تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
ژانرها
### ||| 2 سورة البقرة - 1 - 5
بسم الله الرحمن الرحيم الم (1) ذلك الكتب لا ريب فيه هدى للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقنهم ينفقون (3) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالاخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5)
بيان
لما كانت السورة نازلة نجوما لم يجمعها غرض واحد إلا أن معظمها تنبىء عن غاية واحدة محصلة وهو بيان أن من حق عبادة الله سبحانه أن يؤمن عبده بكل ما أنزله بلسان رسله من غير تفرقة بين وحي ووحي، ولا بين رسول ورسول ولا غير ذلك ثم تقريع الكافرين والمنافقين وملامة أهل الكتاب بما ابتدعوه من التفرقة في دين الله والتفريق بين رسله، ثم التخلص إلى بيان عدة من الأحكام كتحويل القبلة وأحكام الحج والإرث والصوم وغير ذلك.
قوله تعالى: الم، سيأتي بعض ما يتعلق من الكلام بالحروف المقطعة التي في أوائل السور، في أول سورة الشورى إن شاء الله، وكذلك الكلام في معنى هداية القرآن ومعنى كونه كتابا.
وقوله تعالى: هدى للمتقين الذين يؤمنون إلخ، المتقون هم المؤمنون، وليست التقوى من الأوصاف الخاصة لطبقة من طبقاتهم أعني: لمرتبة من مراتب الإيمان حتى تكون مقاما من مقاماته نظير الإحسان والإخبات والخلوص، بل هي صفة مجامعة لجميع مراتب الإيمان إذا تلبس الإيمان بلباس التحقق، والدليل على ذلك أنه تعالى لا يخص بتوصيفه طائفة خاصة من طوائف المؤمنين على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم والذي أخذه تعالى من الأوصاف المعرفة للتقوى في هذه الآيات التسع عشرة التي يبين فيها حال المؤمنين والكفار والمنافقين خمس صفات، وهي الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزق الله سبحانه، والإيمان بما أنزله على أنبيائه، والإيقان بالآخرة، وقد وصفهم بأنهم على هدى من ربهم فدل ذلك على أن تلبسهم بهذه الصفات الكريمة بسبب تلبسهم بلباس الهداية من الله سبحانه، فهم إنما صاروا متقين أولي هذه الصفات بهداية منه تعالى، ثم وصف الكتاب بأنه هدى لهؤلاء المتقين بقوله تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين" فعلمنا بذلك: أن الهداية غير الهداية، وأن هؤلاء وهم متقون محفوفون بهدايتين، هداية أولى بها صاروا متقين، وهداية ثانية أكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى وبذلك صحت المقابلة بين المتقين وبين الكفار والمنافقين، فإنه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين، ضلال أول هو الموجب لأوصافهم الخبيثة من الكفر والنفاق، وضلال ثان يتأكد به ضلالهم الأول، ويتصفون به بعد تحقق الكفر والنفاق كما يقوله تعالى في حق الكفار: "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة": البقرة - 7، فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى أنفسهم، وكما يقوله في حق المنافقين: "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا": البقرة - 10 فنسب المرض الأول إليهم والمرض الثاني إلى نفسه على حد ما يستفاد من قوله تعالى: "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين": البقرة - 26، وقوله تعالى: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم": الصف - 5.
وبالجملة المتقون واقعون بين هدايتين، كما أن الكفار والمنافقين واقعون بين ضلالين.
ثم إن الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الأولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة، فإن الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تتنبه شاهده لفقرها وحاجتها إلى أمر خارج عنها، وكذا احتياج كل ما سواها مما يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى أمر خارج يقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس منه يبدأ الجميع وإليه ينتهي ويعود، وإنه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلقة كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الأعمال والأخلاق، وهذا هو الإذعان بالتوحيد والنبوة والمعاد وهي أصول الدين، ويلزم ذلك استعمال الخضوع له سبحانه في ربوبيته، واستعمال ما في وسع الإنسان من مال وجاه وعلم وفضيلة لإحياء هذا الأمر ونشره، وهذان هما الصلاة والإنفاق.
صفحه ۲۲