71 - وحدثني شجاع بن أسلم الحاسب، قال: قلت لسند بن علي: ((من كان سببك إلى المأمون، حتى اتصلت به، وكنت [في جلسائه] من العلماء؟)). فقال: ((أحدثك به:
((كان والدي يتكسب بصناعة أحكام النجوم مع قوم من أسباب السلطان يودونه ويحبونه. وتعلق قلبي بعد فراغي من قراءة كتاب أقليدس بكتاب المجسطي. وكان -في أيام المأمون بسوق الوراقين- رجل يعرف بمعروف، يورق هذا الكتاب ويبيعه -بعد تكامل خطه وأشكاله وتجليده- بعشرين دينارا فسألت والدي ابتياعه لي، فقال: ((أنظرني يا بني إلى أن يتهيأ لي شيء آخذه، إما من رزق وإما من فضل، وأبتاعه لك.
وكان لي أخ لا يشتهي مما [تقدمت] أنا فيه من العلم شيئا؛ إلا أنه كان يخدم أبي في حوائجه والإشفاق عليه. فلما سوفني أبي بالكتاب وطالت المدة فيه، ركبت معه لأمسك دابته في دخوله إلى من يدخل إليه، ولي إذ ذاك سبع عشرة سنة. فخرج إلي غلمان من كان عنده فقالوا: ((انصرف، فقد أقام أبوك عند مولانا)). فمضيت بالدابة فبعتها بسرجها ولجامها بأقل من ثلاثين دينارا، ومضيت إلى معروف فاشتريت الكتاب بعشرين دينارا.
وكان لي بيت أخلو فيه، وجئت إلى أمي فقلت لها: ((قد جنيت عليكم جناية))، واقتصصت عليها القصة، وحلفت لها: إن شحذت أبي علي حتى يمنعني من النظر في الكتاب لأخرجن عنهم إلى أبعد غاية، ورددت عليها فضل ثمن الدابة، وقلت لها: ((أنا أغلق باب هذا المنزل الذي لي، وأرضى منكم برغيف يلقى إلي كما يلقى إلى المحبوس، إلى أن أقرأه جميعه)). فتضمنت لي بتسكين فورته، ودخلت البيت وأغلقته من عندي. فمضى أخي إلى والدي في الموضع الذي كان فيه، فأسر إلي الخبر، فتغير وجهه، وتلجلج في حديثه، فقال له من كان عنده: ((قد شغلت قلبي وقلب من حضر بما ظهر #111# منك، فبحقي عليك إلا أخبرتنا لم ذا؟))، قال فحدثته، فقال: ((هذا والله يسرنا في ولدك؛ فاتعد فيه بكل جميل))، ثم استحضر من إسطبله بغلا أفره من بغل أبي، وسرجا خيرا من سرجه، وقال لأبي: ((اركب هذا البغل، ولا تكلم ابنك بحرف)).
قال سند: ((وأقمت ثلاث سنين كيوم واحد، لا يرى لي أبي صورة وجه، وأنا مجد حتى استكملت كتاب المجسطي. ثم خرجت وقد عملت أشكالا مستصعبات ووضعتها في كمي. وسألت: ((هل للمهندسين والحساب موضع يجتمعون فيه))؛ فقيل لي: ((لهم مجلس في دار العباس بن سعيد الجوهري ترب المأمون، يجتمع فيه وجوه العلماء بالهيئة والهندسة)). فحضرته، فرأيت جميع من حضر مشايخ، ولم يكن فيهم حدث غيري، لأني كنت في العشرين سنة.
((فقال العباس: ((من تكون؟ وفيم نظرت؟)) فقلت: ((غلام يحب صناعة الهندسة والهيئة))، قال: ((ما قرأت؟)) قلت: ((أقليدس والمجسطي))، قال: ((قراءة إحاطة؟))، قلت: ((نعم)). فسألني عن شيء مستصعب في كتاب المجسطي، كان تفسيره في الأوراق التي كانت في كمي، فأجبته. فعجب وقال: ((من أفادك هذا الجواب؟))، قلت: ((استخرجته قريحتي، وما سمعته من غيري، وهو وغيره فيما مر بي في ورق معي))، قال: ((هاته)). فلما رآه اغتاظ واضطرب، ثم قال لبعض من بين يديه من غلمانه: ((السفط))، فجيء به، فنظر إلى خاتمه فوجده بحاله، ثم فضه وأخرج منه كراسة فجعل يقابل بها الورق الذي كان معي، فكان الكلام فيما معه أحسن رصفا من الكلام الذي معي. والمعنى واحد.
((فقال: ((هذا شيء توليت تبيينه من كتاب المجسطي، فلما أحضرتنيه توهمت أنه سرق مني، حتى تبينت اختلاف اللفظين مع اتفاق المعنى)). ثم أمر أن تقطع لي أقبية، وترتاد لي منطقة مذهبة، ففرغ من جميع ذلك في تلك الليلة، ودخل بي إلى المأمون، وأمرني بملازمته؛ وأجرى لي أنزالا ورزقا.
صفحه ۱۰۹