أعجب بها من حقيقة! أيخفق ذاك الكفاح الجبار ولما يتسلم ماهيته الجديدة؟
أتصاب الحظوظ كالأعمار بالسكتة القلبية؟!
وقطع عليه تفكيره صوت أبيه وهو يسأل محزونا: ما معنى هذا يا بني؟
وكأن هذه الجملة نفط ألقي على صدره الملتهب، فالتفت نحوه هائجا تقدح عيناه شررا، وقال بحنق وحقد: انتهى كل شيء، انتهت الوظيفة والماهية. هلم نتسول معا ...
وارتسمت في عيني الرجل الذابلتين نظرة زائغة ذاهلة، وبدا في حيرة قتالة وكرب عظيم. لم يصدق ما رأت عيناه ولا ما سمعت أذناه، كابد الألم الممض والغضب المختنق، ولولا ما آنس من قنوط ابنه وهذيانه لانفجر بركانه. لم تنته الوظيفة والماهية فحسب، ولكن ابنه نفسه انتهى، ولم يعد ذا مال ولا ولد، وسيقول لامرأته إذا عاد إلى بلده: لا تسألي عن محجوب؛ فقد انتهى محجوب وغدا ذكرى من الذكريات. وشعر عند ذاك بإعياء وخور، وبأنه يسقط إن لم يطمئن إلى مجلس، فولى الشاب ظهره، وعاد أدراجه في خطوات ثقيلة، متوكئا على عصاه يكاد يقع على وجهه.
وارتمى محجوب على مقعده في الصالة، مرتفقا يد المقعد، مسندا رأسه إلى راحته. وكان السكون شاملا كأنه بيت مهجور، وكل شيء بموضعه كأن أمورا خطيرة لم تنقلب رأسا على عقب. هل تستطيع روحه الثائرة أن تصمد لهذا الشلال العارم من الحظ العاثر؟! هل يمكن أن ينبري لمواجهة هذه الأزمة الخطيرة بدرعه المعهود: طظ؟ وما الحيلة إذا لم يستطع؟ ... ما عسى أن يصنع أناني مثله، لا يهمه في الدنيا شيء إلا نفسه، إذا تألب الشقاء على سعادته؟ أمامه سبيل واحد هو الموت ! تبا لحظه! كيف انتهى مجده بهذه السرعة الجنونية؟! ألا تكتظ الدنيا بأمثاله من المغامرين الذين تترفق بهم حتى النهاية؟! وتنبه من تأملاته على وقع أقدام خفيفة، فرفع رأسه المثقل، فرأى إحسان أمامه تطالعه بوجه تعلوه صفرة الموت. التقت عيناهما في صمت أليم وكأن كليهما يقول لصاحبه: «أهذه نهاية الكفاح والتعب؟!»
وخرجت عن صمتها أخيرا، فسألته بنبرات متضعضعة: هل ذهبوا؟
فأجابها في مثل نبراتها: أجل ... كما ترين.
فترددت هنيهة ثم سألت: ما عسى أن ينتظرنا؟
وكيف يدري هو؟! بيد أنه هز رأسه وقد أخذت يسراه تشد حاجبه، وقال: لا أعلم الغيب، يحتمل حدوث أي شيء، ولكن لا مفر من التشاؤم؛ فالأمر المؤكد أن أحلامنا تبددت. هذه هي الحقيقة.
صفحه نامشخص