الجرح والتعديل وطريقهما
وبهذا يظهر لمن أنصف أن قبول الجرح المطلق، والتوثيق بدون نظر في حجة ذلك تقليد، وأنه ليس من قبول الرواية التي لا تحتاج إلى المطالبة بحجة، لأن أكثر التوثيق للرواة ليس إلا بالنظر في حديثهم، فإذا كان سليما من المناكير، سليما من التخليط، سليما من الكذب عندهم، وثقوهم، وإذا كان الراوي ينفرد بروايات عن المشاهير، أو يخالف حديثه حديث الثقات، أو يروي منكرا عندهم لا يتابع عليه، جرحوه. ومن طالع كتاب ابن حبان في الضعفاء، والميزان، وكتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم عرف هذا، وعرف أن الجرح بترك الصلاة أو شرب الخمر أو نحو ذلك مما لا تختلف فيه المذاهب نادر، وأن التوثيق بما هو مجمع عليه بين الأمة قليل، فأكثر الجرح والتعديل بمنزلة فتوى من الجارح والمعدل، ومذهب له ليس من قسم الرواية لما لا تختلف فيه المذاهب، وقبوله بدون اعتماد حجة تقليد لا عمل بالرواية، وكذلك تصحيح حديث أو تضعيفه كالفتوى، لأنه تابع للمذهب في الرواة، فقبول التصحيح والتضعيف بدون اعتماد على حجة تقليد.
فإن قلت: إنهم يحتجون للجرح بأن يقولوا: يروي المناكير أو نحو هذا، فكيف يكون قبول الجرح تقليدا ممن قد اطلع على هذه الحجة ؟
قلنا: إن كون الحديث منكرا يحتاج إلى بينة، لأنه قد يكون منكرا عند الجارح وليس منكرا في الواقع، وقد يكون انفراده عن بعض المشاهير لسبب واضح وعذر مقبول، وقد تكون مخالفته لحديث الثقات لأنه هو الثقة، وإنما خالفوه تعصبا لمذهبهم في مسألة قد اتضح أنها من أسباب التعصب، فليسوا ثقاتا في الواقع وإن كانوا ثقاتا عند الجارح، فقبول قول الجارح: إنه يروي المناكير تقليد له في معنى المنكر، وفي أن الانفراد بالرواية عن المشهور قادح مطلقا، أو في أن هذا الراوي يجرح بتفرده، لأنه ليس له عذر في ظن الجارح، أو لأنه يبغضه فلا ينتبه لعذره.
صفحه ۱۶