وحدجه الإخشيدي بنظرة ثاقبة، وقال: علمت أن مذكرة تكتب لندبك مديرا لمكتب الوزير ...؟
هذه هي النقطة الجوهرية، أيريد أن يتنازل له عن الوظيفة؟! ... يا له من أحمق، كيف غاب عنه أنه تلميذه؟! إن الدين والأخلاق والتقاليد لم تستطع أن تحول بينه وبين هذه الوظيفة، فهل يظن أن «صداقته» تنجح فيما أخفقت فيه جميع القوى! قال بهدوء: أجل، علمت ذلك بالأمس فقط ...
فقال الإخشيدي: إن ذلك يسرني بقدر ما يسرك، بيد أني أحب أن ألفت نظرك إلى أن درجة مدير مكتب رابعة وأنت في السادسة، فإذا وجدت درجة خامسة خالية فقد بلغت مرادك. خذ وظيفتي ودع لي وظيفتك الجديدة يتحقق أملنا جميعا.
وتساءل محجوب في سره: أغبي هو أم يتغابى؟! فلم يدرك أنه يطمع في الرابعة نفسها؟ وهب القفز إلى الرابعة تعذر عليه، فهل من شك في أنه يفضل أن يكونا في الخامسة معا عن أن يمهد له سبل التفوق عليه؟ ونظر إليه متظاهرا بالاهتمام وتساءل: وماذا تريدني على أن أفعل؟
فقال الإخشيدي: صارح الوزير بأنك قانع بوظيفتي ...
وجاءت الدقيقة الفاصلة! وكان يدرك بلا ريب أن أسطورة الصداقة التي تغنيا بها معا رهينة بكلمة واحدة، فتردد قائلا، وذكر أن عداوة الإخشيدي شيء لا يستهان به، فليس الرجل بعلي طه أو مأمون رضوان اللذين لهما من شرفهما وازع، هذا رجل - مثله - بلا خلق ولا مبدأ، وهو يعرف كل شيء، فماذا يصنع؟! ... وتفكر مليا. قال إن سره سيعرف يوما بلا ريب، إن لم يكن عرفه بالفعل أمثال أحمد بدير، وماذا نال تهكم بدير من أبطال حفلة جمعية الضريرات؟! ... طظ! كلا، ثم لا ينبغي أن يتردد، وليذهب الإخشيدي وصداقته إلى الجحيم! واجتاحته عاصفة استهانة، فقال: ألا ترى يا سالم بك أن هذا معناه رفض شرف آثرني به الوزير؟! فرمقه الإخشيدي بنظرة غريبة كأنها تقول له: «يا ابن اللئيمة!» ولكنه حافظ على هدوئه بقدرة عجيبة، وصمت برهة، وقد هم بمراجعته، وأوشك أن يرسم ابتسامة من ابتساماته، وانتظمت على لسانه عبارات لطيفة، وكاد يذكر كلاما عن الصداقة والتعاون، ولكن إرادته منعت ذلك كله، فظل صامتا جامد الوجه والنظرة، واكتفى بأن تساءل بلهجة لا تدل على شيء: أهذا رأيك؟!
فقال محجوب بغير مبالاة وقد تلبسه شيطانه: أجل، ألا تشاركني رأيي؟!
فتمتم الإخشيدي وهو يحول عنه عينيه. - معقول، لك حق. أشكرك. مبارك!
وغادر الحجرة بخطاه الوئيدة وقد عاوده كبرياؤه. وارتفق محجوب مكتبه متفكرا! سبق أن خسر علي طه ومأمون رضوان، وكان ينسى سريعا. أما هذه المرة فقد ساوره الخوف، وقد ثار بخوفه، وكور قبضته غاضبا، وكأنما أراد أن يتناسى همه فنهض قائما، وغادر الحجرة إلى إدارة المستخدمين ليطلع بنفسه على مذكرة ندبه ...
40
صفحه نامشخص