السيد الطباطبائي
الجزء الاول
صفحه ۱
### || المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا والصلاة على من جعله شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس أهل البيت وطهرهم تطهيرا.
مقدمة: نعرف فيها مسلك البحث عن معاني آيات القرآن الكريم في هذا الكتاب بطريق الاختصار.
التفسير وهو بيان معاني الآيات القرآنية والكشف عن مقاصدها ومداليلها من أقدم الاشتغالات العلمية التي تعهد من المسلمين، فقد شرع تاريخ هذا النوع من البحث والتنقير المسمى بالتفسير من عصر نزول القرآن كما يظهر من قوله تعالى وتقدس: "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة" الآية: البقرة - 151.
وقد كانت الطبقة الأولى من مفسري المسلمين جماعة من الصحابة والمراد بهم غير علي (عليه السلام)، فإن له وللأئمة من ولده نبأ آخر سنتعرض له كابن عباس وعبد الله بن عمر وأبي وغيرهم اعتنوا بهذا الشأن، وكان البحث يومئذ لا يتجاوز عن بيان ما يرتبط، من الآيات بجهاتها الأدبية وشأن النزول وقليل من الاستدلال بآية على آية وكذلك قليل من التفسير بالروايات المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في القصص ومعارف المبدأ والمعاد وغيرها.
وعلى هذا الوصف جرى الحال بين المفسرين من التابعين كمجاهد وقتادة وابن أبي ليلى والشعبي والسدي وغيرهم في القرنين الأولين من الهجرة، فإنهم لم يزيدوا على طريقة سلفهم من مفسري الصحابة شيئا غير أنهم زادوا من التفسير بالروايات، وبينها روايات دسها اليهود أو غيرهم، فأوردوها في القصص والمعارف الراجعة إلى الخلقة كابتداء السماوات وتكوين الأرض والبحار وإرم شداد وعثرات الأنبياء وتحريف الكتاب وأشياء أخر من هذا النوع، وقد كان يوجد بعض ذلك في المأثور عن الصحابة من التفسير والبحث.
ثم استوجب شيوع البحث الكلامي بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في زمن الخلفاء باختلاط المسلمين بالفرق المختلفة من أمم البلاد المفتوحة بيد المسلمين وعلماء الأديان والمذاهب المتفرقة من جهة.
ونقل فلسفة يونان إلى العربية في السلطنة الأموية أواخر القرن الأول من الهجرة، ثم في عهد العباسيين، وانتشار البحث العقلي الفلسفي بين الباحثين من المسلمين من جهة أخرى ثانية.
وظهور التصوف مقارنا لانتشار البحث الفلسفي وتمايل الناس إلى نيل المعارف الدينية من طريق المجاهدة والرياضة النفسانية دون البحث اللفظي والعقلي من جهة أخرى ثالثة.
وبقاء جمع من الناس وهم أهل الحديث على التعبد المحض بالظواهر الدينية من غير بحث إلا عن اللفظ بجهاتها الأدبية من جهة أخرى رابعة.
أن اختلف الباحثون في التفسير في مسالكهم بعد ما عمل فيهم الانشعاب في المذاهب ما عمل، ولم يبق بينهم جامع في الرأي والنظر إلا لفظ لا إله إلا الله ومحمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واختلفوا في معنى الأسماء والصفات والأفعال والسماوات وما فيها والأرض وما عليها والقضاء والقدر والجبر والتفويض والثواب والعقاب وفي الموت وفي البرزخ والبعث والجنة والنار، وبالجملة في جميع ما تمسه الحقائق والمعارف الدينية ولو بعض المس، فتفرقوا في طريق البحث عن معاني الآيات، وكل يتحفظ على متن ما اتخذه من المذهب والطريقة.
صفحه ۲
فأما المحدثون، فاقتصروا على التفسير بالرواية عن السلف من الصحابة والتابعين فساروا وجدوا في السير حيث ما يسير بهم المأثور ووقفوا فيما لم يؤثر فيه شيء ولم يظهر المعنى ظهورا لا يحتاج إلى البحث أخذا بقوله تعالى: "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" الآية: آل عمران - 7 وقد أخطئوا في ذلك فإن الله سبحانه لم يبطل حجة العقل في كتابه، وكيف يعقل ذلك وحجيته إنما تثبت به! ولم يجعل حجية في أقوال الصحابة والتابعين وأنظارهم على اختلافها الفاحش، ولم يدع إلى السفسطة بتسليم المتناقضات والمتنافيات من الأقوال، ولم يندب إلا إلى التدبر في آياته، فرفع به أي اختلاف يتراءى منها، وجعله هدى ونورا وتبيانا لكل شيء، فما بال النور يستنير بنور غيره! وما شأن الهدى يهتدي بهداية سواه! وكيف يتبين ما هو تبيان كل شيء بشيء دون نفسه!.
وأما المتكلمون فقد دعاهم الأقوال المذهبية على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم بأخذ ما وافق وتأويل ما خالف على حسب ما يجوزه قول المذهب.
واختيار المذاهب الخاصة واتخاذ المسالك والآراء المخصوصة وإن كان معلولا لاختلاف الأنظار العلمية أو لشيء آخر كالتقاليد والعصبيات القومية، وليس هاهنا محل الاشتغال بذلك، إلا أن هذا الطريق من البحث أحرى به أن يسمى تطبيقا لا تفسيرا.
ففرق بين أن يقول الباحث عن معنى آية من الآيات: ما ذا يقول القرآن؟ أو يقول: ما ذا يجب أن نحمل عليه الآية؟ فإن القول الأول يوجب أن ينسى كل أمر نظري عند البحث، وأن يتكي على ما ليس بنظري، والثاني يوجب وضع النظريات في المسألة وتسليمها وبناء البحث عليها، ومن المعلوم أن هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثا عن معناه في نفسه.
وأما الفلاسفة، فقد عرض لهم ما عرض للمتكلمين من المفسرين من الوقوع في ورطة التطبيق وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعم أعني: الرياضيات والطبيعيات والإلهيات والحكمة العملية، وخاصة المشائين، وقد تأولوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة وآيات الخلقة وحدوث السماوات والأرض وآيات البرزخ وآيات المعاد، حتى أنهم ارتكبوا التأويل في الآيات التي لا تلائم الفرضيات والأصول الموضوعة التي نجدها في العلم الطبيعي: من نظام الأفلاك الكلية والجزئية وترتيب العناصر والأحكام الفلكية والعنصرية إلى غير ذلك، مع أنهم نصوا على أن هذه الأنظار مبتنية على أصول موضوعة لا بينة ولا مبينة.
وأما المتصوفة، فإنهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلقة واعتنائهم بشأن الآيات الأنفسية دون عالم الظاهر وآياته الآفاقية اقتصروا في بحثهم على التأويل، ورفضوا التنزيل، فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل، وتلفيق جمل شعرية والاستدلال من كل شيء على كل شيء، حتى آل الأمر إلى تفسير الآيات بحساب الجمل ورد الكلمات إلى الزبر والبينات والحروف النورانية والظلمانية إلى غير ذلك.
ومن الواضح أن القرآن لم ينزل هدى للمتصوفة خاصة، ولا أن المخاطبين به هم أصحاب علم الأعداد والأوفاق والحروف، ولا أن معارفه مبنية على أساس حساب الجمل الذي وضعه أهل التنجيم بعد نقل النجوم من اليونانية وغيرها إلى العربية.
نعم قد وردت روايات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) كقولهم: إن للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن أو إلى سبعين بطنا الحديث.
لكنهم (عليهم السلام) اعتبروا الظهر كما اعتبروا البطن، واعتنوا بأمر التنزيل كما اعتنوا بشأن التأويل، وسنبين في أوائل سورة آل عمران إن شاء الله: أن التأويل الذي يراد به المعنى المقصود الذي يخالف ظاهر الكلام من اللغات المستحدثة في لسان المسلمين بعد نزول القرآن وانتشار الإسلام، وأن الذي يريده القرآن من لفظ التأويل فيما ورد فيه من الآيات ليس من قبيل المعنى والمفهوم.
صفحه ۳
وقد نشأ في هذه الأعصار مسلك جديد في التفسير وذلك أن قوما من منتحلي الإسلام في إثر توغلهم في العلوم الطبيعية وما يشابهها المبتنية على الحس والتجربة، والاجتماعية المبتنية على تجربة الإحصاء، مالوا إلى مذهب الحسيين من فلاسفة الأروبة سابقا، أو إلى مذهب أصالة العمل لا قيمة للإدراكات إلا ترتب العمل عليها بمقدار يعينه الحاجة الحيوية بحكم الجبر.
فذكروا: أن المعارف الدينية لا يمكن أن تخالف الطريق الذي تصدقه العلوم وهو أن: لا أصالة في الوجود إلا للمادة وخواصها المحسوسة فما كان الدين يخبر عن وجوده مما يكذب العلوم ظاهره كالعرش والكرسي واللوح والقلم يجب أن يؤول تأويلا.
وما يخبر عن وجوده مما لا تتعرض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب أن يوجه بالقوانين المادية.
وما يتكي عليه التشريع من الوحي والملك والشيطان والنبوة والرسالة والإمامة وغير ذلك، إنما هي أمور روحية، والروح مادية ونوع من الخواص المادية، والتشريع نبوغ خاص اجتماعي يبنى قوانينه على الأفكار الصالحة، لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي.
ذكروا: أن الروايات، لوجود الخليط فيها لا تصلح للاعتماد عليها، إلا ما وافق الكتاب، وأما الكتاب فلا يجوز أن يبنى في تفسيره على الآراء والمذاهب السابقة المبتنية على الاستدلال من طريق العقل الذي أبطله العلم بالبناء على الحسن والتجربة، بل الواجب أن يستقل بما يعطيه القرآن من التفسير إلا ما بينه العلم.
هذه جمل ما ذكروه أو يستلزمه ما ذكروه، من اتباع طريق الحس والتجربة، فساقهم ذلك إلى هذا الطريق من التفسير، ولا كلام لنا هاهنا في أصولهم العلمية والفلسفية التي اتخذوها أصولا وبنوا عليها ما بنوا.
وإنما الكلام في أن ما أوردوه على مسالك السلف من المفسرين أن ذلك تطبيق وليس بتفسير وارد بعينه على طريقتهم في التفسير، وإن صرحوا أنه حق التفسير الذي يفسر به القرآن بالقرآن.
ولو كانوا لم يحملوا على القرآن في تحصيل معاني آياته شيئا، فما بالهم يأخذون الأنظار العلمية مسلمة لا يجوز التعدي عنها؟ فهم لم يزيدوا على ما أفسده السلف إصلاحا.
وأنت بالتأمل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد: أن الجميع مشتركة في نقص وبئس النقص، وهو تحميل ما أنتجه الأبحاث العلمية أو الفلسفية من خارج على مداليل الآيات، فتبدل به التفسير تطبيقا وسمي به التطبيق تفسيرا، وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازات، وتنزيل عدة من الآيات تأويلات.
ولازم ذلك كما أومأنا إليه في أوائل الكلام أن يكون القرآن الذي يعرف نفسه بأنه هدى للعالمين ونور مبين وتبيان لكل شيء مهديا إليه بغيره ومستنيرا بغيره ومبينا بغيره، فما هذا الغير! وما شأنه! وبما ذا يهدي إليه! وما هو المرجع والملجأ إذا اختلف فيه! وقد اختلف واشتد الخلاف.
وكيف كان فهذا الاختلاف لم يولده اختلاف النظر في مفهوم مفهوم اللفظ المفرد أو الجملة بحسب اللغة والعرف العربي الكلمات أو الآيات، فإنما هو كلام عربي مبين لا يتوقف في فهمه عربي ولا غيره ممن هو عارف باللغة وأساليب الكلام العربي.
وليس بين آيات القرآن وهي بضع آلاف آية آية واحدة ذات إغلاق وتعقيد في مفهومها بحيث يتحير الذهن في فهم معناها، وكيف! وهو أفصح الكلام ومن شرط الفصاحة خلو الكلام عن الإغلاق والتعقيد، حتى أن الآيات المعدودة من متشابه القرآن كالآيات المنسوخة وغيرها، في غاية الوضوح من جهة المفهوم ، وإنما التشابه في المراد منها وهو ظاهر.
وإنما الاختلاف كل الاختلاف في المصداق الذي ينطبق عليه المفاهيم اللفظية من مفردها ومركبها، وفي المدلول التصوري والتصديقي.
توضيحه: أن الأنس والعادة كما قيل يوجبان لنا أن يسبق إلى أذهاننا عند استماع الألفاظ معانيها المادية أو ما يتعلق بالمادة فإن المادة هي التي يتقلب فيها أبداننا وقوانا المتعلقة بها ما دمنا في الحياة الدنيوية، فإذا سمعنا ألفاظ الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والرضا والغضب والخلق والأمر كان السابق إلى أذهاننا منها الوجودات المادية لمفاهيمها.
صفحه ۴
وكذا إذا سمعنا ألفاظ السماء والأرض واللوح والقلم والعرش والكرسي والملك وأجنحته والشيطان وقبيله وخيله ورجله إلى غير ذلك، كان المتبادر إلى أفهامنا مصاديقها الطبيعية.
وإذا سمعنا: أن الله خلق العالم وفعل كذا وعلم كذا وأراد أو يريد أو شاء وأو يشاء كذا قيدنا الفعل بالزمان حملا على المعهود عندنا.
وإذا سمعنا نحو قوله: "ولدينا مزيد" الآية وقوله: "لاتخذناه من لدنا" الآية وقوله: "وما عند الله خير" الآية.
وقوله: "إليه ترجعون" الآية.
قيدنا معنى الحضور بالمكان.
وإذا سمعنا نحو قوله: "إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها" الآية أو قوله: "ونريد أن نمن".
الآية أو قوله: "يريد الله بكم اليسر" الآية فهمنا: أن الجميع سنخ واحد من الإرادة، لما أن الأمر على ذلك فيما عندنا، وعلى هذا القياس.
وهذا شأننا في جميع الألفاظ المستعملة، ومن حقنا ذلك، فإن الذي أوجب علينا وضع ألفاظ إنما هي الحاجة الاجتماعية إلى التفهيم والتفهم، والاجتماع إنما تعلق به الإنسان ليستكمل به في الأفعال المتعلقة بالمادة ولواحقها، فوضعنا الألفاظ علائم لمسمياتها التي نريد منها غايات وأغراضا عائدة إلينا.
وكان ينبغي لنا أن نتنبه: أن المسميات المادية محكومة بالتغير والتبدل بحسب تبدل الحوائج في طريق التحول والتكامل كما أن السراج أول ما عمله الإنسان كان إناء فيه فتيلة وشيء من الدهن تشتعل به الفتيلة للاستضاءة به في الظلمة، ثم لم يزل يتكامل حتى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائي ولم يبق من أجزاء السراج المعمول أولا الموضوع بإزائه لفظ السراج شيء ولا واحد.
وكذا الميزان المعمول أولا، والميزان المعمول اليوم لتوزين ثقل الحرارة مثلا.
والسلاح المتخذ سلاحا أول يوم، والسلاح المعمول اليوم إلى غير ذلك.
فالمسميات بلغت في التغير إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة ذاتا وصفة والاسم مع ذلك باق، وليس إلا لأن المراد في التسمية إنما هو من الشيء غايته، لا شكله وصورته، فما دام غرض التوزين أو الاستضاءة أو الدفاع باقيا كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقيا على حاله.
فكان ينبغي لنا أن نتنبه أن المدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض، لا جمود اللفظ على صورة واحدة، فذلك مما لا مطمع فيه البتة، ولكن العادة والأنس منعانا ذلك، وهذا هو الذي دعى المقلدة من أصحاب الحديث من الحشوية والمجسمة أن يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير وليس في الحقيقة جمودا على الظواهر بل هو جمود على العادة والأنس في تشخيص المصاديق.
لكن بين هذه الظواهر أنفسها أمور تبين: أن الاتكاء والاعتماد على الأنس والعادة في فهم معاني الآيات يشوش المقاصد منها ويختل به أمر الفهم كقوله تعالى: "ليس كمثله شيء" الآية.
وقوله: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير".
وقوله: "سبحان الله عما يصفون".
وهذا هو الذي دعى الناس أن لا يقتصروا على الفهم العادي والمصداق المأنوس به الذهن في فهم معاني الآيات كما كان غرض الاجتناب عن الخطاء والحصول على النتائج المجهولة هو الذي دعى الإنسان إلى أن يتمسك بذيل البحث العلمي، وأجاز ذلك للبحث أن يداخل في فهم حقائق القرآن وتشخيص مقاصده العالية، وذلك على أحد وجهين، أحدهما: أن نبحث بحثا علميا أو فلسفيا أو غير ذلك عن مسألة من المسائل التي تتعرض له الآية حتى نقف على الحق في المسألة، ثم نأتي بالآية ونحملها عليه، وهذه طريقة يرتضيها البحث النظري، غير أن القرآن لا يرتضيها كما عرفت، وثانيهما: أن نفسر القرآن بالقرآن ونستوضح معنى الآية من نظيرتها بالتدبر المندوب إليه في نفس القرآن، ونشخص المصاديق ونتعرفها بالخواص التي تعطيها الآيات، كما قال تعالى: "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء" الآية.
وحاشا أن يكون القرآن تبيانا لكل شيء ولا يكون تبيانا لنفسه، وقال تعالى: "هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان".
الآية وقال تعالى ": وأنزلنا إليكم نورا مبينا" الآية.
صفحه ۵
وكيف يكون القرآن هدى وبينة وفرقانا ونورا مبينا للناس في جميع ما يحتاجون ولا يكفيهم في احتياجهم إليه وهو أشد الاحتياج! وقال تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" الآية وأي جهاد أعظم من بذل الجهد في فهم كتابه! وأي سبيل أهدى إليه من القرآن!.
والآيات في هذا المعنى كثيرة سنستفرغ الوسع فيها في بحث المحكم والمتشابة في أوائل سورة آل عمران.
ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي علمه القرآن وجعله معلما لكتابه كما يقول تعالى: "نزل به الروح الأمين على قلبك" الآية.
ويقول: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم" الآية.
ويقول: "يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة" الآية.
وعترته وأهل بيته الذين أقامهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا المقام في الحديث المتفق عليه بين الفريقين: +" إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض "+.
وصدقه الله تعالى في علمهم بالقرآن، حيث قال عز من قائل: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا وقال إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون" الآية وقد كانت طريقتهم في التعليم والتفسير هذه الطريقة بعينها على ما وصل إلينا من أخبارهم في التفسير.
وسنورد ما تيسر لنا مما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل بيته في ضمن أبحاث روائية في هذا الكتاب، ولا يعثر المتتبع الباحث فيها على مورد واحد يستعان فيه على تفسير الآية بحجة نظرية عقلية، ولا فرضية علمية.
وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): +" فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو الدليل يدل على خير سبيل، وهو كتاب تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكمة وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة، ودليل على المعروف لمن عرف النصفة، فليرع رجل بصره، وليبلغ الصفة نظره ينجو من عطب ويخلص من نشب، فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، يحسن التخلص ويقل التربص "+.
وقال علي (عليه السلام): يصف القرآن على ما في النهج +" ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض الخطبة "+.
هذا هو الطريق المستقيم والصراط السوي الذي سلكه معلموا القرآن وهداته صلوات الله عليهم.
وسنضع ما تيسر لنا بعون الله سبحانه من الكلام على هذه الطريقة في البحث عن الآيات الشريفة في ضمن بيانات، قد اجتنبنا فيها عن أن نركن إلى حجة نظرية فلسفية أو إلى فرضية علمية، أو إلى مكاشفة عرفانية.
واحترزنا فيها عن أن نضع الأنكتة أدبية يحتاج إليها فهم الأسلوب العربي أو مقدمة بديهية أو عملية لا يختلف فيها الأفهام.
وقد تحصل من هذه البيانات الموضوعة على هذه الطريقة من البحث استفراغ الكلام فيما نذكره.
1 المعارف المتعلقة بأسماء الله سبحانه وصفاته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والوحدة وغيرها، وأما الذات فستطلع أن القرآن يراه غنيا عن البيان.
2 المعارف المتعلقة بأفعاله تعالى من الخلق والأمر والإرادة والمشية والهداية والإضلال والقضاء والقدر والجبر والتفويض والرضا والسخط، إلى غير ذلك من متفرقات الأفعال.
3 المعارف المتعلقة بالوسائط الواقعة بينه وبين الإنسان كالحجب واللوح والقلم والعرش والكرسي والبيت المعمور والسماء والأرض والملائكة والشياطين والجن وغير ذلك.
4 المعارف المتعلقة بالإنسان قبل الدنيا.
5 المعارف المتعلقة بالإنسان في الدنيا كمعرفة تاريخ نوعه ومعرفة نفسه ومعرفة أصول اجتماعه ومعرفة النبوة والرسالة والوحي والإلهام والكتاب والدين والشريعة، ومن هذا الباب مقامات الأنبياء المستفادة من قصصهم المحكية.
6 المعارف المتعلقة بالإنسان بعد الدنيا، وهو البرزخ والمعاد.
صفحه ۶
7 المعارف المتعلقة بالأخلاق الإنسانية، ومن هذا الباب ما يتعلق بمقامات الأولياء في صراط العبودية من الإسلام والإيمان والإحسان والإخبات والإخلاص وغير ذلك.
وأما آيات الأحكام، فقد اجتنبنا تفصيل البيان فيها لرجوع ذلك
إلى الفقه.
وقد أفاد هذه الطريقة من البحث ارتفاع التأويل بمعنى الحمل على المعنى المخالف للظاهر من بين الآيات، وأما التأويل بالمعنى الذي يثبته القرآن في مواضع من الآيات، فسترى أنه ليس من قبيل المعاني.
ثم وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من أبحاث روائية نورد ما تيسر لنا إيراده من الروايات المنقولة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين من طرق العامة والخاصة، وأما الروايات الواردة عن مفسري الصحابة والتابعين.
فإنها على ما فيها من الخط والتناقض لا حجة فيها على مسلم.
وسيطلع الباحث المتدبر في الروايات المنقولة عنهم (عليهم السلام)، أن هذه الطريقة الحديثة التي بنيت عليها بيانات هذا الكتاب، أقدم الطرق المأثورة في التفسير التي سلكها معلموه سلام الله عليهم.
ثم وضعنا أبحاثا مختلفة، فلسفية وعلمية وتاريخية واجتماعية وأخلاقية، حسب ما تيسر لنا من البحث، وقد آثرنا في كل بحث قصر الكلام على المقدمات المسانخة له، من غير تعد عن طور البحث.
نسأل الله تعالى السداد والرشاد فإنه خير معين وهاد الفقير إلى الله: محمد حسين الطباطبائي
1 سورة الحمد - 1 - 5
بسم الله الرحمن الرحيم (1) الحمد لله رب العلمين (2) الرحمن
الرحيم (3) ملك يوم الدين (4) إياك نعبد وإياك نستعين (5)
بيان
قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم الناس ربما يعملون عملا أو يبتدئون في عمل ويقرنونه باسم عزيز من أعزتهم أو كبير من كبرائهم، ليكون عملهم ذاك مباركا بذلك متشرفا، أو ليكون ذكرى يذكرهم به، ومثل ذلك موجود أيضا في باب التسمية فربما يسمون المولود الجديد من الإنسان، أو شيئا مما صنعوه أو عملوه كدار بنوها أو مؤسسة أسسوها باسم من يحبونه أو يعظمونه، ليبقى الاسم ببقاء المسمى الجديد، ويبقى المسمى الأول نوع بقاء ببقاء الاسم كمن يسمي ولده باسم والده ليحيي بذلك ذكره فلا يزول ولا ينسى.
وقد جرى كلامه تعالى هذا المجرى، فابتدأ الكلام باسمه عز اسمه ليكون ما يتضمنه من المعنى معلما باسمه مرتبطا به، وليكون أدبا يؤدب به العباد في الأعمال والأفعال والأقوال، فيبتدءوا باسمه ويعملوا به، فيكون ما يعملونه معلما باسمه منعوتا بنعته تعالى مقصودا لأجله سبحانه فلا يكون العمل هالكا باطلا مبترا، لأنه باسم الله الذي لا سبيل للهلاك والبطلان إليه.
وذلك أن الله سبحانه يبين في مواضع من كلامه: أن ما ليس لوجهه الكريم هالك باطل، وأنه: سيقدم إلى كل عمل عملوه مما ليس لوجهه الكريم، فيجعله هباء منثورا، ويحبط ما صنعوا ويبطل ما كانوا يعملون، وأنه لا بقاء لشيء إلا وجهه الكريم فما عمل لوجهه الكريم وصنع باسمه هو الذي يبقى ولا يفنى، وكل أمر من الأمور إنما نصيبه من البقاء بقدر ما لله فيه نصيب، وهذا هو الذي يفيده ما رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: +" كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر الحديث "+.
والأبتر هو المنقطع الآخر، فالأنسب أن متعلق الباء في البسملة أبتدىء بالمعنى الذي ذكرناه فقد ابتدأ بها الكلام بما أنه فعل من الأفعال، فلا محالة له وحدة، ووحدة الكلام بوحدة مدلوله ومعناه، فلا محالة له معنى ذا وحدة وهو المعنى المقصود إفهامه من إلقاء الكلام، والغرض المحصل منه.
صفحه ۷
وقد ذكر الله سبحانه الغرض المحصل من كلامه الذي هو جملة القرآن إذ قال: "تعالى قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله" الآية: المائدة - 16 إلى غير ذلك من الآيات التي أفاد فيها: أن الغاية من كتابه وكلامه هداية العباد، فالهداية جملة هي المبتدئة باسم الله الرحمن الرحيم، فهو الله الذي إليه مرجع العباد، وهو الرحمن يبين لعباده سبيل رحمته العامة للمؤمن والكافر، مما فيه خيرهم في وجودهم وحياتهم، وهو الرحيم يبين لهم سبيل رحمته الخاصة بالمؤمنين وهو سعادة آخرتهم ولقاء ربهم وقد قال تعالى: "ورحمتي وسعت كل شيء وسأكتبها للذين يتقون":. الأعراف - 156.
فهذا بالنسبة إلى جملة القرآن.
ثم إنه سبحانه كرر ذكر السورة في كلامه كثيرا كقوله تعالى: "فأتوا بسورة مثله": يونس - 38.
وقوله: "فأتوا بعشر سور مثله مفتريات": هود - 13.
وقوله تعالى: "إذا أنزلت سورة": التوبة - 86.
وقوله: "سورة أنزلناها وفرضناها": النور - 1.
فبان لنا من ذلك: أن لكل طائفة من هذه الطوائف من كلامه التي فصلها قطعا قطعا، وسمي كل قطعة سورة نوعا من وحدة التأليف والتمام، لا يوجد بين أبعاض من سورة ولا بين سورة وسورة، ومن هنا نعلم: أن الأغراض والمقاصد المحصلة من السور مختلفة، وأن كل واحدة منها مسوقة لبيان معنى خاص ولغرض محصل لا تتم السورة إلا بتمامه، وعلى هذا فالبسملة في مبتدإ كل سورة راجعة إلى الغرض الخاص من تلك السورة.
فالبسملة في سورة الحمد راجعة إلى غرض السورة والمعنى المحصل منه، والغرض الذي يدل عليه سرد الكلام في هذه السورة هو حمد الله بإظهار العبودية له سبحانه بالإفصاح عن العبادة والاستعانة وسؤال الهداية، فهو كلام يتكلم به الله سبحانه نيابة عن العبد، ليكون متأدبا في مقام إظهار العبودية بما أدبه الله به.
وإظهار العبودية من العبد هو العمل الذي يتلبس به العبد، والأمر ذو البال الذي يقدم عليه، فالابتداء باسم الله سبحانه الرحمن الرحيم راجع إليه، فالمعنى باسمك أظهر لك العبودية.
فمتعلق الباء في بسملة الحمد الابتداء ويراد به تتميم الإخلاص في مقام العبودية بالتخاطب.
وربما يقال إنه الاستعانة ولا بأس به ولكن الابتداء أنسب لاشتمال السورة على الاستعانة صريحا في قوله تعالى: "وإياك نستعين".
وأما الاسم، فهو اللفظ الدال على المسمى مشتق من السمة بمعنى العلامة أو من السمو بمعنى الرفعة وكيف كان فالذي يعرفه منه اللغة والعرف هو اللفظ الدال ويستلزم ذلك أن يكون غير المسمى، وأما الإسلام بمعنى الذات مأخوذا بوصف من أوصافه فهو من الأعيان لا من الألفاظ وهو مسمى الاسم بالمعنى الأول كما أن لفظ العالم من أسماء الله تعالى اسم يدل على مسماه وهو الذات مأخوذة بوصف العلم وهو بعينه اسم بالنسبة إلى الذات الذي لا خبر عنه إلا بوصف من أوصافه ونعت من نعوته والسبب في ذلك أنهم وجدوا لفظ الاسم موضوعا للدال على المسمى من الألفاظ، ثم وجدوا أن الأوصاف المأخوذة على وجه تحكي عن الذات وتدل عليه حال اللفظ المسمى بالاسم في أنها تدل على ذوات خارجية، فسموا هذه الأوصاف الدالة على الذوات أيضا أسماء فأنتج ذلك أن الاسم كما يكون أمرا لفظيا كذلك يكون أمرا عينيا، ثم وجدوا أن الدال على الذات القريب منه هو الاسم بالمعنى الثاني المأخوذ بالتحليل، وأن الاسم بالمعنى الأول إنما يدل على الذات بواسطته، ولذلك سموا الذي بالمعنى الثاني اسما، والذي بالمعنى الأول اسم الاسم، هذا ولكن هذا كله أمر أدى إليه التحليل النظري ولا ينبغي أن يحمل على اللغة، فالاسم بحسب اللغة ما ذكرناه.
وقد شاع النزاع بين المتكلمين في الصدر الأول من الإسلام في أن الاسم عين المسمى أو غيره وطالت المشاجرات فيه، ولكن هذا النوع من المسائل قد اتضحت اليوم اتضاحا يبلغ إلى حد الضرورة ولا يجوز الاشتغال بها بذكر ما قيل وما يقال فيها والعناية بإبطال ما هو الباطل وإحقاق ما هو الحق فيها، فالصفح عن ذلك أولى.
صفحه ۸
وأما لفظ الجلالة، فالله أصله الإله، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وإله من أله الرجل يأله بمعنى عبد، أو من أله الرجل أو وله الرجل أي تحير، فهو فعال بكسر الفاء بمعنى المفعول ككتاب بمعنى المكتوب سمي إلها لأنه معبود أو لأنه مما تحيرت في ذاته العقول، والظاهر أنه علم بالغلبة، وقد كان مستعملا دائرا في الألسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب الجاهلي كما يشعر به قوله تعالى: "ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله": الزخرف - 87.
وقوله تعالى: "فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا": الأنعام - 136.
ومما يدل على كونه علما أنه يوصف بجميع الأسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من غير عكس، فيقال: الله الرحمن الرحيم ويقال: رحم الله وعلم الله، ورزق الله، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها ولا يؤخذ منه ما يوصف به شيء منها.
ولما كان وجوده سبحانه، وهو إله كل شيء يهدي إلى اتصافه بجميع الصفات الكمالية كانت الجميع مدلولا عليها به بالالتزام، وصح ما قيل إن لفظ الجلالة اسم للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال وإلا فهو علم بالغلبة لم تعمل فيه عناية غير ما يدل عليه مادة أله.
وأما الوصفان: الرحمن الرحيم، فهما من الرحمة، وهي وصف انفعالي وتأثر خاص يلم بالقلب عند مشاهدة من يفقد أو يحتاج إلى ما يتم به أمره فيبعث الإنسان إلى تتميم نقصه ورفع حاجته، إلا أن هذا المعنى يرجع بحسب التحليل إلى الإعطاء والإفاضة لرفع الحاجة وبهذا المعنى يتصف سبحانه بالرحمة.
والرحمن، فعلان صيغة مبالغة تدل على الكثرة، والرحيم فعيل صفة مشبهة تدل على الثبات والبقاء ولذلك ناسب الرحمن أن يدل على الرحمة الكثيرة المفاضة على المؤمن والكافر وهو الرحمة العامة، وعلى هذا المعنى يستعمل كثيرا في القرآن، قال تعالى: "الرحمن على العرش استوى": طه - 5.
وقال: "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا": مريم - 75.
إلى غير ذلك، ولذلك أيضا ناسب الرحيم أن يدل على النعمة الدائمة والرحمة الثابتة الباقية التي تفاض على المؤمن كما قال تعالى: "وكان بالمؤمنين رحيما": الأحزاب - 43.
وقال تعالى: "إنه بهم رءوف رحيم": التوبة - 117.
إلى غير ذلك، ولذلك قيل: إن الرحمن عام للمؤمن والكافر والرحيم خاص بالمؤمن.
وقوله تعالى: الحمد لله، الحمد على ما قيل هو الثناء على الجميل الاختياري والمدح أعم منه، يقال: حمدت فلانا أو مدحته لكرمه، ويقال: مدحت اللؤلؤ على صفائه ولا يقال: حمدته على صفائه، واللام فيه للجنس أو الاستغراق والمال هاهنا واحد.
وذلك أن الله سبحانه يقول: "ذلكم الله ربكم خالق كل شيء": غافر - 62.
فأفاد أن كل ما هو شيء فهو مخلوق لله سبحانه، وقال: "الذي أحسن كل شيء خلقه": السجدة - 7.
فأثبت الحسن لكل شيء مخلوق من جهة أنه مخلوق له منسوب إليه، فالحسن يدور مدار الخلق وبالعكس، فلا خلق إلا وهو حسن جميل بإحسانه ولا حسن إلا وهو مخلوق له منسوب إليه، وقد قال تعالى: "هو الله الواحد القهار": الزمر - 4.
وقال: "وعنت الوجوه للحي القيوم": طه - 111.
فأنبأ أنه لم يخلق ما خلق بقهر قاهر ولا يفعل ما فعل بإجبار من مجبر بل خلقه عن علم واختيار فما من شيء إلا وهو فعل جميل اختياري له فهذا من جهة الفعل، وأما من جهة الاسم فقد قال تعالى: "الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى": طه - 8.
وقال تعالى "ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه": الأعراف - 180.
فهو تعالى جميل في أسمائه وجميل في أفعاله، وكل جميل منه.
فقد بان أنه تعالى محمود على جميل أسمائه ومحمود على جميل أفعاله، وأنه ما من حمد يحمده حامد لأمر محمود إلا كان لله سبحانه حقيقة لأن الجميل الذي يتعلق به الحمد منه سبحانه، فلله سبحانه جنس الحمد وله سبحانه كل حمد.
ثم إن الظاهر من السياق وبقرينة الالتفات الذي في قوله: "إياك نعبد" الآية أن السورة من كلام العبد، وأنه سبحانه في هذه السورة يلقن عبده حمد نفسه وما ينبغي أن يتأدب به العبد عند نصب نفسه في مقام العبودية، وهو الذي يؤيده قوله: "الحمد لله".
صفحه ۹
وذلك أن الحمد توصيف، وقد نزه سبحانه نفسه عن وصف الواصفين من عباده حيث قال: "سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين": الصافات - 160.
والكلام مطلق غير مقيد، ولم يرد في كلامه تعالى ما يؤذن بحكاية الحمد عن غيره إلا ما حكاه عن عدة من أنبيائه المخلصين، قال تعالى في خطابه لنوح (عليه السلام): "فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين": المؤمنون - 28.
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه السلام): "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق": إبراهيم - 39.
وقال تعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في بضعة مواضع من كلامه: "وقل الحمد لله": النمل - 93.
وقال تعالى حكاية عن داود وسليمان (عليهما السلام) "وقالا الحمد لله": النمل - 15.
وإلا ما حكاه عن أهل الجنة وهم المطهرون من غل الصدور ولغو القول والتأثيم كقوله. "وآخر دعويهم أن الحمد لله رب العالمين": يونس - 10.
وأما غير هذه الموارد فهو تعالى وإن حكى الحمد عن كثير من خلقه بل عن جميعهم، كقوله تعالى: "والملائكة يسبحون بحمد ربهم": الشورى - 5.
وقوله "ويسبح الرعد بحمده": الرعد - 13 وقوله وإن من شيء إلا يسبح بحمده": الإسراء - 44.
إلا أنه سبحانه شفع الحمد في جميعها بالتسبيح بل جعل التسبيح هو الأصل في الحكاية وجعل الحمد معه، وذلك أن غيره تعالى لا يحيط بجمال أفعاله وكمالها كما لا يحيطون بجمال صفاته وأسمائه التي منها جمال الأفعال، قال تعالى: "ولا يحيطون به علما": طه - 110 فما وصفوه به فقد أحاطوا به وصار محدودا بحدودهم مقدرا بقدر نيلهم منه، فلا يستقيم ما أثنوا به من ثناء إلا من بعد أن ينزهوه ويسبحوه عن ما حدوه وقدروه بأفهامهم، قال تعالى: "إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون": النحل - 74، وأما المخلصون من عباده تعالى فقد جعل حمدهم حمده ووصفهم وصفه حيث جعلهم مخلصين له، فقد بان أن الذي يقتضيه أدب العبودية أن يحمد العبد ربه بما حمد به نفسه ولا يتعدى عنه، كما في الحديث الذي رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): +" لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك الحديث "+ فقوله في أول هذه السورة: الحمد لله، تأديب بأدب عبودي ما كان للعبد أن يقوله لو لا أن الله تعالى قاله نيابة وتعليما لما ينبغي الثناء به.
وقوله تعالى: رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إه وقرأ الأكثر ملك يوم الدين فالرب هو المالك الذي يدبر أمر مملوكه، ففيه معنى الملك، ومعنى الملك الذي عندنا في ظرف الاجتماع هو نوع خاص من الاختصاص وهو نوع قيام شيء بشيء يوجب صحة التصرفات فيه، فقولنا العين الفلانية ملكنا معناه: أن لها نوعا من القيام والاختصاص بنا يصح معه تصرفاتنا فيها ولو لا ذلك لم تصح تلك التصرفات وهذا في الاجتماع معنى وضعي اعتباري غير حقيقي وهو مأخوذ من معنى آخر حقيقي نسميه أيضا ملكا، وهو نحو قيام أجزاء وجودنا وقوانا بنا فإن لنا بصرا وسمعا ويدا ورجلا، ومعنى هذا الملك أنها في وجودها قائمة بوجودنا غير مستقلة دوننا بل مستقلة باستقلالنا ولنا أن نتصرف فيها كيف شئنا وهذا هو الملك الحقيقي.
والذي يمكن انتسابه إليه تعالى بحسب الحقيقة هو حقيقة الملك دون الملك الاعتباري الذي يبطل ببطلان الاعتبار والوضع، ومن المعلوم أن الملك الحقيقي لا ينفك عن التدبير فإن الشيء إذا افتقر في وجوده إلى شيء فلم يستقل عنه في وجوده لم يستقل عنه في آثار وجوده، فهو تعالى رب لما سواه لأن الرب هو المالك المدبر وهو تعالى كذلك.
صفحه ۱۰
وأما العالمين: فهو جمع العالم بفتح اللام بمعنى ما يعلم به كالقالب والخاتم والطابع بمعنى ما يقلب به وما يختم به وما يطبع به، يطلق على جميع الموجودات وعلى كل نوع مؤلف الأفراد والأجزاء منها كعالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان وعالم الإنسان وعلى كل صنف مجتمع الأفراد أيضا كعالم العرب وعالم العجم وهذا المعنى هو الأنسب لما يئول إليه عد هذه الأسماء الحسنى حتى ينتهي إلى قوله مالك يوم الدين على أن يكون الدين وهو الجزاء يوم القيامة مختصا بالإنسان أو الإنس والجن فيكون المراد بالعالمين عوالم الإنس والجن وجماعاتهم ويؤيده ورود هذا اللفظ بهذه العناية في القرآن كقوله تعالى "واصطفاك على نساء العالمين": آل عمران - 42.
وقوله تعالى: "ليكون للعالمين نذيرا": فرقان - 1، وقوله تعالى: "أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين": الأعراف - 80.
وأما مالك يوم الدين فقد عرفت معنى المالك وهو المأخوذ من الملك بكسر الميم، وأما الملك وهو مأخوذ من الملك بضم الميم، فهو الذي يملك النظام القومي وتدبيرهم دون العين، وبعبارة أخرى يملك الأمر والحكم فيهم.
وقد ذكر لكل من القرائتين، ملك ومالك وجوه من التأييد غير أن المعنيين من السلطنة ثابتان في حقه تعالى، والذي تعرفه اللغة والعرف أن الملك بضم الميم هو المنسوب إلى الزمان يقال: ملك العصر الفلاني، ولا يقال مالك العصر الفلاني إلا بعناية بعيدة، وقد قال تعالى: ملك يوم الدين فنسبه إلى اليوم، وقال أيضا: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار": غافر - 16.
بحث روائي
في العيون، والمعاني، عن الرضا (عليه السلام): في معنى قوله: بسم الله قال (عليه السلام): يعني أسم نفسي بسمة من سمات الله وهي العبادة، قيل له: ما السمة؟ قال العلامة.
أقول وهذا المعنى كالمتولد من المعنى الذي أشرنا إليه في كون الباء للابتداء فإن العبد إذا وسم عبادته باسم الله لزم ذلك أن يسم نفسه التي ينسب العبادة إليها بسمة من سماته.
وفي التهذيب، عن الصادق (عليه السلام)، وفي العيون، وتفسير العياشي، عن الرضا (عليه السلام): أنها أقرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها.
أقول: وسيجيء معنى الرواية في الكلام على الاسم الأعظم.
وفي العيون، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنها من الفاتحة وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرأها ويعدها آية منها، ويقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني أقول: وروي من طرق أهل السنة والجماعة نظير هذا المعنى فعن الدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا قرأتم الحمد فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها أم القرآن والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها.
وفي الخصال، عن الصادق (عليه السلام) قال: ما لهم؟ قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها.
وعن الباقر (عليه السلام): سرقوا أكرم آية في كتاب الله بسم الله الرحمن الرحيم، وينبغي الإتيان به عند افتتاح كل أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه.
أقول والروايات عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، وهي جميعا تدل على أن البسملة جزء من كل سورة إلا سورة البراءة، وفي روايات أهل السنة والجماعة ما يدل على ذلك.
ففي صحيح مسلم، عن أنس قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنزل علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم.
وعن أبي داود عن ابن عباس وقد صححوا سندها قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا يعرف فصل السورة، وفي رواية انقضاء السورة حتى ينزل عليه، بسم الله الرحمن الرحيم.
أقول وروي هذا المعنى من طرق الخاصة عن الباقر (عليه السلام).
وفي الكافي، والتوحيد، والمعاني، وتفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: والله إله كل شيء، الرحمن بجميع خلقه، الرحيم بالمؤمنين خاصة.
وروي عن الصادق (عليه السلام): الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة.
صفحه ۱۱
أقول: قد ظهر مما مر وجه عموم الرحمن للمؤمن والكافر واختصاص الرحيم بالمؤمن، وأما كون الرحمن اسما خاصا بصفة عامة والرحيم اسما عاما بصفة خاصة فكأنه يريد به أن الرحمن خاص بالدنيا ويعم الكافر والمؤمن والرحيم عام للدنيا والآخرة ويخص المؤمنين، وبعبارة أخرى: الرحمن يختص بالإفاضة التكوينية التي يعم المؤمن والكافر، والرحيم يعم التكوين والتشريع الذي بابه باب الهداية والسعادة، ويختص بالمؤمنين لأن الثبات والبقاء يختص بالنعم التي تفاض عليهم والعاقبة للتقوى.
وفي كشف الغمة، عن الصادق (عليه السلام) قال: فقد لأبي (عليه السلام) بغلة فقال لئن ردها الله علي لأحمدنه بمحامد يرضيها فما لبث أن أتي بها بسرجها ولجامها فلما استوى وضم إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء وقال الحمد لله ولم يزد، ثم قال ما تركت ولا أبقيت شيئا جعلت أنواع المحامد لله عز وجل، فما من حمد إلا وهو داخل فيها.
قلت: وفي العيون، عن علي (عليه السلام): أنه سئل عن تفسيرها فقال: هو أن الله عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال: قولوا الحمد لله على ما أنعم به علينا.
أقول: يشير (عليه السلام) إلى ما مر من أن الحمد، من العبد وإنما ذكره الله بالنيابة تأديبا وتعليما.
بحث فلسفي
البراهين العقلية ناهضة على أن استقلال المعلول وكل شأن من شئونه إنما هو بالعلة، وأن كل ما له من كمال فهو من أظلال وجود علته، فلو كان للحسن والجمال حقيقة في الوجود فكماله واستقلاله للواجب تعالى لأنه العلة التي ينتهي إليه جميع العلل، والثناء والحمد هو إظهار موجود ما بوجوده كمال موجود آخر وهو لا محالة علته وإذا كان كل كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كل ثناء وحمد تعود وتنتهي إليه تعالى، فالحمد لله رب العالمين.
قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين الآية، العبد هو المملوك من الإنسان أو من كل ذي شعور بتجريد المعنى كما يعطيه قوله تعالى: "إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا": مريم - 93.
والعبادة مأخوذة منه وربما تفرقت اشتقاقاتها أو المعاني المستعملة هي فيها لاختلاف الموارد، وما ذكره الجوهري في الصحاح أن أصل العبودية الخضوع فهو من باب الأخذ بلازم المعنى وإلا فالخضوع متعد باللام والعبادة متعدية بنفسها.
وبالجملة فكان العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام المملوكية لربه ولذلك كانت العبادة منافية للاستكبار وغير منافية للاشتراك فمن الجائز أن يشترك أزيد من الواحد في ملك رقبة أو في عبادة عبد، قال تعالى: "إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين": غافر - 60.
وقال تعالى: "ولا يشرك بعبادة ربه أحدا": الكهف - 110 فعد الإشراك ممكنا ولذلك نهى عنه، والنهي لا يمكن إلا عن ممكن مقدور بخلاف الاستكبار عن العبادة فإنه لا يجامعها.
والعبودية إنما يستقيم بين العبيد ومواليهم فيما يملكه الموالي منهم، وأما ما لا يتعلق به الملك من شئون وجود العبد ككونه ابن فلان أو ذا طول في قامته فلا يتعلق به عبادة ولا عبودية، لكن الله سبحانه في ملكه لعباده على خلاف هذا النعت فلا ملكه يشوبه ملك ممن سواه ولا أن العبد يتبعض في نسبته إليه تعالى فيكون شيء منه مملوكا وشيء، آخر غير مملوك، ولا تصرف من التصرفات فيه جائز وتصرف آخر غير جائز كما أن العبيد فيما بيننا شيء منهم مملوك وهو أفعالهم الاختيارية وشيء غير مملوك وهو الأوصاف الاضطرارية، وبعض التصرفات فيهم جائز كالاستفادة من فعلهم وبعضها غير جائز كقتلهم من غير جرم مثلا، فهو تعالى مالك على الإطلاق من غير شرط ولا قيد وغيره مملوك على الإطلاق من غير شرط ولا قيد فهناك حصر من جهتين، الرب مقصور في المالكية، والعبد مقصور في العبودية، وهذه هي التي يدل عليه قوله: إياك نعبد.
حيث قدم المفعول وأطلقت العبادة.
ثم إن الملك حيث كان مقتوم الوجود بمالكه كما عرفت مما مر، فلا يكون حاجبا عن مالكه ولا يحجب عنه، فإنك إذا نظرت إلى دار زيد فإن نظرت إليها من جهة أنها دار أمكنك أن تغفل عن، زيد وإن نظرت إليها بما أنها ملك زيد لم يمكنك الغفلة عن مالكها وهو زيد.
صفحه ۱۲
ولكنك عرفت أن ما سواه تعالى ليس له إلا المملوكية فقط وهذه حقيقته فشيء منه في الحقيقة لا يحجب عنه تعالى، ولا النظر إليه يجامع الغفلة عنه تعالى، فله تعالى الحضور المطلق، قال سبحانه: "أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط": حم السجدة - 54، وإذا كان كذلك فحق عبادته تعالى أن يكون عن حضور من الجانبين.
أما من جانب الرب عز وجل، فأن يعبد عبادة معبود حاضر وهو الموجب للالتفات المأخوذ في قوله تعالى إياك نعبد عن الغيبة إلى الحضور.
وأما من جانب العبد، فأن يكون عبادته عبادة عبد حاضر من غير أن يغيب في عبادته فيكون عبادته صورة فقط من غير معنى وجسدا من غير روح أو يتبعض فيشتغل بربه وبغيره، إما ظاهرا وباطنا كالوثنيين في عبادتهم لله ولأصنامهم معا أو باطنا فقط كمن يشتغل في عبادته بغيره تعالى بنحو الغايات والأغراض كان يعبد الله وهمه في غيره، أو يعبد الله طمعا في جنة أو خوفا من نار فإن ذلك كله من الشرك في العبادة الذي ورد عنه النهي، قال تعالى: "فاعبد الله مخلصا له الدين": الزمر - 2، وقال تعالى: "ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون": الزمر - 3.
فالعبادة إنما تكون عبادة حقيقة، إذا كان على خلوص من العبد وهو الحضور الذي ذكرناه، وقد ظهر أنه إنما يتم إذا لم يشتغل بغيره تعالى في عمله فيكون قد أعطاه الشركة مع الله سبحانه في عبادته ولم يتعلق.
قلبه في عبادته رجاء أو خوفا هو الغاية في عبادته كجنة أو نار فيكون عبادته له لا لوجه الله، ولم يشتغل بنفسه فيكون منافيا لمقام العبودية التي لا تلائم الإنية والاستكبار، وكان الإتيان بلفظ المتكلم مع الغير للإيماء إلى هذه النكتة فإن فيه هضما للنفس بإلغاء تعينها وشخوصها وحدها المستلزم لنحو من الإنية والاستقلال بخلاف إدخالها في الجماعة وخلطها بسواد الناس فإن فيه إمحاء التعين وإعفاء الأثر فيؤمن به ذلك.
وقد ظهر من ذلك كله: أن إظهار العبودية بقوله: إياك نعبد لا يشتمل على نقص من حيث المعنى ومن حيث الإخلاص إلا ما في قوله: إياك نعبد من نسبة العبد العبادة إلى نفسه المشتمل بالاستلزام على دعوى الاستقلال في الوجود والقدرة والإرادة مع أنه مملوك والمملوك لا يملك شيئا، فكأنه تدورك ذلك بقوله تعالى وإياك نستعين، أي إنما ننسب العبادة إلى أنفسنا وندعيه لنا مع الاستعانة بك لا مستقلين بذلك مدعين ذلك دونك، فقوله: إياك نعبد وإياك نستعين لإبداء معنى واحد وهو العبادة عن إخلاص، ويمكن أن يكون هذا هو الوجه في اتحاد الاستعانة والعبادة في السياق الخطابي حيث قيل إياك نعبد وإياك نستعين من دون أن يقال: إياك نعبد أعنا واهدنا الصراط المستقيم وأما تغيير السياق في قوله: اهدنا الصراط الآية.
فسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
فقد بان بما مر من البيان في قوله إياك نعبد وإياك نستعين
الآية الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور، والوجه في الحصر الذي يفيده تقديم المفعول، والوجه في إطلاق قوله: نعبد، والوجه في اختيار لفظ المتكلم مع الغير، والوجه في تعقيب الجملة الأولى بالثانية، والوجه في تشريك الجملتين في السياق، وقد ذكر المفسرون نكات أخرى في أطراف ذلك من أرادها فليراجع كتبهم وهو الله سبحانه غريم لا يقضى دينه.
1 سورة الحمد - 6 - 7
اهدنا الصرط المستقيم (6) صرط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب
عليهم ولا الضالين (7)
بيان
قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم إلخ أما الهداية فيظهر معناها في ذيل الكلام على الصراط وأما الصراط فهو والطريق والسبيل قريب المعنى، وقد وصف تعالى الصراط بالاستقامة ثم بين أنه الصراط الذي يسلكه الذين أنعم الله تعالى عليهم، فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سئل الهداية إليه وهو بمعنى الغاية للعبادة أي: إن العبد يسأل ربه أن تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط.
صفحه ۱۳
بيان ذلك: أن الله سبحانه قرر في كلامه لنوع الإنسان بل لجميع من سواه سبيلا يسلكون به إليه سبحانه فقال تعالى: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه": الإنشقاق - 6 وقال تعالى: "وإليه المصير: التغابن - 3، وقال: "ألا إلى الله تصير الأمور": الشورى - 53، إلى غير ذلك من الآيات وهي واضحة الدلالة على أن الجميع سالكوا سبيل، وأنهم سائرون إلى الله سبحانه.
ثم بين: أن السبيل ليس سبيلا واحدا ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال: "ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم": يس - 61.
فهناك طريق مستقيم وطريق آخر وراءه، وقال تعالى "فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون": البقرة - 186، وقال تعالى: "ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين": غافر - 60، فبين تعالى: أنه قريب من عباده وأن الطريق الأقرب إليه تعالى طريق عبادته ودعائه، ثم قال تعالى في وصف الذين لا يؤمنون: "أولئك ينادون من مكان بعيد": السجدة - 44 فبين: أن غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم وسبيلهم بعيدة.
فتبين: أن السبيل إلى الله سبيلان: سبيل قريب وهو سبيل المؤمنين وسبيل بعيد وهو سبيل غيرهم فهذا نحو اختلاف في السبيل وهناك نحو آخر من الاختلاف ، قال تعالى: "إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء": الأعراف - 40.
ولو لا طروق من متطرق لم يكن للباب معنى فهناك طريق من السفل إلى العلو، وقال تعالى: "ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى": طه - 81 والهوي هو السقوط إلى أسفل، فهناك طريق آخر أخذ في السفالة والانحدار، وقال تعالى: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل": البقرة - 108، فعرف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله: فقد ضل، وعند ذلك تقسم الناس في طرقهم ثلاثة أقسام: من طريقه إلى فوق وهم الذين يؤمنون بآيات الله ولا يستكبرون عن عبادته، ومن طريقه إلى السفل وهم المغضوب عليهم، ومن ضل الطريق وهو حيران فيه وهم الضالون، وربما أشعر بهذا التقسيم قوله تعالى: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
والصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخرين من الطرق الثلاث أعني: طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين فهو من الطريق الأول الذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين إلا أن قوله تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات": المجادلة - 11.
يدل على أن نفس الطريق الأول أيضا يقع فيه انقسام.
وبيانه: أن كل ضلال فهو شرك كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل": البقرة - 108.
وفي هذا المعنى قوله تعالى "أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا": يس - 62.
والقرآن يعد الشرك ظلما وبالعكس، كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن الشيطان لما قضي الأمر: "إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم": إبراهيم - 22.
كما يعد الظلم ضلالا في قوله تعالى "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون": الأنعام - 82 وهو ظاهر من ترتيب الاهتداء والأمن من الضلال أو العذاب الذي يستتبعه الضلال، على ارتفاع الظلم ولبس الإيمان به، وبالجملة الضلال والشرك والظلم أمرها واحد وهي متلازمة مصداقا، وهذا هو المراد من قولنا: إن كل واحد منها معرف بالآخر أو هو الآخر، فالمراد المصداق دون المفهوم.
صفحه ۱۴
إذا عرفت هذا علمت أن الصراط المستقيم الذي هو صراط غير الضالين صراط لا يقع فيه شرك ولا ظلم البتة كما لا يقع فيه ضلال البتة، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لا يرضى به الله سبحانه، ولا في ظاهر الجوارح والأركان من فعل معصية أو قصور في طاعة، وهذا هو حق التوحيد علما وعملا إذ لا ثالث لهما وما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ وينطبق على ذلك قوله تعالى: "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون": الأنعام - 82، وفيه تثبيت للأمن في الطريق ووعد بالاهتداء التام بنائا على ما ذكروه: من كون اسم الفاعل حقيقة في الاستقبال فليفهم فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
ثم إنه تعالى عرف هؤلاء المنعم عليهم الذين نسب صراط المستقيم إليهم بقوله تعالى: "ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا": النساء - 68.
وقد وصف هذا الإيمان والإطاعة قبل هذه الآية بقوله "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا": النساء - 66.
فوصفهم بالثبات التام قولا وفعلا وظاهرا وباطنا على العبودية لا يشذ منهم شاذ من هذه الجهة ومع ذلك جعل هؤلاء المؤمنين تبعا لأولئك المنعم عليهم وفي صف دون صفهم لمكان مع ولمكان قوله: "وحسن أولئك رفيقا" ولم يقل: فأولئك من الذين.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: "والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم": الحديد - 19.
وهذا هو إلحاق المؤمنين بالشهداء والصديقين في الآخرة، لمكان قوله: عند ربهم، وقوله: لهم أجرهم.
فأولئك وهم أصحاب الصراط المستقيم أعلى قدرا وأرفع درجة ومنزلة من هؤلاء وهم المؤمنون الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم من الضلال والشرك والظلم، فالتدبر في هذه الآيات يوجب القطع بأن هؤلاء المؤمنين وشأنهم هذا الشأن فيهم بقية بعد، لو تمت فيهم كانوا من الذين أنعم الله عليهم، وارتقوا من منزلة المصاحبة معهم إلى درجة الدخول فيهم ولعلهم نوع من العلم بالله، ذكره في قوله تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات": المجادلة - 11.
فالصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي أرفع النعم قدرا، يربو على نعمة الإيمان التام، وهذا أيضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
ثم إنه تعالى على أنه كرر في كلامه ذكر الصراط والسبيل لم ينسب لنفسه أزيد من صراط مستقيم واحد، وعد لنفسه سبلا كثيرة فقال عز من قائل "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا": العنكبوت - 69.
وكذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى أحد من خلقه إلا ما في هذه الآية صراط الذين أنعمت عليهم الآية ولكنه نسب السبيل إلى غيره من خلقه، فقال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة": يوسف - 108.
وقال تعالى "سبيل من أناب إلي": لقمان - 15.
وقال: "سبيل المؤمنين": النساء - 114، ويعلم منها: أن السبيل غير الصراط المستقيم فإنه يختلف ويتعدد ويتكثر باختلاف المتعبدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم كما يشير إليه قوله تعالى: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم": المائدة - 16، فعد السبل كثيرة والصراط واحدا وهذا الصراط المستقيم إما هي السبل الكثيرة وإما أنها تؤدي إليه باتصال بعضها إلى بعض واتحادها فيها.
وأيضا قال تعالى: "وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون": يوسف - 106.
فبين أن من الشرك وهو ضلال ما يجتمع مع الإيمان وهو سبيل، ومنه يعلم أن السبيل يجامع الشرك، لكن الصراط المستقيم لا يجامع الضلال كما قال: ولا الضالين.
صفحه ۱۵
والتدبر في هذه الآيات يعطي أن كل واحد من هذه السبل يجامع شيئا من النقص أو الامتياز، بخلاف الصراط المستقيم، وأن كلا منها هو الصراط المستقيم لكنه غير الآخر ويفارقه لكن الصراط المستقيم يتحد مع كل منها في عين أنه يتحد مع ما يخالفه، كما يستفاد من بعض الآيات المذكورة وغيرها كقوله: "وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم": يس - 61.
وقوله تعالى: "قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا": الأنعام - 161.
فسمى العبادة صراطا مستقيما وسمى الدين صراطا مستقيما وهما مشتركان بين السبل جميعا، فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح بالنسبة إلى البدن، فكما أن للبدن أطوارا في حياته هو عند كل طور غيره عند طور آخر، كالصبا والطفولية والرهوق والشباب والكهولة والشيب والهرم لكن الروح هي الروح وهي متحدة بها والبدن يمكن أن تطرأ عليه أطوار تنافي ما تحبه وتقتضيه الروح لو خليت ونفسها بخلاف الروح فطرة الله التي فطر الناس عليها والبدن مع ذلك هو الروح أعني الإنسان، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو الصراط المستقيم إلا أن السبيل كسبيل المؤمنين وسبيل المنيبين وسبيل المتبعين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو غير ذلك من سبل الله تعالى، ربما اتصلت به آفة من خارج أو نقص لكنهما لا يعرضان الصراط المستقيم كما عرفت أن الإيمان وهو سبيل ربما يجامع الشرك والضلال لكن لا يجتمع مع شيء من ذلك الصراط المستقيم، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبعده، والجميع على الصراط المستقيم أو هي هو.
وقد بين الله سبحانه هذا المعنى، أعني: اختلاف السبل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثل ضربه للحق والباطل في كلامه، فقال تعالى: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال": الرعد - 17.
فبين: أن القلوب والأفهام في تلقي المعارف والكمال مختلفة، مع كون الجميع متكئة منتهية إلى رزق سماوي واحد، وسيجيء تمام الكلام في هذا المثل في سورة الرعد، وبالجملة فهذا أيضا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
وإذا تأملت ما تقدم من نعوت الصراط المستقيم تحصل لك أن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل إلى الله والطرق الهادية إليه تعالى، بمعنى أن السبيل إلى الله إنما يكون سبيلا له موصلا إليه بمقدار يتضمنه من الصراط المستقيم حقيقة، مع كون الصراط المستقيم هاديا موصلا إليه مطلقا ومن غير شرط وقيد، ولذلك سماه الله تعالى صراطا مستقيما، فإن الصراط هو الواضح من الطريق، مأخوذ من سرطت سرطا إذا بلعت بلعا، كأنه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه ولا يدفعهم عن بطنه، والمستقيم هو الذي يريد أن يقوم على ساق فيتسلط على نفسه وما لنفسه كالقائم الذي هو مسلط على أمره، ويرجع المعنى إلى أنه الذي لا يتغير أمره ولا يختلف شأنه فالصراط المستقيم ما لا يتخلف حكمه في هدايته وإيصاله سالكيه إلى غايته ومقصدهم قال تعالى: "فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما": النساء - 174.
أي لا يتخلف أمر هذه الهداية، بل هي على حالها دائما، وقال تعالى: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيما": الأنعام - 126.
أي هذه طريقته التي لا يختلف ولا يتخلف، وقال تعالى: "قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين": الحجر - 42.
أي هذه سنتي وطريقتي دائما من غير تغيير، فهو يجري مجرى قوله: "فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا": الفاطر - 42.
وقد تبين مما ذكرناه في معنى الصراط المستقيم أمور.
صفحه ۱۶
أحدها: أن الطرق إلى الله مختلفة كمالا ونقصا وغلاء ورخصا، في جهة قربها من منبع الحقيقة والصراط المستقيم كالإسلام والإيمان والعبادة والإخلاص والإخبات، كما أن مقابلاتها من الكفر والشرك والجحود والطغيان والمعصية كذلك، قال سبحانه "ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون": الأحقاف - 19.
وهذا نظير المعارف الإلهية التي تتلقاها العقول من الله فإنها مختلفة باختلاف الاستعدادات ومتلونة بألوان القابليات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها" الآية.
وثانيها: أنه كما أن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل، فكذلك أصحابه الذين مكنهم الله تعالى فيه وتولى أمرهم وولاهم أمر هداية عباده حيث قال: "وحسن أولئك رفيقا": النساء - 71.
وقال تعالى: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم راكعون": المائدة - 55.
والآية نازلة في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بالأخبار المتواترة وهو (عليه السلام) أول فاتح لهذا الباب من الأمة وسيجيء تمام الكلام في الآية.
وثالثها: أن الهداية إلى الصراط يتعين معناها بحسب تعين معناه، وتوضيح ذلك أن الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح، وفيه أن تعديتها لمفعولين لغة أهل الحجاز، وغيرهم يعدونه إلى المفعول الثاني بإلى، وقوله هو الظاهر، وما قيل: إن الهداية إذا تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها، فهي بمعنى الإيصال إلى المطلوب، وإذا تعدت بإلى فبمعنى إراءة الطريق، مستدلا بنحو قوله تعالى: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء": القصص - 56.
حيث إن هدايته بمعنى إراءة الطريق ثابتة فالمنفي غيرها وهو الإيصال إلى المطلوب قال تعالى: "وهديناهم صراطا مستقيما": النساء - 70.
وقال تعالى: "وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم": الشورى - 52.
فالهداية بالإيصال إلى المطلوب تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها، والهداية بإراءة الطريق بإلي، وفيه أن النفي المذكور نفي لحقيقة الهداية التي هي قائمة بالله تعالى، لا نفي لها أصلا، وبعبارة أخرى هو نفي الكمال دون نفي الحقيقة، مضافا إلى أنه منقوض بقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: "يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد": غافر - 38.
فالحق أنه لا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية، ومن الممكن أن يكون التعدية إلى المفعول الثاني من قبيل قولهم دخلت الدار وبالجملة فالهداية هي الدلالة وإراءة الغاية بإراءة الطريق وهي نحو إيصال إلى المطلوب، وإنما تكون من الله سبحانه، وسنته سنة الأسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب ويتحقق به وصول العبد إلى غايته في سيره، وقد بينه الله سبحانه بقوله: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام": الأنعام - 125.
وقوله: "ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء": الزمر - 23.
وتعدية قوله تلين بإلى لتضمين معنى مثل الميل والاطمينان، فهو إيجاده تعالى وصفا في القلب به يقبل ذكر الله ويميل ويطمئن إليه، وكما أن سبله تعالى مختلفة، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إليه فلكل سبيل هداية قبله تختص به.
وإلى هذا الاختلاف يشير قوله تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين": العنكبوت - 69.
إذ فرق بين أن يجاهد العبد في سبيل الله، وبين أن يجاهد في الله، فالمجاهد في الأول يريد سلامة السبيل ودفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثاني فإنه إنما يريد وجه الله فيمده الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاص به، وكذا يمده الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتى يختصه بنفسه جلت عظمته.
صفحه ۱۷
ورابعها: أن الصراط المستقيم لما كان أمرا محفوظا في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها ودرجاتها، صح أن يهدي الله الإنسان إليه وهو مهدي فيهديه من الصراط إلى الصراط، بمعنى أن يهديه إلى سبيل من سبله ثم يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة، كما أن قوله تعالى: اهدنا الصراط وهو تعالى يحكيه عمن هداه بالعبادة من هذا القبيل، ولا يرد عليه: أن سؤال الهداية ممن هو مهتد بالفعل سؤال لتحصيل الحاصل وهو محال، وكذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل ولا يتعلق به سؤال، والجواب ظاهر.
وكذا الإيراد عليه: بأن شريعتنا أكمل وأوسع من جميع الجهات من شرائع الأمم السابقة، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الذين أنعم الله عليهم منهم؟ وذلك أن كون شريعة أكمل من شريعة أمر، وكون المتمسك بشريعة أكمل من المتمسك بشريعة أمر آخر وراءه ، فإن المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كون شريعته أكمل وأوسع ليس بأكمل من نوح وإبراهيم (عليه السلام) مع كون شريعتهما أقدم وأسبق، وليس ذلك إلا أن حكم الشرائع والعمل بها غير حكم الولاية الحاصلة من التمكن فيها والتخلق بها، فصاحب مقام التوحيد الخالص وإن كان من أهل الشرائع السابقة أكمل وأفضل ممن لم يتمكن من مقام التوحيد ولم تستقر حياة المعرفة في روحه ولم يتمكن نور الهداية الإلهية من قلبه، وإن كان عاملا بالشريعة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) التي هي أكمل الشرائع وأوسعها، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة ويسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة التي هي دونها.
ومن أعجب ما ذكر في هذا المقام، ما ذكره بعض المحققين من أهل التفسير جوابا عن هذه الشبهة: أن دين الله واحد وهو الإسلام، والمعارف الأصلية وهو التوحيد والنبوة والمعاد وما يتفرع عليها من المعارف الكلية واحد في الشرائع، وإنما مزية هذه الشريعة على ما سبقها من الشرائع هي أن الأحكام الفرعية فيها أوسع وأشمل لجميع شئون الحياة، فهي أكثر عناية بحفظ مصالح العباد، على أن أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة والموعظة والجدال الأحسن، ثم إن الدين وإن كان دينا واحدا والمعارف الكلية في الجميع على السواء غير أنهم سلكوا سبيل ربهم قبل سلوكنا، وتقدموا في ذلك علينا، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه هذا.
أقول: وهذا الكلام مبني على أصول في مسلك التفسير مخالفة للأصول التي يجب أن يبتني مسلك التفسير عليها، فإنه مبني على أن حقائق المعارف الأصلية واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب والدرجات، وكذا سائر الكمالات الباطنية المعنوية، فأفضل الأنبياء المقربين مع أخس المؤمنين من حيث الوجود وكماله الخارجي التكويني على حد سواء، وإنما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل التشريعي من غير أن يتكي على تكوين، كما أن التفاضل بين الملك والرعية إنما هو بحسب المقام الجعلي الوضعي من غير تفاوت من حيث الوجود الإنساني هذا.
ولهذا الأصل أصل آخر يبنى عليه، وهو القول بأصالة المادة ونفي الأصالة عما وراءها والتوقف فيه إلا في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل، وقد وقع في هذه الورطة من وقع، لأحد أمرين: إما القول بالاكتفاء بالحس اعتمادا على العلوم المادية وإما إلغاء التدبر في القرآن بالاكتفاء بالتفسير بالفهم العامي.
وللكلام ذيل طويل سنورده في بعض الأبحاث العلمية الآتية إن شاء الله تعالى.
وخامسها: أن مزية أصحاب الصراط المستقيم على غيرهم، وكذا صراطهم على سبيل غيرهم، إنما هو بالعلم لا العمل، فلهم من العلم بمقام ربهم ما ليس لغيرهم، إذ قد تبين مما مر: أن العمل التام موجود في بعض السبل التي دون صراطهم، فلا يبقى لمزيتهم إلا العلم، وأما ما هذا العلم؟ وكيف هو؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى: "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها": الرعد - 17.
صفحه ۱۸
ويشعر بهذا المعنى قوله تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات": المجادلة - 11، وكذا قوله تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه": الملائكة - 10، فالذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيب وهو الاعتقاد والعلم، وأما العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيب والأمداد دون الصعود إليه تعالى، وسيجيء تمام البيان في البحث عن الآية.
بحث روائي
في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في معنى العبادة قال: العبادة ثلاثة: قوم عبدوا الله خوفا، فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا الله عز وجل حبا، فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة.
وفي نهج البلاغة،: إن قوما عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار.
وفي العلل، والمجالس، والخصال، عن الصادق (عليه السلام): إن الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه خوفا من النار فتلك عبادة العبيد، وهي رهبة، ولكني أعبده حبا له عز وجل فتلك عبادة الكرام، لقوله عز وجل: "وهم من فزع يومئذ آمنون". ولقوله عز وجل "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، فمن أحب الله عز وجل أحبه، ومن أحبه الله كان من الآمنين، وهذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون.
أقول: وقد تبين معنى الروايات مما مر من البيان، وتوصيفهم (عليهم السلام) عبادة الأحرار تارة بالشكر وتارة بالحب، لكون مرجعهما واحدا، فإن الشكر وضع الشيء المنعم به في محله، والعبادة شكرها أن تكون لله الذي يستحقها لذاته، فيعبد الله لأنه الله، أي لأنه مستجمع لجميع صفات الجمال والجلال بذاته، فهو الجميل بذاته المحبوب لذاته، فليس الحب إلا الميل إلى الجمال والانجذاب نحوه، فقولنا فيه تعالى هو معبود لأنه هو، وهو معبود لأنه جميل محبوب، وهو معبود لأنه منعم مشكور بالعبادة يرجع جميعها إلى معنى واحد.
وروي بطريق عامي عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: إياك نعبد الآية، يعني: لا نريد منك غيرك ولا نعبدك بالعوض والبدل: كما يعبدك الجاهلون بك المغيبون عنك.
أقول: والرواية تشير إلى ما تقدم، من استلزام معنى العبادة للحضور وللإخلاص الذي ينافي قصد البدل.
وفي تحف العقول، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، ومن زعم أنه يعبد الصفة والموصوف فقد أبطل التوحيد لأن الصفة غير الموصوف، ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، وما قدروا الله حق قدره.
الحديث.
وفي المعاني، عن الصادق (عليه السلام): في معنى قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم يعني أرشدنا إلى لزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، والمبلغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك وفي المعاني، أيضا عن علي (عليه السلام): في الآية، يعني، أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.
أقول: والروايتان وجهان مختلفان في الجواب عن شبهة لزوم تحصيل الحاصل من سؤال الهداية للمهدي، فالرواية الأولى ناظرة إلى اختلاف مراتب الهداية مصداقا والثانية إلى اتحادها مفهوما.
وفي المعاني، أيضا عن علي (عليه السلام): الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو، وارتفع عن التقصير واستقام، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة.
وفي المعاني، أيضا عن علي (عليه السلام): في معنى صراط الذين الآية: أي: قولوا: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك، لا بالمال والصحة، فإنهم قد يكونون كفارا أو فساقا، قال: وهم الذين قال الله: "ومن يطع الله والرسول - فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم - من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا".
صفحه ۱۹
وفي العيون، عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: قال الله عز وجل: قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله جل جلاله بدأ عبدي باسمي وحق علي أن أتمم له أموره، وأبارك له في أحواله، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله جل جلاله: حمدني عبدي، وعلم أن النعم التي له من عندي، وأن البلايا التي دفعت عنه بتطولي، أشهدكم أني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة وأدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، وإذا قال الرحمن الرحيم، قال الله جل جلاله: شهد لي عبدي أني الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفرن من رحمتي حظه ولأجزلن من عطائي نصيبه فإذا قال: مالك يوم الدين قال الله تعالى: أشهدكم، كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين، لأسهلن يوم الحساب حسابه، ولأتقبلن حسناته ولأتجاوزن عن سيئاته، فإذا قال: إياك نعبد، قال الله عز وجل: صدق عبدي، إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: وإياك نستعين قال الله تعالى: بي استعان عبدي وإلي التجأ، أشهدكم لأعيننه على أمره، ولأغيثنه في شدائده ولآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة، قال الله عز وجل: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، وقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمل وآمنته مما منه وجل. أقول: وروى قريبا منه الصدوق في العلل، عن الرضا (عليه السلام)، والرواية كما ترى تفسر سورة الفاتحة في الصلاة فهي تؤيد ما مر مرارا أن السورة كلام له سبحانه بالنيابة عن عبده في ما يذكره في مقام العبادة وإظهار العبودية من الثناء لربه وإظهار عبادته، فهي سورة موضوعة للعبادة، وليس في القرآن سورة تناظرها في شأنها وأعني بذلك: أولا: أن السورة بتمامها كلام تكلم به الله سبحانه في مقام النيابة عن عبده فيما يقوله إذا وجه وجهه إلى مقام الربوبية ونصب نفسه في مقام العبودية.
وثانيا: أنها مقسمة قسمين، فنصف منها لله ونصف منها للعبد.
وثالثا: أنها مشتملة على جميع المعارف القرآنية على إيجازها واختصارها فإن القرآن على سعته العجيبة في معارفه الأصلية وما يتفرع عليها من الفروع من أخلاق وأحكام في العبادات والمعاملات والسياسات والاجتماعيات ووعد ووعيد وقصص وعبر، يرجع جمل بياناتها إلى التوحيد والنبوة والمعاد وفروعاتها، وإلى هداية العباد إلى ما يصلح به أولاهم وعقباهم، وهذه السورة كما هو واضح تشتمل على جميعها في أوجز لفظ وأوضح معنى.
وعليك أن تقيس ما يتجلى لك من جمال هذه السورة التي وضعها الله سبحانه في صلاة المسلمين بما يضعه النصارى في صلاتهم من الكلام الموجود في إنجيل متى: وهو ما نذكره بلفظة العربي، "أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيتك كما في السماء كذلك على الأرض، خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة ولكن نجنا من الشرير آمين".
تأمل في المعاني التي تفيدها ألفاظ هذه الجمل بعنوان أنها معارف سماوية، وما يشتمل عليه من الأدب العبودي، أنها تذكر أولا أن أباهم وهو الله تقدس اسمه في السماوات! ثم تدعو في حق الأب بتقدس اسمه وإتيان ملكوته ونفوذ مشيته في الأرض كما هي نافذة في السماء، ولكن من الذي يستجيب هذا الدعاء الذي هو بشعارات الأحزاب السياسية أشبه؟ ثم تسأل الله إعطاء خبز اليوم ومقابلة المغفرة بالمغفرة، وجعل الإغماض عن الحق في مقابل الإغماض، وما ذا هو حقهم لو لم يجعل الله لهم حقا؟ وتسأله أن لا يمتحنهم بل ينجيهم من الشرير، ومن المحال ذلك، فالدار دار الامتحان والاستكمال وما معنى النجاة لو لا الابتلاء والامتحان؟ ثم اقض العجب مما ذكره بعض المستشرقين من علماء الغرب وتبعه بعض من المنتحلين: أن الإسلام لا يربو على غيره في المعارف، فإن جميع شرائع الله تدعو إلى التوحيد وتصفية النفوس بالخلق الفاضل والعمل الصالح، وإنما تتفاضل الأديان في عراقة ثمراتها الاجتماعية.
صفحه ۲۰