رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

اخوان الصفا d. 375 AH
48

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

رسائل اخوان الصفاء و خلان الوفاء

ژانرها

فإن هذه الأبيات وأخواتها أيضا أثارت أحقادا بين أقوام وحركت نفوسهم وألهبت فيها نيران الغضب وحثتهم على قتل أبناء الأعمام والأقرباء والعشائر، حتى قتلوهم بذنوب آبائهم ووزر أجدادهم ولم يرحموا منهم أحدا.

ومن الألحان والنغمات أيضا ما يسكن سورة الغضب ويحل الأحقاد ويوقع الصلح ويكسب الألفة والمحبة، فمن ذلك ما يحكى أن في بعض مجالس الشراب اجتمع رجلان متغاضبان، وكان بينهما ضغن قديم وحقد كامن، فلما دار الشراب بينهما ثار الحقد والتهبت نيران الغضب وهم كل واحد منهما بقتل صاحبه، فلما أحس الموسيقار بذلك منهما وكان ماهرا في صناعته غير نغمات الأوتار، وضرب اللحن الملين المسكن وأسمعهما، وداوم حتى سكن سورة الغضب عنهما وقاما فتعانقا وتصالحا.

ومن الألحان والنغمات ما ينقل النفوس من حال إلى حال، ويغير أخلاقها من ضد إلى ضد. ومن ذلك ما يحكى أن جماعة كانت من أهل هذه الصناعة مجتمعة في دعوة رجل رئيس كبير فرتب مراتبهم في مجلسه، بحسب حذقهم في صناعتهم؛ إذ دخل عليهم إنسان رث الحال، عليه ثياب رثة، فرفعه صاحب المجلس عليهم كلهم وتبين إنكار ذلك في وجوههم، فأراد أن يبين فضله ويسكن عنهم غضبهم، فسأله أن يسمعهم شيئا من صناعته، فأخرج الرجل خشبات كانت معه فركبها ومد عليها أوتاره وحركها تحريكا، فأضحك كل من كان في المجلس من اللذة والفرح والسرور الذي حل داخل نفوسهم، ثم قلبها وحركها تحريكا آخر أبكاهم كلهم من رقة النغمة وحزن القلوب، ثم قلبها وحركها تحريكا نومهم كلهم، وقام وخرج فلم يعرف له خبر.

فقد تبين بما ذكرنا أن لصناعة الموسيقى تأثيرات في نفوس المستمعين مختلفة كاختلاف تأثيرات صناعات الصناع في الهيوليات الموضوعة في صناعاتهم، فمن أجلها يستعملها كل الأمم من بني آدم وكثير من الحيوانات أيضا، ومن الدليل على أن لها تأثيرات في النفوس استعمال الناس لها؛ تارة عند الفرح والسرور في الأعراس والولائم والدعوات، وتارة عند الحزن والغم والمصائب وفي المآتم، وتارة في بيوت العبادات وفي الأعياد، وتارة في الأسواق والمنازل، وفي الأسفار وفي الحضر، وعند الراحة والتعب، وفي مجالس الملوك ومنازل السوقة، ويستعملها الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والعلماء والجهال والصناع والتجار وجميع طبقات الناس.

(1) فصل في أن أصل صناعة الموسيقى للحكماء

اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن الصنائع كلها استخرجتها الحكماء بحكمتها، ثم تعلمها الناس منهم وبعضهم من بعض، وصارت وراثة من الحكماء للعامة ومن العلماء للمتعلمين ومن الأساتذة للتلامذة، فصناعة الموسيقى استخرجتها الحكماء بحكمتها وتعلمها الناس منهم، واستعملوها كسائر الصنائع في أعمالهم ومتصرفاتهم بحسب أغراضهم المختلفة.

فأما استعمال أصحاب النواميس الإلهية لها في الهياكل وبيوت العبادات، وعند القراءة في الصلوات، وعند القرابين والدعاء والتضرع والبكاء، كما كان يفعل داود النبي - عليه السلام - عند قراءة مزاميره، وكما يفعل النصارى في كنائسهم، والمسلمون في مساجدهم من طيب النغمة ولحن القراءة؛ فإن كل ذلك لرقة القلوب ولخضوع النفوس ولخشوعها والانقياد لأوامر الله تعالى ونواهيه والتوبة إليه من الذنوب والرجوع إلى الله - سبحانه وتعالى - باستعمال سنن النواميس كما رسمت.

واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أحد الأسباب التي دعت الحكماء إلى وضع النواميس واستعمال سننها هو ما قد لاح لهم من موجبات أحكام النجوم من السعادات والمناحس عند ابتداء القرانات وتحاويل السنين من الغلاء أو الرخص أو الجدب أو الخصب أو القحط أو الطاعون والوباء أو تسلط الأشرار والظالمين، وما شاكلها من تغيرات الزمان وحوادث الأيام، فلما تبين لهم ذلك طلبوا حيلة تنجيهم منها إن كانت شرا وتوفر حظهم فيها إن كانت خيرا، فلم يجدوا حيلة أنجى ولا شيئا أنفع من استعمال سنن النواميس الإلهية التي هي الصوم والصلاة والقرابين والدعاء عند ذلك بالتضرع إلى الله تعالى - جل ثناؤه - بالخضوع والخشوع والبكاء والسؤال إياه أن يصرف عنهم ذلك ويكشف ما قد أوجبته أحكام النجوم من المناحس والبلاء.

وكانوا لا يشكون أنهم إذا دعوا الله بالنية والإخلاص ورقة القلب والبكاء والتضرع والتوبة والإنابة أن يصرف عنهم ما يخافون ويكشف عنهم ما هم مبتلون به، ويتوب عليهم ويغفر لهم ويجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم، وكانوا يستعملون عند الدعاء والتسبيح والقراءة ألحانا من الموسيقى تسمى «المحزن»، وهي التي ترقق القلوب إذا سمعت، وتبكي العيون، وتكسب النفوس الندامة على سالف الذنوب وإخلاص السرائر وإصلاح الضمائر، فهذا كان أحد أسباب استخراج الحكماء صناعة الموسيقى واستعمالها في الهياكل وعند القرابين والدعاء والصلوات.

وكانوا أيضا قد استخرجوا لحنا آخر يقال له: «المشجع» كانت تستعمله قادة الجيوش في الحروب والهيجاء يكسب النفس شجاعة وإقداما، واستخرجوا أيضا لحنا آخر كانوا يستعملونه في المارستانات، وقت الأسحار، يخفف ألم الأسقام والأمراض عن المريض ويكسر سورتها ويشفي من كثير من الأمراض والأعلال، واستخرجوا أيضا لحنا آخر يستعمل عند المصائب والأحزان والغموم في المآتم، يعزي النفوس، ويخفف ألم المصائب، ويسلي عن الاشتياق، ويسكن الحزن. واستخرجوا أيضا لحنا آخر يستعمل عند الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة مثل ما يستعمله الحمالون والبناءون وملاح الزواريق وأصحاب المراكب؛ يخفف عنهم كد الأبدان وتعب النفوس.

صفحه نامشخص