصر الملكي.
ولما تحققت المؤامرة قدم جلالة الملك قضية عدلية بالمؤتمرين على حياته بعد أن استشار رجال القانون من حاشيته، وكلف بالاشتغال بها الأستاذ فتحي زهير وأحد المحامين الباريسيين الكبار الأستاذ جورج إيزار.
فما كان موقف السلطات الفرنسية لما افتضح الأمر واكتشفت المؤامرة وتداخلت العدالة؟ فهل حرصت على إظهار الحقيقة؟ وهل سعت في إنارة الرأي العام؟ أم خشيت من الفضيحة والعار وخافت من المسئولية وركنت إلى المغالطة والتزييف؟ وما فعل البوليس - وكله في قبضة الفرنسيين؟ فهل ألقي القبض على عونه عاشوري؟ ولكن عاشوري غاب واختفى ولم يعثر له على أثر في أول الأمر، وأصبحت الجرائد الاستعمارية نفسها تتساءل
6
هل انتحر عاشوري؟ أم اغتيل؟ أم قتلوه؟ أم أعانوه على الفرار؟ وهو الشاهد الوحيد ورأس سلسلة المتآمرين، ربما يكون أبعد أو سجن أو اختفى وقد علقت جريدة «الصباح» على «تهريب» عاشوري 22 / 6 / 1952 قالت:
شغلت مؤامرة التسميم النذلة المدبرة ضد القصر الملكي العامر النوادي والمجالس والرأي العام في الداخل والخارج، وقد تواصل الاستنطاق والمكافحة بين المتهمين والشهود عليهم، وأخذ البحث يكشف الستار عن بعض الأسماء المورطة في المؤامرة، وتتضح قائمة هذه الأسماء يوما عن يوم بصورة تثير الاندهاش وتدل على اتساع نطاق هذه المؤامرة اللعينة.
أما العاشوري وهو رأس هذه المجموعة فلم يعثر عليه حتى الآن، والمظنون أنه لن يقع العثور عليه البتة حتى يوم القيامة، كما أن سلسلة الانتحار أو كتم الأنفاس تتسع حلقاتها في هذه الأيام بمناسبة اشتداد الحرارة، وستتسع حركات السفر إلى الخارج طلبا للراحة والاستجمام والهروب من العواصف العاتية التي تجتاح تونس هذه الأيام.
ونستطيع أن نفسر عدم التمكن من العثور على العاشوري، رغم التعليمات المشددة الصادرة إلى البوليس في هذا الشأن، بأن هذه الشخصية العريقة في صناعتها قد قيل إنها من المنجمين ومستطلعي الغيب وأصحاب العرافة وزجر الطير، ولها بناء من وسائل التبخر والاختفاء، وما يضمن لها الاحتجاب عن العيون مهما تكن نافذة وبصيرة، فقد يكون العاشوري قد لبس طاقية الإخفاء التي تتحدث عنها قصص ألف ليلة، فاختفى عن الأنظار!
وقالت الجريدة الاستعمارية «لابريس» (22 / 6 / 1952): «وتؤكد بعض الأوساط أن عاشوري ليس بالمعتقل ولا بالمسجون، وليس بالجزائر، ولكنه قتل ودفنت جثته قرب المرسى؛ لأنه شاهد مهذار.»
وأخذت الصحف الاستعمارية على مختلف مشاربها ولهجاتها تتأول وتهزل وتبحث وتحلل بإيعاز من الإقامة العامة لتضلل الرأي وتخفي الحقيقة؛ فقد جاء في عدد يوم الأحد 15 يونيو من صحيفة «تونس سوار» قولها:
إن بعض المعلقين في باريس يرون في هذا الحادث أنه عبارة عن مناهضة شق من العائلة المالكة لشق آخر منها، يحاول بها أحدهما القضاء على الآخر، ولسنا في حاجة لأن نقول أيهما يتجه ضد الآخر، وهذه الصورة في تعليل حادث التسميم محتملة جدا وقريبة من الحقيقة ولكن لا يظهر أن لها صلة بالحقيقة. ... وهناك تأويل آخر في باريس لهذا الحادث، وهو تأويل من لا يصدقون بوقوعه أصلا، وهم يعتمدون في تأويلهم هذا على أن الأيام الأخيرة كانت مثقلة باستياء عميق اجتاح قسما كبيرا من السكان في تونس، وهم الذين يتألمون في مصالحهم من جراء الاضطرابات الحاصلة في البلاد.
ومن هنا تولدت هذه المؤامرة وحبكت حبالها للوصول إلى أقصى غاية منها، والعادة المعروفة في الشرق أن الناس لا يترددون في الذهاب إلى أبعد حد في آرائهم، على أن الأنباء الأخيرة الواردة على باريس لا تترك أي مجال للشك في وجود مؤامرة.
أما صحيفة «لابريس» فقد نشرت في يوم 17 يونيو1952 تقول عن هذا الحادث:
يبدو حادث التسميم كأنه أمر بعيد عن الواقع في عين الجالية الفرنسية بتونس، وهم يضعون هذه القصة الخرافية في موضعها الذي تستحقه والذي يتلاءم مع طبيعة بلاد تسيطر عليها طبيعة الذكريات الشرقية وعاداتها المستحكمة.
والأجدر بالحقيقة أن ننظر إلى هذه القضية من الوجهة الهزلية إذا أردنا أن ننتهي منها إلى الواقع والحقيقة، لأنها قصة مثيرة للضحك إذا لم تتسبب في تعقيدات في المحيط العالمي.
إن هذه الخرافة المصطبغة بصبغة القرون الوسطى تعبر أيضا عن حالة النفسية المسيطرة على القصر الملكي، حيث تتولد المؤامرات عن المطامع الفاشلة، ونحن نعلم من قبل هذا الحادث الدور الذي لعبه في هذا القصر البنون والبنات وسلالاتهم إلى أن اختفى من المسرح الولد البكر الذي كان فيما سبق كثير العمل.
أما في الميدان المادي لهذا الحادث، فنلاحظ في تعجب ودهشة - بالرغم من خطورة الاتهام - أنه لم تقع الاحتياطات الأولية للتأكد من التطابق المطلق في الأدلة والبراهين التي لم تتنسق إلا في تصريح جانب واحد.
على أن الارتباك والحيرة الحاصلين في القضية يبرران فقدان هذا الانسجام، ولكنه يضر على الأقل بالحقيقة ويحرمها من أن تكون مبرأة من الشوائب.
وأخيرا فإن الذي لا شك فيه في هذه المسألة هو أنها تصلح ذريعة وجيهة جدا لرفض مشروع الإصلاحات الجديد، فهل نفهم أن هذا هو الأصل الحقيقي للقصة كلها.
وقد أرجعت جريدة «الصباح» الحقيقة إلى نصابها وفندت أقاويل الصحافة الاستعمارية وأزاحت الستار عن نوايا القوم وخبثهم فقالت: «إن الرأي العام التونسي الذي يطالع بمنتهى الاهتمام كل ما يقال عن الحادث الهام لينظر إلى هذه التأويلات بعين مريبة جدا، ويتساءل عن أسبابها الحقيقية التي جعلت أصحابها يندفعون فيها دون تحرج، بل ويتفقون في جوهرها الذي جعلوه مجرد «عادة» من عادات الشرقيين استولت على الأسرة المالكة في هذه الظروف.
لقد قيل إن العدالة قد أخذت على عاتقها مهمة البحث والتحقيق في الحادث، وبالرغم من أن الرأي التونسي ينظر بعينه الخاصة إلى سبب هذا الحادث، ويفهمه فهما يعتبره هو الحقيقة بعينها، إلا أنه احتفظ برزانته وتثبته، ولم يندفع اندفاعا طائشا في التعاليق التي قد تضر التحقيق الذي استلمته العدالة، ولكنه في الوقت نفسه يفهم أيضا التأويلات التي راحت هذه الصحف تنشرها وتتوسع فيها، وهو فهم يؤيد له فهمه المتعلق بسبب الحادث نفسه.
ولسنا في حاجة لأن نغرق في التفصيل والتدليل على أنه يتساءل لماذا يا ترى تحاول هذه الصحف أن تعزو سبب الحادث إلى القصر نفسه، وفي العائلة المالكة وحدها دون غيرها، فهل تفعل ذلك لكي تبعد الشبهة عن عناصر أخرى خارجة عن القصر، قد كان لها ضلع أو لعلها كانت هي السبب الأول والأخير في هذه المحاولة الفاشلة المفضوحة؟
بل ولماذا نحاول إلى جانب ذلك أن ننكر وجودها إنكارا تاما ونكتب عنها بأسلوب يوهم أن الحادثة مختلقة من أساسها ولا أساس لها من الواقع؟
إن هذا التعجل والحرص الغريبين اللذين تبديهما بعض الصحف التي اشتهرت في المدة الأخيرة بمناوأتها للتونسيين واستفزاز عواطفهم واستغلال كل شيء للمس بهم فقد جعلت الرأي العام التونسي يتأكد من تأويلاته هو لهذا الحادث الشنيع.»
لم يستغرب شعب تونس من خسة الاستعمار الفرنسي وانحطاط أنصاره وسفالة طبعهم وسفه أخلاقهم وصلفهم وكذبهم وتزييفهم، فلا عجب ممن اغتالوا الشهيد فرحات حشاد غدرا ومثلوا بجثته، وقتلوا الشهيد الهادي شاكر شر قتلة وشوهوا جثمانه الكريم، أن يسعوا في ارتكاب جريمة أخرى ويسعون في تسميم جلالة الملك، وخاصة أن المجرمين معروفون لدى السلطات الفرنسية وأسماؤهم فوق مكتب المقيم الجديد «فوازار» الذي تنصب فيما بعد مكان السفاك دي هوتكلوك ولم يعتقل ولم يحاكم أي واحد منهم إلى هذا اليوم.
وقد صرح المحامي الفرنسي جورج إيزار - وهو رجل جدي - إلى الجريدة الاستعمارية «لابريس» (27 / 6 / 1952) بعد أن جاء إلى تونس لدراسة القضية قال: «لقد اطلعت أمس على كامل الملف، وإن القضية تظهر لي جدية جدا، ولو لم تكن كذلك لما قبلت التكليف بها»، وأضاف: «لا يمكن أن تكون قضية التسميم قضية خيالية أو ظاهرة من ظواهر الشعوذة الجماعية، إذ لو كانت من هذا النوع فلم اختفى العاشوري عن الأنظار؟»
ولما نقلت الألسن خبر تلك المؤامرة الدنيئة، انتشر السخط والحنق، واهتز الشعب اهتزازا عنيفا، وكانت الأعصاب متوترة من قبل، وزاد الصيام في حماس الجو، وما كادت تبرز الصحف - صباح 14 / 6 / 1952 و21 رمضان - ناقلة نبأ التسميم حتى أضربت العاصمة التونسية وضواحيها احتجاجا واستنكارا لهذا العمل الإجرامي الفظيع المدبر، وقد توقفت حركات النشاط توقفا كاملا وساد العاصمة جو رهيب غاضب، وامتد الإضراب العام من مدينة تونس إلى جهات القطر شيئا فشيئا حتى شملها كلها في آخر اليوم، وتهافتت الاحتجاجات من مدن المملكة وكثرت وتعددت، وكانت الصحف التونسية صدى موجة عميقة جامعة من الاحتجاجات، فقد كتب أهالي مدينة صفاقس قائلين (15 / 6 / 1952): «ما كاد خبر الاعتداء على القصر الملكي بالتسميم ينتشر في عاصمة الجنوب حتى عمها الحنق والاستنكار الشديد، وأضربت المدينة إضرابات شاملة احتجاجا على هذا الاعتداء، وأن أهالي صفاقس يحمدون الله على نجاة مليكهم من هذه المؤامرة ويتقدمون لجلالته بخالص تهانيهم على سلامته.»
وبطلت كل سهرة وانطفأت جميع الأنوار في تلك الليلة من رمضان، وكان مظهر الإضراب في الليل مروعا رهيبا؛ إذ ساد العاصمة التونسية وضواحيها الظلام، وساعدت السحب الدكناء التي خيمت والبروق والرعود، فكست المدينة حلة من الإجلال الحزين.
واستمر الإضراب العام شاملا البلاد كلها، فكانت جميع الأسواق مقفرة خاوية على عروشها، وكذلك فندق الغلة، وكل دكاكين المدينة، وقد شارك مجموع السكان في هذا الإضراب العام الذي ساده جو من السكون والهدوء، واعترفت الصحف الاستعمارية المعادية بنجاحه الباهر (تونس، سوار، 14 / 6 / 1952).
ثم انتظمت المظاهرات الشعبية المتوالية، فقد انتظمت في صباح 14 يونيو مظاهرة كبرى ضمت عددا وافرا من أبناء الشعب، واخترقت الأحياء القديمة حتى أشرفت على باب الجزيرة، فاعترضتها قوات الأمن الفرنسية واصطدمت معها وسعت في تشتيتها وألقت القبض على عدد من الشبان.
واشتد الخلاف بين تونس وفرنسا، وتعمقت الهوة واستفحلت الخصومة، وقد لخص صحفي فرنسي في جريدة «فران تيرور» (30 / 6 / 1952) الحالة الناتجة عن مؤامرة التسميم، قال:
الأمير الشاذلي أكبر أنجال جلالة الباي قال لي
ليست محاولة تسميم الباي خرافة شرقية، إنما هي مؤامرة شارك فيها على الأقل خمسون شخصا.
إن التونسيين عندما تحدثهم عن محاولة التسميم التي استهدف لها جلالة الباي يوم 11 يونيو الماضي يجيبونكم في حذر.
إنك أنت أيضا تعتقد أنها خرافة شرقية.
ومن الصعب أن تقنعهم بأنك إنما تسألهم للاستطلاع، إن صحافة تونس «الفرنسية» قد أظهرت الحادث في مظهر الدعابة والخرافة أو في مظهر قصة عائلية، فالرقابة لا تسمح بأن تنشر الصحف إلا سطورا ليست ذات أهمية، فإذا فكرنا في القدر الذي كانت تشغله في الصحافة الفرنسية أقل تفاصيل لمحاولة مماثلة يستهدف لها رئيس الجمهورية لا يمكن إلا يعتبر الإنسان السكوت في هذه الحالة ذا دلالة.
ففي الحالة الحاضرة التي يسودها التوتر إلى أقصى حد لا يوجد تونسي لا تدل في نظره محاولة اغتيال الأمين باي على حدث سياسي خطير جدا. وهذا القول صحيح إلى حد أن الإضراب الذي أعلن يوم 14 يونيو عندما انتشر الخبر نجح نجاحا لم يسبق له مثيل، فقد كان إضرابا إجماعيا، وقام الأستاذان «إيزار» و«زهير» (والأخير هو محامي جلالة الباي الخاص) باسم جلالة الباي بإقامة الدعوى، وإن في تولي الأستاذ «إيزار» الدفاع في هذه القضية دليلا في نظر التونسيين على حقيقتها وخطرها، فالأمين الأول في نظرهم ليس صاحب السيادة القانونية فقط؛ بل هو بالإضافة إلى ذلك أحد أركان مقاومتهم؛ ولذا فإن محاولة القضاء عليه أثارتهم أكثر مما قيل.
فاضطررنا سعيا وراء بعض المعلومات إلى الالتجاء إلى من استهدفهم هذا الحادث، فلا يمكن سؤال من ينكر وجود أمر مادي ملموس حول ذلك الأمر؛ ولذا ذهبنا نبحث عن المعلومات لدى الأمير الشاذلي النجل الأكبر لجلالة الباي.
فاستقبلنا في منزله بضاحية «المرسى»، وهو رجل أشقر طويل القامة ذو عينين براقتين، ما زال مظهره رياضيا رغم الأربعين، وأيد ذلك أسلوبه في إدارة الحديث في حماس وصراحة، ثم في تراجع وتحفظ يبررهما مركزه وموقفه.
قال لنا: هل رأيتم كيف يقطع عني التليفون، أنا ابن جلالة الباي؟! (ورفع سماعة تليفونه الصامت وقدمها لنا). - إننا نقيم هنا منذ شهر أبريل، وقد طلبت مرارا من الإدارة أن تعيد للتليفون الحرارة فوعدتني، ولكنها لم ترسل أي شخص، ففهمت ... (ورفع يده بإشارة عجز). - هل تتفضلون بمحادثتنا عن واقعة التسميم؟
فقال بشدة: أولا: إنه حادث حقيقي؛ فهو ليس خرافة شرقية، إنه أمر واقعي، إنها مؤامرة شارك فيها في نظري خمسون شخصا. - كيف وصلتم إلى اكتشافها؟ - قبل بضعة أيام أخبرني الدكتور «مامي» رئيس أطباء صاحب الجلالة، بمؤامرة يجري حبكها ضد جلالة الباي بضاحية «المرسى»، وقال لي: إن بعضهم يعد حادث تسميم، فلم أهتم بالأمر، بيد أن أميرة تقيم في «المرسى» أخبرتني كذلك بالمؤامرة.
هي الأميرة رقية، إنها قريبة للملك الحاضر ، ليس لها علاقات مستمرة بالقصر، ولم تكن علاقتها بالباي بصفة رسمية طيبة؛ إذ لم يبق في خدمته ابنها ياور الملك السابق المرحوم المنصف باي، ولكنها مرضت فأرسل لها جلالته طبيبه الخاص ومبلغا من المال، فهل كان الاعتراف بالجميل هو الذي دفعها إلى كشف المؤامرة؟ إن الأمير الشاذلي لم يقل شيئا حول كل هذا.
واكتفى بقوله: كان البائع «العاشوري» متصلا بالأميرة، واتفق معها بأن يسلمها السم يوم الخميس حوالي الساعة الخامسة، فأعلمت الدكتور مامي عن طريق طفلة صغيرة، فخاطب الدكتور أخي محمد بالتليفون، وذهبا سويا إلى الأميرة، وكان «العاشوري» هناك فسأله أخي: «أين السم»، فأشار «العاشوري» إلى صدره، فخلعت ملابسه وعثرت على قرص صغير لونه وردي، وكذلك جواز مرور بإمضاء الجنرال «جارباي» يصرح «للسيد العاشوري الموظف لدى سمو الصادق باي أن ينتقل بكل حرية في البلاد التونسية»، وتاريخ تلك الوثيقة هو 20 فبراير (1952). - هل حققتم معه؟ - لم أره إلا مدة خمس دقائق، ولكنه ذكر كل ما يعرف لأخي، ويبدو من كلامه أن أشخاصا آخرين من القصر يشاركونه في المؤامرة؛ ولذلك أطلقنا سبيله. - لماذا لم تسلموه للبوليس؟ - كان قد وعدنا بالعودة في الغد في الساعة الثانية بعد الظهر ومعه جميع المعلومات الخاصة بالمؤامرة، ولكنه لم يعد، والبوليس يبحث عنه ولم يعثر عليه بعد، فإذا اعتقل اعتقد أنه سيفصح عن كثير من الأمور. - هل ذكر لكم من سلمه السم؟ - لا أستطيع أن أذكر لك أي اسم، لقد سلمنا هذه القضية للعدالة، ونحن نحتفظ بالسر حتى يمكن اعتقال كل المتآمرين. - هل ذكر أسماء أشخاص فرنسيين؟ - نعم! نعم! - أسماء خطيرة؟ - إنها ... أسماء فرنسيين، لا أريد أن أكاشفكم بشيء، ولكني أؤكد لكم أنها مسألة خطيرة. - ما الذي دعا العاشوري إلى إعلامكم بكل شيء؟ - لقد دفعه الخوف، ولكني لا أستطيع أن أخبرك بأكثر من هذا ، فالبوليس بأيدينا ... قد ينكشف ذلك يوما ما ويعلم الناس الحقيقة، فهناك على الأقل خمسون شخصا شاركوا في المؤامرة، فلماذا أبوح بالأسماء الآن، لقد قلت كل شيء لقاضي التحقيق، كما ذكر له أخي والأميرة «رقية» كل ما يعرفان. - لماذا أطلقتم سراحه؟ - لقد ذكرت لكم السبب؛ أن البوليس ليس بأيدينا. - وضرب الأمير الشاذلي مكتبه بالمسطرة التي كانت بيده في حركة جافة. - هل قال لكم أن أحدا دفع له مالا؟ - لم يقل لنا شيئا، ولكنه أشار إلى بعض الشهود أنه سيستلم خمسة أو عشرة ملايين. - ماذا كان يحدث لو سلمتوه للبوليس؟ - إنه الآن هارب. ولكني لا أبحث عنه هو، إني لا أهتم إلا بأمر واحد، وهو أننا أنقذنا حياة صاحب الجلالة واتخذنا بعض الإجراءات بالقصر، ولكني أعلم الآن أساس المؤامرة، وليس من شأني أن أصرح بذلك، وإنما هو شأن العدالة الفرنسية. - أصحيح أن الكيماوي الذي أتيتم به وعرضتم عليه السم فقد وعيه بعد أن ذاقه؟ - صحيح لقد وضع منه جزءا بسيطا صغيرا على شفتيه وإذا به يسقط فاقد الوعي. - لقد وقع تكذيب هذا الأمر. - إنني أقول لك إنه صحيح، غير أن الصحف لا تستطيع أن تقول شيئا هنا بسبب الرقابة؛ ولذا وقع التكذيب، لقد سقيناه قهوة لكي يعود إلى رشده. - كيف تفسرون الوقائع؟ - فابتسم الأمير الشاذلي وبدا له السؤال سخيفا إلى أقصى حد؛ إذ لم يكن يستطيع ولا يريد أن يجيب عليه، ونزلت المسطرة على زجاج المكتب ثم قال: إننا ننتظر، فالأمر بيد العدالة.
ولما سألناه عن انتحار الياور السابق لجلالة الباي الذي أصبح ياور الوزير الأول قال: كان أخوه صديقا للعاشوري، وكان هو يردد ليلة موته: «كل الناس تحدثني دائما عن حادث التسميم، إني ليس لي أي شأن بالموضوع، إنه أخي.» ومهما يكن من أمر لقد دفن الآن ... لقد قيل إنه انتحر بطلقتي مسدس، أليس ذلك صعبا؟ وعلى كل لقد قيل إنه «انتحر».
ويبدو من الوقائع الملموسة أن التسميم كان سيتم على النحو التالي:
العاشوري يسلم السم إلى الأميرة «رقية» التي تسلمه إلى مساعد الطباخ، ومساعد الطباخ يتولى مع الشاويش مختار خادم جلالة الباي على المائدة وضعه في طبق جلالته، وقد أطرد الشاويش مختار وكذلك مساعد الطباخ.
أما القرص الوردي - ويقال إنه من مادة الأكونيتين - فقد أرسل نصفه إلى باريس للتحليل، وبقي النصف الثاني بأيدي العائلة الملكية.
وختم الأمير الشاذلي حديثه بقوله: «إننا نثق بالعدالة الفرنسية، فلننتظر، ولكن يجب ألا يقال إنها خرافة شرقية.»
ونزلت المسطرة مرة أخيرة على المكتب تصحب نزولها ابتسامة انتهى على أثرها الحديث.
وتروج الآن إشاعات متعددة في تونس لا يمكن التأكد من صحتها، فإذا قبلناها أصبح كلام الأمير الشاذلي واضحا غاية الوضوح، والرأي السائد أنه اعتداء ذو صبغة سياسية، فقد قيل إن العاشوري الذي هرب في نظر بعض الناس واغتيل أو سجن في بعض البيوت في نظر غيرهم، كان الوسيط بين مدبري المؤامرة، ويهمس الناس بأن مدبري المؤامرة هم موظفون عالون في الإقامة العامة، وبعض أفراد العائلة الملكية الذين تهمهم وراثة العرش.
ويقال إنها مؤامرة سياسية؛ لأن الأمير عز الدين والأمير الصادق وهما خليفتا الأمين باي حسب قاعدة الوراثة المعمول بها لا يمكن أن يقاوما السياسة الفرنسية في تونس.
والعاشوري كانت له صلة بالأمير الصادق الذي تربطه به، وكذلك بالأميرة «رقية» ميلهم للشعوذة وعلوم السحر، غير أن العاشوري الذي استند إلى علاقاته ليعلم الأميرة «رقية» بالمؤامرة كان يجهل إنها تعترف منذ عهد حديث بجميل الأمين باي عليها، فقد أبدت له استعدادها للمشاركة في المؤامرة؛ لكي تستطيع كشفها بسهولة.
وعلى كل فإنه باعتقال العاشوري وهو أمر مستبعد - حسب الرأي السائد هنا - ينكشف كل شيء حول هذه القضية الغامضة ويتبين أساسها.
ي،
الإصلاحات المرفوضة
(1) رفض الإصلاحات الفرنسية المزعومة
لم تسجل قضية تونس في جدول أعمال الأمم في اجتماعها بباريس 51 / 1952 ولم يقبل مجلس الأمن المناقشة فيها عندما اجتمع بنيويورك في أبريل 1952، ولكن الحكومة الفرنسية كانت تخشى الجلسة العامة لهيئة الأمم التي ستعقد جلستها بأمريكا في شهر ديسمبر 1952، فسعت في أن تسابق الزمن بحل المشكلة التونسية حلا ترضاه وتصبو إليه، فتضع الرأي العام العالمي أمام الأمر المقضي؛ إذ تقيم الدليل له على أن المفاوضات بين تونس وفرنسا قد استؤنفت، بل أثمرت ثمرتها وأنتجت خير نتيجة وتم الاتفاق وساد الوئام وصدرت الإصلاحات كما تريدها فرنسا ، ونفذت وقضى الأمر ولم يبق لتدخل الأمم المتحدة مبرر أصلا.
وبعد أن استعصى تشكيل اللجنة المختلطة فماتت قبل أن تولد ودفنت وقبرت، لم يبق إلا أن تفرض الحكومة الفرنسية ما تريده على جلالة الملك بالقوة، وما كونت جو اضطهاد وإرهاب إلا لذلك الغرض، ولكن الشعب بالمرصاد، متماسك القوى، متراص الصفوف، كله يقظة وحذر، مستعد لرد هجمات الاستعمار في كل ميدان، حتى لا يزيد استفحالا واستعصاء عن كل معالجة، ولكي لا يتمكن من إعطاء اعتداءاته صبغة قانونية تجعل اغتصابه حقا مشروعا، ولكي يبقى الحق حقا والظلم ظلما، واليقظة واجبة والحذر ضروري؛ لأن ساعة غفلة تقضي على مستقبل البلاد.
وإن نظرة خاطفة للتحويرات التي أرادت فرنسا فرضها، كافية لكشف الغايات الفرنسية وجوهر الاستعمار الفرنسي نفسه.
وقد عددت الدعاية الفرنسية أبواقها وبثت أخبارها ونشرت في العالم دويها وجلبتها، وأكثرت من التصريحات وملأت الدنيا بالبلاغات والبيانات تكرر وتعيد أن فرنسا ستعطي لتونس الترضيات اللازمة وستحقق لها رغباتها وستحل مشكلتها بمنحها إصلاحات جوهرية تضع حدا نهائيا للخلاف، وأخيرا ختم وزير خارجية فرنسا نفسه تلك الحملة بخطاب
1
ألقاه في المجلس الوطني الفرنسي شرح فيه تلك الإصلاحات وما ترمي إليه، ونبه على أنها لا تمس بالسلطان الفرنسي والمصالح الفرنسية، وأراد الدفاع عن نفسه أمام الرأي العام الفرنسي، فافتضح أمره وأقر أنه سيحافظ على الاستعمار وما فيه، قال: «ونرى لزاما أن نذكر من مبدأ الأمر أن البرنامج المرتقب لن يؤثر بأي حال في الحقوق التي تكفلها المعاهدات لفرنسا والتي تحرص على الاحتفاظ بها ضمانا لمصالحها العليا، وفي الوقت ذاته لمواجهة تبعاتها الدولية، ففي هذا النطاق المحدود تدخل بنوع خاص مسائل الدفاع الوطني والأمن الداخلي الذي تقع مهمة المحافظة عليه على كاهلنا بمقتضى الاتفاقات الجارية، والتي تقضي الضرورات أن تكون من اختصاصنا المعترف به في نطاق الشئون الخارجية، وكذلك الاحتفاظ بالقضاء الفرنسي الذي لا يتمتع بحمايته الفرنسيون فحسب، بل جميع من كان يطبق عليهم نظام الامتيازات، وأيضا الشئون المالية التي تتضمن المعاهدات شروطا خاصة بها.»
ثم إن الوزير عرض على المجلس الوطني الفرنسي فحوى ما سماه إصلاحات.
2
أن مشروعه هذا كما هو معروض يعتبر اعتداء خطيرا على السيادة التونسية بفرض مشاركة أفراد الجالية الفرنسية بتونس، وهي جالية أجنبية في ممارسة هذه السيادة، ثم إن هذا المشروع يناقض مبدأ الحكم الذاتي الذي يعلنه سواء ذلك في شئون الحكم أو التشريع أو الإدارة العمومية. (2) الحكم
يقتضي المشروع بأن تبقى الحكومة التونسية مختلطة، فتتألف من سبعة وزراء تونسيين يتولون الوزارات التقليدية وسبعة فرنسيين يشغلون المراكز الرئيسية في الإدارة التونسية، وهي الكتابة العامة والمالية والأشغال العمومية والمعارف العمومية وإدارة البريد والتليفون والتلغراف، وإدارة التعمير، ومنصب مساعد الكاتب العام. أما مصالح الأمن العام فهي موضوعة مباشرة تحت سلطة ممثل فرنسا المقيم العام الفرنسي في تونس، وهو المتصرف المطلق في شئون الأمن العام الذي لا يدخل في اختصاصات الحكومة التونسية إطلاقا.
ويقضى المشروع من جهة أخرى بتعيين مساعدين تونسيين للمديرين الفرنسيين، مع العلم بأن مناصب المساعدين موجودة حاليا بالنسبة لبعض الإدارات مثل إدارة المعارف العمومية، على أن أولئك المساعدين مجردون من السلطات الحقيقية، ولا يكون لهم من الصلاحيات إلا بقدر ما يعترف لهم به رؤساؤهم الفرنسيون. (3) التشريع
أعلن جلالة الباي في خطاب العرش في ذكرى جلوسه يوم 15 مايو 1951 عزمه على منح الشعب مجلسا تشريعيا يتألف من التونسيين فقط وينتخب أعضاؤه انتخابا ديمقراطيا، وله سلطة تفاوضية، وتكون الحكومة التونسية المؤلفة من تونسيين وحدهم مسئولة لديه.
وترمي فرنسا بمشروع الإصلاحات الذي تعتزم فرضه على جلالة الباي إلى الحيلولة دون تنفيذ إرادة الملك في إقامة أنظمة ديمقراطية في البلاد تتلاءم مع تطور الشعب التونسي؛ ذلك أن المشروع الفرنسي يهدف إلى إنشاء مجلسين تتعارض صبغتهما تعارضا واضحا مع أبسط مبادئ الديمقراطية وتقر نظام السيادة المزدوجة المنافي للقانون.
أما المجلسان فهما: (أ)
مجلس تشريعي يتألف من ثلاثين عضوا تونسيا يعينهم جلالة الباي ولجلالته أن يستشيرهم في بعض لوائح القوانين. (ب)
مجلس مختلط نصفه من التونسيين ونصفه من الفرنسيين، وينظر في جميع شئون الميزانية والشئون الاقتصادية والاجتماعية، وتقوم مشاركة الفرنسيين في هذا المجلس دليلا على نظام السيادة المزدوجة.
وإذا كان جلالة الباي يحتفظ (في المشروع الفرنسي) بالسلطة التشريعية نظرا لأن القوانين في تونس تصدر في شكل مراسيم ملكية، فالحقيقة هي أن تلك السلطة إنما هي سلطة صورية، لأن ممثل فرنسا محتفظ بامتياز فظيع يخول له حق إعطاء تلك المراسيم الصفة التنفيذية؛ إذ لا تكون نافذة إلا مشفعة بإمضائه.
وبهذا يتضح جليا أن الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس التشريعي وهم من التونسيين فقط إنما تعينهم فرنسا في الواقع؛ إذ إن أمر تعيينهم يخضع لموافقة ممثل فرنسا المقيم العام بتونس ليكون نافذا.
وخلاصة القول: إن المظاهر الأساسية للسيادة التونسية التي يحتفظ بها جلالة الباي مقضي عليها بالتلاشي؛ بسبب ما للمقيم الفرنسي من سيطرة على حياة البلاد التشريعية. (4) الإدارة العمومية (أ)
تبقى الإدارات التي يسيرها الوزراء التونسيون خاضعة لسلطة المقيم العام خلافا للمزاعم التي تضمنها المشروع الفرنسي؛ ذلك أن المقيم العام يملك حق التعقيب على جميع القرارات الوزارية بإحالتها إلى محكمة أطلق عليها «المحكمة الإدارية»، وقد أسندت رئاستها لفرنسي، وبها أربعة أعضاء من الفرنسيين وأربعة من التونسيين، وبهذا الحق الذي يملكه المقيم الفرنسي، مضافا إلى الأغلبية الفرنسية في المحكمة المذكورة يتعذر تنفيذ أي عمل يعتزمه الوزراء التونسيون؛ لأن أعمالهم تكون تحت رحمة السلطات الفرنسية، وعلاوة على ذلك فإن الأحكام التي تصدرها تلك المحكمة يمكن استئنافها لدى محكمة استئنافية مقرها في فرنسا وتتألف هي أيضا من أغلبية من الفرنسيين، وهكذا تظهر سياسة الازدواج التي تسلكها فرنسا في إلحاق محكمة تونسية بمؤسسة فرنسية مقرها فرنسا. (ب)
يقضي نظام أية دولة عصرية بأن يشغل الأهالي وظائف بلادهم، كما يقضي بأن تكون لغتهم هي اللغة المتداولة في الإدارة، غير أن المشروع الفرنسي ينكر هذه المبادئ الأولية، ويفرض على التونسيين المرشحين للوظائف العليا والوظائف الرئيسية بالإدارة اللغة الفرنسية كمادة أصلية في الامتحانات التي تجرى لانتخاب الموظفين، وذلك في بلاد لغتها العربية، وهذا الشرط يضاف إلى القائمة الطويلة من الوظائف المخصصة للفرنسيين والتي تحرم التونسيين من جميع المراكز ذات الأهمية في إدارة بلادهم.
يتضح من البحث السابق أن مشروع الإصلاحات الفرنسية يعزز - لا أكثر ولا أقل - السياسة الاستعمارية الفرنسية التي تهدف إلى اعتداء مطرد على السيادة التونسية، وتتجاهل تجاهلا تاما الرغائب المشروعة للشعب التونسي في السيادة الكاملة والاستقلال.
إن الشعب التونسي قد رفض جميع الإصلاحات الفرنسية المضللة، وهو يتحمل منذ أكثر من تسعة أشهر ما تسلطه عليه السلطات الفرنسية من ضروب العسف والإرهاق التي يقابلها بمقاومته الباسلة وهو ثابت في عزمه على استرجاع استقلاله.
وإن فرنسا التي توالي خرق ميثاق هيئة الأمم المتحدة تتقدم بمشروع إصلاحات من شأنه - لو قبل - أن يدعم على أسس قانونية الحكم المباشر وسياسة إبادة السيادة التونسية، وهي تهدف بذلك المشروع إلى تضليل الرأي العام العالمي عن حقيقة نواياها التي تتسم بأشد النزعات الاستعمارية تأخرا ووحشية.
ورأى الرأي العام التونسي ما يهدده من خطر بمجرد ما اطلع على مشروع الحكومة الفرنسية، وعقد نواب جميع المنظمات القومية اجتماعا لبحثه فرفضوه بالإجماع، وبينوا في لائحة نشروها أسباب الرفض، وهذا نصها:
لائحة
الحزب الحر الدستوري الجديد.
الدستور القديم.
الاتحاد العام التونسي للشغل.
الاتحاد العام التونسي للفلاحة.
الاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة.
الغرف الاقتصادية (الزراعية) (التجارية).
اتحاد المحامين.
اتحاد الأطباء.
اتحاد الصيادلة.
اتحاد المهندسين.
جميع المنظمات الرياضية والثقافية.
إن الموقعين أدناه ممثلي المنظمات القومية التونسية السياسية والنقابية والمهنية والصناعية والغرف الاقتصادية والمهن الحرة.
بعد أن اطلعوا على البيانات التي أفضى بها أمام الجمعية العمومية (مجلس النواب) وزير الخارجية الفرنسية حول مشروع الإصلاحات الذي تنوي فرنسا تطبيقه في تونس.
يرون أن هذا المشروع لا يعدو أن يكون مماثلا من جميع النواحي للمشروع الذي صدر بصدده بلاغ الإقامة العامة بتاريخ 2 أبريل الماضي، والذي قد سبق أن اعتبر غير مقبول من قبل عموم الرأي العام التونسي.
وأنه: (1)
يقر أسلوب السيادة المزدوجة؛ إذ إنه يقضي بإشراك الفرنسيين بصورة إجبارية في جميع المؤسسات السياسية في البلاد، ويشركهم في ممارسة السياسة ممارسة فعلية. (2)
يعلن من جهة مبدأ الاستقلال الداخلي ويخالفه من جهة أخرى في الميادين الثلاثة التالية: السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية، والإدارة العمومية، وذلك: (أ)
بالإبقاء على المناصفة في داخل الحكومة التونسية؛ حيث لا يزال الفرنسيون يحتلون ستة مناصب من بينها المناصب الرئيسية التالية: السكرتارية العامة، والمالية، والأشغال العامة، والمعارف، ويضاف إلى ذلك الأمن العام التابع إلى الإقامة العامة مباشرة. (ب)
بالإبقاء على تأشيرة المقيم العام على المراسيم الملكية، وحق طلب وقف التنفيذ الممنوح للمقيم العام ضد أعمال الوزراء والإصلاح الوهمي للمجالس النيابية التي تبقى معينة تعيينا وذات اختصاصات استشارية بحتة. (ج)
بالإبقاء على جميع الاستثناءات والتضييقات لمبدأ وظيفة عمومية تونسية (قائمة المناصب المخصصة للفرنسيين، هيئات التحكيم المشتركة الخاصة، المناظرات، جعل الامتحانات باللغة الفرنسية في الوظائف العليا والرئيسية، استمرار تعيين موظفين فرنسيين بطريقة الإحالة ... إلخ). (د)
بإحداث محكمة إدارية مختلطة ذات رئيس فرنسي تكون آلة في يد المقيم العام ليشدد استحواذه على إدارة البلاد. (3)
لا يحقق أي تقدم بالنسبة للوضع الحاضر في ميدان التطور الديمقراطي للمؤسسات التونسية؛ إذ إنه فيما يتعلق بالمجلسين المقترح إحداثهما أن - أحدهما لا يعدو أن يكون صورة أخرى للمجلس الكبير - لا مبدأ الانتخاب ولا سلطة التقرير. (4)
يقدم كإنشاءات جديدة بعض المؤسسات الموجودة بالفعل في الوقت الحاضر ... مناصب مساعدين تونسيين لمديري الإدارات الفرنسيين (مثل إدارة المعارف، والاقتصاد، والصحة. وقد وجدت منذ سنة 1946)، ومجالس الأعمال (المقاطعات) المنتخبة المؤسسة سنة 1921 والتي وقع العدول عنها فيما بعد. (5)
يقدم من جديد المشروع الموضوع تحت الدراسة منذ سنة 1944 والخاص بالمجالس البلدية المنتخبة مع مبدأ التمثيل الثنائي في المدن الكبرى.
هذا وبما أن مثل هذا المشروع يعتبر دون الحد الأدنى الذي يطالب به التونسيون لتسيير شئونهم بكثير.
وبما أن حسن الاستعداد والاعتدال الذي أبداه التونسيون طيلة مدة المفاوضات التي بدأت في شهر أغسطس سنة 1950 لم تقع مقابلتها بالمثل.
وبما أن الحكومة الفرنسية بعكس ذلك قابلت ذلك الموقف بمذكرة 15 ديسمبر وبسياسة البطش التي بدأت في شهر يناير 1952.
فإنهم يعتبرون مشروع الإصلاحات الوهمية المعروضة من قبل الحكومة الفرنسية، إذا وقع تنفيذه في الظروف الحالية سيعتبر بناء على هذه الملابسات من الناحيتين القانونية والواقعية مفروضا فرضا على الملك وعلى الشعب التونسي، ولن يأتي بأي حل صحيح لأزمة العلاقات الفرنسية التونسية.
ويضعون ثقتهم في جلالة الملك لتحقيق أماني الشعب التي تتفق مع الرغبة السامية المعلنة في مناسبات عديدة وخاصة في خطاب العرش في 15 مايو 1951 ومع مصالح البلاد وسيادتها ضد كل التهديدات التي تتعرض لها.
ويناشدون الضمير العالمي لإيجاد حل للنزاع الفرنسي التونسي على أساس العدالة والقانون الدولي المتمثلين في ميثاق الأمم المتحدة.
لما رأت الحكومة الفرنسية أن مكانة «دي هوتكلوك» في البلاد غير مكينة، وأنه لا يتمتع بثقة الملك، بل التوتر بينهما يقوي ويشتد، أرادت أن تتلافى الأمر بأسلوب زاد الطين بلة، والهوة اتساعا؛ إذ أضافت ضغطها إلى ضغط المقيم، وسعت في إجبار الملك على قبول الإصلاحات المزعومة، وذلك برسالة بعث بها رئيس الحكومة الفرنسية إلى الملك قال فيها:
سري
باريس في 4 يوليو 1952
رئاسة مجلس الوزراء
الرئيس
مولاي
بمناسبة عودة «السيد دي هوتكلوك» إلى تونس ممتعا بالثقة التامة للحكومة، أرغب بأن أكلفه برسالة شخصية إلى سموكم.
إن مشروع الإصلاحات الذي سيعرضه المقيم العام على خاتمكم السامي قد نال تصديق مجلس الوزراء وعرض على البرلمان فدلت الآراء التي أبديت في اتجاهات مختلفة أثناء المناقشات أن الإصلاحات تعد شوطا بعيدا جدا في طريق التحرر.
وبناء عليه فإن جلالتكم بفضل سامي حكمتكم سترى بدون شك أنها لا يمكنها تأجيل قبولها لهذه الإصلاحات التي تتفق اتفاقا تاما مع روح معاهدة «المرسى».
لذلك فإن الحكومة الفرنسية تضع ثقتها في جلالتكم، وهي واثقة أن ختم هذه الإصلاحات المختلفة سوف تدل على استمرار علاقات الود والصداقة بين فرنسا والأسرة الحسينية وتكون بداية عهد جديد يسوده الهدوء والرفاهية.
وأرجو يا صاحب الجلالة أن تتفضلوا بقبول عبارات خالص شعوري وفائق تقديري.
رئاسة مجلس الوزراء
أ. بينيه
إلى جلالة سيدي الأمين باشا باي
صاحب المملكة التونسية
المناورات الفرنسية المفضوحة
لقد أصبحت الإقامة العامة هي المصدر الوحيد الذي تستقي منه الصحافة المحلية والعالمية أخبارها، بعد أن فرضت الرقابة الشديدة على جميع الصحف، وكمت الأفواه ، وقضت على حرية القول والفكر، فأبعدت عن طريقها كل مساجل، وأزالت كل منافس، فخلا لها الميدان، وأخذت إذ ذاك تنشر ما بدا لها مما يماشي رغباتها، ويسهل عليها بلوغ غاياتها، رامية إلى وضع الملك في مأزق حرج، وإلزامه بالأمر الواقع، فنسبت إليه أقوالا لم يفه بها وتعهدات لم يقبلها.
ودأبت المقامات الفرنسية منذ الانقلاب المسلح الذي قام به المقيم العام في 26 مارس 1952 فأقصى وزارة السيد محمد شنيق عن الحكم، تنشر أنباء مضللة تزعم فيها أن جلالة محمد الأمين الأول متفق مع الحكومة الفرنسية في جميع الخطوات التي أقدمت عليها بواسطة ممثلها بتونس، ومنها إقصاء الحكومة التونسية الشرعية، وتنصيب وزارة البكوش، وإدخال إصلاحات على نظام الحكم في البلاد طبقا لمبدأ السيادة المشتركة الذي تضمنته مذكرة الخارجية الفرنسية في 15 / 12 / 1951، تلك المذكرة التي انقطعت بسببها المفاوضات بين تونس وفرنسا.
وكانت فرية من ذلك القبيل ما زعمه ممثل فرنسا في مجلس الأمن أثناء إثارة القضية التونسية في أبريل 1952، كما كانت من ذلك القبيل أيضا المزاعم التي رددتها المقامات الفرنسية بمناسبة طلب الكتلة العربية الآسيوية عقد دورة خاصة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وما أشاعته في الدوائر الدبلوماسية من أن المفاوضات بين تونس وفرنسا مستمرة، وإن جلالة ملك تونس قبل الإصلاحات التي عرضتها عليه الحكومة الفرنسية.
وقد نبهت صحف فرنسا «دي هوتكلوك» إلى وجوب الاقتصاد في الكلام وعدم الإفراط في التبجح بالشدة والضغط، فكتبت جريدة «لي بويلير» في 25 / 7 / 1952:
ومن صالح الإقامة العامة أن تبدو أكثر تحفظا فيما يتعلق بالتلميح إلى الضغط الذي قد يستهدف له الباي، وأن ميل الأمير الشاذلي نجل الباي الأكبر للحزب الدستوري الجديد معروف، وممكن أن يكون له أحيانا أثره على سياسة القصر، ولكن الباي لم يقص وزارة شنيق مثلا تحت تأثير ابنه الأكبر أو تحت تأثير الرأي العام.
ولكن المقيم العام لم يعمل بتلك النصيحة، بل ادعى أن جلالة الملك كلف وزارة البكوش ببحث الإصلاحات التي قبلها مبدئيا، واجتمع مجلس الوزراء التونسي بالفعل وأخذ في بحثها وإدخال بعض التحويرات التافهة الجزئية عليها ، ولم يكتف المقيم بادعائه ذلك، بل نشر مزاعمه على الصحف التي تناقلتها، فكتبت جريدة «الفيجارو» في 27 / 7 / 1952:
إن الباي نسي أنه علنا وفي عدة مناسبات أيد مشروع الإصلاحات، وأنه منح وزيره الأول السيد بكوش حق مناقشة وسائل التنفيذ، فهو اليوم يخضع لتأثير حاشيته.
ثم سافر الكاتب العام الفرنسي «بونص» إلى باريس لعرضها في قالبها الجديد على الحكومة الفرنسية، وأخذ موافقتها عليها، وذلك ما قالته الصحافة، فكتبت جريدة «كومبا» في 26 / 7 / 1952:
قيل لنا إن مسيو «بونص» سيلحق بمقر عمله يوم الأحد حاملا النصوص التي أعدها المختصون بوزارة الخارجية والوزراء الذين يهمهم الأمر، ويقال إن بعض التعديلات التي قدمتها وزارة بكوش قد أقرت، وأن هذا من شأنه أن يسهل الاتفاق على الأقل مع الوزارة الحالية في تونس.
كل تلك الحركة والأسفار والتصريحات والأخبار والجلبة والضوضاء لم يطلع عليها الذي يهمه أمرها قبل غيره، وهو جلالة الملك، فلم يتصل بنصها، فرأى من اللائق أن يعلم بذلك رئيس الجمهورية الفرنسية وأن يرجع الحقيقة إلى نصابها، فأرسل إليه البرقية التالية.
تونس في 22 يوليو 1952
برقية عاجلة
حضرة رئيس الجمهورية الفرنسية
باريس
لقد سلم لي حضرة السفير المقيم العام خطابا بتاريخ 4 يوليو 1952 من رئيس مجلس الوزراء الفرنسي يعلمنا فيه أن لوائح مراسيم الإصلاحات ستسلم لنا قريبا، ومن ذلك التاريخ نشرت بلاغات صحفية تفيد أننا صادقنا على تلك الإصلاحات، وأننا منحنا الوزير الأول سلطات واسعة لدراستها، ثم عقد مجلس الوزراء كثيرا من الاجتماعات درست في أثنائها المشاريع المذكورة، وأخيرا سافر المسيو بونص السكرتير العام للحكومة التونسية يحمل تعديلات لتلك الإصلاحات لعرضها على الحكومة الفرنسية.
وإننا نعجب من مثل هذا السلوك نحونا؛ إذ لم تصلنا إلى اليوم لوائح الإصلاحات ولم نمنح أي تفويض للوزير الأول بشأنها ولا لمجلس الوزراء الذي له مهمة إدارية بحتة، أما سفر السكرتير العام ، فقد تم بغير علمنا.
ونوجه أنظاركم السامية إلى هذه الحالة.
محمد الأمين الأول
أظهرت تلك البرقية أن الأزمة التونسية ما زالت على أشدها ووضعت حدا لمفتريات السلطات الفرنسية، وبينت جريدة «فران تيرور» ما نتج عن ادعاءات الإقامة العامة والسياسة العنيفة التي تتبعها، قالت في 26 / 7 / 1952:
إن رفض الباي التصديق على الإصلاحات قد يضع فرنسا في موقف حرج أمام الأمم المتحدة.
وتجتاز الأزمة التونسية من جديد فترة صعبة.
لقد حاول دي هوتكلوك أن يبقى الخبر سرا، وأن رسالة سيدي الأمين إلى مسيو فنسان أوريول التي يصرح له فيها أنه لم يجد متسعا من الوقت للاطلاع على مشروع الإصلاحات قد أبقيت عدة أيام بدار السفارة الفرنسية في تونس.
وأن احتجاج الباي يسدد فعلا ضربة شديدة للسياسة التي اتبعها مسيو دي هوتكلوك منذ وصوله إلى تونس، ألم يقل المقيم العام ويصرح بعد أن سجن أعضاء وزارة شنيق أنه أجاب رغبات الباي الخفية؟ أولم يقل فيما بعد أن وزارة بكوش تتمتع بتأييد سيدي الأمين المطلق؟ وقد لازم سوء الحظ مسيو دي هوتكلوك، ولازم الحكومة أيضا، ويتحمل مسيو روبير شومان نفس المسئوليات التي يتحملها المقيم، وليس لمسيو بيني أي عذر في تركه الأمور تجري بدون أن يتدخل.
فلم يبق للحكومة الفرنسية ولمسيو دي هوتكلوك إذا أرادوا أن يواصلوا سياستهم التي اتبعوها إلا أن يقصوا الباي كما أقصوا السيد شنيق، ألم يعرض مسيو دي هوتكلوك هذا الاقتراح على مسيو إدقارفور.
وقد كلف جلالة الملك نجله الأكبر بالإدلاء بتصريحات لوكالة الأسوشيتيد بريس يوضح فيها حقيقة الموقف من وزارة بكوش ومشروعات الإصلاحات الفرنسية وهذا نصها:
تفضل الأمير الشاذلي باي النجل الأكبر لجلالة ملك تونس والذي كان يشغل منصب رئيس الديوان الملكي، وقد كثر الحديث عنه في الأشهر الأخيرة، فأدلى إلينا بالتصريحات التالية:
أعلنت الحكومة الفرنسية عن مشروعات الإصلاحات التي تعتزم منحها لتونس، وجاء هذا الإعلان بعد عدة أشهر استغرقتها المناقشات حولها في مجلس الوزراء والمؤتمرات الدولية ودوائر شمال أفريقيا، وبعد مشاورات بين الجزائر والرباط، بيد أن جلالة الباي لم يستلم تلك المشروعات حتى يستطيع الرد على الحكومة الفرنسية برفضها أو قبولها.
وقد أعلن جلالته في أثناء الحديث الأخير الذي جرى بينه وبين المقيم العام أنه خادم الشعب التونسي وأنه يقبل تلك الإصلاحات إذا قبلها الشعب ويرفضها إذا رفضها.
وجلالته لم يكلف البكوش بالبحث في الإصلاحات المذكورة، وهذا الوزير لا يتمتع بثقته ووزارته كلها فرضت بقوة الجيش، وقد رفض جلالة الباي مثلا استقبال الوزير الأول في يومي 14 يوليو و15 يوليو سنة 1952، وعلاوة على ذلك فإن دي هوتكلوك كان يقول عند تأليف الوزارة الحالية إنها وزارة إدارية وليست وزارة مفاوضات.
ومهما يكن من الأمر فإن الإصلاحات المذكورة تعتبر خطوة إلى الوراء ولا تحقق أي تقدم نحو الاستقلال الداخلي وتقر السيادة المشتركة، فهي تبقي الازدواج في الحكومة وتترك مراكز أساسية للفرنسيين مثل المالية والتعليم العمومي وغيرهما ... ثم إن مصلحتين مهمتين وهما مصلحة مراقبة الموظفين ومصلحة مراقبة الحسابات قد أقصي عنها التونسيون، ويحتفظ مدير المال في هذه الإصلاحات بحق مراقبة المصروفات، وهو يعين في كل إدارة أو وزارة مراقبين تابعين له يتصرفون بمطلق الحرية، وهؤلاء المراقبون يرفضون بوصفهم فرنسيين الامتثال لأوامر الوزراء التونسيين، وإذا حدث أنهم امتثلوا لأمر وزير فيهم يخبرون مدير المال بعدم موافقتهم على ما اقترح صرفه، فيقوم مدير المال بالمساعي اللازمة لإلغاء مقترحات الوزير. وكذلك تقضي المشروعات المذكورة ببقاء «الأمن» خارجا عن سلطة الحكومة التونسية، والحال أن حكومة بدون «بوليس» تكون تحت رحمة مختلف أنواع المناورات، وحكومة هذا شأنها لا تستطيع القيام بمهام الحكم.
وفي معاهدة «باردو» عهد لفرنسا بالسهر على الأمن في الحدود والسواحل لا غير، وقد كانت مصلحة الأمن قبل سنة 1939 تابعة للسكرتارية العامة للحكومة التونسية تحت سلطة الوزير الأول. (5) المحكمة الإدارية
جعلت الحكومة الفرنسية من هذه الهيئة محكمة فرنسية تراقب أعمال الإدارة التونسية وتعتبر المحكمة الاستئنافية التابعة لها والتي مقرها باريس تابعة لفرنسا أيضا، وقد سبق لجلالة الباي أن رفض مثل هذا «الإلحاق» في مذكرة سلمها للمقيم العام (الأسبق) مونص ووجود المحكمة المذكورة تمكن المقيم العام من إلغاء جميع قرارات الوزراء التي لا يرتاح لها المقيم العام، ومعنى ذلك بقاء العمل بتأشيرة المقيم.
ولا ينبغي أن نغفل أن إسناد رئاسة المحكمة لفرنسي يجعل الأغلبية فيه فرنسية. (6) المجلس الاقتصادي
وفي هذه الهيئة تعتبر القرارات لاغية لقيامها على مبدأ السيادة المشتركة.
والمسألة لا تعدو أن تكون شطر المجلس الكبير السابق إلى شطرين.
والشطر الآخر هوج. (7) المجلس التشريعي
الذي لا يؤلف بالانتخاب العام خلافا للمجلس الكبير السابق، وتحتم أن تحمل قراراته تأشيرة المقيم العام فلا اختصاصات له إطلاقا. (8) الوظائف العمومية
لا تنطوي المشروعات في هذا السبيل على أية خطوة تقدمية؛ إذ تبقى أبواب الوظائف العليا والرئيسية مثل المالية والأمن موصدة في وجه التونسيين، وبالإضافة إلى ذلك فإن مواد الامتحانات مماثلة لمواد الامتحانات في فرنسا، ويتولى التحكيم فيها لجان مختلطة، ومن جميع ما تقدم يتضح أن الإصلاحات لن تحدث صدمة «بسيكولوجية».
ويستمر الفرنسيون المقيمون بتونس وفقا لما جاء في رسالة 15 ديسمبر المشهورة في المشاركة في المنظمات السياسية والإدارية للملكة التونسية، والحال أن النزاع بين تونس وفرنسا نشأ عن تلك الرسالة.
ثم تحدث الأمير الشاذلي باي عن احتفالات 14 يوليو وما قيل من انتداب ولي العهد الأمير «عز الدين» ممثلا لجلالة الباي فقال:
إني أكذب تكذيبا قاطعا مثل هذا الانتداب؛ فقد جرت العادة أن يمثل الباي أحد أبنائه في الاحتفالات الرسمية التي لا يحضرها بنفسه، وقد قيل إن المقيم العام بعث برسالة شكر للباي بمناسبة 14 يوليو، وهو أمر لا أساس له من الصحة، ولا وجود لمثل هذه الرسالة.
ثم استطرد الأمير الشاذلي باي يتحدث عن مساعي وزارة البكوش الحالية بشأن الإصلاحات، فأكدنا تأكيدا جازما بأنه ليس هناك وزير واحد يتمتع بثقة جلالة الباي، وحتى «بلخيرية» وزير الدولة الذي قيل عنه إنه دافع بقوة في أثناء المباحثات الأخيرة عن بعض وجهات نظر الوزارة السابقة.
وهنا سألنا الأمير الشاذلي كيف يمكن الخروج من المأزق الحالي الذي بلغت إليه العلاقات التونسية الفرنسية، فابتسم ولم يجب واكتفى بقوله:
لما يعرض المقيم العام مشروعات الإصلاحات على جلالة الباي فإن جلالته سيدرسها ويبلغ ملحوظاته عليها إلى رئيس الجمهورية الفرنسية.
ثم سألناه عن المساعي التي تبذل في هيئة الأمم المتحدة فأجاب بقوله:
أما نتيجة هذه المساعي التي ستظهر في 20 يوليو فيظهر لي أننا سنتجاوزها ... ولكن أكتوبر قريب!
وأوفد المقيم العام إثر ذلك المسيو ساماران مستشار الحكومة التونسية لمقابلة جلالة الملك للاستفسار عن حقيقة البرقية وتبديد كل التباس بشأنها، إنه أرسل فعلا تلك البرقية قطعا لدابر الإشاعات والأنباء الكاذبة التي تنشرها الصحف، كما أعلمه بأنه موافق تمام الموافقة على التصريحات التي أدلى بها نجله الأمير الشاذلي لوكالة الأسوشيتيد بريس وأنه هو الذي كلفه بالإدلاء بتلك التصريحات نيابة عنه، بل هو الذي حدد موضوعاتها وعباراتها.
وفي 27 يوليو قام مسيو ماتييه مدير الخاصة الملكية - وهو فرنسي - بنشر إشاعة في القصر تفيد أن مصروفات القصر تجاوزت الاعتمادات المقررة، وأن السلطات قلقة من هذا الأمر، وقد يكون الغرض من نشرها هو أن الإقامة العامة كانت تريد معرفة رد فعل جلالة الملك لاستثمار المساومة للضغط عليه.
وتمت المقابلة بين جلالة الملك والمقيم العام الفرنسي في اليوم التالي، ودامت ثمانين دقيقة بحضور بكوش الوزير الأول وسامران مستشار الحكومة التونسية وبيك المستشار بالإقامة العامة.
وبدأ المقيم العام حديثه بطلب إيضاحات عن البرقية وعن تصريحات الأمير الشاذلي باي، فأعاد جلالته ما أجاب به سامران بالأمس.
ثم قدم المقيم لجلالة الملك بعض أوراق محررة باللغة الفرنسية لا تتضمن نص الإصلاحات، بل عرضا ملخصا لمشروعات مراسيم الإصلاحات مرفقا بمسودة ترجمتها باللغة العربية.
وطلب المقيم من الملك بيان الأسباب التي دعت لإرسال برقيته إلى رئيس الجمهورية، فرد عليه جلالته بقوله:
لقد اتجهت إلى رئيسكم لإحاطته علما بموقفكم تجاهنا، ولأحتج على الأعمال التي نسبتها إلي صحافتكم، وبناء عليه أرجوكم أن تبلغوني في المستقبل رغباتكم كتابيا، وسأجيب عليها كتابيا، وذلك منعا لانتشار الشائعات والأقوال الكاذبة التي تنسب في أثر كل مباحثة تجرى بيننا، أما فيما يتعلق بمشروعات الإصلاحات فيجب أن تعلموا أنها لا تخصني شخصيا ولكنها تهم شعبا كاملا، وأنا لست إلا خادم هذا الشعب الذي يبلغ تعداده الثلاثة ملايين ونصف من الأشخاص، لا بد من الاتصال بهم وتلقى آرائهم بهذا الشأن، فإذا قبلوا الإصلاحات فيا حبذا، وإذا رفضوها فإني أكون قد قمت بواجبي، ولذلك فلا بد لي من شهر أو شهرين للتفكير مليا في الأمر وجمع مختلف الآراء.
فقال المقيم: ولكن أطلب إليكم ألا تقتصروا على استشارة المتطرفين وأن تتصل استشاراتكم العناصر المعتدلة.
فأجاب جلالة الملك: حسنا، سأستشير جميع الشخصيات المسئولة والتي لها مركز اجتماعي مثل السيد القسطلي وغيره.
وبعد ذلك ذكر المقيم العام لجلالة الباي أن مصاريف القصر تجاوزت كل حد، فرد عليه جلالته قائلا: «اعلموا أولا أن مصروفات القصر يتحملها الشعب التونسي على أن سلفكم وعدني بزيادة مخصصات القصر، ولكنه لم يفعل شيئا، وكان ينبغي أن أطلب إليه تسجيل وعوده كتابة، وعلى كل حال إذا كانت الدولة لا تريد أن تستمر في صرف مخصصات القصر فإن الشعب مستعد لتحملها مباشرة.»
وهنا أشار المقيم العام إلى حوادث مصر وما كان من مصير الملك فاروق فقال: إنكم تتحدثون دائما عن الشعوب، هلا رأيتم موقف الشعب المصري تجاه فاروق.
فأجاب الملك: أجل! ولكن الشعب المصري كان في خصام مع ملكه، والحالة في تونس مغايرة، فإن الشعب والملك متفقان ويعملان لنفس الغاية، ولو بقينا وحدنا لكنا متفقين في جميع الشئون.
وقال دي هوتكلوك: أخيرا من المصلحة أن نتقابل مرة أخرى قبل انتهاء الأسبوع.
فأجاب الملك: الوزير الأول بكوش هو صندوقي للبريد فإذا كان لديك شيء تريد أن تقوله لي فإنه يقوم بمأموريته بسرعته الاعتيادية.
ثم طلب المقيم العام في ختام المقابلة نشر بلاغ عنها في الصحف، فرفض جلالته الموافقة على ذلك قائلا: إنه قد تنسب له اقوال لم يفه بها بتاتا.
وعند ذلك غادر المقيم العام القصر وصرح للصحفيين بأنه ليست لديه أقوال يدلي بها.
وقد نشرت بعض الصحف الباريسية المحادثات التي دارت بين جلالة الملك والمقيم العام خلال هذه الفترة الدقيقة، وبينت الظروف التي أحاطت بها بيانا شافيا، واستقت جريدة «فران تيرور» خاصة أخبارها من أوثق المصادر قالت بتاريخ 6 / 8 / 1952:
لو لم تشتمل المشكلة الفرنسية التونسية على مأساة، لكان ما ننشره اليوم عنها يذكرنا مشهدا مسرحيا، وأما فيما يتعلق بممثل فرنسا فإنه مشهد مضحك يبقي في نفوسنا مرارة، وسيرى القارئ فيما يأتي هل لمقيمنا العام الحذق اللازم لكسب ثقة الذين يملي علينا العقل السليم أن نجعل منهم أصدقاء وشركاء مع المحافظة على كرامتهم واستقلالهم، هذا المقيم الذي سلمت له جميع سلطات القمع والمفاوضة، وسيرى القارئ أيضا خلال هذه الرواية أي الشقين امتاز بالكياسة والكرامة.
عندما يأكل «م. دي هوتكلوك» من لحم الأسد
رجع المقيم العام إلى تونس يوم 5 يوليو 1952 بعد غياب دام خمسة أسابيع، حاملا معه مشروع إصلاحات ورسالة من رئيس الوزارة الفرنسية إلى جلالة الملك يطلب منه فيها أن يوقع على المشروع الذي سيعرضه عليه «م. دي هوتكلوك»، وصرح «م. دي هوتكلوك» إلى أصدقائه إثر نزوله من الطائرة جادا: «إني رجعت من باريس قويا إلى أقصى درجة! أقول لكم: قويا جدا!»
وإننا سنرى ما سنرى ... ونتفرج على الأدوار والألعاب ... وجمع المقيم يوم 7 يوليو المديرين الفرنسيين والوزراء التونسيين في مقره بمدينة المرسى (من ضواحي تونس) وقرأ عليهم نصوص الإصلاحات قبل أن يعرضها على الملك، ويوم 8 يوليو تحدث مع الباي وسلم له رسالة الرئيس بينيه.
وكان الملك يتجنب ما أمكن الاتصال المباشر مع المقيم العام لأنه يراه سيئ الأدب. (8-1) المحادثة الأولى
المقيم العام :
سأسلم لسموكم في القريب نص الإصلاحات بمجرد ما تنتهي إدارتي من ترجمتها للعربية، وأصرح لكم أن 1400 من المعتقلين سيطلق سراحهم ما عدا الذين قاموا بمخالفة، وباستثناء بورقيبة.
الباي :
يوجد حينئذ معتقلون من بين التونسيين لم يعملوا شيئا؟ أما بورقيبة فإننا لا نفهم أن تتعنت الحكومة الفرنسية ضد هذا الرجل الذي قام بجميع ما يمكن ليحقق الصداقة الفرنسية التونسية، فأصبح اليوم مرمي على كدس من الحجارة وحوله بعض الصيادين، فلا يمكن له أن يقتني حتى حبوب «إسبرين»، وأنتم ترفضون إطلاق سراحه أو نقله إلى مكان آخر.
فلم يجب المقيم العام بشيء، بل رأى من البراعة أن يطلب من الباي أن يحضر في العرض العسكري يوم 14 يوليو، «فرفض الباي» وألح دي هوتكلوك قائلا: «إن الحكومة الفرنسية تلح كثيرا لتكونوا ممثلين، ويمكن لكم أن تنيبوا نجلكم الأمير الشاذلي مثلا.»
الباي :
ولكنكم كنتم قلتم لي أنتم بأنفسكم إن ابني الشاذلي، وابنتي زكية كانا يقومان بأعمال التخريب، وإنا نرى غير لائق وجود مخربين يجلسون بجانب ممثل فرنسا، ومهما يكن من أمر فإن لم نحضر بأنفسنا فلن نرسل أحدا ليمثلنا.
هكذا ختمت تلك الحادثة. (8-2) المقيم يتظاهر باللطف
ثم مضت مدة طويلة كانت كلها مخاتلات، وكان الكلام دائما يدور حول الإصلاحات التي لم يطلع عليها الباي أبدا، وفي كل مرة يطلب الباي نص هذه الإصلاحات إلا ويجاب أنها: «بصدد التعريب»، وقد سعى المقيم العام في الاتصال بالبلاط الملكي يوم 28 يوليو، بمناسبة زفاف الأميرة ليليه ابنة الباي، وأظهر الرغبة في تقديم تهانيه، فأجاب الباي لمن توسط في ذلك: «فما على المقيم العام إلا أن يقدم تهانيه مباشرة للزوجين نفسيهما، وأن حفلة الزفاف كانت عائلية بحتة»، ولم يجد «م. دي هوتكلوك» أحسن من نشر بلاغ يعلن للرأي العام أن الإقامة العامة إظهارا لروح التفهم والصداقة قد أبلغت إلى البلاط هدية ذات قيمة لا تقاس، وتلك الهدية التي لا تقاس طبق!
وكان ينبغي حسب طلب المقيم أن تكون المحادثات خاصة بين الباي والمقيم لا يحضرها غيرهما، وكان الباي وحده، ولكن المقيم أتى مصحوبا بأربعة أشخاص: سامران مترجم الإقامة، والكولونيل لوفاسور دي بياك، المستشار القانوني بالإقامة ... وبكوش.
وأخذ دي هوتكلوك يتعاظم، ثم أخرج ورقة من جيبه وشرع يلقي على الملك عدة أسئلة كما يحقق رئيس مركز البوليس مع أي متهم عادي، وصمد الباي في موقفه، واحتج على رقابة الأخبار معلنا أنه لن يتأخر عن دعوة ممثلي شركات الأنباء الأجنبية لإرجاع الحقيقة إلى نصابها فيما يتعلق بالأخبار التي لا نصيب لها من الصحة والتي تذاع عن سلوكه.
فقال دي هوتكلوك في صلف وحدة: «ولكنك رفضت أن توقع على بعض الأوامر (المراسيم) التي لا تتحمل التأخير نظرا لخطرها.» فقال الباي: «لسنا آلة لتوقيع جميع المشروعات التي تعرضونها علينا، وإننا نرى من اللازم بحثها بحثا دقيقا، وإننا لا نوقع عليها إذا رأيناها تضر بمصالح التونسيين الذين أقسمنا على أن نبقى أوفياء لهم وخداما لمصالحهم.»
فاستخدم دي هوتكلوك اللمز والدس قائلا: «يظهر أن مصاريف البلاط فاقت الميزانية المعينة للدائرة السنية.»
فأجاب الباي بشدة: «إنا نأخذ ما نتقاضاه من الصندوق الوطني الذي يغذيه الشعب التونسي بماله، فإن رفضتم فإن الشعب التونسي يتكفل بتوفير ما أحتاجه.»
فقال دي هوتكلوك - بلطفه العادي: «ما زلتم تتكلمون على الشعب، فلتفكروا قليلا فيما صنعه مع الملك فاروق.»
فقال الباي والاحتقار والازدراء بائن عليه: «لم ينل فاروق إلا ما استحقه، ولقد كنا نتوقع ما ناله من مصير منذ مدة مديدة، ولكن يا حضرة المقيم العام هل جئتم لتحدثوني عن الميزانية أم عن الملك فاروق؟ فأتموا قائمة أسئلتكم، وسلموا لي نص الإصلاحات، إن كان تعريبها قد تم، في حالة من الأحوال؛ لأننا بقينا وحدنا من دون الناس لم نطلع عليها.» (8-3) كيف يتم فصل الأمور الهامة؟
وهكذا يصبح المشهد الروائي مضحكا فيه من الفضيحة ما فيه، يتظاهر المقيم بأنه يفتش في جيوبه، فيخرج منديله، ثم علبة سجاير، ثم يصيح بالكولونيل لوفاسور: «كولونيل، اذهب وفتش عن ذلك النص، فإنه بقي في سيارتي أمام البلاط.»
وخيم سكوت ثقيل.
وخرج الكولونيل، ثم دخل وناول المقيم ورقة صغيرة - من الورق العادي - على إحدى صفحتيها نص فرنسي، وعلى الصفحة الأخرى نص عربي، وسلم المقيم بدوره تلك الورقة للباي. ويظهر أن التعريب حديث جدا، وكان كله استدراكات.
فأخذ الباي الورقة وقلبها، وعير وزنها مظهرا استغرابه وتهكمه. وإن تلك الإصلاحات العظيمة التي كثر التحدث عنها ونوه بشأنها وخطرها وتعمقه في بحثها، قد احتوتها هذه الوريقة الصغيرة التي تشبه ورق بقال والتي قدمت له هكذا من غير اكتراث.
واتخذ دي هوتكلوك لهجة رسمية فخمة ليقول: «إنا نرغب من سموكم أن توقعوا على هذا النص في أقرب وقت ممكن، في حفلة الطابع المقبل، يوم الخميس.»
فأجاب الباي بهدوء: «لقد قلنا لكم إننا لسنا آلة توقيع، إن إعداد فرنسا لذلك النص استغرق سبعة أشهر لتعرضه علي، وقد طلب من البرلمان الفرنسي وجميع المصالح المختصة، ومن الجزائر نفسها ومراكش أيضا أن يبدوا رأيهم في تلك الإصلاحات، فإنكم تعطوننا لا محالة شهرين أو ثلاثة لنتمكن نحن أيضا من بحثها بدقة، ونستشير في موضوعها الممثلين الحقيقيين للشعب التونسي.»
فظهر القلق على دي هوتكلوك، وقال: «ترى الحكومة الفرنسية ألا يقع بحث تلك النصوص ومناقشتها إلا من طرف الممثلين الشرعيين للشعب التونسي، وألا يطلع عليها المتطرفون.»
فأجاب الباي بحزم: «إننا ننوي استشارة جميع الناس، متطرفين ومعتدلين، ويبلغك القرار بطريقة بكوش الذي نعتبره «ساعي بريدنا».»
وختمت هكذا المحادثة، ورفض دي هوتكلوك الإدلاء بأي تصريح إثر خروجه من البلاط، ولكنه أسر إلى صديق له من الصحفيين: «إني عدت بالخيبة والمرارة والانهيار.»
أهكذا يكون الكلام؟
هكذا كان الأمر!
هل نحن في حاجة لنبين أن الكلام الذي يتفوه به حضرة المقيم العام للجمهورية الفرنسية، يجعلنا نشك في حسن ذوقه وعقله واتزانه السياسي وخصاله الدبلوماسية؟ ومهما تكن الأغلاط وسوء التفاهم في العلاقات الفرنسية التونسية، فإنا نحتاج قبل كل شيء في حالة التوتر الراهنة إلى أشخاص ممتازين بذكاء يكون فوق المتوسط على الأقل، فليس أمام فرنسا هناك أناس متوحشون، بل يقابلها بتونس مفاوضون أو خصوم بلغوا الذروة في المدنية.
وكنا نود أن يكون الطرفان متعادلين في ميدان المحادثة والمفاهمة، عندما تحمل المحادثات في طياتها أخطر النتائج، فتكون كفة من يمثلنا تعدل على الأقل كفة من يخاطبنا.
أوليس من الحقيقة أن تلك الوثيقة تسمح لنا أن نزداد فهما في الميدان السيكلوجي على الأقل للسبب الذي جعل أمورنا وأمور الحرية نفسها لا تسير حسب المرغوب.
وكان المقيم العام أراد أن يحتاط لنفسه، وأن يضع المسئولية كلها على الجانب التونسي، وأن يزيد في الضغط على الملك، فأرسل له في يوم المقابلة نفسه مذكرة طالبا منه أن يوقع حالا مراسيم الإصلاحات، قال فيها:
بناء على اهتمام حكومة الجمهورية الفرنسية بالبر بالوعود التي قطعها ممثلوها الرسميون، ونظرا لرغبتها في احترام تعهداتها التي التزمت بها للمملكة التونسية؛ فقد وضعت نصوصا تدخل إصلاحات جوهرية على المنظمات التونسية وفقا للفصل الأول من اتفاقية 8 يونيو 1883، فباسم حكومتي أعرض هذا المشروع على موافقة حضرتكم العلية، راجيا منها أن تضع ختمها على لوائح المراسيم التي ستقدم لها.
وإن حضرتكم العلية ستجعل «للبيليك» - أي حكومة الباي - بإصلاح الهيئة التنفيذية والمجالس النيابية والسلطات المدنية، منظمات صالحة لمساعدة تطور البلاد التونسية، وتمكن السكان من المشاركة بصورة أوسع من الماضي في تسيير الشئون العامة.
وسينسى هكذا التونسيون والفرنسيون والأجانب بفضل حكمة حضرتكم العلية وبمشيئة الله الصعاب التي نشأت أخيرا، وسيتحدون في العمل ويستأنفون بشجاعة أكبر وفائدة أوفر المجهود الذي يبذلونه بلا انقطاع لازدهار البلاد وسد حاجة الجميع.
وأخذ المقيم العام يمطر الملك برسائله المتوالية، حتى أجحف إلحاحا وأفرط في الضغط، ولكنه اعترف أنه لم يطلع القصر على نص الإصلاحات، وأن المسودة التي تليت يوم 28 يوليو هي مجرد تلخيص لفحواها. وقد اكتفى دي هوتكلوك بإرسال ذلك التلخيص نفسه مصحوبا بمذكرة هذا نصها:
سري
البلاد التونسية
29 يوليو 1952
المقيم العام
مولاي
أتشرف بأن أرسل إليكم رفقة هذا النص العربي للمذكرة التي تمت تلاوتها على جلالتكم أثناء المقابلة التي تفضلت بتحديدها لي يوم 28 يوليو.
وأغتنم هذه الفرصة لأذكر جلالتكم أنني سلمت إليه أثناء تلك المقابلة ذاتها مذكرة مرفق بها مذكرة تفسيرية لمشروعات المراسيم المختلفة الخاصة بالإصلاحات، وطلبت منها أن تعلم يوم الخميس القادم الوزير الأكبر برأيها في هذا الموضوع، ورأيت أن هذا الأجل كان كافيا لدراسة وثائق موجزة، وهي على كل حال واضحة وضوحا كبيرا.
وإني أستسمح في الإلحاح كثيرا لدى جلالتكم لتتفضل بإعلام الوزير الأكبر، إما يوم الخميس المقبل أو حتى قبل هذا الميعاد بما تراه في هذا الصدد، وخاصة بتحديد مقابلة لي لنبحث سويا جزئيات مشروعات الإصلاحات المختلفة.
وأرى من واجبي لفت اهتمام جلالتكم إلى ضرورة البت بالسرعة الممكنة في هذه المسألة الحيوية بالنسبة لمستقبل البلاد التونسية والعلاقات الفرنسية التونسية.
وأرجو يا صاحب الجلالة أن تتفضلوا بقبول عبارات تقديري الفائق.
دي هوتكلوك
ثم بعد يومين أردفها برسالة أخرى بعث معها حسب قوله النص الكامل للمشروع الفرنسي، وأعلم فيها الملك أن تلك الإصلاحات هي الحد الأقصى لما تراه الحكومة الفرنسية ، فأوضح هكذا إصراره وإصرار حكومته على التمسك بالسيادة المزدوجة، وعلى رفض كل مناقشة جدية، وأن المفاوضات في حقيقة الأمر هي فرض إرادة المستعمرين. ولقد زادت تلك الرسالة التوتر شدة والقطيعة استفحالا، وهذا نصها:
سفارة فرنسا بتونس
المقيم العام بتونس
تونس في أول أغسطس سنة 1952
مولاي
تبعا للتقرير الذي تشرفت بتسليمه لحضرتكم العلية في ط 28 يوليو الماضي، وبناء على الرغبة التي أبديتموها لي كلفت دولة الوزير الأول بأن يسلم لحضرتكم العلية النصوص المرفقة بهذا، وهي باللغتين الفرنسية والعربية، وهي نصوص لوائح سبعة مراسيم يتألف منها برنامج الإصلاحات التي دعتني حكومة الجمهورية الفرنسية لعرضها على موافقتكم.
وكما لا يخفى على حضرتكم العلية، فإن التدابير التي تضمنتها المشاريع المذكورة تعتبر الحد الأقصى للإصلاحات التي ترى الحكومة الفرنسية في استطاعتها التفكير فيها حاليا مراعاة لمصلحة حسن سير المنظمات التونسية. ومن جهة أخرى فإن حكومة الجمهورية الفرنسية تعلق أهمية على المصادقة على المراسيم المذكورة في أقرب وقت ممكن.
ولا شك في أن حضرتكم العلية تقيم أكبر وزن بما لها من حكمة عالية للاعتبارات المشار إليها.
لذلك فإني أعرب لها عن أملي في أن تعطي هذه المسألة حلا سريعا، من شأنه أن يمكن البلاد التونسية من مواصلة تطورها في سبيل الرقي تحت الرعاية الأبوية لملكها، وفي نطاق صداقتها التقليدية مع فرنسا.
وأرجو من حضرتكم العلية قبول عظيم تقديري.
الإمضاء
ج. دي هوتكلوك (9) مجلس الأربعين أو البرلمان التونسي الأول
لقد أعلم جلالة الملك المقيم العام في مقابلة 28 يوليو أنه سيستشير الشعب في مشروع الإصلاحات، وفي صباح الجمعة أول أغسطس دعا إلى قصره بقرطاجنة أربعين شخصية تمثل مختلف عناصر الشعب التونسي، وكان من بينها السادة:
الدكتور الصادق المقدم (عن الحزب الدستوري «الجديد»).
صالح فرحات والمنصف المستيري (عن الدستور «القديم»).
فرحات حشاد (عن الاتحاد العام التونسي للشغل).
محمود الخياري (عن الجامعة العامة للموظفين التونسيين).
محمد بن الحاج (عن الاتحاد العام للفلاحة التونسية).
عبد السلام عاشور (عن الاتحاد العام للصناعة والتجارة).
الشيخ عبد العزيز جعيط ومحمد عباس (عن هيئة العلماء ومجلس الشرع والجامعة الزيتونية).
محمد الصالح النيفر (عن جميعة الشبان المسلمين).
شارل حداد (عن الجالية الإسرائيلية).
البربسيس ومحمد بن رمضان وعلي بالحاج والشاذلي رحيم (عن المجلس الكبير).
الشاذلي القسطلي (عن المجلس البلدي لمدينة تونس).
الطاهر بن عمار والبرقاوي (عن الغرفة الزراعية التونسية).
عبد العزيز الشابي، وعبد النبي، والطيب العنابي، وفتحي زهير، والشاذلي الخلادي، وعز الدين الشريف، والطاهر الأخضر، والطيب الميلادي (عن المحامين).
إبراهيم الرايس، وصالح عزيز، وصالح عويج، والصادق بوصفارة (عن الأطباء).
الصادق بن يحمد، وعبد الرحمن الجزيري، وعبد السلام خالد (عن الصيادلة).
رأس جلالة الباي الجلسة، وافتتحها بإبلاغ المجتمعين بأن موضوع الاجتماع بحث شروح جميع مراسيم الإصلاحات المعروضة من قبل الحكومة الفرنسية (ولم تكن النصوص الكاملة للوائح الإصلاحات سلمت لجلالة الباي). ثم أعلن بأنه يريد أن يشرك في مسئولية قبول تلك الإصلاحات أو رفضها الممثلين الحقيقيين للشعب التونسي، وفقا لما تضمنته تصريحاته السابقة الواردة في خطاب العرش الذي ألقاه بمناسبة ذكرى توليه الملك في 10 مايو 1951. ثم أضاف جلالته أنه عضو واحد من أمة تقدر نفوسها بثلاثة ملايين ونصف، وأن الإصلاحات المشار إليها تهم الشعب بأسره؛ لذلك ينبغي لكل ممثل أن يستشير جماعته ثم يقدم لجلالته تقريرا عن تلك الإصلاحات وبيان أسباب موقفهم منها، وذلك في ظرف لا يتجاوز الخامس عشر من شهر أغسطس. وكانت تصريحات جلالة الباي مستندة إلى: (1)
شروح المراسيم التي قدمتها الإقامة العامة لجلالة الباي. (2)
تصريحات المسيو روبير شومان وزير الخارجية الفرنسية أمام الجمعية الوطنية الفرنسية. (3)
مناقشات الجمعية الوطنية الفرنسية عن تونس.
وبعد تلك التصريحات تناوب عدة ممثلين الكلمة مبينين الإجراءات التي يجب اتباعها في الموضوع، وقد شرح جلالة الباي أن لجنة عليا ينبغي أن تجتمع في 16 أغسطس؛ لفحص التقارير ووضع تقرير عام عنها يتضمن الموقف النهائي الذي يجب اتخاذه من الإصلاحات المعروضة من قبل الحكومة الفرنسية.
وتألفت اللجنة بانتخاب أشرف عليه جلالة الباي، وصادق على نتيجته من حضرات:
الدكتور المقدم، فرحات حشاد، المنصف المنستيري، الطاهر بن عمار، ألبرت بسيس، الشاذلي رحيم، محمد بن رمضان، محمود الخياري ، محمود الزرزي، شارل حداد حداد، الطيب الميلادي، الطاهر الأخضر، وفتحي زهير (وانتخب مقرر اللجنة).
لم تخف أهمية ذلك الاجتماع التاريخي عن الشعب التونسي، فاعتبره أول برلمان تونسي منذ انتصاب الحماية، كما رأى فيه عنوان الوحدة الوطنية تحت رعاية الملك. ومن الملاحظ أن صنائع الفرنسيين والخونة المارقين لم يمثلهم غير القسطلي، أما أعضاء وزارة البكوش فقد أبعدهم الملك؛ إذ لا يعتبرهم شرعيين لأنهم فرضوا عليه فرضا بالقوة.
وقد كان وقع «البرلمان التونسي الأول» عظيما في الأوساط الفرنسية، فأحدث فيها استياء وخوفا، وأكثرت صحفها من التعليقات، وأرسلت الصحف الباريسية مكاتبيها باحثين ومستقصين، فصوروا الاجتماع وبينوا نتائجه وشرحوا الغايات منه.
قال مبعوث جريدة «لوموند» بتاريخ 3-4 / 8 / 1952 «جان لاكونور»:
إن خطر المسألة يجعلنا نحاول تصوير الاجتماع الذي يصفه الوطنيون بأنه تاريخي.
فقد كان السر محفوظا حتى إنني أمضيت سهرة الخميس مع شخصيتين ممن لعبوا دورا هاما في اجتماع الغد، ولم أشعر في أي وقت من الأوقات بما يحاك في الخفاء.
فقد دعي بعضهم منذ أيام وبعضهم منذ ساعات، وأخذوا يتلاحقون كلهم منذ الساعة العاشرة، فكانوا يدخلون إلى قاعة طويلة ذات واجهة زجاجية تطل على خليج تونس، وقد اصطف على جانبي العرش ستة وثلاثون مقعدا، وإنه لمجلس عجيب جمع بين أكبر الشخصيات الإسلامية: الشيخ عباس، شيخ الإسلام الحنفي، والشيخ جعيط، شيخ الإسلام المالكي، وبين زعيم عمالي: فرحات حشاد، ورجل اشتراكي: الشاذلي رحيم. وكانت كثير من النزعات ممثلة فيه، فكان محمد بن رمضان يمثل البرجوازية البعيدة عن السياسة، والطاهر بن عمار الوطنية المعتدلة، والعزيز الجلولي الوطنية غير الدستورية، والطاهر الأخضر النزعات المماشية للدستور، والدكتور المقدم الدستور الجديد نفسه، وصالح فرحات الدستور القديم، وبسيس وشارل حداد اليهود.
وكتبت جريدة «فرانس سوار» بحثا استقت عناصره من مصادر وثيقة، كشفت فيه عن أعمال الإقامة العامة، وأوضحت كثيرا من الحقائق للرأي العام الفرنسي. وننشر هذا المقال كله لأنه يغنينا عن غيره، قالت الجريدة:
تونس في 2 أغسطس 1952
عقد أمس جلالة الباي بدون الرجوع إلى وزيره الأول بكوش اجتماعا في قصره الأبيض بقرطاجنة ، حضره أعيان تونس، وكانوا 36 حسب قول بعضهم، و42 حسب آخرين، ولكن أقل من 50 على كل حال.
وإذا استثنينا بعضهم فإن جميعهم قد وقع اختيارهم بدقة، وهم يمثلون بدون شك الجناح العامل النشيط في النخبة التونسية التي تقاوم مثلما يقاوم الباي بنفسه مبدأ المقيم العام، وهو وجود الفرنسيين في المؤسسات السياسية التونسية.
فهم من نقابات العمال والأعراف ومن منظمات الأطباء والصيادلة والمزارعين والتجار ... إلخ، وبعضهم مثل الشيخ عباس والشيخ جعيط من كبار رجال الدين، والبعض الآخر نواب سابقون متطرفون أو معتدلون في المجلس الكبير، ورئيس وزراء منتظر وهو العزيز الجلولي. ولم يكن السيد شنيق من بينهم، ولكن جميعهم أعضاء في حزب الدستور القديم أو حزب الدستور الجديد، ولاحظت كذلك وجود اشتراكي من بينهم وهو الشاذلي رحيم، وقد اختارهم الباي من جميع النزعات ليظهر أنهم يمثلون الرأي العام التونسي بأكمله، وبالجملة يمكن القول بأن الباي قد أجاب عروض الاتفاق التي قدمتها الحكومة الفرنسية باستدعاء ممثلي جميع طبقات الأمة ليسددوا ضربة قاضية للإصلاحات، ويطالبوا علنا بحقوق التونسيين في تونس (تلك الحقوق التي لا رجوع فيها) وبانتهاء الرقابة الفرنسية. (9-1) استشارة الرأي العام
وقد حدث كل هذا كما لو أن الباي لا يريد اتخاذ أي قرار قبل استشارة شعبه.
فقد افتتح الاجتماع بقوله:
ها هي مقدمة سبعة مشاريع مراسيم إصلاحات قدمتها لنا فرنسا، وها هو خطاب «م روبير شومان» بالمجلس النيابي الفرنسي، فادرسوها وأتوني بالرد؛ لأن النصوص التي ستقدم لي تبلغ حدا من الخطورة لا أستطيع عنده تجاهل الرأي العام التونسي.
ورغم أن الحوادث جعلت الوقت في منتهى الضيق، فإن الباي لم يطلب من لجنة الاثني عشر عضوا المتفرعة من مجلس الأعيان هذا الأجل القديم.
هذا وقد أجاب بعضهم بقبوله ما دامت فرنسا لم تعترف في تصريح رسمي بوجود السيادة التونسية موحدة وغير قابلة للتقسيم، فإننا نرفض الإصلاحات الفرنسية.
وقد صرح الدكتور المقدم (الزعيم الحالي للدستور الجديد بعد إبعاد الحبيب بورقيبة)، بدقة قائلا: إن أغلبية المجلس قد ردت بعد ردا أدبيا على مشروعات الإصلاح التي لا تتمشى مع رغبات الشعب التونسي ورغبة جلالة الباي، وختم تصريحه بقوله بشدة: إن هذه النصوص فيها رجوع إلى الوراء بالنسبة للوضع الحالي في تونس. (9-2) دهشة في الإقامة العامة «وقد دهش المقيم العام والبكوش من هذه المناورة الفجائية ولم يبتهجا بها، وذلك لأن البكوش كان يعتزم دراسة النصوص مع جلالة الباي بمفرده بدلا من المقيم العام الذي أقسم الباي على أنه سوف لا يقابله في المستقبل. وقد وضعته هذه المناورة في موقف مضحك، ويبدو من الطبيعي أن يفكر في تقديم استقالته إلى الباي.
أما «م. دي هوتكلوك»، فقد وضعه هذا الملك الذي تحميه فرنسا في موقف محرج للغاية، فقد أعاد فتح ملف الإصلاحات التي قبلها وزيره الأول ومجلس وزرائه، واختار لدراستها وطنيين يرفضونها.
ومع ذلك يجب علينا أن نتفاوض، ولكن مع من سنتفاوض في المستقبل وقد جمع ترددنا حول الباي جميع القوى الشديدة التي تمثل عالما عربيا، يريد أن يحكم نفسه بدون تدخل الأجنبي في المستقبل.
ومع ذلك فقد وقعت محاولات في دوائر الإقامة العامة طيلة الأسبوع للضغط على الباي، واستعملت جميع الوسائل حتى المالية منها والتي كانت تستهوي الملوك الأخيرين، فلم تضف إلى مخصصاته 180 مليونا رغم طلباته الملحة تلك المخصصات التي تمثل 6 أضعاف مخصصات رئيس الجمهورية الفرنسية.
وأوقفنا دفع الأموال التي يحتاج لها والتي بلغت في الأشهر الثلاثة الأولى سنة 1952 فقط 180 مليونا، وسخرنا أصحاب القروض وقدمنا له حسابات ما كان يدفعها من قبل حتى هددنا بالالتجاء إلى أصحاب البنوك.
ولكن رغم تشديد الخناق على أمواله، فإن الباي لم يبلغ منتهى الفناء؛ إذ إنه يقبض علاوة على مخصصاته العادية 400 مليون في السنة لشئون عائلته وكبار رجال البلاط، ورجال الدائرة الملكية، ولكن يبدو أن ذلك لا يكفيه.
ولذا أفهمناه في الأسابيع الأخيرة أن قائمة مخصصاته ستضاعف، وأنه سوف يقبض مبالغ جديدة وضخمة لا تؤخذ إلا من إرثه. ولكن وسائل الضغط هذه لم تأت بالنتائج المنتظرة؛ فإن حاجة الحاشية لا تفسر تفسيرا كافيا موقف الباي الصلب. إن الشيخ العنيد يستند إلى رغبات الأمريكيين وتصريحاتهم، وإن كان يختبئ وراء عزم يبعثه على الاستقلال، فإنه يريد بذلك الانتقام للنفوذ الملكي الذي حطمه وجود الحماية الفرنسية.
ويلاحظ في دار الإقامة العامة أن الباي أراد باستدعاء مجلس نواب تونسي أن يبرر موقفه أمام شعبه قبل قبول الإصلاحات، ويضاف إلى ذلك أن من بين الشخصيات التي حضرت المجلس وتألفت منها لجنة الاثني عشر المتفرعة عنه، بعض الشخصيات ذات الميول الفرنسية.
ونعتقد في الوقت نفسه أن أي تصلب من الجانب الفرنسي سيؤدي حتما إلى موقف أشد صلابة من الجانب التونسي.
والمظنون أن «م. دي هوتكلوك» كان عشية أمس دائم الاتصال بوزارة الخارجية الفرنسية، وأنه حاول أن يتحادث مع السيد البكوش الذي لا يريد أن يزعجه أحد في يوم الجمعة المقدس يوم الصلاة، كما حاول أن يتحادث مع بعض الشخصيات التونسية.
ومهما يكن من أمر فإن «م. دي هوتكلوك» سوف يسلم للباي عن طريق البكوش النصوص التي وعده بتسليمها، وسوف يكتفي بأن يطلب منه النظر فيها خلال ثمانية أيام، وإن لم يأته جواب بعد مرور الأجل اعتبر ذلك رفضا للمشروع.» (9-3) نجل الباي
ولكن ماذا يمكن أن تنتظر من قصر يعتبر فيه الاعتدال خيانة؟ أليس هناك أمر مقصود بعقد اجتماع ثان على إثر انفضاض اجتماع قرطاجنة عند الزوال تحت رئاسة نجل الباي الذي أقلناه والذي يكرهنا، وهو الأمير الشاذلي بصحبة أخيه الأمير محمد؟
ومن المصادفات العجيبة أن تكون جماعات المتظاهرين تقترب في ذلك الحين من قصر الوزير الأول، وأن يرمي بعض المندفعين ثلاث قذائف على رجال البوليس، وقد وقع هجوم من نفس النوع بعد مضي ربع ساعة على الهجوم الأول على الساعة الثانية والأربعين دقيقة، وجرح أثناءه طفل يبلغ 14 سنة وامرأة.
قد حصلت بعض الحوادث العادية ولكن هذا ليس خطرا، ومن المجازفة ألا نتوقع وقوع حوادث أخطر في الميدان السياسي في الأيام المقبلة.
هنري فور (9-4) مقابلة بين جلالة الباي والمسيو بينوش
على إثر استشارة يوم أول أغسطس التي نزلت كالقنبلة في الأوساط الفرنسية، بادرت الحكومة الفرنسية بإيفاد المسيو بينوش إلى تونس في مهمة اتصال واستعلام، فقابل المسيو بينوش جلالة الباي في يوم الخميس 7 أغسطس، فأكد له جلالته أنه لن يفعل شيئا ضد إرادة الشعب، وأجهد المبعوث نفسه في بيان أن فرنسا لا تعترف إلا بجلالته طرفا ثانيا في المباحثات، ولكن جلالة الباي صرح له بأن الكلمة للشعب الذي يهمه الأمر قبل غيره، فإذا قبل الشعب الإصلاحات فإني أقبلها وإذا رفضها رفضتها. وذكر بينوش أن المقيم العام يتمتع بثقة الحكومة الفرنسية، وأنه دبلوماسي من عائلة نبيلة، فعدد له جلالة الباي ما اقترفه المقيم العام نحوه من تهديدات واعتداءات، ومن ذلك اعتقال الوزراء دون علمه واستعمال القوة والضغط بأنواعه، ومن ذلك التهديد باعتقال الأمراء والأميرة زكية وغير ذلك من ضروب التعدي. ثم أضاف جلالة الباي: «ومهما يكن من الأمر، فإني لم أعد مستعدا لاستقباله، وليس عليه إلا أن يبلغني ما يريد إبلاغه إلي كتابة بواسطة البكوش الذي يقوم بعمل ساعي البريد.» ثم ذكر بينوش بأن المقيم تألم من سفر الوزيرين التونسيين إلى باريس (صالح بن يوسف وزير العدل ومحمد بدرة وزير الشئون الاجتماعية)، فرد عليه جلالة الباي بأن المقيم هو الذي بدأ بإساءة التصرف عندما قام بحركة لإسكات الوزير صالح بن يوسف، لما أراد أن يصلح خطأ في الترجمة لمدير التشريفات، وكانت تلك الحركة بمثابة صفعة.
ثم قال بينوش إن رد الباي ينبغي أن يسلم قبل 15 أغسطس، وإن فرنسا لا تخشى هيئة الأمم المتحدة. فرد عليه الباي: لماذا العجلة إذن؟ فأجاب بينوش: ذلك لأن البرلمان يستأنف جلساته في أكتوبر، ونتمنى أن تصدر الإصلاحات قبل ذلك التاريخ؛ لذلك يتحتم الإسراع. فرد الباي بأنه عندما يتحصل على الأجوبة فإنه يبادر بالرد.
فقال المسيو بينوش: يهمني أن أعلمكم أن الحكومة الفرنسية عازمة على الاحتفاظ بشمال أفريقيا، وبتونس خاصة، ولو اقتضى ذلك انسحابها من هيئة الأمم المتحدة وقطع صلاتها بالولايات المتحدة الأمريكية. فرد عليه الباي أن هذه المسألة تهمكم، فقد كنا تقدمنا لكم بمطالب، ولو منحنا كل مقيم عين هنا منذ ذلك التاريخ بعض الشيء، لما وصلنا إلى الحالة التي نحن عليها الآن. إن المسألة هي ترضية رغائب شعب كامل.
واستمر بينوش قائلا: إنه إذا لم تصدر الإصلاحات في أقرب وقت، فإن الحكومة الفرنسية تكون مضطرة لاتخاذ إجراءات خطيرة.
فأجابه الباي: إني أبلغ 73 سنة، ومنذ أشهر تنشر إشاعات إبعاد وسجن واستعمال القوة، أما فيما يخصني فإني مستعد لكل شيء.
وفي أثناء المحادثة لمح بينوش إلى أن تكوين برلمان في تونس من شأنه التقليل من سلطة الباي، فقال له الباي؛ أولا: لم تبق لي أية سلطة. وثانيا: إن هذه المسألة مسألة خاصة بي والشعب.
واستأذن بينوش من جلالته قائلا: «إن الحكومة الفرنسية تعتمد على حكمته السامية للخروج من الحالة الراهنة وإعادة الهدوء والنظام إلى البلاد.»
وقد دامت المقابلة ساعة وعشرين دقيقة.
ثم سافر بينوش فجأة إلى باريس ليلة الجمعة بعد أن قابل بعض الشخصيات، وقد علمنا أن العلاقات بينه وبين المقيم كانت متوترة!
ولقد أدخل عمل جلالة الملك الحيرة والقلق على المقيم العام والحكومة الفرنسية، عندما أقام الدليل على أنها عدوة الديمقراطية، وعلى أنه هو الديمقراطي الحقيقي؛ إذ لا يريد إلا ما يريده الشعب نفسه. وقد عبرت جريدة «لوموند» عن ذلك الاضطراب في مقالات متعددة، بينت فيها قيمة ذلك الاجتماع التاريخي والمناورة السياسية التي احتوى عليها.
قالت بتاريخ 3-4 / 8 / 1952:
في الواقع لا يمكن أن نتغافل عن الأهمية الكبرى التي لتلك النواة البرلمانية، سواء في ميدان الحوادث الجارية الآن وغضون المحادثات التي شرع فيها المقيم العام، أو في ميدان أوسع وهو ميدان الملكية الحسينية ونظام الدولة التونسية.
ولكن نظرا للتوتر الحالي للنتائج الممكنة لكل حركة يقوم بها أحد الطرفين؛ فإن ما يسترعي الانتباه ويلفت النظر في ذلك العمل، ليست ميزته الثورية الحاملة في طياتها تطورات المستقبل، لما فيها من خروج عن الملكية المطلقة، ولكن في القيام بمناورة تكتيكية بالنسبة للسياسة الفرنسية، فلا يمكن أن يجد الملك عملا أكثر إقلاقا للمقيم العام ووزارة البكوش مما قام به، وهو يوضح أيضا بجرأة لا مزيد عليها اتفاق البلاط مع الحركات الوطنية، ولم يتظاهر الباي أبدا حتى في مدة وزارة شنيق - الذي لاحظنا غيابه عن ذلك الاجتماع - بذلك الوفاق المتين بينه وبين الدستور وأنصاره. ويجب الاعتراف بأن السياسة التي كانت ترمي خلال أشهر طوال إلى التفريق بين الملك والحركة الوطنية، قد منيت أمس بخيبة مرة.
واتصل حالا «م. دي هوتكلوك» بباريس؛ إذ حسب من المعقول أنه لا بد أن تتطلب الحالة الجديدة تعليمات جديدة، وأن المقيم على استعداد ليضرب أجلا مدته سبعة أيام، إما للقبول وإما للرفض، وقد أصبحت الجالية الفرنسية تعلق على عمل الباي في حديثها وهي غاضبة، وتشير إلى أنها ستعرف قيمة المقيم العام من رد فعله على «استفزاز» البلاط الملكي.
وإن التعليقات التي سمعتها من جميع الجهات تزداد حماسا وحرارة بقدر ما تزداد الاضطرابات والمظاهرات حول مقر الحكومة التونسية، ففي الصباح نفسه بينما كان ذلك الاجتماع الشهير يتجادل بقرطاجنة، كانت جماعات من المتظاهرين متجهين نحو القصر الذي يسكنه البكوش، وانفجرت ثلاث مرات متواليات المفرقعات.
وأردفت قولها ذاك بمقال ثان في نفس العدد، أبرزت فيه ما سينتج عن اجتماع الأربعين من أخطار، قالت:
سيستمر الحديث طويلا على ما قام به باي تونس يوم الجمعة (غرة أغسطس 1952) من عمل ثوري تقريبا، ولقد ظهر كأن سيدي الأمين وضع حدا لتلك الملكية المطلقة - نظريا على الأقل - التي كانت أقيمت بتونس وجعلت من الملك وحده المتحكم في اختيار مستشاريه ووزرائه وقراراته.
ومما يدل على نواياه أيضا إشارته لخطاب العرش الشهير (15 مايو سنة 1951) فإن سيدي الأمين أعلن في ذلك اليوم عن نيته في إدخال تعديلات، على أداة الحكم، وكيفية تركيزها على قاعدة تمثيل شعبنا في تشكيلات منتخبة، وتحديد اختصاصات هاته التشكيلات.
ثم بعد ذلك تحدث عن إعداد النصوص التي تقر نيابة منتخبة تمثل كافة طبقات شعبنا، وكذلك عن مراعاة ما تقتضيه سياسة الرعية من الرضاء والقبول للأحكام الماضية عليها.
ربما لم نعر ذلك الكلام - في وقته - ما يستحق من الاهتمام، مع أنه ينبئنا عن أحداث ملكية دستورية، بل وقع التصريح فيما بعد عن شكوكنا الكبيرة في نية الباي الحقيقية في وضع حد لسلطانه كملك مطلق، وتحت ضغط الحوادث رأى سيدي الأمين من مصلحته أن يسابق إلى تكوين مجلس استشاري قد شمله مشروع الإصلاحات.
وإن مناورة الملك في المرحلة الراهنة للمفاوضات الفرنسية من أبرع المناورات، وإنه وإن لم يكن عازما على رفض مشروع الإصلاحات، إلا أنه يريد تأخير قبولها أكثر ما يمكن، وإن استشارة ما يقرب من ثلاثين شخصية طلب منهم أن يعبروا عن رأيهم فيها كتابيا يسمح له بربح الوقت.
وقد تضع تلك المناورة المقيم العام في موقف حرج، ومهما يكن قرار الملك فقد أصبح في إمكانه أن يدعي أنه لا يتكلم باسمه الخاص، ولكنه يتكلم بتأييد ومساندة ممثلي شعبه الحقيقيين.
وبما أن ما قام به من عمل كان سريا إلى ساعة الاجتماع نفسها، فإنه أحدث بعض الدهشة بتونس، ولم يكن من نتائجه تهدئة الخواطر، بل ارتفعت درجة الحرارة من جديد بعد.
واجتمعت اللجنة مرة ثانية وقدمت لجلالة الملك تقريرها، فوافق عليه، ونظرا لأهمية هذه الوثيقة التاريخية فإننا ننشرها بنصها:
تقرير هام
تفضل جلالة محمد الأمين الأول في غرة أغسطس 1952 بدعوة أربعين شخصية تمثل مختلف نزعات الرأي العام التونسي للاجتماع في قصره بقرطاجنة، بقصد النظر في مشروعات الإصلاحات التي عرضتها الحكومة الفرنسية على مصادقة جلالته.
وجدير بنا أن ننوه بالمغزى التاريخي لهذه الخطوة التي قام بها جلالة الباي، وما تنطوي عليه من نزعة ديمقراطية تجسمت فيها المبادئ الديمقراطية التي تضمنها خطاب العرش في 15 / 5 / 1951، فقد رغب جلالة الباي المعظم في تشريك الشعب في مسئوليات اتخاذ قرار يتعلق بمصير البلاد، وطلب من جميع الشخصيات التي قام باستشارتها بأن تدرس نصوص الإصلاحات دراسة عميقة، ثم تدلي بآرائها فيها وتبين هل هي موافقة للمبادئ التي تضمنها خطاب العرش، وهل ترضي الرغائب الوطنية؟
استشارت الشخصيات المذكورة هيئاتها ، وحررت تقارير تضمنتها تعاليقها على المشروعات، وسلمت تلك التقارير للجنة المتكونة من ثلاثة عشر عضوا انتخبوا في اجتماع أول أغسطس؛ لكي تتولى هذه اللجنة تحرير تقرير عام ترفعه إلى جلالة الباي مع جميع الوثائق المجتمعة لديها.
رأت اللجنة بعد فحص التقارير فحصا دقيقا أن تتخذ طريقة في العمل ترمي إلى جمع الآراء الرئيسية الواردة في شتى التقارير تحت عناوين جامعة، ثم تجمع تحت عناوين أخرى الآراء المتفرقة في سائر التقارير والتي عرضها أصحابها باختصار.
وحرصت اللجنة في تحرير تقريرها على احترام النزعة العامة للآراء التي أدلى بها المستشارون، مع ملاحظة أنها فضلت عند تحرير التقرير توزيع عناصره حسب الآراء لا حسب المواد.
ظروف وضع مشروع الإصلاحات
يهمنا أن نذكر الظروف التي أدت إلى وضع مشروع الإصلاحات الحالي قبل الشروع في دراسة هذه الإصلاحات.
ألفت وزارة السيد محمد شنيق في ط 17 أغسطس 1950، وعهد إليها بمهمة «التفاوض باسم جلالة الباي في التعديلات الجوهرية التي ينبغي أن تقود البلاد التونسية إلى الاستقلال الداخلي على مراحل متتابعة.»
ثم صدرت إصلاحات 8 فبراير 1951 بعد مفاوضات طويلة وشاقة.
وكان القصد من تلك الإصلاحات في نظر الذين عملوا على إصدارها، أن تظهر شخصية الحكومة التونسية، وتقلل من العراقيل التي كانت تحول دون تمتعها بحرية العمل. ولكن شتى ضروب المعاملات والمقاومات والمشاغبات وسوء النية التي بلغت في بعض الأحيان بأصحابها إلى التخريب، حالت عند التنفيذ دون تطبيق ما تضمنته الإصلاحات من وعد بإظهار شخصية الحكومة التونسية.
وبما أن المفاوضات في العاصمة التونسية لم تثمر النتائج المرجوة بسبب تأثيرات الجالية الفرنسية، تم الاتفاق على مواصلة تلك المفاوضات مع الحكومة الفرنسية في باريس.
واضطر الوفد الوزاري التونسي بعد إقامة بضعة أسابيع في باريس، عومل في أثنائها معاملة عدم اكتراث تتنافى مع التقاليد الدبلوماسية، وبعد أن وجد أن المتفاوض معه يتهرب من كل تعهد تحت تأثير أعوان ومبعوثي الجالية الفرنسية بتونس، وكانت مهمة الوفد الوزاري أن يذكر الحكومة الفرنسية بوعدها المتعلق بالاستقلال الداخلي، ويطالبها بضرورة النظر في طرق تنفيذه؛ فأكد الوفد الوزاري في مذكرته بتاريخ 31 أكتوبر أن اجتياز المرحلة الأولى من الاستقلال الداخلي يتطلب قيام حكومة تونسية متجانسة، وإنشاء مجلس منتخب للتشريع والمراقبة، ووضع نظام تونسي للوظائف العمومية.
ويلاحظ أن المطالب المذكورة تمثل الحد الأدنى للرغائب الوطنية .
وقضت الحكومة الفرنسية ستة أسابيع تفكر في تلك المطالب وتتباحث فيها، ثم ردت على مذكرة الحكومة التونسية برسالة 15 ديسمبر 1951 التي سببت قطع المفاوضات بشدة؛ إذ تضمنت نقض الحكومة الفرنسية لجميع تعهداتها السابقة التي كانت تعتبر نهائية، واستبدلت الحكم الذاتي الموعود برابطة نهائية بين البلدين، منتهكة بذلك بصورة واضحة نصوص الحماية والقانون الدولي.
وقد أدلى المسيو روبير شومان لمجلس الجمهورية الفرنسية في 20 / 12 / 1951 بتصريحات، حاول فيها أن يخفف من تأثير رسالة 15 ديسمبر، بأن أكد أن عبارة «السيادة المشتركة» لم ينص عليها في تلك الوثيقة الرسمية، ولكن برغم تصريحاته تلك بقيت فكرة السيادة المشتركة هي الفكرة التي تركزت فيها إرادة الحكومة الفرنسية في المحافظة على مشاركة الفرنسيين في المنظمات السياسية بالبلاد التونسية.
ثم اتخذت رسالة 15 ديسمبر 1951 التي كانت السبب الرئيسي في الأزمة التونسية الفرنسية الحالية، قاعدة لوضع مشروع الإصلاحات الذي يقصد به في نظر أصحابه إيجاد حل لتلك الأزمة.
نقد مشروع الإصلاحات
لم تتناول الشخصيات المستشارة في تقاريرها بحث مشروع الإصلاحات من الناحية المبدئية الصرفة، ولكنها بحثتها على ضوء المصلحة الوطنية البحتة.
وهم لا يؤخذون على هذه الطريقة في الوقت الذي يعلق فيه السياسيون الفرنسيون - على اختلاف نزعاتهم - تسوية المشكلة التونسية على صيانة مصالح فرنسا قبل كل شيء، وبصورة لا تقبل الجدل.
وبناء عليه اتخذنا في هذا التقرير العام معيارا واحدا اتفقت عليه جميع اتجاهات الرأي العام التونسي، واهتدينا إلى هذا المعيار بفضل ما اقترحت بعض الشخصيات التونسية خلال اجتماع أول أغسطس سنة 1952 من ضرورة دراسة مشروع الإصلاحات على ضوء صلاحيته لبعث السيادة التونسية، فنال موافقة جميع الحاضرين.
فجاء خطاب العرش في 15 مايو 1951 نتيجة لذلك يعلن فيه جلالة الباي بصورة خاصة «أن التدابير التي اتخذت تكون مرحلة أولى، وقد قررنا القيام بخطوة جديدة تشمل إعادة تنظيم الحكومة وقيامها على أساس التمثيل الشعبي في مجالس منتخبة.»
اعتداء على السيادة التونسية
ليست الحماية هي التي أنشأت السيادة التونسية، فقد كانت تونس موحدة وذات إدارة منظمة قبل تكوين الوحدة الإيطالية والوحدة الألمانية بكثير، خلافا لما أشارت إليه رسالة 15 ديسمبر 1951.
كان لبلادنا ملكها وميثاق حقوقها (عهد الأمان المعلن في سنة 1857) ودستورها (1861) وحكومتها وإدارتها، وكانت نزعتها إلى التطور متمشية مع تيارات التاريخ السياسية.
وإذا لم تبلغ المنظمات المذكورة كامل ازدهارها في ذلك العهد، فمرجع ذلك إلى أن ظروفا غير مواتية وناتجة عن قوانين التناسق الطبيعية وعن المناورات الأجنبية التقليدية في بلاد الشرق.
وكان على نظام الحماية الذي تولته جمهورية ديمقراطية وحرة، أن يساعد وفقا لنصوص المعاهدات وحرصها على تطور المنظمات التونسية التي كانت قبل قيام ذلك النظام في نمو مطرد، وقد ضمنت فرنسا بقاء تلك المنظمات رسميا، حتى إن ممثلها في ذلك الوقت أكد بأنه «لا يرى داعيا لزوال الأنظمة الإدارية التونسية التي كانت ثمرة تجارب عدة قرون، ولها ما يشابهها عند الشعوب ذات الحضارة المماثلة لحضارة تونس الحديثة، ولتعويضها بمنظمات نشأت عن حضارة أخرى تلبية لحاجات أخرى.»
وهل يوجد أبلغ من هذا القول في الدفاع عن السيادة التونسية، وضد فرنسة المنظمات التي تتمثل فيها؟
ولكن السيادة التونسية لم تحترم فيما بعد تحت عاملي مزاولة شئون الحكم ومرور الزمن.
وقد أقر مشروع الإصلاحات جميع الاعتداءات المتتالية التي وقعت على السيادة التونسية.
التشريع
يلاحظ في الميدان التشريعي أن تأشيرة المقيم العام المحدثة بقرار صادر من جانب واحد، وهو رئيس الجمهورية الفرنسية، تجعل المشرع التونسي تحت إرادة ممثل فرنسا، وتجرده من كل حق في التصرف، وتجعل صلاحياته صورية لا غير. (وقد احتفظ بالتأشيرة المذكورة في مشروع الإصلاحات).
التنفيذ
وفي الميدان التنفيذي لا يعيد المشروع الانسجام للحكومة التونسية ويتركها محرومة من السلطات الحقيقية، بل يقضي بالتنقيص من بعض السلطات التي كانت لها.
ولا يسند مصالح جديدة للوزراء التونسيين، وعلاوة على ذلك يلاحظ أن فكرة إحداث مناصب مساعدين للمديرين الفرنسيين قد استبعدت، وهي فكرة كان المسيو روبير شومان وافق عليها. وبالإضافة إلى ذلك يمنع عن التونسيين تولي منصب نائب مدير المالية، ويخصص هذا المنصب بصورة نهائية للفرنسيين.
ثم إن المشروع يبقي الوزير الأول بلا سلطة حقيقية ومباشرة على مجموع الإدارات.
ومن جهة أخرى كان السكرتير العام يقوم بمهام وظيفة إلى جانب الوزير الأول الذي كان محتفظا بسلطة اسمية على مصالح السكرتارية العامة، فأصبح في المشروع الجديد مستقلا وله الخيار في إطلاع الوزير الأول على أعماله.
وكانت قرارات الوزراء غير نافذة ما لم تحمل تأشيرة (السكرتير العام)، ثم استبدلت التأشيرة بمصادقة المقيم العام قبل إصدارها، وفي النظام المقترح أصبحت تلك القرارات رهن التعقيب الذي له حق القيام به لدى المحكمة الإدارية، وعهد لإدارة المالية بمراقبة المصروفات التي كان يتولاها الوزير الأول، وهكذا أصبحت تلك الإدارة وزارة فوق الوزارات، وصارت سلطة الوزراء القانونية وهمية في حالة ما إذا كانت قراراتهم لها علاقة بالمالية.
ثم إن مصلحة الأمن التي ألحقت بالإقامة العامة منذ سنة 1939 لا تدخل في اختصاصات السلطة التونسية، وهل يمكن أن تتصور حكومة تتمتع بالاستقلال الداخلي ولا سلطة لها على البوليس؟
الوظائف العمومية
أما فيما يتعلق بالوظائف العمومية، فقد حرم على التونسيين تحريما باتا ونهائيا أن يتولوا مناصب النفوذ والمسئولية؛ فقد خصصت هذه الوظائف للفرنسيين بعنوان «الوظائف المستثناة»، وهذا التحريم يجعل تحقيق الحكم الذاتي أمرا مستحيلا. وتقوم «الوظائف المستثناة» حائلا دون تنفيذ القرارات الوزارية؛ نظرا لكثرتها ونوعها وطريقة توزيعها، وقد شهدنا في عهد وزارة السيد شنيق كيف نظم الموظفون الفرنسيون عرقلة أعمال الوزراء التونسيين.
أما تخصيص الوظائف التي أطلق عليها «الوظائف التقليدية» للتونسيين، وأقصاه هؤلاء عن وظائف المالية والميزانية والأعمال الفنية، يجعل من المستحيل إقامة دولة تونسية عصرية.
المحكمة الإدارية
تعتبر المحكمة الإدارية مؤسسة ضرورية للدولة الديمقراطية، ولكن المحكمة المقترحة لتونس تعد اعتداء على البلاد التونسية لهذه الأسباب:
الأغلبية فيها فرنسية.
عينت باريس لهيئتها الاستثنائية.
خولت الحكومة الفرنسية حق تعيين أعضائها غير التونسيين.
وهي شروط تجعل من تونس ولاية فرنسية.
ويلاحظ بعد ذلك أن إسناد رئاسة المحكمة الإدارية لفرنسي مبعثه مركب السيطرة الفرنسية، الذي يقضي بأن يتولى الفرنسيون حسم المشاكل التي تحدث بينهم وبين التونسيين.
التمثيل النيابي
وفي ميدان التمثيل النيابي تعتبر مشاركة الفرنسيين في المجلس المالي والمجالس البلدية اعتداء على السيادة التونسية ، وهي مسألة خطرة جدا، لا سيما وقد سبق للنواب الفرنسيين في تلك المجالس أن استندوا لصفتهم التمثيلية للممارسة نيابة تتعلق بالسيادة الفرنسية الصرفة.
ذكر في تبرير المشاركة المذكورة أن الفرنسيين يساهمون في ميزانية الدولة، بيد أن الحقائق الجبائية تكذب هذا الزعم؛ فإن 85٪ من موارد الميزانية تأتي من الضرائب غير المباشرة التي يتحملها المستهلكون وغالبيتهم من التونسيين، و15٪ فقط من الضرائب المباشرة يدفعها أصحاب الثروات وغالبيتهم من الفرنسيين.
وإذا كان استغلال ثروة البلاد والمشاركة في الميزانية سببا للمشاركة في المنظمات السياسية؛ فإنه لا يعقل أن يحرم غير الفرنسيين من الأجانب في تلك المشاركة ووضعيتهم كوضعية الفرنسيين.
ومن جهة أخرى، فإن طريقة تأليف المجالس المذكورة بتعيين فريق من أعضائها وانتخاب الفريق الآخر بالاقتراع العام، تمنع السيادة التونسية من الظهور في ميدانها الحقيقي، ويلاحظ أن المجلس المالي ليس إلا تمديدا للمجلس الكبير الذي لم يعد في نظر روبير شومان ذاته يتماشى مع تطور الشعب التونسي في الوقت الحاضر.
أما المجلس التشريعي فلا سلطة تفاوضية له، ولا يملك حق وضع مشاريع للقوانين، وليس له إلا إبداء الرأي في بعض الشئون المعينة، ورأيه لا يلزم الحكومة في شيء، ولا صلاحية له إطلاقا بالنسبة للمراسيم المتعلقة بالمالية والميزانية، وكذلك بالنسبة للنصوص التأسيسية المتعلقة بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وصلات هذه السلطات بعضها ببعض، كما يمنع عنه الخوض في الشئون السياسية أو الدستورية، وهكذا يقصر دور المجلس المذكور وهو منظمة تتمثل فيها السيادة التونسية، على مجرد إبداء بعض الآراء الفقهية في مسائل محددة.
ولم يدخل المشروع أي تعديل في الميدان التشريعي على صلاحيات الحماية المجحفة، بل أقرها وعززها في كثير من الحالات.
الاحتفاظ بالحكم المباشر وتعزيزه
يستمر المقيم العام كما - كان الحال في الماضي - في مباشرة سلطات إدارية مهمة (الأمن العام، الحريات العامة ، تعيين لجان التحكيم، تنظيم الامتحانات لاختيار الموظفين ... إلخ). ويبقى المراقبون المدنيون يتمتعون بسلطات عديدة يتسع نطاقها شيئا فشيئا، وفي احتفاظهم بهذه السلطات صورة من صور الحكم المباشر في النطاق المحلي للدوائر. وهؤلاء المراقبون المدنيون الذين يزداد عددهم يشرفون فعلا على المصالح الإدارية في دوائرهم، فهم يسيطرون على البوليس وعلى الحريات العامة، وهم يتبعون الإقامة العامة، وكل واحد منهم «قيصر» ناحية تتمثل فيه السيطرة الفرنسية على إدارة البلاد.
ثم إن المصالح الوزارية التي يشرف عليها المديرون الفرنسيون في الوقت الحاضر والوظائف الرئيسية المخصصة للفرنسيين و«الوظائف المستثناة»، لتقوم دليلا على الحكم المباشر. وقد عزز هذا الحكم في مشروع الإصلاحات بجعل قسم كبير من الإدارة التونسية تحت سيطرة فرنسا مباشرة، وهو يشمل مصالح الأمن العام والمالية والعدلية والشئون الخارجية والدفاع الوطني.
السكرتارية العامة
كانت السكرتارية العامة تابعة للوزير الأول، فجعل المشروع منها إدارة حقيقية مستقلة بذاتها، وعهد إلى السكرتير العام بمباشرة اختصاصات معينة واسعة النطاق، كانت تابعة لسلطات الوزير الأول، التي تشمل أقسام الإدارة المركزية، ومن بين تلك الاختصاصات مراقبة المصالح الإدارية والوظائف العمومية وإعداد البرنامج الاقتصادي والاجتماعي، وبإلغاء الصلة بين السكرتير العام والوزير الأول أصبح السكرتير العام هو الرئيس الحقيقي للدولة يباشر سلطات معينة واسعة، بينما حصر الوزير الأول في النطاق التقليدي والتشريفاتي، ومما يزيد في خطورة هذه الوضعية تكليف السكرتير العام بإعداد البرنامج الاجتماعي الذي يخوله سلطة جديدة تمتد إلى المؤسسات العامة والصحة والشئون الاجتماعية.
ثم إن تخصيص الوظائف الرئيسية (المالية والأشغال العمومية والمعارف العمومية والبريد والتلغراف والتليفون)، وكذلك وظائف السلطة التنفيذية (وهي الوظائف المستثناة) للفرنسيين وحدهم، تجعل الاتجاه إلى فرنسة الإدارة التونسية حقيقة تقرها النصوص التأسيسية، على أنه يلاحظ أن ممارسة الحكم المباشر وفرنسة الإدارة مبعثها سياسة التعمير بواسطة الموظف الفرنسي، أكثر من العناية بتحسين سير الإدارة التونسية. وقد حاولت الجالية الفرنسية، نتيجة للتوسع في السياسة المذكورة أن تركزها على قاعدة شرعية، فابتدعت فكرة السيادة المشتركة.
وهذه الفكرة العجيبة لا يمكن تصورها عقلا أو قانونا، والواقع أن فكرة السيادة المشتركة التي ابتدعت لخدمة غرض خاص، انعكست في رسالة الحكومة الفرنسية بتاريخ 15 ديسمبر، وهي الرسالة التي وضعت على أساسها مشروعات الإصلاحات خرقا لما وقع تأكيده من أعلى منصة البرلمان الفرنسي، من أن فرنسا ليست في تونس صاحبة سيادة أو مشاركة في السيادة.
الخلط بين السلطات
نجد في مشروع الإصلاحات نفس الخلط في السلطات الذي كانت تمتاز به منظمات الحماية من قبل.
فالمقيم العام يتولى منصب وزير خارجية جلالة الباي، وله سلطة على التشريع بواسطة التأشيرة (التي لا تكون المراسيم نافذة بدونها)، وإن كان هذا الإجراء غير مسلم به، كما أن له سلطة على الأداة التنفيذية بما له من حق التعقيب لدى المحكمة الإدارية. وعلاوة على ذلك يمارس سلطات تشريعية بواسطة القرارات وسلطات تنفيذية بإشرافه على مصالح الأمن العام والوظائف العمومية، ويتدخل في شئون التمثيل النيابي فيما يتعلق بتأليف المجالس وسيرها ونظامها؛ إذ إن جميع المراسيم المتعلقة بهذه الشئون لا تكون نافذة إلا إذا وقعها بإمضائه.
وقد كان من الطبيعي أن يترك الوزير الأول، وهو الرئيس الأعلى للإدارة العامة بالمملكة التونسية، حق الإشراف على مصلحة رقابة المصروفات، غير أن مشروع الإصلاحات أخرج هذه المصلحة المهمة من نطاق اختصاصات السلطة التونسية، وكلف بها مدير المال الذي يشترط فيه المشروع أن يكون فرنسيا.
ويترتب على ذلك أن إدارة واحدة تقوم بالمصروفات، وتجري الرقابة عليها في نفس الوقت، ويا له من خلط فظيع في السلطات.
نظام اللامسئولية
إن تونس من البلدان القليلة التي رفعت فيها اللامسئولية إلى درجة نظام؛ فالحكومة ليست مسئولة أمام أي مجلس لا عن سياستها ولا عن تصرفاتها، وقد حدد دور المجالس بجعلها استشارية فقط، فأصبحت بذلك مؤسسات إضافية تابعة لسلطة مطلقة بدلا من أن تكون أنظمة ذات سيادة تتمتع بحق مراقبة تصرفات الحكومة، وينشأ عن ذلك فقدان المسئولية العامة والإخلال والإسراف وإتلاف أموال الدولة، كما حدث في أثناء الحرب عند قيام نظام الاقتصاد العسير، وفيما بعد الحرب بالنسبة لشئون الإنشاء والتعمير والأعمال الكبرى وغيرها ...
مشروع الإصلاحات والديمقراطية
يتضح من البيانات السابقة أن مشروع الإصلاحات لا يعطي للمنظمات التونسية - وخصوصا المجالس - أية صبغة ديمقراطية، فهو لا يرضي رغبة الشعب في الحياة الديمقراطية.
وهذا الأمر يؤسف له حقا، ولا سيما أن رغبة الشعب في الحياة الديمقراطية تتفق مع إرادة ملكه في بعث نظام الملكية الدستورية، الذي كان معمولا به في عهد أجداده.
ثم إن المشروع يقضي على إمكانية الوصول بواسطة الإصلاحات الجوهرية في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي، إلى إحداث تغيير حقيقي في حياة الجماهير بالمدن والقرى الذين تزاد نسبة المواليد بينهم، وتعتبر من المشاكل الإنسانية الكبرى.
وبكلمة وجيزة ليست الديمقراطية الاجتماعية لغد.
بعض النتائج العملية للمشروع
لنا أن نتساءل: هل سيدخل التونسيون حقا الوظائف العمومية؟ ولنا أن نجيب دون خشية الخطأ: أن شيئا من ذلك لن يكون؛ لأنه لم تتخذ أية تدابير من شأنها إخلاء المناصب الإدارية التي يشغلها جمهرة من الأعيان الفرنسيين الذين قبلوا في تلك الوظائف خلافا للمبادئ والوعود، بقصد زيادة عدد السكان الفرنسيين وحرمان التونسيين من إمكانية المشاركة في الوظائف العمومية، فالإصلاحات في هذا الموضوع ليست إلا مجرد «إعلان حقوق ذي صبغة أفلاطونية».
وبالإضافة إلى ذلك، فإن أبواب الوظائف المخصصة للفرنسيين موصدة في وجوه التونسيين، وهو أمر يعرقل تكوين موظفين تونسيين سامين ونخبة فنية تونسية.
ولا شك في أن اللوم يوجه بعد ذلك للتونسيين، فيتهمون بالعجز عن القيام بمسئوليات الحكم، ويوصفون بعدم الكفاءة الفنية. وخلاصة القول: يشغل الفرنسيون مراكز السلطة والنفوذ والمناصب الفنية، ويشغل التونسيون المناصب الثانوية والتقليدية.
وهو أمر يضطرنا إلى التفكير في أن المسألة لا تعدو أن تكون إقامة «نظام عنصري» للوظائف العامة.
ظروف عرض الإصلاحات
تحدثنا عن ظروف وضع مشروع الإصلاحات، وأوردنا نقدنا للمشروع. بقي علينا أن نذكر الظروف التي عرض فيها المشروع على جلالة الباي وأبلغ للشعب.
بدأ الحديث عن إصلاحات في جو إرهابي اعتقل فيه الزعماء، ونبذت وزارة شنيق واقترفت أعمال البطش «والتطهير»، وشددت الأحكام العرفية، وأعيد نظام الرقابة.
ثم اعتقل الوزراء وأبعدوا، وتوالت شتى ضروب الضغط على جلالة الباي، ونشرت الأنباء المضللة والحملات المفزعة .
وكانت تلك مراحل السياسة التي نشأت عن رسالة 15 ديسمبر، وأدت إلى تأليف وزارة طيعة لتصريف الشئون الإدارية، على أن تتألف إلى جانبها لجنة مشتركة للبحث في الإصلاحات، وتبين فيما بعد أن تأليف هذه اللجنة يتطلب جهودا ، فرئي من المصلحة تسهيلا لتأليفها إذاعة خلاصة الإصلاحات، فأدت تفاهتها وأهدافها المحدودة بالإضافة إلى رد الفعل الشعبي إلى إعراض المرشحين عن المشاركة فيها، وحينذاك عهد للوزراء الإداريين الذين تحولوا إلى مفاوضين بمهمة المصادقة على مشروع الإصلاحات بعد بحثها بحثا صوريا.
ويلاحظ أن مشروع الإصلاحات يتماشى نقطة بنقطة مع ما ورد في الخلاصة التي نشرت في 2 أبريل سنة 1952، كما اعترف بذلك المسيو روبير شومان في الجمعية الوطنية الفرنسية.
أما عن مدى الإصلاحات واستعدادات المصلح، فقد أنذرنا المسيو بيناي بأن الحكومة الفرنسية لن تفعل أكثر من تلك الإصلاحات.
بيد أن هذه الإصلاحات لم تجد قبولا عند أي كان بسبب تفاهة مضمونها، الأمر الذي اعترف به على منصة الجمعية الوطنية الفرنسية، وبسبب الظروف السيئة التي أعدت فيها.
وأخيرا رأى أنصار المشروع سرعة للتنفيذ وحسما للإشكال أن يسلكوا طريق إرغام جلالة الباي للمصادقة على ذلك المشروع دون إجراء أية استشارة بشأنها - تطبيقا للمعاهدات - والمقصود هنا بالمعاهدات اتفاقية المرسى (8 يونيو 1883) التي تضمنت في فصلها الأول: «إن جلالة الباي يتعهد بإجراء الإصلاحات الإدارية والعدلية والمالية التي تراها الحكومة الفرنسية صالحة.»
إن مدلول هذه الكلمات واضح؛ فالمقصود بها هي الإصلاحات الإدارية والعدلية والمالية، ولا يمكن أن يفهم منها إطلاقا بطريقة التأويل أن يقصد بها الإصلاحات السياسية والدستورية. فهذا النوع من الإصلاحات لا يدخل في نطاق اتفاقية المرسى، وهذه الحقيقة وردت مرارا في أثناء مناقشات الأزمة التونسية الفرنسية بالجمعية الوطنية الفرنسية.
وقد صرح أحد كبار أفراد الجالية الفرنسية بتونس في محاضرة ألقاها في يوم 26 مارس 1952 بالمركز الجمهوري بباريس، أنه يرى أن القيام «بإصلاحات لم تنص عليها اتفاقية المرسى» يثير مشكلة خطيرة لها علاقة بالقانون الدولي، ويجوز تحديد هذه المشكلة في العبارات التالية:
تقترح فرنسا إصلاحات سياسية ودستورية تراها صالحة، فيرفض جلالة الباي الذي يرى رأيا مخالفا المصادقة عليها، فهل تستطيع فرنسا فرضها استنادا إلى المعاهدات.
وإزاء هذا النزاع الذي له صلة بالقانون الدولي يسوغ أنصار مشروع الإصلاحات، سواء في تونس أو باريس، باقتراح حل يستند إلى القوة.
ولكن القانون يعرض حلولا أصلح، ففي أفضل الفروض ملاءمة لأنصار المشروع؛ أي في تلك الفروض التي يكون فيها الباي قد فوض لفرنسا التصرف الكامل في سيادته الداخلية بواسطة اتفاقية المرسى، ويكون فيها الحكم على صلاحية الإصلاحات المقترحة متروكا لفرنسا، فإن القانون الدولي وفقه المحكمة الدائمة بلاهاي يمنعان في أحكام قاطعة الالتجاء إلى الضغط لفرض الإصلاحات.
وهذه هي بعض القرارات: (1)
في صورة ما إذا حامت شبهة حول نية المتعاقدين، فلا بد من الأخذ بالتأويل الذي يحد الحرية أقل من غيره (قرار 10 سبتمبر 1939، المسألة القضائية الترابية للجنة الدولية بالاودر). (2)
في صورة ومجرد شك يؤول تحديد السيادة في أضيق الحدود (قرار 17 أغسطس 1923 قضية ونبلدون، قرار 7 يونيو، مسألة المناطق الحرة بالسافوا العليا وبلاد جكس). (3)
إذا كان معنى إحدى الفقرات معقدا، فلا بد من اختيار التأويل الأخف ضررا بالفريق الذي يتحمل التعهد، الذي تنص عليه الفقرة (استشارة 21 نوفمبر 1935).
إن حكمة هذه القرارات أفضل مبرر لالتجاء الحكومة التونسية لهيئة الأمم المتحدة، لطلب تحكيمها في نزاع بين دولتين تربط بينهما معاهدات حماية مستمدة من القانون الدولي، بعد أن أصر أحد المتعاقدين على حسمه بالالتجاء إلى العنف.
الخلاصة:
تستطيع اللجنة في خاتمة هذا التقرير العام، أن تؤكد أن مشروع الإصلاحات لا يمكن الأخذ به، بسبب المآخذ المفصلة في تقارير جميع الشخصيات التونسية.
وترى من واجبها ردا على السؤال المدقق الذي ألقاه جلالة الباي على الشخصيات التونسية، ورغبة منها في البقاء في حدود مهمتها، أن تقترح مجرد رفض مشروع الإصلاحات رفضا باتا.
وبهذه المناسبة تنوه اللجنة بالعناية الكريمة التي يرعى بها جلالة الباي شعبه، وتؤكد له تعلقه المتين وإخلاصه العميق وولاءه المطلق.
المرسى في 23 أغسطس 1952
وتسلم جلالة الملك ذلك التقرير، واتخذه أساسا للمفاوضة مع فرنسا، فلم يجمع مجلس الأربعين عابثا، ولم يستشر ممثلي الشعب لاعبا. بل كانت أعماله تؤيد أقواله؛ فقد اعتبر نفسه واحدا من الشعب وفردا من أفراده، لا يتميز عن غيره إلا بالأمانة التي وضعها الله في عنقه، والمسئولية التي يشعر بها والتي يريد أن يساهمه الشعب في حملها، فكان ديمقراطيا مثاليا وملكا دستوريا، وإن لم يقيده دستور مكتوب ولا تقاليد موروثة، فأظهر لفرنسا بل للعالم كله أن تونس - ملكا وشعبا - تريد نظاما ديمقراطيا للحكم وتنبذ الفكرة الاستبدادية والملكية المطلقة التي تريد الحكومة الفرنسية المحافظة عليها لغايات لا تخفى على متبصر. لقد قرر شعب تونس رفض الإصلاحات المزعومة، فرفضها الملك أيضا، وكتب قراره ذاك في رسالة بعث بها إلى رئيس الجمهورية الفرنسية.
وهذا نص تلك الوثيقة التاريخية:
قرطاجنة في 9 / 9 / 1952
حضرة السيد فنسان أوريول
رئيس الجمهورية الفرنسية - باريس
حضرة السيد الرئيس
يدفعنا حرصنا المستمر في المحافظة على العلاقات الطيبة بين بلادينا، إلى مخاطبتكم من جديد بوصفكم - وأنتم رئيس الجمهورية الفرنسية - الحارس لما لفرنسا من تقاليد تحريرية وديمقراطية.
وغير خفي عنكم أننا لم نترك فرصة سنحت لنا منذ ارتقائنا عرش العائلة الحسينية، غداة هزيمة جيوش المحور في ميدان القتال بالبلاد التونسية، دون أن نوجه أنظار ممثلي فرنسا لدينا إلى ضرورة إصلاح الأنظمة في مملكتنا إصلاحا جوهريا، يتطلبه ما بلغه شعبنا من تطور لا جدال فيه، وما تكبده من تضحيات في سبيل تحرير أوروبا إلى جانب حماة الحق والديمقراطية. وقد أعلن الجنرال ماست وعودا لم تتبعها سوى محاولات فاترة، أفسدت جوانبها الطيبة أعمال الضغط وبقاء الأحكام العرفية.
وجاء المسيو جان مونس بدوره يؤكد في عدة خطابات وجوب «التطورات الضرورية»، ولكن عمله الإيجابي اقتصر على تغيير التشكيلة الوزارية.
فكانت الخيبات المتكررة التي واجهت رعايانا تحدث شكوكا في نفوسهم، وتعكر الثقة التي وضعوها في وعود فرنسا بإرضاء رغبتهم المشروعة؛ وإذ ذاك لبينا داعي الواجب الناجم عن المهمة الملقاة على عاتقنا، وحرصنا على تجنب تحول مظاهر القلق الذي ساور رعايانا إلى اليأس، فوجهنا إليكم في 11 أبريل 1950 خطابا أشرنا فيه بإخلاص إلى المخاوف التي تخامرنا بشأن الحالة، وإلى الضرورة الملحة في معالجة القلق المتزايد، وقد أثبت تطور الحوادث فيما بعد وجهة نظرنا.
وكنا نعتقد عند تعيين المسيو بريليه خلفا للمسيو مونس، أن الحكومة الفرنسية أدركت حقيقة المشكلة؛ إذ حددت لأول مرة في عبارات واضحة الخطوط الرئيسية لسياستها في تونس، وعهدت إليه بمهمة تحقيق الحكم الذاتي، ولهذه الغاية ألفت في 17 أغسطس 1950 (وزارة المفاوضات)، كلفت بمهمة تحديد مراحل الحكم الذاتي مع ممثل فرنسا.
وكانت الثقة التي تتمتع بها الوزارة الجديدة لدى شعبنا كفيلة بمساعدتها على نجاحها في مهمتها.
غير أن الصعوبات التي لقيها المفاوضون محليا، والعراقيل التي أقيمت في سبيل تنفيذ المجموعة الأولى من الإصلاحات الصادرة في 8 فبراير بإخلاص؛ جعلتنا نقرر باتفاق مع ممثل فرنسا إرسال وفد وزاري إلى باريس لمتابعة المفاوضات مباشرة مع حكومة الجمهورية.
ثم جاء الرد الفرنسي في 15 ديسمبر 1951 يحمل إعادة النظر في مبدأ السيادة التونسية، واستبدال المسيو بريليه بمقيم عام جديد: هو المسيو دي هوتكلوك، فكان هذان الحادثان دليلا على تحول واضح من جانب فرنسا؛ الأمر الذي ترك في الرأي العام التونسي أثرا أسوأ من أثر المماطلات التي سبقت إعلان السياسة التحريرية في سنة 1950 التي سرعان ما أهملت.
ولطالما أسفنا في أثناء المحن المؤلمة التي تجتازها مملكتنا منذ أوائل سنة 1952؛ لأن الحكومة الفرنسية لم تر من واجبها الاستماع إلى مقترحاتنا وهي ثمرة تجاربنا الطويلة. كما أسفنا لأن نداءاتنا التي وجهناها إليها للمبادرة بإعادة جو من الثقة، لم تلق منها أذنا صاغية؛ فقد آثرت الحكومة الفرنسية أن تأخذ بمقترحات أخرى لجأت إلى تدابير العنف التي لم تنج منها أية طبقة من طبقات الشعب بما فيها أعلى طبقة؛ فقد اعتقل الوزراء المباشرون لمهامهم وأبعدوا، وهم الذين لم نسحب ثقتنا منهم ولم نقلهم.
وقد وضعت هذه السياسة، التي لم يسبق لها مثيل في تونس، المشكلة في مأزق حقيقي.
وفي الوقت ذاته أعلن المسيو دي هوتكلوك، أنه سيتم وضع الإصلاحات المرتقبة.
وفي أثناء قيام الإقامة العامة بتحضير مشروعات الإصلاحات، نسبت إلينا بعض الصحف التي لا نود الخوض في مصدر إلهامها، مواقف معينة تجاه تلك الإصلاحات، وكانت تلك المواقف وهمية، ولا سيما أن مشروعات الإصلاحات لم تبلغ إلينا إلا في يوم 2 أغسطس الماضي.
وقد أبرقنا إليكم في 22 يوليو حرصا منا على تجنب كل سوء تفاهم جديد مع الحكومة الفرنسية، وعندما استلمنا لوائح المراسيم لاحظنا قبل كل شيء أنها تضمنت عدة تدابير مخالفة للغرض المقصود بالإصلاحات، وأن تلك المراسيم هي أبعد ما تكون مطابقة للتأكيدات التي تضمنتها شروحها التي سلمت لنا قبل ذلك بأيام، حيث طلب إلينا المصادقة مقدما بمجرد الاطلاع على تلك الشروح على نصوص لم نطلع عليها.
ولاحظنا من جهة أخرى أن رسالة المقيم العام المرفقة للوائح المراسيم المعروضة على ختمنا، أوردت رأيا كان أدلى به حضرة رئيس مجلس الوزراء على منصة الجمعية الوطنية الفرنسية، وضمنه رسالته إلينا بتاريخ 4 يوليو 1952: وهو أن التدابير المقترحة هي «الحد الأقصى» لما تستطيع فرنسا منحه لترضية المطالب التونسية. ومعنى هذا أنه لم تترك لنا إمكانية اتخاذ تدابير أخرى غير التي تضمنتها المراسيم المذكورة، ووجدنا أنفسنا أمام أحد أمرين: إما قبول النصوص كما هي، أو رفضها.
فرجعنا قبل اتخاذ أي موقف، على أن نستشير وفقا للمبادئ الديمقراطية التي أكدناها في الخطاب الذي ألقيناه بمناسبة ذكرى ارتقائنا العرش في 15 مايو 1951، الممثلين الحقيقيين لجميع نزعات الرأي العام التونسي، لنشرك رعايانا المخلصين في مسئولية اتخاذ قرار يتعلق بمستقبل مملكتنا.
وقد قامت الشخصيات التونسية - سواء المسلمون أو اليهود - الذين اجتمعوا لهذا الغرض بدعوة منا، بدراسة مشروعات الإصلاحات مع هيئاتهم، وقدموا لنا في خاتمة أعمالهم تقريرا واضحا نرى من المناسب أن نرسل إليكم رفقة هذا نسخة منه.
وتوضح هذه الوثيقة أن الإصلاحات المقترحة:
تكون اعتداء على السيادة التونسية.
تقر الإدارة الفرنسية المباشرة.
تعزز الخلط بين السلطات واللامسئولية في الحكم.
لا تأتي بأي تقدم في سبيل إقرار الديمقراطية في المنظمات التونسية.
وهكذا يتضح أن الإصلاحات المذكورة لا ترضي رغائب الشعب التونسي، ولا ترضي «الحد الأدنى» لمطالبنا التي حددناها بنفسنا في خطاب 15 مايو 1951، وفي مذكرة 31 أكتوبر من السنة ذاتها، وعلاوة على ذلك فإنها لا تعتبر خطوة في سبيل الحكم الذاتي الذي وعدت به فرنسا رسميا.
فمن الصعب علينا - والحالة هذه - أن نضع عليها ختمنا.
ويجدر بنا أن نلاحظ في هذا الصدد أن اتفاقية المرسى التي ورد ذكرها عدة مرات في الرسائل التي وجهها أو أحالها إلينا المقيم العام، لم تكن لتجعل حقنا في الموافقة على القوانين التي تصدر في مملكتنا مجرد مسألة شكلية، وخاصة بالنسبة للمراسيم ذات الصبغة السياسية أو التأسيسية التي تعتبر خارجة عن نطاق تلك الاتفاقية.
ولم يبق لنا من جهتنا إلا أن نأسف مرة أخرى للصعوبات التي انتهت إليها العلاقات التونسية الفرنسية، بسبب سوء التفاهم الذي جعل فرنسا تخسر فرصا كثيرة للوصول إلى حل مرض للمشكلة.
وأرجوكم، حضرة الرئيس، أن تثقوا في عواطف الصداقة التي نكنها لكم.
وتفضلوا بقبول عميق تقديرنا السامي.
الأمين الأول
اغتيال فرحات حشاد
كانت الأخطاء في السياسة الفرنسية كالحلقة المفرغة، بعضها آخذ برقاب بعض. وكل خطأ على ما فيه من مهازل ومضاحك تجر وراءها المآسي جرا. ولم تجد الحكومة الفرنسية حلا للمشكلة التونسية؛ لأنها رفضت جميع الحلول الممكنة، وعدلت عن طريق الحق، وأغمضت عينيها عن الواقع، والواقع هو أن ثلاثة ملايين ونصفا من التونسيين أبوا أن يندمجوا في فرنسا، وأن يفنوا في الشعب الفرنسي، وتمسكوا بوجودهم كشعب له سيادته وله كيانه وله مميزاته، وله أيضا أرض ووطن. ولما رأت الحكومة الفرنسية أن إرادة التونسيين لم تنثن، ألقت لدى هوتكلوك الطاغية الهزلي وللجنرال جارباي سفاك مدغشقر الحبل على الغارب، فكان الطغيان بألوانه، وكان الفتك والتنكيل، وكان التقتيل والتشريد، وكان التخريب و«التطهير».
ولما رأت السلطات الفرنسية ارتياع الضمير البشري، وموجة الغضب والحنق تهز الرأي العام العالمي هزا لهول ما ارتكبته من فظائع؛ نزعت منزعا جديدا، وعوضت اضطهادها الظاهر المفضوح باضطهاد أشنع وأقبح، ألبسته ستارا شفافا ترى خلفه أيديها المخضبة بدماء التونسيين، فقد كانت ترتكب في النهار السافر، فباتت المؤامرات تحاك بليل لاغتيال الأبرياء وتخريب بيوت الوطنيين وبث الرعب والخوف في النفوس. (1) اليد الحمراء
شكل الفرنسيون عصابة إجرامية على مرأى ومسمع من السلطات الفرنسية، أطلقوا عليها اسم «اليد الحمراء». ومن الملاحظ أن الكتاب الأحرار من الفرنسيين أنفسهم لا يذكرونها، إلا وقرنوا معها اسم أكبر موظف فرنسي بعد المقيم العام، وهو «بونص» الكاتب العام للحكومة التونسية. وقد تجرأ الكاتب المقدام فنيدوري
Finidor
على فضحهم عندما كشف الحقيقة، فقال:
1 «وليس المجرمون مستعمرين فرنسيين فقط (وعناوين «باري - برايس» تقول: «اليد السوداء» أو «اليد الحمراء» أو «اليد الكورسيكية»)، ولكن الإدارة العليا تعرفهم فردا فردا.
ويعرفهم هوتكلوك وكولونا.
وإن قادة كوماندوس (من الفرنسيين) بالقطر التونسي معروفون، وإن أسماءهم في كل فم وفوق كل لسان.
وإنه لفي الإمكان الإدلاء بأسماء رؤساء كومندوس مدينة تونس.
ومن الأدلة القاطعة على أن الإدارة الفرنسية كلها تحمي مجرمي عصابة «اليد الحمراء»، وربما تكون مشاركة لهم وساهرة على أعمالهم؛ استحالة إلقاء القبض على أي فرد من أفرادها، حتى قال لنزك لوزون
Louzon : بينما لم يفلت من الاعتقال ولا واحد ممن ارتكبوا أو ظن أنهم ارتكبوا عملية إرهاب ضد أي أوروبي أو ما يملكه أوروبي، ولم ينج من الأحكام القاسية وحتى من الإعدام ولا واحد منهم، ترى أنه لم يلق القبض ولا على واحد من المجرمين الذين ارتكبوا عشرات الجرائم ضد التونسيين، ولن يلقى القبض على واحد منهم
2
لأجل اغتيال فرحات حشاد، ولا لأجل النسف المتكرر الذي سبقه.
ونرى كذلك كل عملية إرهاب يقوم بها التونسيون مهما تضاءلت، إلا وكانت فرصة لاختطاف عشرات الدستوريين في جميع أنحاء القطر، ولإرسالهم إلى معسكرات الاعتقال بدعوى مشاركتهم الأدبية في الإرهاب، بينما لم يقع ولن يقع إزعاج ولا واحد فقط من المستعمرين المسئولين عن الجرائم التي ارتكبوها ضد التونسيين.»
نلاحظ أن «اليد الحمراء» تشرع في عملها الإجرامي كلما وجدت السلطات الفرنسية صعوبة في طريقها، تجعل من المستحيل عليها تنفيذ خطة من خططها؛ فقد لجأ المقيم العام دي هوتكلوك بجميع وسائل الضغط ليجبر رئيس الوزراء دولة محمد شنيق على تقديم استقالته ولم يفلح، إذ ذاك رأينا عصابة «اليد الحمراء» تتحرك فبعثت له برسالة كلها تهديد ووعيد في الأيام الأولى من شهر مارس 1952، وكانت محررة باللسان الفرنسي في أسلوب بليغ. وفي ليلة الأحد 16 مارس وضعت تلك العصابة قنبلة في مدخل بيت دولة الوزير، وكان انفجارها قويا شديدا نسف الباب الخارجي، فأضربت تونس احتجاجا على ذلك الاعتداء، وعقدت عدة اجتماعات شعبية، وعرض الشعب على الوزير أن يقوم بحراسته وحراسة جلالة الملك، وعم الإضراب القطر كله في الأيام التالية.
وكان جو تونس داكنا عبوسا ينضح منه السخط والغضب على مرتكبي مؤامرة الاعتداء.
ولكن الإرهاب لم يأت بالنتيجة المطلوبة، فقام إذ ذاك دي هوتكلوك بالعدوان السافر على الوزارة التونسية، وألقي القبض على الوزراء يوم 26 مارس 1952 ونفاهم إلى الصحراء.
ولقد أدخل جلالة الملك الحيرة على السلطات الفرنسية، لما جمع «البرلمان التونسي الاستشاري» الذي رفض التحويرات الاستعمارية التي عرضتها الحكومة الفرنسية على جلالته، فاغتاظت الإقامة العامة على أعضاء ذلك «البرلمان» الذي سمي «بمجلس الأربعين»، ولم يعرف طريقة قانونية يتخلص بها منهم، فإذا «باليد الحمراء» تسعى بعد حين في إرهابهم والقضاء عليهم وإبادتهم وتوجه ضرباتها إليهم الواحد تلو الآخر، وهذا جدول جرائمها في هذا المضمار:
فرحات حشاد:
الأمين العام للاتحاد العام الفرنسي للشغل، اغتيل.
فتحي زهير:
محام، أبعد ونسف بيته.
المنصف المنستيري:
صحفي، نسف بيته بالقنابل.
الطيب الميلادي:
محام، أبعد ونسف بيته.
الطاهر الأخضر:
محام، قنابل انفجرت ببيته فهدمته.
محمود الزرزري:
رئيس الغرفة التجارية، إبعاده ونسف ممتلكاته وإتلافها.
الدكتور صالح عزيز:
طبيب جراح، تهدم بيته بالقنابل.
الصادق بن يحمد:
صيدلي، نسف صيدليته وبيته بالقنابل.
الجنرال الطيب الحداد:
أمين سر جلالة الملك، نسف ممتلكاته مرتين بالقنابل.
محمد بن حمودة:
صيدلي وصديق جلالة الملك، نسف بيته.
الدكتور الصادق بوصفارة:
طبيب جلالة الملك الخاص، نسف بيته.
ولم تقتصر «اليد الحمراء» الاستعمارية على ذلك الميدان، بل عممت إجرامها في القطر كله، ونشرت الدمار والقتل والخراب، وعوضت هكذا الجيش الفرنسي الذي كان يقوم وحده بالأعمال الإرهابية، فكانت أكبر عون للسلطات الفرنسية وهي تعمل لإنزال الخوف والرعب في القلوب وبث الاضطراب في الأفكار وغايتها القضاء على معنويات الشعب وتحطيم أدبياته ، وقد جمعت قائمة طويلة في بعض ما اقترفته من جرائم نذكر شيئا منها:
14 مايو، انفجار قنبلة أمام صيدلية الأستاذ زهير بتونس.
17 مايو، تخريب مغازة بوزويتة بسوسة.
18 مايو، قنبلة أمام صيدلية بوحاجب بتونس.
22 مايو، انفجار في معمل زيوت ابن الشيخ، بنزرت.
23 مايو، نسف لوري يملكه تونسي على بعد 20 كيلومترا من مدينة سوسة.
22 يونيو، رمي قنابل يدوية على المقهى التونسي «الأهرام» بمدينة تونس وهو مزدحم بالناس.
23 يونيو، انفجار قوي جدا في مكتب الاتحاد العام التونسي للشغل بمدينة بنزرت.
25 يونيو، انفجار في أملاك الأستاذ بشر بمدينة سوسة.
وانفجار ببيت الأستاذ الهادي خفشة بمدينة سوسة أيضا.
8 يوليو، نسف بيت الدكتور الصادق بوصفارة ببلدة حمام الأنف.
9 يوليو، قنبلة بجراج الهادي بن علي بتونس.
12 يوليو، نسف بيت الدكتور العرابي بمدينة سليمان.
15 يوليو، انفجار قنبلة في بيت السيد علي الساحلي ببلدة منزل جميل.
16 يوليو، محاولة تخريب قام بها فرنسيون مدججون بالسلاح في بيت الدكتور العنابي بتونس.
24 يوليو، رمي قنبلة على مقهى تونسي بمدينة تونس.
29 يونيو، انفجار قنبلة قوية في محل شركة السياحة التونسية بتونس.
أول أغسطس، رمي قنبلتين من سيارة على مقهى تونسي بتونس.
انفجار قنبلة في بيت صيدلي تونسي ببلدة «باردو».
15 أغسطس، أطلق مجرمون مقنعون جاءوا في سيارة رصاص رشاشاتهم على مقهى تونسي ببلدة القلعة الصغرى - وكان ثلاثة من الجرحى في حالة خطيرة.
18 أغسطس، رمي قنبلة على سطح بيت الأستاذ الطبري بوادي العين.
9 سبتمبر، رمي قنبلة في بيت السيد سليمان الحداد أثناء حفلة زفاف، أربعة جرحى في حالة خطيرة.
23 سبتمبر، انفجار قنبلة قوية في بيت الشيخ النيفر ببلدة باردو.
أول أكتوبر، انفجار قنبلة في بيت السيد الغرياني ببلدة المتلوي - أربعة قتلى من بينهم طفل صغير وامرأة.
4 أكتوبر، انفجار قنبلة في بيت الدكتور نصرة بتونس.
7 أكتوبر، قنبلة أمام دكان السيد المحجوب قرب سوسة.
9 أكتوبر، انفجار قنبلة في بيت الدكتور دنقزلي بمدينة سوسة.
13 أكتوبر، نسف بقالة تونسية بحمام الأنف.
انفجار قنبلة قوية في مكتب الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة ببنزرت.
14 أكتوبر، انفجار قنبلة شديدة جدا في صيدلية الأستاذ ابن يحمد على بعد أمتار من المركز الرئيسي للبوليس بمدينة تونس.
14 أكتوبر، نسف بيت الأستاذ كعنيش ببلدة الكرم.
26 أكتوبر، نسف بيت الدكتور صالح عزيز بقمرت، ونسف بيت أخيه الدكتور المختار عزيز بحمام الأنف.
في شهر نوفمبر
تدمير بقالة السيد الأحول بالقنابل المحرقة في بلدة بئر بورقيبة.
تخريب دكان الأستاذ الزرزوري بالقنابل في بلدة بوعرادة.
اكتشاف قنبلة في بيت الأستاذ ابن عباء ببلدة المرسى.
نسف كامل لصيدلية الأستاذ ابن زينة بمدينة قابس.
انفجار قنبلة في بيت الأستاذ الطاهر الأخضر.
تخريب بيت الأستاذ الميلادي بتونس.
نسف دكان السيد الحمروني بقابس.
وأخيرا اغتيال فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر.
هل تفطن الفرنسيون إلى ما لحقهم من ضر؟ وهل أقلعوا عن غيهم وكفوا عن إرهابهم؟ وهل أدركت السلطات الفرنسية جسامة مسئوليتها بعد أن افتضح أمر «اليد الحمراء» في العالم، وظهرت حقيقتها للعيان؟ وكأن حنق القوم على الشعب التونسي وخوفهم على مناصبهم ومصالحهم أعمى منهم البصائر قبل الأبصار، فجرهم تيار الجريمة إلى متابعة الإجرام، واستمرت «اليد الحمراء» على إرهابها الشنيع تحت حماية الإدارة والبوليس والجيش الفرنسي، فنسفت بيت بنات أخت الرئيس الحبيب بورقيبة، ووضعت قنبلة انفجرت في بيت الزعيم نفسه، وكان مبعدا إلى جزيرة جالطة منذ أكثر من عام، ونسف في ذلك اليوم أيضا بيت كريمة دولة محمد شنيق. وفي أول مارس 1953 انفجرت قنبلة قوية جدا في بيت الأميرة زكية كريمة جلالة الملك وزوجة الدكتور ابن سالم وزير الصحة في وزارة دولة محمد شنيق، ونسف بيت والده الدكتور محمد بن سالم، وكذلك بيت الأستاذ جلولي فارس العضو في الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري، ووضعت قنبلة في مصنع الحلوى التونسي التابع للحاج عياد ربانة، وقتلت حسين بوزير من المواطنين في قصر هلال، وهاجمت عصابة منها مقهى عربيا بباب الخضراء في مدينة تونس، وقتلت أربعة من التونسيين وجرحت سبعة منهم. (2) شخصية فرحات حشاد
لماذا كان لاغتيال فرحات حشاد أعمق الأثر في اتجاه القضية التونسية؟ ولماذا أبقى حرقة لا تنطفئ في قلب كل تونسي؟ كتب هذا الباب إجابة عن هذين السؤالين .
كان يوم 5 ديسمبر 1952 من أيام كفاح تونس الطويل، وطلع صبحه وكأنه مغرب، قد كست الغيوم سماءه واشتد برد شتائه وغزرت أمطاره، وفي ذلك الصباح نفسه ارتكبت عصابة «اليد الحمراء» جريمتها وتناقلت شركات الأخبار نبأها، ونشرته الصحف بلهجة عادية لا ارتجاف فيها ولا تأثير ولا روح قالت (تونس، 5 ديسمبر): «كان ركاب سيارة متجهين في الصباح المبكر من تونس إلى مدينة زغوان التي تبعد خمسين كيلومترا عن العاصمة، فعثروا في الطريق على جثة الزعيم النقابي فرحات حشاد.
وكانت الجثة ملقاة على حافة الطريق بجانب الحفير، وكان الرأس مشدخا تشدخا كليا، ولم تعرف شخصية الميت إلا من الأوراق التي كانت في جيوبه.
وبعد ساعة علم أن سيارة فرحات حشاد - وهي من نوع سيتروين - قد وقع العثور عليها ببلدة رادس، على مقربة من تونس، وهي تحمل آثار طلقات الرصاص.
ولوحظ أن الجثة وضعت في مكان ظاهر مكشوف، وكذلك السيارة التي تركت في ملتقى الطرق برادس.»
وأضافت الصحافة قائلة: «ويظهر جليا أن القتلة بيتوا الجريمة وأعدوا لوازمها إعدادا دقيقا، وهيئوا تمثيلها كما تهيأ رواية مسرحية، وقد ارتكبوها في موضع بعيد جدا عن المكان الذي اكتشف فيه الجثة، ثم حمل الجثمان إلى جهة زغوان، وكذلك نقلت السيارة.»
حنق أعداء تونس وأعداء شعبها من المستعمرين، وامتلأت منهم النفوس غيظا وحقدا، واستعرت القلوب بغضا وكراهية، فلفظت الصدور حفائظها، وأبرزت طبائعها وأظهرت ما تحتويه من قسوة وخسة وانحطاط، فلم يشف غليلهم تقتيل الأبرياء رميا بالرصاص في النهار السافر، ولا دوس الأطفال بالأقدام أمام أمهاتهم، ولا التنكيل والتعذيب ولا التخريب والإتلاف، والقوة في قبضتهم والجيش في تصرفهم والبوليس تحت أمرهم حتى مالوا إلى الإجرام المبيت والفظائع النكراء، وكانوا جماعة مدججين بالسلاح، وكان فرحات حشاد وحيدا أعزل، فبعد أن عذبوه قتلوه برصاصة في رأسه، وبعد أن قتلوه شوهوا جثته وشدخوا رأسه، وهم يشعرون أنهم ينتقمون من شعب كامل لا من شخص واحد؛ لعلمهم أن فرحات رمز الكفاح وعنوان الإخلاص قد اجتمعت عليه القلوب وأحبه القريب والبعيد، واحترمه الخصوم والأصدقاء. ولو شوهت جثة فرنسي واحد لأقاموا الدنيا وأقعدوها، ولنسبوا التونسيين جميعا إلى التوحش والبعد عن المدنية، ولرموهم بكل نقيصة، ونسبوا إليهم كل عاهة ولمزوهم بالتدهور والانحطاط. ولكن زيادة جريمة تضاف إلى مئات سابقاتها لا تخدش في شرف الأسياد المستعمرين، ولا تفسد سمعتهم، ولا تحط من قدرهم ولا من نفوذ كلمتهم في العالم. وهم يكررون ويعيدون أنهم جاءوا لتونس ولغير تونس، لينشروا المدنية وليبثوا العلم في الصدور، وليخرجوا البشرية من الظلمات إلى النور «يحملون معهم حيث حلوا العدالة، يلقنون مبادئها لمن تاه عنها من الشعوب، ويعبدون طرق الديمقراطية، وينشرون الحرية والأخوة والمساواة في الدنيا!»
وكتب أحد التونسيين عن فرحات حشاد قال:
3
ثم إنه اليوم غني عن التمجيد العقيم وعن المغالاة في المدح، غير محتاج إلى أن نشهد له أو نتكثر في شأنه للتاريخ، فلعل أبرز ما امتاز به فرحات هو غناه عن الزوائد وخصبه كأرض كريمة ذات ثراء من باطنها، وبها يزكو نبتها وينشرق فيكتهل فيكون فيه للناس رزق وغنى يفيض على الإخوان جودا وبذلا وسخاء، ولا يستجدي ولا يتكئ على سند. «وتشهد بذلك حياته بما لها من مراحل متماسكة مطردة، ويشهد به تكوينه وخلقه، وتشهد به تضحيته الكبرى في صباح يوم ذي مطر وبرد وغيوم ... وقد لاقى أعداءه الكثيرين أعزل وحيدا فردا.»
وامتاز فرحات حشاد بحيوية متدفقة متشعبة كما يكون الإنسان عندما يستوي بشرا كاملا، ذكاء يتفهم النظريات العقلية تفهما دقيقا مع نظر للواقع يجعله يؤثر فيه ورجلاه على الأرض راسختان، وذهن لطيف مرن، وعاطفة رقيقة تسهل عليه مشاركة النفوس دواخلها وما بطن من أمرها، ويقاسمها آلامها وشجوها وفرحها وغبطتها. وذلك سر تأثيره في عشرات الآلاف من العمال وغير العمال، أفرادا وجماعات، فينقادون إليه بغير احتراز، ويتبعونه في غير تردد؛ إذ يشعرون شعورا غامضا أحيانا وواضحا مرات أنه أصبح عقلهم المفكر وعواطفهم الثائرة، وأنه مع ذلك بشر ضعيف كضعفهم، يعرف الألم كما يعرف العواطف البشرية الطبيعية العادية، وقد عاش فقيرا وذاق المسغبة ومسكنة الفقراء، فبات قريبا منهم، وهو صديق صدوق لأحبابه وخلانه ، وهو أب مرح يلاعب أطفاله كأنه واحد منهم، وهو زوج مثالي، وهو أحسن مثال للتونسيين جميعا؛ إذ يشعر بالأخوة البشرية بطبيعته وجبلته، وحيثما حل سواء بميلانو في إيطاليا أو بنيويورك أو بسان فرانسيسكو بأمريكا أو بستكهولم أو بباريس، إلا وتتكون صلات فطرية بينه وبين من يجتمع بهم من البشر، وكأن الفوارق قد زالت وأصبحت النفوس متلاحمة متصلة، يجهل التعصب الأعمى، ويمقت الظلم، ويتألم للقسوة، والرحمة عنده هي العدل وإرجاع الحق لذويه.
كان مربوع القامة، أبيض مشربا بحمرة، أزرق العينين، مستوي الأنف، صغيره، أصفر الشعر، من عرفه ينسى صورته بسهولة. ولكن لا يمكن أن ينسى نظرة عينيه التي تتلون بعواطفه، فتبرق عند الغضب وتضيق عند الحزم والعزم، وتصبح ضاربة للشهلة عند الألم والشفقة. وهو دوما هادئ الحركات، بل ميزته الكبرى رصانته وركونه واقتصاده في الإشارات، وحبسه للسانه. يحسن الاستماع، ويطيل الصمت، حتى إذا ما تكلم نفذ رأسا إلى عمود الكلام وصلب الموضوع، فعالجه معالجة عملية وضاءة واضحة مع عمق ودراية.
لم تسمح له ظروفه العائلية بإتمام تعليمه؛ لأنه احتاج إلى لقمة الخبز يعمل لاقتنائها، فاقتصر على التعليم الابتدائي، ولم يمنعه ذلك من أن يبز الموظفين الفرنسيين العالين عند التفاوض معهم في شئون العمال، فكان يتحدث إليهم بلغة أسلس وأفصح من كلامهم؛ لأنه انكب رغم كثرة أشغاله على دراسة اللغة الفرنسية حتى أجادها كما أجاد لغته العربية، إلى أن أصبح كاتبا فيها وخطيبا مفوها بها.
كان مولده بجزيرة قرقنة في قرية العباسية يوم 2 فبراير سنة 1914، وكان أبوه صيادا فضحى في سبيله وأرسله إلى مدرسة الكلابين التي تبعد عن قريته ميلين تقريبا، فأحبه مدرسه الفرنسي مسيو أرمان سيبيل، وشغف به لذكائه ولطفه، وقد كتب إلى جريدة «فران تيرور» مقالا إثر اغتياله قال فيه: «عاش فرحات في بيتي وعائلتي سبع سنوات.
وكان وهو صغير السن يزاول تعليمه بالمدرسة العربية - الفرنسية ببلدة «الكلابين» على بعد ثلاثة كيلومترات من مسقط رأسه ببلدة العباسية، وسرعان ما أبرزته خصاله، فهو ليس كبقية التلاميذ، فأظهر رغبة في أن يعيش وسط عائلتنا لتلهفه للعلم، فتبنيناه. وهو مكافح صادق ثابت، ولكنه خصم نزيه. وإن عاطفته الإنسانية الطيبة تجعل من المستحيل أن يكون متعصبا أو إرهابيا، وكان يتفهم شقاء إخوانه لأنه ولد في عائلة فقيرة معدمة، وقد اختار أن يكافح في سبيلهم.
وخدم مثلا أعلى، ومات لأجله.
فيحق لكثير من التونسيين ومن أعظمهم شأنا أن ينحنوا أمام تضحيته.»
وانتقل فرحات حشاد إلى مدينة صفاقس ابتغاء العيش، فعمل في أول أمره كأجير بسيط، وبعد سنوات استأجرته الشركة التونسية للنقل بالسيارات في الساحل
Sttas
كقابض على سيارات نقلها في جهة صفاقس، ثم استعملته كاتبا محاسبا في مكتبها بمدينة سوسة. وكان في عمله ذلك المتواضع يسهر على مصلحة غيره من إخوانه، فتدرج هكذا بصفة طبيعية إلى الكفاح النقابي وانضم إليه، وسرعان ما احتل بين القائمين عليه إذ ذاك مكانة تليق بأمثاله. وكان عمله متصلا اتصالا وثيقا بالساهرين الأولين على فرع تونس لمنظمة الجامعة العامة للعمل (س ج ت) الفرنسية، وكانت غايته تحقيق المساواة بين جميع العمال.
ثم شارك في مناظرة اختيار بعض الموظفين ونجح فيها، فأصبح كاتبا في الحسابات بفرع إدارة الأشغال العامة بصفاقس، واستمر ناشطا في الكفاح النقابي. وكان في آن واحد وطنيا عاملا، ففطن إلى أن النقابات الفرنسية تستخدم قوة العمال التونسيين لأهداف بعيدة عن مصلحة التونسيين جميعا، فرأى من الضروري الانسحاب من المنظمة الفرنسية وتشكيل نقابات مستقلة عنها، وكان يعتمد في تلك الفترة على نقابي مقتدر ووطني قوي وهو صديقه الحبيب عاشور، وكانا يسيران في حلبة العمل النقابي كفرسي رهان، فتشكلت على أيديهما النقابات المستقلة بمدينة صفاقس، واشتد ساعدها وقويت حتى أصبحت مسيطرة على ميدان الشغل في الجهة كلها، وإذ ذاك اتفقا مع الحزب الحر الدستوري على تكوين نقابات مستقلة في القطر كله، على أن يبقى الحبيب عاشور ساهرا على القوة الأصلية المتينة بمدينة صفاقس، وينتقل فرحات حشاد إلى تونس. وبعد نشاط في جميع جهات تونس، وتكوين عشرات وعشرات من النقابات، دعا فرحات حشاد نواب العمال إلى عقد مؤتمر لجمع كلمتهم وتنظيم صفوفهم ، فاجتمع في 5 / 8 / 1945 وخرج الاتحاد العام التونسي للشغل للوجود.
ومنذ ذلك اليوم اندمجت حياة فرحات حشاد في حياة المنظمة النقابية التونسية، وأراد فرحات أن يسمع صوت العمال التونسيين في الأوساط العالمية. ولما تقدم الاتحاد بطلب الانضمام إلى المنظمة العالمية للنقابات (ف. س. م) وقف الفرنسيون معارضين معارضة باتة؛ لأن الفكرة الاستعمارية غالبة حتى عند النقابيين منهم، ولم يدخل الاتحاد في تلك المنظمة بصفة رسمية إلا عام 1949؛ أي ليلة انقسامها وخروج غير الشيوعيين منها، ولم يعط فيها حقه الكامل، وبقي مبخوس الحظ مستهدفا لدي الفرنسيين، ورأى أن وجوده ضمنها لم يأت بالنتيجة المطلوبة، فقرر الاتحاد في اجتماع عقده في 23 / 7 / 1950 الانفصال عن ال (ف. س. م) ووافق المؤتمر الرابع القومي للاتحاد (مارس 1951) على ذلك القرار.
وشرع الاتحاد في التفاوض مع النقابات الحرة العالمية (س. ي. س. ل) في شهر سبتمبر 1950، ولبى فرحات الدعوة التي وجهتها له تلك المنظمة، فسافر إلى بروكسل في 15 / 2 / 1951 لحضور اجتماع اللجنة التنفيذية للنقابات الحرة، وكانت نتيجة تلك المفاوضات مرضية؛ لأن منظمة النقابات الحرة تحترم الفكرة الوطنية الحقيقية كاحترامها للكفاح في سبيل التقدم الاجتماعي، وهي تهتم بمصير الشعوب المغلوبة على أمرها وتعترف بأن الاتحاد هو المنظمة النقابية القومية التونسية الوحيدة وتؤيدها وتتضامن معها، وهي مستعدة أيضا لإعانتها على تكوين نقابات وطنية في الجزائر ومراكش، وتوافق على توحيد العمل النقابي في المغرب العربي كله، ووعدت بإعطاء اللغة العربية حظها في نشراتها ومجلاتها.
فقرر إذ ذاك المؤتمر الرابع للاتحاد الانضمام للنقابات الحرة العالمية على تلك الأسس.
وقد فهم فرحات أن تحرير طبقة العمال مرتبط ارتباطا لا ينفصم بتحرير الشعب التونسي بأسره، فكان يقول: «ولذا سيجد الرجال الذين يقودون الكفاح في الميدان القومي طبقة العمال في جانبهم ما داموا يسعون لتحقيق أهدافنا السامية، وسيجد النظام الاستعماري الظالم طبقة العمال واقفة في وجهه على مر الأزمان، ما دام يتحكم في مصيرنا أو في جزء منه.»
وقد بين تلك الفكرة التي كانت أساسا لعمله في حياته وسببا لموته، في تقرير عن المشكلة القومية والتمثيل الشعبي قدمه للمؤتمر الرابع. «إن النظام الاستعماري يتنافى منافاة باتة أصلية مع المصالح القومية، سواء في اتجاهاته الاقتصادية والاجتماعية أو في طرق عمله القانونية والإدارية والحربية والاقتصادية والسياسية، فمن العبث محاولة تحسين الحالة الاجتماعية أو قلب نظام المجتمع قبل التخلص من النظام السياسي والاقتصادي الحالي، وبعبارة أخرى فلسنا ببالغين هدفا من أهدافنا إن لم نعوض النظام السياسي الاستعماري الموجود بنظام سياسي واقتصادي قومي بحت.»
وقد شرح فرحات حشاد آراءه في خطبه وتقاريره ومقالاته، نقتبس هنا شيئا منها كنماذج من كتابته وتفكيره:
خطبة فرحات حشاد في المؤتمر العمالي الوطني الرابع
إن الرسالة التي نؤديها لا تهدف إلا إلى تحقيق مصلحة طبقة العمال وسعادة شعبنا ورفاهيته وتحرير بلادنا، ولن نحيد عن طريقنا هذا أبدا.
من أين يستمد الاتحاد العام التونسي للعمال قوته؟
لقد أصبح الاتحاد العام التونسي للعمال من حيث نظامه، وتعدد أجهزته الإقليمية، وقوة النقابات الأساسية، وكفاحه المستمر، وجهوده الصادقة من أجل صالح العمال، المنظمة المثالية التي تتمتع في نفس الوقت بثقة طبقة العمال وبتأييد الشعب التونسي بأسره.
وقد زادت هذه الثقة بازدياد الكفاح الاجتماعي الذي أثبت فيه الاتحاد العام أنه أحسن وسيلة لتحرير العمال.
إن الرأسمالية الاستعمارية التي استقرت في بلادنا قد ضاعفت هجماتها على حركتنا ورجالها؛ لأن تلك الرأسمالية أدركت أن كفاح الاتحاد العام يهدد امتيازاتها تهديدا مباشرا، وقد ازدادت قوة حركتنا إزاء هذه التهجمات بحيث إن العمال يبدون نحو مؤسستهم العظيمة تعلقا لا حد له بالإضافة إلى ما يظهرونه نحوها من ثقة عظيمة خصوصا في الأوقات الحرجة.
التنظيم الداخلي تمهيدا للكفاح النقابي
إن اتساع كفاح العمال ضد من يستغلونهم يكون في الواقع على نسبة تنظيم حركتهم ومدى تعزيز جهازهم وصفوفهم، وقد روعي هذا العمل المنظم باستمرار حتى يبلغ جهادنا أقصى مداه.
وقد بدأ عمل تنظيمي واسع المدى في كافة البلاد التونسية، فشمل جميع المراكز العمالية حتى في أبعد الجهات، وتسرب إلى الأوساط العمالية الريفية كلها.
دور التثقيف في الحركة النقابية
إننا لم نفرق أبدا بين الكفاح النقابي وبين تكوين دعاة في مدرسة الواقع الاجتماعي الذي نعيش فيه ونكافح في سبيل تحسينه.
وسيرا في هذا الاتجاه، تولى الاتحاد العام بالرغم من ضعف الوسائل المادية التي يملكها من تنظيم سلسلة من الدروس والمحاضرات، تمهيدا لتكوين قادة نقابيين قادرين على القيام بالمهمة التي تنتظرهم، فإن العناية بتعليم الطبقات العمالية واجب من أنبل وأوكد الواجبات الملقاة على عاتقنا.
هذا العمل هو الذي مكننا من أن نغرس في نفس العامل التونسي عقيدة بأن الكفاح الاجتماعي مرتبط بالكفاح العام لتحرير الوطن ارتباطا لا ينفصم، فالعامل يشعر أنه متضامن مع أمته، ولا يستطيع أن يتصور أي سعادة خاصة ما دام مواطنا في بلاد لا تزال مستعبدة سياسيا واقتصاديا.
الكفاح النقابي وحركة المطالبة بالحرية النقابية وحق الإضراب
إن المشكلة الأساسية هي مشكلة التمتع الكامل بالحرية النقابية وحق الإضراب.
وهذه الحرية النقابية تكون لها أهمية خاصة في مثل بلادنا وفي جميع البلاد المستعمرة؛ لأنها تحمل العمال - سواء للحصول عليها أو بفضل وجودها - على التنظيم والمناقشة والنقد والمطالبة والكفاح والاهتمام بشئون وطنهم وإعداد البرامج لخلاصه، وذلك بمقاومة قوى الرأسمالية التي تستعبد العمال وتضطهد الأمة بأسرها.
أما حق الإضراب فهو في ظل حكومة تبدو وكأنها اتخذت سوء النية والغدر مبدأ سياسيا يصبح أعز سلاح وأكثر الأسلحة مفعولية وتأثيرا بيد طبقة العمال للدفاع عن مصالحها الحيوية المادية والأدبية.
وهذا حق لن يتنازل عنه العمال أبدا حتى في حالة إقدام السلطات على محاربته. إننا لم ننتظر صدور تشريع أو أمر رسمي بإعلان حق الإضراب لاستعمال هذا الحق، كما أن محمد علي وزملاءه البواسل لم ينتظروا من قبل الاعتراف بالحرية النقابية لتأسيس النقابات التونسية الأولى منذ 27 سنة مضت.
الخلاصة
إننا انتصرنا على الجمود الذي كان يهددنا بالتقهقر القاتل في الميدانين الاجتماعي والوطني.
إننا دافعنا بكل شدة عن حرياتنا النقابية وحقنا في الإضراب، وقد أظهرت طبقة العمال التونسيين بفضل ما أبدته من تضحيات أنها أهل لمواصلة كفاح التحرير، وقد فرضت الحركة النقابية احترامها على الأعداء مهما تكن قوتهم. حقا إن الكفاح لم يبلغ نهايته ، ولكننا تغلبنا على العراقيل التي وضعها أعداؤنا، دون أهدافنا ليصرعونا، ونجاحنا في الماضي خير عربون على نجاح حركتنا التي تواصل سيرها. إن حركتنا النقابية، وهي مثال الوحدة والانسجام، ستبقى رمزا حيا نشيطا لعزم شعبنا على قهر الصعوبات واجتناب الفخاخ والأشباك وإحباط المناورات والدسائس، وفشل سياسة الاضطهاد ومواصلة السير نحو الهدف المنشود. انتهى.
ولما اعتدت فرنسا على تونس اعتداءها المسلح في يناير 1952 وسجنت القادة وأبعدت الزعماء، حمل فرحات حشاد لواء الكفاح القومي، وأصبح رمز الجهاد وكعبة القصاد، يأتمر الشعب بأوامره وينتهي بنواهيه، فمثل في تلك اللحظة الضمير القومي التونسي أنصع تمثيل، ولا يمكن أن ننسى أنه من أبرز رجال الحزب الحر الدستوري التونسي وعضو ممتاز في مجلسه الملي، فليس من الحق أن نقول إنه متصل بالحركة الوطنية؛ إذ هو عنصر أصلي من عناصرها ومسير من مسيريها، وكان من المستشارين المقربين في القصر الملكي، فلا غرابة إذا رأيناه يلعب دورا رئيسيا في مجلس الأربعين الذي دعاه جلالة الملك للاجتماع.
وأصبح فرحات حشاد عنوان الوحدة بين جميع طبقات الشعب، ومثالا حيا لإرادة تونس على تحقيق أهدافها وعزمها على متابعة الجهاد.
ولقد عبر زعيم تونس الحبيب بورقيبة عما يختلج في نفوس التونسيين جميعا، عندما تحدث عن فرحات حشاد فقال:
بورقيبة يتحدث عن فرحات حشاد
لقد بكى فرحات حشاد جميع الرجال والنساء في تونس، وقد استولى الفقيد على جميع القلوب بشجاعته وبنزاهته وبإخلاصه، ليس في تونس فقط بل في جميع الدوائر النقابية في العالم الحر.
وإن موته على ذلك النحو الفظيع بدلا من أن يدخل الذعر على صفوف رفاقه، لم يزد الأعصاب إلا تشنجا، والقلوب إلا تصلبا، والتونسيين إلا إقداما على استعمال الوسائل العنيفة. ولم تتخذ المقاومة الشعبية شكلا عنيفا إلا منذ اغتياله، فأصبح الكفاح حربا لا هوادة فيها، حربا لا يملك كل إنسان عاقل إلا أن يأسف لها؛ لأنه ليس من شأنها إلا تأخير ساعة الوفاق والوئام التي لا مفر من أن تحل إن عاجلا أو آجلا.
وقد كان من نتيجة اغتياله أن انتفعت القضية التونسية أكثر من انتفاعها بعشر سنين من الدعاية أو المناقشات أو الخطب، سواء في الميدان الفرنسي أو الميدان العالمي. وإن عدم معاقبة قتلته قد جعل التونسيين وجميع الديمقراطيين في العالم يلمسون بأيديهم ضعف النظام الفرنسي وعجزه، ذلك النظام الذي يسير في اتجاه واحد، والذي يجعل شدته وقفا على الوطنيين بينما يحمي المجرمين بدون حياء. وخلاصة القول هي أنه ما دامت الدولة التونسية لم تحصل على أول مخصصات السيادة وهي مسئولية الأمن العام، فإن حياة التونسيين وأملاكهم باقية مهددة بالخطر في بلادهم ذاتها.
إن اغتيال فرحات حشاد مع عدم معاقبة قتلته، سوف يبقى في جنب النظام الحالي كالدمل الذي يزداد مع الأيام تعفنا، ويسرع بساعة خلاص التونسيين.
وهكذا يكون فرحات حشاد قد خدم وطنه حيا وميتا.
وفي الختام أريد أن أذكر بعض الذكريات الشخصية.
إني لم أعرف فرحات حشاد كثيرا مهما يبدو ذلك مناقضا للمعقول ... لم ألتق به لأول مرة إلا سنة 1949 عندما رجعت من مصر، وقد تلاقينا من حين لآخر في الاجتماعات العامة أو الجولات الدعائية، وعندما أدعى أحيانا إلى نادي الاتحاد العام التونسي للشغل في بعض المناسبات. لقد كان لكل واحد منا مسئولياته الثقيلة، وكان كل منا يعمل في ميدانه الخاص، ولكن على أساس ثابت دائم؛ وهو أن المنظمتين: الاتحاد العام التونسي للشغل وحزب الدستور الجديد متضامنتان تضامنا وثيقا، ويجب أن تسيرا متساندتين.
ولم أختلط به عن كثب إلا خلال إقامتي بأمريكا في سبتمبر 1951، ففي «سان فرانسيسكو» خلال المؤتمر السنوي لمنظمة العمل الأمريكية (ا-ف-ل) وفي «واشنطون»، عشنا وعملنا معا ودرسنا وحللنا مشاكل خطرة تتعلق بالخطط السياسية والدبلوماسية. ولكن خلال هذه المدة الوجيزة استطعت أن أعرفه جيدا، فعرفت سر صيته، واستولى علي تماما بشخصيته اللطيفة، وعينيه الزرقاوين الكبيرتين، وضحكته الصريحة، وذكائه المتقد، وخلقه الجذاب.
لقد كان مقتنعا أشد الاقتناع بأنه لا يمكن الفصل بين قضية الطبقة العاملة التونسية والقضية الوطنية، ولذلك كان كلما عاب عليه بعض محدثيه من الفرنسيين اشتغاله بالسياسة يجيبهم «ولكن السياسة في كل ميدان ، فإذا سمحنا لأنفسنا بتجاهلها، فإنها لا تتجاهلنا، وإن العامل التونسي في كفاحه من أجل التحرر من الاستغلال، وفي سبيل التقدم الاجتماعي يصطدم بعقبات سياسية يجب عليه أن يجتازها، ولا يستطيع أن يجتازها إلا إذا اهتم بالميدان السياسي.»
وكان مقتنعا بأن الطبقة العاملة في البلاد المستعمرة؛ أي البلاد الخاضعة «لسيطرة سياسية ترمي إلى الاستغلال الاقتصادي» تعاني نوعين من الاستغلال متصلين ببعضهما: الاستغلال الرأسمالي الذي يقاسي منه جميع العمال في البلاد الحرة والمرتبطة بطرق الملكية ووسائل الإنتاج، وفوق هذا الاستغلال استغلال ذو أسلوب استعماري يجثم تحته جميع السكان الأصليين في البلاد المستعمرة ومن بينهم الطبقة العاملة. وكان مقتنعا لذلك أن هذا النوع من الاستغلال عاجل وملموس وبين أكثر من النوع الأول، وهو يعاضد ويساعد الاستغلال الرأسمالي ويجعله أشد خطورة. كما كان مقتنعا أنه في هذه الحالة يجب على كل مشروع تحريري إذا قصد به الجد والنجاح، أن يحارب النوعين من الاستغلال في وقت واحد؛ لكي يقضي على الامتيازات التي يتميز بها كل من النوعين.
وإني أعترف أنه بقي في نفسي من شهر سبتمبر ذلك الذي قضيته مع حشاد في أمريكا أثر لا ينسى؛ فذلك الرجل العظيم جمع بين حمية الرائد وحماس المكافح ورصانة السياسي وواقعيته وشعور القائد بمسئوليته ومرونة الدبلوماسي.
وهنا اطمأنت نفسي أن قضية العمال التونسيين أمسكت بها أيد صالحة، فقد وجدوا في ابن الشعب ذاك الرجل المختار الذي يملك الإرادة والوسائل الكفيلة بقيادتهم إلى النصر، ثم افترقنا ليتابع كل واحد منا سيره في طريقه، وعدت فرأيته في شهر يناير 1952 بطبرقة حيث كنت «مبعدا» وكان بصحبته الهادي نويرة، وقد جاء يقود بنفسه سيارته البسيطة؛ تلك السيارة نفسها التي أصابته فيها عن كثب أول طلقات الرشاشة في صباح ذلك اليوم المحزن الخامس من ديسمبر في نفس السنة.
وعندما ورد علي أكد لي ثقته في النصر، وقال: «سوف ننتصر في الجولة الأخيرة، فلا تتضايق؛ إن هذه المحنة الشديدة التي يجتازها الشعب سوف تكون نافعة إذ أقنعت المشرفين على الاستعمار في فرنسا بأنه لا يمكن القيام بأي شيء في تونس عن طريق القوة، وسوف لا يتخلى عنا الديمقراطيون في فرنسا والعالم الحر، وسيرجحون إن عاجلا أو آجلا كفة الميزان في جانب العدالة والحرية. سنقاوم ونصر على المقاومة مدة عشر سنين إذا لزم ذلك؛ لكي نصمد في ربع الساعة الأخيرة، وستصبح طريق التحرير القومي معبدة نهائيا، ففكر خصوصا في صحتك، فستحتاج إليها البلاد احتياجا كبيرا.»
ولكن مع الأسف الشديد سنفتقده هو يوم الانتصار، وقد تأثرت جدا وصاحبته إلى الجسر الذي يقطع الوادي الكبير عند الخروج من طبرقة، وكأني أشاهده الآن وهو يقود سيارته ويلتفت ليشير إلي بيده الإشارة التي كانت وداعه الأخير؛ إذ لم أره بعد ذلك.
ولكني تلقيت فيما بعد ذلك بمدة طويلة تعبيرا عن عواطفه، فإن كل من عرف السجن ومعسكرات الاعتقال يعلم أنه لا يوجد حائل لا يمكن أن ينفذ منه شيء يمكن المعتقل من الاتصال بالخارج.
ففي صباح أحد أيام شهر سبتمبر 1952 وفي جزيرة جالطة هذه التي رمتني فيها نزوة مسيو دي هوتكلوك، أتاني القدر بحزمة صغيرة مربوطة بعناية، ففتحتها ولشد ما كان عجبي عندما وجدت فيها مجموعة من الوثائق الحديثة نسبيا تقرير لجنة الأربعين ورسالة جلالة الباي ورد رئيس الجمهورية وتقرير ميتران وقرار من الجامعة العالمية للنقابات الحرة ... وفي آخر الوثائق ورقة صغيرة كتبها «فرحات» بيده بالفرنسية يقول فيها: «لقد جعلنا شعارنا اليقظة دائما وأبدا والصلابة.» وكتب على الهامش بالعربية: «إلى الأمام دائما فالمستقبل لنا» وأمضاها «ف.ح».
وليس هناك شك في أن ذلك الشعار بقي شعار الشعب التونسي، ولا سيما شعار رفاق فرحات حشاد الذين لهم اليوم شرف مواصلة عمله - وأي شرف عظيم! - وسيوصلونه إلى نهايته المرجوة.
جزيرة جالطة، يوليو 1953
الحبيب بورقيبة (3) الجريمة
كان فرحات حشاد يعيش في جو رهيب، يرى الأخطار المحدقة به رأي العين، ويشعر أن الدائرة تضيق، والخناق يشتد، وقد بسم بسمة الضحايا النازعة إلى مصيرها الدامي، بقلب عارف واع، وفكر متجمع سام، ونفس مطمئنة لا ترتجف إلا لبؤس الأشقياء ذوي الحق الناصع المغصوب، ولا تلين إلا للأحباء والبنين والأهل. لم يقطع الروابط البشرية، بل غذاها وواصلها وأدامها، وتابع خطاه في طريق اختاره وعرا في صعوده، محفوفا بأعداء نصبوا فيه شركهم للصيد، واختاروا زعيم المستضعفين في الأرض فريسة لقنصهم، وجعلوه هدفا لمراميهم ، وظنوا - وخسئ ظنهم وخاب - أن دم الضحية سيذهب هدرا، وأن موت فرحات سيبقي للمستضعفين ضعفهم وينزل بهم عن آمالهم في عدل يسود وحق يعود، وظلم يزول وطغيان يتهدم ويحول.
وكان حشاد - على علمه بالموت الذي حوله يطوف - يسير سيرته الأولى ويشتغل بشغله العادي هادئ البال، منتظم الأعمال، وقد كتب إلى زميله الأخ النوري بودالي رسالة ينبهه فيها إلى كيد المستعمرين واستعدادهم لارتكاب جريمتهم الشنيعة، وهذه رسالة فرحات الأخيرة بنصها:
تونس في 29 نوفمبر
عزيز نوري
إذا وصلتك هذه الرسالة وأنت لا تزال في باريس، فإن رأيي أن تبقى هناك أسبوعا آخر؛ إذ يبدو أن سياسة الاضطهاد تشتد وتستفحل، والإشاعات المتكررة تنذر بأحداث خطيرة في المستقبل القريب، وسوف توجه الضربات خاصة للاتحاد العام التونسي للشغل، وقد شرعوا يتحدثون عن قرب اعتقالي في المؤتمرات الصحفية التي تعقدها الإقامة العامة. هذا وقد نظمت حملة لإعداد الرأي العام لأعمال اضطهادية جديدة، كتنفيذ الإعدام في المحكوم عليهم بالموت، وإنشاء محاكم خاصة، والقيام باعتقالات بالجملة وخاصة من بين المتصلين بالقصر الملكي، ولا تزال الاعتداءات مستمرة وخاصة ضد أعضاء مجلس الأربعين.
أما رجال «الجستابو» الاستعماري، فإنهم يعملون في الظلام، وقد تمت عدة اعتقالات هامة جدا في الأيام الأخيرة. ويقال إن المعتقلين يوجدون في «رمادة»، بالإضافة إلى المعتقلين السابقين في «جربة» الذين وقع نقلهم إلى «برج البوف»، ولا أحد يعلم عدد المعتقلين في رمادة ولا أسماءهم.
هذا وقد علم أن عددا كبيرا من الوطنيين وقع نقلهم بصورة سرية إلى «قرنبالية»؛ حيث ظلوا طيلة أسبوعين يقاسون أنواعا من التعذيب تقشعر منها الأبدان، ولم يستطع المحامون معرفة المكان الذي نقل إليه موكلوهم.
أما الشعب، فقد جرد من كل وسائل الدفاع، وسلم مكتوف الأيدي والأرجل إلى جماعة إجرامية إرهابية. وتدعي السلطات البحث عن الإرهابيين، فتنشر الرعب والإرهاب في جهات كاملة مثل جهة «قابس» حيث تطبق مبدأ المسئولية الجماعية، وتقوم بأعمال وحشية انتقاما وأخذا بالثأر.
وينقل المعتقلون إلى جهات مجهولة، وقد توجه إليهم تهم معينة، فيحرمون من جميع وسائل الدفاع عن أنفسهم، وقد يتقرر إبعادهم وهم يجهلون كل شيء عن مصيرهم، وتبقى عائلاتهم لا تعرف شيئا عن مكان إقامتهم، ويسجن المعتقلون ويذوقون من العذاب ألوانا ومن الآلام أنواعا، ثم يتقرر عقابهم بما يرضي أصحاب حزب التجمع الاستعماري، وينفذ فيهم فورا.
وفي الوقت نفسه تركت الجريمة كاملة للإرهابيين «الرسميين» لارتكاب ما يرضي نفوسهم من جرائم بدون أي رد فعل من البوليس.
ويجري الحديث الآن حول إبادة كل ما زال حيا في الشعب، والرجعيون الذين أعمتهم العداوة سوف ينزلون ضربتهم «بالاتحاد العام التونسي للشغل» قبل كل شيء آخر.
وبما أن بحث القضية في هيئة الأمم أصبح على الأبواب، فيجب أن يقع عرض هذه الحالة، فقد أصبح من المستعجل أن يجد الشعب ومليكه الحماية الحازمة ضد أعمال الاضطهاد الآخذة في الازدياد.
وإلى اللقاء القريب
وأخذ نشاط المجرمين من عصابة «اليد الحمراء» ينتشر ويزداد في تلك الأثناء، وأعمالهم تتسع وتتعدد، وقد رفعوا عن وجوههم القناع وظهروا في النهار السافر بعد أن كان يخفيهم الليل البهيم، بل نظموا إلى إجرامهم الدعوة وطرحوا الحياء، وجاهروا بخفايا النوايا وسوء الخيانة وتبييت الغدر، والبوليس الفرنسي ينظر ويعلم، والسلطات الفرنسية تشاهد وتحمي، وملأت «اليد الحمراء» تونس بنداءاتها، وها نحن ننشر إحداها كمثال وأنموذج وهذا نصه:
انضموا إلى اليد الحمراء.
ضد استعباد تونس من قبل التجار الأمريكيين الاستعماريين، أولئك الذين أبادوا الجنس الأحمر وقتلوا سكان بورتوريكو وحافظوا على استعباد السود وشنقوا سكان الفيليبين.
انضموا إلى اليد الحمراء.
ضد فرحات حشاد الأمريكي.
انضموا إلى اليد الحمراء.
ضد تواطؤ البلاط الملكي الفاسد.
انضموا إلى اليد الحمراء.
التي ستجعل من هذه البلاد أرضا فرنسية تقوم على الحرية التقليدية الموروثة عن مبادئ سنة 1789.
الحرية والمساواة والإخاء.
أيها الرجال الأحرار، أيها الإخوان التونسيون من المسلمين والمسيحيين واليهود، في سبيل استقلالنا المهدد والمحافظة على مدنيتنا القديمة التي نشأت على ضفاف البحر المتوسط، تلك المدنية العربية واللاتينية.
انضموا إلى اليد الحمراء.
وتعالت أصوات من الصحافة الاستعمارية تدعو إلى نفس المجازر والجرائم، وتحض الفرنسيين على أن يلغوا في دماء التونسيين وتحرضهم على قتل فرحات حشاد خاصة، فأخذت التهديدات التي كانت تنشرها جريدة «تونيزي فرانس» تتضح صبغتها، وتنكشف نداءاتها للعمل المباشر، وأشارت جريدة «لابريس» بتاريخ 29 / 10 / 1952 إلى عصابة دفاعية مهمتها قتل أعداء السياسة الاستعمارية الفرنسية، وأخيرا خصصت الجريدة الاستعمارية «باريس» الصادرة في «الدار البيضاء» فصلا طويلا في عدد 29 نوفمبر 1952 عن فرحات حشاد ختمته بهذه العبارة:
إذا كان هناك رجل يهددك بالقتل، فاضربه على رأسه - كما يقول المثل السوري - واليوم يجب أن تضرب ذلك الرأس، وما لم تقم بهذا العمل الذي هو عنوان الرجولة، هذا العمل الذي فيه الخلاص، فإنك لن تكون قد قمت بواجبك.
في الساعة الثامنة وعشر دقائق من يوم الجمعة 5 ديسمبر 1952 غادر فرحات حشاد مسكنه ببلدة رادس متجها في سيارته نحو مكتبه بتونس، وكان وحده لا يرافقه أحد، وكانت زوجته مشفقة عليه من الخطر لما أطلعها على رسائل التهديد التي وجهتها له «اليد الحمراء»، وقد ألحت عليه المرة تلو الأخرى في أن يلزم بيته ويستأنس بأبنائه، وألا يخرج وحيدا فريدا، بل ليأخذ معه بعض الزملاء والأقران، فكان يجيبها بهدوء وحزم: «إن الأعمال كثيرة والمسئولية ثقيلة، أما زملائي فلا أريد أن أعرض بهم للخطر الذي يهددني - فإذا مت فالأحسن أن أموت وحدي، ولا فائدة في أن أجر جماعة إلى الموت.»
ولما وصل إلى منحدر في الطريق بعد قطع كيلومترين فقط، على مقربة من مقبرة، دوت طلقات نارية في أذنيه، وكانت سيارة تجري خلفه، قد أطلقت عليه الرصاص من مدفع رشاش، ثم لحقته وتمادت في إطلاق النار من ناحية الجانب الأيسر، فمالت سيارة حشاد ودخلت مزرعة بالقرب من سور المقبرة، وتوقفت إذ ذاك السيارة المهاجمة قليلا، وسمع إطلاق عيارات نارية من مسدس، ثم عاودت السيارة السير، وعرجت على اليمين.
وشاهد الحادث أحد الفلاحين، وكان على بعد خمسين مترا منه، وأحد الرعاة وراكب دراجة وأخيرا ركاب لوري وهم ثلاثة أوروبيون.
وتخلص فرحات حشاد من سيارته بتعب شديد، وخرج منها منحنيا لما أصابه من جراح، وطلب من سائق اللوري أن ينقله إلى المستشفى بتونس، وفي تلك الأثناء توقفت سيارة إلى جانبهم، ونزل منها أحد الركاب، وبدعوى أن تلك السيارة السريعة متجهة إلى تونس حمل أصاحبها فرحات معهم وانطلقوا به في الحال، وكان بها ثلاثة أشخاص، وكانت الساعة 8,25.
وعثر على جثة فرحات حشاد وقد مزقها الرصاص وشدخ منها الرأس وشوه الوجه ومثل بها، وكانت ملقاه إلى جانب طريق «نعسان» على بعد خمسة كيلومترات من مكان الحادث.
ووصل رجال البوليس الفرنسي بعد دقائق إلى المكان الذي به الجثة وأسرعوا في نقلها منه، فكيف تمكن البوليس من معرفة مصرع حشاد ولما تمض عليه دقائق؟
وجاء البوليس إلى مكان سيارة فرحات حشاد في الساعة 9,15، وأزال جميع آثار العجلات وغيرها وجمع بعض الطلقات الفارغة، ونقل السيارة إلى الفناء التابع للمحكمة العسكرية الفرنسية، بينما نقلت الجثة إلى المستشفى العسكري الفرنسي.
ولم يتصل القضاء بالحادثة إلا في الساعة 12,45.
وعندما بلغ أحد التونسيين مقر «الاتحاد العام التونسي للشغل» في الساعة 9,30 بأن سيارة فرحات حشاد كانت على الطريق قرب رادس وبها آثار الرصاص، أوفد الاتحاد اثنين من أعضائه في الحال إلى مكان الحادث، فاعترضتهم في الطريق سيارة فرحات يقودها أحد المدنيين على بعد خمسة كيلومترات من مكان الجريمة وكان متجها بها نحو تونس.
وتابعا السير، وعند وصولهما قرب المقبرة لم يجدا أي أثر سوى بعض الزجاج المكسور قد جمع كوما، والتقطا بعض الرصاصات الفارغة التي نسي رجال البوليس جمعها، واستمعا إلى أقوال المزارع الذي قال لهما إن فرحات حشاد نزل من سيارته وهو جريح وإنه ركب سيارة أخرى.
فذهبا إلى مركز البوليس في «مقرين» حيث قال لهما الضباط الفرنسي إنه لا علم له بشيء (بينما كان هو الذي أمر بنقل سيارة فرحات حشاد)، وذهبا إلى «حمام الأنف» فقيل لهما إنهم يجهلون كل شيء عن الموضوع (بينما كان مركز بوليس حمام الأنف ممثلا وقت رفع الجثة في الساعة 9,50)، فذهبا إلى مركز البوليس برادس، وشاهدا على مكتب الضابط الفرنسي بعض أوراق فرحات حشاد وعدة طلقات فارغة، ولكن الضابط دس الأوراق بسرعة في جيبه وقال إنه لا علم له بشيء.
ولم يعلم بمقتل فرحات حشاد إلا عندما صدر بلاغ من الإقامة العامة أذاعته محطة الإذاعة في الساعة الواحدة بعد الظهر.
وتدخل القضاء الوطني التونسي في هذه القضية باعتبارها من اختصاصه؛ لأن القتيل تونسي، وشرع في التحقيق، ولكن القضية سحبت منه فورا وبدون تقديم أي مبرر لذلك، بينما تقضي الإجراءات العادية أنه ما لم يظهر في القضية أي طرف فرنسي، فإن القضية المتعلقة بتونسي يجب أن تظل بين يدي القضاء الوطني الذي لا يتخلى عن قضية إلا بقرار منه لفائدة المحاكم الفرنسية، ولكن فيما يتعلق بهذه القضية فقد وقع خرق كل هذه القواعد.
وأشركت المحكمة الفرنسية القاضي «بوشو» في التحقيق، وكان يتمتع بسمعة طيبة في كثير من الأوساط التونسية، ثم عادت المحكمة فسحبت منه الملف، مما حمل التونسيين على الاعتقاد بأن السبب في إقصاء هذا الرجل عن التحقيق هو حرصه على كشف المجرمين.
وأخذت الإقامة العامة تنشر الأخبار المتناقضة والروايات المختلفة والافتراضات الغريبة، بعد أن كممت الأفواه وشلت الصحف التونسية ووضعت الرقابة على كل ما يقال وينقل، ونقلت الصحف والمذياعات كل ذلك، وإن المصدر الوحيد لجميع تلك الترهات هو الإقامة نفسها.
فقد بعث مكاتب جريدة «الفيجارو» الباريسية بأنموذج من تلك الأقوال في 8 / 12 / 1952:
حوالي الساعة الثامنة من صباح الجمعة، غادرت سيارة فرحات حشاد رادس حيث محل سكناه قاصدا تونس، وفي ملتقى الطرق على بعد كيلومتر واحد من رادس، جاوزته سيارة يقال إنها سوداء من نوع «سيتروين» وأطلقت نيران رشاشة على سيارة الزعيم، ووصل الشاهد وهو يقود لوري في اللحظة التي وفق فيها فرحات إلى التخلص من سيارته المنقلبة على حافة الطريق، فعرض السائق عليه أن يأخذه معه فقبل حشاد وهو يظهر كأنه جريح، وفي تلك اللحظة أتت سيارة ثانية فشكر الزعيم النقابي سائق اللوري وقال له: «هؤلاء أصدقائي فإنهم سينقلونني في وقت أسرع مما يمكنك.» وأخذ ركابها الزعيم معهم، وعثر فيما بعد على جثته في جهة «نعسان» على بعد 8 كيلومترات من تونس في طريق مدينة «زغوان»، وأظهر فحص الجثة أن رصاصة مسدس قد أطلقت في رأس القتيل.
فقد دست السلطات الفرنسية - وهي المصدر الوحيد للخبر - الكذب الصراح في تلك الرواية، فادعت أن فرحات قال: «هؤلاء أصدقائي ...» واتخذت السلطات ذلك الكذب أساسا لما نشرته فيما بعد من افتراضات، وخاصة أن قتلة فرحات يمكن أن يكونوا دستوريين! وقد فضحت الصحف الفرنسية النزيهة نفسها تلك الأكاذيب، فأرسلت جريدة «لوموند» مكاتبا لبحث القضية، فاستجوب المكاتب «م. سرا» (الشاهد الأصلي في جريمة اغتيال فرحات حشاد) وهو سائق اللوري الذي انتقل إليه فرحات قبل أن يركب في سيارة القتلة بلحظات، وقد حرفت المصادر الرسمية والبوليسية شهادته، قالت «لوموند» في 9 / 12 / 52:
كان «م. شارل سرا» ينقل بعض العمال في جهة رادس على بعد كيلومترات من تونس، وكان يسوق لوري من نوع ستروين قديم يحمل بعض الأدوات أيضا، وكان قريبا من بلدة رادس عندما شاهد سيارة من نوع «سيمكا» آتية من الاتجاه المقابل تميل يمينا وشمالا، ثم تنقلب في الحفير حذو الطريق، ونزل منها رجل وأشار إليه، ثم أوقف «م. سرا» سيارته ظانا أنه أمام حادث عادي، فاقترب الرجل وقال إنه جريح وطلب نقله إلى المستشفى الصادقي بتونس، فلم يفكر «م. سرا» في الرفض، ولكنه لاحظ أن في الإمكان إيجاد طبيب في مكان قريب، فألح الرجل في النقل إلى المستشفى الصادقي، فلم ير «م. سرا» مانعا من ذلك، وانتقل «م. برنيس»
Bernes
الذي كان جالسا حذوه إلى خلف، وأبقى مكانه للرجل الجريح الذي كان يحمل آثار دم، وليس فيه جرح ظاهر والذي جلس على الكرسي الأمامي وحده.
وحين استعد «م. سرا» لاستئناف السير في لوريه، وصلت سيارة ركاب وقفت حذوه، وكان بها عدد من الرجال لا يحملون قبعة ولا طربوشا فوق رءوسهم، ويرتدون لباسا أوروبيا، ولا يمكن ل «م. سرا» أن يعرف هل هم أوروبيون أم تونسيون، فصاح الجريح الذي لم يعرف أحد من رفاق «م. سرا» فيه فرحات حشاد: «قفوا! قفوا!» ونزل، وتبادل بعض الكلمات مع ركاب السيارة، وركب معهم وسارت السيارة.
إن الرواية التي سمعناها من لسان «م. سرا» نفسه تختلف في نقطة أصلية أساسية عما نشرته بعض الصحف بتونس التي روت أن فرحات حشاد قال: «هؤلاء أصدقائي، وإن نقلي يكون أسرع معهم»، وأكد «م. سرا مرات» ثلاثا أنه لم يسمع من حشاد تلك العبارات، ولكن كلمة واحدة وهي: «قفوا قفوا»، ولما رأى الشاهد إلحاحنا فإنه استهل كلامه من جديد بقوله: «يمكن لي أن أجزم جزما باتا ...»
إن تلك الأعمال كلها وتلك الأقاويل لا تدع شكا لشاك في أن السلطات الفرنسية تريد تزييف الحقيقة ليذهب دم حشاد هدرا، وقد أرادت أيضا أن تبخس حقه ميتا بعد أن أضاعت حقه حيا، فقصد وفد من الاتحاد العام التونسي للشغل الإقامة العامة الفرنسية صباح السبت 6 ديسمبر طالبا تسليم جثمان الشهيد، معلنا أنهم سيعدون النظام اللازم لتشييع جنازة الزعيم.
فأعلمتهم الإقامة بأن الجنازة ستقع بجزيرة قرقنة بمحضر العائلة وعشرين من قادة الاتحاد إذا ما أرادوا الحضور، فرفض الوفد النقابي.
ونقل الجثمان بالفعل على ظهر الباخرة الحربية الصغيرة «لولا نسييه»، وكانت زوجته وأولاده في صحبته.
ودفن فرحات حشاد في جزيرة قرقنة مسقط رأسه يوم الأحد 7 ديسمبر، وحضر مواراة الجثمان التراب زوجته وأبناؤه الأربعة وأخواه وبعض الأقارب؛ كل ذلك تحت حراسة المراقب المدني الفرنسي لمدينة صفاقس والسلطات المحلية.
وكان الجو رهيبا، كله خشوع.
ويوم 13 ديسمبر رجعت زوجة حشاد إلى بيتها الصغير «برادس» وأتت إلى ذلك المنزل الذي كله مآس ومآتم بأبنائها الصغار، وعمر أكبرهم ثمانية أعوام، وما زال أصغرهم رضيعا، وهي شابة في مقتبل العمر أصلها من جزيرة قرقنة كفرحات نفسه، وكانت قواها قد خارت لطول السفر وتعبه وشدة المصاب.
ودخلت بيتها مع أبنائها وأمها لا تعلم كيف تعيش ولا من أين يتعيشون، بعد أن تسلمت مفتاحها من البوليس الذي احتفظ به إثر تفتيش بيت الزعيم، وأغلقت على نفسها باب منزلها الصغير.
وتفرق من كان أمامه.
لم يوار جثمان الشهيد التراب بعد حتى تدفقت المصادر الفرنسية - وينبغي ألا ننسى أنها كلها فرنسية - تغمر الدنيا بالأراجيف المختلفة، والأكاذيب الملفقة، فحملتها عنها الإذاعات الفرنسية ونشرتها الصحف الاستعمارية بالمغرب العربي وفرنسا.
فقالت جريدة «الفيجارو» 6-7 / 12 / 1952:
وكان فرحات حشاد يخشى لا محالة اعتداء من هذا النوع، فكان يحرسه ليلا ونهارا شبان دستوريون مسلحون.
فاغتاظ أحد الفرنسيين الأحرار وفضح تلك الأكذوبة وذلك التدليس، قال
4
تحت هذا العنوان:
من الأكاذيب القذرة للصحافة المقذرة
لقد تجاسرت الصحف بعد اغتيال فرحات حشاد على القول بأن فرحات حشاد كان عادة مخفورا بحرس مسلح!
حرس شخصي مسلح! تونسيون مسلحون! والحالة أن أقل سكين لو وجد عند تونسي أو في بيته لكان كافيا لإرساله حالا للسجن أو لأحد المعسكرات!
وقد كان يستحيل على فرحات حشاد نفسه أن يحمل سلاحا واحدا رغم التهديدات التي تكتنفه من كل جانب؛ إذ كان يكون ذلك سببا في اعتقاله.
إن الجلادين يبدءون بنزع السلاح من ضحاياهم.
ثم جعلت السلطات الفرنسية تكثر من التأويلات وتعدد الافتراضات رامية إلى التضليل والتعمية، فنقلت جريدة «لوموند» (7 / 12 / 1952) عما أملتها تلك السلطات على وكالة الأنباء الفرنسية قالت نشرت «فرنس بوس» خبرا من تونس لتقديم ثلاث افتراضات ممكنة للاغتيال، فإما أن يكون مقترفو الجريمة من شق دستوري معاد لفرحات أو من الشيوعيين أو جماعات من الفرنسيين تكونوا للدفاع عن أنفسهم، ولكن محرر النص أبعد الرواية الأخيرة بمجرد ذكرها، وأضاف قائلا: «وإن عدد الذين ينفون هذا الافتراض رفضا باتا لعديد، إذ إن اغتيال فرحات حشاد يجر للفرنسيين الضر والخسران.»
لماذا تنفي وكالة الأنباء ذلك الافتراض وتغري الناس بالافتراضات البعيدة؟ كاد المريب أن يقول خذوني، وتعزيزا للافتراضات المغرضة وزيادة في المغالطة ازدحمت الصحف الاستعمارية بالأباطيل تبثها والأراجيف تنشرها والروايات تزيفها والأكاذيب تروجها.
فكتبت جريدة «الفيجارو» (7 / 12 / 1952): و«كانت المعارضة شديدة حسب ما استقيناه من الأخبار الوثيقة بين خواص فرحات حشاد وأصدقاء بورقيبة الذين أصبحوا يرون أن الزعيم النقابي قد أحرز على قيمة سياسية أكبر من اللازم منذ إبعاد رئيس الدستور الجديد إلى جزيرة جالطة، «ومصدر تلك الأخبار الوثيقة» هي السلطات الفرنسية نفسها التي تعلم علم اليقين أن فرحات حشاد ليس زعيما نقابيا فقط، بل هو أيضا من أساطين الحزب الحر الدستوري، وأحد قادته الأفذاذ وأكبر ساهر عليه، بعد نفي بقية الزعماء وسجنهم، وأن أتباع بورقيبة هم بطبيعة الحال أتباع فرحات حشاد.»
وقد اختلقت تلك الصحف القذرة رواية باطلة لتوهم الرأي العام أن القصر الملكي هو الذي أراد التخلص من فرحات، فقالت جريدة «الفيجارو» (9 / 12 / 1952) تحت عنوان: «مناقشة عنيفة تحدث خلافا بين الباي وفرحات حشاد.»
من كاتبنا الخاص: إيف لوجون
تونس في 8 ديسمبر، من الشائعات المتناقلة بتونس أنه ألقي القبض على أحد ركاب السيارة التي نقلت فرحات حشاد في أواخر أمره.
ويؤخذ من تصريحات ذلك الشخص إن ركاب السيارة كانوا من أجراء شخصية عالية قريبة جدا من القصر الملكي.
وقد قورنت تلك الإشاعة بما حدث يوم الأربعاء إذ يقال إن مشادة عنيفة جرت في مساء ذلك اليوم بين الزعيم النقابي والباي، وقد يكون السيد فرحات حشاد قد لام الملك لوما شديدا على عدم إعطاء نيابة رسمية عنه لصالح بن يوسف الموجود الآن بنيويورك ليتمكن من المشاركة في المناقشة لدى الأمم المتحدة، وقد يكون أيضا أنبه على عدم الرضى بالمشاركة مشاركة رسمية في مناقشة تلك المنظمة الدولية.
ويقال إن الزعيم النقابي عندما رأى رفض الباي طالبه وألح عليه في الطلب، بأن يطرد وزارة «م. بكوش» ويعوضها بوزارة شنيق من جديد، وكان الزعيم يريد أن يتم ذلك من الغد (الخميس) في حفلة الطابع الأسبوعية، وإنا نعلم أن الباي لم يتخذ ذلك القرار.
وجمع السيد فرحات حشاد يوم الخميس الفارط بعد الظهر قادة من الدستور الجديد والاتحاد العام التونسي للشغل في جلسة استغرقت المساء كله، وانتقد أثناءها موقف الباي انتقادا شديدا.
وكان القصر الملكي قد اتخذ احتياطات في ذلك الوقت نفسه، وكان الملك قد أخبر عن طريق حاشيته أنه مريض ملازم الفراش.
فقد سعت السلطات الفرنسية في توجيه الشكوك إلى الشيوعيين، ثم إلى الدستوريين، ولما رأت عبث محاولتها وفشلها وجهت الاتهام إلى القصر الملكي، ولكن الجريمة ألصق بصاحبها من جلده، وبقيت المسئولية كلها ملقاة على عاتق تلك السلطات.
وبلغت مسئوليتها درجة أصبحت معها العدالة الفرنسية عاطلة، وذلك ما لاحظه الفرنسيون أنفسهم، فقال «م. روبير» جوتيه في مقال كتبه لجريدة «لوموند»:
ينبغي للعدالة قبل كل شيء أن تكون عادلة، وليست بالعدالة العادلة تلك التي تعاقب بعض المجرمين وتتغاضى عن البعض، وليست بالعدالة العادلة تلك التي تخص بضرباتها القاسية الأشخاص من ذوي السمرة في الجلد والقعقعة في الصوت والهجنة في اللسان.
وإن المواطنين إذا ما فقدوا الثقة في العدالة، فإنهم يقتصون لأنفسهم.
وندخل هكذا في الدور والتسلسل الجهنمي، فالقنابل تجيب القنابل، والاغتيال يقابل الاغتيال، ويجر الانتقام الأخذ بالثأر، ويصبح الإرهاب نفسه على ما فيه من حمق وبشاعة، حسنة من الحسنات في نظر مرتكبيه.
وجد المقيم صعوبات مع السيد شنيق فلجأ إلى إبعاد بعض أعضاء الدستور الجديد، واغتيل فرحات حشاد فوقع إبعاد دستوريين من جديد، وتعددت أعمال الإرهاب التي كانت تصيب الأوروبيين تارة، وطورا التونسيين الموالين للإقامة، وطورا آخر الوطنيين، أما الاضطهاد، فاتجاهه واحد دوما واستمرارا.
وبفضل بوليس متيقظ، كانت بعض الساعات كافية لإلقاء القبض على قتلة الطيب غشام والشاذلي القسطلي، وبفضل قضاء ناشط كانت بعض الأسابيع كافية لإذاقتهم سلطة القانون العادلة، ولكن قتلة فرحات حشاد ما زالوا أحرارا خمسة أشهر بعد ارتكاب الجريمة.
فمن يتحمل ذلك منا يكن مشاركا في الإجرام، كل في مرتبته. (4) تبييت الجريمة وسبب الاغتيال
وقد تساءل كل من اهتم بقضية فرحات حشاد عن مدى مسئولية الحكومة الفرنسية فيها، وظهر جليا أن الاغتيال مبيت أعدت له العدة من قبل؛ فقد قدم حشاد في أوائل سبتمبر إلى السلطات الفرنسية طلبا بمنحه جواز سفر إلى أمريكا للمشاركة في اللجنة التنفيذية للنقابات العمالية الحرة التي ستجتمع في نيويورك، فرفضت الإقامة العامة مطلبه رفضا باتا حتى لا يفلت من قبضتها ولكي يبقى بتونس في تصرفها كالمسجون.
ومما يبعث على الارتياب في نوايا السلطات الفرنسية ويوضح سلوكها هو أن الباخرة الصغيرة «لولا نسييه» التي نقلت جثمان الشهيد من العاصمة إلى جزيرة قرقنة حيث وقع دفنه كانت قدمت من ميناء بنزرت إلى ميناء تونس في الليلة التي سبقت يوم الاغتيال ، وكانت في انتظار تعليمات خاصة، وفي صبيحة الحادث كانت جميع الطرقات المؤدية إلى الجنوب تحت مراقبة شديدة.
أويكون من باب المصادفات أن سافر المقيم العام إلى باريس ليلة الاغتيال؟ أولم يكن سفره إبعادا للشبهة؟ أولم يكن على علم من تبييت الجريمة؟ وقد أجابت الصحف الفرنسية المطلعة على تلك الأسئلة، فقالت جريدة «فران تيرور» (7-8 / 12 / 1952) «أولم ترتكب الجريمة يوم الخميس؟ أولم يعلم بها «م. دي هوتكلوك» عندما جاء إلى باريس بغتة؟» ثم أضافت: «إن تلك الجريمة السياسية أتت إثر سلسلة من تنفيذ الإعدام تمت يوم الخميس بمدينة قفصة، بينما لم يقع العثور على أي فرد ممن ارتكبوا جرائم إرهابية ضد التونسيين، وأخيرا حدث اغتيال فرحات حشاد إثر عام كامل من الاضطهاد للحركة التونسية.»
أما جريدة «لوموند» فكانت أوضح وأجلى إذ قالت (7-8 / 12 / 1952): «يظهر أن اغتيال فرحات حشاد أدخل الذعر على خواص الباي وعلى القادة الدستوريين، ويظهر أيضا إن الإقامة العامة لم تستغرب الأمر، بل اغتنمت الفرصة لتتخذ بعض الإجراءات لاستتباب النظام التي كان الداعي لتأجيلها عدم عرقلة أعمال هيئة الأمم (أي إن خشية هيئة الأمم هي التي جعلتها تتأخر عن اتخاذها) ...» ثم إنها رغم احتياطاتها اللفظية صرحت بالحقيقة فقالت: «ولنلاحظ بهذا الصدد حسب بعض الإشاعات أن المقيم العام قد وقع إعلامه قبل سفره إلى باريس بأنه من المحتمل وقوع تلك الجريمة.»
هل أطلع دي هوتكلوك الوزراء الفرنسيين على خفايا الأمور الجارية بتونس؟ وهل أعلمهم بما ترتكبه السلطات الفرنسية؟ وهل وافقوه على إجراءاته الظاهرة والخفية؟ ومهما يكن من أمر، فقد نشرت الصحف الفرنسية بتاريخ 6 / 12 / 1952 بلاغا عن اجتماع الوزراء الفرنسيين بالمقيم العام جاء فيه: «انعقدت جلسة عاجلة بين الوزراء في قصر ماتينيون حضرها «م. هنري كوي» و«م. روبير شومان» و«م. ريني بليفن» و«م. دي هوتكلوك» الذي وصل صباح ذلك اليوم إلى باريس.
وقد بحث المجلس وقرر بالتدقيق الإجراءات اللازمة لاستتباب النظام والأمن.»
إن كل بحث في الاستعمار الفرنسي بتونس يثبت أن المسئول الحقيقي عن جميع ما يجري من عدوان ومؤامرات واضطهاد وفظائع هي الحكومة الفرنسية بما تسنه من سياسة وبما تريد فرضه من حلول وبما تعطيه من أوامر لممثليها؛ ولذا نرى كل أجنبي انحنى على القضية التونسية بالبحث والتفاهم إلا وأعلن ذلك، وقد قاله «م. فالتر روير» رئيس «س-ي-و» مؤتمر المنظمات والصناعات الأمريكي في تصريح له أدلى به إثر اغتيال حشاد، فقال: إن خبر اغتيال فرحات حشاد الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل وزعيم قوات الحرية التي تتجمع في الشرق الأدنى قد أدخل على «مؤتمر المنظمات الصناعية» الشجى والارتياع. «وكان حشاد رئيسا لجميع مواطنيه الذين يكافحون في سبيل استقلالهم والعدالة الاجتماعية والاقتصادية وفي سبيل الاعتراف للإنسان بكرامته البشرية.
وليس المسئولون مباشرة على الاغتيال بمعروفين الآن، ولكننا عند التحقق نرى أن الحكومة الفرنسية تحمل قسطا وافرا من المسئولية في ذلك الاغتيال.
إذ إن الفرنسيين برفضهم فهم الحكم الشعبية والاجتماعية التي تضطرب اليوم بالشرق الأدنى وبمعارضتهم كل مفاوضة نزيهة مع المنظمات الوطنية المعتدلة بتونس التي تؤيد جهرة قضية الديمقراطية والعالم الحر وبإجراءاتهم التعسفية المدبرة والمعطلة لنشاط الاتحاد العام التونسي للشغل جعلوا من المستحيل على المعتدلين أمثال فرحات حشاد أن يصلوا إلى نتيجة إيجابية في أعمالهم.
ويمكن للمجرمين أن يقتلوا رجالا أمثال حشاد، ولكن لا يمكنهم أن يقضوا على المثل العليا التي كانت تغذي نشاطهم ولا على الحركات التي كانوا يقودونها.
وستستمر القوات التي شيدها حشاد في سيرها إلى أن تبلغ الغاية المنشودة وهي الحرية للجميع.
وإن «س-ي-و» لتعبر عن أخلص وأعمق عطفها على عائلة ورفقاء فرحات حشاد وعلى جميع من يكافحون في سبيل حرية تونس.»
وخطا عدد وافر من الكتاب الفرنسيين خطوة جريئة وأعلنوا بصراحة أن اغتيال الزعيم التونسي جريمة دولية.
فقال الكاتب الحر «جان روس» بعد عام كامل من الحادث: «مات فرحات حشاد ، لقد اغتالوا فرحات حشاد»، ما كاد خبر تلك الفاجعة ينتشر حتى تيقن الرأي العام الشعبي رغم مداهنة التعازي الرسمية إننا أمام إحدى تلك الجرائم التي ترتكب لغايات دولية، فقيل إنهم لم يتجاسروا على اعتقاله بصفة رسمية ، فليقتله إذن بوليس إضافي، وقامت الحجة بعد عام على أن الحدس الشعبي لم يكن مخطئا إذ إن الحكومات الفرنسية المتوالية حرمت على قاضي تحقيق نزيه إمكانية الوصول إلى نتيجة بحثه، وبينما لم ينج من السجن ولو مكافح تونسي واحد، فإننا ما زلنا ننتظر اعتقال المسئولين عن اغتيال فرحات حشاد والمسئولين عن مئات أعمال الإرهاب التي ارتكبت ضد التونسيين.
وخاصة ضد واحد من خيارهم وهو الهادي شاكر عضو الديوان السياسي للدستور الجديد الذي كان تحت «حماية» البوليس الرسمي.
وقد فضح الكاتب الجريء «دانيال جيران» مؤامرة السلطات الفرنسية فقال: «لا أظن أن أسماء الفرنسيين الأشقياء الذين دنسوا بالعار عرض فرنسا في صباح 5 ديسمبر 1952 مجهولة في «الإليزية» (مقر رئاسة الجمهورية الفرنسية) ولا في «الكي دورسييه» (مقر وزارة الخارجية) ولا عند المطلعين على خفايا السياسة، وحتى في مكتب قاضي التحقيق، ولكن كل واحد منهم التزم الصمت والكتمان، فإن الجريمة كانت من الشناعة وكان الموزعون بها من علو في المناصب ما جعل الناس يخشون رفع الستار عن أسرارها.»
وخشية أن تفتح الأفواه المكممة وأن تذاع الحقيقة كان السيناتور «كولونا» يتوعد في المدة الأخيرة بصواعق القانون كل من تحدثه نفسه بإفشاء أسماء المجرمين أو حتى جنسيتهم. «وإن الصحافة الكبرى التي ترتمي عادة على الجرائم والفظائع ارتماء لم تنشر عن قضية فرحات حشاد إثر اغتياله، إلا مقالات مقتضبة كتبت وصدرت عن مكاتب الذين اغتالوه أنفسهم، ثم لم تعد تهتم بعد مدة وجيزة بمقتل الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل، وهي تعتبر لا محالة تلك القضية قد انتهت.»
وشمل الغضب والحنق قسما كبيرا جدا من الفرنسيين أنفسهم الذين رأوا في تلك الجريمة وصمة عار لا تمحى في جبين فرنسا، فتضامن عدد وافر من الشخصيات الكبرى مع شعب تونس ووجه جماعة منهم البرقية التالية للمكتب الإداري للاتحاد العام التونسي للشغل «نأسى لاغتيال فرحات حشاد ونعبر عن تضامننا مع العمال المكافحين والشعب التونسي، نعد بنشاط لا هوادة فيه لإنزال العقاب بالمسئولين عن سياسة الشدة المرتكبين مباشرة أو بواسطة للاضطهاد والجرائم.»
وقد أمضى تلك البرقية خاصة أراجوان، وبوردي، ودمناشرة، ودي شيزل، وأميل كهن - ومادول، ولاكروا، ومارتيني، وروس، وستيفان.
وظهرت الحقيقة ناصعة جلية، وصرح بها الكاتب الفرنسي الحر فيسنيدوري فقال: «إن تغاضي السلطات الفرنسية الكامل عن مرتكبي الجرائم ضد التونسيين وعن الذين نظموا تلك الجرائم وسهروا على تنفيذها والذين أغروا بها وحرضوا عليها لهو الدليل القاطع على مشاركة الدولة وغيرها»، وأضاف: «إذا علمنا أن المستعمرين قد قالوا منذ عام وبينما كان شنيق يتفاوض بباريس أنهم لن يقبلوا اتفاقا لا يرضيهم وإذا علمنا أنهم قد أعدوا الكوماندوس للهجوم منذ ذلك الوقت، وقد عقدوا العزم على شدخ رأس فرحات حشاد «كما يشدخ رأس الحية» وإذا قرأنا النداءات للاغتيال التي يوجهها ذلك السافل «كاميل إيمار».» (وقد استقبلته الإقامة العامة بتونس في الصيف الماضي)، وإذا علمنا ضغط «السيناتور كولونا» على رجال «الكي دورسي» (مقر وزارة الخارجية الفرنسية) الذين لا إرادة لهم ولا عزم، فلا يبقى شك في أن المجرمين القتلة من المستعمرين الفرنسيين. «وهؤلاء مجرمون قتلة يتمتعون بحماية رجال ذوي نفوذ وسلطة؛ إذ لم يقع العثور عليهم إلى الآن والظروف نفسها التي ارتكبت فيها الجريمة - بين مركزين من مراكز البوليس يبعد الواحد عن الآخر خمسة كيلومترات، وفي الساعة الثامنة صباحا، وفي طريق كثير المارة - لا تبقى شكا في أنه لم يقع العثور عليهم، لأنه لا يراد طلبهم ولا التفتيش عنهم، ولم يقع التفتيش عنهم لأنهم معروفين.
ولا يمكن لغير الجيش والبوليس أن يتجول باطمئنان وهو مسلح بالرشاشات والمسدسات في بلاد تعيش تحت حالة الحصار في جو حرب منذ أشهر.
ولكن رغم ذلك كان للمجرمين سيارتان، جرحت الأولى فرحات حشاد برصاص مدفع رشاش، وأتمت الثانية قتله برصاص مسدسات. ... ولو كانت تصريحات شهود الجريمة تسمح باتهام الستالينيين (الشيوعيين) والدستوريين، فهل تظنون أنهم لا ينشرونها، ولا يشهرون بها؟» (5) أسباب الجريمة
إن أسباب الجريمة وإن تعددت تتلخص كلها في أن السلطات الفرنسية اعتبرت فرحات حشاد سدا في وجهها وعرقلة في طريقها ولم تجد وسيلة للتخلص منه غير الاغتيال، فهو من زعماء العمال الكبار في العالم تحميه منظمات العمال العالمية وخاصة النقابات الأمريكية، وهو زعيم وطني قد التف شعب تونس كله حوله، وهو مستشار الملك مسموع الكلمة مهاب الجانب، فلم تتجاسر الإقامة العامة على نفيه وإبعاده خوفا من إثارة عاصفة في العالم وخاصة في أمريكا، ولم يقدر البوليس على اعتقاله خوفا من ثورة عامة، ولم تتمكن المحاكم الفرنسية من توجيه أية تهمة ضده، وإذا بالصحافة الاستعمارية نفسها تتكفل بفضح سلطات الحماية وتظهر بالإشارة والتلويح والتلميح للأسباب الحقيقية التي أدت إلى اغتيال فرحات حشاد، إذ تعتبر تلك السلطات حشاد حجر عثرة في طريقها سواء في الشعب وداخل البلاد أو في الخارج، فلا بد من إزالتها، وظنت أنها عندما استراحت منه قد فتحت لنفسها الأبواب وحررت طريقها.
السبب الأول للاغتيال هو القضاء على أكبر مستشار للباي، وأعظم سند له، وإدخال الرعب في القصر الملكي كما اعترفت به جريدة «الفيجارو» الاستعمارية التي تستقي أخبارها من الإقامة العامة بتونس، قالت (8 / 12 / 52): «إن أهمية رسالة «م شومان» للباي تضاءلت بموت فرحات حشاد، وقد اطلع عليها ابن الملك والزعيم النقابي المستولي على القصر استيلاء، ولا ينتظر أن يكون الجواب عن تلك الرسالة عاجلا وإن كانت صريحة مكتوبة بصيغة الأمر لا تقبل تأويلا، وأن رد الباي الذي تم تحريره في هذا الأسبوع والذي ختم برفض مذكرة 26 نوفمبر فقد فقد بموت فرحات حشاد محرره الأصلي، وفقد القصر أعز مستشاريه، ويقال إن الشاذلي باي تأثر جدا بذلك الاغتيال.»
والسبب الثاني للاغتيال هو السعي في أن يصبح الباي في عزلة تامة لإضعاف معنوياته وإرضاخه لإرادة دي هوتكلوك، وأن الخطة لعزلة الباي باغتيال فرحات حشاد وإبعاد بقية مستشاريه كلهم كانت من الوضوح مما جعل تونس كلها تتفطن إليها، وإنا نجد الدليل على وجود تلك الخطة فيما أبرقه مكاتب «باري بريس» بتاريخ 10 ديسمبر، فقد لخص في سذاجة ووقاحة جميع خطة الإقامة العامة والمستعمرين وخاصة فيما يتعلق بتهديد الأمير سيدي الشاذلي نجل جلالة الملك بالإبعاد، وكان عنوان مقاله (مائة وأربع رءوس) وهذا نصها:
لماذا - يا ترى - أصبحت السلطات الفرنسية تعير بغتة وجود الأمير الشاذلي بجنب الباي من الأهمية ما جعلها تعتبر أن بقاء ذلك الأمير سيحتم إما التنازل أو الخلع؟ وعللوا ذلك بما يلي: أن بورقيبة المسجون وسط مائتي صياد بجزيرته الشبيهة «بسانت هيلينة» الفاصل بينه وبين شواطئ تونس البحر، قد نسيته الجماهير وإن لم ينسه المخلصون له، ويأتي بعد بورقيبة، فرحات حشاد الذي كون نقابات ديكتاتورية، وقام بحملة إرهابية، فأزيل فرحات حشاد من الطريق، وما كان لأي منهما قيمة لو لم يتحدا مع الباي بواسطة ابنه، فبورقيبة مبعد، ومنافسه صالح بن يوسف هارب في الولايات المتحدة، وفرحات حشاد مقتول، فلم يبق للثورة السرية إلا مائة وأربع رءوس، منهم مائة وثلاثة مبعدون اليوم في الجنوب برمادة وبرج القصيرة (ويقال بصفة رسمية أن السجن الإداري سيقف عند هذا الحد) ولكن رقم مائة وأربعة لا يمكن أن يمس.
فلا يمكن لكاتب استعماري أن يكون أكثر رقاعه ووقاحة.
ومن أسباب الاغتيال، شل الحركة الوطنية وإدخال الاضطراب والفوضى فيها والقضاء على معنوياتها بالقضاء على قادتها إبعادا وسجنا وتقتيلا حتى تبقى جسدا بلا رأس وجثة بلا روح؛ ولذا كان قتل فرحات حشاد غير كاف وحده لبلوغ تلك الغاية، فاغتنمته الإقامة العامة فرصة لإتمام خطتها، وأبعدت بعد الحادث بيوم واحد إلى «رمادة» في صحراء الجنوب التونسي تسعة من قادة الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الدستوري الجديد وهم: الأستاذ محمود المسعدي الأمين العام للاتحاد والسادة عمر الرياحي عضو اللجنة الإدارية للاتحاد، ومحمود الخياري والصادق الشايبي من جامعة الموظفين التونسيين، ومحمد الري قائد نقابة عمال الرصيف، والدكتور الصادق المقدم المسير للحزب الدستوري الجديد، والمعروف بصداقته لفرحات حشاد، وعمر بوزيد من دستوري صفاقس، والأستاذ فتحي زهير أمين «لجنة الأربعين» التي استشارها الباي في مشروع الإصلاحات الفرنسية.
وقد أقدمت الإقامة العامة على «إجراءات الإبعاد» بدعوى أن القادة الوطنيين قد اتفقوا في اجتماع مشترك بين الدستور والاتحاد على القيام بثورة عامة، ثم لما رأت أن تلك الدعوى لم تصدق، عللت الإبعاد بحماية هؤلاء القادة من «اليد الحمراء .» فعلقت الجريدة الباريسية «فران تيرور» بكلام لاذع على الأدوار الهزلية المشينة التي يقوم بها دي هوتكلوك في مقال عنوانه: «الحامي المستهتر» قالت:
لقد تمت - بعد - ست إيقافات هامة إثر اغتيال فرحات حشاد. وكلهم من أصدقاء الضحية.
لا تظن أنك نائم غارق في الأحلام، وكان أول رد فعل ل «م. دي هوتكلوك» بعد رجوعه إلى تونس هو إلقاء القبض على محمود المسعدي الذي عوض المسكين حشاد في قيادة المنظمة النقابية التونسية وإرساله صحبة خمسة قادة نقابيين ودستوريين آخرين إلى رمادة على حدود الصحراء.
ويدعي أنهم «أبعدوا» محافظة على سلامتهم.
إن هذا النظام السياسي لعجيب؛ إذ ليس أمام المعارضة فيه إلا الإبعاد أو الموت، وأن علم الجمهورية يحمي هنالك بضاعة غريبة!
يقولون لنا إننا نعيش في نظام ديمقراطي وكأن المظاهر تؤيد ذلك القول في هذه الجهة من شواطئ البحر المتوسط؛ إذ لما كان الأستاذ محمود المسعدي المبرز في الفلسفة والدكتور في الآداب بباريس يدرس في «السربون» كان يرجع إلى بيته في المساء ولا ينذعر من كل دقة على بابه في الصباح، والأستاذ المسعدي نفسه يختطف اختطافا بعد رجوعه لوطنه وبلاده بإذن جبار يتصرف في الحظوظ كما تمليه عليه شهواته، ولكن ذلك الجبار ليس إلا موظفا فرنسيا.
ومهما أعادوا لنا وكرروا بأن تلك الأمور طبيعية، فإننا لا يمكن بحال أن نقبلها ونتعود بها، وإن عبرنا عن دهشتنا واستبشاعنا يعتبروننا فرنسيين غير صالحين ممن يساندون خصوم بلادهم وهي في موقف المتهم أمام الأمم المتحدة.
فمن هو أكثر أذى لفرنسا؟ هل الذين بقوا أوفياء لأسمى تقاليدها أم الذين أعطوها وجها غير وجهها وأظهروها في غير مظهرها.
وقد كثر التحدث في الأيام الأخيرة عما قام به الفرنسيون بتونس، وهي أعمال عظيمة حقا، ولكن ينبغي أن نعترف أن السكك الحديدية والطرقات والمواني والمستشفيات والمدارس نفسها غير كافية لاكتساب اعتراف شعب وصداقته إن لم نأت له أيضا بالحرية والمساواة، وأن السيد المسعدي يقدر لفرنسا أن سمحت له بأن يحرز على التبريز في الفلسفة والدكتوراه في الآداب، ولكن من الصعب عليه أن يتغنى بمدح نظام يجرده من كل حق سياسي ويرسل به للسجن من غير مبرر.
ويجيب «م. دي هوتكلوك» أننا في وقت اضطرابات وأنه من المحتوم المحافظة على الأمن، كأن النظام هو الظلم وكأن الاضطرابات لم تكن نتيجة رفض منح الحريات لشعب كامل ...
ولاحظت جريدة لوموند: «أن الإجراءات التي اتخذت ضد عدد من القادة الدستوريين والنقابيين أدخلت الدهشة والاستغراب.» وذكرت ادعاءات الإقامة العامة بلهجة لا تخلو من الشك والتهكم الخفي.
لما قامت «اليد الحمراء» بدورها في المأساة الاستعمارية ونفذت الخطة التي وضعت لها، دخلت القوات الفرنسية المسلحة في الميدان لتزيد الخناق شدا والشعب تكبيلا وربطا، فأعلنت القيادة العليا حالة منع التجول لأجل غير مسمى، وكان قرارها الذي يظهر أنها أعدته من قبل ماضيا منفذا مساء يوم الجمعة من الساعة الثامنة - أي يوم اغتيال فرحات حشاد. وبقيت الجنود على تعبئتهم وسلاحهم في الثكنات استعدادا للقمع والتنكيل، وأخذت دوريات الحرس المتنقل تجوب تحت المطر شوارع مدينة تونس المقفرة الليل كله، وفي الصباح خرجت قوات مسلحة ضخمة تطوف في المدينة.
وأرادت السلطات العسكرية أن تحطم معنويات الشعب وأن تبث الرعب في قلوب المجاهدين وأن تنشر الإرهاب الرسمي حذو الإرهاب الشبيه بالرسمي، فنفذت الحكم بالإعداد على عدد من الوطنيين وأصدر القائد الأعلى لجيوش الاحتلال البلاغ التالي في صباح يوم الاثنين 8 / 12 / 1952:
قرر حضرة رئيس الجمهورية بتاريخ 3 ديسمبر في مجلس العدالة الأعلى وبعد النظر في مطالب العفو، أنه ينبغي للعدالة أن تتبع مجراها فيما يتعلق بالمسمين حمادي بيانكو (المعروف بزيدان) ومحمد بن الناصر والبشير بن خصيبة الذين أصدرت عليهم المحكمة العسكرية القارة بتونس في 11 يونيو 1952 حكما بالإعدام بتهمة القتل ومحاولة القتل، ووقع إعدام الثلاثة رميا بالرصاص في مدينة تونس في فجر 8 ديسمبر 1952. وعلقت الصحف على ذلك قائلة: ولأول مرة في تونس ينفذ حكم بالإعدام أصدرته المحكمة العسكرية.
ولا أظن تاريخ 3 ديسمبر قد اختير مصادفة، يومين فقط قبل اغتيال حشاد، ولا تاريخ اغتيال هؤلاء الشهداء (8 ديسمبر) ثلاثة أيام بعد الاغتيال، ويظهر الارتباط جليا بين إرهاب السلطات العسكرية وإرهاب «اليد الحمراء.» (6) تأثير الإرهاب ورد الفعل
لقد استبشرت الجالية الفرنسية وفرحت وأظهرت ارتياحها لذلك القمع العنيف الشديد وقد امتلأت قلوبها بغضا للتونسيين وحنقا عليهم وميلا للانتقام منهم، وكانت شماتتها بقدر خوفها على ضياع امتيازاتها ومصالحها غير المشروعة، وما فتئت تنادي بوجوب استخدام القوة واستعمال الضغط، ونشر الإرهاب وإبادة الوطنيين والقضاء على الشعب التونسي كشعب عربي مسلم، وقد عبرت جريدة «لوموند» عن عواطفهم بألفاظ تظهر الحقيقة خلال اعتدالها قالت: «وارتاحت الجالية الفرنسية للإجراءات التي اتخذتها الإقامة العامة والقيادة العليا، وما زال الأكثرية من الفرنسيين يعتقدون أن إظهار القوة في الحالة الراهنة قمين بإرجاع الهدوء لتونس.»
واعترى التونسيين الذهول وغلب عليهم الأسى وتملكتهم الهموم، وعدها الكثير منهم نكبة خاصة وفاجعة شخصية، وقد هجمت المصيبة على القلوب، فغمتها حتى رأيت الناس كالسكارى المبهوتين، ناسين كل شيء ما عدا وجه حشاد المشدخ وجسمه الدامي، وعم الحزن الشوارع والبيوت ولم تنقشع الدهشة إلا بعد مدة.
واجتمع الجم الغفير في المساجد، فاكتظ جامع الزيتونة بآلاف من التونسيين يوم الأحد 7 ديسمبر منذ الصباح المبكر، وخرجت منه بعد الظهر مظاهرة شعبية رائعة قاصدين الإقامة العامة التي كان يحرسها قسم كبير من الجيش وتحميها السيارات المصفحة والدبابات والبوليس، وما أن وصل المتظاهرون إلى شارع الكنيسة حتى اصطدموا بالحرس المتنقل الذي منعهم من المرور وهاجمهم بعنف وأمطرهم بوابل من الرصاص، وبعد أن عززته قوات النجدات المتوالية، ارجع المتظاهرين إلى الجامع، وقد ادعت المصادر الرسمية كعادتها أن طلقات نارية صدرت عن الجماهير نحو قوات البوليس التي لم يصب ولا واحد منها، واعتقل عدد وافر من التونسيين، ولم يحص عدد الأموات.
وكانت الحالة متوترة جدا، والدوريات المدججة بالسلاح تجوب أحياء المدينة، ولا يسمح لأي تونسي بأن يخرج من الحي العربي إلا بعد أن يستظهر بأوراق تعريفه، وأن يفتش تفتيشا دقيقا ويهان وينكل به.
واستمرت الحوادث مدة طويلة، فكانت تونس مسرحا للاصطدامات أسبوعا بعد اغتيال فرحات حشاد، وكانت المساجد يوم الجمعة ملآى غاصة بالخلائق في جميع القطر، وأقيمت فيها كلها صلاة الغائب على روح الشهيد إثر صلاة الجمعة، وتعالى الدعاء من آلاف الأفواه، وساد الخشوع والجلال فبكي الناس تأثرا.
وخرج المصلون في مظاهرات هادئة منظمة في جميع أحياء تونس، وخاصة في حي باب سويقة وحي باب الخضراء.
وتظاهرت الوطنيات التونسيات في جهة باب الخضراء واصطدمن اصطدامات عنيفة بقوات البوليس ونظم إثرها الشبان مظاهرة أخرى في نفس المكان، فألقي القبض على أربعة منهم في معركة حامية.
وفي شارع الملاحة هاجم التونسيون محلات التجارة الفرنسية فكسروا ودمروا وأتلفوا، وفر الفرنسيون وقد ملأ الرعب قلوبهم، واستنجدوا بقوات البوليس والجيش التي لا تعرف رحمة.
وقرر الاتحاد العام التونسي للعمل القيام بإضراب عام لمدة ثلاثة أيام، فامتثل الشعب التونسي وأغلقت أسواق مدينة تونس منذ يوم الجمعة بعد الظهر، وكاد التموين ينقطع تماما ما عدا ما تأتي به بعض لوريات فرنسية، وأضرب عمال الرصيف فعطلوا حركة الميناء، وانقطع أيضا سير الترام إلا بعض العربات القليلة التي يسوقها فرنسيون.
وكان الإضراب في القطر التونسي كله أسواقه ومدنه وقراه عاما شاملا، في المواصلات والمعامل والدكاكين والمواني، والمناجم، وقد شارك فيه الموظفون التونسيون بالإجماع، وطلبة المدارس وجامعة الزيتونة والمدرسة الصادقية.
وكانت ليالي تونس تشبه نهارها كآبة وحزنا، وكان الإنسان يشعر بالوحشة والانفراد بعد ساعة منع التجول من الثامنة مساء إلى السادسة صباحا شوارع مقفرة خاوية على عروشها تحت مطر منهمر هطال لا مار فيها غير الدوريات العسكرية العديدة التي توقف المارة المتأخرين وتراقب سراح الجولان.
وقد قطعت المخابرات التليفونية، وتعطلت حياة المدينة تعطيلا كاملا إلى الصباح.
وأصدر الديوان السياسي البلاغ الآتي: «لم يكد يواري جثمان رفيقنا المحبوب فرحات حشاد التراب حتى أخذت قوات الاضطهاد الاستعمارية تعتقل قادة الحزب والاتحاد العام التونسي للعمل.»
وقد تمت تلك الإجراءات إثر الاغتيال الذي يعد جريمة جمعت بين الخسة والجبن، دبرتها ونظمتها عصابة مجرمين استأجرها المتفوقون، وهي تكتسي معنى واضحا لا يتطلب تعليقا، ويشبه ذلك العدوان سابقة يوم 26 مارس ويرمي مثله إلى تهديد جلالة الملك المعظم وإلى القضاء على المقاومة الوطنية.
ولكن الملك والشعب متضامنان متكاتفان في السراء والضراء، يردان بما لهما من قوة أدبية ومن مثل عليا في الحرية وروح التقدم على القوات الغاشمة التي يستخدمها نظام يحتضر.
وتضامنت الجزائر مع تونس في تلك الفاجعة وعقدت لتأبين فرحات حشاد الاجتماعات العامة في غالب المدن، وتظاهر شعب الجزائر في جهات عديدة.
وأما في مراكش فقد قررت نقابات العمال القيام بإضراب عام في القطر كله احتجاجا على اغتيال الزعيم النقابي، وتم ذلك الإضراب يوم الاثنين 8 ديسمبر ونجح نجاحا باهرا كاملا في القطر الشقيق بأسره، ولكن السلطات الاستعمارية اغتنمتها فرصة لتجعل منه كارثة، فقد قامت القوات المسلحة الفرنسية بقمع عنيف شديد ومجازر مهولة قتلت أثناءها آلافا من المراكشيين الأبرياء، وتبعتها باضطهاد شنيع وفظائع تقشعر منها الأبدان، وشملت الحركة الوطنية وأتباعها بالعدوان.
وشاركت مصر الشقيقة تونس في مصابها وكذلك العراق وبقية الشعوب العربية والإسلامية والشرقية، وكانت الصحافة من إندونيسيا وبورما والهند والباكستان وإيران إلى ليبيا تندد بإجرام الفرنسيين واعتداءاتهم الأثيمة، وكانت الشعوب تقيم السرادقات لتأبين الشهيد العزيز.
ولم تتردد المنظمات الحرة والأحرار في العالم عن إعلان استنكارهم واستفظاعهم لهذه الجرائم الاستعمارية، فقالت السيدة فيجايا لاكشمي بانديت شقيقة البانديت نهرو، ورئيسة الأمم المتحدة: «إنه يمكن القول على ضوء هذه الظروف المحزنة مثل اغتيال السيد فرحات حشاد بجبن ونذاله أن تونس أصبحت اليوم مركز اضطرابات يمكن أن تنشر وراء حدود البلاد وأن تهدد حقا سلام العالم.»
وقال «فيليب جاسوب» مندوب أمريكا بالأمم المتحدة: «لقد خسرت قضية السلم رجلا عظيما بموت فرحات حشاد.»
ونشرت اللجنة التنفيذية لجامعة النقابات العالمية الحرة المجتمعة بنيويورك في 5 ديسمبر 1952 البيان التالي:
إن اللجنة التنفيذية تعرب عن الصدمة التي شعرت بها من جراء ضربة القدر المؤلمة وغير المنتظرة التي لحقت بالعالم الحر باغتيال فرحات حشاد الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل وعضو هذه اللجنة.
وأن موت صديقنا وزميلنا فرحات حشاد خسارة لا تعوض بالنسبة للحركة النقابية الحرة في بلاده وبالنسبة للشعب التونسي كله، وفوق كل ذلك بالنسبة لقضية الحرية نفسها في العالم، وإنه لمن المصادفات المحزنة أن يقضي فرحات حشاد في حين أن مكانه يجب أن يكون باجتماع هذه اللجنة الآن ذلك المكان الذي رفضت الحكومة الفرنسية أن تسمح له باتخاذه.
إن جامعة النقابات العالمية الحرة ما فتئت توجه الإنذارات حول خطورة الحالة في تونس التي هي النتيجة الطبيعية لرفض الحكومة الفرنسية إجراء مفاوضات جديدة مع ممثلي الشعب التونسي حول مسألة استقلال تلك البلاد الذاتي.
وفي هذه الساعة المؤلمة نرى من واجبنا أن نصرح أنه يستحيل علينا أن نتجاهل مسئولية من لم يعرفوا كيف يفهمون رغبات العمال التونسيون والشعب التونسي جميعه، تلك الرغبات العادلة الديموقراطية وكذلك أن نلح في المطالبة مرة أخرى بإعادة الحقوق النقابية والمدنية والسياسية في الحال، والشروع في مفاوضات تهدف إلى إنشاء نظام سياسي ديموقراطي.
وعقدت الكتلة الأفريقية الآسيوية اجتماعا عاجلا في مقر الأمم المتحدة درست فيه التطورات الناتجة عن اغتيال فرحات حشاد في تونس وفي العالم.
واجتمع كبار قادة العرب غير الرسميين في القاهرة وتباحثوا في خطورة الحالة في تونس وألفوا لجنة قومية للدفاع عن المغرب العربي تحت رئاسة الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر سابقا.
وسعت السلطات الفرنسية في استثمار الجريمة واستغلال الإرهاب الرسمي والشبيه بالرسمي، فطلب دي هوتكلوك بمجرد رجوعه من باريس يوم الجمعة مساء مقابلة من الملك الذي كان طريح الفراش، فلم يقبله، ولم يمكنه هكذا من فرض إرادة المستعمرين وتنفيذ خطتهم وإكساب ما اغتصبه الفرنسيون من نفوذ الصبغة الشرعية، وادعى المقيم بعد أيام وإثر مقابلة مع الملك أنه حصل على كلمة الشرف منه بأنه سيوقع المراسيم المعروضة عليه، ولكن سرعان ما ظهرت الحقيقة ناصعة جلية وافتضح المقيم لأن الملك كذب رسميا ذلك الادعاء وصرح بأنه لم يعد بشيء، وتورط دي هوتكلوك من جديد وأراد أن يوقع غيره في الشرك فوقع فيه، ولم يوقع سيدي الأمين الأول على المراسيم المعروضة، ورفض كل مقابلة مع المقيم لخروجه عن اللياقة، وأبان مكاتب «لوموند» عن حالة دي هوتكلوك واضطرابه وحيرته في مقال استقى مادته من الإقامة العامة نفسها ونشره بتاريخ 13 / 12 / 1952 قال فيه :
كان الاهتمام كبيرا في تونس بسفر الكولونيل «جريبيوس» إلى باريس وقد علم أن المقيم العام طلب من رئيس ديوانه العسكري أن يرفع للحكومة الفرنسية مذكرة في وصف الحالة تؤيد خاصة أن بعض أفراد العائلة المالكة مصرون على المعارضة في استئناف المحادثات الفرنسية التونسية، وأن موقف سيدي الأمين إزاءنا قد يتأثر بتلك المعارضة. ... ويمكن أن نلاحظ - رغم عدم صدور أي تعليق رسمي أو شبه رسمي - أن المقيم العام منذ أن التحق بمنصبه مقتنع بأن الباي كان يمكن أن يكون أكثر استعدادا لقبول المطالب الفرنسية لو لم يكن محاطا بمستشارين يثبطون عزمه على الرضى بمقترحاتنا أو حتى على مناقشتها.
وقد سعى «م. دي هوتكلوك» منذ شهر مارس الماضي في إزالة تلك السدود ووقع هكذا «إبعاد» المسيو شنيق ووزرائه بصفة وقتية.
وظهر السيد بكوش بمظهر من وضع الباي ثقته فيه مدة من الزمن، ولكن سيدي الأمين أوضح جليا منذ أسابيع بل منذ أشهر ... وكتب ذلك أحيانا، أنه يعتبر التشكيلة الوزارية الحالية مفروضة عليه فرضا، وكان في ذلك الوقت يستشير إما مباشرة أو بطريق ابنه الأمير الشاذلي تارة وزراءه القدماء، وطورا ممثلي الاتحاد العام التونسي للعمل، وطورا آخر نواب الدستور الجديد.
وقد اغتيل فرحات حشاد في الأسبوع الماضي، و«أبعد» بعد أيام من ذلك عدد من القادة النقابيين والسياسيين، وفي الوقت نفسه عبر عن الرغبة في أن يقلل وزراء قدماء من زيارة سيدي الأمين.
فلم يبعد من المستشارين في الدائرة القريبة من الباي إلا أبناه الأميران الشاذلي ومحمد وابنته الأميرة زكية وصهره الدكتور ابن سالم الذين يسكنون على مقربة من قصر قرطاجة.
فمن الواضح الجلي أنه ينبغي للمقيم إن أراد إتمام ما شرع فيه منذ أشهر، أن يصل إلى أن يصبح الباي ولا يستشير غير وزرائه.
وبعد أيام قليلة استفحلت الأزمة واشتد التوتر بين القصر والإقامة العامة، فقد هجم دي هوتكلوك على الملك هجوما، وقابله يوم 15 / 12 / 1952 مقابلة جبرية، وأعلن إثرها في الصحف ما نشرته جريدة «لوموند» في 16 / 12 / 1952 تحت عنوان «مقابلة حاسمة بين سيدي الأمين ودي هوتكلوك.
استقبل الباي «م. دي هوتكلوك» في آخر الصباح في قصره بقرطاج، فإن كان المتخاطبان لم يخرجا في مقابلتهما السابقة من الحديث التشريفاتي نظرا للحالة الصحية التي كان عليها الملك، فإن مقابلة اليوم التي دامت ساعة تقريبا قد أظهرت تراجعا في موقف سيدي الأمين.
وإن أخبارا من تونس تفيد «من مصدر وثيق» حسب مكاتب (رويتر) - اتخاذ إجراءات هامة تتعلق بالأمن العام، وأن الباي وقع على عدة مراسيم كانت معطلة إلى اليوم، وسيمكن إصدارها من استئناف حياة البلاد الإدارية، وقد وعد الباي أيضا «م. دي هوتكلوك» بأنه سيوقع بعد الظهر على مرسومين من مجموع الإصلاحات التي عرضت عليه من قبل.
وقد أضافت برقية من وكالة الأنباء الفرنسية أن ذينك المرسومين متعلقان بنظام العمال (المديرين) والبلديات ... وهما الأولان من المراسيم السبعة التي يتكون منها مشروع الإصلاحات التي أعدتها الدولة الحامية لإدخال النظام الديمقراطي على مؤسسات الدولية التونسية.»
ولسنا في حاجة إلى الملاحظة بأن المقيم العام كم جميع الأفواه وحرم الكلام على غيره، ومنع الصحف التي كانت كلها تحت الرقابة الشديدة من نشر أي خبر لا يرضاه، وأخذ يصرح كما يريد ويقول ما يشتهي، فجزم يوم 16 / 12 / 1952 جزما بأن الباي أعطاه مرات عديدة كلمة الشرف «واعتبرت من واجبي إعلام الحكومة بخطورة الحالة.» ولكن البلاط وجد طريقة لإعلام الرأي العام لتكذيبه البات للخبر الذي ادعى أن الباي تعهد بأن يوقع مشروعات المراسيم في أجل معين، وإذ ذاك انهالت التهديدات على الملك أولا بإبعاد أنجاله وثانيا بنوع من الخلع وذلك بتكوين مجلس وصاية ينوب عنه ويصبح النفوذ بيده.
أراد هكذا دي هوتكلوك أن يستثمر اغتيال فرحات حشاد واعتقال أصحابه وقد عاجلته مناقشات الأمم المتحدة للقضية التونسية، فسعى بجد لوقفها، وشن حرب أعصاب شديدة عنيفة على الملك الذي عرف بحكمته وحزمه كيف يربح الوقت، فلم تتمكن الحكومة الفرنسية من أن تعلن استئناف المفاوضات قبل أن تتخذ الأمم المتحدة قرارها النهائي، فمن هذه الوجهة خسرت الصفقة الاستعمارية، ولكن فرحات حشاد قد مات.
وقد اعترفت جميع الأوساط الفرنسية بأن سياسة الاضطهاد خابت بتونس، وأن فرنسا أصبحت في مأزق يصعب الخروج منه، وأنها هي وحدها التي تتحمل مسئولية ما يمكن أن ينشأ من أخطار جسام على نفس وجودها بالمغرب العربي، وشرحت جريدة «لوموند» في مقال افتتاحي تلك المخاوف الفرنسية قالت:
يظهر أن الولايات المتحدة الأمريكية قد غيرت موقفها تغييرا واضحا فيما يتعلق بالمحميتين في شمال أفريقيا، فكلف الرئيس ترومان «م. جسوب» بتلك المهمة، كما كلفه إثر انتخابات 1948 بقلب السياسة الأمريكية نحو إسرائيل، وذلك بسحب التأييد للدول العربية.
فهل في ذلك انتصار لسياستنا؟ فإن واشنطون تؤيد سياستنا في نقطة معينة، في أن معاهدتي «باردو» و«المرسى» هما المتحكمتان وجوبا في العلاقات الفرنسية التونسية، وقد ذهب «م. جسوب» إلى أبعد من ذلك عندما أكد أن حكومته تضع ثقتها في فرنسا.
ولكن ينبغي ألا نغتر بمدى ذلك «الانتصار» فهو لا ينافي تأييد الولايات المتحدة للمشروع البرازيلي الذي وإن طالب استئناف المفاوضات الثنائية - إلا أنه عين لها كمرمى «تشكيل حكومة تونسية مستقلة» فهو يعترف ضمنيا، رغم نكير فرنسا واستنكارها بحق نظر الأمم المتحدة في القضية.
ومهما يكن قتلة فرحات حشاد فإن من حقنا أن نعتقد أن أشد المشوشين تعصبا كانوا يترددون في ارتكاب أي عمل إجرامي لو لم يعتقدوا أن في إمكانهم الاعتماد على بعض التأييد في الشرق الأدنى وفي وسط الأمم المتحدة نفسها، وكان من المتوقع الحتمي تقريبا أن جو العنف سيجرف الأوساط الفرنسية بتونس.
ولكن فرنسا لا تستفيد أبدا من تحميل غيرها المسئولية الناجمة عن نقائصها وأغلاطها، فيكون من السهل على الولايات المتحدة أن تجيب بأن عدم تحمل المسئولية من طرف البرلمان الفرنسي أجبرها على التدخل، وخاصة أن ذلك البرلمان ظهر بمظهر المتخاذل المتنازل عن كل نفوذ خلال استجواب بقي من غير خاتمة.
إن الولايات المتحدة تؤيد اليوم تأييدا فاترا نقطة من النظرية الفرنسية، فهل تكفي تضحية ذلك العدد العديد من الأرواح البشرية، وتلك المرارة في العلاقات بين فرنسا وشمال أفريقيا؛ لكي نتخلص من تلك السياسة العمياء التي قادتنا إلى الحالة الراهنة لما فيها من وعود ثم رفض، ومن تردد ثم اضطهاد شديد.
أحد عشر قطرا أمريكيا لاتينيا ومعهم الولايات المتحدة يلحون علينا اليوم لاستئناف المحادثات الثنائية المباشرة التي لا تريد الحكومة حلا إلا بواسطتها، فعلى وزرائنا إذن أن يوضحوا مع من تكون تلك المحادثات وعلى أي أساس، وهل تسمح السياسات الخمس أو الست التي فرقت البرلمان والوزارة فرقا بالأمل في تحديد خطة حازمة للسير بتونس نحو الهدف المعين؟
وأن أول مشكلة تتطلب الحل هي اختيار المتفاوضين، ولقد اختطف المنون - في مأساة مؤلمة - أحدهم، وكان الباي الذي ظهر جادا في عدم التساهل، يقيم اعتبارا لنصائحه، ولا يرى السيد البكوش عمله إلا مقتصرا على القيام بالأمور العادية، فمن بقي يا ترى؟
فإذا ألغينا استخدام القوة الصرفة الذي نريد تجنبه، فإن كل محادثة تتطلب مخاطبين مستعدين لبحث شروط اتفاق، ولكن على أي أساس؟ فإن البرامج الضيقة لم تمكنا من الخروج من المأزق، وأن اضطرابات الدار البيضاء (44 قتيلا مراكشيا وثمانية أموات فرنسيين) تبين بوضوح أنه لو لم نصل بسرعة إلى الاتفاق على برنامج عمل تظهر نتائجه تدريجيا مع الزمن فإن التطور السلمي لأفريقيا الشمالية كلها يصبح مقضيا عليه، وربما يقضى عليه بصفة نهائية.
ولنختم هذا الفصل بنداء وجهه فرحات حشاد إلى الشعب التونسي تتجلى فيه روحه الطيبة وإيمانه القوي:
إخواني ...
يستمر الصراع داميا منذ ثلاثة أشهر.
يستمر الصراع بين الشعب التونسي المستميت الأعزل وبين قوة الظلم والعسف الاستعماري.
وهذا الصراع إنما هو صورة متجددة لكفاحكم المتواصل منذ أن اغتصب الاستعمار اللدود بلادنا.
واليوم تتخبط قوى العسف محاولة إلقاء الشعب التونسي في حالة الاستسلام والانحطاط الذي لا نهوض بعده، تحاول قوى العسف بلوغ هذا الهدف بما تسلطه علينا من ألوان الإرهاق والاضطهاد وخنق جميع الحريات والإمكانيات، بينما يتقدم العالم ويسمو إلى إقرار الحق والعدالة بين البشر والشعوب، وإن ما بلغه الشعب التونسي اليوم من نضج اجتماعي وسياسي لا يسمح ولن يسمح بأن تجره هاته القوى إلى التخلي عن افتكاك حقوقه المغتصبة. •••
إن صمودكم جميعا رجالا ونساء كهولا وشبابا أمام الضربات المتوالية وإقدامكم على تحمل التضحيات بألوانها، قد حمل العالم الديمقراطي على الإعجاب بوحدتكم المتينة وتقدير حكمتكم وإكبار جهادكم وتأييدكم في كفاحكم. •••
لقد أزهقت الأرواح وامتلأت السجون والمستشفيات وتعددت المحتشدات بالمجاهدين المخلصين ولكن لم يفت ذلك في سواعدكم ولم يفل من عزيمتكم ولم يزحزح من إيمانكم، بل لم يزدكم كل ذلك إلا ثباتا وثقة في مستقبل بلادكم وازدهارها، ولم يزدكم إلا تبصرا بما تنصبه قوى الاحتلال الفرنسي من شراك مثل الإصلاحات الرجعية المزيفة، التي قدمتها لتعود ببلادنا عشرات السنين إلى الوراء.
لكن ها هي قد أصبحت اليوم قضية الشعب التونسي تفرض اهتمام العالم منادية بإنصافها وهي سائرة في طريق النجاح لا محالة، ما دام من ورائها شعب باسل، ورجال ذو عزم ثابت وأنصار في جميع أنحاء المعمورة.
فكلمتي لكم أن ثابروا على الكفاح وحافظوا على وحدتكم القومية المتينة الغالية.
فإننا لا محالة وبحول الله منتصرون.
فرحات حشاد
أبريل 1952
اغتيال الهادي شاكر
(1) كيف أخفقت فرنسا في فرض الإصلاحات الاستعمارية بالقوة
أبت فرنسا الإذعان لتوصيات الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن القضية التونسية بتاريخ 17 / 12 / 1952، تلك التوصيات التي تدعو إلى استئناف المفاوضات فورا لتمكين التونسيين من حكم أنفسهم بأنفسهم، وتدعو أيضا للامتناع عن أي عمل أو إجراء من شأنه زيادة حالة التوتر. (1-1) محاولة القضاء بالقوة على الحركة الاستقلالية
وعمدت فرنسا إلى تجاهل هذه التوصيات وخرقها والقيام بسلسلة من الأعمال المنافية لها، وذلك برفض التفاوض ومحاولة القضاء بالقوة والعنف على كل معارضة لسياستها من قبل الشعب التونسي آملة أن تكره الشعب بوسائل الإرهاب والاضطهاد على التخلي عن مطالبته بحقوقه التي أقرتها الأمم المتحدة. (1-2) موقف الكتلة الأفريقية الآسيوية
وأخذت الحالة تتطور من سيئ إلى أسوأ في تونس إلى أن اضطرت كتلة الدولة الأفريقية الآسيوية، في شهر مارس 1953 إلى تقديم رسالة إلى رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 / 3 / 1953، شرحت فيها خطورة الموقف في تونس وطلبت إلى الرئيس أن يتدخل لدى الحكومة الفرنسية لوضع حد للاعتداءات الفرنسية المنافية لتوصيات الأمم المتحدة. (1-3) اهتمام الجامعة العربية
واهتمت الجامعة العربية في دورة (مارس - أبريل) 1952 بالحالة في تونس، واستمعت اللجنة السياسية إلى بيان من الأستاذ صالح بن يوسف وزير العدل ورئيس بعثة الحكومة التونسية الشرعية، وقررت إثارة القضية التونسية في مجلس الأمن. (1-4) تنفيذ الإصلاحات بالقوة
لم تعبأ فرنسا بما أحدثه سلوكها في تونس من أثر سيئ في العالم ولكنها أصرت على مواصلة سياسة العنف والاضطهاد، ولما رأت أن هذه السياسة لم تكف وحدها للقضاء على مقاومة الشعب التونسي قررت فرض برنامج الإصلاحات بالقوة. (1-5) مضمون الإصلاحات
هذا البرنامج أعدته فرنسا منذ شهر يونيو 1952، ويتضمن رفض مبدأ الحكم الذاتي سواء في شئون الحكم أو التشريع، أو الإدارة العامة، ويشتمل على عدة تحويرات تهدف إلى فرض مشاركة أفراد الجالية الفرنسية - وهي جالية أجنبية - في ممارسة السيادة في البلاد، الأمر الذي يقوض السيادة التونسية من أساسها.
ويتضمن المشروع الفرنسي سبع لوائح بمراسيم تتناول: (1)
تنظيم الحكومة بصورة تلزم التونسيين بأن يتركوا للفرنسيين وزارات المالية والحربية والخارجية والأشغال العمومية ووزارة البريد والتلغراف والتليفون ووزارة الإنشاء والتعمير ووزارة التعليم. (2)
إنشاء مجلس شورى يتألف من 30 عضوا معينين تقتصر مهمتهم على إبداء رأي استشاري في المراسيم التي يعرضها عليهم الباي - ولا يبحث المراسيم ذات الصبغة المالية أو المتصلة بالميزانية - مع احتفاظ المقيم الفرنسي بحق توقيع القوانين بالاشتراك مع الباي لتصبح نافذة. (3)
إنشاء مجلس مالي وهو مجلس مختلط يتألف من عدد متساو من التونسيين والفرنسيين ويبحث الميزانية والشئون المالية. (4)
تنظيم الوظائف العامة بصورة تخصص معظم الوظائف العليا للفرنسيين ويفرض اللغة الفرنسية كلغة أساسية في هذه الوظائف. (5)
إنشاء محكمة إدارية برئاسة قاض فرنسي يشرف على عدد متساو من القضاة التونسيين والفرنسيين للنظر في شئون الإدارة التونسية. (6)
تنظيم مجالس المقاطعات على أساس يقصر حق الانتخاب والترشيح على طبقات معينة من سكان المقاطعات دون سواهم وليس بالاقتراع العام الحر. (7)
تنظيم مجالس البلديات بمنح حق جديد للجالية الفرنسية يقضي بتمثيل الفرنسيين بعدد متساو مع التونسيين في المجالس البلدية وبالانتخاب. (1-6) رفض الإصلاحات
وقد رفض الشعب هذا المشروع في المذكرة التي رفعها مجلس الأربعين بتاريخ 23 أغسطس 1952 إلى جلالة الملك باسم كافة الأحزاب والهيئات التونسية.
ورفضها جلالة الملك في رسالته إلى رئيس الجمهورية الفرنسية في 9 / 9 / 1952.
وأرادت الحكومة الفرنسية فرض هذه الإصلاحات المزعومة بالقوة للقضاء على السيادة التونسية وتدعيم الاستعمار والحكم الفرنسي وتوسيع اشتراك الفرنسيين المقيمين بتونس حتى يشمل المؤسسات التونسية جميعها. (1-7) إصلاحات مجالس المقاطعات والبلديات
وبما أن فرنسا واثقة من أنها لن تستطيع أن تجد العدد الكافي من التونسيين ليتعاونوا معها في إنشاء جميع المجالس المقترحة، فقد أرادت أن تقوم بتجربة ولكنها حاسمة، لأنها تقر مبدأ جديدا، فقررت الاقتصار على تنفيذ النقطتين السادسة والسابعة من مشروع الإصلاحات وهما الخاصتان بالمجلس الإقليمي والمجالس البلدية. (1-8) الظروف التي أحاطت بتوقيع المرسومين
أبلغ وزير الخارجية الفرنسية إلى جلالة الباي في 29 / 12 / 1952 مذكرة شديدة اللهجة تضمنت ألوانا من الاتهامات بعرقلة سير الحماية والإخلال بالالتزامات نحو فرنسا وعدم الوفاء بالوعد وشفعت هذه الاتهامات بتهديد سافر بالخلع، وكلف «دي بواسيزون» الوزير المفوض بالسفارة الفرنسية بتونس بتقديم إنذار نهائي إلى الباي بتوقيع المرسومين الخاصين بالمجالس الإقليمية والبلدية، وإلا فإنه يتم الخلع في خلال بضع ساعات، وقد اقتحم المبعوث الفرنسي وبصحبته الخائن البكوش على جلالة الملك غرفته الخاصة وكان جلالته، مريضا فقدم إليه المراسيم لتوقيعها فورا وهو في فراش المرض، بينما كانت القوات المسلحة الفرنسية تطوق القصر الملكي، وكانت إحدى الطائرات العسكرية الفرنسية تنتظر في المطار لنقل من يتقرر إبعاده من أفراد العائلة المالكة.
وعلى إثر هذا التوقيع أصدر الحزب الحر الدستوري التونسي الذي يحمل لواء الكفاح بيانا أعلن فيه بطلان ذلك التوقيع الذي اغتصب تحت تأثير الضغط والإكراه، وقد أثبت جلالة الملك الإكراه الذي عمد إليه الفرنسيون حين أشار في الرسالة الملكية بتاريخ 17 / 4 / 1953 إلى «الظروف» التي تم فيها توقيع المرسومين المذكورين. (1-9) تنظيم الانتخابات
تلك هي الظروف التي تم فيها توقيع المرسومين الخاصين بالمجالس البلدية والإقليمية، وبما أن الفرنسيين مصممون على المضي إلى آخر الشوط فقد حددوا مواعيد إجراء الانتخابات لهذه المجالس كما يلي:
مجالس المقاطعات:
من 13 إلى 23 أبريل 1953.
مجالس البلديات:
من 3 مايو 1953.
وفي 10 مايو 1953.
ومما يدل على العقلية الممعنة في العدوان التي يمتاز بها المستعمرون الفرنسيون أن السلطات الفرنسية التي حرصت كل الحرص على فرض المرسومين على التونسيين جعلت تبذل كل ما في استطاعتها من بعد ذلك، لتحول دون نفوذ المرسومين بصورة سليمة، وأخذت تعمل على «طبخ» الانتخابات بكل وسائل الإكراه والتزييف والضغط والتزوير، وافتضحت المناورات الاستعمارية قبل بداية الاقتراع إذ أخذت السلطات تعتقل الناس في مختلف أنحاء البلاد وتصدر أوامر الإبعاد ضد الأعيان والشخصيات المعروفة، فتخرجه من المناطق التي يقيمون فيها، وأعدت قوائم الناخبين بصورة أثارت عاصفة من الاحتجاجات في جميع المناطق حتى بلغ الأمر بالفرنسيين أن سجلوا في تلك القوائم عددا كبيرا من الأموات بينما ظل عشرات الألوف من الناخبين غير مسجلين، وعمد الفرنسيون أيضا إلى إكراه أشخاص معينين على ترشيح أنفسهم، هذا علاوة على الوسائل الأخرى الدنيئة، كالرشوة وتوزيع المواد الغذائية على قدماء المحاربين وغيرهم. (1-10) مقاومة الإصلاحات
أما التونسيون فقد وقفوا موقفا صريحا من هذه المناورة الاستعمارية وتجلى في هذه المرة أيضا اتحاد الكلمة والتضامن القومي.
فقد أعلن الحزب الحر الدستوري أنه لن يسمح للمستعمرين بأن يفرضوا على البلاد إرادتهم وأنه يدعو الشعب لمقاطعة الانتخابات لأن الإقبال عليها معناه الرضى بالعدوان والإكراه، والاشتراك في مناورة تهدف إلى القضاء على السيادة القومية بإشراك الفرنسيين في مؤسسات الدولة التونسية.
واجتمعت كافة الهيئات التونسية ورفعت مذكرة موحدة إلى جلالة الملك أعلنت فيها احتجاجها على هذه الإصلاحات والانتخابات.
وأخيرا وجه جلالة الملك رسالة احتجاج إلى «البكوش» بتاريخ 17 / 4 / 1953 سجل فيها أعمال الإكراه والضغط التي تقوم بها السلطات لمناسبة الانتخابات.
ولكن الفرنسيين أصروا على إجراء الانتخابات في موعدها، فكان ذلك إيذانا ببدء صراع دام بين الشعب والفرنسيين. (1-11) الصراع الدامي
استجاب الشعب لنداء قادته الوطنيين وقاطع الانتخابات، وظلت معظم الدوائر بدون مرشحين وامتنع الناخبون عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع، فما كان من السلطات الفرنسية إلا أن عمدت إلى القوة لترغم الناس على الاقتراع، فتصدى الشعب يدافع عن أبنائه ضد أعمال الإكراه الفرنسي.
فنتج عن ذلك اصطدامات لا تحصى بين جماهير الشعب وبين القوات الفرنسية، فقامت السلطات الفرنسية باعتقال المئات من التونسيين في مختلف أنحاء البلاد وخاصة في مدن «سوسة» و«صفاقس» و«قابس» و«القيروان» وغيرها. (1-12) عقاب الخونة
ووقف الشعب بالمرصاد للخونة القلائل الذين أجرهم الاستعمار ليؤازروه في هذه المناورة ولم ينج منهم أحد سواء كانوا في العاصمة أو في الأقاليم، وقد امتدت يد الشعب إليهم ومضت عليهم حتى ولو كانوا في أطراف المملكة، وفيما يلي أهم الحوادث وهي تبين انتشار عملية الانتقام الشعبي من الخونة في كافة أنحاء البلاد:
في مدينة المكنين:
قتل الطيب بن غشام لأنه جاء يدعو للانتخابات، وهو شقيق وزير الصحة في الحكومة الخائنة.
في مدينة قصر هلال:
قتل أحمد بن صالح الممي لاشتراكه في الانتخابات.
في مدينة الحامة:
قتل محمد بن الحاج خليفة في داره وهو الخائن الوحيد الذي استطاع الفرنسيون ترشيحه في الانتخابات.
في العاصمة:
قتلى الشاذلي القسطلي لأنه تحدى الشعب ورشح نفسه للانتخابات.
وكان مقتل القسطلي الحادثة الكبرى، فقد تم في قلب العاصمة وفي رابعة النهار والمدينة ترزح تحت الأحكام العرفية ودوريات الجند تحرس الشوارع، وكان اغتيال القسطلي ضربة قاضية للمستعمرين ولأذنابهم، فقد كان القتيل نائب رئيس البلدية وصاحب جريدة يومية وعونا من أكبر أعوان الفرنسيين مكرا ودهاء مشهورا بخيانته وتحديه للشعب، ودل سقوطه على أن الشعب التونسي هو سيد الموقف في بلاده وأن أذناب الاستعمار لم يعودوا يجدون الحماية الكافية لدى فرنسا، لذلك لم يكد الخائن الأكبر «البكوش» يسمع بنبأ مصرع القسطلي حتى هرع إلى الإقامة العامة الفرنسية مطالبا بحماية حياته وحياة زملائه وتعزيز الحرس على أشخاصهم، وعرض استقالة جماعية للوزارة، ولكن المقيم العام رفض الاستقالة ووعده بالحماية الكافية. (1-13) رد الفعل الفرنسي
ولما رأى الفرنسيون أن الزمام أفلت من أيديهم وأن الانتخابات أخفقت إخفاقا شنيعا في بحر من الدماء والاضطرابات، أخذوا يكيلون الضربات جزافا، فاعتقلوا أكثر من خمسة آلاف شخص من جميع الطبقات ونظموا الحملات البوليسية والعسكرية ضد بعض ضواحي العاصمة وضد مدينة «المكنين» و«الحامة» وغيرهما، واشتد احتلال المدن وخاصة العاصمة من قبل الجيش الفرنسي والقوات المسلحة الأخرى، وعطلت جريدة الصباح وهي أكبر جريدة يومية في تونس. (1-14) الأزمة بين الحكومة الفرنسية والباي
واشتدت الأزمة بين الحكومة الفرنسية وجلالة الباي، وبمجرد أن أذيع نبأ مصرع القسطلي أبلغ وزير الخارجية الفرنسية بواسطة المقيم العام رسالة إلى جلالة الباي يطلب فيها ثلاث مسائل: (1)
دعوة التونسيين إلى التزام الهدوء. (2)
استنكار الاغتيالات التي ذهب ضحيتها القسطلي وغيره من أذناب الفرنسيين. (3)
دعوة الشعب للإقبال على الانتخابات والاشتراك في التصويت.
قدم هذه المطالب إلى جلالة الباي المقيم «دي هوتكلوك» بعد ظهر يوم 2 / 5 / 1953، ولكن الباي رفضها جميعا وعاد المقيم العام بدون نتيجة وفي الليلة نفسها طلبت السفارة الفرنسية من القصر الملكي في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل تحديد موعد عاجل للسكرتير العام الفرنسي للحكومة التونسية، ولكن الملك رفض رفضا باتا قبول السكرتير العام في تلك الليلة، وفي الغد مثل السكرتير العام أمام جلالة الملك، وبعد أخذ ورد دام نحو ساعة كاملة أصر جلالته على رفض الطلب الخاص بدعوة التونسيين للتصويت واكتفى بصدور بيان مقتضب باسم جلالة الملك يدعو جميع السكان وليس التونسيين فقط - إلى التزام الهدوء والامتناع عن أعمال العنف، وهو يشير بذلك إلى مقتل المرحوم «فرحات حشاد» بأيدي الفرنسيين، ولا شك أن صدور البلاغ بهذا الشكل، وبعد الأخذ والرد لا يمكن أن يخدم الغرض الذي كان يقصده الفرنسيون من ورائه. (1-15) صدى الأزمة في الخارج
وقد كان لهذه الأزمة صدى كبير في الأمم المتحدة وفي الجامعة العربية وفي فرنسا نفسها، ففي فرنسا اهتمت الصحافة اهتماما كبيرا بتطورات الحالة في تونس، وأعربت كثير من الهيئات والصحف عن استنكارها لهذه السياسة التي تضر بمصالح فرنسا وبسمعتها، واجتمعت الحكومة الفرنسية عدة مرات لبحث الموقف في تونس، وبدأ التفكير في تغيير المقيم العام «دي هوتكلوك » الذي يتزعم هذه السياسة الخرقاء.
وفي هيئة الأمم المتحدة نشطت الكتلة الأفريقية الآسيوية وضاعفت الجهود لعرض القضية على مجلس الأمن.
وفي الجامعة العربية دعا مؤتمر وزراء الخارجية العربية المجتمع بالقاهرة في شهر مايو 1953 الأستاذ صالح بن يوسف لشرح الموقف على المؤتمر مجتمعا بكامل هيئته، وكانت القضية التونسية محل بحث المؤتمر واللجنة السياسية ومجلس الجامعة، وتقرر توحيد القضايا العربية العامة، ومن بينها القضية التونسية واعتبار حلها جميعا شرطا أساسيا لتتفاهم مع العرب، كما صدر بيان عن الجامعة العربية بتجديد التأييد لقضية تونس وبقية قضايا المغرب العربي. (1-16) الخلاصة
وهكذا أخفقت فرنسا في فرض وجهة نظرها بالقوة على التونسيين وانكشفت المؤامرة للرأي العام العالمي الذي أرادت تضليله، وأضيفت صفحة أخرى سوداء إلى ملف فرنسا في هيئة الأمم المتحدة. (2) الإرهاب الرسمي
ما من أسلوب في القمع إلا واتبعته السلطات الفرنسية في تونس، وما من سبيل في البطش والتنكيل والانتقام إلا وسلكته، وما من طريق لإدخال الوهن على التونسيين إلا وسارت فيه، من وعد ووعيد وعهد وتهديد ولين وإنذار، فاتصلت منها المكاره، وغمر ضرها البلاد، وشمل شرها العباد، حتى ثقلت وطأتها في كل جهة وناحية ولم تسلم من بأسها وسطوتها عائلة، وكانت غاية دي هوتكلوك وأنصاره وأتباعه أن يجتثوا الحركة القومية من فوق الأرض، وأن يستأصلوا الفكرة الوطنية ويبيدوا الوطنيين، بتخضيد شوكة الشعب، وتحطيم معنوياته، وطمس روحه، ولكن شجرة الوطنية بتونس متمكنة أصولها، باسقة فروعها.
وإن بعض الأرقام لكافية لنتصور اتساع الاضطهاد وشدة البطش، ولنترك ميدان الاقتصاد وما حاق بالتونسيين فيه، وميدان التعليم وما ارتكبه «باي» الجبار فيه من طرد التلاميذ والتنكيل بالطلبة، وميدان الإدارة التونسية وما قاساه الموظفون من ظلم وإرهاق، ولنقتصر على المحاكم العسكرية الفرنسية وما أصدرته من أحكام قاسية، وأن إحصائياتنا لا تشمل إلا ما ضبطناه يقينا، ففي خلال خمسة عشر شهرا (من يناير 1952 إلى مارس 1953) أصدرت تلك المحاكم أحكامها على 2641 تونسيا، تفصيلها كما يأتي:
1091
عاما سجنا فما دون.
1139
خمس سنوات فما دون (سجنا أو أشغالا شاقة أو سجنا مضيقا).
171
عشر سنوات فما دون (أشغالا شاقة أو سجنا مضيقا).
98
خمس عشرة سنة فما دون (أشغالا شاقة أو سجنا مضيقا).
81
عشرين سنة (أشغالا شاقة).
36
أشغالا شاقة مؤبدة.
25
إعداما.
2641
المجموع
وإذا فاقت الأحكام خمس سنوات، فإنها تكون مصحوبة بالإبعاد لمدة تساوي مدة الحكم، وكانت تلك المحاكم تسلط على هؤلاء الوطنيين الضرائب الفادحة، التي تفوق عادة ما يملكون بقصد إفلاسهم.
وكانت الأحكام بالإعدام تثير غضب الشعب وحنقه وتزيد مقاومته شدة وصلابة خاصة وأن السلطات العسكرية قد أخذت تنفذ تلك الأحكام وتعدم الوطنيين كما فعلت إثر اغتيال فرحات حشاد، وقد حصلنا على بعض أسماء المحكوم عليهم بالإعدام:
عثمان الحاج أحمد.
عبد الله حسن.
علي عبد الرزاق سندور.
حبيب حمدة عمار.
أحمد علي غريبي.
علي عمر بن قاسم.
الشافعي أحمد علي.
عبد القادر حيقه.
الفرجاني عبد الرحمن.
الطاهر علي.
أحمد أبو بكر.
نور الدين عبد القادر.
الهادي التليلي.
وكانت أكثر الأحكام صورية في الواقع لا تستند إلا على أدلة واهية أو على ما يفرضه البوليس على المتهمين من اعتراف تحت سوط من العذاب والتنكيل، وقد قامت قوات الجيش الفرنسي بإعدام عدد وافر من التونسيين بدون أية محاكمة وخروجا عن مبادئ العدالة التي تقرها جميع القوانين وجميع الشرائع ولنذكر بعض هؤلاء الشهداء:
من المنطقة الشمالية
الهادي محمد شرادو.
الهادي الجريدي.
أحمد قاسم زروق.
من المنطقة الجنوبية (تطاوين)
حمادي صادق.
عبد الله التنكتي.
علي التنكتي.
تهامي قرقسي.
المنجي الشايب.
عبد الرحمن علي خليفة.
مدنيين
البشير.
زهير.
منصور.
ضوء.
واثنان من المساجين اسمهما صالح من مدينة سوسة.
قفصة
محمد صالح عبد القادر.
عبد الحميد عمار.
ابن خدوم.
ابن نولي.
وكان الكثير منهم في بيوتهم مع عائلاتهم فألقى عليهم القبض وأعدموا لإنزال الرعب وبث الخوف بين التونسيين.
وكانت السلطات الفرنسية بعد أن تقوم بالإرهاب والتقتيل تخبر عنها في الصحف الاستعمارية تصغر من شأنها وتلطف من حدتها، فتخرجها كحوادث بسيطة عادية لتضلل الرأي العام، وإن بعض الأمثلة من تلك الأخبار تغنينا عن نشر أكثرها، فقد قالت جريدة «لابريس» بتاريخ 20 / 9 / 1953:
إلقاء القبض على مشبوهين - اعتقل رئيس مركز البوليس بدبوسفيل علي بن حمودة وعمر بن يحيي وهما من المشبوهين وكتبت بتاريخ 22 / 9 / 1953. «عملية بوليس بتالة.»
قامت الجندرمة يوم الأحد بعملية بوليس واسعة النطاق في «تالة» ففتشت عددا وافرا من البيوت وأجرت البحث مع ستين مشبوها، واحتفظت بثلاثة منهم تحت المراقبة.
وأجريت عملية بوليس أيضا يوم السبت «بالحمامات» ووقع تحقيق في ماهية عشرين شخصا.
وكتبت جريدة «لوموند» بتاريخ 23 / 9 / 1953: «أطلقت النار في الليلة الماضية على دورية من الحرس الجمهوري على مقربة من سوسة» فأجاب الحرس النار بالنار.
وتفيد الأنباء أيضا أن عملية بوليس أجريت «بالحلوف» خمسة كيلومترات شمال «الجم» وفتشت بيوت ستة من المشبوهين وألقى القبض على ثلاثة أشخاص، لوجود أسلحة في بيوتهم.»
ولم تكن تلك الأعمال الإرهابية صادرة عن بعض الجنود المتنطعين، بل كانت تجري حسب خطة مرسومة ومؤامرة مدبرة، فقد دعت الإقامة العامة يوم 10 أغسطس جميع المراقبين المدنيين لاجتماع فوق العادة بتونس واتجه اهتمام ذلك المجلس الحربي الصغير إلى البحث عن أنجع الطرق للتخلص من المقاومة الوطنية و«وضع حد لتفاقم الإرهاب في تونس.
وسافر الجنرال جارباي في 10 أغسطس بطريق الجو إلى باريس، ويظهر أن القوات الفرنسية أخذت منذ ذلك التاريخ تنفذ أوامر تلقتها بنشر الإرهاب وتسليط القمع بأشد قسوة في مناطق «الساحل» و«الدخلة» و«الجنوب التونسي» أي في المناطق التي استفحلت فيها المقاومة الوطنية و«كانت - حسب التعبير الرسمي الفرنسي - مسرحا لبعض الحوادث.»
وأخذ النساء والشيوخ والأطفال يهاجرون المدن والقرى فارين بأنفسهم إلى الجبال والبوادي من «الرصاص الضائع» الذي تمطره القوات الفرنسية وهي لا يردها رادع.
وقد عززت حالة الحصار بفرض منع التجول على تلك المناطق التي تمتاز بكثرة السكان ونشاطهم فبات التجول ممنوعا منعا باتا من الساعة السادسة مساء إلى الساعة السادسة صباحا، فأصيب العمل الفلاحي في الموسم الزراعي بضرب من الشلل بواحة «قابس» وأراضي «الساحل» وبساتين «الدخلة» وكانت الحالة الاقتصادية والاجتماعية حرجة جدا من قبل، فأصبحت تنذر بالشر المتطاير والخطر الداهم، بل أصبحت مأساة يعيشها شعب كامل.
وسحبت السلطات الفرنسية من سائقي سيارات الأجرة رخصهم، وحكمت عليهم بالنفي، أو زجت بهم في السجن بدعوى أنهم ينقلون «الثوار» ويمدونهم بالأسلحة والذخيرة، فكانت حيرة هؤلاء السائقين كبيرة، لأن تلك الرخص قد كلفت كل واحد منهم خمسمائة ألف فرنك، علاوة على «الهدايا» التي قدموها لذوي النفوذ للحصول عليها.
ولم تجد السلطات الفرنسية - العسكرية والمدنية - مبررا لأعمالها العدوانية فاختلقت الأعذار اختلاقا، وعجزت عن توجيه أية تهمة، فلجأت إلى التلفيق والكذب الصراح، واحتدت غيظا لأنها لم تعثر على أي شيء يخالف القانون عند تفتيش بيوت الوطنيين، فعمدت إلى إخفاء بعض «الأسلحة التي تحمل طابع صانعها» في تلك المنازل لتتمكن من اعتقال «المجرمين الخطرين» بتهمة إخفاء السلاح.
وازداد هكذا القمع شدة واستحكاما وذلك: (أ)
بالقيام بعملية تفتيش «المشبوهين» قبل الشروع في الاعتقالات والتطهير. (ب)
بتمزيق أجساد الوطنيين بالسياط والتنكيل بهم في الساحات العامة. (ج)
بإعدام القادة الوطنيين المحليين بدون محاكمة.
وبدعوى أنهم استخدموا الأسلحة ضد قوات الأمن.
وسعت السلطات الفرنسية التي تتولى القمع في الحصول على موافقة الحكومة الفرنسية على طريقة أخذ الرهائن وتنفيذها علانية، فلم تفلح ولكنها ضربت برأي باريس عرض الحائط ونفذت تلك الطريقة تنفيذا قاسيا.
واعتقل طبقا لنظام الرهائن، السيد البشير بن المبروك الجزيري الأمين العام المساعد لنقابة المزارعين المنتجين بمنزل قابس، عندما كان يباشر عمله، واتهموه بمساعدة «الثوار» وساقوه تحت حراسة الجنود المسلحين إلى بيته، حيث تظاهروا بالقيام بعملية التفتيش، ثم قتلوه رميا بالرصاص في غرفة نومه أمام زوجته وأولاده، وشوهوا جثته وشدخوا رأسه، ثم لفه الجند في لحاف، وأخذوه معهم، وألقوا به في إحدى الحفر، ومنعوا عائلته من الاقتراب من تلك الحفرة ومن غسله وتكفينه والصلاة عليه، وأقاموا هناك حراسة مع الأمر بإطلاق الرصاص على كل من يأتي لزيارة قبر الشهيد.
وفي يوم 12 أغسطس اقتحم الجنود الفرنسيون بيت عمة الدكتور محمد ابن صالح ببلدة «المكنين» في منطقة «الساحل» وحطموا أبواب البيوت ودخلوها عنوة، فارتاعت النساء، وارتفعت أصواتهن بالصراخ، فهب الناس يستفسرون عن الأمر فتلقاهم الجنود بإطلاق الرصاص، فسقط الشهيد محمد ناصولي قتيلا ، وجرح عدد كبير من الحاضرين.
وفي يوم 14 أغسطس ألقي القبض ببلدة «القلعة» الكبرى بوجه خاص ومنطقة سوسة بوجه عام على نحو ثلاثين وطنيا ونقابيا من المنتمين إلى الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد العام التونسي للزراعة، والاتحاد العام للصناعة والتجارة، بتهمة حمل السلاح وبإخفاء الذخيرة وهي في الحقيقة ذخيرة دستها السلطات الفرنسية في بيوتهم عند تفتيشها.
وفي يوم 16 أغسطس نشبت معركة بجبل «ميدودي» بين الثوار وقوات الأمن أسفرت حسب البلاغ الرسمي عن قتل ثلاثة جنود وخمسة من التونسيين وفي يوم 18 أغسطس قام جنود الجنرال «جارباي» بحركات في المنطقة كلها، تصحبهم السيارات المصفحة والكلاب البوليسية، وألقوا القبض على أربعة من السكان الآمنين وقتلوهم رميا بالرصاص بمحضر من مواطنيهم وتحت أنظارهم، وهم:
علي بن بلقاسم الحمروني.
طاهر بن مصباح بوهيفة.
النفطي بن حسين.
بلقاسم بن محمد بن عمر.
وفي اليوم نفسه (18 أغسطس) اعتدت القوات المسلحة على بلدة «منزل تميم» في منطقة الوطن القبلي اعتداء شديدا عنيفا ليلة عيد الأضحى، ودمرت بيوت أعضاء شعبة الحزب الحر الدستوري الجديد ونهبتها، واعتقلت السيد محمد بن الحاج البشير بن فضل رئيس شعبة الحزب الدستوري والأمين العام لنقابة المزارعين المنتجين، وطافوا به في شوارع القرية تحت الحراسة المسلحة، وساموه ألوانا من التعذيب والتنكيل، ثم رموه بالرصاص أمام أهله وذويه، ولم يكتف الجنود بتلك الجريمة، بل رفضوا تسليم جثة الشهيد لزوجته الشابة وأبيه الشيخ الذي فقد عائله الوحيد بفقد ابنه.
وقام الجيش في نفس ذلك اليوم بحركات في بلدة «صيادة» حيث اغتيل أحد مرشدي البوليس واسمه «حريق» فشرع جنود الجندرمة والحرس الجمهوري الفرنسي المرابط «بالمكنين» و«قصر هلال» في عملية «تطهير» المنطقة، وذلك في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وأعدموا اثنين من التونسيين وهما:
إبراهيم بن الطاهر بن محمد بن العبد.
محمد بن فرج بن عثمان بن الحاج مهنى.
وفي نفس اليوم كانت مدينة «مدنين» بالجنوب التونسي مسرحا لأعمال وحشية أطلقت عليها السلطات الفرنسية في بلاغها عبارة «عمليات البوليس والأمن» فقد أطلق أثناءها جنود الفرقة الخفيفة من المشاة الفرنسيين الرصاص على ثمانية تونسيين وقتلوهم صبرا بالدعوى الباطلة الخاصة بإخفاء السلاح.
واعتقل يوم 19 بمدينة «الكاف» أربعة عشر من الشخصيات الوطنية
1
كما ألقي القبض على القادة المحليين للمنظمات القومية الكبرى.
2
وفي يوم 20 أغسطس ألقي القبض على اثني عشر من الوطنيين بمدينة «المنستير» على أثر الإضراب العام الذي شمل البلاد التونسية بأسرها تضامنا مع الشعب المراكشي واحتجاجا على خلع السلطات سيدي محمد ابن يوسف، ومن بين المعتقلين سالم بشير ومحمد زراقي، وكانت السلطات العسكرية قد دست في بيتيهما بعض الأسلحة والذخيرة لتبرير اعتقالهما بتهمة إخفاء السلاح التقليدية.
وجاء دور مدينة «باجة» في منطقة الشمال التونسي يوم 20 أغسطس لتكون مسرحا لمأساة تتكرر بنفس الصورة في كل مكان، فقد دخلت القوات المدنية والعسكرية إلى بيوت ثلاثة من قادة جامعة الحزب، ودسوا فيها الأسلحة والذخيرة ثم ألقوا القبض على عدد كبير من التونسيين.
3
وكانت أيام 26 و27 و28 أغسطس ظلاما وظلما في منطقة «الساحل الجنوبي» حيث قامت القوات الفرنسية المسلحة بعملية «تطهير» واسعة النطاق، وخاصة في «قصر هلال» و«المكنين» و«طبلبة» و«بقالطة» و«صيادة»، وفي ليلة 28 أغسطس ألقى الجنود القنابل اليدوية على البيوت ببلدة «قصر هلال» وخاصة على بيت سالم المجرى، فجرحوا زوجته جروحا خطيرة.
وقتل في يوم 30 أغسطس جندي من الحرس المتنقل وجرح رفيق له كان معه في تلك الجهة، فهاجمت القوات شوارع مدينة المنستير، واقتحمتها مدججة بالسلاح الحديث من بنادق سريعة الطلقات ورشاشات بدون انقطاع وقاموا «بتطهير» واسع عظيم، ونهبوا ليلة 31 أغسطس عددا كبيرا من البيوت وألقوا القبض على الناس بالجملة، وعذبوهم، ونكلوا ببعضهم في الساحة العامة، واختاروا أربعة من الشخصيات البارزة ومثلوا بهم شر تمثيل تكسيرا للأيدي، وبقرا للبطون، وشدخا للرءوس، ثم قتلوهم رميا بالرصاص وهم الشهداء:
مصطفى بن حسين جنات، صاحب مصنع ورئيس الشبيبة الدستورية.
الحاج سعيد المرشاوي، تاجر وأمين صندوق مساعد للشعبة الدستورية.
أحمد الغندري، مزارع وعضو بالحزب الدستوري.
عبد السلام ترميش، خباز ومكلف في الشعبة الدستورية بالدعاية الوطنية.
وذاق المعتقلون الآخرون - ويزيد عددهم على الخمسين - ألوانا من التعذيب الذي تقشعر منه الأبدان، وذلك في ثكنات «سوسة» «والمنستير» حيث نقلهم الجنود.
وقد عثر في الصباح على جثتين تحت أسوار المدينة ممزقتين بالرصاص، وهما الشهيدان عمر زقينة ومحمد سلامة وهو شاب لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره.
هذا وقد بلغ عدد الجرحى من ذوي الإصابات الخطيرة الذين نقلوا إلى المستشفى واحدا وأربعين، أما عدد الذين جرحوا جروحا خفيفة فلم يقف عليه أحد.
وفي صباح 31 أغسطس طلب «الحرس المتنقل» من آباء الضحايا أن يأخذوا جثث أبنائهم فرفض الآباء، وأصروا على إجراء عملية فحص وتشريح كلي لتلك الجثث، وأن يسجل ذلك الفحص في تقرير رسمي، فحمل إذ ذاك الجنود الجثث بأنفسهم إلى بيوت عائلاتهم، وأبلغوا الآباء بأن الأوامر تقضي بأن يكون الدفن تحت حراسة القوات المسلحة وبمحضر عشرة فقط من أقرباء القتيل.
وترتب على فظائع ليلة 31 أغسطس إضراب عام شامل بمنطقة «الساحل» كلها، وتوقفت الحركة التجارية والعمالية توقفا تاما، فما كان من جيوش «جار باي» إلا أن تدفقت بخبثها ووحشيتها وأخذت تحطم أبواب الدكاكين وتنهب ما فيها، وتدمر كل ما تجده في طريقها، وتحاول إرغام السكان على إنهاء الإضراب.
وفي أول سبتمبر ليلا وقبل بداية موعد منع التجول في منطقة «الساحل» هاجم بعض جنود الحرس الجمهوري شاطئ «صيادة» وأطلقوا النار بدون سبب على بعض الشبان التونسيين الذين كانوا يتنزهون على شاطئ البحر، فأصيب شاب عمره عشرون سنة، فمات على الفور وهو البحري بن سعيد بن الحاج الصيد، وجرح عدد آخر.
وقضى هكذا «الساحل» فترة من الإرهاب المريع وقد أصبح واضحا أن السلطات الفرنسية تهدف إلى إبادة جميع العناصر والشخصيات البارزة في هذه المنطقة.
هذا وقد تم تعيين «مراقب مدني مساعد» فرنسي جديد «بالمنستير» وعهد إليه بمحاربة الوطنيين وجميع أعضاء الهيئات الاقتصادية والمنظمات القومية التونسية في ميدان الاقتصاد، وقد وقع بالفعل إلغاء رخص النقل العمومي والسيارات التي يملكها التونسيون في تلك المنطقة، وهو مشغول الآن بمقاومة المزارعين والتجار وأصحاب الصناعات الصغيرة بقصد إفلاسهم.
منطقة زغوان
وفي أول سبتمبر جردت حملة «تأديبية» عسكرية تتألف من قوات الحرس الجمهوري على منطقة «زغوان» وذلك ليلة 2 سبتمبر، واحتلت مدينة «جبيبينة» وهاجمت البيوت وحطمت الأثاث، وأتلفت المؤن، وارتكبت أعمال النهب، واعتقلت عددا كبيرا من الوطنيين، من بينهم عدد كبير من رجال النقابات المحلية.
4
منطقة قفصة
على أثر مصرع أحد جنود الحرس الجمهوري تم اعتقال ستة من الرهائن التونسيين من بينهم مدير مدرسة ابتدائية حرة، وقتلوا فورا في الميدان العام في «القصر» قرب «قفصة.»
وفي الثاني من شهر سبتمبر شنت حملة بوليسية على مدينة «مضيلة» وقتل أثناء العمليات أحد التونسيين أمام بيته برصاص الجندرمة وجرح تونسي آخر، كما تمت اعتقالات كثيرة بالتهمة التقليدية الخاصة بإخفاء السلاح.
منطقة قابس
وقع نهب عام وإتلاف الأرزاق.
5
وهكذا أصبح شعب كامل - بعد أن ضيقت عليه الرقابة الخناق، ومنعت أخباره من التسرب إلى الخارج، وعزلته عن العالم بسدود منيعة، أصبح ذلك الشعب عرضة لهجمات قوات الأمن المسلحة يوميا، وقد كبل وقيد، وسلم فريسة للوحشية الجنونية التي امتاز بها جنود الجنرال «جارباي» وبات الموت يحوم في الشوارع، وباتت كل قرية تونسية تنتظر بقلب ثابت وصبر وجلد، دورها في «التطهير» وبات كل تونسي على استعداد لتحمل قسطه من العذاب، وليس بين التونسيين من يستكين أو يرضى بالذل.
وقد كثرت الضحايا بوجه خاص بين النساء الحبالى، وقد أجهض عدد كبير منهن في منطقة الساحل و«الجنوب التونسي.»
وأصبحت أرزاق التونسيين كلها، ومؤنهم تحت رحمة الحملات العسكرية الإرهابية، فقد نهبت قطعان كاملة من الغنم في منطقة «قابس» وتم الاستحواذ في المناطق التي منيت «بالتطويق» على أنواع مختلفة من الممتلكات، وبيعت المواشي بعد أن سرقت من أصحابها، وانتشرت إعلانات الإفلاس بين التجار والمزارعين.
وكانت المواصلات بين العاصمة «تونس» والمناطق المنكوبة تقطع عن عمد، وأخذت قوات مسلحة متنقلة تنشر الرعب في البلاد كلها بعد أن قسمتها إلى مناطق معزولة تماما بعضها عن بعض، تسهيلا لعمليات القمع.
أما الصحافة الفرنسية فقد كانت توقد نار البغضاء والحقد، وتناشد بزيادة العنف وسفك الدماء، ولا تشير إلى حوادث القمع إلا بنشر بلاغات السلطات الفرنسية ، وكلها تلفيق وكذب، فكانت تلك الصحافة تنشر يوميا أخبارا عن موت بعض التونسيين، وتدعي أنه ناتج عن «تناول بعض القنابل اليدوية والمفرقعات الحربية»، وذلك تدليس للحقيقة، والواقع أنها قنابل يدوية ألقاها الجنود الفرنسيون الذي يجوبون الطرقات في كل الاتجاهات على التونسيين، وهكذا لقي عدد كبير من الرعاة والفلاحين والبدو حتفهم.
ولم يسلم من ذلك الاضطهاد حتى المعتقلون المبعدون في محتشدات الصحراء، فقد اتخذت ضدهم إجراءات شديدة، فمنع عنهم الراديو والصحف، وألغيت الراحة اليومية، وضيق عليهم في القوت والطعام وفي البريد والرسائل وفي الاغتسال والنظافة، وصاروا عرضة للإهانة والتعذيب.
إن القوات الفرنسية المعتدية خرجت عن كل الاعتبارات الإنسانية، وارتمت في الأعمال الوحشية في أواخر أغسطس وأوائل شهر سبتمبر 1953، وقد ركبهم الغيظ والحنق واستولى عليهم البغض والحقد، لما رأوا وحدة التونسيين العتيدة وخيبة الإصلاحات المزعومة التي أدخلت على نظام الأقاليم والبلديات وارتاعوا لفرار 45 وطنيا من السجن الفرنسي، وجن جنونهم لأن الشعب التونسي لم يستسلم ولم يطأطئ الرأس ولم يتخاذل ولم يستكن، وأخذتهم نشوة الإجرام «بنجاح العملية المراكشية» وشجعتهم في أعمالهم مؤامرة الصمت والسكوت عنهم، فالبرلمان الفرنسي في إجازة فلا يخشون استجوابات النواب التي تطالب بوقف السواعد الفتاكة السفاكة للدماء، وكانت عملية «التطهير» المتكررة قد أحدثت في الرأي العام الفرنسي والعالمي ضربا من التعود والسآمة، فحدت من تأثره وعواطفه، وقلت الأصوات التي ترتفع في الخارج للتنديد بتلك الجرائم المتجددة.
لم يحتمل الفرنسيون ما رأوه من تضامن وثيق بين الشعب التونسي والشعب المراكشي عند خلع جلالة السلطان سيدي محمد الخامس، فاشتدت قسوتهم، وازداد بطشهم وتفاقم قمعهم.
لقد دبر المستعمرون الفرنسيون مؤامراتهم بليل، وقاموا بتمثيل روايتهم القذرة، فصلا بعد فصل، واستخدموا فيها صنائعهم وعبيدهم من الخونة المارقين من باشاوات وقياد (مديرين) وشيوخ القبائل البربرية ومن يدعون علماء الإسلام والإسلام منهم براء أمثال عبد الحي الكتاني، فاجتمع هؤلاء المارقون من الدين والوطنية تحت رئاسة القلاوي بمدينة مراكش وأعلنوا خلع سلطانهم الشرعي، وثاروا على النظام والقانون تحت حماية السلطات الفرنسية التي كانت تلقنهم دورهم وتتصل بهم الاتصال الوثيق، فقد زارهم في جحرهم الموظفون الكبار من الفرنسيين والمقيم العام الفرنسي الجنرال جيوم ليراقبوا سير المؤامرة التي حاكوها هم بأنفسهم، وأخيرا في يوم 20 أغسطس تمت المأساة واعلم الجنرال جيوم سيدي محمد الخامس في الساعة الثانية بعد الظهر أن فرنسا قررت خلعه، وأخذ الملك عنوة من قصره وجر جرا وهو في لباس النوم، صحبة أبنائه إلى المطار ونقل فورا إلى جزيرة كورسيكا الفرنسية، فنكثت فرنسا تعهدها بحماية شخص السلطان وهي وصمة لن تنسى، وعار لن يمحى، وقد اختارت السلطات الفرنسية يوم عيد الأضحى لترتكب فعلتها الشنيعة فشعر كل تونسي بل كل عربي، وكل مسلم أنها إهانة مقصودة، وحط من كرامته وضربة موجهة له شخصيا، فكان جرح لا يندمل، وبلغ الحنق والغيط أقصاه في تونس وهاجت عواطف الشعب، وتوالت الإضرابات والمظاهرات، فاغتنمتها السلطات الفرنسية فرصة لتنزل على تونس تلك الضربات التي قصصنا بعضها.
وأرادت الحكومة الفرنسية أن تتبع في سياساتها بالمغرب مبدأ «فرق تسد» فعزلت ممثلها بتونس دي هونكلوك وعوضته بمقيم عام آخر وهو بيير فوازار لتفرق بين الشعب التونسي والشعب المراكشي، وقد أذاع المقيم العام السابق قبل مغادرته البلاد التونسية بلاغا جاء فيه: «وسوف يسلك خلفه بيير فوازار سياسة أشد قسوة ضد التونسيين»، وما الجرائم التي ارتكبها الاستعمار بعد تعيينه إلا دليل قطعي على ذلك. (3) اغتيال الهادي شاكر
وكانت أشد تلك الجرائم وقعا على التونسيين اغتيال الزعيم الشعبي المحبوب الشهيد الهادي شاكر، وهو من أبرز قادة الحركة الوطنية، وعضو في الديوان السياسي، وقد كانت حياته مثالا في الإيمان والعمل والتضحية.
ولد في مدينة صفاقس عام 1908، وترعرع بها وتعلم في مدارسها، وانضم إلى صفوف المكافحين الوطنيين منذ الصغر، وكان عضوا نشيطا في الحزب الحر الدستوري بعد أن أسسه الشيخ عبد العزيز الثعالبي بقليل، وسرعان ما أهلته مواهبه وأعماله لتحمل المسئوليات.
وكانت فترة الركود السياسي والانحلال الحزبي التي أعقبت نفي الشيخ الثعالبي إلى المشرق تحز في نفسه المتوثبة، وكان تقاعس القادة القدماء عن العمل يؤلمه، ولما رجع النشاط الوطني بفضل الحبيب بورقيبة ورفاقه من الوطنيين، اندفع الهادي شاكر معهم ودخل مدخلهم حتى أصبح عضدهم الأيمن في جهة الجنوب، وكان من أكبر الدعاة في مؤتمر قصر هلال 1934، إلى تجديد الحزب الدستوري وإعطاء قيادته لشباب عامل مخلص نشيط، وكان موقفه من أكبر عوامل النجاح في تكوين الديوان السياسي، وعرف الطاغية «بيروطون» فيه العنصر الفعال والجد في عمله الوطني فنفاه إلى الصحراء صحبة قادة الحركة الوطنية (1934) فتحمل الحر والعذاب والحرمان بقلب مطمئن، وصبر وثبات، وأصبح بعد رجوعه من المنفى القائد الأكبر للحركة الوطنية في عاصمة الجنوب، واستأنف نشاطه بقوة وحماسة هادئة، واشترك في جميع الأعمال الكبرى وتأسيس المنظمات القومية، وأخذ قسطا وافرا في قيادة الشعب في ثورة 1938، فسجنته السلطات الفرنسية وعلقت به تهمة التآمر ضد أمن الدولة الخارجي والداخلي. وطالب الكولونيل «دي جيران» قاضي التحقيق العسكري بالحكم عليه بالإعدام، وقد نقلته السلطات الفرنسية من السجن المدني إلى السجن العسكري، ثم إلى سجن «تبرسق» وأخذته مع رفاقه قادة الحركة إلى سجن «سان نيقولا» بمارسيليا في جنوب فرنسا. ثم وضعته في قرية «تراتز» قرب مدين «إيكس» في إقامة جبرية، وفي عام 1942 أرجعته قوات المحور إلى تونس، فشمر عن ساعد الجد وأخذ في تنظيم الحركة الوطنية مع بقية إخوانه، وصار من قادة الحزب الحر الدستوري الكبار، وعضوا بارزا في الديوان السياسي، ولقبته الجماهير الشعبية بزعيم الجنوب لما له من نشاط في تلك الجهة، وقد بقيت بها بعض القبائل الكبرى يسيطر عليها مشايخ خونة من صنائع الاستعمار، يحرمون منطقتها على الوطنيين ويهددونهم بالقتل إذا ما حدثتهم أنفسهم بدخولها، فاقتحم الشهيد الهادي شاكر تلك المناطق، وبث فيها الدعوة الوطنية وعقد بها الاجتماعات المتكررة وكان في عمله عرضة للسجن والقتل، ولكن عزمه أقوى من أن توقفه الصعوبات، وإيمانه أرسخ من أن يؤثر فيه الوعيد، فهو رجل الواجب لا يعطله شيء عن أداء واجبه.
وكأن واجباته كلها اجتمعت وتبلورت في الواجب الوطني فهو وإن كان أبا رءوفا وأخا حنونا وتاجرا ماهرا، فقد ضحى بعواطفه وماله ووقته، وبحياته في سبيل وطنه المنكوب، استمد قوته من نفسه، فعاش عيشة الأقوياء ومات ميتة الشهداء، يلتجئ إليه الرجال إذا ما اعتراهم ضعف وخور، ويزيلون شكوكهم بيقينه، وهو الركن الركين والحصن الحصين، وصعب مراسه فلا يقتنع حتى يقنع نفسه بنفسه، ولا يسير حتى يتثبت، ولا يعمل حتى يتروى، لقد غلب عقله هواه، وتحكم في أعماله، ميزته الرصانة والهدوء، فكان مقتصدا في حركاته، قليل الكلام كثير الفكر، ثاقب الرأي يدرس الخطط ويدققها قبل الشروع فيها، ينال بالتؤدة والحكمة ما لا يناله غيره بالقوة والشدة، ويسدد خطاه فينجح النجاح الباهر عندما يظن الظان أن الخيبة حاقت به، وهو في إيمانه ووطنيته كالبركان الساكن، قد يغتر الإنسان بمظاهره عندما يراه وادعا، حتى إذا ما رآه يخطب في الجماهير يعرف حقيقته ودفائن نفسه، فيلهب الحماس في القلوب ويقود الرجال قيادة القوى الجسور، وتزداد جرأته وثباته وصبره وأناته بقدر ازدياد الشدائد والمحن والأخطار.
وكان مربوع القامة، خفيف السمرة، أسود الشعر، تتوقد عيناه حياة وفطنة تحت نظاراته.
وقد لعب الهادي شاكر دورا هاما في ثورة تونس، فهو الذي قاد الحركة الوطنية في أصعب أيامها في يناير 1952 بعد اعتقال زعيم الشعب الحبيب بورقيبة ومدير الحزب المنجي سليم، وعندما كان يخشى أن تدخل الفوضى على أعمالها، فكان قدوة ومنارا بهدوئه وتصلبه؛ إذ نفذ الخطة المرسومة وعقد مؤتمر الحزب في 18 يناير 1952، وترأسه وبث فيه من روحه إلى أن أتم أعماله وأصدر قراره الذي بقي دستورا قارا واضحا في فترة الكفاح كلها، ولكن السلطات الفرنسية تعرف قيمة الهادي شاكر في قيادة الشعب؛ ولذا أسرعت إلى إلقاء القبض عليه يوم 23 يناير أربعة أيام بعد عقد مؤتمر الحزب، ثم أرسلته إلى منفى طبرقة، حيث اجتمع مع الحبيب بورقيبة والمنجى سليم، وقد صحبهما أيضا يوم 26 مارس 1952 عندما نقلتهما الإقامة العامة الفرنسية إلى معتقلهما الجديد في صحراء الجنوب برمادة، فاستأنف هكذا حياة الاعتقال في الصحراء بعد ثماني عشرة سنة، وكان نفي إليها مع قادة الشعب عام 1934، ولم يطل مكثه فيها هذه المرة، فنقلته السلطات الفرنسية يوم 7 مايو صحبة زملائه إلى جزيرة جربة، وفي شهر يونيو 1953 فرضت عليه الإقامة الجبرية في مدينة نايل مقر إبعاده الجديد فأصبح هكذا تحت حراسة البوليس الدائمة.
وفي ليلة الأحد 13 سبتمبر حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل سمعت طرقات شديدة على باب البيت الذي كان يسكنه الهادي شاكر، ثم وقعت محاولة خلعه، فاستيقظ الزعيم من نومه، وتلفن حالا إلى مقر الجندرمة الذي لا يبعد عن بيته إلا بعض مئات الأمتار، وأعلمهم أن مجهولين يحاولون الهجوم على بيته، فأجابته الجندرمة أن مقر البوليس أقرب إليه فليتصل به، فاتصل به فعلا من غير جدوى، ولكن المجرمين الفرنسيين وضعوا في الأثناء مفرقعات في الباب ونسفوه نسفا، وصعدوا الدرج المؤدي إلى غرفة الزعيم، ثم جروه معهم جرا تحت تهديد أسلحتهم وأركبوه جبرا في سيارتهم التي اندفعت تعدو بسرعة فائقة.
وقد اكتشفت جثة الهادي شاكر في الصباح المبكر على الطريق الرابطة نابل بقرنبالية في جهة الوادي السعيد، وقد مزقه رصاص الرشاشات.
وقررت السلطات الفرنسية أن النظر في تلك الجريمة سيكون من متعلقات المحكمة العسكرية الفرنسية، وربما يتساءل الإنسان لماذا اتخذ هذا القرار؟ ولكنه عندما يعلم أن البحث العدلي لم يأت بنتيجة وأن المجرمين ما زالوا يتمتعون بحريتهم الكاملة لم يمس أحدهم بسوء، وأن دم الهادي شاكر قد ذهب هدرا كما ذهب دم فرحات حشاد من قبله، يفهم سر ذلك القرار، وربما يذهب إلى أبعد من ذلك في استنتاجه إذ يرى أن العدالة الفرنسية تحمي المجرمين من الفرنسيين.
وحمل جثمان الشهيد إلى مدينة صفاقس مسقط رأسه حيث شيع عشرات الآلاف جنازته وبكاه أبناء وطنه كلهم، وأثار اغتياله موجة عميقة من الاستياء في الشعب التونسي بأسره وازدادت الهوة بين تونس وفرنسا عمقا، وقد علقت جريدة «لوموند» الفرنسية (15 سبتمبر 1953) على تلك الجريمة الفظيعة وما تجره من نتائج وخيمة، قالت:
إن الاغتيال الذي وقع بنابل ليلة الأحد يذكرنا باغتيال فرحات حشاد، وقد ذهب أحد القادة الوطنيين ضحيته (وكان الضحية في ديسمبر الماضي الأمين العام للاتحاد العام للعمال التونسيين، أما اليوم فأمين المال للديوان السياسي للحزب الحر الدستوري الجديد). وتنبئ تلك الجريمة على عمل منسق منظم اشترك فيه عدة أشخاص، ويظهر في مظهر عمل انتقامي كنا نددنا يوم السبت بما فيه من خطر، فقد بقيت تونس هكذا في الدور والتسلسل الجهنمي الذي دخلت فيه منذ عامين.
إن الإرهاب بغيض كما كررناه وما زلنا نكرره، ولكن هل يمكن أن تكون الإجابة عن إراقة الدماء بإراقة الدماء، وعن الاغتيال بالاغتيال طريقة، وأن تكون طريقة فرنسية وطريقة حامين إزاء محميين؟ أولم نتنبأ بأننا دخلنا شمال أفريقيا لإرجاع النظام إلى نصابه، أولم نكافح من 1940 إلى 1944 لنضع حدا لطرق كنا نتألم منها في أجسامنا ولكي نعوض الأحكام الاستعجالية العمياء بالعدالة؟
وقد قصت كريمة الشهيد الهادي شاكر على أحد الصحفيين اختطاف أبيها من بيته، وهي شاهدة عيان، ونقتصر على نقل ما قالته:
لابريس - بتاريخ 16 / 9 / 1953
في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل شعر أنجال الهادي شاكر أن بعض الأشخاص يحاولون اقتحام باب العمارة، وقالت كريمته الكبرى التي كانت شهادتها أدق شهادة كانت سيارتان من نوع سيتروين (تراكسيون آفان) واقفتين أمام الباب.
وعندما أيقظه أبناؤه أمسك الهادي شاكر بالتليفون وطلب أولا مركز الجندرمة، ولما خاطبه ضابط الجندرمة في الساعة الثانية والدقيقة الخامسة والثلاثين طلب منه الهادي شاكر الحضور حالا لنجدته، فصرح له الضابط بأنه سيأتي حالا بيد أنه يستحسن أن يطلب أيضا مركز البوليس وهو أقرب إلى منزله من مركز الجندرمة، وذلك لأن مركز الجندرمة يقع خارج المدينة في طريق تونس في حين أن مركز البوليس يوجد في قلب المدينة على مسافة خمسمائة متر من المنزل الذي كان يقيم فيه الهادي شاكر.
فنفذ الهادي شاكر نصيحة ضابط الجندرمة وطلب فورا مركز البوليس، فكان الرد أن النجدة آتية في الحال.
وتضيف الفتاة أنه ما أن وضع السماعة حتى دوي انفجار عنيف، وكانت الساعة الثانية والدقيقة الأربعين فقد نسف المهاجمون الباب ذا المصراعين بمادة شديدة الانفجار عندما عجزوا عن اقتحامه.
وفي نفس اللحظة انقطع التيار الكهربائي في المنزل ولم يحدث ذلك عمدا ولكنه كان نتيجة للانفجار لأن العداد الكهربائي يوجد في مدخل المنزل بجانب الباب، فانتزع من الحائط وانقطع التيار.
وتستطرد كريمة الهادي شاكر قائلة: وبعد ذلك توالت الوقائع بسرعة فقد صعد المهاجمون الدرج عدوا وأطلقوا رصاصة على قفل باب «الشقة» في الطابق الأول، ثم فتحوا الباب بعد أن دفعوه بأكتافهم ودخلوا إلى الشقة وفي أيديهم مصباح كهربائي، ثم سألوه: «هل أنت الهادي شاكر؟» فقال: «نعم.» فقالوا: «إذن تعال معنا.»
ونزلوا وهم يجرونه بينما كان لا يرتدي إلا ملابس النوم.
وقالت الفتاة أنهم كانوا ثلاثة اثنان منهم بشرتهما بيضاء وملابسهما مدنية إفرنجية ويحمل كل واحد منهما رشاشة، والثالث زنجي يلبس طاقية سوداء وقميصا وسروالا (كاكيا) ويحمل فوق كتفه بندقية وفي يده مسدسا.
وانطلقت السيارتان متجهتين إلى طريق تونس وأنوارهما مشعلة واجتازتا قلب المدينة.
ولم تنقض إلا سبع دقائق منذ أن دوي الانفجار في الساعة الثانية والدقيقة الأربعين، ووصل رجال البوليس والجندرمة الذين استيقظوا وارتدوا ملابسهم بسرعة في الساعة الثانية والدقيقة الخمسين أي بعد ثلاث دقائق وجاءوا بعضهم بالسيارات والبعض الآخر مشيا على الأقدام.
واستمر البحث والتفتيش إلى الفجر، وحوالي الساعة السادسة صباحا عاد راكبو، إحدى السيارات الذاهبة من نابل إلى تونس وأخبروا مركز الجندرمة أن هناك جثة ملقاة على حافة الطريق على مسافة خمسة كيلومترات من «نابل».
وكانت الجثة هي جثة الهادي شاكر ملقاة ووجهه على الأرض على جانب الطريق في النقطة (60كم-300م) أمام صخرة مئات الأمتار.
وكانت الجثة قد اخترقتها عدة عيارات، ووجدت بقايا رصاصات رشاشة عيار 9 ملليمتر ومسدس عيار 7,75.
ومعلوم أنه وجد إنذار فوق الجثة، وقد نشر أمس نصه التقريبي، وهذا هو النص الصحيح:
إنذار إلى الأهالي!
إن كل حادث اغتيال أو تخريب يرتكبه الحزب الدستوري في مكان ما، سيتبعه ابتداء من الآن إعدام ثلاثة من الأعضاء البارزين في فرع الحزب في ذلك المكان.
ولن يحول أي شيء أو أي شخص دون تنفيذ هذه الأعمال الانتقامية.
فليكن ذلك معلوما. (4) خاتمة
لا بد للكتاب من خاتمة، وإن كان كفاح تونس مستمرا والعدوان الفرنسي متتابعا عليها ، وإن كانت الخاتمة الحتمية لذلك الكفاح لم تتحقق بعد، إلا أنه أخذ يتطور تطورا سريعا في المدة الأخيرة حتى أصبحت الحالة خطيرة جدا على الفرنسيين والتونسيين أيضا، فقد ظهرت في الميدان فرق من الفدائيين الوطنيين تقول عنها الصحف الفرنسية أنها منظمة نظاما دقيقا، ترتدي لباس الميدان مسلحة بالأسلحة الثقيلة، وقد اكتسحت الجهات الجبلية كلها من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال غربا، وتقول تلك الصحف أيضا إن بداية هذه الحركة المسلحة تشبه بداية الحرب في الهند الصينية.
وإن تلك التطورات الجوهرية في النضال التونسي يستلزم وضع كتاب مفصل نؤمل كتابته إتماما للفائدة. وقد لخصت في المذكرة التي قدمتها صحبة الأستاذ محمد بدرة إلى دول الكتلة العربية الآسيوية بتاريخ 23 يونيو 1954 وهذا نصها:
لم تغير فرنسا سياستها في تونس، بل غيرت طريقة تنفيذها، فاستبدلت في شهر سبتمبر 1953 المقيم السابق «دي هوتكلوك» بالمسيو «بيير فوازار.» وأراد الوطنيون إظهار حسن نيتهم، فطلبوا من الشعب الذي لبى نداءهم أن يلتزم الهدوء لإعطاء فرصة للمقيم الجديد لاستئناف المفاوضات مع الممثلين الحقيقيين للشعب التونسي بغية الوصول إلى حل مرض للقضية التونسية، ولكن مسيو «فوازار» أصر على التقرب من جلالة الباي ومجاملة البلاط وإلغاء قرار منع التجول ليلا واستعادة الهيئات من أيدي العسكريين إلى أيدي المدنيين الفرنسيين والإفراج عن بعض المعتقلين الذين قضوا حوالي العامين في السجون الفرنسية دون مبرر، وإلغاء الرقابة على الصحف.
وكانت تلك الإجراءات تقتر تقتيرا خلال فترات طالت مدتها في حين أن المحاكم العسكرية كانت توالي في تلك المدة كلها إصدار أقصى أحكامها على مئات الوطنيين التونسيين، وكانت أحكام الإعدام تنفذ فيهم فعلا (وقد نفذت في أحد عشر وطنيا منذ حلول المقيم الجديد بتونس)، وفي الأيام الأولى من تعيين مسيو فوازار اغتالت عصابة فرنسية في 13 / 9 / 1953 المرحوم «الهادي شاكر» أحد زعماء الحركة الوطنية بينما كان محدد الإقامة بمدينة «نابل» وتحت حراسة البوليس الفرنسي، وقد بقي المجرمون الذين اغتالوا الزعيم النقابي «فرحات حشاد»، أحرارا لم يمسهم سوء، ولم يكترث مسيو «فوازار» بهذا الأمر ووجه عنايته إلى الاتصال ببعض الشخصيات سعيا في جلبها وفاجأ الرأي العام التونسي بتأليف وزارة جديدة في 3 مارس 1954 برئاسة السيد محمد صالح مزالي «لتخلف وزارة البكوش التي أجمع الشعب على مقاطعتها» وجميع أعضائها من الإداريين أو من الموالين للإدارة الفرنسية الذين لا يمثلون أي جزء من الرأي العام التونسي، وتم تأليفها بعد مباحثات محدودة بين المقيم الفرنسي وهؤلاء الإداريين، ولم تقع استشارة الشعب ولا الالتفات إلى رأي ممثليه ومنظماته، فأعلن معارضته لهذه الوزارة التي فرضت عليه فرضا بالرغم من موافقة جلالة الباي عليها.
وفوجئ الرأي العام مرة ثانية بعد يومين فقط (أي في 4 مارس 1954) بنشر مراسيم إصلاحات وقعها جلالة الباي في ذلك اليوم، وهي سواء فيما يتعلق بالسلطة التنفيذية أو المجالس النيابية - تدعم وتؤكد بصفة رسمية مبدأ السيادة المزدوجة الذي جاءت به مذكرة الحكومة الفرنسية - 15 ديسمبر 1951 «مصدر الأزمة الحالية» والذي رفضه الشعب التونسي رفضا قاطعا في أي شكل من الأشكال، هذا بالإضافة إلى ما في هذه الإصلاحات من اعتداءات على السيادة التونسية، حيث إنها حافظت على بقاء مناصب الدولة الأساسية من مالية وأشغال وتعليم وبريد وأمن عام وبوليس في أيدي الفرنسيين، كما حافظت على حق الفرنسيين في نصف مقاعد المجالس النيابية، وجعلت سلطة تلك المجالس استشارية محدودة، كما منحت هذه الإصلاحات للفرنسيين المستوطنين بتونس الحق في رئاسة البلديات بالتناوب مع التونسيين والرئاسة الدائمة لبلدية مدينة تونس.
ولم تكن إصلاحات 4 مارس نتيجة لمباحثات جرت من قبل مع الممثلين الحقيقيين لشعب تونس، بل تم إعدادها في مكاتب وزارة الخارجية الفرنسية والإقامة العامة في تونس، ولم يؤخذ في شأنها رأي أي «جزء» من الرأي العام التونسي، أما توقيع جلالة الباي عليها فإنه يظهر إلى أي حد عرفت فرنسا كيف تستغل حادث خلع سلطان مراكش.
ولم يقبل الشعب التونسي الرضوخ للأمر الواقع، بل رفضت المنظمات السياسية والاقتصادية والعمالية التونسية تلك الإصلاحات ووقفت موقف المعارضة من الوزارة التي تحملت مسئولية قبولها، واتخذت الجبهة الوطنية التونسية التي تجمع تلك المنظمات (الحزب الحر الدستوري التونسي والاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والاتحاد العام للفلاحة التونسية والغرفة التجارية والغرفة الزراعية) قرارا برفضها في 15 أبريل 1954.
وبينما كانت هذه التطورات السياسية تجري كانت السلطات الفرنسية تعمل على إبادة قسم كبير من الشعب التونسي، باغتيال قادة الحركة الوطنية وتجريد حملات إرهابية ضد سكان مدينة المنستير ومنطقة الساحل (نوفمبر 1953) وإعدام التونسيين من غير محاكمة، واعتداءات جماعية على قبائل مناطق قابس وسيدي بوزيد ومطماطة التي نقلت بأسرها من مواطنها إلى مناطق أخرى وضعت فيها تحت الحراسة المسلحة فهجر كثير من التونسيين مساكنهم في المدن والقرى هروبا من الاعتقال والإبعاد والتعذيب والقتل، ولجئوا إلى المناطق الجبلية حيث انضموا إلى الوطنيين الذين فروا من قبل إلى الجبال على أثر عمليات «الاكتساح» التي أجراها الجيش الفرنسي في جميع أنحاء تونس طوال سنتي 1952 و1953 وشرع المقيم العام «فوازار» في تنفيذ خطة إبادة الوطنيين التونسيين في شهر مايو 1954 إثر عدة حوادث دامية، فانقاد للمستعمرين المتطرفين خوفا على منصبه ولتغطية فشل سياسته التي عارضها الشعب التونسي بالإجماع فاتخذ الإجراءات التالية: (1)
استقدام فرق عسكرية من الجزائر وفرق «الطابور» من مراكش و5 فرق من الحرس الجمهوري من فرنسا وفرقتين من جنود المظلات من السنغال. (2)
إنشاء 48 «فرقة أمن متنقلة» تؤلف كل فرقة منها من حوالي أربعين فردا بين رجال الجندرمة والجيش والمتطوعين وتعطي لهم أسلحة أوتوماتيكية. (3)
إنشاء 3 فرق عسكرية متنقلة وفرقة احتياطية. (4)
وضع أورطة احتياطية تحت تصرف كل حامية. (5)
استدعاء رجال الجندرمة الاحتياطين وبعض رجال الرديف من اختصاصيين وسواقين وعمال ردايو ... إلخ ... (6)
إنشاء «وحدات ترابية» للدفاع عن المزارع الفرنسية ومراكز الاستعمار، وتؤلف من المتطوعين بين فرنسيين وأجانب سواء كانوا خاضعين للواجبات العسكرية أم لا وتمنح لهم الامتيازات المادية التالية: تصرف لهم المرتبات المخصصة لهم حسب رتبهم العسكرية مع علاوات إضافية. (7)
توزيع الأسلحة والقذائف اليدوية على المزارعين الفرنسيين. (8)
إعلان حظر التجول بناء على طلب المراقبين المدنيين الفرنسيين في مناطقهم المختلفة.
وقد تحدث المقيم العام في بيانه عن الفرنسيين، فقال: «إن فرنسا اعتبرتهم دائما من أعز أبنائها وأنهم سيبقون في أراضيهم»، ثم أضاف قائلا: «إن فرنسا باقية وأن الفرنسيين باقون في مراكز عملهم وإذا دعت الحاجة في مراكز القتال.»
وخطب مسيو «فوازار» كذلك في جنازة أحد الفرنسيين فقال: «إني أعلن أمام هذا القبر المفتوح أن ممثل فرنسا يرى من واجبه أن يحذر الذين يعتمدون على حلمنا أنهم مخطئون خطأ فاحشا، فقد سبق لي أن قلت وكررت القول، وها أنا ذا أعيد مرة أخرى أن فرنسا سوف لا تتخلى أبدا عما قامت به في تونس، كما أنها لن تتخلى عن رعاياها وأصدقائها وستدفع في سبيل ذلك الثمن المطلوب، ومعروف إنها تملك إمكانيات مختلفة، فإذا كان صحيحا أنها اليوم تجتاز موقفا حرجا فإنه من الجنون أن يعتقد أحد أنها ستستسلم للضعف وهل اتخذت عندنا القرارات الحاسمة إلا في وسط المحن؟ إن الفرنسيين رجال صراع يعرفون كيف يتقبلون الضربات وهم يعرفون كيف ينجحون في مشاريعهم بصمت وكيف يعدون ضرباتهم بأعصاب هادئة، إني أصرح دون أن تدفعني روح الانتقام الأعمى ودون أن يعتريني شعور بالندم أو الخوف إني أصرح بأن موتانا سينتقم لهم.»
وهذه أول مرة يتحدث فيها ممثل فرنسا علانية عن «الانتقام» لا عن العدالة أو الاقتصاص من المذنبين، كما أنه لم يشر أية إشارة إلى الضحايا العديدة من التونسيين، بل إن هناك على عكس ذلك إشارة واضحة إلى ما تقوم به عصابة «اليد الحمراء» الفرنسية من اغتيال التونسيين «انتقاما للفرنسيين.»
وشرعت كل تلك القوات التي وصلت إلى تونس في مطاردة التونسيين وتقتيلهم والتنكيل بهم، فأصبح هكذا الخطر يهدد شعبا كاملا بالإبادة.
وحيث إن فرنسا لم تعمل بتوصيات الأمم التي اتخذتها في قرارها 611 (7) بتاريخ 17 ديسمبر 1952، وحيث إنها تمادت في سياسة العدوان على السيادة التونسية بالإصلاحات المفروضة في 4 مارس 1954، وحيث إنها عمدت إلى إبادة شعب كامل، فإننا باسم الشعب التونسي نتقدم لحكومتكم الفخيمة راجين عرض القضية التونسية على الأمم المتحدة في دورتها القادمة وإصدار تعليماتكم إلى وفدكم بالأمم المتحدة في هذا المعنى.
صفحه نامشخص