فقد تطلب محق المجرمين هناك ثلاثة أيام ... فهل يتطلب هنا ثلاثة أعوام؟!
فليس في الأمر حقيقتان، بل في فرنسا حكومة واحدة، وبشمال أفريقيا محميتان.
فلأي سبب لم نصل إلى نفس النتائج في نفس الوقت؟
وهكذا نرى الجالية الفرنسية تفقد أعصابها ويذهب عنها رشدها، عندما يصادم الواقع أوهامها ويقضي على أطماعها ويهدد مصالحها، فيعتريها ضرب من الجنون الإجرامي ويسير شعب تونس بين هؤلاء المجانين العطشى لدماء الأبرياء وبين فرنسا المتشبثة بأحلامها الاستعمارية.
الحركة الوطنية
تاريخها، مبادئها، نظامها (1) الحركة القومية
لم تتكون الحركة التونسية من العدم، ولم تتولد بين عشية وضحاها، بل نشأت وترعرعت وتطورت خلال قرن كامل تقريبا، حتى أصبحت كما نشاهدها اليوم تجمع شعبا بأسره في وحدة متينة، وتسير به في كفاح دموي مرير دام عامين ضد قوات استعمارية مسلحة بأحدث أنواع السلاح العصري.
وليس غرضنا كتابة تاريخ تلك الحركة بالتفصيل، ولكن بسطة موجزة تعين على فهم ما يجري بتونس اليوم من جهاد.
بدأت نهضة تونس وسعيها في التخلص من كل نفوذ أجنبي في أواسط القرن التاسع عشر، فأصدر ملكها إذ ذاك محمد باي (9 سبتمبر 1857) «عهد الأمان» الذي يعتبر إعلانا لحقوق الإنسان وللمبادئ الديمقراطية من مساواة بين الأفراد وحرية شخصية، وحرية الأديان، وعدالة الجبايات، والذي كان مقدمة للدستور التونسي الصادر في 1860، ولما اعتلى خير الدين باشا المعروف بعبقريته السياسية كرسي الوزارة (1873) أسرع إلى إدخال النظم الحديثة على الدولة التونسية، وشمل بإصلاحه الإدارة العامة والمحاكم الشرعية والمدنية والتعليم والصحة والاقتصاد والزراعة، وكانت تلك المؤسسات - وخاصة المدارس العصرية الثانوية والعليا - نواة صالحة وبذورا طيبة أنبتت شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وكانت أساسا للنهضة والتقدم السريع الثابت في خطاه رغم جميع العراقيل الاستعمارية، حتى رأينا موجة من الأعماق تكتسح شعب تونس وكأن الحياة التي كان تيارها يجري ببطء، بل اختفى أحيانا كما تختفي الأنهار تحت الرمال، تدفقت من جديد وظهرت مياهها أصفى وأغزر ، وإذا بها تيار جارف لا يقدر الاستعمار الفرنسي البالي على إيقافه أو تعطيله.
لقد ابتدأت المقاومة التونسية للاستعمار الفرنسي يوم وضع أول جندي فرنسي رجله على أرض الوطن، وكانت من ذلك اليوم تكتسي قالبين، فتارة تكون ثورة عامة أو محلية وطورا تكون حركة سياسية صرفة، وفي بعض الأحيان تتخذ القالبين معا.
صفحه نامشخص