فقال بحماس وإيمان: همتك، همتك يا بطلة! فعلى نتيجة سعيك يتوقف مصيرنا.
وفي صباح اليوم الثاني تناول الأهرام باهتمام، ونظر في الصفحة الأولى، فجرى بصره على عمود من الصور، صور الوزراء الجدد، ووجد في وسطه مبتغاه؛ صورة قاسم بك فهمي، فاستقرت عليها عيناه، وتنهد من الأعماق: ترى هل يتحقق هذا الأمل! ... هل تستطيع قبلة أو رنوة أو تنهدة أن تنقله من حال إلى حال، وأن تدفعه من طبقة إلى طبقة؟
39
ومضت أيام قلائل، وجعل الوزير الجديد إقامته في القاهرة - لا في بولكلي - لحالة ربو يعانيها منذ سنوات. وفي اليوم الرابع لتوليه الوزارة علم محجوب أنه قد استقر الرأي على اختياره لوظيفة مدير المكتب. استقبلته إحسان بابتسامة وقالت بخيلاء: «مبارك ...» فاهتز فؤاده سرورا، واضطرب اضطراب المفاجأة كأنه لم يركز كل اهتمامه في هذا الأمل طوال الأيام الأربعة الماضية. صار الأمل حقيقة رائعة، وسيصبح من كبار الموظفين. ليست الدرجة الخامسة بالحظ الذي يستهان به، فما بالك إذا كانت خطوة قصيرة إلى الرابعة؟! وتخايلت الرابعة لعينيه مرسومة بألفاظ واضحة، ثم تحولت إلى صور ذهنية على هيئة كرسي كبير، وأحاط بالكرسي سعاة، ومثل أمامه خلق كثيرون من جميع الطبقات. ولم ير نفسه وهو يتخيل هذا المجد وإلا لسخر منه كعادته؛ فقد قطب متكبرا، وألقى على ما أمامه نظرة مرتفعة من رأس شامخ. ولذ له في تلك الساعة أن يفر صفحات الماضي القريب؛ ليالي فبراير، دكان الفول بميدان الجيزة، رحلة الأهرام، تردده بين الجيزة وشارع الفسطاط والإخشيدي مادا يده بالسؤال، زواجه، ثم هذه النهاية! ... ولاح له رأسه المفعم جسارة وفلسفة كمصباح يهدي سواء السبيل؛ فطاب نفسا، وفرك يديه حبورا.
وذهب إلى الوزارة مبكرا في اليوم الثاني، وجلس إلى مكتبه الذي يوشك أن يهجره، وقد بدا لعينيه حقيرا، ولكنه لم يكن أول المبكرين. فتح الباب وبدا عند عتبته الأستاذ سالم الإخشيدي! ... وانقبض صدره انقباضا لم يبد على وجهه بطبيعة الحال، ووقف مبتسما يستقبل القادم، وهو يتساءل في نفسه: ما الذي دعاه إلى التنازل عن كبريائه والقدوم إلى مكتبه؟! ومد له يده بسرور وهو يقول: أهلا بسعادة البك. تفضل بالجلوس!
وجلسا معا، وجاد الإخشيدي بابتسامة من ابتساماته النادرة، وتكلم كلاما عاما عن الوزارة الجديدة، والبك الذي ينتظر أن يخلف قاسم بك، ثم قال بهدوئه المعهود: لدي ما أحب أن أكاشفك به، وقد أمرت ساعيك بألا يأذن لأحد بالدخول ...
وحدس الشاب ما يريد قوله، وأحس استياء وحنقا، ولكنه قال بلهجته الدالة على الترحيب والسرور: حسنا فعلت، وها أنا ذا رهن أمرك ...
فصوب الإخشيدي نحوه عينيه المستديرتين وقال: الأمر جد خطير ما دام يتعلق بمستقبلنا، وسنجني من ورائه نفعا مؤكدا متبادلا، ولكني أحب أن أسألك سؤالا قبل كل شيء: ألم تجدني صديقا مخلصا؟ - بل خير الأصدقاء جميعا ...
قال محجوب ذلك وهو يعجب لهذه اللهجة اللينة اللطيفة التي لم يتعود الإخشيدي الكلام بمثلها من قبل. أين الأمر والنهي والزجر؟ أين البرود والتعالي؟ وقد شعر في أعماقه بدبيب الحنق والسخرية، ثم استمع إليه وهو يقول: شكرا لك، صداقتنا هذه كنز نفيس، وبفضلها تستطيع أن نقتحم الصعاب يدا واحدة ... - نطقت بالحكمة كعادتك يا بك ...
وجعل يقول في سره: تكلم عن الصداقة كيف شاء لك الخداع؛ فأنا أعرفك كما تعرف نفسك أيها الشيطان الماكر، وحسبي أن أعرف نفسي كي أعرفك حق المعرفة، ولكل شيء آفة من جنسه!
صفحه نامشخص