إلى الكوفة واستقرا فيها، وأخذا يعلمان الناس أمر دينهم، ويلقنانهم مبادءهم، وقد كان ابن مسعود متأثرًا بطريقة عمر بن الخطاب في الاستنباط والبحث، وشدة ميله للرأي، واحتياطه الزائد في الأخذ بالحديث؛ كما أن عليًا كان واسع الأفق قوي الحجة.
برز في مدرستها فطاحل الفقهاء؛ فهذا شريح الكندي الذي مارس القضاء حقبة من الزمن، مع ميله الشديد للأخذ بالرأي، وكان بعده الفقيه إبراهيم النخعي فقيه الرأي، وعامر بن شراحيل الشعبي، غير أنه كان رغم أنه درس في مدرسة الرأي- يكره الأخذ بالرأي، ويقف عند الآثار؛ ولذا فإنه غذى هذه المدرسة بما جمع وحفظ من أحاديث، ثم جاء من بعدهما حماد بن سليمان، فأخذ عنهما، ومزج فقه النخعي بفقه الشعبي، ولقن هذا المزيج لتلاميذه بالكوفة، وكان فيهم أبو حنيفة النعمان الذي فاق جميع أقرانه، وتلقى زعامة هذه المدرسة من بعد شيخه حماد، والتفَّ حوله الراغبون في التفقه، وبرز منهم أبو يوسف ومحمد وزفر، وعملوا معه على تكوين المذهب الحنفي في القرن الثاني الهجري، في أواخر العهد الأموي.
وأخيرًا أطلق الفقهاء على أبي يوسف ومحمد كلمة الصاحبين، وعلى أبي يوسف وأبي حنيفة كلمة الشيخين، وعلى أبي حنيفة ومحمد كلمة الطرفين، أما زفر فيسمى باسمي لقصر مدته.
وفي العهد العباسي ازداد نفوذ هذا المذهب، وتغلغل في أنحاء الدولة العباسية، ووصل جميع أطرافها، وبقي حتى الآن يعتبر المذهب الرئيسي في باكستان، وبعض بلاد العراق، وتركيا، ومصر.
ولقد كان لاتصال أبي يوسف بالخلفاء العباسيين، وشدة نفوذه عندهم، وتعيينه على ولاية القضاء الفضل في الانتشار السريع الذي لاقاه هذا المذهب، وفي هذا يقول ابن حزم: "مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان؛ الحنفي بالمشرق، والمالكي بالمغرب ... " وهذه سنة الله في كونه إذا أقبل الحاكم على شيء تسابق الناس عليه.
أما أصول هذا المذهب التي كان يرجع إليها في استنباط الأحكام- فهي أولًا القرآن، وهو المصدر الذي يرجع إليه فقهاء جميع المذاهب أو لا يختلفون عليه، وإن اختلفوا في فهم مدلوله وإشارته، وطرق الاستنباط منه، ثم يرجعون إلى السنة، وقد تشدد الفقه الحنفي في قبول الحديث، والتحري عنه وعن رواته؛ فلا يأخذون بالحديث إلا إذا كان متواترًا ترويه جماعة عن جماعة، أو كان مشهورًا اتفق فقهاء الأمصار على العمل به، أو رواه صحابي واحد أمام جمع منهم، ولم يخالف فيه أحدهم؛ إذ يعتبر سكوتهم إقرارًا له، ثم بعد ذلك يرجعون إلى ما كان في عهد الصحابة هل أجمعوا على حكم في مثل هذه المسألة المعروضة
1 / 41