عليهم، وليس لها حكم ظاهر في كتاب الله، وما صح من سنة رسوله؛ فإن كان اتبعوه وإلا أخذوا بالرأي عن طريق القياس والاستحسان، وقد كان تشددهم في الحديث، وعدم أخذهم بخبر الآحاد الذي لم يرو أمام جمع من الصحابة - سببًا في توسيعهم في الاجتهاد والرأي، وسنقدم لك أئمة هذا المذهب.
الإمام أبو حنيفة:
هو النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه مولى تيم الله بن ثعلبة، وقيل: إنه من أبناء فارس الأحرار، ولد بالكوفة سنة ٨٠ هـ. وتفقه فيها، وهو من أتباع التابعين، جلس في مسجد الكوفة إلى حلقات درس علم الكلام.
ويروى عن زفر بن الهذيل؛ أنه قال؛ سمعت أبا حنيفة يقول: "كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغًا؛ ليشار إليَّ فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتني امرأة يومًا فقالت: رجل له امرأة يريد أن يطلقها للسنة، كما يطلقها؟ فأمرتها أن تسأل حمادًا فترجع فتخبرني، فرجعت وأخبرتني، فقلت: لا حاجة لي في الكلام، فأخذت نعلي فجلست إلى حماد ...
ويروى أنه لازمه نحو ثماني عشرة سنة، جالسه نحو عشر سنوات، ثم حدثته نفسه أن يستقل عنه، ويكون له حلقة خاصة، ولكنه خجل من شيخه، ولما غاب حماد فترة بالبصرة جلس مكانه، وعرضت عليه نحو ستين مسألة جديدة فأفتى فيها برأيه، ولما عاد شيخه عرضها عليه فأقره على أربعين منها، فلزمه أبو حنيفة حتى مات حماد، فاختار الطلاب ابنه إسماعيل، ليجلس مكانه، غير أنه تنحى، لأنه كان متجهًا إلى الأدب والشعر لا إلى الفقه، فترأس الدرس موسى بن أبي كثير؛ لكبر سنه ومجالسته الشيوخ الكبار، ولما خرج للحج جلس مكانه أبو حنيفة، فملأ مكان حماد واستمر حتى مات.
كان أبو حنيفة أعلم أهل عصره إمامًا محققًا، قال فيه الشافعي: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة"، وكان فقيهًا أمينًا ثبتًا في رواية الحديث، لا يروي إلا الصحيح، واسع المال ميسور الحال، مصدر ماله تجارته، فقد كان خزازًا يبيع الخز، أزهد الناس في الجاه والسلطان.
منهجه في استنباط الأحكام:
بيَّنا لك من قبل أنه من مدرسة عبد الله بن مسعود؛ ولذا كان من أهل الرأي، إمامًا في القياس بارعًا في الاستحسان، وقد نقل عنه أنه قال في طريق استنباطه للأحكام: "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله، والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد لا في كتاب الله أو سنة رسوله أخذت بقول أصحابه من
1 / 42