القاهرة الجديدة
القاهرة الجديدة
القاهرة الجديدة
القاهرة الجديدة
تأليف
نجيب محفوظ
القاهرة الجديدة
1
مالت الشمس عن كبد السماء قليلا، ولاح قرصها من بعيد فوق القبة الجامعية الهائلة، كأنه منبثق منها إلى السماء، أو عائد إليها بعد طواف، يغمر رءوس الأشجار والأرض المخضرة وجدران الأبنية الفضية والطريق الكبير الذي يشق حدائق الأورمان بأشعة لطيفة امتصت برودة يناير لظاها، وبثت في حناياها وداعة ورحمة. وقد قامت القبة على رأس صفين من الأشجار الباسقة امتدت مع الطريق، فلاحت كإله يجثو بين يديه كهنته العابدون ساعة العصر والسماء متجلية في صفاء، مطرزة بعض نواحيها المترامية بسحائب رقاق، والهواء يتخبط بين الأشجار باردا فترجع أوراقها أنينه ونحيبه.
في السماء دارت حدآت حيارى، وعلى الأرض انطلقت جماعات الطلبة. كانوا يغادرون الفناء الجامعي إلى الطريق مشتبكين في أحاديث شتى، ثم لاحت بينهم جماعة من الطالبات لا يتجاوزن الخمس، يسرن في خفر ويخلصن نجيا. وكان ظهور الفتيات في الجامعة لا يزال حدثا طريفا يستثير الاهتمام والفضول، خاصة للطلبة المبتدئين؛ فجعل هؤلاء يتبادلون النظرات ويتهامسون، وربما علت أصواتهم فبلغت آذان زملائهم. قال طالب: لا يوجد وجه واحد بينهم يوحد الله؟
صفحه نامشخص
فأجاب طالب آخر بلهجة لم تخل من تهكم: إنهن سفيرات العلم لا الهوى ...
فقال ثالث بحمية انتقادية، وهو يتفحص ظهور الفتيات المهزولات: ولكن الله خلقهن ليكن سفيرات الهوى!
فقهقه الأول ضاحكا، وقال مدفوعا بروح الاستهتار والادعاء: اذكر أننا في الجامعة، وأن الجامعة مكان لا يجوز أن يذكر فيه لا الله ولا الهوى. - منطقي جدا ألا يذكر الله، أما الهوى ...؟
فقال أحدهم بلهجة تقريرية تنم عن أستاذية ليس وراءها مطمع لعالم: الجامعة عدو لله لا للطبيعة ... - نطقت بالحق، ولا يؤيسنكم قبح هؤلاء الفتيات؛ فهن دفعة أولى للجنس اللطيف، وسيتبعهن أخريات. الجامعة موضة حديثة لا تلبث أن تنتشر، وإن غدا لناظره قريب ... - أتحسب أن فتياتنا يقبلن على الجامعة كما أقبلن على السينما مثلا؟ - وأكثر، وسترى هنا فتيات على غير هذا المثال السيئ. - وسيزحمن الشباب بلا رحمة. - الرحمة هنا رذيلة. - ولن يكلفن أنفسهن مشاق الحشمة؛ فالقوي لا يحتشم! - وربما استعرت بين الجنسين نار! - ما أجمل هذا ...! - وانظر إلى الأشجار والخمائل! إن الحب يتولد فيها من تلقاء نفسه كما تتولد الديدان في قدور المش. - رباه! هل ندرك ذلك العصر السعيد؟! - بيدك أن تنتظره إذا شئت ...؟ - نحن في بدء الطريق والمستقبل باهر.
وانتهوا من الحديث العام، وتناولوا الفتيات - فتاة فتاة - بالتهكم المرير والسخرية اللاذعة ... •••
وكان أربعة يسيرون معا على مهل، يتحادثون أيضا، وربما أصغوا بانتباه إلى ما يبلغ آذانهم من هذر الشباب. كانوا من طلبة الليسانس، يشارفون الرابعة والعشرين، وتلوح في وجوههم عزة النضوج والعلم ... ولم تكن تخفى عليهم خطورة شأنهم، أو بالحري كانوا يشعرون بها أكثر مما ينبغي. قال مأمون رضوان بلهجة انتقادية: لا حديث للفتيان إلا الفتيات!
فقال علي طه معقبا على انتقاد زميله: وماذا عليهم من ذلك؟ إنهما نصفان يطلب أحدهما الآخر منذ الأزل.
وقال محجوب عبد الدايم: اعذرهم يا أستاذ مأمون؛ فاليوم الخميس، والخميس عند الطلبة يوم المرأة بلا منازع.
فابتسم أحمد بدير ابتسامة خفيفة - وهو طالب وصحافي معا - وقال بنبرات خطابية: أدعوكم أيها الإخوان إلى إعلان آرائكم في المرأة، على ألا يزيد البيان عن كلمات معدودات. ماذا تقول يا أستاذ مأمون رضوان؟
فارتبك الشاب، ثم ابتسم قائلا: أتريد أن تحملني على حديث أنتقد الغير على خوضه ...؟ - لا تحاول الهرب، هلم، كلمات معدودات، أنا صحافي والصحافي لا ييئس من حديث أبدا ...
صفحه نامشخص
وكان مأمون رضوان يعلم أن مراوغة أحمد بدير أمر عسير، فاستسلم قائلا: أقول ما قال ربي؛ فإن رغبت في معرفة أسلوبي الخاص، فالمرأة طمأنينة الدنيا، وسبيل وطيء لطمأنينة الآخرة.
وتحول أحمد بدير إلى علي طه، ودعاه للكلام بإيماءة من رأسه.
فقال الشاب: المرأة شريك الرجل في حياته كما يقولون، ولكنها شركة دعامتها - في نظري - ينبغي أن تكون المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات.
فالتفت أحمد بدير إلى محجوب عبد الدائم وسأله ضاحكا: ورأي شيطاننا العزيز؟
فقال محجوب عبد الدائم باهتمام مسرحي: المرأة ... صمام الأمن في خزان البخار ...
فضحكوا كما تعودوا أن يضحكوا عقب سماع آرائه، ثم سألوا أحمد بدير: وأنت ما رأيك؟
فقال الشاب باستهانة: على الصحافي أن يسمع لا أن يتكلم، خاصة في عهدنا الحاضر.
2
وانعطفوا مع أول طريق مقاطع لطريق الجامعة، وساروا في اتجاه المديرية. كان مأمون رضوان أطولهم قامة، ومحجوب عبد الدائم في مثل طوله تقريبا، أما علي طه فربعة متين البنيان، وأما أحمد بدير فقصير جدا، كبير الرأس جدا. وكان مأمون رضوان يريد أن يختم ساعات العمل أجمل ختام قبل أن يستقبل يوم اللهو، فقال بصوته المتهدج الصاعد من قلبه: أنسانا حديث المرأة ما نحن بصدده، فما تعليقكم النهائي على المناظرة التي شهدناها ...؟
دارت المناظرة حول «المبادئ» وهل هي ضرورية للإنسان أو الأولى أن يتحرر منها.
صفحه نامشخص
فقال علي طه مخاطبا مأمون رضوان: نحن متفقان على ضرورة المبادئ للإنسان، هي البوصلة التي تهتدي بها السفينة وسط المحيط ...
فقال محجوب عبد الدائم بهدوء ورزانة: طظ ...
ولكن علي طه لم يلق إليه بالا، واستدرك مخاطبا مأمون: بيد أننا مختلفان في ماهية المبادئ ...
فقال أحمد بدير وهو يهز كتفيه: كالعادة دائما ...!
فقال مأمون وقد تألقت عيناه بنور خاطف شأنه عند الاهتمام: حسبنا المبادئ التي أنشأها الله عز وجل.
فقال محجوب عبد الدائم كالمتعجب: لشد ما يدهشني أن يؤمن إنسان مثلك بالأساطير ...
فاستطرد علي طه قائلا: أومن بالمجتمع، الخلية الحية للإنسانية، فلنرع مبادئه على شرط ألا نقدسها؛ لأنه ينبغي أن تتجدد جيلا بعد جيل بالعلماء والمربين.
فسأله أحمد بدير: ماذا يحتاج جيلنا من مبادئ؟
فقال علي بحماس: الإيمان بالعلم بدل الغيب، والمجتمع بدل الجنة، والاشتراكية بدل المنافسة ...
فعلق محجوب عبد الدائم على كلامه قائلا: طظ ... طظ ... طظ ...
صفحه نامشخص
فسأله أحمد بدير: وأنت يا أستاذ محجوب، ما رأيك في المناظرة؟
فأجابه بهدوء: طظ ... - هل المبادئ ضرورية؟ - طظ ... - غير ضرورية إذن؟ - طظ ... - الدين أم العلم؟ - طظ ...
في أيهما؟! - طظ ... - أليس لك رأي ما؟ - طظ ... - وهل طظ هذه رأي يرى؟
فقال محجوب بهدوئه المصطنع: هي المثل الأعلى ...
والتفت مأمون رضوان إلى علي طه وقال، وجل همه أن يذكر رأيه لا أن يجذب أحدا إلى عقيدته: الله في السماء، والإسلام على الأرض، هاكم مبادئي ...
فابتسم علي طه وقال بدوره كما قال محجوب عبد الدائم من قبل: لشد ما يدهشني أن يؤمن إنسان مثلك بالأساطير ...
فقهقه محجوب قائلا: طظ ...
وألقى عليهم نظرة سريعة وهم آخذون في مسيرهم، وقال: يا عجبا! كيف تجمعنا دار واحدة؟ ... أنا رأسي هواء، والأستاذ قمقم مغلق على أساطير قديمة، وعلي طه معرض أساطير حديثة.
ولم يلقيا بالا إلى قوله؛ لأنه طالما أعيتهما معرفة الحد بين جده وهزله، ولأن مناقشته متعبة؛ فهو يروغ من التطويق بالتهريج.
وكانوا شارفوا دار الطلبة على ناصية شارع رشاد باشا، فودعهم أحمد بدير وذهب إلى الجريدة التي يعمل بها مساء، ومضوا ثلاثتهم إلى الدار ليأخذوا أهبتهم لسهرة الخميس.
صفحه نامشخص
3
تقع دار الطلبة على ناصية شارع رشاد باشا. هي قلعة هائلة ذات فناء مستدير واسع، يقوم بنيانها على محيطه في شكل دائرة، مكونة من طباق ثلاثة، يتركب كل واحد منها من سلسلة دائرية، من الغرف المتلاصقة تفتح أبوابها على ردهة ضيقة تطل على الفناء. كان الأصدقاء الثلاثة يسكنون ثلاث حجرات متجاورة في الطابق الثاني، وقد صعد مأمون رضوان إلى حجرته الصغيرة، وأخذ في تغيير ملابسه، وكانت الحجرة مؤثثة بفراش صغير، يقابله صوان، يتوسطهما وراء النافذة الصغيرة مكتب متوسط وضعت عليه الكتب والمراجع. وكان الشاب ممن يحبون الكتب حبا بالغا؛ فما إن وقعت عيناه على معجم «لالاند» حتى لاحت على شفتيه ابتسامة خفيفة وشت بحبه وولعه، بيد أنه لم يضع وقتا، فتوضأ وصلى العصر، ثم ارتدى «ملابس العطلة» وغادر الحجرة إلى الطريق، ومضى يرسم جسمه الرشيق هيئة عسكرية جذابة في مسيره، وكان ذا قوام ممشوق، نحيفا في غير هزال، أبيض الوجه مشربا بحمرة، أجمل ما فيه عينان سوداوان نجلاوان، تلوح فيهما نظرة لامعة، تذكي ضياء وجمالا وذكاء، وكان يتقدم في مسيره لا يلوي على شيء، لقدميه وقع شديد، ولعينيه هدف لا تحيدان عنه، كان هدفه ذلك اليوم بيت خطيبته بمصر الجديدة. وكان مأمون يعالج أمور قلبه بنفس النزاهة والاستقامة اللتين يعالج بهما جميع أمور حياته ... خطب الفتاة - وهي كريمة قريب له من ضباط الجيش العظام - بعد مشورة أبيه، وتم الاتفاق على أن يعقد عليها عقب الانتهاء من دراسته، وصار يتردد على بيتها كل خميس، فيجالس الأسرة مجتمعة، ويمضي بضع ساعات في سمر لذيذ، ولم يخطر له على بال قط أن يدعو فتاته إلى السينما، أو أن يدبر حيلة للانفراد بها؛ ذلك أنه كان من الكافرين بالبدع الحديثة - على حد تعبيره - الثائرين عليها، فلقي سلوكه من أسرة الفتاة - أسرة حافظت على تمسكها بالتقاليد القديمة - كل إعجاب وتقدير، بيد أن ذلك لم يمنع قلبه من الخفقان وهو آخذ في طريقه المعهود، فبلغ طريق الجيزة بعد دقائق واستقل الترام. وبدا في جلسته المعتادة، ونظرته الصافية، وقامته العالية، شخصية غنية بعناصر الجمال والجلال؛ فلو أراد أن يكون عمر بن أبي ربيعة لكان، ولكنه كان ذا عفة واستقامة وطهر لم يجتمع مثلها لشاب. كان ضميرا نقيا، وسريرة صافية، كان قلبا مخلصا ينشد الدين الحق والإيمان الراسخ والخلق القويم، وقد نشأ في طنطا، وكان والده مدرسا بالمعاهد الدينية - رجل ذو دين وخلق - فشب في بيئة أقرب إلى البداوة بساطة ودينا وخلقا وقوة، وعرض له في صباه عارض ترك في حياته أثرا قويا؛ ذلك أنه أصيب بمرض أقعده عن اللحاق بالمدارس حتى الرابعة عشرة، فذاق مرارة العزلة، وعرف الألم، وانصهر في أتون تجربة قاسية، ولكنه استطاع أن يدرس الدين على والده فتفقه فيه غلاما يافعا. ولما دخل المدرسة الابتدائية دخلها فتى مراهقا، وقلبا كبيرا، وروحا حيا، وذكاء وقادا. على أنه لم يخل من تعصب وحدة، بل كانت تعتريه لحظات قسوة جنونية، تنضب فيها خصوبة نفسه، فينطلق كلسان من لهب يلقف ما يلقاه، ويلتهم ما يتصدى له، فيضاعف العمل إن كان يعمل، أو يستغرق في العبادة إن كان يعبد، أو يحتد في النقاش إن كان يناقش، أو تعلوه الكآبة والانقباض إن كان يعتزل. وفي تلك الحياة البسيطة لم يجد الفتى سبيلا إلى تحقيق ذاته إلا في العمل، فبز الأقران جميعا، وكان في قدرته أن يتعبد ساعات متتابعات لا يسكت لسانه عن ذكر الله، وكان يذاكر في الأيام الأخيرة من العام الدراسي عشرين ساعة في اليوم، فكان أول الناجحين في البكالوريا، كما ينتظر أن يكون أولهم في الليسانس، فصار التفوق من أحلامه العليا كالإسلام والعروبة والفضيلة، ولم يسمح لمخلوق أن يدانيه في تفوقه، ولكن لم ترسب للمنافسة في صدره أبخرة خبيثة، بفضل قوته الخارقة، وثقته الكبيرة بنفسه، وإيمانه الراسخ بالله، فسما بإنسانيته إلى أعلى المراتب؛ ولذلك لم يجعل من إيمانه سبيلا إلى الزهد العاجز أو الفناء في الغير، فكان يقول: إن الإيمان امتلاء بالقوة الربانية لتحقيق مثل الله العليا على الأرض. فكان شابا عظيما، وإن أخفق أن يكون محبوبا؛ لأن تفوقه مثار لحسد الحاسدين، وسلوكه احتقار صامت لحياة الآخرين، ثم إنه لم ينج من ميل للوحدة تأصل في طبعه منذ عهد مرضه العصبي الطويل، هذا إلى جهل بأصول اللباقة الاجتماعية، ونكران لروح الفكاهة، وولع بالصراحة جعلت من حديثه أحيانا سوط عذاب؛ فسماه منتقدوه تارة بالجامعي الريفي، وتارة بالمهدي غير المنتظر. وقال عنه طالب مرة: «الأستاذ مأمون رضوان إمام الإسلام في عصرنا هذا، وقديما أدخل عمرو بن العاص الإسلام في مصر بدهائه، وغدا يخرجه منها مأمون رضوان بثقل دمه.» وظل الشاب على ولائه للتفوق وإن خافه ومقته في أحايين كثيرة. أجل، كان يخاف ذلك الشعور بالتعالي والتفوق، ويستعيذ بالله من شره، ولكنه عجز عن قهره؛ ولذلك لم يرمق عظيما بعين الإعجاب الحق، وأعلن في صراحته يوم افتتح الملك الجامعة استهانته برجال الدولة الذين حضروا الاحتفال؛ ولذلك أيضا جعل يهز منكبيه استهانة كلما رأى الطلبة يتحمسون لمن يدعونهم بالزعماء، وكان ينكر الأحزاب جميعا، ويأبى الاعتراف ب «القضية المصرية»، ويقول بحماسه المعهود: إن هناك قضية واحدة هي قضية الإسلام عامة، والعروبة خاصة. ومن عجب حقا أنه لم يتأثر بموضة الإلحاد التي كانت ذائعة بين طلبة الجامعة على عهده بها، وإنما مرد ذلك إلى أنه التحق بالجامعة، في الثالثة والعشرين، وقد آمن إيمانا راسخا بثلاثة أشياء لم ينكرها بعد ذلك طول حياته؛ الله، الفضيلة، قضية الإسلام. فلم يزغ بصره حيال نور الجامعة الجديد، ولبثت صخرة إيمانه القائمة تتكسر عليها أمواج السيكولوجي والسسيولوجي والميتافيزيقا. تحدى بإيمانه العلم والفلسفة جميعا، وجعلهما من ذرائعه ومقوماته، وسره أيما سرور أن يجد أعلام الفلاسفة في ظل الله دائما؛ أفلاطون وديكارت وبسكال وبرجسون. كما رحب قلبه المخلص بالوفاق الذي بشر به القرن العشرون بين العلم والدين والفلسفة؛ فاليوم تنحل المادة إلى شحنات كهربية أشبه بالروح منها بالمادة، واليوم تسترد الروحية عرشها المسلوب، واليوم يشغل العلماء بالتفكير الديني، ويرد رجال الدين شرائع العلم والفلسفة؛ فطوبى للشاب الفيلسوف المؤمن! غير أن شاب الجيزة تغير عما كان عليه فتى في طنطا المصاب، صار أوسع صدرا وأرحب فهما، أمكنه أن يصغي إلى مجون محجوب عبد الدائم مبتسما، وأن يناقش علي طه في قيمة الدين والإلحاد، وأن يتلقى صابرا سهام الناقدين والساخرين، إلا إذا احتد واتقدت عيناه وعرته تلك اللحظة الرهيبة؛ فهناك يرتد عنه البصر وهو حسير! وكان الشاب يجد بين زملائه مؤمنين صادقين، فلم يشعر في إيمانه بعزلة، ولكنه لم يظفر بواحد يشاركه حماسه في الدعوة إلى الإسلام والعروبة؛ فقد استغرقت الأذهان أمور أخرى في ذلك الوقت كالقضية المصرية، ودستور سنة 1923، ومقاطعة البضائع الأجنبية، ولكن الفتى لم ييئس في وحدته، ولا كان من الممكن أن يخالط اليأس قلبا كقلبه.
عاش مشغولا بالآمال الكبار، إلا أن قلبه استطاع أيضا أن يتنسم الحياة، وأن يخف مسرورا إلى استقبالها ... بل جعل ينظر من نافذة الترام إلى الخارج في شبه جزع، يود لو يطوي الترام في غمضة عين الطرق إلى مصر الجديدة ...
4
ولبث علي طه في حجرته حتى مالت الشمس إلى المغيب، وكان يجلس إلى النافذة وعيناه إلى شرفة دار صغيرة قديمة، تقع عند مدخلها دكان سجائر، تقوم على ناصية شارع العزبة - امتداد شارع رشاد باشا من ناحية عزبة الدقي - فيما يواجه دار الطلبة. كان مرتديا ملابسه إلا طربوشه ، متأنقا كعادته، يحسب الناظر إلى منكبيه العريضين أنه من هواة الرياضة البدنية، وكان فتى جميلا ذا عينين خضراوين، وشعر ضارب لصفرة ذهبية، ودلالة واضحة على النبل. لبث ينظر إلى شرفة الدار الصغيرة القديمة بعينين تتحير فيهما نظرة انتظار ولهفة حتى دبت فيهما حياة ويقظة بدخول فتاة إلى الشرفة، فنهض ملوحا بيديه، فابتسمت إليه وأومأت إلى الطريق، فلبس طربوشه وغادر الحجرة ثم الدار، وانطلق إلى شارع رشاد باشا، ومضى يتمشى متمهلا في الشارع الكبير، قامت على جنبيه الأشجار الباسقة تقبع وراءها القصور والفيلات، وجعل يرسل الطرف فيما وراءه بين لحظة وأخرى، حتى رأى - على ضوء الغروب الهادئ - صاحبة الشرفة قادمة تخطر، فدار على عقبيه خافق الفؤاد من السرور، واتجه نحوها مورد الوجه، حتى التقت أيديهما، فاشتبكت اليمنى في اليسرى، واليسرى في اليمنى، وغمغم الفتى: أهلا ...
فغمغمت ووجهها يشرف بابتسامة لطيفة: مساء الخير ...
واستخلصت يديها برفق، وتأبطت ذراعه، واستأنفا السير إلى شارع الجيزة يمشيان مشية المتمهل الذي ليس له وراء المشي من غاية. هي فتاة في الثامنة عشرة، تضيء محياها بشرة عاجية، وعينان سوداوان يجري السحر في حورهما والأهداب، أما شعرها الفاحم وما يحدثه تجاوب سواده مع بياض البشرة فيخطف الأبصار، وقد حوى معطفها الرمادي جسما لدنا ناضجا ينتشر سحرا ووهجا. سارا متمهلين يبهج منظرهما الشباب والحياة. وجعل علي طه يرقب أنحاء الطريق بطرف حذر كأنما يطلب غرة، والفتاة تلحظه بطرف خفي منتظرة على شوق وسرور، حتى اطمأن الفتى إلى غفلة العيون، فضم أصابعه تحت ذقنها، وأدار وجهها إليه، وألصق شفتيه بشفتيها حتى رطبتا برضابها، ثم رفع وجهه متنهدا من الأعماق، وتتابع خطوهما صامتين، ورأته يلقي نظرات فاحصة، فذكرت - على سحر الموقف وفتنته - معطفها الذي كاد يبلى، ففتر سرورها، وقالت بالرغم عنها: أيسوءك أن ترى دائما هذا المعطف العتيق؟
فلاح الإنكار في وجه الشاب، وقال مؤنبا: كيف تلقين بالا إلى هذه الصغائر؟ إن في المعطف كنزا جعله الحظ السعيد من نصيبي.
ولم توافقه على أن المعطف من «الصغائر»، بل كانت تقول لنفسها مرات متأسفة: إن العيش السعيد شباب وثياب! ولحظت بذلته الصوفية الأنيقة فرغبت في لومه، وقالت: يا لك من مراء! أتعد اللباس من الصغائر وأنت تتأنق مزهوا ...؟ فتورد وجهه حياء، وبدا كالطفل المرتبك، ثم قال كالمعتذر: البدلة جديدة ... وليس من الممكن ابتياع بدلة قديمة، ولكن الملابس أعراض تافهة، أليس كذلك يا حبيبتي؟
بيد أنها خافت مناقشته؛ لأنه كان يتوثب للمناقشة باهتمام، ويقف منها موقف المعلم، ولم تكن ترتاح إلى ذلك، والواقع أنه لم يكن يخلو من تناقض. كان كثيرا ما يستهين بالملابس والمآكل ونظام الطبقات، ولكنه كان يلبس فيتأنق، ويأكل لذيذ الطعام حتى يشبع، وينفق عن سعة. أما إحسان شحاتة فكان لديها ما تقوله، وما تعلم أنه ينتظر رأيها فيه، فقالت بصوته الرخيم الذي يعابث الغرائز: كدت أتم الكتاب الذي أعرتنيه.
صفحه نامشخص
فبدا الاهتمام على وجهه؛ لأنه كان يرغب أن يحب عقلها كما يحب شخصها، وسألها: ورأيك؟
فقالت بصراحة: فهمت أقله، ولم أفز من هذا القليل بطائل.
فشعر بخيبة وسألها: ولمه؟
فابتسمت إليه لتخفف من وقع كلامها واستدركت: محور الكتاب - الذي تسميه قصة - أفكار وآراء، وأنا أرتاد في الكتب الحياة والعاطفة! - ولكن الحياة فكر وعاطفة!
فلمت أطراف شجاعتها وقالت: لا تطوقني بمنطقك؛ فربما لا أستطيع دفعه، ولكنه لن يغير من ذوقي، الموسيقى مقياس الفن الحقيقي في نظري، فما تجاوز مادة الموسيقى في الكتاب لا ينبغي أن يعد من الفن في شيء.
فهاله رأيها، وابتسم ابتسامة باهتة، وقال بأسف: إنك تحرمين على نفسك أشهى ثمار الفن الحقيقي ...
فقالت ضاحكة: مجدولين، آلام فرتر، آلام رفائيل؛ تلك آيات الفن الذي أحبه.
قالت ذلك بلهجة من يقول: «لكم دينكم ولي دين.» فأمسك الشاب عن الكلام، وتساءل: هل ييئس حقا من تغيير رأيها؟ إنه يريد صادقا أن يتحابا بقلبيهما وعقليهما، وأن تكون شركة حياتهما تامة منسقة، وأن يجد فيها الحبيبة والزميلة والند المحترم. إنه يحبها حبا يملك عليه قلبه ونفسه، ولكنه يرجو أن يجعل منها في المستقبل زوجا غير الزوج التي تعرفها البيوت الشرقية. وانتهى بهما المسير إلى شارع الجيزة، فانعطفا إلى يسارها، وتنهد الشاب بارتياح؛ فالشارع كالمقفر، وجوه كالمظلم، ورفع راحتها إلى فمه، ولثمها بشغف، ثم مال نحوها فأخذ قبلة مطمئنة لذيذة الطعم، من شفتين ممتلئتين طريتين، ولمحها تسبل جفنيها لوقع القبلة، فانتفض جسمه القوي، وشاعت في روحه شرارة سرور مكهربة، وقال وهو يزدرد ريقه: ما ألطفك ... ما أجملك!
ومضت فترة سكون لذيذة ساحرة، ثم تنهد وقال في شبه حسرة: بيني وبين الامتحان النهائي أشهر معدودات، أما أنت؟
فقالت: امتحان البكالوريا في يونيو. ماذا تختار لي؟
صفحه نامشخص
فقال الشاب بحماس: كليتي ...
وهي وإن كانت الضرورة تحتم عليها أن تتم دراستها، إلا أنها ودت لو قال لها مثلا: «حسبك دراسة وهلمي إلى عشنا!» فشعرت بشيء من الاستياء وسألته: لماذا أختار كليتك؟ - لنكون عقلا واحدا، وفنا واحدا، ومهنة واحدة ... - مهنة واحدة؟
فقال بحماسه الذي لا ينضب: أجل يا حبيبتي، وظيفة المرأة أخطر شأنا من عمل الجارية. محال أن أخون مبادئي، أو أن أرضى بحرمان المجتمع عضوا جميلا نافعا مثلك!
وكانت مقتنعة برأيه على وجه آخر؛ لأن الضرورة تملي عليها أن تختار مهنة يوما ما، بيد أنه ضايقها - وإن لم تدر لماذا - حماسه لرأيه، وودت لو كانت هي التي حملته على قبوله على تمنع وتردد منه.
ومضيا في الطريق المقفر، يستلهمان آمالهما الحديث، ويفصلان حديثهما بالقبل.
كانت إحسان شحاتة عظيمة الشعور بأمرين؛ جمالها وفقرها. كان جمالها فائقا، وقد استأسر سكان دار الطلبة، وجعل سكان الحجرات يرسلون شواظ أنفسهم فتلتقي جميعا في شرفة الدار الصغيرة البالية، وترتمي عند قدم الفتاة الحسناء الفخور، ولكن لم توجد بالدار مرآة حقيقة بأن تعكس ذلك الجمال الصبيح؛ فالفقر حقيقة ماثلة كذلك، وقوى شعورها به إخوتها السبعة الصغار، وأن لا مورد لهم إلا دكان سجائر مساحتها متر مربع، وجل زبائنها من الطلبة! وطالما خافت على جمالها عوادي الفقر، وسوء التغذية. والواقع أنه لولا وصفات أمها - كانت الأم من قيان شارع محمد علي قبل أن يتزوجها المعلم شحاتة تركي - لهزل جسمها، ولذبل ردفاها اللذان مدحهما أحد شعراء كلية الطب بمعلقة رنانة. وقد عرفت علي طه، اختاره قلبها من دار الطلبة جميعا، وحظي بإعجابها شبابه وجماله ونبله ومستقبله، بيد أن أمرين هامين جعلا يتنازعان قلبها من أول لحظة؛ حياة قلبها وحياة أسرتها، أو بمعنى آخر علي طه والإخوة السبعة الصغار. وكانت عرفت - قبل علي طه - شابا موسرا من طلاب القانون، وقد أدركت من سلوكه أنه يطمع فيها متعة لقلبه ولهوا لشبابه، فأخذت حذرها، وكان والداها يطلعان على أسرار حياتها، فما راعها إلا إغراء أمها وطمع أبيها في مال الشاب! وتنبهت إلى حقائق حياتها المرة، وخوافيها المحزنة. والواقع أن والديها لم يضمرا للأخلاق احتراما قط، وكانت شركتهما عشقا قبل أن تصير زواجا، وظل أبوها يرتزق في سوق الجمال بجماله وصفاقته حتى تزوجته أمها ووهبته ما ادخرت من مال ليتاجر به، فبدد ما بدد على المخدرات والقمار، وبقيت له دكان السجائر الصغيرة، ولكنه كان يقول لنفسه متعزيا: «ضاعت حياتي حقا، ولكن البركة في إحسان.» فوجدت فيه الفتاة كما وجدت في أمها عونا للشيطان والسقوط، ولكنها لم تسارع إلى السقوط؛ فقد تلقت إهانة عن غير قصد، فثار كبرياؤها وأنقذها؛ إذ رأت الشاب صديقها يجالس أباها يوما في الدكان، فأدركت أنه يساومه على عرضها، وثار غضبها، وشعرت بالخزي والعار، ثم قطعت الشاب بقسوة لم تدع له أملا! خرجت من التجربة ظافرة، ولكن بعد أن علمت أنها تعيش في بؤرة، ثم إنها شعرت في قرارة نفسها بأنها تخلصت فجأة من الرقابة والقيود، وأنها صارت حرة تفعل ما تشاء بغير حساب. وأحدث شعورها بتلك الحرية المطلقة في نفسها ثورة، لبثت حينا بغير هدف ولا وازع أيضا، ولكن يقظة جنونية دبت في عواطفها فتمطت ترتاد متنفسا، وإن عقلها الحياء والتردد. كان الجو خانقا، والرئتان سليمتين، فدلت الظواهر على أن النهاية محتومة ما منها مناص، وجعل أبوها الفاجر يقول لها متأسفا على ضياع الشاب الموسر: «إنك مسئولة عنا جميعا، وخصوصا إخوتك السبعة.» رباه، هل تستطيع أن تعتصم بإرادتها حيال تلك الدوافع الفاجرة؟ ألا يمكن أن يتواصوا بالصبر حتى تتم تعلمها بمعهد التربية وتجد مهنة شريفة ترتزق منها؟! واستسلمت للمقادير في غير ثقة ولا إيمان شأن ضعاف الإرادة ... حتى جاء علي طه. وجدت في علي ودا صادقا، وإخلاصا قويا، ومقصدا نبيلا، فدعم إرادتها المزعزعة، وأنقذها من غمرة الحيرة والخوف، وأعاد إليها شعور الاحترام والكبرياء؛ فأحبته وناطت به آمالها، ورمق عم شحاتة تركي الشاب الجديد باستياء، وقال عنه: «إنه شاب فقير، حتى السجائر لا يدخنها!» وقال للفتاة مرة ساخرا: «مبارك عليك الشاب الجميل الذي بعثه الله ليجوعنا!» ولكنها أعرضت عنه، ووضعت أملها في المستقبل؛ فهو كفيل بأن يهيئ لها مهنة محترمة، وأن يحقق لها أحلام قلبها ...
أما علي طه فكان شابا ذا مزايا حسنة كثيرة، كان مثالا طيبا للروح الاجتماعية الحقة؛ ففي عهد دراسته الأول كان عضوا بارزا في القسم المخصوص، وجمعية الرحلات المدرسية، وجماعة الخطابة والصحافة، يجيد الحديث والخطابة وطهي الطعام والغناء، مع ميل محمود للاطلاع والثقافة، واستمساك مخلص بالفضيلة. وبانتقاله إلى الجامعة ضاق ميدان نشاطه، ولكنه عمق وارتفع، فصار «الأستاذ» علي رئيسا لجماعة المناظرات، وتميز على الأقران بقوته الخطابية وثقافته العامة وحضور بديهته، وكان يهتم بالمثل العليا، ويتحدث بحماس وإيمان عن المدينة الفاضلة، فصدقه عارفوه، ولكن بعض المغرمين بالنقد أشاعوا عنه أنه داهية لا يشق له غبار، وأنه يغزو الأوساط جميعا ملثما بالفضيلة، فيصيد الحسان باسم العلم والفضيلة، وأنه يتحدث عن الأخلاق كما تتحدث الخاطبة عن عروس لم ترها، ولكنهم غالوا وكذبوا. والحقيقة أن الشاب كان صادقا مخلصا، وأنه إذا كان يحب الجمال فقد أحبه بنزاهة وإخلاص. بيد أن حياته لم تخل من أزمات عنيفة؛ فقد تزعزعت عقيدته منذ مستهل حياته الجامعية، وتعرض لآلام التحول الفتاكة، ولكنه كان شجاعا صادقا، فاستقبل الحياة الجديدة بإرادة متوثبة، وعقل شغوف بالحق، ولم يكن من الهازئين الماجنين، ولم يكتم إعجابه بمأمون رضوان لصدقه وشجاعته، ولكنه ارتمى بين أحضان الفلسفة المادية؛ هيجل وستولد وماخ، وآمن بالتفسير المادي للحياة، وارتاح أيما ارتياح للقول بأن الوجود مادة، وأن الحياة والروح تفاعلات مادية معقدة ، وأن الشعور صفة ملازمة عديمة الأثر كصوت العجلة الذي يلازم دورانها دون أن يكون له فيه أي أثر. وطالما قال له مأمون رضوان: إن الفلسفة المادية فلسفة سهلة، ولكنها لا تحل مسألة واحدة حلا مقبولا. ولكن علي طه كان شابا اجتماعيا، لا يصبر على التأمل طويلا، ويذاكر في أسبوع ما ربما ذاكره مأمون في يومين؛ فإلى جانب وقت القراءة هناك وقت للرياضة، وآخر للمناظرة، وثالث للرحلة، ورابع للحب ... إلخ. فحسبه من الفلسفة هذا التفسير الجامع، وليستأنف سيره في الحياة، ولكن هنالك عقبة كأداء تنذر بأن تصير هاوية جارفة: الأخلاق؟ ... نهضت أخلاقه فيما مضى على دعامة من الدين، فعلام تنهض اليوم؟! ... ما الذي يمسك على الفضائل قيمتها بعد الله؟! أم تراه يزدريها كما ازدرى عقيدته من قبل، ثم يلقي بنفسه في تيار الحياة الجارف بلا وازع ولا ضمير؟! إن المنطق واضح، والنهاية محتومة، ولكنه تردد وتماسك، واتقى بقوة القصور الذاتي، وتساءل: ألا يمكن أن يحيا كما حيي أبو العلاء؟ ولكن أبا العلاء كان ضريرا مجدورا سوداويا، أما هو فشاب جميل مفتول العضلات، اجتماعي المزاج، فأنى يكون له الزهد والتقشف؟! ووجد نفسه في مثل الحيرة التي وجدت فيها إحسان شحاتة عقب تحررها من ظل والديها. وأخيرا ظفر بمنقذه كما ظفرت بمنقذها، التقى بأوجست كونت رجل المجتمع، وبشره الفيلسوف بإله جديد هو المجتمع، ودين جديد هو العلم. آمن بالمجتمع البشري والعلم الإنساني، واعتقد أن للملحد - كما للمؤمن - مبادئ ومثلا إذا شاء وشاءت له إرادته، وأن الخير أعمق أصولا في الطبيعة البشرية من الدين؛ فهو الذي خلق الدين قديما، وليس الدين الذي أوجده كما كان يتوهم، وجعل يقول عن نفسه: «كنت فاضلا بدين وبغير عقل، وأنا اليوم فاضل بعقل وبلا خرافة!» وثاب إلى مثله العليا آمنا مطمئنا، ممتلئا حماسا وقوة، وشغف بالإصلاح الاجتماعي، وحلم بالجنة الأرضية، فدرس المذاهب الاجتماعية، حتى طاب له أن يدعو نفسه اشتراكيا ... وانتهى المطاف بروحه - التي بدأت رحلتها إلى مكة - إلى موسكو! وطمع يوما أن يجذب أصدقاءه المقربين إلى الاشتراكية ، ولكنه لم يفلح. قال له أحمد بدير معتذرا: «إني صحافي وفدي، والوفد حزب رأسمالي.» وقاله له مأمون رضوان بإيمانه المعروف: «للإسلام اشتراكيته المعقولة، فيه الزكاة التي تضمن لو طبقت بدقة العدالة الاجتماعية دون جور على الغرائز التي يستمد الإنسان منها العون في كفاحه؛ فإذا أردت للدنيا نظاما يهيئ لها الأخوة الحقة والسعادة والعدالة، فدونك والإسلام.» أما محجوب عبد الدائم فهز منكبيه استهانة وقال باقتضاب: «طظ.» ومهما يكن من أمر فقد عرف لحياته هدفا أنقذه من الحيرة والفوضى والفساد، وحق له أن يقول على نفسه مسرورا: «هاكم بطاقتي الشخصية وهي تغني عن كل تعريف؛ فقير واشتراكي، ملحد وشريف، عاشق عذري!»
5
انتظر محجوب عبد الدائم في حجرته كذلك، ولكن دون أن يغير ملابسه؛ لأنه لم يكن كصاحبيه يملك بدلة خاصة ليوم الخميس، وكان يرقب الطريق من نافذته، فرأى مأمون رضوان وهو يغادر الدار في مشيته العسكرية، ولاحظ إيماءة الهوى بشرفة الدار الصغيرة القديمة، ثم رأى العاشقين الشابين يوافي أحدهما الآخر إلى شارع رشاد باشا، وشيع كل واحد منهم جميعا ب «طظ» مفعمة سخرية وحقدا؛ فسخريته تضمر دائما حقدا. وكان ينتظر ميعاده، إلا أنه يؤثر الظلمة ويحب الستر، فخلت الدار تقريبا إلا منه. كان محجوب عبد الدائم كمأمون رضوان طولا ونحافة، إلا أنه شاحب مفلفل الشعر، يميز وجهه جحوظ عينيه العسليتين وصعود شعيرات حاجبيه إلى أعلى، هذا إلى نظرة قلقة متقلبة يوحي بريقها بالتحدي والسخرية، ولم يكن به كصاحبيه - جمالا، ولكن لم يكن بقسماته كذلك قبح منفر. ولا يخطئ الناظر إليه ما يدل عليه منظره من التحدي؛ فما ينفك في خوف من أن يقذفه بنكتة أو دعابة أو ملاحظة لاذعة. وكان يرى حياته مليئة بالمشكلات، ويضع على رأسها جميعا مشكلته الجنسية، ويصفها بأنها مشكلة عسيرة الحل كالقضية المصرية سواء بسواء! وقد رأى إحسان شحاتة، وطالما أثارت بركان شهوته، رآها - كما يرى أي امرأة أخرى - صدرا وعجزا وساقين، وكانت إحدى مفاتنها هذه كافية لإطلاق شرارة كهربائية في صدره، ولكن الفتاة - على حد قوله - أحسنت الاختيار، وآثرت الفتى الأشقر ذا العينين الخضراوين، ولبثت حياته مقفرة موحشة؛ فقلبه في ظلام، وعقله في ثورة دائمة. كان صاحب فلسفة استعارها من عقول مختلفة كما شاء هواه، وفلسفته الحرية كما يفهمها هو، وطظ أصدق شعار لها، هي التحرر من كل شيء، من القيم والمثل والعقائد والمبادئ، من التراث الاجتماعي عامة! وهو القائل لنفسه ساخرا: «إن أسرتي لن تورثني شيئا أسعد به؛ فلا يجوز أن أرث عنها ما أشقى به!» وكان يقول أيضا: إن أصدق معادلة في الدنيا هي: الدين + العلم + الفلسفة + الأخلاق = طظ. وكان يفسر الفلسفات بمنطق ساخر يتسق مع هواه؛ فهو يعجب بقول ديكارت: «أنا أفكر فأنا موجود.» ويتفق معه على أن النفس أساس الوجود، ثم يقول بعد ذلك إن نفسه أهم ما في الوجود! وسعادتها هي كل ما يعنيه. ويعجب كذلك بما يقوله الاجتماعيون من أن المجتمع خالق القيم الأخلاقية والدينية جميعا؛ ولذلك يرى من الجهالة والحمق أن يقف مبدأ أو قيمة حجر عثرة في سبيل نفسه وسعادتها! وإذا كان العلم هو الذي هيأ له التحرر من الأوهام، فليس يعني هذا أن يؤمن به أو أن يهبه حياته، ولكن حسبه أن يستغله وأن يفيد منه؛ فلم تكن سخريته من رجال العلم دون سخريته من رجال الدين، وإنما غايته في دنياه اللذة والقوة، بأيسر السبل والوسائل، ودون مراعاة لخلق أو دين أو فضيلة. لقد استعار هذه الفلسفة بإرشاد هواه، ولكن تهيؤه لها نما معه منذ أمد بعيد؛ فهو مدين بنشأته للشارع والفطرة. كان والداه طيبين جاهلين، ولظروفهما الخاصة أتم تكوينه في طرق بلدة القناطر، وكان لداته صبية شطارا ينطلقون على فطرتهم بلا وازع ولا تهذيب، فسب وقذف، واعتدى واعتدي عليه، وتردى إلى الهاوية. ولما انتقل إلى جو جديد - المدرسة - أخذ يدرك أنه كان يحيا حياة قذرة، وعانت نفسه مرارة العار والخوف والقلق والتمرد، ثم وجد نفسه في بيئة جديدة، طالبا من طلاب العلم بالجامعة، ورأى حوله شبانا مهذبين يطمحون إلى الآمال البعيدة والمثل العالية، ولكنه عثر كذلك على نزعات غريبة وآراء لم تدر له بخلد. عثر على موضة الإلحاد والتفسيرات التي يبشر بها علماء النفس والاجتماع والأخلاق والظاهرات الاجتماعية الأخرى، وسر بها سرورا شيطانيا، وجمع من نخالتها فلسفة خاصة اطمأن بها قلبه الذي نهكه الشعور بالضعة. لقد كان وغدا ساقطا مضمحلا، فصار في غمضة عين فيلسوفا! المجتمع ساحر قديم، جعل من أشياء فضائل، وجعل من أشياء رذائل، وقد وقف على سره وبرع في سحره، وسيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل! وفرك يديه سرورا، وذكر ماضيه أطيب الذكر، ورمق مستقبله بعين الاستبشار، وألقى عن عاتقه شعور الضعة. بيد أنه أدرك منذ اللحظة الأولى أن فلسفته سرية، يجوز أن يدعو مأمون رضوان إلى الإسلام جهارا، ويجوز أن يعلن علي طه اعتناقه لحرية الفكر والاشتراكية، أما فلسفته فينبغي أن تظل سرية - لا احتراما للرأي العام؛ فإن من مبادئها احتقار كل شيء - ولكن لأنها لا تؤتي أكلها إلا إذا كفر الناس بها، وآمن بها وحده! ألا ترى أنه إذا آمن الناس جميعا بالرذيلة لم يتميز بينهم بما يتيح له التفوق عليهم؟ لذلك احتفظ بها لنفسه، ولم يعلن منها ما هو في حكم الموضة كالإلحاد وحرية الفكر، إلا إذا ضاق صدره أو غلبه شعور الوحشة، فإنه ينفس عن قلبه بالمزاح والسخرية، فبدا للقوم ماجنا لا شيطانا مجرما، ومضى في سبيله فقيرا بلا خلق يرصد الفرص، ويتوثب للانقضاض عليها بجرأة لا تعرف الحدود. •••
لبث في حجرته ينتظر الظلام، فلقلبه أيضا مغامرات، ولكن حبه كفلسفته لا يحيا في النور، وما فتاته في الواقع إلا جامعة أعقاب سجائر. ولشد ما أغضبه حظه في الحب، ولكن ما الحيلة ونقوده لا تكاد تفي بضرورات الحياة؟ وكثيرا ما يهزأ بنفسه فيقول: «لست خيرا منها؛ فهي جامعة أعقاب سجائر، وأنا جامع أعقاب فلسفة، ثم إني في نظر المجتمع شر منها!» وقد رمت بها المصادفات بين يديه، فلم يدع الفرصة تفلت، وقال متعزيا: من تواضع لله رفعه. رآها ذات مساء - وكان يتمشى في طريق العزبة المقفر - وراء شجرة تين مع أحد بوابي شارع رشاد باشا، فتربص بها حتى رآها تسير بمفردها بعد أن عاد النوبي إلى الشارع الآخر، واقترب منها بجرأته، ولمس منكبها وهو يقول مبتسما: رأيت كل شيء.
صفحه نامشخص
فتوقفت الفتاة عن المسير، ورمقته بعين داهشة، وتبينها على ضوء الطريق فوجدها شديدة السمرة، كاعب الثديين، فاضطربت أنفاسه، وحدجها بعين نمر مفترس ... وأفاقت الفتاة من دهشتها، فسألته باستهانة: ماذا رأيت؟
فأجاب محجوب وعيناه تقولان لها «برح الخفاء»: شجرة التين ... البواب ...
فسألته بنفس اللهجة الدالة على الاستهانة: وماذا تريد؟
فقال بصوت مضطرب: مثله. - أين؟ - ليكن نفس المكان.
فدارت على عقبيها، ولكنها قالت قبل أن تهم بالمسير، وبصوت يدل على الإنذار: ثلاثة قروش!
فغمغم بارتياح: جميل.
ثمن زهيد لا تنوء به ميزانيته والفتاة لا تخلو من ثدي كاعب. بيد أنه يرجو أن تكون سمرتها القاتمة لونا طبيعيا لا ترابا متلبدا، وما عليه بعد ذلك إلا أن يتحمل الرائحة الكريهة المنبعثة من جسدها. لا بأس؛ فشيء خير من لا شيء. وهل ينسى أنه نفسه لم يكن يستحم - في القناطر - إلا في المواسم؟ بل إنه ليتساءل: ألا يسوي الظلام بين النساء جميعا؟ وسألها وهما عائدان: ألك عهد طويل بالبواب؟ - كلا. هذه أول ليلة. - ألم تتواعدا مرة أخرى؟ - كلا.
فقال محجوب بارتياح: ولكن لن تكون الليلة آخر ليالينا.
فتمتمت وهي تثبت الخمار على رأسها: وجب. •••
وكان الظلام يبتلع الكون، وما زال بموقفه من النافذة ينتظر موعد صاحبته، ثم سمع نقرا على الباب، فدلف منه وفتحه، فرأى بواب الدار يلوح له بخطاب، وأخذ الخطاب ورد الباب، وألقى على الظرف نظرة سريعة فرأى ختم القناطر، ثم لاحظ بسهولة أن الخط غير خط أبيه، فمن عسى أن يكون كاتبه؟ إنه يرى ذلك الخط أول مرة ...
صفحه نامشخص
6
وفض الغلاف متعجبا وقرأ ما يأتي:
حضرة الشاب الفاضل محجوب أفندي عبد الدايم:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد، فإنه يؤسفنا أن نخبركم بأن والدكم العزيز مريض وملازم الفراش، ونسأل الله أن يجعل العواقب سالمة، ولكن لا بد من حضورك في أقرب وقت لتطمئن عليه بنفسك، وقد طلبوا إلي أن أكتب هذا إليك فلا تتأخر، والسلام.
شلبي العفش (صاحب بقالة القناطر الخيرية)
هذا يعني أن أباه في حالة عجز تمنعه من أن يمسك بالقلم، فماذا أصابه؟ وقرأ الكتاب للمرة الثانية وقد لاح الوجوم في وجهه الشاحب، وجعل يشد حاجبه الأيسر بأنامله، ومن عجب أنه لا يذكر أن أباه شكا المرض يوما ما. كان دائما متين البنيان ثقيل الخطوات؛ فلا شك أن مرضا خطيرا غدر به وأعجزه. ترى ما الذي يخبئه الغيب؟ ... وماذا يدخر له ولوالدته؟
ولكن لا يجوز أن يضيع الوقت سدى، أو أن يؤخر سفره دقيقة، وكتب كلمة لمأمون رضوان يشرح سبب سفره المفاجئ، ولف جلبابه في جريدة قديمة، ثم غادر الدار. لم يمض إلى الشارع العزبة كما كان يرجو منذ دقائق، ولكنه أخذ في شارع رشاد باشا أو شارع علي وإحسان كما يدعوه ساخرا، ومضى يحدث نفسه قائلا: «لو انتهى أجل الرجل لوئدت آمالي جميعا ... رباه! أيمكن أن يحدث هذا وما عاد بيني وبين الامتحان النهائي سوى أربعة أشهر؟!» وجد في الطريق المقفرة الغارقة قصوره في جلال الصمت لا يسمع إلا وقع قدميه، حتى بلغ الجيزة، واستقل الترام، تظلل الكآبة وجهه وعينيه، وفي جلسته المحزونة سرح به فكره إلى صاحبيه المقربين، مأمون رضوان وعلي طه، فنفس عليهما ما يتمتعان به من طمأنينة وثقة. مأمون رضوان أبوه مدرس بالمعاهد، ذو مرتب حسن؛ فلا تعيش أسرته في ظل الخوف، وهو يعطي الشاب ما يكفيه وأكثر، ولولا حمق مأمون الذي جعله يوقف حياته على العلم والعبادة لكانت له لذات الحياة، ولكنه أحمق، والحمقى دائما مجدودون. أما علي طه فأبوه مترجم ببلدية الإسكندرية ذو مرتب ضخم، والشاب يقبل على التمتع بالحياة في حدود مثله؛ فهو شاب سعيد، وحسبه إحسان كي يكون سعيدا، ولعل إنسانا ما لم يثر حسده كما يثيره هذا الشاب الجميل الموفق، هو هو البائس! ... أبوه - ترى ألا يزال أباه؟ - كاتب بشركة الألبان اليونانية بالقناطر، خدمة خمسة وعشرين عاما ومرتب ثمانية جنيهات، وإذا انقطع عن العمل فمكافأة أشهر معدودات، وكان الرجل يبذل له من مرتبه ثلاثة جنيهات شهريا أثناء السنة الدراسية، فنهضت بالضرورات من مسكن ومأكل وملبس، ورضي بها الشاب رضاء المتمرد المغلوب على أمره، وجعل يرمق ملاذ القاهرة من بعيد، ويسترق السمع إلى أخبارها بنهم وألم. كان ينطوي على شهوة جامحة بقدر ما يضيق بطموح جشع. تواردت عليه هذه الخواطر، فساءته تلك الساعة أكثر من أي وقت مضى، ثم فكر في العلاقة التي تربطه بهما، وفيما يسمونه بالصداقة، غافلا عن مشاهد الحقول والمياه التي يطويها الترام في جريه السريع. أله صديق حقا؟ كلا، وما الصداقة إلا إحدى الفضائل التي كفر بها؟! حقا إنه يميل إليهما كثيرا؛ فنقاش مأمون يستهويه، وروح علي تجذبه إليه، ويلذه أن يجتمع بهما يتحادثون ويتحاورون، ولكن ما شأن ذلك كله بما هو معروف عن الصداقة؟! إنه مع ذلك يحسدهما ويمقتهما؟ ولا يتردد عن إبادتهما لو وجد في ذلك نفعا. ومضى يقول لنفسه بلهجة التحريض: «الحرية المطلقة ... طظ المطلقة ... ليكن لي أسوة حسنة في إبليس ... الرمز الكامل للكمال المطلق ... هو التمرد الحق، والكبرياء الحق، والطموح الحق، والثورة على جميع المبادئ! وانتهى الترام إلى محطة الإسعاف، فتركه واستقل تراما آخر إلى ميدان المحطة، ومن ثم إلى المحطة نفسها، ثم انطلق إلى شباك تذاكر الدرجة الثالثة، وابتاع تذكرة. ولما تحول عن الشباك وجد نفسه أمام شاب في الثلاثين، متوسط القامة مع ميل إلى القصر والبدانة، مثلث الوجه كبيره، كثيف الحاجبين، حاد البصر، مستدير العينين، يلقي على ما حوله نظرة متعالية كلها ثقة وزهو، فعرفه، ودنا منه مادا إليه يده باحترام هاتفا: الأستاذ سالم الإخشيدي! ... السلام عليكم ...
فالتفت إليه دون أن تتغير ملامح وجهه، ونادرا ما يتغير وجهه؛ فهو لا يندهش ولا ينزعج، ولا يبدو عليه سرور ولا حزن؛ فإذا أراد أن يعلن غضبه - وكثيرا ما يفعل - استعان بنبرات صوته الغليظ. التفت نحو محجوب وقال بهدوء ورزانة: كيف أنت يا محجوب؟ - شكرا لك والحمد لله ... ولكن ما الذي جاء بالأستاذ إلى المحطة؟
فقال الإخشيدي بصوته الرزين: مسافر إلى بلدتنا القناطر لزيارة والدي، ولكن ما الذي جاء بك أنت وليس الوقت بموسم إجازات؟
فقال محجوب بأسف ظاهر: إلى القناطر أيضا لعيادة والدي المريض. - عبد الدايم أفندي مريض؟ ... كتب الله له السلامة. بلغه تحياتي.
صفحه نامشخص
ثم سارا جنبا لجنب في اتجاه موقف القطار، وكانت أخبار الإخشيدي انقطعت عن محجوب فترة يسيرة، فسأله: ألا تزال يا أستاذ سكرتيرا لقاسم بك فهمي؟
فلاحت شبه ابتسامة في عيني الإخشيدي، وقال: أنا مرشح الآن لوظيفة مدير مكتبه. المذكرة في المستخدمين.
فقال بسرور ظاهر لا ظل له في نفسه: مبارك ... مبارك يا أستاذ!
فرفع الرجل حاجبيه بزهو، وقال باقتضاب: درجة خامسة.
فهتف محجوب: مبارك ... مبارك، العقبى للرابعة.
فقال الإخشيدي متفلسفا: بلدنا منهوب مسلوب، مسئولياته بيد الضعفاء الأغبياء، ومهما نرتق فلن نزال دون ما نستحق!
فأمن محجوب على قوله قائلا: صدقت يا أستاذ.
ثم استأذن الإخشيدي واتجه نحو عربة الدرجة الأولى، وأتبعه الشاب عينيه حتى اختفى، ثم سار إلى الدرجة الثالثة تعلو وجهه الكآبة والأحلام، واتخذ مجلسه من العربة ورأسه لا يني عن التفكير، والإخشيدي لا يبرح خياله. منذ عامين كان الإخشيدي طالب ليسانس مثله - محجوب - الآن، ولعله كان مثله أيضا يكفر بالمبادئ، ولكن دون جلبة أو ضوضاء، وربما كانا لا يختلفان اختلافا جوهريا في شيء فهما في الذكاء سواء، وهما في الأخلاق- أو عدم الأخلاق - سواء. ولكنهما جد مختلفين في الأعصاب: فسالم الإخشيدي يزن كلامه وزنا دقيقا، ولم يعرف عنه أنه مس مبدأ من المبادئ أو خلقا من الأخلاق بكلمة سوء، أما محجوب فعلى حذره سخر من كل شيء. ومما يذكره محجوب ولا ينساه أن صاحبه عرف آخر عهده بالكلية كزعيم خطير من زعماء الطلبة، وكان من أبطال لجان المقاطعة وموزعي المنشورات ضد الدستور الجديد. ومما يذكره ولا ينساه كذلك أن الإخشيدي دعي يوما لمقابلة الوزير، فذاعت عن المقابلة الأقاويل، وتوقع كثيرون أن يقع اضطهاد أو بغي، ولكن الفتى انقلب فجأة وبغير تدرج، انسحب من ميدان السياسة كله، وتوقف نشاطه الذي لم يكن يعرف الحدود، ولم يعد يرى إلا في حجرات المحاضرات، ولكن إذا واجهه أحد بسؤال عن سر انقلابه أجابه ببروده المعهود: «ميدان الجهاد الحقيقي للطلبة: العلم!» ثم حصل على الليسانس، وعين - قبل أوائل الطلبة - سكرتيرا لقاسم بك فهمي، وكان واسطته الوزير نفسه، بل وضع في السادسة - وهي وقتذاك فردوس مفقود - وها هو يرشح للخامسة قبل أن يمضي على تعيينه سنتان، وبعد أن استقال بمدة كبيرة الوزير الذي عينه؛ مما يدل على أنه حاز ثقة قاسم بك نفسه، وأنه يسير قدما. يا له من مثال يحتذى! يا له من رجل يستحق من الإعجاب قدر ما يستوجب من الحسد! ... لكم يبدو عليه جاه المنصب وإقبال الحياة! ... ماذا يضيره إذا احتقره مأمون رضوان أو علي طه؟! ... طظ ...
وكان القطار يطوي الأرض طيا، والبرودة تنفذ إلى الداخل على الرغم من إحكام غلق النوافذ، ولكنه لم يشعر بالبرودة تماما إلا حين كف عن التفكير، فزرر الجاكتة واعتدل في جلسته. سرعان ما عاد إلى تذكر أبيه المريض، فأدرك أنه يغرق في الأحلام متغافلا عن الهاوية تحت قدميه. وعاد إلى وجومه مرسلا نظرة حزينة كئيبة، حتى وقف القطار في القناطر، فأخذ لفافته وغادره، ثم ترك المحطة إلى الطريق العام، وألقى على المدينة نظرة شاملة، وهتف: «يا قناطر يا بلدنا ... وزعي الحظ بين أبنائك بالعدل!»
7
صفحه نامشخص
ولم تمض سوى دقائق معدودات حتى وجد نفسه أمام البيت الصغير الذي ولد فيه؛ بيت من طابق واحد، يتقدمه فناء ترابي مسور بدرابزين خشبي، يدل مظهره على البساطة والتقشف.
وكان يواجه المحطة في الجانب الآخر من الطريق، ويطل سطحه على الحقول فيما وراء السكة الحديدية، وبدا البيت مظلما غير بصيص نور يلوح من خصاص نافذة أبيه، فخفق قلبه خفقانا متداركا، وصرخ به الخوف والرجاء، واجتاز الفناء إلى المدخل وطرقه بخفة، فسمع وقع قبقاب، وعرف صاحبته وفتح الباب، وبدا شبحها وراءه، فأقبل نحوها قائلا: مساء الخير يا أماه.
فسمع صوتا متنهدا: «أنت!» ثم أخذت يده بين يديها، وقالت بنفس الصوت المتعب: كيف أنت يا بني؟ حدثني قلبي بأنك الطارق.
وكان الدهليز مظلما فلم يتبين ملامح وجهها، فرد الباب وهو يتساءل بلهفة: أماه ... ماذا حدث؟ ... كيف حال أبي؟
فقالت المرأة بصوت محزون: ربنا يأخذ بيده.
ووضع لفافة الجلباب على خوان، ودخل الحجرة بقدمين محاذرتين، وسبقته عيناه إلى الراقد على الفراش، واقترب منه، وكان رأس الرجل مائلا نحو الجدار، غمغم بصوت خافت: مساء الخير يا أبي ... كيف حالك؟
ولم يبد على الأب أنه سمع حسا أو أدرك شيئا، فانحنت الأم على رأسه وقالت: محجوب يمسي عليك ...
واعتدل رأس الرجل ببطء، وتحرك جفناه، ثم أبرز يسراه، فأخذها محجوب بين يديه وقبلها، وبدا الرجل مريضا جدا، وبدت عيناه مظلمتين كأنهما تقطران من ماء آسن، وفمه معوجا. قال محجوب: أبي ... كيف أنت؟ ... لا حول ولا قوة إلا بالله ...
وثبت الرجل عينيه عليه، وتكلم بصوت متحشرج، متقطع المخارج، قائلا: لم يعاودني النطق إلا ظهر اليوم!
فارتاع محجوب وسأل أمه: هل عجز وقتا عن النطق؟
صفحه نامشخص
فقالت المرأة المتعبة: أجل يا بني، كان في عمله عصر الثلاثاء الماضي كالعادة، فسقط فجأة فاقد النطق، وجاءوا به محمولا، ودعوا بالطبيب، وأتى الطبيب فحجمه وحقنه، ولا يزال يعوده كل صباح، ولكن لم يعاوده النطق إلا قبل ظهر اليوم. - ماذا قال الطبيب؟
فلاحت في عينيها نظرة حيرى، وتحركت شفتاها دون أن يسمع لها صوت، فقال أبوه: قال إنه شلل ... شلل ... جزئي ...
وارتاع الشاب لفظاعة الاسم، وإن كان يجهل حقيقته كل الجهل.
وأرادت أمه أن تفرخ روعه فقالت: ولكنه أكد صباح اليوم زوال الخطر ...
فاستطرد الأب بصوته المتقطع الغامض: إني ... أفهم ... ما يقال ... لن أعود كما كنت أبدا ...
فعض محجوب على شفتيه وسأل والدته: هل وقع الأمر بغتة؟ - كلا يا بني، كان أبوك كعهدنا به صحة وعافية، بيد أن ثقلا اعتور ساقه اليمنى، وصداعا شق عليه مساء الإثنين ...
وساد الصمت، فأغمض المريض جفنيه، ولبث بلا حراك، كأنما راح في سبات عميق، وعطف الشاب رأسه إلى أمه، فأيقن أول وهلة أنها لم تذق للنوم طعما منذ مساء الثلاثاء ، عيناها محمرتان ذابلتان، تطوقهما هالتان زرقاوان، وبشرتها شديدة الصفرة، وامتلأ حزنا وكمدا، ولاح والداه لعينيه مخلوقين بائسين مثله تماما، وجلس على كرسي قريبا من الفراش ثم أطرق متفكرا: هذه أسرة يتعلق مصيرها بحياة رجل مهدم، فماذا تحت الجفنين المطبقين؟ ... أحياة أم موت؟ ... أنجاح أم تشرد؟ لماذا لم يتأخر الشلل عاما آخر؟! وذكر شارع رشاد باشا الصامت الجليل، والقصور القائمة على جانبيه، والباشوات والبكوات تحملهم السيارات منه وإليه، والنساء اللاتي يلحن وراء ستائره وبين خمائله، فأين من أولئك والداه البائسان؟! وهذا البيت المتداعي! وجعل يقول لنفسه: إنه لو كان وريث أحد تلك القصور وأشفى أبوه - الباشا - على الموت، لانتظر موته بفارغ الصبر، وتنهد من قلب مكلوم وقد احتدم الغيظ في قلبه، ثم تساءل وهو لا يتحول عن إطراقه: ترى كيف تنتهي هذه المأساة؟! •••
واسترق النظر إلى أمه، وكانت تجلس مطرقة عند قدميه، فرآها غارقة في السواد الذي حلفت ألا تخلعه مدى الحياة منذ ماتت له أختان بالتيفود، ذابلة الوجه، تبدو أكبر من سنها الذي جاوز الخمسين بقليل، تنوء بأثقال عمر أنفقته أمام لهب الكانون ووهج الفرن، تعجن وتخبز وتغسل وتكنس، فتحجرت أصابع يديها، وبرزت عروق ظاهر كفيها، لم تجد في حياتها وقتا للثرثرة، كانت كالبترول الذي يحرك آلة كبيرة دون أن تدركه الحواس، وكانت تحب ابنها حب عبادة، وقد تضاعف هذا الحب بعد وفاة شقيقتيه في ميعة الصبا، ولكنها لم تترك أثرا يذكر في تكوينه وتربيته، وكانت لا تجد في حياتها من تكلمه، فعاشت كالبكم في صمت وجهالة. وقد أقسرت الظروف أباه على الاختفاء من حياته كذلك، فكان يواصل العمل في الشركة من الصباح حتى ما بعد العشاء، ثم يهرع بعد ذلك إلى حلقات الأذكار حتى منتصف الليل، فكان لا يكاد يرى ابنه. وكان رجلا مجدا دءوبا، مخلصا لبيئته، وصورة منها، لا يشذ عنها في شيء، يفاخر كثيرا بقرابته لأحد كبار الموظفين - قريب زوجته - وكان كزوجه لا يعرف الراحة، فلم يهنأ بحياته الزوجية، واقتصرت رعايته لابنه على إلزامه بالقيام ببعض فروض دينه مستعينا بالعصا في أحايين كثيرة؛ لذلك جميعه نشأ محجوب على خوف من أبيه، وانطلق إلى الشارع الذي أتم تربيته وتكوينه؛ ولذلك كانت صلته بوالديه واهية باهتة. كان يحب أمه أكثر من أبيه، ولكنه بات على استعداد دائما لأن يخضع صلته بهما لفلسفته المدمرة التي لا تبقي على شيء؛ فلم يكن حزنه حزنا على والده بقدر ما كان إشفاقا على الرجل الذي ينفق عليه ثلاثة جنيهات كل شهر.
8
في صباح اليوم الثاني جاء الطبيب وفحص المريض وحقنه بالكافور، ثم صرح بارتياحه للحالة مؤكدا أن الخطر زال تماما، وغادر الرجل الحجرة يتبعه محجوب حتى أدركه في الفناء، والتفت الطبيب إليه وقد أدرك الباعث الذي حمله على اللحاق به: الحقيقة ما قلت لأبيك، الإصابة جزئية، وإلا كانت القاضية، بيد أني صارحته كذلك بأنه لن يعود إلى عمله، وسيلازم الفراش بضعة أشهر، ولكنه سيحرك جنبه المشلول، بل ربما عاود المشي.
صفحه نامشخص
ووقف انتباهه عند «لن يعود إلى عمله»؛ فلم يدر شيئا مما قال بعد ذلك، وأظلمت الدنيا في عينيه، وعاد إلى الحجرة ذاهلا، وكان أبوه ذا طبيعة عملية، لا يدع أمرا معلقا إذا أمكن أن يبت فيه برأي، فدعا ابنه إلى الاقتراب من الفراش، وقال بلسان ثقيل: أصغ إلي يا بني، لن أعود إلى عملي بالشركة، هذه هي الحقيقة، فماذا ترى؟
فازداد صدر محجوب انقباضا، ولازم الصمت في انتظار النطق بالحكم، فاستدرك الرجل: ربما منحتني الشركة مكافأة صغيرة، ستفقد بلا ريب قبل مضي أشهر قلائل، بل المؤكد أنه لن يبقى منها شيء بعد ثلاثة أو أربعة أشهر على الأكثر، ولكن لن أعدم نصيرا يجد لك وظيفة تنهض بنا جميعا ...
فقال محجوب بتوسل وقد نطقت عيناه بالألم والقنوط: الامتحان يا أبي على الأبواب، نحن في يناير وهو في مايو، أما إذا وظفت الآن فسأعد كحامل البكالوريا، وفي ذلك ضياع لمستقبلي عظيم ...
فقال الأب بحزن: أعلم ذلك، ولكن ما الحيلة؟ أخاف أن نتعرض للفضيحة أو نهلك جوعا!
فقال الشاب بتوسل حار، وبصوت ملأه حماسا وقوة: أربعة أشهر، أربعة أشهر فقط بيني وبين ثمرة كد خمسة عشر عاما ... أمهلني قليلا يا أبتي، ستكفينا المكافأة حتى أنهض على قدمي، لن نجوع، ولن نتعرض للفضيحة بإذن الله. - وماذا يكون من أمرنا إذا أخطأ تقديرك؟ ... إذا خاب سعيك لا قدر الله؟ إن حياتنا بيديك؟
فقال محجوب وهو يعض بنواجذه على أهداب الأمل: أنت لا تدري يا أبي كيف سيكون اجتهادي! لن يحول بيني وبين النجاح حائل!
وتردد الشاب لحظة ثم قال: وهناك قريب والدتي أحمد بك حمديس!
ولكن والده رفع يسراه محتجا، وقطب استياء، فخاف الشاب أن يفقد عطفه، وأن يذهب ما بذل في إقناعه هباء، فقال بسرعة: لا حاجة بنا إلى معونة أحد، وستسير الأمور بإذن الله وفق آمالي.
وأدرك أنه أخطأ بذكر قريبهم العظيم الذي تناساهم واحتقر صلته بهم منذ تبوأ مركزه الرفيع. أجل إن والدي يفاخر جهارا - على مسمع من الغرباء - بقرابته، ولكن طالما أنحى عليه باللائمة أمام والدته، وطالما أضمر له الاستياء واللوم. أدرك محجوب ذلك نادما، وعاد يقول: لا حاجة بنا إلى معونة أحد، ولكن ينبغي أن نستوصي بالصبر، وأن نطمئن إلى رحمة الله. أربعة أشهر فحسب، وبعدها الفرج!
وكان أبوه يعلم أن المكافأة تكفيهم - مع التقتير - خمسة أشهر أو ستة، فتفكر مليا ثم سأله: تستطيع أن تعيش بجنيه واحد في الشهر؟
صفحه نامشخص
جنيه واحد! أو ما يساوي إيجار حجرة بدار الطلبة؟ ... رباه، بالأمس ضاقت به الدنيا ونفقته ثلاثة جنيهات، فماذا هو صانع غدا بجنيه واحد؟ ولم يمهله الرجل طويلا، فاستدرك قائلا: لا حيلة لي، والخيار بين يديك!
هل يملك خيارا حقا؟ كلا، إن أباه مكره، وما عليه إلا الإذعان والتسليم. قال: لتكن مشيئتك.
فقال الشيخ: لتكن مشيئة الله، والله مسئول أن يوفقك لما فيه الخير، وأن يصل بك جناحنا المهيض.
واقترح الرجل على ابنه أن يرحل مساء حتى لا يضيع وقتا هو في أشد الحاجة إليه، وعند المساء ودع الشاب والديه، فقبل يد والده، واستسلم لأمه تقبله وتباركه، وحين هم بمغادرة الحجرة سمع والده يقول له: الله معك، اجتهد وتوكل على الله، ولا تنس أنك أملنا الوحيد ...
ومضى إلى المحطة، ومهما يكن من أمر فقد استنقذ من الحيرة التي نهكته عند مجيئه، وعلم الآن أن أمله لا يزال معلقا بخيط لم يقطع بعد. أما ما ينذر به المستقبل من متاعب فسيعرف كيف يعالجها مهما كلفه الأمر، وودع البلد وداعا فاترا، واتخذ مكانه بالقطار، وسرعان ما تناسى البيت والأسرة فلم يعد يذكر إلا نفسه. تساءل وهو ينتف حاجبه الأيسر: لماذا قدر له أن يولد في ذلك البيت؟ وماذا ورث عن والديه سوى الهوان والفقر والدمامة؟ أليس من الظلم أن يرسف في هذه الأغلال قبل أن يرى النور؟ ولو كان ابن حمديس بك مثلا لكان له جسم غير هذا الجسم، ووجه غير هذا الوجه، وحظ غير هذا الحظ، ولذاق الطمأنينة والسلام، ولاقتنى سيارة. وتفكر محزونا في الفقر الذي يتربص به، فرآه يبتسم إليه هازئا كأنما يقول له: «ما استطعت دفعي بثلاثة جنيهات، فهل تدفعني غدا بجنيه واحد؟!» أين يسكن؟ ... كيف يأكل؟ ... وهز رأسه في كمد، ولكنه لم يشعر بخور أو تخاذل. كان عظيم الثقة بنفسه، جريئا إلى أقصى حد، بيد أنه تميز غيظا وحنقا.
9
وشارف شارع رشاد باشا والشمس تذوب في بحيرة الشفق الدامية، والسمرة تلون حواشي الآفاق، ولاحت منه التفاتة وهو ينعطف إلى الشارع، فرأى علي طه قادما من ناحية الجامعة، فوقف ينتظره، وتصافحا، ثم قال علي باهتمام: حدثني الأستاذ مأمون عن مرض والدك، فأسفت لذلك غاية الأسف، وإنه ليسرني أن أستدل بسرعة عودتك على اطمئنانك!
وكره أن يطلع مخلوقا على أحزانه، فقال باقتضاب مبتسما: شكرا لك ... - أليس هو بخير؟ - بلى ... شكرا.
وسارا جنبا لجنب على مهل كأنهما يتنزهان، وتساءل محجوب: ترى أآت صاحبه من موعد غرام أم ذاهب إليه؟! هذا الشاب الذي يجد في محضره من دواعي السرور قدر ما يجد من دواعي الألم. واسترق إليه النظر، فرآه يسير حالما يضيء الابتسام وجهه، ويقبس جبينه من نور البشر والبشاشة، ويهتز طربا من نشوة الحب. أليس توفيق العاشق كظفر المحارب لذة وخيلاء؟ وشعر برغبة لا تقاوم في استدراجه إلى هذا الحديث الجميل، فقال مشيرا إلى مغارس الشجر مبتسما ابتسامة لها معناها: آه لو ينطق هذا الشجر!
ففطن علي طه إلى مرمى إشارته، وكان وجدانه من اليقظة بحيث ألحت عليه الإبانة والحاجة إلى التعبير، فقال بتأثر: أستاذ محجوب، هو ما تظن، ولكن لا تنظر إلى الأمر بعين السخرية، كلا، ما هو بالهزل، إن هزة قلب خطير له من المغزى في هذا الوجود ما لحركة الأفلاك في السموات، فلا تذكر أبدا خزان البخار وصمام الأمن.
صفحه نامشخص
وشعر محجوب نحو محدثه باحتقار شديد، ضاعفه ما نمت عليه نبراته من التأثر، وضاعفه أيضا ما يكنه له من الحسد، وقال في نفسه ساخرا: حتى وظيفة التناسل يريد الأحمق أن يجعل منها محرابا مقدسا. ثم قال بهدوء وبرود: يا أيها العاشقون، لا أعبد ما تعبدون!
فابتسم علي قائلا: ولا نحن عابدون ما تعبد.
وخاف محجوب أن تعيد سخريته الشاب إلى رشاده، فندم على ما فرط منه وأراد أن يداريه، فغير لهجته، وتساءل باهتمام ظاهري: غريب أمر هذا الحب! ... بيد أن فتاتك متفوقة حقا!
فقال علي بحماس: ليس الجمال فضيلتها الوحيدة؛ روحها لطيف، وفؤادها ذكي، ويعجزني وايم الحق أن أعبر لك عن امتزاج روحينا، هذه إحسان! ...
واضطربت نفس الآخر لدى سماع الاسم، فامتلأ حنقا فجأة. ترى أهذه هي الغيرة التي يقولون عنها؟ ... يا للعار! كيف يقع في ذل الغيرة من يطمح إلى تحطيم الأغلال جميعا؟ وعاد يقول بلهجة جديدة يخفي بها سخرية جديدة: أظن كمال هذا الامتزاج يوجب أن تكون فتاتك محررة من الدين، مؤمنة بالمجتمع والمثل العليا والاشتراكية!
فقال علي برزانة: حسبنا أن نحيا حياة وجدانية روحية واحدة، وسوف يتحد عقلانا بالاختلاط، فنكون أسرة سعيدة يوما ما ...
فقال محجوب باستغراب: أبلغتما هذا الحد؟ - نعم. - هل تكاشفتما؟ - نعم، سأنتظر حتى تنتهي من دراستها العليا ... - مبارك يا أستاذ.
وعز عليه أن يهنئ وهو أحق إنسان بالعزاء، وامتلأ شجنا وانقباضا. فاز علي بأجمل مليحة في القاهرة ، وغدا الجسد اللدن الطري من نصيبه، واندفع إلى السؤال بغير روية: كيف عرفتها؟ ... في الطريق؟ ...
فقال علي بدهشة: كلا ... من النافذة! - ولكن غيرك نظر أيضا؟
أفلتت منه الجملة بغير روية أيضا، فندم عليها أشد الندم، وخاف أن يفهمها صاحبه على حقيقتها، فاستدرك يضلله: جيراننا الطلبة ينظرون كذلك ...
صفحه نامشخص
فصمت علي مبتسما، وسكت محجوب أن يورده لسانه عثرة جديدة، وشارفا دار الطلبة: بدت كالثكنة العسكرية، ببنائها الضخم ونوافذها العديدة الصغيرة، ورأيا في مقابلها - عند ناصية شارع العزبة - دار عم شحاتة تركي. كان الرجل واقفا أمام دكانه، كان في الخمسين، أبيض البشرة، حسن الوجه، فقال محجوب لنفسه ساخرا: «نعم الصهر!» ودخلا الدار الكبيرة؛ أسعد الناس وأشقاهم.
10
واجتمع الأصدقاء الثلاثة في حجرة مأمون رضوان، وكانت النافذة مغلقة، والمدفأة وسط الحجرة يعلوها غشاء من الرماد، وكان مأمون ينتقد خطبة الجمعة التي استمع إليها ظهرا، وجعل يقول: إن خطب الجمعة في حاجة ماسة إلى التجديد، وإنها بحالتها الراهنة دعوة صريحة للجهل والخرافة.
ولم تكن خطبة الجمعة مما يأبه له صاحباه، بيد أن علي طه قال: الحاجة ماسة حقا إلى وعاظ من نوع جديد، من كليتنا لا من الأزهر، يبينون للشعب أنه مسلوب الحقوق، ويدلونه على سبيل الخلاص ...
وكان من عادة محجوب عبد الدائم أن يشترك في أحاديث صاحبيه، لا عن إيمان برأي؛ فلم يكن له رأي يؤمن به، ولكن حبا في الجدل والسخرية، ولكنه شعر ذلك المساء - أكبر من ذي قبل - أنه من الشعب البائس الذي يعنيه علي، فأراد أن ينفس عن صدره المحزون بالكلام، ولم يكن الشعب شيئا يهمه، ولكنه لم يستطع أن يطرق همومه الخاصة إلا عن سبيله، فقال: جميل ... إن علتنا الفقر.
فقال علي طه بحماس: هو الحق، الفقر الذي يختنق في جوه الفاسد، العلم والصحة والفضيلة، إن من يرضى بحال الفلاح حيوان أو شيطان!
فقال محجوب في نفسه: أو عاقل مثلي على شرط أن يكون غنيا. ثم تساءل بصوت مسموع: عرفنا الداء، وهذا شيء ميسور، ولكن ما العلاج؟
فقال مأمون رضوان وهو يثبت طاقيته: الدين، الإسلام بلسم لجميع آلامنا ...
ومد علي طه ساقيه حتى كادتا تمسان المدفأة، وقال دون مبالاة لما قال صاحب الحجرة: الحكومة والبرلمان ...
فقال محجوب: الحكومة ... أي الأغنياء أو الأسر، والحكومة أسرة واحدة، الوزراء يعينون الوكلاء من الأقارب، الوكلاء يختارون المديرين من الأقارب، المديرون ينتخبون الرؤساء من الأقارب، الرؤساء يختارون الموظفين من الأقارب، حتى الخدم يختارون من خدم البيوت الكبيرة؛ فالحكومة أسرة واحدة، أو طبقة واحدة متعددة الأسر، وهي حقيقة بأن تضحي بمصلحة الشعب إذا تعارضت مع مصلحتها. - والبرلمان؟
صفحه نامشخص
فقال محجوب مبتسما بخبث: النائب الذي ينفق مئات الجنيهات قبل أن ينتخب لا يمكن أن يمثل الشعب الفقير، والبرلمان في ذلك شأنه شأن المؤسسات الأخرى. انظر إلى قصر العيني مثلا؛ فالاسم مستشفى الشعب الفقير، وبالفعل حقل تجارب لإجراء اختبارات الموت على الفقراء ...
فقال علي طه بهدوء: السخط شعور مقدس، أما اليأس فمرض، ومهما يكن من أمر فالبرلمان بحيرة تلتقي فيها جداول متباينة المصادر، لا محيد عن أن تمتزج أمواهها، وينشأ عنها نبع جديد ...
فابتسم محجوب ابتسامة مرة وتمتم: تعجبني هذه الأسماء؛ أحمس والهكسوس، منفتاح واليهود، عرابي والجراكسة!
فقال مأمون رضوان ضاحكا: أعجب شيء أن طه شيوعي بناء بينما أنت مدمر ... أنت أحق الناس بلقب فوضوي.
فقهقه محجوب حتى سعل وقال: نحن نشق على أنفسنا أكثر مما ينبغي، كأن هذه الحجرة مسئولة عن رفاهية الدنيا ...
فقال علي طه: سوف تصغي جدرانها إلى آمال الأجيال المتعاقبة ما دامت حجرة للطلبة ...
فقال مأمون رضوان باهتمام متسائلا: هذه الحجرة معمل تفريخ، فما الخطوة التالية؟
فقال محجوب بسرور شرير: السجن إن كنا من الصادقين!
ثم ذكر الهموم التي جاء بها من القناطر ففقد حماسه للحديث، ونهض مستأذنا في الانصراف بتعب السفر، ومضى إلى حجرته، وجلس إلى مكتبه الصغير محزونا متفكرا: إذا انتهى يناير انتهت معه «رفاهية» حياته الراهنة! أجل بدت له هذه الحياة فيما مضى جحيما، ولكنها إلى ما ينتظره من حياة الغد نعيم مفقود! ولا شك أن الأشهر الثلاثة القادمة تحمل في طياتها ألوانا من الشقاء لم يحلم بها قط، فماذا هو صانع؟ ومضى يشد حاجبه الأيسر يلوح في وجهه الشاحب العزم والتحدي ...
11
صفحه نامشخص
ونشط في الأيام الباقية من يناير للبحث عن حجرة رخيصة، ولم يظفر بحاجته بسهولة؛ لأن الحي من الأحياء المأهولة، ولأنه مكتظ بالطلبة، وهؤلاء يتقاتلون على الحجرات المنعزلة فوق الأسطح، ثم عثر في النهاية على حجرة سطحية بعمارة جديدة بشارع جركس - على مقربة من ميدان الجيزة - ولكن جدتها كانت طامة عليه؛ لأن صاحب العمارة أبى أن يكري الحجرة بأقل من أربعين قرشا، فاضطر محجوب إلى القبول مغلوبا على أمره، وأخبر أصحابه بأنه سينتقل إلى حجرة بعمارة جديدة، وقال لهم - وهو يغمز بعينه - إن أسبابا خاصة دعت إلى ذلك. قال ذلك وهو يعلم أنه سيعجزه غدا وصال جامعة الأعقاب، ولكنه آثر كذبا من هذا النوع على إذلال كبريائه، ووجد نفسه في حاجة إلى نفقات النقل وابتياع مصباح غازي، فنظر في أثاثه البسيط فلم يجد شيئا يمكن الاستغناء عنه، سوى صوان الثياب الصغير - أشبه بصندوق منه بصوان - باعه سرا بمساعدة البواب بثلاثين قرشا. وفي أول يوم من فبراير حزم متاعه وودع صحابه، وانتقل إلى الحجرة الجديدة، وأدى الإيجار مقدما فلم يبق معه من نفقته الجديدة إلا ستون قرشا هي جماع ما يملك طوال الشهر، قرشان لليوم الواحد، للغذاء والغاز، وهناك الغسل ضرورة لا محيص عنها - وليترك الكنس جانبا - ثم الحلاقة، أما فنجان القهوة فمن الكماليات المحرمة. وليس فيما بقي من أثاثه الحقير ما يمكن الاستغناء عنه أو ما يطمع أن يأتيه بثمن يذكر؛ فالفراش وهو أهم ما لديه لا يكاد يساوي نصف جنيه، ونفعه مع ذلك لا يقدر؛ فعليه يرقد، وتحت حشيته يحفظ ثيابه. وهز رأسه ذا الشعر المفلفل وغمغم: «ستكر الأشهر الثلاثة كما يكر غيرها من الأيام، ولن أموت جوعا على أي حال.» وبات ليلته الأولى بالمسكن الجديد.
وفي صباح اليوم الثاني غادر الحجرة بعد أن أغلقها، وأراد البواب أن ينظفها له، ولكنه رده مشكورا. وكان في الحقيقة يهرب؛ لأنه لا يستطيع أن يتنازل له عن مليم واحد. وبلغ ميدان الجيزة، وجال ببصره حتى استقر على دكان فول مدمس، فتوجه إليه واجما، ووجد جماعات العمال يقتعدون الإفريز أمام الدكان يلتهمون طعامهم ويتحادثون ويتضاحكون، فقال لنفسه: «أصبحت واحدا من هؤلاء العمال الذين يرثي لهم علي طه ...» وطلب نصف رغيف وانتحى جانبا يأكله بشهية، فانتهى ولما يشبع، وكان بطبعه عظيم الشهية، يتناول في إفطاره صفحة فول ورغيفا غير البصل والمخلل، ولكنه لا يستطيع أن يأكل أكثر من وجبتين صغيرتين في اليوم. وهز منكبه ومضى في سبيل الجامعة وهو يقول: «لشد ما أنا في حاجة إلى صفاء الذهن؛ فإما النجاح وإما الانتحار!» ومضى وقت الدراسة كالعادة، وقابل أصحابه جميعا، وأنفقوا في حديقة الأورمان وقتا غير يسير يتناقشون في المحاضرات، وعندما أزف وقت الغداء انفصل عنهم فذهبوا إلى المقصف، وعاد هو إلى ميدان الجيزة. بالأمس فقط تناول غداءه بالمقصف مع علي ومأمون وأحمد بدير، وكان مكونا من صفحة سبانخ باللحم الضاني وأرز وبرتقالة، أما اليوم ...! وأقبل على دكان الفول وقد استقبله صاحبها بابتسامة وهو يقول: «أهلا وسهلا.» فآذته تحيته ونالت من كبريائه، وكان إلى جانب دكان الفول دكان كباب، فحمل الهواء دخان الشواء إلى أنفه، فسال لعابه وتوجعت معدته، ثم أخذ الرغيف، ومضى فارا من الرائحة الشهية، وعاد إلى حجرته وفتح بابها، فشم رائحة هواء فاسد؛ لأنه كان قد ترك النافذة مغلقة، ورأى الغبار يعلو المكتب والكتب، والبطانية مكومة على الفراش، فأدرك أن عليه منذ الساعة أن يكون طالبا وخادما، وربما «غسالة» أيضا، وشرع في القيام بوظائفه الجديدة ممتعضا ثائرا. الحياة الجديدة شاقة متعبة، سيواصل دراسته بلا ريب، وسيواصلها بعزم وعناد، ولكن لن يسكت له جوع أو يطمئن له جانب، وسيسهر الليالي طاويا، يجلس إلى مكتبه الساعات الطوال مثلج الأطراف مقوس الظهر، وربما فضحه مظهره وعرضه للهزء والسخرية، وربما نال منه الجوع فأسقمه.
ولكن ليس له إلا أن يكافح بصلابة وعناد، وأن يتحدى الناس والحظ والدنيا جميعا، وأن يغضب وأن يحقد وأن يجن جنونا. استمر في عمله حتى انتصف الليل، ثم ترك مكتبه إلى فراشه، ورقد عليه منهوك القوى، وهو يغمغم: انتهت أولى ليالي محنتي! ...
12
وفي صباح اليوم الثاني استيقظ متعبا موجع الرأس، ومن عجب أنه لم يكن جائعا، ولكنه ذكر آلام جوع الليلة الماضية؛ فإن رغيف الفول لم يصمد بعد العشي، وتركه لجوع قاس أليم. وقد خطر له أن يضرب عن طعام الإفطار على أن يتناول في غدائه رغيفا ونصفا، فيضمن راحة الليل ويذاكر رخي البال، أما ساعات النصف الأول من النهار، فالدروس كفيلة بأن تشغله عن معدته في أثنائها. فكرة طيبة جديرة حقا برأس فقير معدم، والعادة كفيلة بأن تجعل الألم غير أليم، بيد أنه ما كاد يكرع كرعة روية ويستروح نسائم الصباح في الطريق حتى تمطى وحش معدته، فانهارت عزيمته، وهرول إلى دكان الفول لا يلوي على شيء. وراح - وهو يتناول طعامه - يذكر ما يقال عن سير متصوفي الهنود، وعجب كيف يقاومون الجوع تلك المقاومة الخارقة، وكيف يصبرون على الألم ذلك الصبر المر، ويجدون في هذا وذاك لذة عالية! ... رباه ... لشد ما احتارت هذه الكلمة البديعة «اللذة» بين أمزجة البشر، أما هو فلذاته بينة، وحرمانه بين كذلك، حتى جامعة الأعقاب أمست عزيزة المنال! وذهب إلى الكلية، وحضر الدرس الأول، ثم مضى إلى الحديقة ينتظر الدرس الثاني الذي يبدأ بعد ساعتين، وجلس على أريكة وسط جمع من الطلبة يستمتعون بأشعة الشمس اللطيفة التي يجود بها فبراير جود مقتر شحيح، وكانوا يتحادثون بحمية الشباب، وينتقلون من موضوع إلى موضوع كيفما شاءوا؛ تلك الآنسة البدينة التي تضطرب نبراتها ويتهدج صوتها إذا نهضت لقراءة نص من النصوص، ومستر أرفنج مدرس اللاتيني ذو الشعر الذهبي ... ألم يكن من الإنصاف لو خلق أنثى، وخلقت آنسة درية ذكرا؟! السينما وتهديدها للثقافة الحقة والفن الرفيع، والويسكي والحشيش وأيهما أمتع، هل يعود دستور سنة 1923؟ من صاحب الفضل الأكبر في إنشاء الجامعة؟ الملك أم المغفور له سعد زغلول؟ جماعة مصر الفتاة هل هم مخلصون أم دسيسة؟ من أحق بالفضل في نهضة المسرح؛ يوسف وهبي أم فاطمة رشدي؟ أيهما خير للوطن أن يتم الأمير فاروق دراسته في إيطاليا كما يريد والده، أم في إنجلترا كما يريد الإنجليز؟ امتلأ الجو آراء وملاحظات، وضج بالضحكات والصياح، واشترك محجوب في الكلام بقدر، وأصغى لما يقال بسخريته كالعادة، ثم نهض يتمشى في أرجاء الحديقة الواسعة، حتى أزف وقت الدرس فانطلق إلى الكلية، وبعد انتهاء الدرس خرج متأبطا ذراع أحمد بدير، وقد قال له الشاب الصحافي: مبارك عليك السكن الجديد.
فقال محجوب مبتسما: بارك الله فيك.
فسأله الشاب وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة: من أسرة أم من بنات الهوى؟
فأدرك محجوب في الحال عم يتساءل صاحبه، وارتاح لذلك، وأجابه بابتسامة غامضة قائلا: هذا سر لا يذاع! - هل تقيم معك في الحجرة أم توافيك إليها الليلة بعد الليلة؟
فقال محجوب بزهو: الإقامة مجلبة للشبهات كما تعلم!
فهز الصحافي رأسه وهو يمصمص بفمه وقال: يا حظك! ...
صفحه نامشخص
وتتابعت أيام فبراير ومتاعب الحياة تصكه صكا، ولاحقه شبح الجوع ليلا نهارا، فلم تطمئن معدته إلا سويعات معدودات في اليوم الطويل، وكان إلى عمله الدراسي يكنس حجرته، وينظف مكتبه، ويرتب فراشه، ويغسل مناديله وجواربه وقمصانه. ولم يدر كيف يقتني الحوائج التي يعدها غيره تافهة كابتياع قطعة من الصابون، أو غاز المصباح، أو حاجته من الورق؛ فاضطر أياما أن يقتصر على وجبة واحدة، وطحنه الجوع طحنا، واشتد هزاله، وشحوب وجهه، حتى خاف على نفسه، نفسه التي يحبها أكثر من الدنيا جميعا، أو التي يحبها وحدها دون الدنيا جميعا. لبث جائعا وحيدا في الحجرة التي يحسب بعض صحبه أنها مهد غرام مستعر. لماذا لا يسأل إخوانه أن يطعموه؟ لو سأل علي طه ما تأخر أو تردد، ولو سأل مأمون رضوان لنزل له عن طعامه ولو كان كسرة خبز، فما الذي يمنعه؟ الكرامة؟ ... الكبرياء؟ ... تبا له! ألم يكفر بكل شيء؟ ألم يستهزئ بالقيم؟ فما له يأبه للكرامة والكبرياء؟ تبا له! لا تزال فلسفته كلاما وهراء، متى يصير رجلا حقا؟ متى يفرط في كرامته وعرضه كأنه ينفض ترابا عن حذائه؟
وبلغ الكرب ذروته حين طالبته الكلية باقتناء كتاب في اللغة اللاتينية ثمنه خمسة وعشرون قرشا، فأسقط في يده، ولم يجد من ثمنه مليما واحدا، وقد بات الامتحان قريبا! ماذا يصنع؟ أما اللجوء إلى أحد من أصحابه فحل بغيض مقيت، خصوصا وهو يعلم أنه لن يقضي دينه إذا استدان، فماذا يصنع؟ ومضى يوم ويوم، واضطربت حياته أيما اضطراب، وأوشك أن يدركه القنوط لولا أن ذكر قريب والدته الكبير أحمد بك حمديس! أيجوز أن يقنط وله مثل هذا القريب الكبير؟ أجل، إن والده يجد عليه وجدا عظيما، ويقول إنه رجل جحود، نسي أهله، وتنكر لهم. هذا هو الواقع حقا، ولكن والده مخطئ في غضبه وليس البك مخطئا في سلوكه، إذا كان قريبه يتكبر فجميع أمثاله يتكبرون، ومن حقهم التكبر، ولولا آداب الريف الحمقاء لما غضب والده، بيد أن تكبر البك لن يمنعه من أن ينظر إلى مسألته بعين العطف، ويمد له يد المعونة؛ فليقصد إليه آمنا، وسوف يكفيه شر اللجوء إلى البغضاء!
13
وغادر حجرته وقد صدقت نيته على زيارة قريبه وتجربة حظه، ولم يقتصد في تهيئة نفسه، فكوى طربوشه، ولمع حذاءه بقرش كامل أو بثمن وجبة كاملة، ولكنه بدا رغم ذلك كالعليل شحوب وجه وهزال جسم، وبحث في دفتر التليفون عن عنوان قريبه؛ شارع الفسطاط بالزمالك، وحث إليه الخطى ...
وحلق به الخيال - في مسيره - في عالم الذكريات المنطوية، فأضاءت فترة بعيدة من الزمن إذ هو في الثامنة، وإذ قريبه لا يزال أحمد أفندي حمديس المهندس بالقناطر، وكانت أسرة المهندس مكونة من زوجه الحسناء وتحية ابنتهما - في الرابعة - وطفل في الثانية من عمره. كانت أسرة سعيدة تزينها ربة مفرطة في الحسن. وفي ذلك الوقت لم يكن آل حمديس يترفعون عن مخالطة آل عبد الدائم، ولم يأل عبد الدائم أفندي جهدا في إكرام الأسرة العزيزة، ولكم جاب الأسواق يبتاع الدجاج والحمام يهيئ لهم مائدة شهية. ولقد فاز هو بعطف حرم حمديس بك، فكانت تثني على ذكائه وتعجب بشطارته، وتترك له تحية يلاعبها في فناء الدار وفي الطريق. ترى كيف صارت تحية الآن؟ ... وهل تذكره؟ لقد انطوى ذاك العهد منذ خمسة عشر عاما، فنسي واندثر وانتهى، وذهب بذكراه الزمن والإهمال، ولو كانوا شيئا ذا بال لرسبت منهم آثار في باطن الذاكرة، ولكن آل حمديس كبروا وعظموا ولبثوا هم على ضآلتهم وتفاهتهم، فامحت القناطر من سجل الحياة، وغاصت ذكرياتها في غياهب الماضي، ونبذ عبد الدائم أفندي موظفا بالشركة اليونانية. ترى كيف صارت تحية؟ ... ألا يمكن أن تتذكره؟ ذلك الغلام الذي كان يحملها بين يديه ويجري بها ما بين البيت والمحطة! ... أما حمديس بك فلا يمكن أن ينسى وإن تناسى، سيذكره بمجرد أن يقع عليه بصره، ولن يقبض دون يده.
وبلغ الزمالك، واهتدى - بعد سؤال - إلى شارع الفسطاط، كان كشارع رشاد باشا ضخامة وسكونا، وتحتشد على جانبيه الأشجار الباسقة، وتشتبك أغصانها من الجهتين، فتجعل فوق أديمه ظلة من الأزهار الحمر، فرمق القصور بنظرة غريبة من عينيه الجاحظتين، نظرة يقول لسان حالها متسائلا: «هل يمكن أن ينفذ الشقاء من هذه الجدران الغليظة؟ أحق ما يقول مدعو الحكمة أم إنهم يخدرون القلوب الملتاعة؟!» واقترب بقدمين ثابتتين من الفيلا رقم 14، وسأل البواب بلهجة رفيعة ونبرات رزينة عن البك، وأخبره أنه قريبه وأنه جاء لمقابلته، فدعاه النوبي إلى السلاملك، ودخل حجرة كبيرة فاخرة الأثاث، لم يسبق له أن دخل بيتا كهذا البيت، أو وجد في حجرة كهذه الحجرة، فألقى على ما حوله نظرة متفحصة مقرونة بالدهشة والإعجاب والحسرة؟ وتطلع بناظريه من نافذة قريبة، فرأى ناحية من حديقة حافلة بآي الجمال المعطر. ترى كيف يكون استقبال البك له؟ هل تدعوه حرمه لترى كيف صار الغلام شابا يافعا؟! هل يتذاكرون عهد القناطر ويسألون بشوق عن عبد الدائم أفندي الصديق القديم؟ ... هل يتأثرون لمرضه ويدركون الباعث الذي حمله على طرق بابهم فيمدون له يد المعونة عن طيب خاطر؟ يا لها من حجرة نفيسة! ... ألا يمكن أن يملك يوما قصرا كهذا يقصد إليه ذوو الحاجات؟ ...
وسمع وقع أقدام، فاتجه بصره نحو الباب ثم رأى البك، وقد عرفه من النظرة الأولى على تغير صورته وتقدم عمره، قادما، فنهض قائما وتقدم منه في أدب مادا يده، فتصافحا والبك يمعن فيه النظر، ثم قال مبتسما: هو أنت إذن! ... بدا الاسم غريبا بادئ الأمر ثم أسعفتني الذاكرة، الآن صرت رجلا، كيف حال والديك؟
بدا الاسم غريبا بادئ الأمر! ... هو أنت إذن! وتناسى محجوب ذلك كله وقال بإجلال: والدتي بخير، ولكن والدي مريض، بل في حالة خطرة!
وعند ذلك جلسا، وكان البك يرتدي معطفه يدل مظهره على أنه متأهب لمغادرة البيت، وقال الرجل وهو يسند ظهره إلى مقعده: لا بأس عليه، ماذا به؟
فقال محجوب بعناية وبصوت واضح: أصيب والدي بشلل ألزمه الفراش، فانقطع عن عمله، وساءت الحال.
صفحه نامشخص