واستخرجوا أيضا ألحانا أخر، تستعمل عند الفرح واللذة والسرور في الأعراس والولائم وهي المعروفة المستعملة في زماننا هذا.
وقد تستعمل هذه الصناعة للحيوانات أيضا مثل ما يستعمله الجمالون من الحداء في الأسفار وفي ظلم الليل؛ لينشط الجمال في السير، ويخفف عليها ثقل الأحمال، ويستعملها رعاة الغنم والبقر والخيل عند ورودها الماء من الصفير ترغيبا لها في شرب الماء، ويستعملون لها أيضا ألحانا أخر عند هيجانها للنزو والفساد، وألحانا أخر عند حلب ألبانها لتدر، ويستعمل صياد الغزلان والدراج والقطا وغيرها من الطيور ألحانا في ظلم الليل يوقعها بها حتى تؤخذ باليد، وتستعمل النساء للأطفال ألحانا تسكن البكاء وتجلب النوم.
فقد تبين بما ذكرنا أن صناعة الموسيقى يستعملها كل أحد من الأمم، ويستلذها جميع الحيوانات التي لها حاسة السمع، وأن للنغمات تأثيرات في النفوس الروحانية، كما أن لسائر الصنائع تأثيرات في الهيوليات الجسمانية، فنقول الآن: إن الموسيقى هي الغناء، والموسيقار هو المغني، والموسيقات هو آلة الغناء، والغناء هو ألحان مؤلفة، واللحن هو نغمات متواترة، والنغمات هي أصوات متزنة، والصوت هو قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام بعضها ببعض كما بينا في رسالة «الحاس والمحسوس»، ولكن نحتاج أن نذكر من ذلك في هذه الرسالة ما لا بد منه.
(2) فصل في كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات
فأما كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات؛ فاعلم يا أخي أن الأصوات نوعان: حيوانية وغير حيوانية، وغير الحيوانية أيضا نوعان: طبيعية وآلية، فالطبيعية هي كصوت الحجر والحديد والخشب والرعد والريح، وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجمادات. والآلية كصوت الطبل والبوق والزمر والأوتاد وما شاكلها.
والحيوانية نوعان: منطقية وغير منطقية، فغير المنطقية هي أصوات سائر الحيوانات غير الناطقة، وأما المنطقية فهي أصوات الناس، وهي نوعان: دالة وغير دالة، فغير الدالة كالضحك والبكاء والصياح. وبالجملة كل صوت لا هجاء له، وأما الدالة فهي الكلام والأقاويل التي لها هجاء، وكل هذه الأصوات إنما هي قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجرام؛ وذلك أن الهواء لشدة لطافته وخفة جوهره وسرعة حركة أجزائه يتخلل الأجسام كلها، فإذا صدم جسم جسما آخر انسل ذلك الهواء من بينهما وتدافع وتموج إلى جميع الجهات وحدث من حركته شكل كروي، واتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج فيها، وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت حركته وتموجه إلى أن يسكن ويضمحل.
فمن كان حاضرا من الناس وسائر الحيوانات الذي له أذن بالقرب من ذلك المكان، فبتموج ذلك الهواء بحركته يدخل في أذنيه إلى صماخيه في مؤخر الدماغ، ويتوج أيضا ذلك الهواء الذي هناك فتحس عند ذلك القوة السامعة بتلك الحركة وذلك التغيير.
واعلم أن كل صوت له نغمة وصفية وهيئة روحانية خلاف صوت آخر، وأن الهواء من شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل صوت بهيأته وصفته ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض، فيفسد هيئتها إلى أن يبلغها إلى أقصى مدى غاياتها عند القوة السامعة؛ لتؤديها إلى القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ، وذلك تقدير العزيز الحكيم الذي جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ، وإذ قد فرغنا من ذكر ماهية الأصوات وكيفية حل الهواء وكيفية إدراك القوة السامعة لها، فنذكر الآن كيفية حدوث أنواعها من تصادم الأجسام بعضا ببعض، فنقول: إن كل جسمين تصادما برفق ولين لا تسمع لهما صوتا؛ لأن الهواء ينسل من بينهما قليلا قليلا فلا يحدث صوتا، وإنما يحدث الصوت من تصادم الأجسام متى كان صدمها بشدة وسرعة؛ لأن الهواء عند ذلك يندفع مفاجأة، ويتموج بحركته إلى الجهات الست بسرعة، فيحدث الصوت ويسمع - كما بينا في فصل قبل هذا.
والأجسام العظيمة إذا تصادمت كان صوتها أعظم؛ لأنها تموج هواء أكثر، وكل جسمين من جوهر واحد، مقدارهما واحد، وشكلهما واحد، نقرا نقرة واحدة معا؛ فإن صوتيهما يكونان متساويين، فإن كان أحدهما أجوف كان صوته أعظم؛ لأنه يصدم هواء كثيرا داخلا وخارجا، والأجسام الملس أصواتها ملساء؛ لأن السطوح المشتركة التي بينها وبين الهواء ملساء، والأجسام الخشنة تكون أصواتها خشنة؛ لأن السطوح المشتركة بينها وبين الهواء خشنة.
والأجسام الصلبة المجوفة كالأواني والطرجهارات والجرار إذا نقرت طنت زمانا طويلا؛ لأن الهواء في جوفها يتردد ويصدمها مرة بعد مرة، وتارة بعد أخرى إلى أن يسكن، فما كان منها أوسع كان صوتها أعظم؛ لأنه يصدم هواء كثيرا داخلا وخارجا، والبوقات الطوال كان صوتها أعظم؛ لأن الهواء المتموج فيها يصدمها في مروره مسافة بعيدة، والحيوانات الكبيرة الرئات الطويلة الحلاقيم الواسعة المناخر والأشداق، تكون جهيرة الأصوات؛ لأنها تستنشق هواء كثيرا وترسله بشدة.
صفحه نامشخص