تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
ژانرها
فلو قيل: إن الطائفة الفلانية من الناس أو كل الناس لا يعاقبون على ما أجرموا ولا يؤاخذون فيما أذنبوا أبدا، أو قيل إن الذنب الفلاني لا عذاب عليه قط كان ذلك باطلا من القول ولعبا بالأحكام والتكاليف المتوجهة إلى المكلفين، وأما إذا أبهم الأمر من حيث الشرطين فلم يعين أن الشفاعة في أي الذنوب وفي حق أي المذنبين أو أن العقاب المرفوع هو جميع العقوبات وفي جميع الأوقات والأحوال، فلا تعلم نفس هل تنال الشفاعة الموعودة أو لا فلا تتجرى على هتك محارم الله تعالى، غير أن ذلك توقظ قريحة رجائها فلا يوجب مشاهدة ما يشاهدها من ذنوبها وآثامها قنوطا من رحمة الله، ويأسا من روح الله، مضافا إلى قوله تعالى: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم": النساء - 31، فإن الآية تدل على رفع عقاب السيئات والمعاصي الصغيرة على تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة فإذا جاز أن يقول الله سبحانه: إن اتقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم، فليجز أن يقال: إن تحفظتم على إيمانكم حتى أتيتموني في يوم اللقاء بإيمان سليم قبلت فيكم شفاعة الشافعين، فإنما الشأن كل الشأن في حفظ الإيمان والمعاصي تضعف الإيمان وتقسي القلب وتجلب الشرك، وقد قال تعالى: "فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون": الأعراف - 98، وقال: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون": المطففين - 14، وقال: "ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله": الروم - 10، وربما أوجب ذلك انقلاعه عن المعاصي، وركوبه على صراط التقوى، وصيرورته من المحسنين، واستغناءه عن الشفاعة بهذا المعنى، وهذا من أعظم الفوائد، وكذا إذا عين المجرم المشفوع له أو الجرم المشفوع فيه لكن صرح بشموله على بعض جهات العذاب أو بعض أوقاته فلا يوجب تجري المجرمين قطعا.
والقرآن لم ينطق في خصوص المجرمين وفي خصوص الذنب بالتعيين ولم ينطق في رفع العقاب إلا بالبعض كما سيجيء فلا إشكال أصلا.
الإشكال الخامس: أن العقل لو دل فإنما يدل على إمكان وقوع الشفاعة لا على فعلية وقوعها على أن أصل دلالته ممنوع، وأما النقل فما يتضمنه القرآن لا دلالة فيه على وقوعها فإن فيها آيات دالة على نفي الشفاعة مطلقا كقوله، "لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة": البقرة - 254، وأخرى ناطقة بنفي منفعة الشفاعة كقوله تعالى: "فما تنفعهم شفاعة الشافعين": المدثر - 48 وأخرى تفيد النفي بمثل قوله تعالى: "إلا بإذنه": البقرة - 255 وقوله: "إلا من بعد إذنه": يونس - 3، وقوله تعالى: "إلا لمن ارتضى": الأنبياء - 28، ومثل هذا الاستثناء أي الاستثناء بالإذن والمشية معهود في أسلوب القرآن في مقام النفي القطعي للإشعار بأن ذلك بإذنه ومشيته سبحانه كقوله تعالى: "سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله": الأعلى - 6، وقوله تعالى: "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك": هود - 107، فليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة وأما السنة فما دلت عليه الروايات من الخصوصيات لا تعويل عليه، وأما المتيقن منها فلا يزيد على ما في الكتاب دلالة.
والجواب: أما عن الآيات النافية للشفاعة فقد عرفت أنها لا تنفي مطلق الشفاعة بل الشفاعة بغير إذن الله وارتضائه، وأما عن الآيات النافية لمنفعة الشفاعة على زعم المستشكل فإنها تثبت الشفاعة ولا تنفيه فإن الآيات واقعة في سورة المدثر وإنما تنفي الانتفاع عن طائفة خاصة من المجرمين لا عن جميعهم، ومع ذلك فالشفاعة مضافة لا مجردة مقطوعة عن الإضافة، ففرق بين أن يقول القائل: فلا تنفعهم الشفاعة وبين أن يقول: فلا تنفعهم شفاعة الشافعين فإن المصدر المضاف يشعر بوقوع الفعل في الخارج بخلاف المقطوع عن الإضافة، نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز فقوله: شفاعة الشافعين يدل على أن شفاعة ما ستقع غير أن هؤلاء لا ينتفعون بها على أن الإتيان بصيغة الجمع في الشافعين يدل على ذلك أيضا كقوله: "كانت من الغابرين" وقوله: "وكان من الكافرين" وقوله: "فكان من الغاوين" وقوله: "لا ينال عهدي الظالمين" وأمثال ذلك، ولو لا ذلك لكان الإتيان بصيغة الجمع وله مدلول زائد على مدلول المفرد لغوا زائدا في الكلام فقوله: فما تنفعهم شفاعة الشافعين من الآيات المثبتة للشفاعة دون النافية.
صفحه ۹۴